التنويريون.. وصفقة القرن

التنويريون.. وصفقة القرن

قد لا يكون ما سأذكره الآن هو الحقيقة المطلقة، ذلك أنه من الصعب أن يدعي أي إنسان لا يستند لسند غيبي معصوم أنه يصف المستقبل كما سيحصل بالضبط.. ولكني أحاول استشرافه من خلال معطيات كثيرة، أصبحت بالنسبة لي على الأقل واضحة جلية، ولذلك أذكرها من باب الثبوب لا من باب الإثبات.. ومن باب النصح لا من باب التحقيق العلمي المتين المؤيد بالأدلة القطعية.

وخلاصة هذا الاستشراف تكمن في أن الساسة الذين استعملوا في الماضي ما يسمونه بالإسلام السلفي والحركي لتحقيق بعض مآربهم السياسية التي تخدمهم أو تخدم الصراع السياسي العالمي بين الأقطاب الكبرى، قد اكتشفوا أن هذا الخيار قد حقق أغراضه، وانتهى دوره، واحترقت أوراقه.. لهذا بدأت تصريحاتهم تنطلق من كل جهة تتبرأ منه، بعد أن اعترفت أنها هي نفسها من دعمه لخدمة أمريكا وحربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي.

والبديل لذلك ـ كما يراه المتآمرون ـ هو إسلام آخر أكثر انفتاحا على الغرب، وعلى أمريكا خصوصا، بل حتى على إسرائيل.. حتى يهيئ الأجواء لما يسمونه [صفقة القرن]، وهي صفقة لا تشمل السياسة ولا الاقتصاد وحدهما، بل تشمل الإنسان أيضا.. فالإنسان هو الأساس في كل مشروع يراد تنفيذه صالحا كان ذلك المشروع أو فاسدا.

وصفقة القرن تقتضي الانفتاح الكلي على الغرب وإسرائيل وزوال كل الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية بحيث يصبح المسلم إنسانا مدنيا يفكر بنفس الطريقة التي يفكر بها الأمريكي والأوروبي والصهيوني.

وهي تقتضي زوال كل الخصوصيات.. فالإسلام بالمفهوم الجديد هو تحقيق القيم الحضارية.. ولا يهم الشريعة التي نلتزم بها أو الطقوس التي نؤديها.. فيمكننا اعتبار المسيحي واليهودي مسلما إن حقق قيم التنمية الحضارية.. وقدم خدمات للبشرية.. بل هو أكثر قيمة من المسلم الصوام القوام، لأن الله تعالى ـ بحسب هذا المفهوم الجديد ـ لم يخلقنا لنتعرف عليه، ونقيم الصلات بيننا وبينه، وإنما خلقنا لنخترع الكهرباء والمواصلات، ونوفر من الصحة لأجساده ما لم يوفر لنا الجهاز البيولوجي الذي خلقنا عليه.

وهي صفقة تقتضي أن ينظر للأمم باعتبار تطورها الاقتصادي، وإنتاجها العلمي.. ولذلك فإن العاقل هو الذي يقيم الصلات والتحالفات والعلاقات مع أمثال هذه الدول.. ولذلك لا حرج في إقامة الصلات مع إسرائيل.. ذلك أنه يمكن اعتبار اليهود مسلمين في حال اعترافهم فقط بأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من الله.. دون أن يكلفوا أنفسهم بعد ذلك باتباعه.. بالإضافة إلى أننا يمكننا أن نستفيد من العقل اليهودي في السياسة والاقتصاد والعلوم المختلفة.. بالإضافة إلى أنه يمكن أن نتحالف معهم عسكريا لنواجه المشروع الإيراني [القذر] كما عبر عنه عدنان إبراهيم.

وفي سبيل تحقيق هذا المشروع احتاج القائمون عليه عن البحث عن الشخصيات التي تمثله، والتي لها من الجاذبية ما يمكن أن تنفذه في الواقع، وبأقل تكلفة.

وحسب رؤيتي البسيطة القاصرة، فقد رأيت أن الأنظار موجهة خصوصا لعدنان إبراهيم ومحمد شحرور وغيرهما من الذين وفر لهم الإعلام كل وسائل الشهرة، ولست أدري هل يعون ذلك أم لا.. لأن الكثير للأسف من الأدوات لا يعرفون أنهم أدوات، حتى ينتهوا من أداء أدوراهم بكل دقة، ثم يلفظون في الأخير كما تلفظ كل الأوراق المحروقة.

وأول الأسباب التي جعلتهم يختارون هذه الأدوات هو أنها استطاعت أن تجتذب جماهير كثيرة لشخصها لا لمشروعها، حتى تصور الكثير أن ما يطرحونه هو من بنات أفكارهم واجتهاداتهم.

وثانيهما هو أن طروحاتهم اتسمت بذلك الانفعال الذي تميزت به الطروحات السلفية والحركية.. والمتآمرون يعجبهم المنفعلون، ذلك أنهم يهدمون أكثر مما يبنون، ويفسدون أكثر مما يصلحون.. ولذلك لم نر لعدنان إبراهيم ـ مثلا ـ كتابات علمية وبحوثا رصينة موثقة، بل كل ما طرحه خطابات وتصريحات تحاول جذب العامة أكثر من جذب المثقفين والمفكرين والباحثين.

وخطورتها ليست في ذواتها.. ذلك أن الكثير مما طرحه كان قد كتب فيه المؤلفات الكثيرة، وكان دور عدنان فيه هو حفظ لبعض ما ورد، ثم عرضه على الناس بطريقته الخاصة.

وخطورة هذه الطريقة هي توليد الجرأة في النقد الهدام لعوام الناس.. حتى أصبح الكل ينتقد كل شيء من دون بحث ولا نظر ولا أسس علمية.. حتى أن البعض صار يرد الأحاديث الصحيحة المتواترة من غير أي حجة ولا دليل..

وكما اتسمت الظاهرة السلفية والحركية بذلك الانفعال مع كل ما يختلفون معه حصل مثله مع هذه الظاهرة الجديدة التي لا أستطيع أن أجزم بأن عدنان أو إسلام البحيري أو غيرهما قصدها.

لقد صار الكثير يسخر من صحيح البخاري أو كتاب الكافي أو كتب الصحاح والمسانيد والسنن في المدارس المختلفة.. وكأن كل ما فيها دجل مع أن الأحاديث المردودة فيها أحاديث محدودة، ولم يردها العلماء إلا بناء على معطيات كثيرة.. وليس على مجرد نزوة الرد.

لكن عدنان إبراهيم وزملاءه من التنويريين كانوا يختارون نموذجا من النماذج، ثم يرمون كل شيء، ويهدمون كل شيء، مثلما كان يفعل السلفية حين يختارون شيخا منحرفا من مشايخ الطرق الصوفية ليرموا به جميع الطرق الصوفية، بل جميع الصوفية في جميع فترات التاريخ.

وكل هذا سببه الكسل عن التحقيق العلمي، وعدم الورع عن التقول على الله، أو على المسلمين بما لم يثبت.

وقد ذكرت في كتاب [التنويريون.. والصراع مع المقدس] الكثير من الأمثلة على تلك الجرأة على نصوص مقدسة عليها نور النبوة، ولكنهم يردونها لكونها تصطدم مع مزاجهم.

وفي نفس الوقت نرى ذلك الانبهار بكلمات أي فيلسوف أو عالم غربي.. حتى أنه أصبح من الموضة عندهم أنهم في كل درس أو خطبة أو مقالة يزينون كلماتهم بما قاله فلان أو فلان من الغربيين مع الثناء عليه، واعتباره عملاقا من عمالقة الفكر.

لا يمكنني في هذا المقال المختصر أن أورد أدلتي على ما أخاف أن يقع في المستقبل، لكني أذكر بأن هذا الطرح الجديد هو تهديم للإسلام ابتداء من مصادره المقدسة.. فالقرآن عندهم مؤول، والسنة عندهم مكذوبة، والعلماء عندهم دجالون، والغرب عندهم عبارة عن مجتمع من المفكرين والفلاسفة والعباقرة، والمسافة بين الأديان غير موجودة، فكل الأديان يمكن أن ندين بها.. ولا خوف من العذاب والعقاب ذلك أن رحمة الله وسعت كل شيء.. بل حتى الملاحدة سيكونون أول أهل الجنة.. ومثل ذلك الأخلاق.. فالأخلاق تقتصر على الأخلاق الاجتماعية.. أما غض البصر والبعد عن الفواحش.. فذلك تراث قديم، ومفاهيم خاطئة، والعلاقة بين الرجل والمرأة يمكن أن تنفتح مثلما حصل في الغرب.

وهكذا يصبح الإسلام بهذه النظرة إسلاما آخر.. بعيدا عن كل ما ورد في النصوص المقدسة.. وبذلك ما المانع أن نتواصل مع أمريكا، ونقيم صداقات معها، ونبني لها الكنائس في مكة والمدينة.. وما المانع أن نبكي على حائط البراق مع اليهود، ونبحث معهم عن البقرة الحمراء أو الصفراء.. وما المانع أن نقيم علاقات استراتيجية معهم لنقضي على اليد الإيرانية في اليمن وسوريا وكل البلاد.

هذه رؤيتي التي أتمنى ألا أكون صادقا فيها.. ولكن كل الواقع يدل عليها.

ونصيحتي هي أن نعرف أن هذا الأمر دين.. فلذ نبحث عن أهل الورع من الصادقين الذين لا يطلبون مالا ولا جاها، لنأخذ عنهم ديننا.. فأولئك وحدهم المؤتمنون عليه.

أما الذين وضعوا أيديهم في أيدي قتلة أطفال اليمن، أولئك الذين خربوا سوريا وليبيا، وأعطوا بالمجان آبار البترول لأعداء الأمة، فإن أيديهم قذرة وهي أنجس من أن تفهم المعاني المقدسة لكلمات الله، فكلام الله {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *