أركون.. وابن نبي

أركون.. وابن نبي

أركون وابن نبي كلاهما من الجزائر، وكلاهما ولد في عهد الاستعمار الفرنسي، وكلاهما درس في فرنسا، وتعلم اللغة الفرنسية، وأتقنها وكتب بها..

وكلاهما اهتم بالحضارة والنهضة، ودعا إليها.. وكلاهما اهتم بالقرآن الكريم وكتب فيه.. ولكيلهما جمهور عريض في المشرق والمغرب..

وإلى هنا تنتهي القواسم المشتركة، لتبدأ المفارقات العجيبة.. والتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (مَثَلُ المؤمن الذي يقرأُ القرآن ويعملُ به كمَثَل الأُتْرُجَّة؛ ريحُها طيِّب، وطعمُها طيِّب، ومَثَلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل التَّمرة؛ لا ريح لها، وطعمُها حلوٌ، ومَثَل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة؛ ريحها طيِّب، وطعمها مر، ومَثَل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل الحنظلة؛ ليس لها ريح، وطعمها مرٌّ)([1])

فأحدهما، يمثل ذلك المؤمن الذي ربي في الكتاتيب القرآنية، وحبب إليه القرآن الكريم في صغره الباكر، وعندما ذهب إلى فرنسا، ذهب إليها وهو يحمل ثقافته وهويته ودينه، ولذلك كان يقرأ القرآن الكريم، ويعيش معانيه، وينفعل لها، ويعتقد أنها الترياق الذي يحل كل أزمة وقعت فيها أمته، وأن تخلفها وحتى الاستعمار الذي ابتليت به، لم يكن إلا وليد ابتعادها عن مصادرها المقدسة.. ولذلك استطاع من خلال تدبره أن يستنبط شروط النهضة وأسبابها ووسائلها..

وهو في ذلك كله، ومع كونه بين أساطين التنوير الغربي، إلا أنه لم ينبهر بحضارة الغرب، ولا ماديتها، ولذلك حُفظ له كلام ربه الذي لم ينحرف عنه قيد أنملة.

ولذلك لم يذهب لجامعة السربون ليتلقى الفلسفة الغربية، ولا أفكارها، فعنده ما يكفي من الفلسفة والأفكار، وإنما ذهب إليها ليتعلم التقنيات التي تحتاجها أمته.. فالأمة تحتاج إلى تقنيات الغرب، وتطوره المادي، ولا تحتاج إلى فلسفته وأفكاره..

وقد كان ابن نبي يدرك جيدا أن تلك الفلسفة والأفكار الغربية لو نفعت أحدا من الناس لانتفع بها الغرب نفسه، وكيف ينتفع بها، وهو يمد أساطيله في عرض المحيطات والبحار، ويمد طائراته الحربية في أجواء المستضعفين ليملأهم رعبا، وليفرض عليهم همينته وكبرياءه وسطوته، وليبتز منهم آخر قطرة من دمائهم وعرقهم والثروات التي أتاحها الله لهم.

ولذلك يمكن اعتباره مصداقا لما ورد في الحديث الشريف من كونه مثل الأترجة، ذات الرائحة الطيبة، والطعم اللذيذ، بالإضافة إلى استعمالها في المداواة، وكونها ـ كما يذكر الأطباء القدامى ـ من الأدوية المفرحة، والمؤثر في نفسية آكليها.

وهكذا هو مالك بن نبي رحمه الله، فقد كان أترجة انتفع الناس برائحتها، وبتلك الوصفات الربانية التي وصفها لنهضة الأمة ورقيها، ولم يستعن في ذلك، لا بمناهج الشرق، ولا مناهج الغرب، وإنما استفادها من القرآن الكريم.. وصفة الهداية الإلهية، والتنوير الرباني..

وقد ذكر في كتابه العظيم [الظاهرة القرآنية] أنه لم ينطلق في هذه النتائج التي وصل إليها من تقليد الآباء ولا الأجداد، وإنما وصل إليها عبر البراهين العقلية التي جعلته يرى أن مصدر القرآن الكريم هو الحقيقة المطلقة، الممتلئة بالثبات والاستقرار، لا منتوجا هلاميا ثقافيا وليد بيئة معينة وزمان معين وأحوال نفسية معينة.

ثم من خلال القرآن الكريم، ومنابع عظمته ذكر كيف عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف راح يشيد به، باعتباره المثال الأعلى، والنموذج الأكمل، وأنه اصطفاء رباني لتلك الوظيفة الخطيرة، التي تمثل التنوير الحقيقي، لا التنوير المزيف، كما قال تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]

ومن خلال هذين المصدرين: الكتاب والنبوة.. راح ابن نبي يفند الحضارة الغربية، ومعها الفلسفة المادية التي قامت عليها، ليدعو إلى الحضارة الإيمانية التي تنطلق من المقدس باعتباره يمثل الحقيقة المطلقة، التي لا يمكن التعرف على القيم الثابتة للكون إلا من خلالها.

ومن خلال تلك المناقشات للفكر المادي، والحضارة التي قام عليها طرح لنا ابن نبي البديل الحضاري والتنويري.. والذي ينسجم تماما مع هوية الأمة وشخصيتها، بل يجعلها ـ إن هي التزمت بمقدساتها ـ في مرتبة أسمى بكثير من تلك المرتبة التي دعانا إليها أركون وغيره من التنويريين.

هذا هو مالك بن نبي مصداق الأترجة التي وردت في الحديث الشريف.. أما الثاني، فلا يهمنا ماذا ينطبق على شخصه.. هل ينطبق عليه وصف التَّمرة التي لا ريح لها، وطعمُها حلوٌ، أو وصف الرَّيحانة؛ التي ريحها طيِّب، وطعمها مر، أو وصف الحنظلة؛ التي ليس لها ريح، وطعمها مرٌّ.. ولكن يهمنا وصف أفكاره التي لا شك في كونها لا تختلف أبدا عن الحنظلة.. فهي مرة، ولا ريح لها، وإن كان لها ريح فهي ريح منتنة.

وهكذا كان أركون الذي لم يرب في كتاتيب القرآن الكريم.. وإنما ربي بأيدي الآباء البيض، وعندما ذهب إلى فرنسا لم يتعلم الكهرباء، ولا الهندسة، وإنما ذهب لتعلم فكر الغرب وفلسفته، ليتحول إلى مستشرق فرنسي، لا إلى مهندس عربي أومسلم.

ولذلك راح ينظر إلى أمته وشعبه وبلده كما ينظر المستشرقون الحاقدون، مع كونه يعلم أن بلده عاش فترة طويلة ضحية بين جلادي فرنسا المجرمة، وأن الكثير من أسباب تخلف بلده تعود إلى ذلك الاستعمار البغيض..

لكن ذلك لم يمنع أركون من أن يشيد بفرنسا، ويدعو إلى قيمها، وينسى أن قيمها هي التي دفعتها لاستعمار بلاده، ونهب ثرواتها.

وهكذا راح أركون ـ على عكس مالك بن نبي ـ يشيد بأولئك الماديين الذين احتقروا المقدس، وتصورو أن الإنسان هو رب نفسه، وسيد مصيره، وأنه لا مقدس في الوجود، بل لا حقيقة ثابتة في الوجود، إلا الهوى المجرد.

ولذلك كانت قراءته للقرآن الكريم كقراءة المنافق الذي يبحث عن الثغرات، لا المؤمن الذي يبحث عن الحقائق..

ولذلك سول لنفسه أن يقترح على ربه، وأن يقدم رأيه بين يدي كتابه، وأن يخضعه لتلك المقاييس البشرية التي يحلل بها أي كلام، وتحلل معها أي نفسية.

وقد كان في موقفه هذا يشبه ذلك الموقف الذي ذكره القرآن الكريم؛ فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 124، 125]

وهكذا كان ابن نبي كلما سمع آية من القرآن الكريم اهتز واستبشر، وراح يبحث فيها باعتبارها ترياقا ربانيا، ووصفة إلهية أنعم الله بها على عباده، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

أما أركون، فكلما سمع آية راح يطبق عليها مقاييسه التي تعلمها من أساتذته، ليبحث في الحالة النفسية التي أفرزتها، أو في الظاهرة الاجتماعية التي ولدتها، أو في البيئة الزمانية التي أنتجتها، أو في الظروف المختلفة التي رعتها..

ليخرج بعد كل ذلك التدبر من القرآن الكريم بما خرج به الوليد بن المغيرة الذي وصف الله تعالى قراءته للقرآن الكريم؛ فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11 – 25]

وهكذا فعل أمثاله من الحداثيين الذين انشغلوا بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا.. فبعد تفكرهم وتدبرهم وتقديهم، راحوا يقولون عن القرآن: إنه مجرد سحر أثر في بيئة معينة، وزمن معينة.. وأن سحره قد زال بزوال تلك العصور.

هذا هو الفرق بين مالك بن نبي ذلك العملاق الكبير في الفكر الإسلامي.. وبين أركون ذلك القزم الحقير الذي وضع نفسه عبدا من عبيد الغرب، ولأجلهم باع دينه، ولم يظفر بدنياه.


([1])  رواه البخاري 5/ 2070 (5111)، ومسلم 1/ 549 (797)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *