المقدمة

المقدمة

بدأت قصة هذا الكتاب بعد وفاة الفيزيائي [ستيفن هو كينغ]، وما صحبها من حملة كبيرة على صفحات التواصل الاجتماعي، بل حتى في الصحف والمنابر المختلفة من الثناء عليه، والبكاء على فقده، باعتبار الخدمات الكثيرة التي قدمها للعلم، وللبشرية.

ولم يكن ذلك كله ليستفزني، ولو أني أعلم أن [ستيفن هو كينغ] ليس سوى فرد من آلاف العلماء والباحثين الذين قاموا بما قام به، بل كانت خدمات غيره أكبر بكثير، وألصق بحاجات أفراد الناس من الخدمات التي قدمها إن صح اعتبار ما قدمه خدمات للإنسانية ذلك أن تخصصه في الفيزياء النظرية لا علاقة له بتلك الحاجات.

ولكن الذي استفزني أكثر هو إدخال الدين عند الحديث عنه، سواء من المتطرفين الذين راحوا يزجون به في جهنم، ويشمتون بموته، ويضمنون له النيران، وما معها من أصناف العذاب، أو أولئك الذين يزعمون لأنفسهم أنهم متنورون، ولذلك راحوا يضادون تطرف من سبقهم بالترحم عليه، وإسكانه الفسيح الأعلى من الجنان، بل إن بعضهم ـ مثل شحرور ـ جعله مع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين.

والذي آلمني في كل هذا، وخصوصا من أولئك الذين يتصورون أنهم متنورون هو تلك الجرأة الكبيرة على الله، وهم يرون رجلا يستغله الإعلام أبشع استغلال لنشر الإلحاد باسم العلم.. واعتبار الله خرافة.. واعتبار كل حقائق الوجود وهما.. ثم يعتبرون كل هذا، وكأنه لا شيء.

وقد رأيت أنهم يفعلون ذلك من باب رد الفعل على المتطرفين السابقين، مع أنهم لم يقرؤوا له.. ولم يعرفوا مدى تأثيره.. ولم يعرفوا في نفس الوقت أولئك العلماء الكبار ممن هم أكثر منه علما في مجال تخصصه، والذين تجاهلهم الاعلام المنحاز بسبب إيمانهم أو بسبب علميتهم التي لم تدخلهم في متاهات الملاحدة.

وقد جعلني هذا أغوص أكثر في أعماق الأفكار التي يطرحها هؤلاء التنويريون، فاكتشفت العجب العجاب.. فقد رأيت أنهم من خلال طروحاتهم، لا يكتفون فقط بنقد التراث، ولا التنبيه إلى عيوبه لتصحيحها، وإنما ينتقدون المقدس أيضا، بل يفرغون الإسلام جميعا من محتواه، ليتحول إلى دين هلامي مميع لا ضوابط تحكمه، ولا شرائع تضبط المنتسبين إليه.

وفوق ذلك كله رأيت أن رعاية خاصة تدعمهم، ومن نفس الجهات التي دعمت قبلهم المتطرفين والإرهابيين.. لتبدل التطرف السابق بتطرف جديد.. أو لتضيف للتطرف القديم تطرفا جديدا.

وكان ذلك داعية لي، أن أنتقد هذا المنهج، والأطروحات المرتبطة به، مثلما انتقدت قبله ذلك التطرف القديم.. لأنه لا يصح أن نكيل بمكاييل مزدوجة، فنرمي طرفا، ونسكت عن آخر.

***

وبناء على طبيعة هذه المقالات والأغراض التي تهدف إليها، فقد قسمتها إلى أربعة أقسام على الرغم من كونها متداخلة فيما بينها، لأن الهدف منها جميعا هو تنوير القراء، وتوضيح ما يحدث في الواقع بدقة، حتى نعود للاعتدال والوسطية والقيم الرفيعة التي جاء بها ديننا كما هي من غير أي تدخل منا، وهذه الأقسام هي:

القسم الأول: التنويريون.. والمؤامرات العالمية: وقد تناولت فيهبعض الحجج والبراهين والوثائق الدالة على عناية بعض الدوائر العالمية بتشجيع هذا النوع من التنوير، لتفريغ الإسلام من محتواه، وبث الشبه والفتن والتشكيكات بين المسلمين، حتى لا يبقى لهم من الإسلام إلا ذلك الشعار المفرغ من كل معنى.

القسم الثاني: شخصيات.. ومشاريع تنويرية: وقد تناولت فيه نماذج عن شخصيات مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وكل من تعلق بهم ممن يدعون التنوير.

القسم الثالث: التنويريون.. وهدم القيم: وقد تناولت فيه بعض مظاهر الهدم للقيم الإسلامية، والأسس التي تقوم عليها، وأول ذلك الإسلام نفسه، والذي حوله هؤلاء التنويريون إلى معنى هلامي يمكن أن يتحقق من دون رعاية لشرائع وعقائده وأخلاقه.

القسم الرابع: التنويريون.. وتمجيد الملاحدة: وقد تناولت فيه ما دفعني إلى كتابته، وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ، والترحم عليه، على الرغم من إلحاده الذي صرح به، بل دعا إليه.

وأحب أن أقول للذين عاتبوني كثيرا عند نشري لهذه المقالات، وتصوروا أني بالغت كثيرا في التحذير من ذلك الموقف من هوكينغ، بأن أصحاب النظرة البسيطة يذكرون هذا، ويتمنون مني ومن أمثالي أن نثني على الرجل، ونقدر جهوده وتحديه، ونصوره بصورة العالم العبقري القدير.. ليتأثر العوام ومن ليس لديه الحصانة الكافية بالرجل.. ثم يذهب ليبحث في كتبه وأفكاره، بعد أن يصير متخما بالتقدير الزائف له.. وحينها يجد المستثمرون في هوكينغ فيه القابلية لكل ما يملونه عليه.. وحينها تبذر في عقله بذرة الإلحاد والخروج من كل القيم النبيلة.

لذلك فإن في هذه المقالات القصيرة أنواعا من التحصينات والتحذيرات التي لم اكتبها الا لوجه الله.. وقد كتبت قبلها ـ بحمد الله ـ سبعة كتب في الرد على الالحاد الجديد، بما فيها طروحات هوكينغ نفسها ـ.. ولكني أعلم أن تلك الكتب لن يسمع بها أمثال هؤلاء الذين لا يهتمون بالإيمان، بل يحتقرونه، ويعتبرون اختراع مصباح كهربائي أفضل من غرس الإيمان في القلوب أو القيم الرفيعة في السلوك..

وفي الأخير أقول لأولئك الذين غضبوا مني بعد أن كانوا يعتبرونني تنويريا مثلهم بسبب مواقفي من التطرف الديني، ولهذا تصوروا أني سأفعل مثلما فعلوا: أنا أؤدي واجبي الشرعي.. وسأظل أكتب حتى يجف قلمي.. وأعذر الى الله بأني قد أديت ما علي من واجبات.. ولا يهمني من يرضى أو يسخط.. لأن كل من فوق التراب تراب.

ورحم الله الإمام علي عندما قال: (ما ترك لي الحق من صديق)

القسم الأول

التنويريون.. والمؤامرات العالمية

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *