هؤلاء هم التنويريون الجدد.. فاحذروهم

هؤلاء هم التنويريون الجدد.. فاحذروهم

لم أتعود أن أحذر من جهة من الجهات، حتى من المتشددين والمتطرفين والملاحدة والحداثيين.. بل كنت أكتفي فقط بعرض أطروحاتهم ومناقشتها، ثم أدع للقارئ بعد ذلك أن يتخذ الموقف المناسب رفضا أو قبولا..

لكني رأيت أن التعامل مع هؤلاء التنويريين الجدد يختلف مع أولئك جميعا.. ذلك أنهم لا ينطلقون من حقائق ثابتة، ولا من معايير دقيقة يتحاكمون إليها، وإنما ينطلقون من هوى مجرد يمكن أن يطلق عليه لقب [النقد لأجل النقد]، أو [الرفض لأجل الرفض]، فهم يرفضون كل شيء، ويتمردون على كل شيء، حتى لو دلت كل الأدلة عليه، فإذا ما ناقشتهم لم تجد الجهة التي تناقشهم من خلالها، لأنه ليس لديهم معايير ثابتة، ولا مصادر محددة مضبوطة، ولا قيما معقولة، ولذلك فإن النقاش معهم جدل، والحديث معهم لغو.

هم يعرفونك ويحترمونك فقط إذا ما رفضت وانتقدت وتمردت.. ويرفضونك بمجرد أن تبدي أي لين أو قبول.. وكأن الرفض مقصود لذاته.. وكأن النقد هو الأصل وغيره تبع.. وكأننا لم نؤمر بالعدل والحكمة.. العدل الذي يأمرنا أن نشهد بالحقيقة لنا أو علينا.. والحكمة التي تجعلنا نأخذ الحقيقة ولو من أفواه أعدائنا.

ومن خلال متابعتي لبعض هؤلاء يمكنني أن أضع بعض الأمارات الدالة عليهم:

وأولها احتقار علماء الدين والسخرية منهم في نفس الوقت الذي يتهافتون على غيرهم، بل حتى على الملاحدة منهم.. فيلعنون المؤمنين، ويسخرون منهم.. وفي نفس الوقت يترحمون على غيرهم ممن لم يؤمن بالله.. بل ممن عاش حياته كلها محذرا من الله.. ومضللا الخلق عنه وعن سبيله.

ومن الأمثلة على ذلك تلك الصلوات والأدعية الكثيرة التي أقيمت على أكبر دعاة الإلحاد في العصر الحديث.. بل أكبر فيزيائي في التاريخ حاول أن يستثمر تخصصه في الدعوة للإلحاد، وهو [ستيفن هوكينغ] والذي لا يختلف عن كل الفيزيائيين قديما أو حديثا في مجال تخصصه، بل إن من الفيزيائيين المعاصرين من هم أكثر منه علما، ومع ذلك لا يسمع بهم أحد، لسبب بسيط، وهو أنهم لم يصرحوا بإلحادهم، أو لم يقوموا بالدعوة إليه، ولو فعلوا لاستقبلهم هؤلاء التنويريون بالأحضان.

ومن أمثلة تلك الدعوات قول بعضهم في تأبينه: (اللهم ارحم العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينغ، واغفر له وادخله جنتك الواسعة)، وقول آخر ـ وهو عدنان إبراهيم كما في موقعه الإلكتروني: (افتقدت البشرية هذا اليوم.. وحظي تاريخ الخالدين بعالم فذ، لا يجود الزمان بمثله إلا قليلاً، عالم ضرب أروع مثال على طموح العالم الحق وشغفه بكشف أسرار العالم وفك مغالق الطبيعة، كما في المثابرة والنضال ضد المرض وصور المعاناة الناجمة عنه على مستويات شتى، مُبرهِناً على أن الروح الإنسانية لا تُقهَر.. ونحن إذ نُعلِن مع العالم عن هذا النبأ الأسيف بوفاة ستيفن هوكينغ ندعو الله الرحمن الرحيم أن يتولاه برحمته ومغفرته، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون)

وقد خصصته بالعتاب لأنه يعلم تماما أن كل أطروحات هوكينغ العلمية لا تخدم سوى الإلحاد، وأنها مجرد نماذج للهروب من الإيمان، ولا تدل على عالم فذ، ولا عبقرية، وإلا كانت العبقرية في الإلحاد نفسه ([1])..

ومثل ذلك قول آخر عن بعض المخترعين: (رحم الله [ويليس هافيلاند كارير]، وغفر له وجزاه خير الجزاء، هذا الرجل العبقري الذي اخترع لنا المكيف الهوائي، الذي نستعمله ونستمتع به أيما استمتاع في بيوتنا وسياراتنا الفاخرة في حر الصيف، كما يستمتع به حجيجنا المياميم في حجهم، ولولاه لأصبح ذلك الحج جحيم لا يطاق.. وأنا أنصح كل من يحتج على هذا الترحم على هذا الرجل المخترع الكببر، أن يستحي من نفسه ويتوقف على الفور على استعمال المكيف الهوائي بكل أنواعه، في منزله وسيارته، وأن يقدم اعتذار عن كل لحظة قضاها بجانب المكيف في كل مكان)

ولست أدري ما علاقة استعمال المكيف الكهربائي بالدعوة لصاحبه بالرحمة، أو بضمان الجنة.. فالله تعالى وضع لرحمته وللجنة شروطا، وهو صاحب كليهما، والأدب مع الله يقتضي احترام مراد الله، قال تعالى: { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 156، 157]

فالله تعالى حصر الفلاح فيمن توفر فيه تلك الشروط، فكيف نعقب على الله، ونتدخل فيما لا حق لنا في التدخل فيه.

والمشكلة ليست في الدعاء، وإنما في التهوين من أمر الإيمان بالله والقيم الدينية، حيث يصبح المعيار هو خدمة البشر خدمة مادية، لا تحقيق أمر الله بالالتزام بدينه.. وهذا معيار خطير جدا، ومخالف لكل الأديان، وأولها الإسلام.

وثانيها احتقار المصادر المقدسة وخصوصا القرآن الكريم.. فإذا ما ذكرت لهم آية من القرآن الكريم تنهى عن الاستغفار للمشركين، وهم أقل خطرا من الملاحدة.. والاستغفار أقل قيمة من الترحم.. ذلك أن الترحم نتيجة للاستغفار.. والاستغفار مقدمة له.. قامت قيامتهم وذكروا لك أنك لا تفهم القرآن ولا تستوعبه.. وأن في معانيه من الرموز ما لا طاقة لك بفكه.

فإذا طلبت منهم آليات يفسرون بها قوله تعالى ـ مخاطبا نوحا عليه السلام وناهيا له عن الدعاء لابنه بسبب عدم إيمانه ـ: { يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [هود: 46]

وقوله ـ على لسان نوح عليه السلام خضوعا لأمر ربه ـ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]

وكيف أن هذه النصوص واضحة لا تحتمل الجدل.. وبلغة واضحة ليس فيها كناية ولا استعارة ولا مجازة.. تجهموا في وجهك، واكتفوا بالتجهم.. وتصوروا أنهم بتجهمهم يمكنهم أن يقنعوك بأن هوكينغ أفضل من ابن نوح.. وأنه يمكننا أن نركبه في السفينة التي لم يركب فيها ابن نوح عليه السلام.

وهكذا إذا ذكرت لهم أن قصة آدم عليه السلام في القرآن الكريم تتناقض مع نظرية التطور.. ذكروا لك ـ خلافا لكل ما تدل عليه المصادر العلمية ـ أن نظرية التطور حقيقة علمية، وأن على القرآن أن يقبلها، ولو بتحريف معانيه وألفاظه، وإلا لُفظ القرآن من أجلها.

وهكذا تراهم يحتقرون السنة المطهرة، فيصفون كتب الحديث بما لا يتناسب مع جلالة قدرها، حتى أني رأيت بعضهم يطلق على بعض كتب الحديث وصف [الأسطورة].. ولست أدري مصدر هذه الجرأة لكتاب ضم الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتفق عليها عند الأمة جميعا.. وخلافنا مع بعض الأحاديث لا يعني طرح الكتاب ولا غيره من الكتب، فكل كتب السنة في أي مدسة من المدارس الإسلامية محترمة لا يجوز إهانتها ولا تحقيرها، ويكتفى معها بالمناقشة العلمية الهادئة التي تنطلق من التحقيق العلمي لا الرفض المزاجي، والهوى المتبع.

وثالثها رفض التراث جملة وتفصيلا.. وهذا وهم كذلك.. فالتراث لا يرفض لذاته، وإنما يُرفض منه ما يستحق الرفض بناء على منهجية علمية، ومعايير ثابتة، لا على الهوى المجرد.

ففي تراثنا بحمد الله الكثير من المعاني الطيبة المستفادة من المصادر المقدسة، وفيه الكثير من التجارب البشرية النافعة.. وفيه فوق ذلك كله خبرات أسلافنا واحتكاكهم بالأمم الأخرى.. فكيف نلغي كل ذلك، ونحتقره.

والمنهج السليم والعقلاني البديل لذلك هو وزن التراث في موازين الشريعة المقدسة، فنقبل ما تقبله ونرفض ما ترفضه.. أما أن نحكم على جهود عشرات آلاف العلماء بالإلغاء والإعدام والإقصاء.. وتحقيرها ونبزها بأبشع الصفات.. فهو مما لا يتناسب مع الحكمة والعدالة.

وهو لا يختلف عن ذلك الذي يقبلها قبولا كليا بحلوها ومرها وخيرها وشرها.. فالعاقل هو الذي يميز الطيب من الخبيث.. لا الذي يرمي الطيب مع الخبيث.

ورابعها.. رفض التاريخ الإسلامي جملة وتفصيلا.. والاهتمام بجلد الذات في نفس الوقت الذي يُلمع فيه تاريخ الآخر ويُزين رغم جرائمه الكثيرة.. وكأن المسلمين لم يكونوا بشرا، ولم يكن فيهم الصالحون، ولا الأولياء، ولا العلماء.. وكل هذا غير صحيح.. فتاريخ الأمة كان أسود في الناحية السياسية فقط كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لكنه كان مملوءا ببياض كثير وأنوار كثيرة في الجوانب العلمية والاجتماعية والحضارية والدينية.. بل كانت الأمة الإسلامية ولا زالت خير أمة أخرجت للناس.. فالتخلف لا يخرجها من هذه الخيرية.. فنحن بحمد الله لا نزال نحتفظ بالكثير من القيم التي فقدت في الغرب، والقيم هي الأساس لا التقدم المادي والحضاري الذي بنته جميع الأمم وشاركت فيه.


([1])  بل أنه هو نفسه اعتبره مخادعا، فقد قال في خطبته التي خصصها لهوكينغ قبل وفاته: (كما قلت وبدأت – الرجل مُراوِغ، وهذا أمر عجيب، مع أن طبعاً إعاقته الجسمية الكُلية الشاملة – مُصاب بمرض الأعصاب الحركي، جعلت الناس يتعاطفون معه بلا شك وربما هذا يُوحي بالنزاهة التامة والمُطلَقة، لكن النزاهة التامة والمُطلَقة مسألة أخلاقية مُختلِفة عن النشاط العلمي، لماذا؟ لأن في كتابه الشهير جداً [تاريخ موجز للزمن] قال في الفصل الثامن منه دُعيت سنة 1981 إلى مُؤتمَر نظَّمه الكاثوليك بالفاتيكان، والبابا نفسه كان حاضراً، والكنيسة الكاثوليكية أخطأت في حق العلم والعلماء بالذات من أيام جاليليو، وجاءت الآن بعد أكثر من 300 سنة لتعتذر، جاءت تدعو علماء الكونيات الكوزمولوجيين لكي تستشيرهم في القضايا الكونية وهذا الشيئ الطيب، وبعد أن قدَّمنا أوراقنا وأعمالنا تشرَّف المُشارِكون باللقاء مع بابا الفاتيكان، ثم قال البابا لنا أو للمُشارِكين: جيد، أنه من الحق أن نبحث في البيج بانج في الانفجار العظيم الذي كوَّن الكون لكن من حيثية تطوّر الكون بعد البيج بانج، أما أن نبحث في لحظة البيج بانج لحظة الانفجار العظيم فهذا لا يجوز لأننا بهذا نبحث في شيئ من عمل الله هذا عمل لله، وصعب أن يستوعب الذهن هذا، ثم يقول ستيفن هوكينج مُعلِّقاً مما سرني يعني أن البابا لم يفهم كلمتي – أي أن البابا لم يفهم الورقة التي ألقيتها لأنه ليس عنده معلومات علمية دقيقة، طبعاً ما علاقة البابا بهذا العلم – لأنني ذكرت في كلمتي أن الكون وإن كان مُتناهياً إلا أنه ليس مُحدَّداً، ليس عنده حدود)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *