فكرة لم يسبقني إليها أحد

فكرة لم يسبقني إليها أحد

مع كثرة النصوص المقدسة المحذرة من الرياء وحب الجاه وطلب السمعة، والداعية إلى التواضع والعبودية وطلب خمول الذكر، نجد ألسنة كثيرة تتحدث عن الدين، وكأنه سلعة من السلع، أو اختراع من الاختراعات، أو مضمار من المضامير التي يتنافس فيها أهل الدنيا ويتقاتلون.

ومظاهر ذلك كثيرة جدا، ولعل أحسن وصف لها ما وصفه أولياء هذه الأمة عند تسميتهم لهؤلاء بكونهم [علماء الدنيا]، حتى لو كانوا يعلّمون القرآن، أو يدرّسون الفقه، أو يكتبون في العلوم الشرعية.

وأبشع تلك المظاهر هو تلك العبارة التي نسمعها كثيرا، وكأنها أدب من الآداب الشرعية، أو سنة من السنن النبوية، وهي قول بعضهم عندما يكشف الله له فهما من الفهوم، أو معرفة من المعارف: (وهذه فكرة لم أر من سبقني إليها)، أو (لم يسبقني إليها أحد)

فإذا وجدها بعد ذلك عند بعضهم، وقد ذكرها من غير أن ينسبها إليه قامت قيامته، وراح يهدد ويتوعد، مع العلم أن تلك الفكرة قد تكون مرتبطة بالإخلاص ودرجاته، والورع ومراتبه.. وقد يكون لها علاقة بالشرك وخفاياه، أو الرياء ومظاهره.. وقد تكون تفسيرا لآية قرآنية، أو شرحا لحديث نبوي.

وهو يفعل ذلك بكل تبجح، بل ربما يكتب في ذلك المقالات.. وكأن الدين شيء، والحديث عنه شيء آخر.. مع أن العلم بالدين يقتضي أولا أن يتدين المتعلم له، والمتحدث به، وإلا كان مغرورا مخادعا، أو مفتونا مضللا، {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]

كما ورد ذلك الوصف في الأثر عن الله تعالى خطابا لداود عليه السلام: (يا داود! لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتونا بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فان أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم، أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم)

وقال المسيح عليه السلام: (الدنيا داء الدين، والعالم طبيب الدين، فاذا رأيتم الطبيب يجرّ الداء إلى نفسه فاتهموه، واعلموا انه غير ناصح لغيره)

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم ; فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وأن يزل فلا تقطعوا عنه آمالكم. وأما جدال منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فردوه إلى عالمه. وأما دنيا تقطع أعناقكم، فمن جعل الله في قلبه غنى فهو غني)([1])

وقال: (إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقا عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون)([2])

وقد ورد في الآثار عن الإمام الصادق وصفا رائعا لأمثال هؤلاء العلماء، وسلوكاتهم المتناقضة مع مقتضيات الدين، والدركات التي تنتظرهم في جهنم، وهو مما لا يقال بالرأي، وإنما تلقاه عن آبائه وأجداده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال: (إن من العلماء من يحب أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه فذاك في الدرك الأسفل من النار، ومن العلماء من إذا وعظ أنف وإذا وعظ عنف فذاك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة ولا يرى له في المساكين، فذاك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين، فإن رد عليه شئ من قوله أو قصر في شئ من أمره غضب فذاك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر به علمه ويكثر به حديثه فذاك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول: سلوني ولعله لا يصيب حرفا واحدا والله لا يحب المتكلفين فذاك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار)([3])

تمنيت لو أن هذه الروايات والنصوص المقدسة علقت على باب كل كلية إسلامية، ونشرت مع كل كتاب، ووضعت في باب كل مجلس علمي، حتى نجرد الدين من ذواتنا وأهوائنا ونتركه لله وحده، ونتعامل بكل عبودية مع كل معرفة تتاح لنا، أو فهم ينزله الله علينا.


([1])  رواه الطبراني في الأوسط، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 186).

([2])  رواه الطبراني في الأوسط والصغير، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 187)

([3])  بحار الأنوار، ج8، ص310.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *