الشهم الشجاع

الشهم الشجاع

سيدي يا رسول الله.. أيها الشهم الشجاع الذي اكتملت فيه كل أركان الشخصية القوية بجميع معانيها؛ فصار أنموذجها المثل، وقدوتها الأعلى، وأسوتها الحسنة.

عندما أتأمل في مواقفك طيلة حياتك، وخاصة في تلك الفترة التي كلفت فيها بأعظم رسالة، وبين أشرس قوم، وفي أحلك ظروف.. أعلم يقينا أن القلب الذي استطاع تحمل تلك التكاليف الثقيلة لا يمكن إلا أن يكون في قمة الشجاعة والقوة.. وإلا فمن يجرؤ على مواجهة أقوام تجذر فيهم الشرك، وكل عادات الجاهلية، بذلك التحدي، وبتلك الدعوات التي جعلتهم ينهضون جميعا على بكرة أبيهم لمواجهته.

ولو أن أولئك المشككين المخدوعين عن الحقيقة، تأملوا في هذه الناحية وحدها، لهدتهم إليك، ولعرفوا أن {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124]، فيستحيل على من كان كاذبا أو مخدوعا أو مخادعا أن يتجرأ على تلك الدعوات التي لن ينال منها إلا المواجهة والحرب والتشويه والتشويش.. مع أنه يمكن أن ينال كل أغراضه بمجرد أن يسمع قومه فصاحته وبلاغته وحكمته.

فالمواجهة ـ يا سيدي يا رسول الله ـ والشجاعة الأدبية المرتبطة بها أعظم من الشجاعة التي يبرزها المحاربون في حربهم، أو الشجعان في منازلاتهم..

ولذلك قلت مبينا عظم شهادة من قال كلمة الحق عند سلاطين الجور: (من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)([1]

لا تزال ذكريات شجاعتك في هذا الجانب ترد على خاطري، وتملؤني بالنشوة، وأنا أشعر بأن ذلك الحبيب العظيم الذي امتلأ قلبي حبا له وشوقا إليه، ليس عارفا، ولا عالما، ولا عابدا، ولا عبقريا فقط.. وإنما هو فوق ذلك يتربع على عرش الشجاعة الذي لا ينافسه فيه أحد.

فالشجاعة التي واجهت بها المشركين واليهود والمنافقين.. وكل المناوئين.. لم يكن ليجسر على الإقدام عليها غيرك.. وغير من اهتدى بهديك.

لا أزال أذكر سيدي ذلك الموقف الذي وقفته على الصفا، وأنت تعلم خطورته، وتأثيره في قومك الحريصين على أصنامهم وأوثانهم.. لقد رحت تناديهم بكل قوة، وتقول لهم: (أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي)، قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلّا صدقا.. فقلت لهم: (فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، حينها قام عمك أبو لهب غاضبا، وهو يقول: (تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟)([2]

لكن ذلك الموقف لم يؤثر فيك.. بل ظللت تنادي فيهم.. وهم يرمونك بالحجارة، ويحرضون الأطفال والمجانين عليك.. وأنت لا تبالي بهم.. ولا بسخريتهم.. ولا برميهم لك بكل أصناف السباب.

وعندما لم تجد منهم آذانا صاغية رحت تسير المسافات الطويلة إلى الطائف، وأنت تعلم أن قسوتهم وغلظتهم لا تقل عن قومك.. وواجهتهم بشجاعة، وطرحت لهم بكل قوة ما كلفك الله به.. وقابلت بكل شجاعة ما واجهوك به.. وعندما اضطررت إلى الشكوى، لتنفس عن قلبك بعض حزنك عليهم، لم تشك لهم كما يفعل الجبناء، وإنما شكوت إلى الله.. لا ما زجك فيه من بلاء.. وإنما شكوت له تقصيرك في حقه..

ولم تقتصر مواقف شجاعتك على ذلك، بل كانت كل حياتك مواقف شجاعة وبطولة نادرة.. وكيف لا تكون كذلك، وأنت الذي جعلت العرب جميعا مشغولين بك.. وبكيفية مواجهتك، وأنت فرد واحد.. ومعك الكثير من المستضعفين.

ولم تكن شجاعتك قاصرة على شجاعة الكلمة.. بل كانت تشمل كل أنواع الشجاعة ومجالاتها.. حتى الحربية منها.. فأنت في كل الحروب التي فرضت عليك كنت المقبل لا المدبر.. والثابت لا المتولي.. حتى كان الشجعان والأبطال يلوذون بك، ويحتمون، وقد قال بعضهم يذكر ذلك: (كنا إذا حمي البأس (القتال)، واحْمرَّت الحَدَق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه)([3]

وقال بعض أصحابك يصف شجاعتك: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عُرْي (مجرد من السرج)، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا (لا تخافوا ولا تفزعوا)، وقال عن الفرس: (وجدناه بحرا، وإنه لبحر)، قال الراوي: (وكان الفرس قبل ذلك يبطأ، فما سبق بعد ذلك) ([4]

وقال آخر: (ما رأيتُ أشجع ولا أنْجد (أسرع في النجدة) من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([5]

وكيف لا تكون كذلك سيدي، وأنت القرآن الناطق الذي تمثلت فيه حروف قوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 146، 147]، فهذه الآيات الكريمة، وإن كانت تصف أتباع الأنبياء، فأنت أولى بها.. وكيف لا تكون كذلك، وأنت سيد الأنبياء، وسيد أتباعهم، ونموذجهم الأمثل، وقدوتهم العظمى.

وكيف لا تكون كذلك، وأنت صاحب الإيمان العظيم الذي يرى الحقائق رأي العين، فلذلك لا يؤثر فيه ذلك البهرج الكاذب الذي يؤثر في الجبناء.. فيملأهم بالمخافة والرهبة.

وكيف لا تكون كذلك، والله تعالى هو الذي أمرك بالثبات والغلظة على أولئك الذين يجاوزون حدودهم، فيظلمون الناس، ويعتدون على الحرمات، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]

ولذلك، فإنك ـ سيدي ـ كما كنت لينا رحيما لطيفا بالمؤمنين والمسالمين والصالحين، كنت في نفس الوقت شديدا على الطغاة والمجرمين والمحاربين.. فاكتملت لك بذلك الإنسانية في أجمل جوانبها.. واكتملت لك الشهامة في أروع صورها.

فقد كنت تحفظ شجاعتك بشهامتك، فلا تظلم، ولا تعتدي، وإنما تكتفي بمواجهة من يظلم المستضعفين، أو يريد التسلط عليهم..

ولهذا كنت في كل حروبك التي فرضت عليك، صاحب شهامة ونبل، تكتفي بقتال من قاتلك، وبحرب من حاربك، من دون أن تجاوز الحدود التي أتاحها الله لك.

وقد شهد لك كل أصحابك بأنك في غزواتك جميعا كنت البطل الأكبر، ففي غزوة بدر وأحد وغيرهما كنت أنت القائد، الذي يقدم على غمار الموت، بشجاعة وبطولة، حتى شُجَّ وجهك، وكُسِرت رَباعيتُك.

وفي يوم حُنَيْن ثبت في وجه الآلاف من هوازن، بعد أن تفرق عنك الناس خوفاً واضطراباً من الكمين المفاجيء الذي تعرضوا له.. وقد وصف بعض صحابتك ثباتك، فقال لمن سأله: (أكنتم وليتم يوم حنين؟): (أشهد على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ولَّى، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر (من لا سلاح معهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رِجْل (قطيع) من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)([6]

وذكر صحابي آخر بعض مواقف شجاعتك، فقال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غَزَاة قِبَلَ نَجْد، فأَدركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القائلة في واد كثير العِضَاهِ (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة فَعلّق سيفه بِغُصْن مِن أغصانها، وتفرّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، فقال رسول الله: إِنَّ رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف صَلْتا (مسلولا) في يده فقال: مَن يَمْنَعُكَ مني؟ قلت: الله، فشامَ السيف (رده في غِمْده)، فها هو ذا جالِس، ثم لم يعرِض له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([7]

وما ذلك ـ سيدي ـ إلا لمعرفتك بالله.. فيستحيل أن تجتمع المعرفة مع الجبن.. فأول علامات العارف بالله شجاعته.. وكيف لا يكون شجاعا، وهو يرى الله في كل شيء.. ويرى قوة الله في كل محل، ولذلك كنت تردد متأسفا: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلّا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنّة. ولولا أن أشقّ على أمّتي ما قعدت خلف سريّة، ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ثمّ أحيا، ثمّ أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أقتل)([8]

بالإضافة إلى ذلك كله ـ سيدي ـ اتفق كل من رآك وعرفك وصحبك على تلك القوة التي كنت عليها.. والتي عجز من كان يزعم لنفسه القوة على مجاراتك فيها.. وكيف لا تكون كذلك، وقوة الجسد من قوة القلب.. وقوة القلب من قوة الروح.. وقوة الروح من صلتها بربها.. وأنت أعظم المتصلين بالله، والمتواصلين معه.. فلذلك تجلى عليك باسمه القوي، فلم يغلبك أحد.

وقد ورد في الحديث أن رجلا من العرب كان يطلق عليه ركانة، ولم يكن أحد يستطيع مواجهته، أو منازلته، وعندما سمع بك، طلب أن يصارعك، فاستجبت لطلبه، وسرعان ما صرعته، فلم يصدق عينه، فطلب الإعادة، فصرعته مرة ثانية، فقال: عاودني، فصرعته الثالثة، فقال: (يا محمد، ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليَّ منك،‏ وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([9]

ولهذا كان الصحابة يلجؤون عليك عند كل شدة، أو ثقل ينوء بهم، فقد روي أنهم يوم حفر الخندق في غزوة الأحزاب، عجزوا عن كسر صخرة عظيمة عرضت لهم في طريق الحفر، فاستنجدوا بك، فأخذت المعول، وضربتها حتى عادت كثيباً أهيل، أو  كالرمل الذي لا يتماسك.

فأسألك ـ يا سيدي يا رسول الله بجاهك العظيم عند الله ـ أن أنال حظا من شجاعتك وقوتك، فلا ألين مع الطغاة، ولا أسكن للظلمة، ولا أخاف في الله لومة لائم.. بل أكون شهما شجاعا أقف مع المستضعفين المظلومين، كما كنت تقف، وكما دعوتنا أن نقف.. إنك أنت صاحب الوسيلة العظمى، والجاه العظيم.


([1])  الترمذى (2174) وأبو داود (4344)

([2])  البخاري- فتح الباري 8/ 360، 609 (الاحاديث رقم 4770، 4971)

([3])  رواه الطيالسى، وابن أبى شيبة، وأحمد، وأبو عبيدة فى الغريب، والنسائى، وأبو يعلى، والحاكم، وابن جرير وصححه، والحارث، والبيهقى فى الدلائل، [كنز العمال 35463]

([4])  رواه والبخاري (2820) و (2866) و (2908) و (3040) و (6033) ، ومسلم (2307) (48)

([5])  الشفا بتعريف حقوق المصطفى – وحاشية الشمني (1/ 116)

([6])  رواه البخاري (2930) ، ومسلم (1776) (78) (79)

([7])  رواه البخاري (2910) و (2913) و (4134) ، ومسلم ص 1787 (14)

([8])  البخاري- الفتح 1 (36) ومسلم (1876)

([9])  من الروايات الواردة للحديث أن يزيد بن ركانة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثلثمائة من الغنم فقال: يا محمَّد، هل لك أن تصارعني؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: وما تجعل لي إن صرعتك؟ قال: مائة من الغنم، فصارعه، فصرعه، ثم قال: هل لك في العود؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وما تجعل لي؟ قال: مائة أخرى، فصارعه، فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمَّد، ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقام عنه ورد عليه غنمه) [رواه الخطيب وصححه الألباني في إرواء الغليل (1501)]

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *