أركون.. وفزاعة المناهج الغربية

أركون.. وفزاعة المناهج الغربية

يعتبر المفكر الجزائري الكبير محمد أركون (1927-2010) من أكثر التنويريين شهرة على المستويات العربية والعالمية، ولا يمكن لأحد من الناس أن يقلل من شأنه، وشأن الجديد الكثير الذي جاء به، والذي جعله يجلس على عرش الحداثة والفكر الحداثي، بل جعل الكثير من كبار الحداثيين والتنويريين يجثون أمامه، وأمام المنابع التي نهل منها، كما يجلس الحواريون أمام النبي، يسلمون لكل ما يقول، ويخضعون لكل ما يقرر.

وقد ألفوا حوله الكتب الكثيرة ([1])وأحاطوه بهالة إعلامية عظيمة، وأقاموا حول كل فكرة من أفكاره المؤتمرات التي تبشر بها، وتدعو إليها.

وفي حياته أتاحوا له أن يحاضر في عشرات الجامعات الأوروبية، والأمريكية، والعربية والإسلامية.. وحتى في اليابان والهند.. بل إنه درّس في الولايات المتحدة الأمريكية، كما شغل منصب أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي بجامعة (السوربون).. كما كان مديرا لقسم الدراسات العربية والاسلامية فيها، وكان مديرا لمجلة أرابيكا (مجلة دراسات عربية واسلامية)

وقد أثنى عليه جميع الحداثيين والتنويريين واعتبروه من العقول العملاقة، كما عبر عن ذلك علي حرب بقوله: (إننا نجد أنفسنا مع نص أركون إزاء سيل لا يتوقف من الإحالات إلى مختلف المراجع والمناهج، والاستشهاد بمعظم أعلام الفكر المعاصر والاحتجاج بمختلف مجالاته)([2])

ومن خلال هذه الكلمات التي تعبر عن حقيقة الجديد الذي جاء به أركون نريد أن نناقش أطروحاته، وأطروحات كل من تبعه وتأثر به.

فالجديد الذي جاء به أركون هو محاكمة المقدس للمناهج الغربية، وذلك عبر الاحتيال على القراء حتى لا يصطدمهم بموقفه الحقيقي من المقدس بتصويره أنه ينتقد العقل المسلم، حتى يتوهم القارئ البسيط أنه يقصد العقل الذي يستند للتراث بينما هو في حقيقة الأمر يقصد به العقل الذي يستند للمقدس الذي يبدأ من القرآن الكريم..

وأول من يستند إليهم أركون في هذا النقد [إيمانويل كانط] ذلك الفيلسوف الألماني الذي ولد عام 1724م، وكان من ألمع فلاسفة عصرالتنويرالأوروبي، والذي شهد له [وِل ديورانت] في كتابه (قصة الفلسفة) بأن فلسفته كانت لها السيادة والنفوذ في عصر التنوير، بحيث استطاعت أن تتفوق على كافة الأفكارفي القرن التاسع عشر، ذلك أنها قضت على التطورالمنعزل للفكرالعقلاني المتجرد المؤمن بسيادة العقل، لتعيد إلى الإيمان بالعقائد والأديان اعتباره بشكل مستقل، ومجرد عن العقل النظري.

وبعد انتقاده للعقل الخالص، اعتبر أن الأديان لا تستند لحقائق مطلقة، بل العقل لا يدل عليها، وإنما تستند لمجرد الإيمان الذي هو اختيار نابع من الإرادة، وليس نابعا من التفكير.

وهذه نفس أطروحة أركون، والتي ينطلق منها بعد ذلك لنقد المقدس والعقل الذي يستند إليه، ذلك أن نقد العقل يعني نقد كل البنيان الفكري الذي بني عليه.

ومن هنا كانت صعوبة محاورة أمثال هؤلاء، لأنهم ـ عند الحوار ـ لا يلتفتون للأفكار؛ فيناقشونها وفق معايير محددة ثابتة، وإنما هم ينظرون من أبراجهم العاجية إلى المحاور لهم، ويسخرون من طريقة حواره وتفكيره نفسها.

وهم في ذلك يشبهون الحوار مع المحلل النفسي الذي لا يسمع للكلمات والأفكار المطروحة، بقدر ما يلتفت لحركات جسد محدثه، وملامح وجهه، ليصنفه بعد ذلك في أي خانة من خانات الأمراض النفسية.

وقد عبر علي حرب عن هذا المعنى عند ذكره لدور فلسفة كانط في توجيه الحداثيين إلى مناقشة العقول، بدل مناقشة الأفكار، فقال: (لا جدال في أن ما أتى به كانط هو عمل غير مسبوق يمتاز بالجدّة والأصالة، وتتجلى الأصالة أول ما تتجلى في النقلة التي أحدثها كانظ في مفهومه للنقد نفسه وفي ممارسته له بطريقة جديدة ومغايرة، ذلك أنه مع النقد الكانطي ننتقل من نقد (الكتب والمذاهب) إلى نقد (العقل نفسه) أي نتخطى نقد المعارف إلى نقد الآلة التي بها نعرف)

ولهذا وجد الحداثيون بمختلف مدارسهم الفرصة لنقد المقدس عبر نقد العقل الذي يؤمن به، وبذلك ينهار المقدس، لا من خلال مناقشة أطروحاته، وإنما من خلال مناقشة العقول التي تؤمن به، وتستند إليه.

ولهذا يمكن للمقدس ـ بحسب هؤلاء ـ أن يتحول إلى أي شيء، بحسب الطريقة التي يفكر بها الناقد، ولهذا نجد مشاريع مختلفة لنقد العقل، لأن كل واحد منها يستند لطريقة تفكير خاصة، أو لمدرسة نقدية خاصة.

وطبعا، فإن كل المدارس النقدية، أو المناهج النقدية، هي مناهج غربية، سواء كانت ذات توجه ماركسي، أو وجودي، أوظاهراتي، أو بنيوي، أوتفكيكي.. وغيرها.

ولهذا سمينا كل هذه الطروحات [فزاعة]، لأن أصحابها يطرحونها باعتبارها مناهج مقدسة، بل هي أكثر قداسة من المقدس الذي يؤمن به المؤمنون، وسبب ذلك عندهم هو كونها مناهج غربية، وبما أن الغرب متطور ومتحضر ـ بسبب اعتماده في نقد المقدس على هذه المناهج ـ فنحن كذلك ـ كما يصورون ـ لا يمكن أن نتقدم أو نتطور من دون اعتمادها.

هذه خلاصة الطريقة التي يفكر بها أركون، ومن تتلمذ عليه من الحداثيين، ومن لم يتتلمذ، وقد عبر عن هذا المعنى بعض الباحثين أحسن تعبير، فقال: (.. من هنا كان مشروع الجابري وأركون في نقد العقل العربي الإسلامي، حيث تحول نقد التراث عبر مشروعهما، من نقد المسائل والمقولات التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتج تلك المسائل والمقولات، ومن مناقشة التصورات الدينية في التراث إلى مناقشة النظام الفكري العميق، أو الأنظمة الفكرية المنتجة للتصورات الدينية في التراث الإسلامي.. وهذا هو الانعطاف النقدي الجديد الذي حصل مع الجابري وأركون. وحين نقول نقد النظام أو الأنظمة، فهذا يعني أن الهدف هو دراسة المنهج، أي بنية العقل الديني وطريقة اشتغال آلياته وليس مضامين الشريعة والعقيدة بحدّ ذاتها، فمسائل الشريعة والعقيدة كما يقول أركون (قد تختلف، ولكن الجذور المعرفية واحدة)، أو بتعبير آخر؛ (ليس الاهتمام بالأفكار ذاتها، وإنما بالأداة المنتجة لهذه الأفكار)([3])

وأركون يذكر في مواضع كثيرة من كتبه تلك المناهج الغربية التي طبقها على الإسلام بمصادره المقدسة، وبفخر عجيب، وكأن الإسلام سيبقى متخلفا حتى يفهم على ضوء النظارات الغربية، والفهم الغربي، وكأن الغرب هو رمز الحضارة والقيم الممثلة لها، وهذا ما يدل على الانبهار والتقليد الذي يتميز به الحداثيون الذين يصورون أنفسهم مجددين، مع أنهم في الحقيقة ليسوا سوى مقلدين ومستهلكين للبضاعة الغربية.

ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض كتبه: (إن كل المسائل الحارقة التي دشّنها الاستشراق في بداية القرن العشرين ينبغي أن تُستعاد من جديد وتُدرس علي ضوء التعاليم المستحدثة للعلوم الإنسانية: كعلم الألسنيات الضروري جداً لدراسة النصوص المقدسة أو التراثية، وكعلم السيميائيات أو الدلالات اللغوية وغير اللغوية، وكعلم النفس التاريخي الذي ازدهر كثيراً في فرنسا داخل إطار مدرسة الحوليات الشهيرة، وكالنقد الديني، وكعلم الاجتماع الحديث، وكالأنتروبولوجيا… كل هذه العلوم ينبغي أن تُجيّش بمناهجها ومصطلحاتها من أجل تشخيص مشاكل التراث الإسلامي. بالطبع فإن المسلمين التقليديين سوف يحتجون ويغضبون مثلما احتجوا وغضبوا ضد الاستشراق الكلاسيكي ومنهجيته الفيلولجية – التاريخية التي تعود إلي القرن التاسع عشر)([4])

ومن العجيب أنه يصور غضب المسلمين، وكأنه ليس شيئا طبيعا، مع كونه لا يفعل إلا مثلما يفعل ذلك الأحمق الذي تطلب منه أن يضيف بعض الديكور على بيتك، فيذهب، ويهدمه جميعا، بحجة أن ديكوره لا يتناسب إلا مع بناء خاص.

وهكذا يفعل هؤلاء الذين يغالطون أنفسهم، والعالم بأن القيم الحضارية والتنوير لا يمكن أن يناله سوى من تخلص من دينه ومقدساته، وهدمها، ليبنيها على أسس الفكر الغربي، مثلما حصل للمسيحية التي تخلت عن الكثير من مبادئها إرضاء للعقل الروماني، كما قال شيخنا محمد الغزالي: (لست أدري هل ترومت المسيحية، أم تمسحت روما)

والمشكلة التي جعلتنا نعتبر التنوير الجديد مؤامرة على الإسلام، هي أن هؤلاء التنويريون لا يدلون بآرائهم فقط، باعتبارها آراء مجردة يمكن أن تناقش، وإنما هم يتعاملون معها باعتبارها حقيقة مطلقة، يستعملون كل الوسائل للدعوة إليها.

وهم يستثمرون في تلك الدول العربية التابعة للغرب، ليفرضوا عليها تعديل مناهجها التعليمية حتى تتناسب مع هذا الطرح التدميري للإسلام.

ولهذا نجد أركون يدعو إلى اعتبار التعليم بمراكزه المختلفة النواة التي ينشر من خلالها هذا النوع من التفكير.. وقد قال في بعض تصريحاته لمجلة [الاكسبريس] الفرنسية([5]): (لا يمكن للعالم العربي أو الإسلامي أن ينطلق حضاريا إلا إذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة لأنظمة الفكر الديني القديم المسيطر والراسخ الجذور.. وكذلك ينبغي تفكيك كل الأيديولوجيات الغوغائية التي سيطرت علينا بعد الاستقلال وأدت الي كل هذا الفشل الذريع الذي نشهده حاليا كالقومجية الشوفينية والماركسوية الكاريكاتورية وسواهما.. ولكن نلاحظ حاليا أن أي عمل نقدي هادف لتحريرنا من الرواسب التراثية يتعرض لرقابة مزدوجة: إما من طرف السلطة، وإما من طرف معارضاتها الأصولية.. الجميع يزاود على الاسلام بالمعنى التقليدي للكلمة لكي يكسب المشروعية ورضي الجماهير. وفي كلتا الحالتين نجد أن الفكر الحديث بكل مكتسباته العلمية مرفوض أو مهمش في أحسن الأحوال)

ثم يذكر بعض اقتراحاته في هذا المجال؛ فيقول: (نلاحظ مثلا أنهم لايعلمون في المدارس بل وحتى الجامعات إلا الإسلام، ويستبعدون دراسة كل الأديان الأخرى.. وهذا يعني أن مادة تاريخ الأديان المقارنة ممنوعة في العالم العربي والإسلامي كله.. والأسوأ من ذلك هو أن تعليم الإسلام نفسه يتم بطريقة قروسطية عتيقة عفى عليها الزمن..وهو علي أي حال خاضع كليا للأرثوذكسية الأصولية الصارمة سنية كانت ام شيعية.. انظر حالة ايران)

وهو بهذا يدعو إلى عرض الإسلام باعتباره نموذجا من النماذج التاريخية للفكر الديني، وليس باعتباره هداية الله لعباده.. وهو يقول ذلك مع كونه يعلم أنه في كل الجامعات الإسلامية توجد فروع خاصة بمقارنة الأديان، لكنه لا يريدها كذلك، بل يريد تعميمها حتى في المدارس، أي أن يدرس للتلاميذ في المدرسة الابتدائية والإعدادية اليهودية والمسيحية جنبا إلى جنب، وبالطريقة التي تجعلهم يعتبرون الإسلام مجرد مرحلة من مراحل الفكر الديني، وليس دين الله الثابت المستقر الذي يمثل الحقيقة المطلقة.

وقد صرح بأهدافه الرسالية التي آتت ثمارها في الكثير من البلاد للأسف، ومن بينها الإمارات العربية المتحدة، التي فتحت فرعا للسربون في بلادها، وقد قال معبرا عن ذلك: (أنا شخصيا أناضل من أجل تغيير برامج التعليم في كل الدول العربية والإسلامية.. وينبغي على الاتحاد الاوروبي أن يتفاوض مع بلداننا لتغيير هذه البرامج، وبخاصة فيما يتعلق بتعليم مادة التربية الدينية.. أقول ذلك لأن تعليم الدين بطريقة ظلامية أصولية وصل مؤخرا إلى أوروبا ذاتها وانتشر في جالياتها المغتربة من عربية واسلامية. وبالتالي فالخطر أصبح على أبواب الغرب نفسه، ولهذا السبب أقول ينبغي على العالم الإسلامي أن يتوصل إلى الحداثة بأقصي سرعة ممكنة وبدون تحفظ)

ثم يملي ما على العالم الإسلام أن يفعل حتى يتوصل إلى هذه الحداثة في أقرب وقت؛ فيقول: (ينبغي عليه أن يتعرف على المكتسبات التحريرية للحداثة من علمية وفلسفية، ثم يهضمها ويستوعبها، وإلا فإنه سيظل رهينة في أيدي الاصوليين المتزمتين)

وهذا التصريح يشبه تصريح الساسة أكثر من شبهه بتصريحات المثقفين الذين يعالجون القضايا وفق الرؤى المختلفة، ووفق الحوار الهادئ، ولا يعتمدون فرض أفكارهم، ولا تهييج المخالفين لها، أو ترهيبهم.

وهو يحرص كل حين على التهكم والسخرية من الذين يعتبرون الإسلام حقيقة مطلقة ثابتة مستقرة مقدسة، بكونهم منغلقين فكريا.. أي أن المتحرر عنده هو الذي يضع أدوات الجراحة على تلك المصادر المقدسة، بعد نزع قدسيتها، ثم يعمل فيها مبضعه ليشرحها بالطريقة التي يشتهي.

وقد قال في بعض تصريحاته في هذا المجال: (إن إطار الفكر الخاص بالاعتقاد الأرثوذكسي، وكذلك معجمه اللفظي القديم يقفان كعقبة كأداء في وجه استقبال أي فكر نقدي تحريري عن الاسلام في العالم العربي.. إنهما يشكلان عقبة في وجه التحليلات التفكيكية للعلوم الانسانية الحديثة، ولهذا السبب فإنهم يمنعون الأبحاث التاريخية الجادة عن القرآن، والحديث النبوي،والشريعة، والفقه، والتفسير، ومختلف جوانب التراث القديم. إنهم يحرمون كل ذلك عن طريق فتاوي الهيبة العليا لرجال الدين الكبار وعن طريق خطب الجمعة والمواعظ التي تعتبر نفسها مقدسة أو معصومة. كل الفكر النقدي الحديث عن التراث الإسلامي ممنوع في كليات الشريعة والمعاهد التقليدية بل وحتى في المدارس والجامعات الحديثة. وبالتالي فهناك هوة سحيقة تفصل بين الفكر الديني التقليدي السائد حاليا في كل أنحاء العالم العربي الإسلامي، وبين الفكر العلمي الحديث المتشكل عن الاسلام وكل الأديان. نحن في واد، والمشايخ في واد آخر. واللقاء شبه مستحيل بين الطرفين)([6])

وطبعا، نحن وإن كنا نوافقه في ضرورة توفير المزيد من البحث العلمي في مناقشة التراث، لكنا نختلف معه اختلافا جذريا في المناهج التي تستند إليها تلك البحوث، ذلك أنه يدعو إلى محاكمة التراث، ابتداء بالمقدس منه إلى المناهج الغربية، ونحن نرى أن يحاكم التراث المقدس إلى التراث المقدس نفسه، فالمتشابه يرد إلى المحكم، وفي المقدس نفسه ما يكفي من الأدوات التي تصحح ما ران عليه من فهم العصور المختلفة.

وأركون كغيره من الحداثيين المقلدين، ينطلقون من تشبيه الإسلام بالمسيحية من غير مراعاة للاختلاف الشديد بينهما، ولهذا يطالبون بمحاكمة المصادر المقدسة للمسلمين، بما حوكمت به المصادر المقدسة للمسيحيين مع البون الشديد بين كلا المصدرين.. المصدر الممتلئ بالتحريف الذي لا يمكن لأي عقل تجاهله، والمصدر الممتلئ بالقيم الثابتة، بل بدلائل الإعجاز التي لا يمكن لأي صادق في البحث أن يمر عليها من دون أن يتأثر بها.

ولهذا نراه دائما يتأسف للتأخر الهائل الذي يعاني منه الفكر الإسلامي قياسا إلى الفكر المسيحي في أوروبا.. وهو يتأسف كذلك لكونه من أكبر الأديان في تاريخ البشرية، وقد يصبح أكبرها من حيث العدد عما قريب.. (لكنه مع ذلك توقف عن التطور والتجدد بعد إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط: أي عصر الجمود والتكرار والاجترار. هذا في حين ان المسيحية، في أوروبا الغربية على الأقل، اضطرت إلى تجديد رسالتها الدينية وإعادة تأويل نصوصها المقدسة بسبب الصعود الذي لا يقاوم للعقل العلمي والفلسفي منذ القرن السابع عشر.. وبالتالي فأوروبا ليست متفوقة علينا بالتكنولوجيا والعلوم الفيزيائية والرياضية فقط وانما هي متفوقة أيضا في العلوم الدينية أو فلسفة الدين. وهذا شيء نجهله تماما.. أوروبا دخلت الآن لاهوت ما بعد الحداثة في حين أننا لا نزال نتخبط في لاهوت ما قبل الحداثة: أي لاهوت القرون الوسطي وفقهها القديم)

وهكذا لا يكتفي أركون وغيره من الحداثيين بدعوتنا إلى اعتماد المناهج الغربية، وإنما يدعونا إلى التأسي بالمسيحية وتطورها، وهو لا يعلم أن بعض المدارس المسيحية لم تتطور إلا بعد أن تخلصت من القيم المسيحية نفسها.

وقد ذكر بعضهم ذلك التطور الذي حصل للكنيسة والمسيحية، معبرا عن مشاهداته الشخصية؛ فقال: (وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم المسيحى كله، فإنها فى أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة، وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر، معد للّهو والتسلية.. ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً، ومكاناً للقاء والأنس، ولتمضية وقت طيب، وليس هذه شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها.. ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين، ويجتهد راعى كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب، ولهذا تتسابق جميعاً فى الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة، وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران، للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة، المشوقة لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التى تتبعها المتاجر ودور العرض والتمثيل، وليس هناك من بأس فى استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن، وأبرعهن فى الغناء والرقص والترويح)

ثم ذكر نموذجا من نماذج مشاهداته، فقال: (كنت ليلة فى إحدى الكنائس، ببلدة جريلى بولاية كولورادوـ فقد كنت عضواً فى ناديها، كما كنت عضواً فى عدة نواد كنسية، فى كل جهة عشت فيها، إذ كانت هذه ناحية هامة، من نواحى المجتمع، تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل ـ وبعد أن انتهت الخدمة الدينية فى الكنيسة، واشترك فى التراتيل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبى ساحة الرقص، الملاصقة لقاعة الصلاة، يصل بينهما الباب ؛ وصعد (الأب) إلى مكتبه، وأخذ كل فتى بيد فتاة، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتى، كانوا وكن، يقومون بالترتيل ويقمن.. وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح البيض..)

إلى آخر تصويراته لمشاهد المجون في الكنيسة، والتي يريد منا أركون وغيره من الحداثين أن نطور مساجدنا ومعابدنا وفقهنا وعقائدنا لتتناسب معها.

وقد ذكر هاشم صالح.. ذلك التلميذ النجيب لأركون، والناشر لأفكاره والمترجم لها، الهدف الأكبر الذي يسعى إليه أركون بكل صراحة، وهو نفس الهدف الذي سعى إليه كل المصارعين للكنيسة، بل للمسيحية نفسها؛ فقال: (في الواقع إن هدف أركون الأخير هو التوفيق بين الإسلام والحداثة مثلما فعل ابن رشد في وقته عندما وفق بين الإسلام والفلسفة الارسطوطاليسية، ومثلما فعل فلاسفة التنوير في أوروبا عندما أجبروا المسيحية ورجال الدين علي تقديم تنازلات كبيرة للعقل والحداثة العلمية الصاعدة)

ثم بين أن المنهج المعتمد لذلك ليس مجرد نقد التراث، والدعوة إلى تحديثه ليتناسب مع العصر، وإنما الدعوة إلى تحديث المقدس نفسه بكل ما يحمله من عقائد وشرائع وسلوكات، لينضبط بما يقتضه، ويصبح خاضعا لإملاءاته، فقال متحدثا عن الغرب وكيف استطاع أن يتحقق بالتنوير: (.. لم يستطيعوا التوصل إلى هذا المكتسب الكبير إلا بعد أن فككوا اللاهوت المسيحي القديم، وكشفوا عن تاريخيته ومشروطيته البشرية، ومعلوم أنه كان يقدم نفسه، وكأنه الهي معصوم تماما كالفقه القديم في الإسلام، ومعلوم أيضا أن اللاهوت القديم يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، المقدسة المتعالية، التي لا تناقش ولا تمس، وبالتالي فكل شخص يقع خارجها أو لا يعتنقها هو شخص مدان ومصيره جهنم وبئس المصير)

وهو بهذا الطرح ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر إلى سائر الأديان، ويخضعه لنفس المناهج التي أخضعت لها، ولا يرى فيه أي مزية تميزه عنها، ولهذا يدعو إلى تفكيكه تفكيكا تاما، وذلك بعد تخليصه من القداسة، أي أن كل شيء يصبح في مباحا للمبضع الحداثي ليزيله بحجة وقوفه في وجه التنوير.

يقول هاشم صالح معبرا عن أفكار أركون في هذا المعنى الخطير: (.. فكل دين يزعم امتلاك الحقيقة الالهية المقدسة دون غيره، وعلى هذا النحو تشكلت الأنظمة اللاهوتية الثلاثة، وسيطرت على العقول طيلة العصور الوسطي، أقصد الانظمة اللاهوتية اليهودية، فالمسيحية، فالإسلامية.. وقد مارست دورها ـ كما يقول أركون في احدي أطروحاته الشهيرة ـ على هيئة أنظمة للنبذ والاستبعاد المتبادل، فكل دين يتهم الاديان الأخري بأنها خرجت على الصراط المستقيم، أي الأرثوذكسية باللغات الاجنبية..وبالتالي فهي تنبذ بعضها بعضا، ثم تستبعد بعضها بعضا من جنة الله والنجاة في الدار الآخرة، كل واحد يكفر أتباع الأديان الأخرى، وكل طائفة تعتقد اعتقادا جازما أن الله اصطفاها وحدها دون سواها)

وهذا الطرح كله مبني على فلسفة كانط التي استند إليها أركون وكل الحداثيين، وهي عدم امتلاك أي دين لأي مصداقية في ذاته، أو براهين ثابتة تدل عليه، وأن الأديان مجرد اختيارات بشرية، ولا يستطيع أي دين من الأديان أن يزعم أنه يملك الحقيقة أو الأدلة على ثبوته وكونه من الله تعالى.

وبذلك لا يمكن لأي شخص أن يحاور أمثال هؤلاء.. لأنه إن قيل له ما ذكره القرآن الكريم في حواراته مع المخالفين: { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، أعرضوا ونأوا واكتفوا بذكر أطروحاتهم بكل استعلاء، لأن كل البراهين الدينية عندهم ليست عقلية، ولا علمية، لسبب بسيط وهو أن كانط في ذلك الزمان أن الدين يستند للعقل العملي، والاختيار البشري، والإيمان المجرد، ولا يستند لأي براهين تثبته أوتدل عليه.

وبناء على هذه القاعدة يضع التنويريون شروطهم لقبول الدين، وهي أن يتحول الدين إلى مزاجهم وأفكارهم، لا أن يتحولوا هم إلى ما يطلبه الدين من عقائد وقيم وأفكار.

وقد ذكر هاشم صالح المدى الذي بلغه أركون في طرحه الحداثي، وتقدمه على غيره فيه، فقال: (أركون يقول لنا بأن الحل إما أن يكون جذريا، راديكاليا، أو أنه لن يكون.. فآخر الدواء الكي كما تقول العرب.. إنه ينصحنا بتفكيك كل الأنظمة الفقهية واللاهوتية الموروثة عن العصور الوسطي.. فكر أركون يتجاوز كل هؤلاء بطبيعة الحال لأنه يعيش في عصر الحداثة أو ما بعد الحداثة، ويحاضر في كبريات جامعات العالم، ولذا فهو ينظر إلى الظاهرة الدينية من كافة جوانبها، ويعرف كيف يفكك ببراعة منقطعة النظير كل الانغلاقات التراثية في كل الأديان)

ويذكر كيف كان يتعامل مع الأجيال التنويرية التي خرجها، فقال: (في دروسه الأسبوعية الرائعة في السوربون كثيرا ما كان ينفعل، ويدعونا إلى أن نخرج من أقفاصنا وسجوننا التراثية لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج)

وأحب أن أذكر هنا أن الكثير من المغترين بفكر أركون يتصورون أنه يكتفي بمجرد نقد التراث، متناسين أن ذلك مجرد مرحلة من مراحله الفكرية، أو هي معركة من المعارك التي يشنها على الدين نفسه.. ولهذا نراه في مواضع يشن حربه على طائفة من الطوائف، فيتصور البعض أنه ينتصر لغيرها، ولكنه في الحقيقة لا يفعل ذلك، وإنما ينفرد بكل واحدة منها، ليقضي عليها بعدها جميعا، لا يفرق في ذلك بين أقوالها الصحيحة المعتبرة التي تستند إلى المصادر المقدسة، وبين رؤاها المجردة عن تلك المصادر.

وقد ذكر هاشم صالح في مقال له نشرته بعض الجرائد السعودية، أن محمد أركون مع تشدده مع المقدس في كل مراحل حياته إلا أن حدته عليه زادت بعد أحداث 11 من سبتمبر، والتي كانت فرصة لظهور الإلحاد الجديد، كما كانت فرصة لتغول الحداثة، وانتشار التنوير، وتبنيه من طرف ممالك النفط العربية خصوصا.

فقد ذكر في مقاله المعنون بـ [هل تغير محمد أركون!؟] كتاب محمد أركون عن [النزعة الانسانية والإسلام.. معارك فكرية ومقترحات من أجل الخروج من الأزمة]، وطروحات أركون الجديدة فيه، فقال: (والآن ماذا حصل؟ هل غير موقفه في كتابه الأخير؟ هل عدل منه؟ يخيل إليَّ أن نعم.. صحيح انه كان يقول في السابق بضرورة تطبيق المنهج العلمي أو التاريخي على التراث العربي الإسلامي بكل صرامة ودقة موضوعية، وصحيح أنه كان يمارس هذا التطبيق عملياً من خلال مشروع عمره الطويل العريض: نقد العقل الإسلامي.. ولكنه كان يمر مرور الكرام على ذكر التنوير ويتحاشى التوقف عنده طويلاً، أو قل إنه بعد ان يتوقف عنده كان كثيراً ما يحذر من سلبياته من دون أن ينكر ايجابياته بالطبع.. أما الآن، وفي هذا الكتاب، فإنه يعترف صراحة بضرورة أن تمر الشعوب العربية والإسلامية بالمرحلة التنويرية، مثلما حصل للشعوب الاوروبية بدءاً من القرن الثامن عشر)

ويقول: (يخيل إليَّ أنه بعد ضربة (11) سبتمبر ثم بالاخص بعد ضربة (11) مارس في مدريد راح يغير مواقفه النقدية، أو قل راح يجعلها راديكالية أكثر.. لم يعد يراعي التيار التقليدي، ويجامله أكثر مما ينبغي، كما كان يفعل سابقاً. لقد أجبرته هذه التفجيرات التاريخية والمأساوية على استشعار حجم المرض العضال بعد أن استفحل في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية، ووصل الى ذروته القصوى)

هذه خلاصة مبسطة لطروحات أركون وأهدافها التي لا تختلف عن أهداف سائر التنويريين، وهي هدم الإسلام عبر تمريره على المناهج الغربية التي مورست مع الكتاب المقدس، ومن شاء أن يطلع عليها من خلال كتبه، فله ذلك، ولكن بشرط أن يقرأها قراءة كلية، لا جزئية، فذكاء الرجل يجعله يتحرك بهدوء، من غير أن يثير أي حساسية.. ولذلك لا يفهمه إلا من عرفه وعرف مقاصده، وخرج من عالم الألفاظ المجردة إلى المعاني الكبرى التي تنطوي عليها.

فهو مثلا قد يشيد بابن رشد أو غيره، فيتصور القارئ أنه يدعو إلى أن نلتزم نفس منهج ابن رشد في التوفيق بين الشريعة والفلسفة والعقل.. لكنه يعود بعد ذلك، ويذكر أن طروحات ابن رشد طروحات هزيلة جدا أمام ما يقتضيه التنوير.. فإذا سألته عن ذلك أجابك وبطرق ملتوية كثيرة بأنه إعادة النظر في المقدس نفسه أو معالجته ليصبح متناسبا مع الحداثة والعصر.. أي تعاد خياطته وتفصيله ليتناسب مع المزاج الذي تفرضه العقول المعاصرة.. العقول الممتلئة بالقيم الغربية، لا العقول المممتلئة بالإيمان بالله ورسوله.


([1])  منها على سبيل المثال [نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون]، لمحمد الفجار.. و[القرآن الكريم والقراءة الحداثية – دارسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون]، لحسن العباقي.. و[التراث والمنهج بين أركون والجابري]، لنايلة أبي نادر.. و[العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب – الجهود الفلسفية عند محمد أركون]، لرون هاليبر.. و[الحداثة في فكر محمد أركون]، لفارح مسرحي.. و[العقل بين التاريخ والوحي – حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون]، لمحمد المزوغي.. وغيرها كثير.

([2])  علي حرب، نقد النص ص 83.

([3])  انظر مقالا بعنوان: بين أركون والجابري .. في نقد العقل العربي/ الإسلامي: قراءة تحليلية للأبعاد الفلسفية، عبد الله المالي.

([4])  نقلا عن: نقد العقل التقليدي للإسلام.. المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون:بقلم: هاشم صالح، الفجر نيوز، نشر في الفجر نيوز يوم 03 – 02 – 2008.

([5])  مجلة الاكسبريس الفرنسية بتاريخ 27-3-2003.

([6])  ألقى هذا التصريح في الدار البيضاء بتاريخ 14-11-2006.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *