الواعظ الخطيب

الواعظ الخطيب

سيدي يا رسول الله.. يا من جعل الله كلماتك البليغة ترياقا للقلوب، وشفاء للصدور، ومحركا للجوارح.. فلا يسمعها صادق إلا تخلى عن كسله، وأخذ كتابه بقوة، وتحول من متمرد معارض إلى مؤمن مسالم.

لقد رحت أتأمل كلماتك ومواعظك التي بلغتنا، وقارنتها بكل مواعظ البلغاء والخطباء والأئمة، من المسلمين وغيرهم، فوجدت أنك ملك الخطباء والوعاظ، وأصدقهم، وأكثرهم تأثيرا.

ووجدت أن كلماتك لا تبليها الأيام، ولا تؤثر فيها السنون، ولا يجعلها التكرار مملة، بل هي دائمة الجدة والحياة، وتؤثر في كل الأوقات.. لأن معانيها تنبع من بحر الحقيقة الذي لم تكدره دلاء الأهواء والوساوس.

وكيف لا تكون مواعظك كذلك، وأنت الذي لم تعظ إلا بالإذن الإلهي الخاص، الذي دعاك إليه ربك، فقال: ﴿ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ (النساء:63)، والله ما دعاك لذلك إلا بعد علمه بتوفر كل القدرات المرتبطة به لديك..

ولذلك لم تكن مواعظك سيدي مطربة للآذان ببلاغتها فقط، وإنما كانت مطربة أيضا للأرواح والأنفس، حيث تتسلل إليها بكل رفق، لأنها تنطلق من تلك المعرفة اللدنية التي وهبك الله، والتي جعلتك ترى الحقيقة الإنسانية أمامك بكل لطائفها وجوانبها، فتخاطبها جميعا، لتثير أشواقها لسلوك طريق الحقيقة المستقيم.

وكيف لا تكون مواعظك كذلك، وأنت الذي تنزل عليك القرآن الكريم بحروفه ومعانيه، والقرآن الكريم هو كتاب المواعظ الأكبر، الذي يخاطب كل اللطائف، وبجميع اللغات التي تفهمها، كما قال تعالى يصفه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:57)، وقال:﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (النور:34)، وقال:﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران:138)

وكيف لا تكون مواعظك كذلك، وأنت الذي اجتمعت لديك كل المعاني والأدوات التي لم تجتمع للخطباء جميعا.. فأنت مثل ذلك الذي يصف شيئا يراه، ويدعو إليه، عن عيان، لا عن سماع، ولذلك كانت مواعظك ممتلئة بالحياة، وقد عبرت عن ذلك، فقلت: (إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب)([1])

بل إن الله تعالى وصفك بذلك، ووصف معه حرصك الشديد على إيمان الناس وصلاحهم، لأنك ترى رأي العين النيران التي يقحمون فيها أنفسهم، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

وكيف لا تكون كذلك، وأنت عين من عيون رحمة الله لعباده، بل أنت الرحمةكبرى، بل شمس الرحمة التي تفيئ إلى دفئها جميع الخلائق؟

ولذلك كانت كلماتك ترياقا يعالج النفوس، ومعراجا تعرج به الأرواح، وإكسيرا تتحرك فيه الذوات أسمى حركة جوهرية عرفها الوجود..

لا أزال أذكر سيدي تلك الموعظة البليغة التي وعظت بها شابا صغيرا هو ابن عمك ابن عباس.. وقد ملأني ذلك انبهارا وإعجابا وتأثرا؛ فأنت تعظ الجميع، وفي كل المحال، ولا يعنيك أن تنصب لك المنابر، أو يجتمع الناس حولك..

لقد ذكر ابن عباس موعظتك له، فقال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقَالَ:(يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([2])

ما أجمل هذه الكلمات، وأعظم تأثيرها، فهي تتسلل إلى النفوس والقلوب لتملأها بالحكمة والجد.. فهي لا تذكر المطالب فقط، وإنما تعد بالمواهب.. لعلمها أن النفس الإنسانية مثل ذلك التاجر الذي لا ينشط إلا حيث يجد الأرباح، ولا يتكاسل إلا حيث يفقدها..

ولذلك ذكرت له أن كل معاملة يعامل به الإنسان ربه، سيعامله ربه بها.. فإن حفظ الله حفظه.. وإن سأل الله أجابه.. وإن توكل على الله أعانه.. وإن رجا الله حقق رجاءه.. وإن خاف الله أمنه من كل مخافة.. وهكذا كان يمكن لابن عباس، ولكل من سمع هذه الموعظة البليغة أن يبحر فيها إلى معاني كثيرة جدا، لا تفيد عقله فقط.. إنما تفيد قلبه وروحه ونفسه وكل لطائفه، لتحركها جميعا نحو شمس الحقيقة، وتجعله مقبلا عليها برغبته وكليته.

وهكذا كانت كل مواعظك، ولذلك كان الجالسون إليك، أو إلى مواعظك التي لا نزال نحفظها، لا يجدون أنفسهم إلا وأعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.

وقد وصف بعض أصحابك ذلك، فقال:(وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب..)([3])

وهو لا يريد من كونها بليغة ما يتوهمه المتكلفون والمتنطعون والمتقعرون من كثرة محسناتها البديعية، وسجعها، وغريب ألفاظها، فأنت أبعد الناس عن ذلك، وبلاغتك التي استفدتها من الوحي المنزل عليك أعظم من أن تسجن نفسها في سجون الألفاظ والتراكيب.. ولذلك كانت بلاغة موعظتك في قدرتها على التوصل إلى إفهام المعاني، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة وأجملها وأحلاها وأكثرها تأثيرا.

أما ذلك التكلف الممقوت الذي راح بعض الخطباء يشوه به المعاني التي جئت بها، فقد كنت تنهى عنه، وتحذر منه، وقد قلت في ذلك: (إنّ الله عزّ وجلّ يبغض البليغ من الرّجال الّذي يتخلّل بلسانه تخلّل البقرة بلسانها)([4])

وكنت تعتبر أولئك المتكلفين المتنطعين أبعد الناس عنك، وعن الهدي الذي جئت به، وقد قلت في ذلك: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مجلساً مني يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون)([5])

ولذلك كانت مواعظك ـ سيدي ـ مرسلة سهلة بسيطة، ولكنها مع ذلك عميقة دقيقة، لا يمكن تغيير لفظة عن محلها، ولا تبديلها بأخرى.

وكانت لذلك قصيرة يمكن لمن شاء أن يحفظها، ليرددها كل حين ويتأثر لمعانيها.. فالكلام الطويل يؤثر بعضه على بعض، وينسخ بعضه بعضا، وقد ورد في الحديث أنك لم تكن تطيل الخطبة يوم الجمعة، وقد ذكر ذلك آخر، فقال:(إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه)([6])

وكنت سيدي في مواعظك تنتهج ما أمرك به القرآن الكريم من الموازنة بين التبشير والإنذار؛ فأنت المبشر النذير الذي يعرف النفوس ودوافعها، فيحركها بكل لطف، لتهذب نفسها بنفسها، وبلين ولطف من غير إكراه وعنف.

وكنت سيدي في مواعظك تستعمل كل ما آتاك الله من الأساليب.. فتقص عليهم القصص، وتذكر لهم الأمثال، وتبين لهم أنواع العبر التي يمكن أن يعتبروا بها.

وأنت في ذلك تنفذ ما أمرك به ربك من تلك الأساليب التي لا يزال البشر يعتبرونها أرقى أساليب التأثير والتربية، وقد قال لك ربك:﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (لأعراف:176)

بل إن الله تعالى هو الذي تولى تعليمك فن القصص التربوي، فقال:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (يوسف:3)، وأخبر عن تأثير القصص في نفس المتلقي، فقال:﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ (هود:120)

وهكذا كنت تضرب في مواعظك الأمثال، وتعبر لهم عن معانيها، تأدبا بما علمك ربك؛ فالقرآن الكريم هو مدرسة الأمثال الكبرى، وأنت تلميذه الأكبر، ولذلك لا غرابة أن تكون أمثالك مدرسة لهذا الفن العظيم من فنون المواعظ.

لست أدري ما أقول لك سيدي.. وكيف أشكو لك حال المواعظ بعدك، وكيف تحولت إلى بضاعة يتاجر بها المتكلفون المتنطعون لاستدرار العواطف من غير أن يكون لها تأثير حقيقي.. حيث يكون همهم ذلك التأثير العاطفي المحدود الذي لا ينبني عليه أي عمل.. بخلاف مواعظك سيدي، والتي تصف الداء والدواء.. وتتسلل إلى النفوس والقلوب والجوارح، وتملأ الحياة بالحركة الإيجابية النافعة الممتدة، التي لا يتوقف تأثيرها على تلك اللحظات المحدودة.

فأسألك ـ يا سيدي يا رسول الله ـ وأتوسل بك إلى ربي أن يجعلني من المستنين بسنتك في الوعظ والهداية.. حتى تكون كلماتي دواء لا داء.. وترياقا لا سما.. ومعراجا يصعد بالإنسان، لا هاوية يسقط فيها.. فإن قوما من الواعظين الذين زعموا أنهم يستنون بسنتك راحوا يعظون باسمك؛ فملأوا الدنيا خرابا، وملأوا حياة الناس شقاء.. وشوهوك وشوهوا دينك أعظم تشويه.


([1])  رواه أحمد، وأبو يعلى، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 210)

([2])  رواه أحمد (1/ 307)، والترمذي (2518) مختصرا، وقال حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي :« احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ».

([3])  رواه أبو داود (4607)، وابن ماجة (42) ، أحمد (4/ 126، 127) ، الحاكم (1/ 96/ 97).

([4])  أبو داود (5005) واللفظ له، الترمذي (2853) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.

([5])  رواه أحمد (6/ 446) وأبو داود (4799)

([6])  رواه البخاري (4/231) ومسلم (7/167)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *