الإمام الممكّن

الإمام الممكّن

يا سيدي يا رسول الله .. يامن بوأه الله بعد النبوة والرسالة منصب الإمامة الإلهية الرفيع، ومكن له في الأرض، ونشر اسمه في العالمين، فصار إمام العالم ظاهرا وباطنا، من عرفه واتبعه وسلك سبيله وصلى خلفه كان من الناجين الفائزين السابقين، ومن راح يبحث عن غيره، أو رضي بسواه بدلا كان كأولئك الذين طلبوا الذلة بعد العزة، والسراب بعد الماء، والظلمات بعد النور.

وكيف لا يكون أمرهم كذلك، وقد أخبر الله تعالى عن الرسل عليهم السلام، وأنهم مع مكانتهم الرفيعة، أخذ عليهم الميثاق باتباعك، قال تعالى:  {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81، 82] ، وقد ورد في تفسيرها عن تلميذك الأكبر الإمام علي قوله: (ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه)([1])

ولهذا كان التبشير بك، والدعوة لاتباعك جزءا من دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد أخبر الله تعالى عن المسيح عليه السلام قوله لقومه: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6]

ولا يزال في أناجيلهم إلى اليوم قول المسيح عليه السلام موصياً تلاميذه: (إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم .. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً.. الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم .. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون، لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء) (يوحنا 14/ 15 – 30)

ولهذا كنت أنت إمام الأنبياء الذين تشرفوا بلقائك، وقد ورد في حديث الإسراء قولك: (وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء.. فحانت الصلاة فأممتهم)([2]

ولهذا ورد في الأحاديث الكثيرة أنك في ذلك الموقف الشديد الذي تقفه الخلائق يوم الحساب، وبعد أن يجهدوا للبحث عمن يكون إمامهم وقائدهم وواسطتهم إلى الله للشفاعة بتعجيل الحساب، تكون أنت إمام ذلك الموقف وسيده.. ولو أنهم بادروا إليك من أول الحساب لما ظلوا فيه لحظة واحدة.

لقد كنت تغضب سيدي عندما ترى من يريد أن يأتم بغيرك، أو ينهل الحقائق والقيم من سواك، ولم يكن غضبك لنفسك، فأنت أرفع وأعظم من أن تغضب لها، وإنما كان غضبك لترك المنبع الصافي الممتد لمصدر الحقيقة، والاغتراف من الروافد الصغيرة، الممتلئة بالدنس، وقد روي أن بعضهم جاءك، فقال: (يا رسول الله، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة، ألا أعرضها عليك؟)، فقلت له: (لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعنى)([3])

كان غضبك سيدي كغضب الطبيب من المريض الذي يترك العلاج عنده، ويذهب إلى المشعوذين والدجالين ليدمر صحته باتباعهم، وترك من جعلهم الله واسطة لحفظ صحته، وعلاج أدوائه.

ولذلك كنت أنت يا رسول الله ولا تزال ترياقا يعالج كل هموم الأمة ومشاكلها.. وكنت ولا تزال الإكسير الأحمر الذي يحول حالها من أسوئها إلى أحسنها.. وكنت أنت المنقذ والمغيث للأمة والمخلص لها من كل الأزمات.

وقد شهد لك بذلك من عرفوك ولو لم يتبعوا سبيلك، وقد قال المفكر والأديب الإنجليزي [جورج برنارد شو] عنك: (ما أحوج العالم الى محمد ليحل مشاكل العالم وهو يحتسي فنجان قهوة)

وقال [ليتسين] مخاطباً لك بأبيات من الشعر يقول فيها: (يا ابن مكة ويا نسل الأكرمين.. يا معيد مجد الآباء والأمهات.. يا مخلص العالم من ذا العبودية.. إن العالم ليفتخر بك.. ويشكر الله على تلك المنحة العزيزة.. ويقدر لك مجهوداتك كلها.. يا نسل الخليل إبراهيم.. يا من منحت السلام الى العالم.. ووفقت بين قلوب البشر.. وجعلت الخلاص شعارك.. يا من قلت في شريعتك: إنما الأعمال بالنيات.. لك منا جزيل الشكر)

وقال [ساديو لويس]: (لم يكن محمد نبي العرب بالرجل البشير للعرب فحسب. بل للعالم. لو أنصفه الناس. لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب. وأن تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم في دينه. عظيم في أخلاقه. عظيم في صفاته. وما أحوجنا الى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين)

لكن الكثير من أمتك سيدي ـ مع كل هذا الكمال والجمال الذي كنت عليه، وجئت به ـ أعرضوا عنك، وراحوا يعملون أهواءهم، ويقتبسون من الشرق والغرب، ويخلطون ذلك ببعض هديك كما يفعل من يخلط السم بالعسل.. فأوهمهم العسل أنهم على هديك، وأنك إمامهم لكن السم كان يسري في حقائقهم ليدمرها، ويشوهك، ويشوه هديك.

لقد ذكرت سيدي ذلك، وحذرت منه، ودعوت إلى صفاء المنبع، فقلت: (والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به، والّذي نفسي بيده لو أنّ موسى صلّى الله عليه وسلّم كان حيّا ما وسعه إلّا أن يتّبعني)([4])

وقد أخبرت سيدي عن ذلك الدخن الذي يختلط فيه هديك بغيره، فقلت لمن سألك: (هل بعد ذلك الشّرّ من خير؟)، فأجبته قائلا: (نعم، وفيه دخن )، فسئلت: وما دخنه؟ فقلت: (قوم يستنّون بغير سنّتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)([5])

ولذلك كنت تحذر من البدع، واتباعها، وتعتبرها أكبر من يصرف الناس عن إمامتك، ليتخذ الناس بعدك أئمة جهلة يضلون ويُضلون، وكنت تقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)([6])

بل إن القرآن نطق بذلك، ودعا إليه، وحذر من تركك إلى غيرك، وقد ورد فيه قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]

وقد حدث ابن مسعود عن تفسيرك للآية، واستعمالك لبيانها ما يوضحها أحسن توضيح، فقال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما خطا فقال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطا عن يمين الخط ويساره وقال: (هذه سُبل، على كل سبيل منه شيطان يدعوه، ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] يعني الخطوط التي عن يمينه ويساره)([7])

فهذا الحديث يبين أن سبيل الحق واحد، وسبل الشيطان متعددة، وأن الحق قد يختلط بالباطل حتى يتوهم الناس أنه الحق.. ويبين فوق ذلك كله أنك أنت مصدر الحق وإمامه.. ومن لم ينهل الحق من غيرك ضل.

ولهذا كان ورثتك الصادقون يحذرون من أولئك الذين تركوك، وراحوا يأتمون بغيرك، وقد قال الإمام علي، لمن رآهم يهجرونك، ويتبعون غيرك: (أيُّها الناس إنّما بَدْءُ وقوع الفتن، أهواءٌ تُتَّبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالاً، فلو أنّ الباطل خلص لم يُخف على ذي حجى، ولو أنّ الحق خلص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى)([8])

وقال: (إنّ من أبغض الخلق إلى الله عزّ وجلّ لرجلين: رجل وكلّه الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن أفتتن به، ضال عن هَدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمّال خطايا غيره، رهنٌ بخطيئته) ([9])

وقال: (وأما أهل السُنّة فالمتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله، وإن قلّوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لاَمر الله تعالى وكتابه ولرسوله، والعاملون برأيهم وأهوائهم، وإنْ كثروا، وقد مضى منهم الفوج الاول، وبقيت أفواج، وعلى الله فضُّها واستيصالها عن جدبة الاَرض)([10])

وسأله رجل عن السُنّة، والبدعة، والفرقة والجماعة، فقال: (أمّا السُنّة: فسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا البدعة، فما خالفها، وأمّا الفرقة، فأهل الباطل وإنْ كثروا، وأمّا الجماعة، فأهل الحق وإن قلّوا)([11])

فنسألك يا سيدي يا رسول الله، يا عظيم الجاه، بما لك من وسيلة عند الله، أن تجعلنا من المؤتمين بك في كل شؤوننا، وأن نسير على هديك، وعلى سراطك المستقيم الذي لم يغير ولم يبدل، حتى نلقاك، وأنت راض عنا، فرح بنا، لتسقينا بيدك الشريفة ماء الاستقامة والطهارة الذي لا نضل ولا نظمأ بعده أبدا.


([1])  تفسير ابن جرير الطبري (2/ 236) ، وتفسير ابن كثير (1/ 386) ، وتفسير البغوي (1/ 322)

([2])  مسلم (172)

([3])  رواه أحمد (3/ 387، رقم 15195) قال الهيثمى (1/ 174): رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار.

([4])  رواه أحمد (3/ 387) ، والدارمي برقم (441)

([5])  مسلم (1847)

([6])  البخاري الفتح 5 (2697) واللفظ له. ومسلم (1718)

([7])  أحمد (1/ 435، 465) رقم (4141) ، (4436) والحاكم (2/ 318)

([8])  الكافي،  1/ 55 .

([9])  الكافي،  1/ 55 .

([10])  كنز العمال، 16/ 184 | 44216.

([11])  تحف العقول، 211.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *