معاناة وتضحية

معاناة وتضحية

يا رسول الله.. يا أسوة كل المضحين والمتألمين والمتعبين..

أكتب هذه الرسالة إليك بعد أن أصابني بعض الإرهاق، نتيجة أعمال بسيطة، تصورت أني قمت بها في خدمة دينك.. وتوهمت معها كذبا وزورا أني قدمت بعض التضحيات أثناء ذلك.

لكني عندما تركت النظر في مرآة نفسي الأمارة بالسوء، ورحت أنظر إلى مرآتك الصقيلة، ورأيت كل تلك الآلام العظيمة التي مرت عليك طيلة حياتك.. وتلك التضحيات التي لا نزال نعيش آثارها.. استحييت من نفسي، وامتلأت خجلا من ذلك الذي سميته تعبا وألما وتضحية..

فأين تعبي وألمي وتضحيتي.. بل أين تعب الملايين وآلامهم وتضحياتهم مما حصل لك في حياتك.. أنت الذي قضيت حياتك كلها في خدمة رسالتك ومبادئك والقيم العظيمة التي جئت بها.

لقد تذكرت كيف أمرك ربك أن تنزع الدثار عنك، وتخرج لإنذار أولئك الأجلاف الغلاظ المستكبرين.. الذين لم يراعوا حرمتك، ولا كرامتك، ولا نبلك، ولا نبوتك.. وهم الذين كانوا يعرفون دماثة أخلاقك، وسماحة طبعك..

بمجرد أن جاءك الأمر الإلهي رحت مسرعا تنفذه من دون أي تردد، أو أي حساب لأي أذى يمكن أن تتعرض له.. مع أنك كنت تعلم أن الكل سيقف في وجهك.. وأنهم سيرددون عليك ما ردده الجهلة على أنبيائهم.

لكنك ـ سيدي ـ لم تبال بكل ما يقولونه لك.. فليقولوا: ساحر أو كاهن أو مجنون أو ابن أبي كبشة.. أو ما شاءت لهم لغتهم من ألفاظ البذاءة، وما شاءت لهم نفوسهم من سموم الحقد.

لقد كنت مترفعا عليهم، لأنك لم تكن تسمع إلا إلى ربك، وهو يسليك بقوله: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 97 – 99]، ويقول لك: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 54، 55]

لم تكن تسمع إلا إلى ربك، وهو يحكي لك قصص الأنبياء، وهم يعانون مثلما تعاني، ويتألمون مثلما تتألم.. ليكون ذلك الألم، وتلك التضحية علامة الصدق الأكبر.. فهل يمكن للكاذب والمدعي أن يضحي أو يتألم أو يرضى بأن يواجه بمثل تلك المعاملات القاسية؟

ولم تكن تلك المعاملات القاسية قاصرة على الكلمات البذيئة الممتلئة بالحقد.. بل كانت تتحول كثيرا إلى أفعال، تنم عن حقد عظيم..

لقد سجل لنا الرواة بعض مشاهد تلك الآلام.. حيث ذكروا لنا أنك ـ سيدي ـ كنت تصلي بفناء الكعبة، ومع علمهم بحرمتها إلا أن بعضهم جاء إليك، وأخذ بمنكبك، ولوى ثوبه في عنقك، وخنقك خنقا شديدا([1])..

ورووا أنهم كانوا يطرحون عليك أحشاء الذبائح، وأنت تصلي.. بل كانوا يضعونها في طريقك، وأمام بيتك.. ولم تكن تملك إلا أن تقول لهم: أي جوار هذا([2])؟.. ثم تستمر في دعوتهم إلى الله، وبأسلوبك الهادئ الممتلئ بالحكمة والرحمة والتواضع.

ولم يكن ذلك ألمك الوحيد ـ سيدي ـ بل كنت تسير على قدميك المسافات الطويلة، وأنت تبشر وتنذر، وهم خلفك يستهزئون بك، ويحذرون منك.. وأنت لا تبالي بما يقولون، ولا ما يفعلون.

ولم تكتف في سيرك بأسواق عكاظ، ولا ذي المجاز ولا غيرها من الأسواق.. بل كنت تقطع المسافات الطويلة.. حتى أنك سرت إلى الطائف رجاء أن تجد فيهم من اللين ما لم تجده في قريش..

لكنهم استقبلوك ـ لا كما يستقبلون الدعاة عندنا بالهدايا والتحف ـ وإنما بالحجارة التي أدمت قدميك.. فرحت تفر منهم، وتشكو إلى ربك ما نزل بك من الهموم والآلام من غير ضجر ولا انزعاج.. بل كانت شكواك شكوى المحبين.. تقول له فيها: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)([3])

وهكذا كانت حالك مع أولئك الأجلاف الغلاظ الذين كانوا يهمون كل حين بقتلك إلا أن الله عصمك منهم..

وكنت تعلم كل ذلك.. وتعلم كل التهديدات التي توجه لك حين.. وتعلم معها كل الإغراءات التي تقدم لك إن أنت تركت دعوتك، وسرت في طريقهم.. لكنك لم تفعل.. ولم تهم.. ولم يخطر على بالك.. بل كنت ترسل لهم بذلك الشعار الذي صار علما وراية لكل الأحرار: (واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ما تركته)([4])

ولم يكن ذلك ـ سيدي ـ ألمك الوحيد.. بل إن قومك وإمعانا في استعمال كل الوسائل لصدك عن دعوتك، راحوا يواجهونك بعشيرتك.. حيث حاصروك معهم في الشعب، ومنعوهم الأقوات أن تصلهم، حتى استبد بك وبهم الجوع الشديد.. وكنت ترى كل ذلك، وتتألم له ألما شديدا.. لكنك لم تكن لتترك دعوتك مهما كلفك الثمن..

ثم قدر الله لك أن تهاجر من تلك البلاد التي آذتك.. لتذهب إلى المدينة التي تنورت بنورك.. وتقطع في رحلتك إليها كل أنواع التعب والألم، وأنت تتخفى من تلك العيون التي تترصد لك، والسيوف التي تهم بقتلك.

وفي المدينة لم تركن للراحة.. بل كنت تواجه آلاما لا تقل عن تلك الآلام التي واجهتها في مكة.. فقد كان هناك المنافقون واليهود ومرضى القلوب.. والذين راحوا يتفنون في إيذائك.. ولم تكن تملك معهم إلا الصبر الجميل.. ولم تكن تعاملهم إلا بتلك الرحمة التي ملأت كيانك كله.

ولم يكتف الحاقدون بالكلمات يحاربونك بها.. بل كانوا يرسلون كل حين جحافل جيوشهم، لضربك وضرب الثلة المؤمنة معك.. فكنت تقطع المسافات الطويلة كل حين لصد كل عدوان، ومواجهة كل مؤامرة..

وأنت أثناء ذلك كله تسمع الكلمات الجارحة من المنافقين ومرضى القلوب.. فكنت تواجهها بالابتسامة والهدوء، والصفح الجميل، كما علمك ربك، فقال: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]

وهكذا ـ سيدي ـ كانت حياتك جميعا.. مملوءة بالمتاعب والآلام، ومع جميع أصناف المعتدين الظالمين..

وفي الليل وعندما يركن المتعبون إلى الهدوء والراحة، أو إلى الحديث والسمر.. كنت أنت تتوجه إلى القبلة، وتفترش جبهتك، ساجدا لربك.. لا تكتفي بالركعات المحدودات، ولا بالدقائق المعدودات.. وإنما كنت تقوم أكثر الليل، لقد قال ربك يذكر ذلك عنك: {نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20]

هذه ـ سيدي ـ أمثلة عن بعض المتاعب والآلام التي مررت بها.. ولا يمكنني أن أعددها.. فالرواة لم يسجلوا إلا بعض مشاهداتهم..

ولو أن العقلاء تأملوا فيها.. ورأوا أنك في حياتك جميعا لم تكن سوى المضحي والمتألم الذي كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع.. ثم عندما مات لم يترك دينارا ولا درهما.. بل كان يعيش حياة بسيطة جدا.. لو تأملوا في ذلك وحده، لعلموا مدى صدقك وإخلاصك.. وأنك لم تكن تمثل سوى الحقيقة، وبأجمل صورها.

ومما يزيد في تأكيد ذلك ـ سيدي ـ أنه كان يمكنك أن تنال ما تشاء من قومك وغيرهم إن أنت تركت دعوتك، واستسلمت لرغباتهم.. لكنك لم تفعل.. بل لم تطلب من الذين اتبعوك أو غيرهم جزاء ولا شكورا.. وإنما كانت حياتك كلها لله، ولم تكن تطلب شيئا إلا من الله.

اعذرنا ـ سيدي ـ فنحن الذين كان ينبغي لنا أن نتخذك أسوة لم نفعل.. فالدعاة عندنا أثرياء وجهاء.. تتنقل بهم السيارات الفخمة، ويملكون من كل شهوات الدنيا.. وبعضهم يملك حرسا خاصا.. والكثير منهم يتأفف لكلمة نقد بسيطة، ليس فيها تجريح ولا أذى.. في نفس الوقت الذي يتحدث فيه عنك وعن سلا الجزور التي طرحت عليك..

فاعذرنا سيدي عن سوء خلافتنا لك، واعذرنا في تشويهنا لدعوتك الممتلئة بالصدق والتضحية، والتي حولناها إلى مصيدة نصطاد بها الأموال والقلوب، لنهدم كل ما بنيته، ونقضي على كل تلك القيم الجميلة التي جئت بها.


([1])  صحيح البخاري، 4/1814 .

([2])  سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 463)

([3])  سيرة ابن هشام (1/ 420)

([4])  سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 327)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *