المحبوب المعظم

المحبوب المعظم
سيدي يا رسول الله.. يا من جعل الله محبتك مدرسة للقلوب الطاهرة ترتقي بها إلى سلم الكمالات، وتنال بها أعلى الدرجات، وتتنزل عليها بها أعظم البركات.. فلا يمكن لقلب يريد أن يتطهر من أدرانه، ولا لنفس تريد أن ترتقي في سلم كمالاتها، ما لم تجعل حبك وتعظيمك معراجها ووسيلتها وسلمها.
لا أزال أذكر سيدي كل حين قولك لبعض أصحابك عندما ذكر لك حبه لك، وأنه يحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسه.. لقد قلت له حينها: (لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)([1])
لقد نصحته ـ سيدي ـ أعظم نصيحة.. فلا يمكن لأحد يحب نفسه أكثر منك أن ينال حظه من الكمال، لأن حبه لنفسه سيجعله سجينا لها.. وأما حبه لك، فسيرتقي به إلى أعلى درجات الكمال.
ولذلك أمرنا الله تعالى بحبك، وأن نجعله الأعلى والأوفى، فلا نقدم عليه أي حب آخر، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)
وهكذا كنت تقول مخاطبا أصحابك: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)([2])
لقد رحت سيدي إلى موازين العقول أبحث فيها عن سر أمر الله لنا بحبك، وسر تقديم حبك على حب غيرك؛ فوجدت أن ذلك الحب المقدس الذي نتوجه به إليك هو المفتاح الذي نصل به إلى جميع أبواب السعادة، ومن أقصر طرقها.
ذلك أن الحب يستدعي الذوبان والفناء في المحبوب.. فتنتقل بذلك صفاته إلى المحب، ومن غير معاناة.. لأن حرارة الحب وحدها تتولى ذلك.
فلهذا حين يتوله أي شخص بحبك ـ سيدي ـ فإن كل تلك الخصال الجميلة التي وصفك الله بها، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، تنتقل إليه بمقدار حبه لك.. فإن كان حبك قد طغى عليه، ففنى عن نفسه، فإنه يتحقق بتلك المشاكلة التي عبر عنها الله تعالى بقوله: ﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ (التكوير:7).. وحينها ينال أعظم سعادة، ذلك أن الله تعالى ـ بعدله ورحمته ـ يضم القرناء بعضهم إلى بعض.. كما حدثت عن ذلك بقولك: (يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله)([3])، بل كما نص على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]
ولذلك كانت المعية نصيب كل من أحبك.. فلا يكفي أن يطيعك المرء من غير محبة.. ذلك أنه لا يتحقق له كمال الاتباع إلا بها..
ولذلك كان أسعد الناس بك أكثرهم حبا لك، ذلك أنهم ـ كما تشرفوا بصحبتك لقلوبهم في الدنيا ـ فسيتشرفون بصحبتك في الآخرة.
وقد ورد في الحديث أن رجلا أتاك، فقال: (لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، وإني لأذكرك، فما أصبر عنك حتى أنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإن دخلتها لا أراك)، فأنزل الله تعالى:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)([4])
وقد قلت سيدي في ذلك مبشرا كل محبيك: (من أحبني كان معي في الجنة)([5])
وقلت لرجل سألك: (متى الساعة؟): (ما أعددت لها؟)، فقال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقلت له: (أنت مع من أحببت)([6])
ولذلك كان الصادقون من أصحابك ومن بعدهم من أكثر الناس محبة لك، وقد روي أن امرأة من الأنصار قُتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد معك، لكنك لم تأبه لهم جميعا، بل كانت تسألك عنك، فلما قيل لها: هو بحمد الله تعالى كما تحبين، قالت: أرونيه.. فلما رأتك، قالت: (كل مصيبة بعدك جلل)([7])
وهكذا فعل حبيبك زيد بن الدثنة الذي أخرجه المشركون من الحرم ليقتلوه، فقال له عدوك اللدود أبو سفيان: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا بمقامك تضرب عنقه، وأنت في أهلك، فقال زيد : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ([8]).
وهكذا فعل ذلك الصحابي الذي قال لك: (يا رسول اللّه! إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتّ الجنة رفعتَ مع النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك)([9])
وقال لك آخر، وهو ثوبان مولاك، فقد أتاك، وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقلت له: (يا ثوبان ما غير لونك ؟) فقال: (يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا)
وقد بشرت هؤلاء جميعا، بأنهم مع من أحبوا.. وكذلك بشرت من بعدهم.
وقد ظل ـ سيدي ـ هذا الحب ساريا في أمتك من بعدك، تتأدب به، وتترقى في مدارج الكمال بسببه.. حتى أن هناك من يضحي بكل شيء في سبيل أن يظفر برؤية منك.. وقد قال بعضهم يذكر شوقه إليك:
كيف لا تسكب الدموعَ عيوني … وهي من قبل أن تراك سجام
كيف لا تذهل العقول وتفنى … أنفسُ العاشقين وهي كرامُ
يا رسول الإله إني محبّ … لك والله شائق مستهامُ
يا رسول الإله في كل حينٍ … لك مني تحية وسلام
يا رسول الإله شوقي عظيم … زائد والغرام فيك غرام
يا رسول الإله إني نزيل … ونزيل الكرام ليس يُضام
سيدي .. يا رسول الله .. لسنا نحن المسلمين ممن تشرفوا باتباعك فقط من أحبوك وعظموك وعرفوا قدرك.. بل هناك الكثير من العقلاء في العالم الذين امتلأوا إعجابا وتعظيما لك، ولو أنهم لم يؤمنوا أو لم يعلنوا إيمانهم، ذلك أنهم رأوا فيك كل صفات الكمال التي يحلمون أن يروها في الإنسان.
لقد ذكر [مايكل هارت] في كتابه (العظماء مائة وأعظمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم) سبب اختياره لك، لتكون على قمة عظماء العالم، وعلى مدار التاريخ، فقال: (إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء، وقد يعترض عليه البعض.. ولكنه كان (أي محمد) الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً في كل من المستوى الديني والدنيوي)
وقال عنك: (كان محمد الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح في مهمته إلى أقصى حد، سواء على المستوى الديني أم على المستوي الزمني)([10])
أما شاعر الألمان الأكبر [يوهان غوته]، فقد قال في ديوانه (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) يخاطب أستاذه الروحي الشاعر حافظ شيرازي، معبرا عن أشواقه إليك: (أي حافظ! إن أغانيك لتبعث السكون… وإنني مهاجر إليك بأجناس البشرية المحطمة، لتحملنا في طريق الهجرة إلى المهاجر الأعظم محمد بن عبد الله)([11])
وقال: (إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد)
وقال عنك الأديب الروسي [ليو تولستوي] والذي حرمته الكنيسة بسبب آرائه: (أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء.. ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والمدينة)
وقال عنك الشاعر الفرنسي الشهير [الفونس دي لامارتين]: (أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود، ومن ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟!.. ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تُقاس بها عظمة الإنسان؟!.. إن سلوكه عند النصر وطموحه الذي كان مكرساً لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوي هذه كلها تدل على إيمان كامل مكّنه من إرساء أركان العقيدة. إن الرسول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذي أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد، لقد هدم الرسول المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق)([12])
وقال عنك الفيلسوف الإنجليزي [جورج برناردشو]: (لقد درست محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً، فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح، بل يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، وأوربة بدأت في العصر الراهن تفهم عقيدة التوحيد، وربما ذهبت إلى أبعد من ذلك، فتعترف بقدرة هذه العقيدة على حل مشكلاتها بطريقة تجلب السلام والسعادة! فبهذه الروح يجب أن تفهموا نبوءتي)([13])
وقال عنك ـ مبديا إعجابه بشخصك العظيم ـ : (إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها)
وقال: (لو تولى العالم الأوربي رجل مثل محمد لشفاه من علله كافة، بل يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، إني أعتقد أن الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشرائط اللازمة وتكون موافقة لكل مرافق الحياة، لقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولاً لدى أوربا غداً وقد بدا يكون مقبولاً لديها اليوم، ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد يحل مشاكل العالم)
وقال عنك المؤرخ الأمريكي [ويليام جيمس ديورانت] في موسوعته [قصة الحضارة]: (إذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا إن محمداً رسول المسلمين أعظم عظماء التاريخ، فقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم ديناً واضحاً قوياً، استطاع أن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم)
وقال عنك مؤرخ العرب والحضارة الإسلامية اللبناني المسيحي [فيليب حتّي]: (لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً، سوى محمد، كان صاحب رسالة وباني أمة، ومؤسس دولة.. هذه الثلاثة التي قام بها محمد، كانت وحدة متلاحمة، وكان الدين هو القوة التي توحدها على مدى التاريخ)
وقال عنك عالم اللاهوت السويسري [د. هانز كونج]: (محمد نبي حقيقي بمعنى الكلمة، ولا يمكننا بعد إنكار أن محمداً هو المرشد القائد على طريق النجاة)([14])
وقال عنك المؤرخ البريطاني [أرنولد توينبي]: (الذين يريدون أن يدرسوا السيرة النبوية العطرة يجدون أمامهم من الأسفار مما لا يتوافر مثله للباحثين في حياة أي نبي من أنبياء الله الكرام)
وقال عنك المستشرق الإيطالي [الكونت كاتياني]: (أليس الرسول جديراً بأن تقدَّم للعالم سيرته حتى لا يطمسها الحاقدون عليه وعلى دعوته التي جاء بها لينشر في العالم الحب والسلام؟! وإن الوثائق الحقيقية التي بين أيدينا عن رسول الإسلام ندر أن نجد مثلها، فتاريخ عيسى وما ورد في شأنه في الإنجيل لا يشفي الغليل)
وقال عنك الطبيب والمؤرخ الفرنسي [غوستاف لوبون]: (نعرف ما فيه الكفاية عن حياة محمد، أما حياة المسيح فمجهولة تقريباً، وإنك لن تطمع أن تبحث عن حياته في الأناجيل)
وذكر الكاتب والصحفي والمستشرق [كولونيل رونالد فيكتور كورتيناي] نفس المعنى حين قال: (لا نعرف إلا شذرات عن حياة المسيح، أما في سيرة محمد فنعرف الشيء الكثير، ونجد التاريخ بدل الظلال والغموض)
وقال عنك المستشرق والمهندس الإنكليزي [دونالد روتليدج هيل]: (لقد أخرج محمد للوجود أمة، ومكن لعبادة الله في الأرض، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى)
وقال عنك رجل الدولة والسياسي الألماني [بسمارك]: (يا محمد أنا متأثر جداً إذ لم أكن معاصراً لك! إن البشرية رأت قدوة ممتازة مثلك مرة واحدة، وأنا أعظمك بكمال الاحترام)
وقال عنك المؤرخ والشاعر الإنجليزي [كريستوفر دارسون]: (إن الأوضاع العالمية تغيرت تغيراً مفاجئاً بفعل فرد واحد ظهر في التاريخ هو محمد)
وقال عنك الباحث الفرنسي [كليمان هوارت]: (لم يكن محمد نبياً عادياً، بل استحق بجدارة أن يكون خاتم الأنبياء، لأنه قابل كل الصعاب التي قابلت كل الأنبياء الذين سبقوه مضاعفة من بني قومه … نبي ليس عادياً من يقسم أنه (لو سرقت فاطمة ابنته لقطع يدها)! ولو أن المسلمين اتخذوا رسولهم قدوة في نشر الدعوة لأصبح العالم مسلماً)
هذه سيدي قطرات من بحر كلمات الذي أعجبوا بك، وأحبوك، ولو لم يكونوا على دينك.. ومن ذا يملك أن يعرفك، ثم لا يمتلئ قلبه حبا لك… وهل هناك من لا يستطيع أن يحب الزهرة الجميلة التي تفوح بكل أنواع الأريج العطر؟.. وأين منك الزهرة وأريجها وجمالها.. وهو لا يساوي قطرة من بحر جمالك؟
لقد رأيت ـ سيدي ـ كل العقلاء مجمعين على تعظيمك، حتى أولئك الذين ناصبوك العداء في فترة ما من حياتهم، وقبل أن يعرفوك.. لكنهم بمجرد أن عرفوك، راحوا يعتذرون إليك، مثلما فعل الفيلسوف الفرنسي [فولتير] الذي أعلن توبته عن مواقفه منك ومن دينك.. لكن المغرضين والحاقدين تناسوا أقواله بعد توبته، وراحوا ينشرون أقواله قبل توبته.
لقد ذكر في توبته سبب بغضه لك وأنه كان ضحية الأفكار سائدة خاطئة كان ينشرها الحاقدون عنك، فقال: (قد هدم محمد الضلال السائد في العالم لبلوغ الحقيقة، ولكن يبدو أنه يوجد دائماً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ)
وقال في قاموسه الفلسفي: (أيها الأساقفة والرهبان والقسيسون إذا فُرض عليكم قانون يحرم عليكم الطعام والشراب طوال النهار في شهر الصيام.. إذا فرض عليكم الحج في صحراء محرقة.. إذا فُرض عليكم إعطاء 2،5 بالمائة من مالكم للفقراء.. إذا حُرِّم عليكم شرب الخمور ولعب الميسر.. إذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثماني عشرة زوجة أحياناً، فجاء من يحذف أربع عشرة من هذا العدد، هل يمكنكم الادعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذّات؟!)
وقال: (لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن لإنســان أن يقوم به على الأرض.. إن أقل ما يقال عن محمد أنه قـــد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة)
سيدي يا رسول الله .. لسنا نحن البشر .. ولا الملائكة .. ولا كل أولئك العقلاء من العوالم الأخرى .. وحدهم من عرفوا قدرك، وبجلوك وكرموك.. بل إن كل شيء فعل ذلك.. فقد بث الله محبتك في قلوب الكائنات.. حتى تلك التي نتوهم أنه لا عقول ولا قلوب لها.. وهل يعقل أن يخلق الله شيئا من دون أن يكون له عقل أو قلب؟.. لكن كبرياءنا جعلنا نتوهم أن العقل لن يكون إلا في جهاز عصبي، والقلب لن يكون إلا في جهاز دوري.
لقد ورد في الروايات الكثيرة المتواترة التي لا يؤمن بها إلا الصادقون في إيمانهم، أولئك الذين يعلمون أن قدرة الله لا يعجزها شيء.. ما يدل على أن الأرض بحجارتها وأشجارها وحيواناتها، كانت تظهر لك ـ سيدي ـ كل ألوان المودة والحنين والحب..
فقد أخبرت عن جبل أحد، وحبك له، وحبه لك، فقلت: (هذا جبل يحبنا ونحبه)([15])
ووصلنا بأسانيد كثيرة([16]) أنك كنت تخطب إلى جذع نخلة، فاتخذ لك منبر بدله، فلما فارقت الجذع، وغدوت إلى المنبر الذي صنع لك حن لك كما تحن الناقة، فنزلت إليه، فضممته إليك، فسكن، وقلت عنه: (لو لم أحتضنه، لحن إلى يوم القيامة) ([17])
لقد عبر الشاعر عن ذلك الحنين الذي أبداه لك الجذع، فقال:
يحن الجذع من شوق إليك … و يذرف دمعه حزناً عليك
و يجهش بالبكاء وبالنحيب … لفقد حديثكم وكذا يديك
فمالي لا يحن إليك قلبي … و حلمي أن أقبل مقلتيك
و أن ألقاك في يوم المعاد … و ينعم ناظري من وجنتيك
فداك قرابتي وجميع مالي … و أبذل مهجتي دوماً فداك
تدوم سعادتي ونعيم روحي … إذا بذلت حياتي في رضاك
حبيب القلب عذرا لا تلمني … فحبي لا يحق في سماك
ذنوبي أقعدتني عن علو … و أطمح أن أُقرب من علاك
لعل محبتي تسمو بروحي … فتجبر ما تصدع من هواك
وقد ورد ـ سيدي ـ من الروايات ما يدل على شهادة تلك الكائنات التي نتهمها بعدم العقل لك في الوقت الذي جحدك فيه الغافلون قساة القلوب، ففي الحديث عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل أحد إلا شد عليه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير، فجاء واضعا مشفره إلى الأرض حتى برك بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هاتوا خطامه)، ودفعه إلى صاحبه ثم التفت إلى الناس، فقال: (إنه ليس شئ بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الانس والجن)([18])
وقد روي بأسانيد مختلفة([19])، أنك مررت على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فشطاط فقالت: يا رسول الله أخذت ولي خشفان في البرية، وقد انعقد اللبن في أخلافي، فلا هو يذبحني فأستريح، ولا يدعني، فأرجع إلى خشفي في البرية)([20])، فقلت لها: (إن تركتك ترجعين؟)، قالت: (نعم، وإلا عذبني الله عذابا أليما)، فقلت: (أين صاحب هذه؟)، فقال القوم: نحن يا رسول الله، فقلت: (خلوا عنها حتى تأتي خشفها ترضعها وترجع إليكم)، فقالوا: من لنا بذلك؟ قلت: (أنا)، فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمررت بهم فقلت: (أين صاحب هذه؟)، قالوا: هوذا نحن يا رسول الله، فقلت: (تبيعونها؟)، فقالوا: هي لك يا رسول الله، فقلت: (خلوا عنها)، وأطلقوها، فذهبت، وهي تضرب برجلها فرحا وتقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله)
سيدي .. لقد رأيت من قومي من يضحك على مثل هذا.. ولست أدري ما الذي يضحكه، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 17 – 19]؛ فهل كان سليمان عليه السلام أعلم منك بلغة هذه الكائنات.. وهو ليس سوى تلميذ من تلاميذك.. فأنت سيد المرسلين، وأشرف خلق الله أجمعين.
ليس ذلك فقط سيدي.. بل إن الروايات الكثيرة تذكر شهادة الحصى لك.. وليس ذلك بمستغرب، وقد قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]
لقد قال بعض أصحابك يحدث عن بعض ذلك: قدم ملوك حضرموت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم الاشعث بن قيس، فقالوا إنا قد خبأنا لك خبأ فما هو؟ قال: (سبحان الله إنما يفعل هذا الكاهن والكهانة في النار)، فقالوا: فكيف نعلم أنك رسول الله عز وجل، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفا من حصى، فقال: (هذا يشهد أني رسول الله)، فسبح الحصى في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله عز وجل([21]).
وحدث آخر قال: كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنسمع تسبيح الطعام، وهو يؤكل([22]).
وحدث آخر قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطعام ثريد، فقال: (إن هذا الطعام يسبح)، قالوا: يا رسول الله، وتفقه تسبيحه، قال: (نعم)، ثم قال لرجل: (ادن هذه القصعة من هذا الرجل)، فأدناها منه فقال: نعم، يا رسول الله، هذا الطعام يسبح فقال: (ادنها من آخر) وأدناها منه فقال: هذا الطعام يسبح ثم قال: (ردها) فقال رجل: يا رسول الله، لو أمرت على القوم جميعا، فقال: (لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا: من ذنب ردها)، فردها([23]).
وقد ورد في الروايات والأحاديث الكثيرة أنها لم تكن تكتفي بالشهادة لك فقط، وإنما كانت تحييك وتبجلك وتسجد تكريما لك، فعن الإمام علي قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك، يا رسول الله([24]).
وعن برة بنت أبي تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتا ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا([25]).
وذكر جابر بن عبد الله جملا جاء إليك، فلما كان قريبا منك خر ساجدا، فقلت: (يا أيها الناس، من صاحب هذا الجمل؟)، فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله، فقلت: (فما شأنه؟)، قالو: سنونا عليه عشرين سنة، فلما كبرت سنه، أردنا نحره، فقلت: (تبيعونه؟)، فقالوا: هو لك يا رسول الله فقلت: (أحسنوا إليه حتى يأتيه أجله)، فقالوا: يا رسول الله، نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقلت: (لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو كان النساء لأزواجهن)([26])
هذا ـ سيدي ـ غيض من فيض مما منحك الله من تعظيم وتبجيل وتكريم ومحبة في قلوب الكائنات.. وكيف لا يكون لك ذلك، وقد قال الله تعالى في شأنك: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ (الشرح:4) .. فلا أحد في العالم يجحد أن اسمك هو أشهر الأسماء وأعظمها.. وأنه الوحيد الذي يردد كل يوم وفي أوقات متعددة في جميع أنحاء العالم.
فأسألك يا سيدي أن يردد قلبي اسمك كل
حين.. حتى يصير فانيا فيك.. عاشقا لك.. مقبلا عليك بكليته.. مسلما لك في كل
شؤونه.. حتى يلقاك طاهرا نقيا جديرا بصحبتك والمعية معك.
([1]) رواه أحمد والبخاري.
([2]) رواه البخاري.
([3]) انظر هذه النصوص في: الدر المنثور:8/429.
([4]) رواه الطبراني، وابن مردويه.
([5]) رواه الاصبهاني في الترغيب.
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) رواه ابن إسحاق والبيهقي.
([8]) رواه البيهقي.
([9]) رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه (صفة الجنة)
([10]) (المائة الأوائل) مايكل هارت (33)
([11]) الديوان الشرقي للشاعر الغربي، غوته ص(31)
([12]) السفر إلى الشرق، ص(277).
([13]) عن (موسوعة مقدمات المناهج والعلوم) أنور الجندي ( 8 / 211 )
([14]) عن (الإسلام نهر يبحث عن مجرى) الدكتور شوقي أبو خليل (15).
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16]) روى القصة جمع من الصحابة، منهم أبي بن كعب رواه الشافعي وأحمد وابن ماجه والبغوي وابن عساكر،ومنهم أنس بن مالك رواه أحمد والترمذي وصححه وأبو يعلى والبزار وابن ماجه وأبو نعيم من طرق على شرط مسلم، ومنهم بريدة، رواه الدارمي، وجابر بن عبد الله، رواه أحمد والبخاري والترمذي، والمطلب بن أبي وداعة، رواه الزبير بن بكار، وأبو سعيد الخدري، رواه عبد بن حميد وابن أبي شيبة، وأبو يعلى وأبو نعيم بسند على شرط مسلم، وعائشة رواه الطبراني والبيهقي، وأم سلمة رواه أبو نعيم والبيهقي بإسناد جيد.. كلها روي بألفاظ متقاربة المعنى وهو بذلك حديث متواتر المعنى.
([17]) الدارمي (39) و (1563) ، وابن ماجه (1415) ، والطبراني (12841) ، والبيهقي 2/558.
([18]) رواه مسلم.
([19]) رواه الطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن أنس بن مالك عن زيد بن أرقم والبيهقي من طريق علي بن قادم وأبو العلاء خالد بن طهمان بن عطية عن أبي سعيد الخدري، والطبراني وأبو نعيم عن أم سلمة، وأبو نعيم عن أنس بن مالك وهو غريب، ورجاله خرج لهم في الكتب الستة.
قال القطب الحضرمي في خصائصه: هذا الحديث ضعفه بعض الحفاظ لكن طرقه يتقوى بعضها ببعض، وقال الشيخ: لهذا الحديث طرق كثيرة تشهد أن للقصة أصلا.
([20]) وفي رواية أنس: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض سكك المدينة فمررن ا بخبأ أعرابي وإذا بظبية مشدودة إلى الخباء، فقالت: يا رسول الله، إن هذا الاعرابي اصطادني.
([21]) رواه أبو نعيم والحكيم الترمذي.
([22]) رواه البخاري ومسلم.
([23]) رواه أبو الشيخ.
([24]) رواه الترمذي، وحسنه.
([25]) رواه ابن سعد.
([26]) رواه أحمد والبيهقي واللفظ له، ورجاله ثقات.