فليكن لكم في المسيح أسوة

فليكن لكم في المسيح أسوة

من المشاهد العظيمة الواردة في القرآن الكريم، والتي يمكن أن نستفيد منها ـ بشرط التدبر والتأمل المتجرد من كل ذاتية ـ الموقف الذي أخبر الله تعالى فيه عن حديث المسيح عليه السلام مع الله تعالى في شأن الذين اتخذوه إلها من دون الله، أو مع الله.

وتظهر قيمة ذلك المشهد عند مقارنته بتلك المشاهد المزورة التي راح يرسمها بعضهم لسؤال الله لعباده في الآخرة، والتي يتألون فيها على الله، ويسيئون الأدب معه، ويطالبونه بلهجة حازمة شديدة بأن يطبق ما ذكره من رحمته التي وسعت كل شيء.. وكأن الله تعالى مؤتمر بأوامرهم، وليسوا هم المؤتمرين بأوامره..

في ذلك المشهد يظهر المسيح عليه السلام بمثل صورته التي عرفناه بها في الدنيا.. صورة العبد المتواضع العارف الرقيق الممتلئ بكل ألوان الأدب.. والذي يعرف قدره، فلا يجاوزه، ويعرف قدر ربه، فيحفظه، ويوقره، ويقدسه.

عندما سأله الله عن أولئك الذين عبدوه من دون الله.. تنصل بكل أدب منهم، بل تبرأ إلى الله من فعلهم.. ثم بين أن شهادته عليهم كانت في الدنيا، أما بعد توفيه، فقد خرج الأمر من يده، وبقي بيد الله.

وبعد أن بين عذره، راح ينطق بهذه الحكمة العرفانية التي تحتاج منا أن نتأملها، لنتأدب مع الله، ونترك له الدينونة المطلقة، ولا نجاوز حدودنا وما أتيح لنا.. لقد قال ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117، 118]

هكذا بكل أدب خاطب ربه سبحانه وتعالى، فقد ترك الأمر إليه، فلم يقترح عليه شيئا.. بل قال بكل أدب: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]

حتى أنه عند ذكر المغفرة لم يقل: (فإنك أنت الغفور الرحيم).. وإنما قال: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، أي (إن تعذب ـ يا إلهى ـ قومي، فإنك تعذب عبادك الذين خلقتهم بقدرتك، والذين تملكهم ملكا تاما، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بمملوكه. وإن تغفر لهم، وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فذلك إليك وحدك، لأن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح القوى القاهر الغالب الذي لا يعجزه شيء. والذي يضع الأمور في مواضعها بمقتضى حكمته السامية)([1])

هكذا خاطب الله تعالى بكل أدب ورقة وتواضع وعبودية، ولو أن هؤلاء المتألين على الله تُرك لهم الخطاب، وقد فعلوا من حيث لا يشعرون، لقالوا: (يا رب ارحمهم.. فقد كانوا جهلة.. وكانوا يحبونني كثيرا.. وقد رأوا من المعجزات التي حصلت على يدي ما جعلهم ينبهرون، ويتصورون أني إله.. فلذلك اعذرهم يا رب العالمين، فأنت أرحم الراحمين.. ورحمتك وسعت كل شيء)

أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه العرفان ـ: (يا رب هؤلاء لم يشركوا.. وإنما رأوا تجلي صفات كرمك في فراحوا يعبدونني.. فلذلك لم يكن يعبدونني أنا، بل كانوا يعبدونك أنت)

أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه التنوير ـ: (يا رب هؤلاء طيبون جدا، وقد ملأوا حياة البشرية بالخدمات الجليلة.. فهم الذين اكتشفوا الكهرباء والغاز.. وهم الذين وفروا للبشرية التي خلقتها كل وسائل الرفاه والراحة.. فلذلك اعف عنهم.. بل ارحمهم.. بل أدخلهم الجنة.. بل ضعهم في جواري في الفردوس الأعلى)

أو يقولون له ـ كما يقول شحرور، وبعض من يزعمون لنفسهم أنهم قرآنيون ـ: (يا رب المسألة بسيطة جدا.. فالإيمان مجرد قضايا فرعية جزئية.. وأنا كان همي في رسالتي إليهم هو نشر قيم السماحة والاعتدال والبعد عن التطرف.. وقد طبقوا الكثير من ذلك.. فارحمهم)

أو يقولون له ـ كما يقول ذلك الخطيب الألمعي الذي يريد أن يحافظ على جمال صورة الله في الغرب ـ: (يا رب ارحمهم.. وارحم حتى الملاحدة.. فإنك إن فعلت ذلك سيحبونك.. وسيقدسونك.. فما الفائدة في أن تلقي بهم في جهنم أو تعذبهم؟.. أليس من الأفضل لك أن تدخلهم جنتك.. فهي لا تكلفك شيئا.. وأنت أرحم الراحمين)

هذه نماذج افتراضية عن سوء أدبنا مع الله.. ونحن نسمعها كل حين من هؤلاء الذين لا يملكون ذرة أدب مع ربهم.. ولو عقلوا، وعادوا إلى كتاب ربهم، وتعلموا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب والتواضع وتوقير الله وتعظيمه.. لكفوا عن كل ذلك.


([1])  التفسير الوسيط لطنطاوي (4/ 351)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *