القبانجي.. والعمامة المدنسة

القبانجي.. والعمامة المدنسة

من المظالم العظيمة التي تسلط على الشيعة خصوصا دون غيرهم إلصاق كل من لبس العمامة السوداء أو البيضاء بهم، وحمله عليهم، واتهامهم جميعا به، فإن ظهر راقصا في حفلة، فعلماء الشيعية وملاليهم جميعا راقصون، وإن سب الصحابة وأمهات المؤمنين، فهو عندهم ناطق رسمي باسم جميع علماء الشيعية وفقهائهم، ولو تبرأ من قوله جميع المراجع، وظهرت البيانات الموقعة من جميع العلماء ترد ذلك، وتكذبه.

ولا نجد هذه التهمة في المدرسة السنية، حيث أنه إن ظهرت فضيحة من أي جهة؛ فإن المدرسة جميعا، تنسب الأمر لأصحابه فقط دون من عداهم، فالإرهابيون ـ مع كونهم من المدرسة السلفية خصوصا كما تصرح بذلك كتبهم وأحاديثهم ـ إلا أنهم لا يحملون على السلفية، ولا على المدرسة السنية جميعا..

وهكذا فإن حداثيي المدرسة السنية وتنويرييها لا يحملون على المدرسة السنية، بل يُعتبرون من المنحرفين عنها، ولم يوجه أحد من الناس التهمة للمدرسة السنية بكونها تتبنى أطروحات شحرور ولا أركون ولا الجابري ولا غيرهم.

إلا القبانجي، ذلك المعمم التنويري الحداثي الذي هو أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإسلام؛ فإنهم يعتبرونه بسبب تلك العمامة التي وضعها على رأسه، وبسبب البيئة التي ولد وعاش فيها مفكرا شيعيا.. ولست أدري هل يمكن لمتشيع أن ينكر الجنة والنار، وأن يقول بكل تلك الطروحات التي لم يقل بها شيعي في التاريخ جميعا.. ومع ذلك يحمل على الشيعة رغم أنوفهم كما حمل ياسر الحبيب، واللهياري وكل دجال وأفاك، لأن الحاكم ليس العقل ولا المنطق، ولا العدل، وإنما الحقد الذي نهانا الله عنه؛ فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]

ولذلك، فإن خطور القبانجي لا تكمن في الأفكار التي يطرحها؛ فمثلها كثير في البيئة السنية، وإنما في تلك العمامة السوداء التي يلبسها، والتي يخيل لكل من رآها أنه أمام مفكر ومرجع وداعية شيعي، فلذلك يحمل كل كلماته عليهم ظلما وزوروا وبهتانا.

لذلك آثرنا أن نتحدث عنه هنا، لنطرح فكره من جهة ـ باعتباره نموذجا للمدرسة التنويرية ـ ولننفي المظلمة عن المدرسة الشيعية التي يضع عليها الحاقدون كل النفايات، وينسون أن ينسبوا إليها أي مكرمة، لأنها في نظرهم شر محض.

وأحب أن أبين قبل أن أتحدث عنه، بأن النظام الذي رعاه، وقدره، وساهم في نشر فكره هو النظام العربي الخليجي المتمثل في دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما النظام الذي واجهه، وانتقده، بل أدخله السجن بسبب أفكاره الخطيرة التي كان ينشرها هو النظام الإيراني([1]).. ثم يأتي بعد ذلك الناعقون ليذكروا أن أفكاره التي يطرحها هي أفكار إيران، لا أفكار الإمارات.

فقد كان أول ما بزغ نجم هذا القبانجي في دولة الإمارات عام 2010م، حينما استدعي من طرف ولي عهد أبي ظبي ليلقي محاضرة بعنوان [الإسلام الأصولي والإسلام الحداثي]، والتي انتقد فيها الأحزاب والجماعات الإسلامية ذات التوجهات السياسية، حيث اعتبرها مسؤولة عن أفكار الاستبداد والانغلاق المعرفي الذي تعاني منه الشعوب العربية.

وقد أعلن عنه حينها بأنه المفكر والباحث الكبير، وكان ذلك مقدمة لإشهار أفكاره في أبي ظبي وغيرها، مثلما كانت منطلقا لإشهار كل تلك الأفكار التي لا تهدم الجماعات الإسلامية فقط، بل تهدم معها الإسلام أيضا.

وبغض النظر عن المصدر الذي نشر أفكاره، وساهم في الدعوة إليها، فإنه السهولة لأي عقل ناضج أن يقرأ أو يستمع لتلك الطروحات التي يطرحها، ثم يقارنها بموقف علماء الشيعة ليتبين الحقيقة، ويعلم أن تلك العمامة التي يلبسها ذلك القبانجي ليست سوى عمامة مدنسة بالتنوير المزور، والأهواء المجردة.

فهل وجدتم ـ يا من تحملون هذا القبانجي على الشيعة ـ أحدا من علمائهم ومراجعهم يقول: (إن الجنة والنارهي خلاف العقل ولا وجود لها، وإن ورود جهنم في القرآن هو لتخويف الانسان فقط، والوعد بالجنة هو لترغيب الانسان كي ينجذب الى الدين والايمان بالاسلام وبرسوله وكتابه) ([2])

أو يقول: (في الجنة لايوجد كرم أو إيثار أو مواساة أو التنافس على العمل ولا إبداع او عمل الخير، فالناس في الجنة لا شغل لهم سوى نكاح الحوريات وشرب الخمر والعسل واللبن من الانهار، حيث لا وجود للصفات الانسانية هناك وهذه حياة حيوانية)

أو يذكر بأنه إذا عرضت عليه الجنة، فسيرفضها، وسيكون سعيدا إذا ذهب إلى جهنم.

وهل رأيتم عالما أو مرجعا شيعيا يردد بأن الأحكام الشرعية (كانت صالحة في زمان النبي وبدء ظهور الاسلام، وهي لاتصلح لكل زمان ومكان، فالآيات جاءت لظروف محدودة ولزمن معين)، وهو نفس ما يردده أكثر التنويريين الموجودين في البيئة السنية.

وهل سمعتم عالما شيعيا يردد ما يقوله هذا القبانجي: (إن ماجاء به محمد ليس كلاما إلهيا وليس من الله، بل كلام ناتج عن عمق اتصاله مع الله ومع الناس؛ فأخذ يصوغ للناس كلاما نورانيا من ذهنه، وليست نصوصا مبلغا بها من الله)

وهل سمعتم أحدا منهم ـ وهم الذين يقولون بالعصمة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وللأنبياء جميعا، بل يضيفون إليهم حتى أئمة أهل البيت ـ يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له أخطاء علمية كثيرة، وأن من أخطائه (اعتبار الارض مسطحة، وكان يعتقد أن القمر خُلقَ ليكون مواقيت للناس فقط، حيث لايستعمل الآن للتوقيت لوجود التقاويم الحديثة والساعات وغيرها من الأجهزة، وأخطأ القرآن في أسباب خلق الجبال، فاعتبرها رواسي للأرض لاعتقاده أن الأرض تطفو على سطح المياه وبحاجة للرواسي كي لا تميد وتنزلق، وهذا ما ينفيه العلم الحديث)

وهل سمعتم أحدا منهم يردد قوله: (قال النبي محمد: [إن الله هو الضال والهادي]، فكيف يدعو الله الى الخير والشر، وهذا محال أن يناقض الله نفسه)

أو يقول: (إن ثقافة محمد ومعارفه استقاها من القس النصراني ورقة بن نوفل والأحبار اليهود وقسس النصارى الذين كانوا يلتقون به خلال أربعين سنة قبل البدء بدعوته، وأنه تزوج النصرانية خديجة بنت خويلد ابنة عم القس ورقة بن نوفل على الطقوس النصرانية، حيث أنه لم يطلقها ولم يتزوج عليها كما توصي تعاليم الدين المسيحي حيث عقد القس ورقة بن نوفل بنفسه عقد قِران محمد على خديجة بحضور عمه أبي طالب ولي أمر محمد)

أو يقول: (نحن لانحتاج الى الله خالق السماء والأرض، بل نبحث عن الله الخير نبحث عن الرب)

أو يقول: (ثبت أن القرآن ليس من الله لوجود الكثير من الأخطاء والتناقضات واللابلاغية واللاأخلاقية واللاعلمية فيه.. ويصف القرآنُ اللهَ بأنه جبار وماكر وغضوب وأن محمد يجسد الله ويجلسه على عرش وكرسي، وأن الله يعذب ويظلم ويستهزئ ويمكر ويأمر بالفسق والقتل وينتقم ويضل من يشاء، وهذه كلها صفات بشرية يتنزه الله عنها، ثم يناقض محمد نفسه ويصف ربه انه ليس كمثله شئ.. لذلك فإن القرآن هو تفسير محمد لكلام الله، وليس هو كلام الله.. فالآيات القرآنية هي صياغة بشرية لما يراه النبي من تفسيرات وجدانية.. والقرآن كتاب خطابي وليس فلسفي.. وهو كلام موجه للهمج من العرب، وأدلته ضعيفة.. وكل ماجاء به من الأحكام والشرائع وقصص الأنبياء مستوحى من التوراة والانجيل والتراث المكتوب ما قبل الاسلام وليس فيه شئ جديد)

أو يقول: (إن محمدا هو من ابتدع فكرة أن يكون خاتم الانبياء وقد انتظر 18 سنة كاملة حتى أتى بسورة الاحزاب { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب: 40] لأنه كان يعتقد أنه سيرزق بولد ليكون خليفته ونبيا من بعده، ولما يئس من أن يرزق بولد ذكر، قال: (لانبي من بعدي) لخوفه من ظهور أنبياء جدد منافسين كمسيلمة وسجاح ويغيروا من دينه وينكروا نبوته من بعده)

أو يقول: (إن ختم النبوة بمحمد يتنافى مع الحكمة الإلهية.. وأن القرآن ذكر أن الله سيرسل رسلا لهداية البشر بعد محمد.. وهذا يدل على استمرار ارسال رسل آخرين قبل وبعد محمد، حيث لا يعقل أن ينقطع اتصال الله بالبشرية حتى قيام الساعة)

أو يقول: (كان الاسلام كاملا في زمان محمد، والآن يعتبر الإسلام ناقصا لتطور المجتمعات والحضارة والقوانين التي لا تنطبق عليها أحكام وشريعة الاسلام الغابرة، فلا يجوز أن تُعتبر اليوم المراءة مساوية لنصف الرجل في الارث والشهادة، وهي تدير حكومات ووزارات وأبحاث علمية، وتذهب في رحلات للفضاء الخارجي، ولا يجوز اليوم معاقبة إنسان ما بقطع يده أو عنقه بالسيف)

أو يقول: (لو كان القرآن هو المحرك للعقل البشري للتطور والتقدم لكان المسلمون أرقى شعوب الأرض حضارة ورقيا، ولكن العكس هو الصحيح؛ فالحضارة ظهرت في أوربا بأبهى أشكالها وأفضل قوانينها، وبقى المسلمون متخلفين لحد الآن بسبب اتباعهم لأوامر القرآن والشريعة)

وغيرها من المقولات الكثيرة التي يحملها بعض الحاقدين على الشيعة مصورا أنها مقولاتهم، لسبب بسيط، وهو أن قائل كل تلك الهرطقات رجل قد لبس العمامة التي تعود طلبة العلم في البيئة الشيعية أن يلبسوها، كما تعود طلبة الأزهر والزيتونة والقرويين وغيرها أن يتميزوا بلباسهم الخاص.


([1])  في 2013م، اعتقلته السلطات الإيرانية، لإشهاره لطروحاته بين طلبة العلم، ولتشكيكه في أساسيات الدين، لكن المظاهرات المؤيدة له والتي اندلعت في البصرة وبغداد، كان لها دور كبير في الإفراج عنه وإطلاق سراحه.

([2])  انظر هذه النص وغيره في مقال بعنوان: الاسلام العقلاني والليبرالي عند الشيخ احمد القبانجي، صباح إبراهيم، الحوار المتمدن-العدد: 3569 – 2011 / 12 / 8 – 08:35، وهي موجودة في محاضراته على اليوتيوب.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *