الحق.. والخلق

الحق.. والخلق

من أعظم الابتلاءات التي وضعت لتمييز المتجرد للحق من المتبع لهواه ذلك الابتلاء المرتبط بكون الباطل لا يكاد يخلو من الحق، وكون الحق مستعدا للتبلس بأي باطل.. ذلك أن الشر المجرد لا يكاد يوجد، وهنا يقع التمحيص والابتلاء.. لنرى أنفسنا هل نتبع الحق لكونه حقا، أم لكون هوانا هو الذي جرنا إليه؟

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. فنحن مثلا قد نختلف مع المتطرفين في كونهم يتشددون ويتنطعون، وربما يجرهم التشدد إلى العنف.. ولكنا مع ذلك إن عدنا إلى دينهم وجدناهم مؤمنين بالله ورسله، ويعظمون الله ورسله.. ويعظمون الشريعة، ويحترمونها.. ونحن مطالبون في هذا بأن نحترمهم لأجل هذه السلوكات الصحيحة الشرعية، وأن نقبلها منهم، ونشجعهم عليها، ومطالبون في نفس الوقت بالإنكار على تشددهم وتنطعهم وعنفهم.

وهنا يحصل الامتحان.. فمن الناس من ينظر إلى تعظيمهم لله ولرسوله ولما يرتبط بهما من أحكام وشرائع، فيتصور أنهم على الحق المجرد الذي لا يجوز خلافه، فيقع معهم في شراك التشدد والتطرف..

ومن الناس من يخالفهم في تشددهم وتطرفهم، ولكن خلافه يذهب به؛ بعيدا فيجعل همه لا الحق المجرد، وإنما مخالفتهم، فيقع عند فعله لذلك في مخالفة الشريعة، بل في مخالفة قضايا قطعية من الدين، فيظلمهم بذلك، ويظلم نفسه، ويظلم الحقيقة.. وكل ذلك بسبب كونه جعل خلافهم هدفا ومصدرا للحقيقة، ولم يجعل الحقيقة نفسها مصدره.

وهذا يصدق على كل الطوائف.. ففي الصوفية نواح كثيرة ممتلئة بالجمال والسمو والطيبة.. ففيه السلوك الطيب، والذوق الرفيع، والمعرفة السامية.. لكن الشيطان الذي لم يترك للمتشددين دينهم راح إليهم أيضا يشوه طرائقهم بالبدع والخرافات وأسرار الحروف والطلسمات والكشوفات التي ما أنزل الله بها من سلطان.. وهنا نقع في الحيرة.. هل ننكر كل شيء.. أم نقبل كل شيء.. أم يكون هدفنا الحق المجرد؟

ونفس الشيء يصدق على الحركات الإسلامية.. حيث نجد البعض يشكك في نياتها ويربطها بالماسونية وبالمؤامرات العالمية.. لكن الحقيقة التي يدل عليها ظاهر الأمر لا تدل على ذلك.. هم صادقون في نياتهم، ولكن قد يخطئون في بعض ممارساتهم ومواقفهم، والحكمة تدعونا إلى التمييز بين الحق والباطل، والخبيث والطيب، لا رمي الجميع في سلة واحدة.

وهكذا الأمر مع العلماء والمكتشفين والمخترعين.. ففيهم من قدموا خدمات كبيرة للإنسانية يحترمون عليها، ولكنهم في نفس الوقت قد أساءوا إلى الإنسانية بما نشروه من أفكار خطيرة، أو ما ادعوه من دعاوى عريضة.. والحق الذي يدعونا إلى الاعتراف بالأول، يدعونا إلى التحذير من الثاني.. حتى لا يصبح الأول مطية للثاني، وحتى لا نصبح وسائل وأدوات لنشر الباطل من حيث لا نشعر.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [الأنفال: 37].. فالله تعالى أخبر أنه يميز الخبيث من الطيب قبل أن يرميه في جهنم.. فجهنم مأوى الخبيث لا الطيب.

ومثل ذلك قوله تعالى عن أهل الكتاب: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]

وهكذا يكون العاقل الحكيم متثبتا من كل موقف يقفه.. هل أراد به وجه الله، أم أراد به مخالفة قوم من الناس.. فإن كان الأول فهو المتجرد المخلص، وإن كان الثاني، فهو صاحب هوى لا صاحب حق.. فصاحب الحق لا يهمه من يقف معه، أو من يقف ضده.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *