التنويريون.. والمصافحات الآثمة

التنويريون.. والمصافحات الآثمة

عندما نقرأ التاريخ قراءة اعتبار وتدبر نجد أن أكثر ما حدث فيه من مآس وآلام هو نتيجة مصافحات آثمة بين رجال العلم والدين والثقافة مع رجال السياسة والسلطة، أو مع رجال المال والاقتصاد، أو مع رجال الجاه والشهرة.

فتلك المصافحات لا تمتد لليد فقط، بل تمتد قبل ذلك وبعده للقلب والعقل؛ فينغلقان انغلاقا كليا عن الحقائق والقيم، وينفتحان انفتاحا كليا على الأهواء والأغراض والشهوات؛ فيصبح عقل المفكر خادما لهواه، وهواه خادما لمن يوفر له رغباته.

وقد أخبر القرآن الكريم عن النموذج الممثل لذلك ببلعم بن باعوراء، ذلك الذي {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176]؛ فترك موسى عليه السلام، وراح إلى صف أعدائه، لأنه لا يرضي أهواءه وطمعه وشهواته إلا كنوز أعدائه.

ولا يمكننا هنا أن نعدد المصافحات الآثمة التي حصلت في التاريخ، وتأثيراتها على عالم الأفكار والأديان والقيم؛ فذلك مما لا يعد ولا يحصى، ولكنا سنقتصر على هذه الأيدي الممدودة من التنويريين لجهات كثيرة مشبوهة، لم نر منها خيرا في الماضي، ولن نرى منها خيرا في المستقبل، ذلك أن كل تلك الكنوز التي وهبت لها لم تستفد منها إلا عتوا وغلظة وضلالة.

تلك الجهات التي صافحت في عقود سابقة أيدي المتطرفين والإرهابيين لتحول منهم أداة لخدمة المشروع الأمريكي والغربي، ومواجهة القطب الثاني ليبقى المجال فسيحا أمام القطب الأول ليمارس كبرياءه كما يشتهي.

وعندما استنفذت أغراضها من المتطرفين والإرهابيين راحت تتبرأ منهم، وتمد يدها للمتطرفين الجدد، أولئك الذين يعتبرون أنفسهم متنورين.. ولا حظ لهم من التنوير إلا حجب الحقائق والتلاعب بها، وإتاحة المجال لكل رويبضة أو صعلوك أو جاهل ليتحدث في الدين كما يشتهي، بل يضع فيه من الاجتهادات ما لم يسبقه إليه أحد، ومن غير أي دليل أو حجة.

 ليس من عادتي أن أذكر الأسماء.. ولكنها واضحة جدا، فكل يد تمتد لمصافحة قرن الشيطان يمكننا أن نخاف منها، أو نحسب لها ألف حساب.

ولهذا يمكننا في هذا الوقت بالذات أن نخاف من اليد التي يمدها هذا القرن المشؤوم لأولئك التنويريين، ليعطيهم من الفرص ما أعطاه سابقا للمتطرفين والإرهابيين.. ليقضي هؤلاء المتطرفون الجدد على ما بقي لدينا من قيم وحقائق جميلة.. ويجعلوا من الدين كرة تتداولها الأيدي والأرجل، ويتفرج الناس على العبث بها، وهم في قمة السعادة والسرور.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *