التنويريون.. والدنيا

التنويريون.. والدنيا

ربما يكون أحسن لقب للتنويريين بمختلف اتجاهاتهم ومناهجهم هو [الدنيويون]، فهم مستغرقون في حب الحياة الدنيا، والتعلق بها، والدعوة إليها، واعتبارها البداية والنهاية، وأن إليها المنتهى، لا إلى الله، ولا إلى حقائق الوجود المطلقة، التي لا تساوي الدنيا أمامها جناح بعوضة.

ولذلك يتفقون على أن الدين ـ بصورته الموروثة ـ عقبة دون التحقق بما تتطلبه الحياة الدنيا من مقتضيات، ثم يختلفون بعد ذلك، فمنهم من يصرح بإلحاده، مثلما فعل القس [جان مسلييه] الذي كان رجل دين مسيحي، لكنه آثر الإلحاد، ومات عليه، أو مثلما فعل عبد الله القصيمي، ذلك الذي كتب الكتب في نصرة الاتجاه السلفي، وتكفير الصوفية والشيعة وغيرهما، ثم راح يكفر بالدين نفسه، ويكتب الكتب في الرد عليه باعتباره عقبة كبرى دون التطور.

ومنهم من لا تكون له جرأة ماسلييه ولا القصيمي، فلذلك ينهج منهجا آخر هو أخطر على الدين من الإلحاد المجرد الواضح، وهو تفصيل الدين على مزاجه، باستعمال مناهج وأساليب مختلفة ليصبح الدين نفسه دنيويا، والغاية منه دنيوية محضة.

وأول علامات هؤلاء هو نفورهم من الغيب، وتركيزهم على عالم الشهادة، واعتبارهم أن الغيب يحول دون الشهادة، فلذلك إذا ما ذكر الغيب بينهم راحوا يسخرون، ويذكرون لازمتهم التي تعودوا ترديدها، وهي أن الغرب يتطور، ويصنعون الصواريخ، ونحن لا زلنا نبحث في عالم الغيب..

ولكنهم ـ وهم يقولون هذا الكلام بتثاؤب وكسل ـ لا يقدمون شيئا، وإنما ينتقدون فقط الإيمان بالغيب، ويسخرون من أولئك الطيبين الذين تعيش أجسادهم في عالم الشهادة بينما تحلق أرواحهم في عالم الغيب، وهم الذين مدحهم الله تعالى في أول كتابه، بل اعتبر الهداية قاصرة عليهم؛ فقال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2، 3]

وهكذا أثنى على الذين يخشون ربهم بالغيب، واعتبرهم من المتقين، لأنه لا تحصل التقوى إلا لمن آمن بالغيب، وجعله كل لحظة بين عينيه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء: 48، 49]

وهكذا اعتبرهم من الأوابين الحافظين للعهود، بسبب إيمانهم بالغيب، كما قال تعالى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 31 – 33]

بل إنه أخبر أن الإنذار الذي كلف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستفيد منه إلا المؤمنون بالغيب، كما قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 10، 11]

وهذه الآية الكريمة تعبر بدقة عن ذلك السلوك الذي يمارسه التنويريون، ويكادون يتفقون عليه من إزاحة الإنذار من وظائف النبوة والدعوة إلى الله، واعتبار الدعوة فقط تبشيرا لا إنذارا، ولذلك يتصورون أن كل من يتحدث عن عذاب القبر أو عذاب جهنم منحرفا، وبعيدا عن فهم الدين.

ولست أدري من أين لهم هذا، والقرآن الكريم كله إنذار وتخويف، ولا يمكن لمن يقرؤه صادقا إلا أن يمتلئ بتلك الخشية من الله، والتي تولد فيه لا محالة حوافز التقوى، وروادعها.

بل إن القرآن الكريم، وفي ذكره للذنوب التي نحتقرها، يشدد ويتوعد ويهدد، ثم يأتي هؤلاء التنويريون بما أوتوا من سماحة لينسخوا كل ذلك، ويعقبوا على الله في حكمه، ليرضوا أهواءهم أو جماهيرهم، ولا يعلمون أن البشر الذين خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم نفسهم البشر الذين يقومون بخطابهم.

ومن علاماتهم تحقير العبادات والاستهانة بها، لأن الدين عندهم ليس سوى علاقة للإنسان مع الإنسان أو الكون؛ فالإنسان هبط إلى الدنيا في تصورهم ليعمرها، ويملأها بالأبراج والطائرات والصواريخ، ويسيطر على مناخها وتضاريسها، أما ترقية نفسه بممارسة العبادة وكثرة الذكر والرياضات الروحية، فهي عندهم تشدد وتطرف وبلادة.

ولذلك يستهينون بالشعائر التعبدية، ويحقرونها، ويحاولون تأويل كل ما ورد فيها من النصوص تأويلات مختلفة، حتى تصبح الصلاة أحقر الأعمال، لا أشرفها، ويصبح الذكر هو ذكر الدنيا، ولا ذكر الله، ولا الشوق إليه.

ومن علاماتهم احتقار الصالحين والأولياء الذين أمرنا الله تعالى بسلوك سبيلهم، وبأن نكون معهم، فالصالحون عندهم هم المخترعون والمكتشفون، لا أولئك الذين أفنوا أعمارهم في ذكر ربهم والدعوة إليه..

وهم لا يتوقفون عند أفراد الصالحين، وإنما يضمون إليهم الأنبياء والمرسلين، وخصوصا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك يحتقرون سنته، ولا يبالون بها، بل يعقبون عليه بما تمليه أهواؤهم.

والعلامة الأكبر لهؤلاء هو نفورهم من كل تلك النصوص المقدسة التي تحقر الحياة الدنيا، وتعتبر حبها أم الخطايا، وتعتبر كل ضلالة حصلت في الأرض ناتجة عنها، كما قال تعالى: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة: 212]

وهذه الآية الكريمة تحوي وصفا دقيقا لهؤلاء الدنيويين الذين يسمون أنفسهم تنويريين، ذلك أن الدنيا قد زينت في أعينهم، فاستحلوها، ثم راحوا يسخرون من الذين آمنوا، والذين اتقوا، مع أنهم فوقهم يوم القيامة، كما أنهم فوقهم في الحياة الدنيا.

ولذلك لا نجد تنويريا إلا وهو يسخر من العلماء والأولياء والعباد والزهاد، ويعتبرهم جميعا متخلفين لم يفهموا الدين كما فهمه..

ولهذا نراهم يحتقرون الوعاظ الذين يمارسون ما كان يمارسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التحذير من الاستغراق والتثاقل إلى الحياة الدنيا، باعتبارهم أخطر ما يهدد حقيقة الإنسان نفسها، والتي قد تتحول إلى كلب يلهث، كما قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]

وبناء على هذا كله، فإن كل النصوص المقدسة التي تحذر من الحياة الدنيا، وتبين حقيقتها هي في الحقيقة رد على الفكر التنويري، الذي يبالغ فيها، ويعتبرها أصلا وغاية ومقصدا.

وهو عندما يفعل ذلك لا يقدم شيئا جديدا، لأنه عقل يهدم ولا يبني، ولهذا نرى الكثير من التنويريين يملكون شهادات علمية في الطب والفيزياء والهندسة وغيرها، ثم يتركونها، ولا يقدمون في تخصصاتهم أي شيء جديد، بينما يذهبون إلى القرآن الكريم يتلاعبون بألفاظه ومعانيه، ليحولوها إلى المسار الذي تريده أهواؤهم.

ولهذا ذكرنا أن العقل التنويري أخطر من العقل الملحد، وأكثر بعدا من الدين عنه، لأن الملحد قد يقتنع في يوم من الأيام، ويعود إلى الله بتواضع، أما التنويري، فهو يتصور أنه على شيء، بينما هو لا يملك من الدين إلا السراب والأهواء والتقول على الله، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]

والعقل الملحد يكتفي بنقد الدين من دون أن يتدخل في تحريفه وتبديله والتلاعب به، بينما العقل التنويري يفعل ذلك، ويفتري على الله الكذب، ويزعم أنه يفهم من الوحي ما لم يفهمه كل العلماء والصالحين، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *