شحرور.. المهندس الأفاك

شحرور.. المهندس الأفاك

لا يظنن أحد أن في هذا العنوان نوعا من الشتيمة أو البذاء أو الفحش؛ فقد نهينا عن ذلك كله، وإنما هو وصف للواقع كما هو، ذلك أنا إن سمينا الحمار حمارا، والكلب كلبا، والخنزير خنزيرا، لم نكت شاتمين، ولا طاعنين، لأن تلك الأسماء هي الأسماء التي لا تعرف الحمير ولا الكلاب ولا الخنازير إلا بها.

ومن هنا كان وصفنا لمحمد شحرور بكونه مهندسا وأفاكا، ليس سوى أوصاف دقيقة وعلمية تختصر حقيقة هذا الرجل ومشروعه الفكري، ورسالته التي ندب نفسه لها، والتي وجدت تجاوبا من جهات كثيرة تريد أن تستأصل من خلالها الدين من أساسه.

أما كونه مهندسا، فلا نريد منها كونه دارسا للهندسة المدنية، ذلك أننا لا نجد له فيها أي نتاج علمي، بل هو فيها تابع مجرد، لم يتجرأ أن يضيف إلى البنيان الهندسي أي لبنة واحدة، ولا أن ينتقد أي نظرية، ولا أن يؤسس أي نموذج، ولذلك فإننا نريد بالمهندس هنا كونه مهندسا في الدين، لا مهندسا في البنيان، فهو قد طبق هندسته المدنية في المصادر المقدسة، ولم يطبقها مع الإسمنت والرمل والخرسانة المسلحة.

وكل عمله من هذا القبيل، فهو ـ بعد أن طرح السنة المطهرة، وطرح معها كل أقوال المفسرين واللغويين والفقهاء ـ راح إلى الألفاظ القرآنية يتعمل معها كما يتعامل مع اللبنات، يضعها في المحل الذي يشاء، وينزعها من المحل الذي يشاء، مستعملا كل قدراته الهندسية التي تعلم منها فن الاحتمال، وفن المراوغة، ليؤسس القصور الكبيرة من اللبنات القليلة، كما يؤسس الأكواخ الحقيرة من اللبنات الكثيرة.

وكمثال على ذلك أنه عندما اصطدم موقفه الهندسي مع موقف القرآن الكريم من الصلاة، حيث أنها وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدا، واعتبر غير المصلي مجرما، وتوعده الله تعالى بالويل والعذاب الشديد، وذلك كله يتنافى مع رؤيته للدين، وأن الصلاة فيه اختيار لا واجب، راح يفكك كلمة الصلاة في القرآن الكريم، معتمدا حيلة لم يفطن لها الأولون، ولا الآخرون، ولا تعتمد على أي أساس علمي.

وقد عبر عن الدافع الذي دفعه إلى تلك الحيلة الهندسية، فقال: (قد رأينا أن من الضروري توضيح معنى الصلاة، جرياً وراء التوفيق ورفع اللبس بين قوله تعالى في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } [الماعون: 4، 5]، واعتبار هذا القول موجهاً للمتقاعس عن أداء الصلاة بأوقاتها، كما ترى كتب التفسير، وبين قوله تعالى في سورة المرسلات: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } [المرسلات: 15 – 18]، واللبس يتلخص في أن الله سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصلاة بالويل (وهو واد سحيق من وديان جهنم)، ويتوعد به في ذات الوقت المجرمين المكذبين، ومن المستحيل أن يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الشعائر، والمكذب المجرم الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر)

ثم راح يتدرج بالقارئ ليصل به إلى الحل الذي يرفع الويل عن المصلين، لا بحثهم على إقامة الصلاة والاهتمام بها، ولا باعتبارهم مجرمين ما داموا مقصرين في حق الصلاة، وإنما بتفريغ كلمة [المصلين] من محتواها، لتصبح مجرد دعاء يقال في أي حانة أو مرقص أو مقهي، من دون وضوء ولا غسل ولا قبلة.

وقد عبر عن تلك الحيلة التي أفرغ بها الصلاة من محتواها بقوله: (والحل في رأينا يكمن في مفهوم الصلاة ذاتها؛ فقد وردت الصلاة في التنزيل الحكيم بمعنيين محددين يختلف أحدهما عن الآخر في الشكل، ويلتقي معه في المضمون، فالصلاة في الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء. ولكن هذه الصلة أخذت منذ ابراهيم شكلين: أولهما صلة بين العبد وربه قالبها الدعاء، لا تحتاج إلى إقامة وطقوس، يؤديها كل إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة، (وقد وردت في التنزيل الحكيم الصلاة بالألف)، وثانيهما صلة بين العبد وربه، لها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها، (وقد وردت في التنزيل الحكيم [الصلوة] بالواو). وهي من شعائر الإيمان)

والحيلة التي اعتمدها عجيبة جدا، فهي لا تتعلق بمعاني الكلمة اللغوية، ذلك أنها واحدة، ولا بالسياق الذي وردت فيه، وإنما باعتماد الرسم القرآني مع العلم أنه رسم اجتهادي كتبه الصحابة، ولم يكتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرد أي دليل على اعتماده في المعاني.. وربما يكون السبب في كتابة الصلاة بالواو أو بالألف خاضعا للكتبة، فبعضهم يرسم حرف المد ألفا، وبعضهم يرسمها واوا..

لكن شحرورا ـ ليفرغ الكلمة من محتواها ـ استعمل هذه الحيلة.. والطريق إليها بسيط جدا، وخاصة مع التقنيات الحديثة، فهو لن يحتاج ـ كما يتوهم القارئ البسيط ـ أن يرجع للمصحف كل مرة، ويقوم بالتحقيق، بل يكفي أن يستعمل أي برنامج ليضع له كلمة الصلاة باشتقاقاتها ورسمها ومواقعها الإعرابية، ليتعامل معها هو بعد ذلك كما يتعامل مع رقعة الشطرنج، وليوهم المستمعين أو القارئين له أنه نقب وحقق وتدبر إلى أن وصل إلى تلك النتيجة العظيمة التي لم تخطر على بال أحد.

وبعد أن وضع تلك المقدمات التي على أساسها فرق بين الصلاة التي يدعو إليها، والتي هي مجرد دعاء، والصلاة التي جاءت بها الشريعة، وجاءت معها التحذيرات من التهاون فيها، راح يعطي النتيجة للقارئ، وهي نتيجة تجعل من البشر جميعا مصلين.. مسلمهم وكافرهم.. ذلك أن المسلم عنده هو كل من آمن بالله.. والمصلي عنده هو كل من دعا الله.. وهو متحقق في جميع الملل والنحل، وبين جميع الشعوب.. فلا أحد منهم إلا ويقول: يا الله.. في أي مناسبة من المناسبات.

وهكذا راح يحتال على الصوم ليحول منه إلى إطعام المساكين، مستثمرا كلمة من كلمات القرآن الكريم هي كلمة [يطيقونه] مفسرا لها بحسب مزاجه، لا بحسب ما اتفقت عليه أقوال اللغويين والمفسرين.

وهكذا راح إلى كلمة الإسلام نفسها، يحولها عن مدلولها الواضح الذي ضبطه القرآن الكريم، وضبطته السنة المطهرة، إلى مفهوم مطاط مرن، يشمل كل الأديان.. ليصبح الإسلام الذي نعرفه مجرد اختيار شخصي، يمكن أن يستبدله المرء متى شاء، وكيف شاء من غير أي حرج.

ولذلك لم نكتف في وصفه بكونه مهندسا فقط، وإنما بكونه أفاكا أيضا.. فالأفاك هو الكاذب الذي يستعمل كل الحيل ليصرف الأسماع والقلوب عن الحقيقة إلى البدائل التي يضعها لها.. ولذلك حذر الله منه، وتوعده بالعذاب الشديد، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 7 – 9]

وهذه الآيات الكريمة لا تنطبق على أحد كما تنطبق على ما يقوم به شحرور وأبناء مدرسته، ذلك أنهم ـ مع إقرارهم بكونهم يسمعون آيات الله ـ إلا أنهم يصرون على أنهم لم يسمعوها، ذلك أنهم لا يسمعون منها إلا ما يرغبون ويشتهون، ويفسرونها كما يحبون، متخذين منها مطية لأهوائهم، لا يبحثون فيها عن الحقائق ليلتزموها، وإنما يجعلون منها مطية لأمزجتهم وأفكارهم ورغباتهم.

وهو ما يجعلهم محلا لتنزلات الشياطين كما ذكر الله تعالى ذلك عند وصفه لاستعداد الأفاكين لتقبل وحي الشياطين، ذلك الوحي الذي يسميه المغفلون [مشاريع فكرية] أو [اجتهادات تجديدية]، بينما هو في المصطلح القرآن [الإفك الآثم]

قال تعالى يذكر ذلك كله: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } [الشعراء: 221 – 226]

ولذلك، فإن المشروع الحقيقي لشحرور هو تحريف القرآن الكريم، وتفريغه من محتواه، وتحويله إلى كتاب آخر، لا علاقة له بالشريعة ولا بالقيم التي أجمعت عليها الأمة بمدارسها المختلفة.

وقد طرح ملامح مشروعه في تلك الحصة الخطيرة المسماة [النبأ العظيم]، والتي تذيعها قناة [روتانا خليجية]، وهي قناة من تلك القنوات التي تستهدف تمييع المجتمع المسلم، ونشر الانحرافات الأخلاقية والفكرية، ليخرج المسلمون من إسلامهم وقيمهم بكل سلاسة.

فقد ذكر في الحصة الأولى من ذلك البرنامج منهجه في فهم القرآن، والذي انطلق فيه من مفهوم شرعي متفق عليه، وهو كون القرآن رسالة عالمية، أي أن البشر جميعا مطالبون بالتعرف على القرآن الكريم والالتزام بتعاليمه..

لكن شحرورا لم يفهم هذا، وإنما طالب القرآن الكريم بأن ينزل إلى مستوى العالم بشعوبه المختلفة، أي أنه (يجب أن يلائم كل الشعوب كالياباني والأمريكي).. وبذلك يجب أن يصبح تابعا للقيم العلمانية المعاصرة، حتى ترضى عنه تلك الشعوب، ويصبح تابعا لها، لا تابعة له.

ولأجل هذا راح يلوي أعناق النصوص بالحيل المختلفة، ليستخرج المفاهيم التي تتلاءم مع هذه القيم، وهو لن يحتاج أي شيء لتحقيق هذا، فيكفيه أن يبحث عن الجذر اللغوي للكلمات القرآنية، ثم يلجأ إلى القواميس يبحث فيها عن معنى يجده أكثر توافقا مع القيم العلمانية المعاصرة ليطبقه عليها.

ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك، ما فسر به قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14]

فمع كون الآية الكريمة واضحة في دلالتها إلا أن شحرورا حاول أن يرضي بها أهواء معينة، فراح ينكر كون المراد بالنساء في الآية المفهوم المعروف المتداول، وإنما جعل من النساء ـ بحسب القاموس الذي اعتمده ـ مشتقة من [النسيء]، أو هي جمع كلمة [نسيء] التي تعني التأخير، ومن ثمّ يصبح المعنى: الأشياء المؤخّرة، أي الأشياء الجديدة المحبوبة للناس، أي بالتعبير المعاصر [الموضة]، أي أن الآية الكريم تذكر أن الناس حببت إليهم الموضة، لا النساء المعروفات.

وقد قال معبرا عن ذلك: (إنّ الآية فيها خبر عن جميع الناس، وليس العرب خاصة، ويجب أن يكون خبر الله صادقًا، ومن ثم يجب أن يتطابق قول الله مع حال العالم اليوم، والشيء الجديد محبوبٌ من قبل كل الشعوب، ومن ثم يكون معنى [النساء] جمع نسيء، أي الأشياء المؤخَّرة، أي الأشياء الجديدة)

ولست أدري هل حب النساء خاص بالعرب فقط.. ومن أوحى له بهذا، ونحن نرى أن قصص العشق والغرام مرتبطة بكل الشعوب، بل إن كل الشعوب اليوم لا تستثمر في شيء كما تستثمر في النساء باعتبارهن الوسيلة الأكثر قبولا من لدن البشر جميعا.

وهو لأجل هذا لا يتعامل مع القرآن الكريم باعتباره جملة، وإنما باعتباره مفردات متراصة، يمكنه أن يتحكم فيها كما يتحكم المهندس في البنيان، فيزيل ما يشاء من الجدران، ويضيف ما شاء منها.

ولهذا نراه يعزل السياق متى شاء، ويثبته متى شاء، ونزاه يعود لأسباب النزول، ثم سرعان ما ينكرها إن لم تتساير مع رغبته.. وهكذا في تعامله مع الأحاديث المطهرة، أو مع أقوال المفسرين أو اللغويين، فهو ينطلق دائما من النتيجة، ثم يبحث بعد ذلك عن الأدلة التي تخدمها.

ولذلك كان أحسن وصف له هو كونه مهندسا أفاكا.. فهو قد استعمل الهندسة والتفكيك وإعادة البناء، لأجل تمرير الإفك على المغفلين الذين يبحثون عن الجديد من غير أن يتأكدوا من سلامته.. فيكفي عندهم أن يكون جديدا.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *