الغرب.. والتلاعب بالعواطف

الغرب.. والتلاعب بالعواطف

من المهارات الكبرى التي يتقنها الإنسان الغربي عموما، وساسته ومثقفوه خصوصا قدرة التلاعب على أوتار العواطف.. وتبادل الأدوار فيها.. وهي تضاهي بنفس القيمة والمقدار مهارتنا في استعمال عواطفنا والخضوع لها، وتحييد العقل بأنواعه عند التعارض معها.

ويحضرني في هذا ما ذكره لي بعضهم أن الاستعمار الفرنسي كان يدخل القرية، فيعتقل شبابها، ويصادر ثرواتها.. وقبل انصرافه يوزع جنوده بعض الحلوى على أولاد القرية، فيصيح عجائزها قائلين: ما شاء الله.. كم هم لطيفون هؤلاء الفرنسيون.

وهذا ما يحصل لنا الآن بالضبط.. لكن الذي يصيح ليس عجائزنا، وإنما مفكرونا ومثقفونا والنخبة منا.. فأمريكا تفعل ما تفعل.. تدمر الأخضر واليابس.. وتزرع فينا وفي أرضنا كل ألوان السموم.. ثم تذهب إلى كل قطرة من بترولنا وخيراتنا لتستلبها رغم أنوفنا.. ثم إذا ما رأت الأحقاد بدأت تتسرب إلينا بسببها أرسلت لنا ممثلة رقيقة، أو صوتا حانيا، أو دبلومسيا ذكيا ليمسح عن قلوبنا مشاعر الكراهية، ويعيد بوصلتنا إلى قبلة البيت الأبيض من جديد.

وهذا ما يفعلونه هذه الأيام مع هوكينغ.. فمع أن لديهم الكثير من دعاة الإلحاد بأنواعه المختلفة إلا أنهم اختاروا شخصية هوكينغ خصوصا، ولمعوها تلميعا عظيما، وأعطوها بعدا إنسانيا رفيعا.. وصوروه بصورة الجبار الذي تحدى كل الإعاقات.. ليصيح بقوة بمثل ما صاح به نيتشة عن موت الإله.. وصوروه بصورة المساند للشعب الفلسطيني، بل بصورة المقاوم للكيان الصهيوني.. وكل ذلك ليمرروا لنا مشروعهم التدميري من خلاله، ومن خلال الكوفية المزورة التي ألبسوه إياها.

والإلحاد هو المشروع الغربي الجديد لأمتنا.. وهو خطير جدا، لأنه يريد أن يستل الجوهرة التي تنبع منها كل فضائل.. جوهرة الإيمان بالله.. ذلك أنهم رأوا أنهم مهما فعلوا بنا نعود من جديد بسبب تلك الجوهرة الثمينة إلى وعينا وحقيقتنا، فلذلك راحوا يهونون من شأنها.. ويساوون بين الملحد والمؤمن.. بل يجعلون الملحد أفضل من المؤمن.

وبما أننا قد عطلنا عقلنا المجرد الذي يعتبر الإيمان هو قمة قمم المعرفة.. ومن لم يؤمن بالله، فإن علومه لا تساوي شيئا.. بل إن أبسط مؤمن بالله أكثر علما وأكبر عقلا من كل ملاحدة الدنيا.. وبما أننا عطلنا عقلنا المؤيد والمسدد، والذي دلنا من خلاله الوحي المقدس على أن الجاهل بالله والمنكر له جاهل مهما أوتي من العلم.. ذلك أن علومه جميعا لا تساوي شيئا أمام إنكاره لهذه الحقيقة العظيمة.

وقد قال تعالى عن أولئك المشركين المتباهين بعلومهم أمام الرسل عليهم الصلاة والسلام: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [غافر: 83]

والفرح هنا بمعنى التكبر والخيلاء والبطر.. وهو متحقق في واقعنا للأسف مع المسلمين المستلبين حضاريا وفكريا.. حتى أنه إذا قرئت على أحدهم الآية من القرآن الكريم، والحاوية لكل المعجزات، وكل حقائق الوجود، تجده ينفر منها، ويؤولها ويعطلها، فإذا ما قرئت عليه كلمات أعجمية، راح ينبهر بها، ويلغي بها ما بقي له من عقل.. وكل ذلك تفكير عاطفي لا حظ له من العقل المجرد، ولا المسدد، ولا المؤيد.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *