التنوير.. والتفسير المزاجي للإسلام

التنوير.. والتفسير المزاجي للإسلام

من مظاهر التنوير الجديد، والتي لا تتناسب تماما مع مفهوم الإسلام والتسليم المطلق لله، ذلك التفسير المزاجي للإسلام، والذي ينطلق من الأنا والمزاج وتأثيرات البيئة قبل أن ينطلق من مصادر الإسلام المقدسة التي تبين حقيقته، وتوضح مراد الله منه.

فلهذا لا نتعجب من التنويري إن خالف النصوص القطعية الصريحة من القرآن الكريم، أو السنة المطهرة، وفسرها بحسب مزاجه، لا بحسب حقيقة الأمر.. لأنه لا ينطلق من الموضوع وإنما ينطلق من الذات، ويستحيل على من امتلأ بأهواء الذات أن يكون موضوعيا، أو أن يصف الحقيقة كما هي.

وحتى يتخلص التنويري من هذه الأهواء عليه أن يقرأ المصادر المقدسة بعيدا عن نفسه، وعن بيئته، وعن الظروف التي يعيش فيها، ليفهم المقدس بطهارته وصفائه وسموه، ولا يخلطه بأي شيء، ولا يملي عليه شيئا.

وليفعل هذا عليه أن يفهم الإسلام باللغة التي فهمها به إبراهيم عليه السلام، والذي ذكر الله تعالى أنه هو الذي اختار هذا الاسم، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } [الحج: 78]

بل ذكر الله تعالى أنه هو الذي عرّف هذا الاسم تعريفا فعليا واقعيا واضحا، وذلك عندما أمر بذبح ابنه في رؤيا منامية.. حينها كان يمكن ـ لو كان إبراهيم عليه السلام تنويريا ـ أن يصيح بملء فيه: (يستحيل أن يصدر هذا الأمر من الله الرحمن الرحيم).. ثم يستعيذ من تلك الرؤيا، ويعتبرها وساوس شيطانية أنشأها شياطين الدجل في عقله الباطن.

أو ربما يتنازل، فيعتبرها رؤيا ملكوتية، لكنه يؤولها بما يفعله الكثير من التنويريين؛ فيفسر الذبح بذبح التخلف والفقر والسلبية ونحوها.. أو يفسرها بذبح كل تحكم أو توجيه لابنه ليتركه يعيش حياته الطبيعية، وكأنه من غير أب، وكأن الأب من غير ابن..

ويمكنه أن يفسرها بما تعود التنويريون أن يفسروا به الحقائق؛ فيغيروها عن مسارها الذي تدل عليه؛ فإن عجز عن ذلك دله التنويريون على تجاهل الرؤيا، وعدم اعتبارها، بل إقناع نفسه أنه لم يرها أصلا..

لكن إبراهيم عليه السلام، والذي يعلم أنه عبد الله، وأنه لا يملك من أمره شيئا لم يفهم من تلك الرؤيا إلا أنها أمر إلهي بذبح ابنه.. فهم ذلك مع علمه اليقيني القاطع برحمة الله ورأفته بعباده.. ولكنه يعلم في نفس الوقت أن الله حكيم ولطيف، وأنه لحكمته ولطفه يدبر من التدابير لعباده ما تتحقق به الرحمة والرأفة في أجلى مراتبها.

لقد كان يعلم أن الذي أوحى إليه بذلك الأمر إله عظيم خلق هذا الكون جميعا، وقدراته لا حد لها، وعلمه لا حد له.. فلذلك راح يلغي العقل المحدود، والذوق القاصر، ويسلم نفسه تسليما مطلقا لصاحب العلم المطلق، والرحمة الواسعة.

وهذا هو الإسلام.. فالإسلام هو أن نسلم وجوهنا إلى الله.. ولا ندبر معه.. ولا نقترح عليه.. بل نعلم أن أمره لا يكون إلا لخير أو مصلحة حتى لو جهلناها نحن، ولم تتناسب مع مزاجنا، كما لا يتناسب الذبح مع مزاج أي أب في الدنيا.. فالمزاج يتناقض مع التسليم.

وهذا ما فهمه إسماعيل عليه السلام أيضا، وهو الشاب اليافع الذي لم يتردد ولم يحتل على أمر الله.. بل بمجرد أن طرح عليه أبوه القضية راح يرد عليه من غير تفكير ولا تلكؤ، ولا طلب إقناع، فيكفي أن يكون الله هو الآمر حتى يكون ذلك مبررا لقناعتنا، لقد قال له بكل هدوء: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]

ولهذا عقب الله تعالى على تصرف الأب وابنه تجاه أمره بكونه إسلاما، فقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]

وهذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام، والذي يستحيي من ذكره بعض المتنورين، هو أقوى ابتلاء واجهه إبراهيم عليه السلام، بل هو أقوى من تلك النار التي أوقدت له.. ذلك أن النار فرضت عليه.. أما ذبح ابنه فلم يُفرض، بل تُرك له الخيار.

وقد نجح إبراهيم عليه السلام في الاختبار.. لكونه لم يعمل عقله القاصر، ولا مزاجه المحدود، ولا رأيه الضعيف، ولا بيئته الجاهلة، ولا أي شيء آخر.. أعمل فقط ما أمره به ربه حتى لو كان ذلك الوحي رؤيا منامية.

هذا المعنى هو الذي ينبغي أن نفهم من خلاله الإسلام.. فالإسلام هو دين الله المعبر عن مرضاته.. والله خالق كل شيء.. وهو {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].. فلذلك كان الأدب مع الله هو التسليم المطلق له، مثلما نسلم أنفسنا للطبيب الجراح ثقة منا فيه وفي علمه المحدود وقدراته القاصرة.

وحين يتحقق منا التسليم المطلق لله تأتينا هدايا الله، ونرى جميل لطفه، مثلما حصل تماما مع إبراهيم عليه السلام، فبمجرد أن تله للجبين ناداه الله: { أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [الصافات: 104 – 111]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *