رسالة إلى ملائكة الله

سادتي يا ملائكة الله..

يا من خلقكم الله من النور المحض المقدس الذي لم يتدنس بأي رجس.. ولم يتكدر بأي كدر.. ولم يصبه أي أذى.

عجبا للذي ينكركم، وهو لا ينكر وجود اللؤلؤ المكنون.. والجواهر الكريمة.. والمعادن النفيسة.. فالذي أوجد ذلك كله في عالم الملك يمكنه أن يوجده في عوالم الملكوت.. ومن أوجده في عالم الحس يمكنه أن يوجده في غيره من العوالم التي لا حدود لها، ولا طاقة للعقل بمعرفتها.

ولو أن هؤلاء طبقوا ما تقتضيه القسمة العقلية، تلك التي استعملها الفلاسفة، لوصل إليكم، وعرفكم، واستطاع أن يدرك أن وجودكم ممكن جدا، فقد ذكروا أن (القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة: فإن الحي إما أن يكون ناطقاً وميتاً معاً وهو الإنسان، أو يكون ميتاً ولا يكون ناطقاً وهو البهائم، أو يكون ناطقاً ولا يكون ميتاً وهو الملك، ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق، وأوسطها الناطق الميت، وأشرفها الناطق الذي ليس بميت، فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها، فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى)

ولكن مع احترامي لهذا الاستدلال، وللمستدلين به.. لا أميل إليه، ولا أرى عقلي بحاجة إليه.. لسبب بسيط، وهو أن بصيرتي تراكم مثلما يرى بصري اللآلئ والجواهر والأنوار الكريمة الباهية من غير حاجة لبراهين أو دلائل، وهل يحتاج من يرى اللآلئ إلى البراهين الدالة عليها.

ولذلك؛ فإن الدليل على وجودكم بالنسبة لعقلي هو العيان.. وليس الخبر كالعيان.

وكيف لا يكون دليلي هو العيان.. وعقلي وقلبي وروحي وكل لطائفي تسمع حديث ربي عنكم، وهو يذكركم ويثني عليكم، ويبين عظم خلقتكم، كما يبين عظم تقواكم وصلاحكم وطهركم وصفاءكم.. وذلك وحده يكفيني ليجعل بصيرتي تتشرف برؤيتكم.. وروحي تنجذب بكل أسرارها ولطائفها لكم.

بل إن ربي يذكر بأن علاقتي بكم أكبر من علاقتي بكل البشر.. فأصدقائي من البشر قد يقاطعوني ويهجروني.. وقد أرمى في الزنازن والسجون قابعا في الظلمات لا ألتقي أي أحد.. لكنكم دائما معي.. لا يراكم بصري.. ولكن بصيرتي تراكم وتشعر بكم.

وهكذا.. عندما أرحل لعالم البرزخ.. أو ذلك العالم الذي تنصب فيه الموازين.. أو ذلك العالم الذي يستقر فيه الخلق في دار القرار.. ففي كل تلك العوالم أنتم متواجدون.. وصلتي بكم دائمة مستقرة.

وهي صلة جميلة تملؤني بالسعادة والراحة والنشوة.. فأنا وإن كنت ممتلئا بالكدورة والمنغصات.. لكني مع ذلك أتشرف بتلك الأنوار العجيبة الجميلة المقدسة.. وهو ما يشعرني بالفخر والراحة.

سادتي .. ملائكة الله..

كان يكفي الخلق أن يسمعوا لكلمات ربهم وهي تتحدث عنكم.. ليمتلئوا بالمحبة لكم، والمعرفة بكم.. لكنهم أبى لهم فضولهم إلا أن يبحثوا ـ ومن غير أدوات ـ عن أسراركم وحقائقكم مع أنهم لا يعرفون الأجهزة التي تهضم طعامهم، أو تنشر الدم في عروقهم.

لذلك كانت كل تلك الفلسفات والنظريات والرؤى التي تريد أن تضعكم في سجونها وقواقعها مجرد أوهام لا قيمة لها.. أو هي نوع من طغيان العقل الذي يريد أن يعرف تفاصيل كل شيء من غير أن تكون له أي وسائل للإدراك سوى ذلك الحدس والتخمين المجرد.

لقد سمعت بعضهم يذكر أنكم…. يتبع

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *