الكتاب: التنويريون والمؤامرة على الإسلام
الوصف: مقالات تبين الأهداف الحقيقية وراء المشاريع التنويرية
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: مؤسسة العرفان للثقافة الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1439 هـ
عدد الصفحات: 230
ISBN: 978-620-3-85910-2
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب بمقالاته المتنوعة أن يوضح للقراء الكرام ذلك التطرف الجديد الذي لبس لباس التنوير، وراح لا يكتفي بمواجهة التطرف الديني، وإنما يقابله بتطرف لا يقل عنه خطرا، وهو التطرف التنويري، الذي يهدف إلى تفريغ الإسلام من جميع محتوياته، وقد قسمته إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: التنويريون.. والمؤامرات العالمية: وقد تناولت فيه بعض الحجج والبراهين والوثائق الدالة على عناية بعض الدوائر العالمية بتشجيع هذا النوع من التنوير، لبث الشبه والفتن والتشكيكات بين المسلمين، حتى لا يبقى لهم من الإسلام إلا ذلك الشعار المفرغ من كل معنى.
القسم الثاني: شخصيات.. ومشاريع تنويرية: وقد تناولت فيه نماذج عن شخصيات مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وكل من تعلق بهم ممن يدعون التنوير.
القسم الثالث: التنويريون.. وهدم القيم: وقد تناولت فيه بعض مظاهر الهدم للقيم الإسلامية، والأسس التي تقوم عليها، وأول ذلك الإسلام نفسه، والذي حوله هؤلاء التنويريون إلى معنى هلامي يمكن أن يتحقق من دون رعاية لشرائع وعقائده وأخلاقه.
القسم الرابع: التنويريون.. وتمجيد الملاحدة: وقد تناولت فيه ما دفعني إلى كتابته، وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ، والترحم عليه، على الرغم من إلحاده الذي صرح به، بل دعا إليه..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (6)
بدأت قصة هذا الكتاب بعد وفاة الفيزيائي [ستيفن هو كينغ]، وما صحبها من حملة كبيرة على صفحات التواصل الاجتماعي، بل حتى في الصحف والمنابر المختلفة من الثناء عليه، والبكاء على فقده، باعتبار الخدمات الكثيرة التي قدمها للعلم، وللبشرية.
ولم يكن ذلك كله ليستفزني، ولو أني أعلم أن [ستيفن هو كينغ] ليس سوى فرد من آلاف العلماء والباحثين الذين قاموا بما قام به، بل كانت خدمات غيره أكبر بكثير، وألصق بحاجات أفراد الناس من الخدمات التي قدمها إن صح اعتبار ما قدمه خدمات للإنسانية ذلك أن تخصصه في الفيزياء النظرية لا علاقة له بتلك الحاجات.
ولكن الذي استفزني أكثر هو إدخال الدين عند الحديث عنه، سواء من المتطرفين الذين راحوا يزجون به في جهنم، ويشمتون بموته، ويضمنون له النيران، وما معها من أصناف العذاب، أو أولئك الذين يزعمون لأنفسهم أنهم متنورون، ولذلك راحوا يضادون تطرف من سبقهم بالترحم عليه، وإسكانه الفسيح الأعلى من الجنان، بل إن بعضهم ـ مثل شحرور ـ جعله مع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين.
والذي آلمني في كل هذا، وخصوصا من أولئك الذين يتصورون أنهم متنورون هو تلك الجرأة الكبيرة على الله، وهم يرون رجلا يستغله الإعلام أبشع استغلال لنشر الإلحاد باسم العلم.. واعتبار الله خرافة.. واعتبار كل حقائق الوجود وهما.. ثم يعتبرون كل هذا، وكأنه لا شيء.
وقد رأيت أنهم يفعلون ذلك من باب رد الفعل على المتطرفين السابقين، مع أنهم لم يقرؤوا له.. ولم يعرفوا مدى تأثيره.. ولم يعرفوا في نفس الوقت أولئك العلماء الكبار
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (7)
ممن هم أكثر منه علما في مجال تخصصه، والذين تجاهلهم الاعلام المنحاز بسبب إيمانهم أو بسبب علميتهم التي لم تدخلهم في متاهات الملاحدة.
وقد جعلني هذا أغوص أكثر في أعماق الأفكار التي يطرحها هؤلاء التنويريون، فاكتشفت العجب العجاب.. فقد رأيت أنهم من خلال طروحاتهم، لا يكتفون فقط بنقد التراث، ولا التنبيه إلى عيوبه لتصحيحها، وإنما ينتقدون المقدس أيضا، بل يفرغون الإسلام جميعا من محتواه، ليتحول إلى دين هلامي مميع لا ضوابط تحكمه، ولا شرائع تضبط المنتسبين إليه.
وفوق ذلك كله رأيت أن رعاية خاصة تدعمهم، ومن نفس الجهات التي دعمت قبلهم المتطرفين والإرهابيين.. لتبدل التطرف السابق بتطرف جديد.. أو لتضيف للتطرف القديم تطرفا جديدا.
وكان ذلك داعية لي، أن أنتقد هذا المنهج، والأطروحات المرتبطة به، مثلما انتقدت قبله ذلك التطرف القديم.. لأنه لا يصح أن نكيل بمكاييل مزدوجة، فنرمي طرفا، ونسكت عن آخر.
-\--\-
وبناء على طبيعة هذه المقالات والأغراض التي تهدف إليها، فقد قسمتها إلى أربعة أقسام على الرغم من كونها متداخلة فيما بينها، لأن الهدف منها جميعا هو تنوير القراء، وتوضيح ما يحدث في الواقع بدقة، حتى نعود للاعتدال والوسطية والقيم الرفيعة التي جاء بها ديننا كما هي من غير أي تدخل منا، وهذه الأقسام هي:
القسم الأول: التنويريون.. والمؤامرات العالمية: وقد تناولت فيه بعض الحجج والبراهين والوثائق الدالة على عناية بعض الدوائر العالمية بتشجيع هذا النوع من
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (8)
التنوير، لتفريغ الإسلام من محتواه، وبث الشبه والفتن والتشكيكات بين المسلمين، حتى لا يبقى لهم من الإسلام إلا ذلك الشعار المفرغ من كل معنى.
القسم الثاني: شخصيات.. ومشاريع تنويرية: وقد تناولت فيه نماذج عن شخصيات مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وكل من تعلق بهم ممن يدعون التنوير.
القسم الثالث: التنويريون.. وهدم القيم: وقد تناولت فيه بعض مظاهر الهدم للقيم الإسلامية، والأسس التي تقوم عليها، وأول ذلك الإسلام نفسه، والذي حوله هؤلاء التنويريون إلى معنى هلامي يمكن أن يتحقق من دون رعاية لشرائع وعقائده وأخلاقه.
القسم الرابع: التنويريون.. وتمجيد الملاحدة: وقد تناولت فيه ما دفعني إلى كتابته، وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ، والترحم عليه، على الرغم من إلحاده الذي صرح به، بل دعا إليه.
وأحب أن أقول للذين عاتبوني كثيرا عند نشري لهذه المقالات، وتصوروا أني بالغت كثيرا في التحذير من ذلك الموقف من هوكينغ، بأن أصحاب النظرة البسيطة يذكرون هذا، ويتمنون مني ومن أمثالي أن نثني على الرجل، ونقدر جهوده وتحديه، ونصوره بصورة العالم العبقري القدير.. ليتأثر العوام ومن ليس لديه الحصانة الكافية بالرجل.. ثم يذهب ليبحث في كتبه وأفكاره، بعد أن يصير متخما بالتقدير الزائف له.. وحينها يجد المستثمرون في هوكينغ فيه القابلية لكل ما يملونه عليه.. وحينها تبذر في عقله بذرة الإلحاد والخروج من كل القيم النبيلة.
لذلك فإن في هذه المقالات القصيرة أنواعا من التحصينات والتحذيرات التي لم اكتبها الا لوجه الله.. وقد كتبت قبلها ـ بحمد الله ـ سبعة كتب في الرد على الالحاد
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (9)
الجديد، بما فيها طروحات هوكينغ نفسها ـ.. ولكني أعلم أن تلك الكتب لن يسمع بها أمثال هؤلاء الذين لا يهتمون بالإيمان، بل يحتقرونه، ويعتبرون اختراع مصباح كهربائي أفضل من غرس الإيمان في القلوب أو القيم الرفيعة في السلوك..
وفي الأخير أقول لأولئك الذين غضبوا مني بعد أن كانوا يعتبرونني تنويريا مثلهم بسبب مواقفي من التطرف الديني، ولهذا تصوروا أني سأفعل مثلما فعلوا: أنا أؤدي واجبي الشرعي.. وسأظل أكتب حتى يجف قلمي.. وأعذر الى الله بأني قد أديت ما علي من واجبات.. ولا يهمني من يرضى أو يسخط.. لأن كل من فوق التراب تراب.
ورحم الله الإمام علي عندما قال: (ما ترك لي الحق من صديق)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (11)
هؤلاء هم التنويريون الجدد.. فاحذروهم
لم أتعود أن أحذر من جهة من الجهات، حتى من المتشددين والمتطرفين والملاحدة والحداثيين.. بل كنت أكتفي فقط بعرض أطروحاتهم ومناقشتها، ثم أدع للقارئ بعد ذلك أن يتخذ الموقف المناسب رفضا أو قبولا..
لكني رأيت أن التعامل مع هؤلاء التنويريين الجدد يختلف مع أولئك جميعا.. ذلك أنهم لا ينطلقون من حقائق ثابتة، ولا من معايير دقيقة يتحاكمون إليها، وإنما ينطلقون من هوى مجرد يمكن أن يطلق عليه لقب [النقد لأجل النقد]، أو [الرفض لأجل الرفض]، فهم يرفضون كل شيء، ويتمردون على كل شيء، حتى لو دلت كل الأدلة عليه، فإذا ما ناقشتهم لم تجد الجهة التي تناقشهم من خلالها، لأنه ليس لديهم معايير ثابتة، ولا مصادر محددة مضبوطة، ولا قيما معقولة، ولذلك فإن النقاش معهم جدل، والحديث معهم لغو.
هم يعرفونك ويحترمونك فقط إذا ما رفضت وانتقدت وتمردت.. ويرفضونك بمجرد أن تبدي أي لين أو قبول.. وكأن الرفض مقصود لذاته.. وكأن النقد هو الأصل وغيره تبع.. وكأننا لم نؤمر بالعدل والحكمة.. العدل الذي يأمرنا أن نشهد بالحقيقة لنا أو علينا.. والحكمة التي تجعلنا نأخذ الحقيقة ولو من أفواه أعدائنا.
ومن خلال متابعتي لبعض هؤلاء يمكنني أن أضع بعض الأمارات الدالة عليهم:
وأولها احتقار علماء الدين والسخرية منهم في نفس الوقت الذي يتهافتون على غيرهم، بل حتى على الملاحدة منهم.. فيلعنون المؤمنين، ويسخرون منهم.. وفي نفس
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (12)
الوقت يترحمون على غيرهم ممن لم يؤمن بالله.. بل ممن عاش حياته كلها محذرا من الله.. ومضللا الخلق عنه وعن سبيله.
ومن الأمثلة على ذلك تلك الصلوات والأدعية الكثيرة التي أقيمت على أكبر دعاة الإلحاد في العصر الحديث.. بل أكبر فيزيائي في التاريخ حاول أن يستثمر تخصصه في الدعوة للإلحاد، وهو [ستيفن هوكينغ] والذي لا يختلف عن كل الفيزيائيين قديما أو حديثا في مجال تخصصه، بل إن من الفيزيائيين المعاصرين من هم أكثر منه علما، ومع ذلك لا يسمع بهم أحد، لسبب بسيط، وهو أنهم لم يصرحوا بإلحادهم، أو لم يقوموا بالدعوة إليه، ولو فعلوا لاستقبلهم هؤلاء التنويريون بالأحضان.
ومن أمثلة تلك الدعوات قول بعضهم في تأبينه: (اللهم ارحم العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينغ، واغفر له وادخله جنتك الواسعة)، وقول آخر ـ وهو عدنان إبراهيم كما في موقعه الإلكتروني: (افتقدت البشرية هذا اليوم.. وحظي تاريخ الخالدين بعالم فذ، لا يجود الزمان بمثله إلا قليلاً، عالم ضرب أروع مثال على طموح العالم الحق وشغفه بكشف أسرار العالم وفك مغالق الطبيعة، كما في المثابرة والنضال ضد المرض وصور المعاناة الناجمة عنه على مستويات شتى، مُبرهِناً على أن الروح الإنسانية لا تُقهَر.. ونحن إذ نُعلِن مع العالم عن هذا النبأ الأسيف بوفاة ستيفن هوكينغ ندعو الله الرحمن الرحيم أن يتولاه برحمته ومغفرته، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون)
وقد خصصته بالعتاب لأنه يعلم تماما أن كل أطروحات هوكينغ العلمية لا تخدم سوى الإلحاد، وأنها مجرد نماذج للهروب من الإيمان، ولا تدل على عالم فذ، ولا عبقرية، وإلا كانت العبقرية في الإلحاد نفسه (1)..
__________
(1) بل أنه هو نفسه اعتبره مخادعا، فقد قال في خطبته التي خصصها لهوكينغ قبل وفاته: (كما قلت وبدأت – الرجل مُراوِغ، وهذا أمر عجيب، مع أن طبعاً إعاقته الجسمية الكُلية الشاملة – مُصاب بمرض الأعصاب الحركي، جعلت الناس يتعاطفون معه بلا شك وربما هذا يُوحي بالنزاهة التامة والمُطلَقة، لكن النزاهة التامة والمُطلَقة مسألة أخلاقية مُختلِفة عن النشاط العلمي، لماذا؟ لأن في كتابه الشهير جداً [تاريخ موجز للزمن] قال في الفصل الثامن منه دُعيت سنة 1981 إلى مُؤتمَر نظَّمه الكاثوليك بالفاتيكان، والبابا نفسه كان حاضراً، والكنيسة الكاثوليكية أخطأت في حق العلم والعلماء بالذات من أيام جاليليو، وجاءت الآن بعد أكثر من 300 سنة لتعتذر، جاءت تدعو علماء الكونيات الكوزمولوجيين لكي تستشيرهم في القضايا الكونية وهذا الشيئ الطيب، وبعد أن قدَّمنا أوراقنا وأعمالنا تشرَّف المُشارِكون باللقاء مع بابا الفاتيكان، ثم قال البابا لنا أو للمُشارِكين: جيد، أنه من الحق أن نبحث في البيج بانج في الانفجار العظيم الذي كوَّن الكون لكن من حيثية تطوّر الكون بعد البيج بانج، أما أن نبحث في لحظة البيج بانج لحظة الانفجار العظيم فهذا لا يجوز لأننا بهذا نبحث في شيئ من عمل الله هذا عمل لله، وصعب أن يستوعب الذهن هذا، ثم يقول ستيفن هوكينج مُعلِّقاً مما سرني يعني أن البابا لم يفهم كلمتي – أي أن البابا لم يفهم الورقة التي ألقيتها لأنه ليس عنده معلومات علمية دقيقة، طبعاً ما علاقة البابا بهذا العلم – لأنني ذكرت في كلمتي أن الكون وإن كان مُتناهياً إلا أنه ليس مُحدَّداً، ليس عنده حدود)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (13)
ومثل ذلك قول آخر عن بعض المخترعين: (رحم الله [ويليس هافيلاند كارير]، وغفر له وجزاه خير الجزاء، هذا الرجل العبقري الذي اخترع لنا المكيف الهوائي، الذي نستعمله ونستمتع به أيما استمتاع في بيوتنا وسياراتنا الفاخرة في حر الصيف، كما يستمتع به حجيجنا المياميم في حجهم، ولولاه لأصبح ذلك الحج جحيم لا يطاق.. وأنا أنصح كل من يحتج على هذا الترحم على هذا الرجل المخترع الكببر، أن يستحي من نفسه ويتوقف على الفور على استعمال المكيف الهوائي بكل أنواعه، في منزله وسيارته، وأن يقدم اعتذار عن كل لحظة قضاها بجانب المكيف في كل مكان)
ولست أدري ما علاقة استعمال المكيف الكهربائي بالدعوة لصاحبه بالرحمة، أو بضمان الجنة.. فالله تعالى وضع لرحمته وللجنة شروطا، وهو صاحب كليهما، والأدب مع الله يقتضي احترام مراد الله، قال تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (14)
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 156، 157]
فالله تعالى حصر الفلاح فيمن توفر فيه تلك الشروط، فكيف نعقب على الله، ونتدخل فيما لا حق لنا في التدخل فيه.
والمشكلة ليست في الدعاء، وإنما في التهوين من أمر الإيمان بالله والقيم الدينية، حيث يصبح المعيار هو خدمة البشر خدمة مادية، لا تحقيق أمر الله بالالتزام بدينه.. وهذا معيار خطير جدا، ومخالف لكل الأديان، وأولها الإسلام.
وثانيها احتقار المصادر المقدسة وخصوصا القرآن الكريم.. فإذا ما ذكرت لهم آية من القرآن الكريم تنهى عن الاستغفار للمشركين، وهم أقل خطرا من الملاحدة.. والاستغفار أقل قيمة من الترحم.. ذلك أن الترحم نتيجة للاستغفار.. والاستغفار مقدمة له.. قامت قيامتهم وذكروا لك أنك لا تفهم القرآن ولا تستوعبه.. وأن في معانيه من الرموز ما لا طاقة لك بفكه.
فإذا طلبت منهم آليات يفسرون بها قوله تعالى ـ مخاطبا نوحا عليه السلام وناهيا له عن الدعاء لابنه بسبب عدم إيمانه ـ: {يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]
وقوله ـ على لسان نوح عليه السلام خضوعا لأمر ربه ـ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]
وكيف أن هذه النصوص واضحة لا تحتمل الجدل.. وبلغة واضحة ليس فيها كناية ولا استعارة ولا مجازة.. تجهموا في وجهك، واكتفوا بالتجهم.. وتصوروا أنهم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (15)
بتجهمهم يمكنهم أن يقنعوك بأن هوكينغ أفضل من ابن نوح.. وأنه يمكننا أن نركبه في السفينة التي لم يركب فيها ابن نوح عليه السلام.
وهكذا إذا ذكرت لهم أن قصة آدم عليه السلام في القرآن الكريم تتناقض مع نظرية التطور.. ذكروا لك ـ خلافا لكل ما تدل عليه المصادر العلمية ـ أن نظرية التطور حقيقة علمية، وأن على القرآن أن يقبلها، ولو بتحريف معانيه وألفاظه، وإلا لُفظ القرآن من أجلها.
وهكذا تراهم يحتقرون السنة المطهرة، فيصفون كتب الحديث بما لا يتناسب مع جلالة قدرها، حتى أني رأيت بعضهم يطلق على بعض كتب الحديث وصف [الأسطورة].. ولست أدري مصدر هذه الجرأة لكتاب ضم الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتفق عليها عند الأمة جميعا.. وخلافنا مع بعض الأحاديث لا يعني طرح الكتاب ولا غيره من الكتب، فكل كتب السنة في أي مدسة من المدارس الإسلامية محترمة لا يجوز إهانتها ولا تحقيرها، ويكتفى معها بالمناقشة العلمية الهادئة التي تنطلق من التحقيق العلمي لا الرفض المزاجي، والهوى المتبع.
وثالثها رفض التراث جملة وتفصيلا.. وهذا وهم كذلك.. فالتراث لا يرفض لذاته، وإنما يُرفض منه ما يستحق الرفض بناء على منهجية علمية، ومعايير ثابتة، لا على الهوى المجرد.
ففي تراثنا بحمد الله الكثير من المعاني الطيبة المستفادة من المصادر المقدسة، وفيه الكثير من التجارب البشرية النافعة.. وفيه فوق ذلك كله خبرات أسلافنا واحتكاكهم بالأمم الأخرى.. فكيف نلغي كل ذلك، ونحتقره.
والمنهج السليم والعقلاني البديل لذلك هو وزن التراث في موازين الشريعة
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (16)
المقدسة، فنقبل ما تقبله ونرفض ما ترفضه.. أما أن نحكم على جهود عشرات آلاف العلماء بالإلغاء والإعدام والإقصاء.. وتحقيرها ونبزها بأبشع الصفات.. فهو مما لا يتناسب مع الحكمة والعدالة.
وهو لا يختلف عن ذلك الذي يقبلها قبولا كليا بحلوها ومرها وخيرها وشرها.. فالعاقل هو الذي يميز الطيب من الخبيث.. لا الذي يرمي الطيب مع الخبيث.
ورابعها.. رفض التاريخ الإسلامي جملة وتفصيلا.. والاهتمام بجلد الذات في نفس الوقت الذي يُلمع فيه تاريخ الآخر ويُزين رغم جرائمه الكثيرة.. وكأن المسلمين لم يكونوا بشرا، ولم يكن فيهم الصالحون، ولا الأولياء، ولا العلماء.. وكل هذا غير صحيح.. فتاريخ الأمة كان أسود في الناحية السياسية فقط كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لكنه كان مملوءا ببياض كثير وأنوار كثيرة في الجوانب العلمية والاجتماعية والحضارية والدينية.. بل كانت الأمة الإسلامية ولا زالت خير أمة أخرجت للناس.. فالتخلف لا يخرجها من هذه الخيرية.. فنحن بحمد الله لا نزال نحتفظ بالكثير من القيم التي فقدت في الغرب، والقيم هي الأساس لا التقدم المادي والحضاري الذي بنته جميع الأمم وشاركت فيه.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (17)
قد لا يكون ما سأذكره الآن هو الحقيقة المطلقة، ذلك أنه من الصعب أن يدعي أي إنسان لا يستند لسند غيبي معصوم أنه يصف المستقبل كما سيحصل بالضبط.. ولكني أحاول استشرافه من خلال معطيات كثيرة، أصبحت بالنسبة لي على الأقل واضحة جلية، ولذلك أذكرها من باب الثبوب لا من باب الإثبات.. ومن باب النصح لا من باب التحقيق العلمي المتين المؤيد بالأدلة القطعية.
وخلاصة هذا الاستشراف تكمن في أن الساسة الذين استعملوا في الماضي ما يسمونه بالإسلام السلفي والحركي لتحقيق بعض مآربهم السياسية التي تخدمهم أو تخدم الصراع السياسي العالمي بين الأقطاب الكبرى، قد اكتشفوا أن هذا الخيار قد حقق أغراضه، وانتهى دوره، واحترقت أوراقه.. لهذا بدأت تصريحاتهم تنطلق من كل جهة تتبرأ منه، بعد أن اعترفت أنها هي نفسها من دعمه لخدمة أمريكا وحربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
والبديل لذلك ـ كما يراه المتآمرون ـ هو إسلام آخر أكثر انفتاحا على الغرب، وعلى أمريكا خصوصا، بل حتى على إسرائيل.. حتى يهيئ الأجواء لما يسمونه [صفقة القرن]، وهي صفقة لا تشمل السياسة ولا الاقتصاد وحدهما، بل تشمل الإنسان أيضا.. فالإنسان هو الأساس في كل مشروع يراد تنفيذه صالحا كان ذلك المشروع أو فاسدا.
وصفقة القرن تقتضي الانفتاح الكلي على الغرب وإسرائيل وزوال كل الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية بحيث يصبح المسلم إنسانا مدنيا يفكر بنفس الطريقة التي
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (18)
يفكر بها الأمريكي والأوروبي والصهيوني.
وهي تقتضي زوال كل الخصوصيات.. فالإسلام بالمفهوم الجديد هو تحقيق القيم الحضارية.. ولا يهم الشريعة التي نلتزم بها أو الطقوس التي نؤديها.. فيمكننا اعتبار المسيحي واليهودي مسلما إن حقق قيم التنمية الحضارية.. وقدم خدمات للبشرية.. بل هو أكثر قيمة من المسلم الصوام القوام، لأن الله تعالى ـ بحسب هذا المفهوم الجديد ـ لم يخلقنا لنتعرف عليه، ونقيم الصلات بيننا وبينه، وإنما خلقنا لنخترع الكهرباء والمواصلات، ونوفر من الصحة لأجساده ما لم يوفر لنا الجهاز البيولوجي الذي خلقنا عليه.
وهي صفقة تقتضي أن ينظر للأمم باعتبار تطورها الاقتصادي، وإنتاجها العلمي.. ولذلك فإن العاقل هو الذي يقيم الصلات والتحالفات والعلاقات مع أمثال هذه الدول.. ولذلك لا حرج في إقامة الصلات مع إسرائيل.. ذلك أنه يمكن اعتبار اليهود مسلمين في حال اعترافهم فقط بأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من الله.. دون أن يكلفوا أنفسهم بعد ذلك باتباعه.. بالإضافة إلى أننا يمكننا أن نستفيد من العقل اليهودي في السياسة والاقتصاد والعلوم المختلفة.. بالإضافة إلى أنه يمكن أن نتحالف معهم عسكريا لنواجه المشروع الإيراني [القذر] كما عبر عنه عدنان إبراهيم.
وفي سبيل تحقيق هذا المشروع احتاج القائمون عليه عن البحث عن الشخصيات التي تمثله، والتي لها من الجاذبية ما يمكن أن تنفذه في الواقع، وبأقل تكلفة.
وحسب رؤيتي البسيطة القاصرة، فقد رأيت أن الأنظار موجهة خصوصا لعدنان إبراهيم ومحمد شحرور وغيرهما من الذين وفر لهم الإعلام كل وسائل الشهرة، ولست أدري هل يعون ذلك أم لا.. لأن الكثير للأسف من الأدوات لا يعرفون أنهم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (19)
أدوات، حتى ينتهوا من أداء أدوراهم بكل دقة، ثم يلفظون في الأخير كما تلفظ كل الأوراق المحروقة.
وأول الأسباب التي جعلتهم يختارون هذه الأدوات هو أنها استطاعت أن تجتذب جماهير كثيرة لشخصها لا لمشروعها، حتى تصور الكثير أن ما يطرحونه هو من بنات أفكارهم واجتهاداتهم.
وثانيهما هو أن طروحاتهم اتسمت بذلك الانفعال الذي تميزت به الطروحات السلفية والحركية.. والمتآمرون يعجبهم المنفعلون، ذلك أنهم يهدمون أكثر مما يبنون، ويفسدون أكثر مما يصلحون.. ولذلك لم نر لعدنان إبراهيم ـ مثلا ـ كتابات علمية وبحوثا رصينة موثقة، بل كل ما طرحه خطابات وتصريحات تحاول جذب العامة أكثر من جذب المثقفين والمفكرين والباحثين.
وخطورتها ليست في ذواتها.. ذلك أن الكثير مما طرحه كان قد كتب فيه المؤلفات الكثيرة، وكان دور عدنان فيه هو حفظ لبعض ما ورد، ثم عرضه على الناس بطريقته الخاصة.
وخطورة هذه الطريقة هي توليد الجرأة في النقد الهدام لعوام الناس.. حتى أصبح الكل ينتقد كل شيء من دون بحث ولا نظر ولا أسس علمية.. حتى أن البعض صار يرد الأحاديث الصحيحة المتواترة من غير أي حجة ولا دليل..
وكما اتسمت الظاهرة السلفية والحركية بذلك الانفعال مع كل ما يختلفون معه حصل مثله مع هذه الظاهرة الجديدة التي لا أستطيع أن أجزم بأن عدنان أو إسلام البحيري أو غيرهما قصدها.
لقد صار الكثير يسخر من صحيح البخاري أو كتاب الكافي أو كتب الصحاح
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (20)
والمسانيد والسنن في المدارس المختلفة.. وكأن كل ما فيها دجل مع أن الأحاديث المردودة فيها أحاديث محدودة، ولم يردها العلماء إلا بناء على معطيات كثيرة.. وليس على مجرد نزوة الرد.
لكن عدنان إبراهيم وزملاءه من التنويريين كانوا يختارون نموذجا من النماذج، ثم يرمون كل شيء، ويهدمون كل شيء، مثلما كان يفعل السلفية حين يختارون شيخا منحرفا من مشايخ الطرق الصوفية ليرموا به جميع الطرق الصوفية، بل جميع الصوفية في جميع فترات التاريخ.
وكل هذا سببه الكسل عن التحقيق العلمي، وعدم الورع عن التقول على الله، أو على المسلمين بما لم يثبت.
وقد ذكرت في كتاب [التنويريون.. والصراع مع المقدس] الكثير من الأمثلة على تلك الجرأة على نصوص مقدسة عليها نور النبوة، ولكنهم يردونها لكونها تصطدم مع مزاجهم.
وفي نفس الوقت نرى ذلك الانبهار بكلمات أي فيلسوف أو عالم غربي.. حتى أنه أصبح من الموضة عندهم أنهم في كل درس أو خطبة أو مقالة يزينون كلماتهم بما قاله فلان أو فلان من الغربيين مع الثناء عليه، واعتباره عملاقا من عمالقة الفكر.
لا يمكنني في هذا المقال المختصر أن أورد أدلتي على ما أخاف أن يقع في المستقبل، لكني أذكر بأن هذا الطرح الجديد هو تهديم للإسلام ابتداء من مصادره المقدسة.. فالقرآن عندهم مؤول، والسنة عندهم مكذوبة، والعلماء عندهم دجالون، والغرب عندهم عبارة عن مجتمع من المفكرين والفلاسفة والعباقرة، والمسافة بين الأديان غير موجودة، فكل الأديان يمكن أن ندين بها.. ولا خوف من العذاب
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (21)
والعقاب ذلك أن رحمة الله وسعت كل شيء.. بل حتى الملاحدة سيكونون أول أهل الجنة.. ومثل ذلك الأخلاق.. فالأخلاق تقتصر على الأخلاق الاجتماعية.. أما غض البصر والبعد عن الفواحش.. فذلك تراث قديم، ومفاهيم خاطئة، والعلاقة بين الرجل والمرأة يمكن أن تنفتح مثلما حصل في الغرب.
وهكذا يصبح الإسلام بهذه النظرة إسلاما آخر.. بعيدا عن كل ما ورد في النصوص المقدسة.. وبذلك ما المانع أن نتواصل مع أمريكا، ونقيم صداقات معها، ونبني لها الكنائس في مكة والمدينة.. وما المانع أن نبكي على حائط البراق مع اليهود، ونبحث معهم عن البقرة الحمراء أو الصفراء.. وما المانع أن نقيم علاقات استراتيجية معهم لنقضي على اليد الإيرانية في اليمن وسوريا وكل البلاد.
هذه رؤيتي التي أتمنى ألا أكون صادقا فيها.. ولكن كل الواقع يدل عليها.
ونصيحتي هي أن نعرف أن هذا الأمر دين.. فلذ نبحث عن أهل الورع من الصادقين الذين لا يطلبون مالا ولا جاها، لنأخذ عنهم ديننا.. فأولئك وحدهم المؤتمنون عليه.
أما الذين وضعوا أيديهم في أيدي قتلة أطفال اليمن، أولئك الذين خربوا سوريا وليبيا، وأعطوا بالمجان آبار البترول لأعداء الأمة، فإن أيديهم قذرة وهي أنجس من أن تفهم المعاني المقدسة لكلمات الله، فكلام الله {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (22)
التنويريون.. والمصافحات الآثمة
عندما نقرأ التاريخ قراءة اعتبار وتدبر نجد أن أكثر ما حدث فيه من مآس وآلام هو نتيجة مصافحات آثمة بين رجال العلم والدين والثقافة مع رجال السياسة والسلطة، أو مع رجال المال والاقتصاد، أو مع رجال الجاه والشهرة.
فتلك المصافحات لا تمتد لليد فقط، بل تمتد قبل ذلك وبعده للقلب والعقل؛ فينغلقان انغلاقا كليا عن الحقائق والقيم، وينفتحان انفتاحا كليا على الأهواء والأغراض والشهوات؛ فيصبح عقل المفكر خادما لهواه، وهواه خادما لمن يوفر له رغباته.
وقد أخبر القرآن الكريم عن النموذج الممثل لذلك ببلعم بن باعوراء، ذلك الذي {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176]؛ فترك موسى عليه السلام، وراح إلى صف أعدائه، لأنه لا يرضي أهواءه وطمعه وشهواته إلا كنوز أعدائه.
ولا يمكننا هنا أن نعدد المصافحات الآثمة التي حصلت في التاريخ، وتأثيراتها على عالم الأفكار والأديان والقيم؛ فذلك مما لا يعد ولا يحصى، ولكنا سنقتصر على هذه الأيدي الممدودة من التنويريين لجهات كثيرة مشبوهة، لم نر منها خيرا في الماضي، ولن نرى منها خيرا في المستقبل، ذلك أن كل تلك الكنوز التي وهبت لها لم تستفد منها إلا عتوا وغلظة وضلالة.
تلك الجهات التي صافحت في عقود سابقة أيدي المتطرفين والإرهابيين لتحول منهم أداة لخدمة المشروع الأمريكي والغربي، ومواجهة القطب الثاني ليبقى المجال فسيحا أمام القطب الأول ليمارس كبرياءه كما يشتهي.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (23)
وعندما استنفذت أغراضها من المتطرفين والإرهابيين راحت تتبرأ منهم، وتمد يدها للمتطرفين الجدد، أولئك الذين يعتبرون أنفسهم متنورين.. ولا حظ لهم من التنوير إلا حجب الحقائق والتلاعب بها، وإتاحة المجال لكل رويبضة أو صعلوك أو جاهل ليتحدث في الدين كما يشتهي، بل يضع فيه من الاجتهادات ما لم يسبقه إليه أحد، ومن غير أي دليل أو حجة.
ليس من عادتي أن أذكر الأسماء.. ولكنها واضحة جدا، فكل يد تمتد لمصافحة قرن الشيطان يمكننا أن نخاف منها، أو نحسب لها ألف حساب.
ولهذا يمكننا في هذا الوقت بالذات أن نخاف من اليد التي يمدها هذا القرن المشؤوم لأولئك التنويريين، ليعطيهم من الفرص ما أعطاه سابقا للمتطرفين والإرهابيين.. ليقضي هؤلاء المتطرفون الجدد على ما بقي لدينا من قيم وحقائق جميلة.. ويجعلوا من الدين كرة تتداولها الأيدي والأرجل، ويتفرج الناس على العبث بها، وهم في قمة السعادة والسرور.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (24)
لا شك أننا سمعنا جميعا هذه الأيام بالدور القذر الذي تقوم به فرنسا في اليمن، حيث أنها أرسلت قواتها بعدتهم وعتادهم، ليحاربوا ذلك الشعب المستضعف الفقير الذي ابتلي بأسوأ جوار عرفه التاريخ.
ولا شك أننا سمعنا قبل ذلك بتلك الإمدادات الكثيرة من الأسلحة التي بيعت لدول العدوان، مع علم فرنسا أن تلك الدول دول مستبدة جائرة لا تعرف الديمقراطية ولا تسمع بها، ولا تؤمن بها، ومع ذلك أرسلت لها كل أنواع الأسلحة، لتنشر الديمقراطية، وتمارس من خلال نشرها هوايتها في القتل والجريمة، ولتنزل تلك الأسلحة الفرنسية مطرا من النيران على رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء.
ولا شك أننا سمعنا، ورأينا دور فرنسا القذر قبل فترة قصيرة في ليبيا، وكيف أنها خانت عهدها مع الرئيس السابق، بعد أن نالت منه ما نالت من الرشاوى، ثم راحت لأعدائه تتزلف إليهم، وتنال من عندهم رشاوى جديدة، لتمارس دورها الإجرامي الذي تعودت عليه، ولا تستطيع العيش من دونه.
ولا شك أننا نسمع كل حين عن الاضطرابات والانقلابات التي تحصل في إفريقيا، وعندما ندقق في البحث، وعبر وسائل الإعلام الدولية المعتبرة نجد أن لفرنسا يدها طولى في كل ما يحصل.
وقبل عقود قليلة كانت فرنسا تستعمر دولا كثيرة في العالم، وكانت تسرق خيراتها، وتستعبد شعوبها، وتمارس معها كل أنواع الظلم والاستبداد والعدوان.
وقبل عقود قليلة أيضا كانت فرنسا في الجزائر، والتي استمر ظلمها لها أكثر من
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (25)
قرن من الزمان، وقتل بشر كثير، وسرقت خيرات كثيرة، ولم تترك جريمة في الدنيا إلا ارتكبتها، حتى أنها كانت تجري تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية، ولا يزال تأثير إشعاعاتها مستمرا إلى اليوم.
ومن شاء أن يستمع للذين عاشوا فترة الاستعمار الفرنسي؛ فسيحدثوه عما رأوا بأعينهم من قسوة الجندي الفرنسي، وطمع المستوطن الذي كان يغتصب الأرض، ثم يحول أصحابها عبيدا يحرثونها ويزرعونها رغم أنوفهم.. ويحدثونه عن ألوان التعذيب التي قاساها الشعب الجزائري المظلوم، حيث كان المساجين يستنطقون من خلال الكي بالتيار الكهربائي، أو يحرق كل جزء من أجسامهم في الوقت الذي يجد فيه الضباط والمشرفون على التعذيب متعة كبيرة، وهم يضحكون ويسخرون..
هذه نقطة من بحر جرائم فرنسا التي لا يمكن إحصاؤها، ومع ذلك لم نسمع منها اعتذارا، ولم نر لها توبة، بل هي تتبجح بجرائمها، وتفتخر بها، وتستمر في ممارستها.
وكيف لا تفعل ذلك، وكل ما حصل لها من تطور ورفاه لم يكن ليحصل لولا عرق ودماء أولئك المستضعفين الذين بذلوا دماءهم في سبيل نهضتها وتطورها، بل كانوا جنودا إبان الحرب المفروضة عليها.. وبعد أن انتهت الحرب، وطالبوها بأن تعيد لهم حريتهم التي سلبتها راحت تبيد خضراءهم، وتذيقهم من ألوان النكال ما يذيقه المخادعون المارقون الذي لا يعرفون شيئا عن الإنسانية والرحمة والأخلاق.
ونحن لا نلوم فرنسا، كما لا نلوم الذئاب والثعالب وكل الحيوانات المتوحشة، فهي تمارس ما تمليه عليها طبيعتها التي اختارتها بنفسها.. ولكنا نلوم أولئك التنويريين الذين لا يزالون يضربون لنا النموذج بفرنسا، ويتغنون بها، ويسمونها بلاد الجن والملائكة، ويريدون منا أن نغمض أعيننا لنسير خلفها حتى نكسب ودها، ونتطور في
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (26)
سلم الرقي الحضاري.
والأخطر من ذلك هو مطالبتهم لنا بالتمرد على مصادرنا المقدسة، والقيم النبيلة التي جاءت بها، لنستبدلها بالمقدسات الفرنسية والقيم الفرنسية.. وهذا ما ينقضي منه العجب.. فمنذ متى كانت لفرنسا أي قيم أخلاقية أو تنويرية، وهي أم المجرمين، ومنطلق الإجرام في القديم والحديث، واليمن خير شاهد على ذلك.
لكن مع ذلك نرى التنويريين لا يزالون يسجدون ويركعون لها، ويجثون على أقدامهم كل ما ذكرت، ويكادون يسبحون بحمدها.. وحق لهم أن يفعلوا ذلك، فهم ليسوا سوى نتاج للحرب الفرنسية الثقافية على الإسلام ومصادره والقيم النبيلة التي جاء بها.
فجرائم فرنسا لا تقتصر على تلك الحروب التي مارستها على الشعوب المستضعفة، ولا على سياسة الأرض المحروقة، ولا على الإبادات الجماعية، ولا على كل الجرائم العنصرية، وإنما لها جرائم أخرى لا تقل خطرا، وهي لا تزال ترسل إلينا عبر مندوبيها من التنويريين، وعبر تلك الثكنة الجامعية التي كانت مدرسة نهل منها التنويريون كل المناهج التي يضربون بها الإسلام.. ثكنة [السربون] التي يتصور الكثير من المغفلين أنها جامعة للبحث العلمي، بينما هي في حقيقتها ليست سوى وسيلة من الوسائل التي استعملتها قديما، ولا تزال تستعملها حديثها في حروبها المختلفة.
ومن العجائب أن تفتح جامعة السربون فرعا لها قبل فترة في الإمارات العربية المتحدة، عاصمة الحداثة العربية، تلك التي تمون كل مشاريع الحداثة، ويسكن فيها كبار الحداثيين، ويظهر من قنواتها كل الخطابات التي تدعو إلى إلغاء المقدس ومناقشته والتلاعب به، ابتداء من شحرور وانتهاء بعدنان إبراهيم الذي أشاد بحاكمها، واعتبره
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (27)
نموذجا للحكم الراشد.
ومن العجيب أن فرنسا التي تحرص على الدعوة للغتها تساهلت مع طلبة فرع جامعة السربون في الإمارات العربية المتحدة، وقد ورد في خبر بعنوان [الفرنسية ليست شرطاً للقبول ودورات التقوية عامل مساعد للطلبة] (1) هذا النص الذي يمكننا من خلاله أن نفهم الدور الإجرامي الجديد الذي تقوم به فرنسا في منطقتنا: (توقع الدكتور دانيال أوليفير مدير جامعة السوربون أبوظبي أن يلتحق بالجامعة مئات الطلبة من داخل الدولة وخارجها ومن مختلف الجنسيات، لكونها أول فرع لجامعة باريس السوربون خارج فرنسا، وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط، حيث توفر التعليم العالي باللغة الفرنسية، مشيرا إلى أن الفرع الجديد سيتبع نفس طريقة ومفهوم التدريس التي تميزت بها الجامعة الأم، وموضحاً أن اللغة الفرنسية لن تكون شرطاً للتسجيل حيث ستوفر الجامعة دورات تعليم لهذه اللغة مدتها ابتداء من 6 شهور، كما ستمنح الجامعة كل الشهادات بدرجاتها العلمية المختلفة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه. وأكد أن توافر الشروط الأكاديمية المطلوبة لدى الطالب من أهم شروط الالتحاق بالجامعة، لافتا إلى أن الجامعة ستركز على نوعية الطلبة بغض النظر عن أي اعتبارات تتعلق بالجنسية أو الدين طالما توفرت فيهم شروط التميز الأكاديمية التي حددت.. وأوضح مدير الجامعة أن إنشاء فرع شامل ومتكامل في أبوظبي جاء بعد استكمال مفاوضات ناجحة استمرت قرابة العام أجراها الجانب الإماراتي مع وزارة الخارجية الفرنسية بغرض إنشاء حرم جامعي لها في الإمارة، يكون مطابقا للحرم الجامعي الفرنسي، لافتا
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: فرع السوربون بأبوظبي يعزز مكانة التعليم في الإمارات، البيان، التاريخ: 12 يوليو 2006.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (28)
إلى ان ذلك يأتي وفقا لرؤية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ بضرورة وضع استراتيجية للنهوض بالتعليم بجميع مراحله)
ولست أدري هل أمتنا بحاجة إلى الجامعات المتخصصة في العلوم الكونية والتقنية، والتي هي الأساس الذي ينطلق منه التقدم الصناعي والاقتصادي، أم أننا بحاجة إلى هذه الجامعات التي تعلمنا المناهج الغربية في التعامل مع المقدس والقيم المرتبطة به.
ولم يقتصر دور السربون على هذا الاختراق الخطير لبلادنا، ولا على هذه الفترة، بل إنه اخترقنا في كل العقود السابقة.. فهو الذي كان يستخدم شهاداته العليا المعترف بها عالميا ليمرر من خلال أطروحاتها ما يشاء من مشاريع.
فقبل فترة طويلة تبنى [طه حسين] الذي أطلق عليه فيما بعد [عميد الأدب العربى]، لا لكونه كذلك من حيث مهاراته الأدبية واللغوية فقط؛ فقد كان له منافسون كثيرون في ذلك، وكانوا يفوقونه في قدراتهم ومنجزاتهم، وإنما أعطوه ذلك اللقب وبوؤوه المناصب الرفيعة، لمواقفه التشكيكية في المقدسات، والتي تجلت في كتابه المشهور حول الشعر الجاهلي، والذي نشره سنة 1926 م، والذي ذكر فيه أن الشعر الجاهلي كتب بعد الإسلام، ونُسب لشعراء ما قبل الإسلام من الشعراء الجاهليين، وأنه لذلك لا يصور الحياة الجاهلية كما هي، وهو بذلك لا يشكك في الشعر الجاهلي فقط، وإنما يشكك في قيمة المصادر المقدسة نفسها، لأنه يوحي بذلك التشكيك بأن الشعر الجاهلي كان على نسق القرآن الكريم وهيئته ونظمه.. وهو بذلك أتاح الفرصة للتنويريين ليستمروا على هذا المنهج، فيشككوا في المصادر المقدسة نفسها.
وقد كان قبل نشره للكتاب قد حصل عام 1919 على الدكتوراه بدراسته حول
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (29)
ابن خلدون فى جامعة السوربون، والتقى فيها بزوجته المستقبلية [سوزان برسوا]، وقد كان من آثار ذلك الزواج، وآثار تلك الشهادة العليا ما كتبه في كتابه التنويري الخطير [مستقبل الثقافة في مصر]، والذي دعا فيه بكل صراحة إلى (أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب..) (1)
وهي نفس الصيحة التي لا يزال التنويريون يرددونها، غافلين عن جرائم الاستعمار الفرنسي، ومآسيه التي جرها على البشرية.
وعلى خطى طه حسين قام السربون، ومن رائه المعسكرات الفرنسية بتربية الكثير من الجنود الذي أدوا أدوارهم بدقة في التشكيك في كل المقدسات، والدعوة إلى الحضارة الغربية والقيم الغربية، واعتبار الإسلام والعقل المسلم هو الحجاب الأكبر الذي حال بين المسلمين وبين التطور، من غير إشارة إلى أن ما قام به الإجرام الغربي في حق الشعوب الإسلامية هو السبب الأكبر في تخلفها، لا الإسلام، ولا قيمه، ولا مصادره المقدسة.
ومن أبرز هؤلاء [محمد أركون] ذلك الذي رباه الاستعمار الفرنسي على عينه (2)، وأتاح له أن يدرس في السربون، ثم يتخرج منها، كمفكر إسلامي في الظاهر، وكمستشرق تنويري في الحقيقة والباطن، ليؤدي دوره في تطبيق المناهج الغربية على المصادر المقدسة للمسلمين، وخصوصا القرآن الكريم.
__________
(1) مستقبل الثقافة في مصر، ص 39.
(2) ورد في سيرته الذاتية أنه عند [الآباء البيض]، وهم كما هو معلوم تنظيم تنصيري مكَّنَتْ له فرنسا بعدَ احتلال الجزائر في 1830، وكان أغلب نشاطِه في منطقة القبائل التي وُلِد فيها أركون، وقد ركَّزت هذه الإرساليَّة على تلك المنطقة وحاربتِ الإسلام واللغة العربيَّة بضراوةٍ..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (30)
ومن العجيب أن يفعل ذلك، وهو يذكر أنه لا يعرف اللغة العربية جيدا، ولذلك كتب كل كتبه باللغة الفرنسية، وقد قال عن نفسه: (كل من استمع إلى كلامي ألح علي أن تقدم كتبي بالعربية، بل أن أكتبها مباشرة بالعربية لتكون الفائدة أتم للغة العربية والناطقين بها. لم يتسع لي الوقت مع الأسف لأقوم بعملين مهمين مجهدين في وقت واحد وهما: متابعة التيارات العلمية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالاطلاع على جميع ما يصدر من كتب باللغات الغربية؛ ثم إيجاد المصطلحات اللازمة لنقل أجهزة المفهومات المتجددة والمتحولة من كل لغة من اللغات الأصلية (الإنجليزية والفرنسية والألمانية خاصة) إلى العربية) (1)
وهكذا كان عند زيارته لأمريكا يتكلم بالإنجليزية، ويكتب بها، وفي إقامته بفرنسا يكتب بالفرنسية، ويتحدث بها، أما عند زيارته لموطنه في المغرب العربي، فقد كان يحاضر ويفضل الحوار والتكلم مع الآخرين باللغة الفرنسية.
وليته كان يفعل ذلك لنفسه ويكتفي به، بل كان ينشر في كل محل يذهب إليه قيم الغرب ومناهج الغرب وطريقة تفكير الغرب، ويعتبر العربية تخلفا ورجعية، ويقول عنها: (يستطيع القاريء أن يدرك أسباب الفوضى الدلالية السائدة اليوم في اللغة العربية فيما يخص التعبير عن الحداثة الفكرية.. لهذا السبب لم نوفق بعد إلى إيجاد مصطلحات وافية سليمة للدلالة الفكرية الكاملة على مفهومات.. ولا يعني ذلك أبدا أن اللغة العربية غير قادرة على تأدية المعاني التابعة لتلك المفهومات؛ وإنما يعني أنها كسائر اللغات لها تاريخها الفكري الخاص، أي منظومتها الخاصة من الدلالات الحافة المرتبطة بالنزاعات الايديولوجية بين القوى الاجتماعية وأنها بحاجة إلى تطوير وتجديد..
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي لمحمد أركون، ص: 7..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (31)
ولا يعود هذا إلى أن اللغة العربية قاصرة عن ذلك... لقد قام الدكتور هاشم صالح باجتهاد مثمر في هذا الميدان وساهم مسامة جدية في إثراء اللغة العربية والفكر الإسلامي بتلك الأجهزة من المفهومات والاصطلاحات التي أشرت إليها كأجهزة لازمة لمن يريد التعرف النقدي على الفكر الإسلامي لا في مراحله التاريخية فحسب، بل أيضا في الممارسات المعاصرة المتعددة بتعدد الحركات الاجتماعية والسياسية التي تقدم نفسها في معاجم وتصورات إسلامية... لقد ألححت على هاشم صالح حتى يكثر من الشروح والتعليقات في هوامش الصفحات لكي يساعد القاريء على الفهم الدقيق وينقذه من سوء الفهم والتورط في أحكام سريعة على أشياء لم يعرفها حق المعرفة) (1)
وليت موقفه اكتفى بالعربية كوسيلة من وسائل الاتصال، بل إن موقفه راح للمصادر المقدسة نفسها، يطبق عليها كل المناهج الغربية، ليفرغها من مضمونها.
بل إنه راح يسخر من الفرنسيين الذين درسوا القرآن الكريم بصدق، وراحوا يذكرون شهادتهم في ذلك، ومنهم الطبيبُ الفرنسي [موريس بوكاي] صاحب كتاب [القرآن والكتاب المقدَّس والعلم]، والذي ألفه في أواخر سبعينيَّات القرْن العشرين، والذي عرض فيه الكتُب السماوية على الحقائق العلميَّة والذي وصل من خلاله إلى أنَّ التحريف طال التوراةَ والإنجيل، بينما تتوافق الحقائقُ القرآنية مع المنتجات العلمية ولا تتعارض معها.
وكان الموقف الأصلي الذي يتخذه كل باحث صادق، هو أن يذهب إليه، ويستفسره عن هذا الموقف، لكن أركون لم يفعل ذلك، وإنما راح يسخر منه، على الرغم من الشهرة الكبيرة التي نالها الكتاب وصاحبه، والتي لم تعجب أركون، بل علق عليها
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص:8 - 9.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (32)
بقوله: (إنَّ بوكاي ألَّف هذا الكتاب تزلُّفًا للمسلمين)
ولم ينس أنه هو من يؤلف كتبه تزلفا للفرنسيين، بل قد صرح بذلك مرات كثيرة في كتبه، فقد قال يتحدث عن نفسه في سيرته الذاتية: (يقولون ـ أي الغربيين ـ لي مستغربين أو مدهوشين: كيف يمكن لشخص مسلم مثلك أن يتحدث بهذه الطريقة؟ ياله من شيءٍ رائعٍ وباعث للأمل؛ أن نسمع مسلماً ليبراليّاً أو متحرراً مثلك.. ولكن لا يمكن أن تحظى بصفة تمثيلية في بلادك، أو بين أبناء دينك، فخطابك يمشي على عكس التيار، أو عكس الإسلام) (1)
وقد كان جزاؤه من الدوائر التي استنبتته، تلك الشهرة العظيمة التي نالها، والتي لم تجعل منه مثلما جعلت من طه حسين عميدا للأدب فقط، وإنما جعلته مجددا ومفكرا إسلاميا عريقا، مع كون كتاباته، وخاصة بلغتها الأصلية تحمل كل ألوان الإلحاد والتبرؤ من الدين ومقدساته (2).
ومن العجيب أن نجد في بعض الصحافة السعودية بعد وفاته أمثال هذه التعقيبات التي أوردتها كبرى الجرائد السعودية جريدة [الشرق الأوسط] (3)، والتي جاء فيها قول بعضهم: (أعتقد دون مبالغة أن أركون المجدد الأكبر للإسلام في عصرنا الراهن.. وأن أركون أحد حكماء المسلمين الكبار)
وفي جريد [الوطن]: (أركون من الكبار الذين كانوا يجاهدون في بث النور،
__________
(1) قضايا في نقد العقل الديني؛ لمحمد أركون (22)، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط أولى، 1998 م.
(2) من الأمثلة على تلاعب المترجمين له بالعربية وفي (قراءات للقرآن) بالفرنسية جاء عنوان الفصل الثاني كالتالي [le problème de l authenticit) divine du Coran" ; p 27]، لكن عربه هاشم صالح بـ[موقف المشركين من ظاهرة الوحي] [القرآن من التفسير الموروث... ص 93]، مع أن الترجمة العربية الأقرب للعنوان الفرنسي هي: (معضلة توثيق نسبة القرآن الى الله)
(3) الشرق الأوسط، 16، 17 أيلول 2010.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (33)
وإحلاله محل الظلمة الكالحة في عالمنا العربي) (1)
وفي جريدة [الرياض]: (أركون أول من قدم نقدا للتفكير الخرافي المعارض للمعرفة، وبدد هيمنة الأسطورة في العقل العربي-الإسلامي) (2)
وفي جريدة [الحياة]: (عمل محمد أركون طوال أكثر من نصف قرن على تقديم قراءة جديدة للإسلام، قراءة تستند إلى مرجعيات ومناهج علمية) (3)
وهكذا لا تزال الجرائد والمجلات والمؤتمرات والإعلام العربي يثني عليه، في نفس الوقت الذي يصب جام غضبه على ضحايا الإجرام الفرنسي، سواء من أولئك المستضعفين المظلومين، أو من أولئك المحتقرين من المثقفين والذين لا يهتم بهم أحد إلا إذا خلطوا كلامهم بلغة المستعمر، وطريقة تفكيره.
__________
(1) الوطن، 18 أيلول 2010.
(2) الرياض، 16 أيلول 2010.
(3) الحياة 16 أيلول 2010.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (34)
يتصور الكثير أن القنابل الخطيرة هي تلك القنابلة النووية أو الهيدروجينية أو الذكية، تلك التي تمتلكها إسرائيل وأمريكا وجميع محور الشر.. وينسون أن هناك قنابل أخرى أكثر خطرا، تدخل كل بيت، وتحاول الوصول إلى كل عقل، لتفعل فيه ما لا تفعله القنابل النووية نفسها، لأنها لا تقتل الجسد فقط، وإنما تقتل الروح أيضا.
ومصادر تلك القنابل هي نفس الدول التي تشن حملتها على المستضعفين في اليمن وسورية وكل بلاد الله.. وهي نفسها التي تنعت المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن بكونها مليشيات إرهابية.. وهي نفسها التي تصدر لنا كل ألوان العهر والفجور والمجون، لتقضي على أخلاق شباببنا كما تقضي على عقولهم.
وخطرها يتجاوز بكثير خطر تلك القنابل الصوتية البدائية التي كانت تصدر لنا التطرف والعنف والإرهاب.. ذلك أن تلك القنابل أمكن تفكيكها ومواجهتها، وهي الآن خردة قديمة أمام هذه القنابل الجديدة.
فالقنابل الجديدة لا تستعمل الدين مطية للتطرف والعنف وقض مضاجع الأنظمة، وإنما تُستعمل لتخريب الدين نفسه.. ووسيلتها إلى ذلك بسيطة جدا، فهي تغازل بلطف أنانية الإنسان وكبرياءه ومحبته للتميز والظهور، لترضي كل ألوان غروره.
فهي تجعل من كل من هب ودب مجتهدين وفقهاء ومفسرين ولغويين ومحدثين وما شئت من الألقاب، من غير ممارسة قراءة، ولا تعب تأمل، ولا بحث ولا اجتهاد ولا نظر..
بل يكفي فقط أن يضع عقله عند محمد شحرور أو عدنان إبراهيم أو إسلام
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (35)
البحيري أو غيرهم كثير من الذين لم يتركوا شيئا إلا انتقدوه وناقشوه.. ليخرج بعد ذلك، ومن غير بحث ولا عناء ولا تأمل أستاذا في فن النقد والهدم والتدمير.
لتفاجأ به يناقش كل شيء، ويحشر أنفه في كل مسألة؛ فإذا ما قيل له: هل قرأت شيئا؟.. أو كيف وصلت إلى هذه الفكرة؟.. أو كيف اقتنعت بهذه القناعة؟.. أخرج لك تسجيلا صوتيا، أو قنبلة من قنابل اليوتيوب الكثيرة، ويذكر لك أن هذا هو مصدر أفكاره.
فإذا ما قلت له: الأمر أخطر مما تتصور، فالبت في القضايا العلمية الكبرى لا يمكن أن يكون بهذه الطريقة، ولا بد أن تمر بمراحل كثيرة حتى تخرج لنا برأيك واجتهادك، أما أن تناقش بما وصل إليه غيرك، فليس لك ذلك، وليس ذلك من العلم.
إذا قلت له هذا أعرض عنك، واتهمك بما شاءت له أهواؤه من التهم.. وهو يتصور نفسه فوق ذلك تنويريا، وهو ليس إلا متطرفا جديدا لا يقل عن المتطرف الذي ينتقده، أو يحرض عليه، أو يتصور نفسه بمنجاة منه.
وقد حذر القرآن الكريم من هذا الصنف من القنابل، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206]
فهذه الآيات الكريمة تنطبق تماما على هذه القنابل الصوتية، ومن يؤيدها وينصرها، وينشر أفكارها الهدامة، لأنها تعلم اللدد في الخصومة، ثم تنشر بعد ذلك كل القيم التي تتسبب في هلاك الحرث والنسل.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (36)
فهي تنشر قيم التلاعب بالألفاظ القرآنية، والتي هي المقدمة الكبرى لتحريف معانيه.. وهي تنشر احتقار السنة المطهرة، وتنشر معها احتقار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتحكم في تصرفاته وأقواله وتأويلها بكل ما تقتضيه الأهواء.
ولا تكتفي بذلك، بل تذهب إلى كل القيم والعقائد التي تعارف عليهم المسلمون لتناقشها، وتلغيها بجرة قلم، وتتصور أنها وصلت إلى ما لم يصل إليه الأوائل والأواخر.
وهكذا كان تأثير هذه القنابل في مجتمعاتنا، وبين شبابنا، والذين لبسوا تطرفا جديدا، بدل التطرف القديم.
وقد يقال هنا: ليس لنا بد من الاستماع.. فنحن لا نملك القدرة على البحث والمطالعة، ولذلك نكتفي بما تجود علينا به القنوات أو المواقع من أشرطة سمعية وبصرية؟
والجواب عن هذا بسيط جدا، ومنطقي جدا، فالعاقل الذي يتقي الله، ويحرص على مصيره في الآخرة، يكتفي بمن يذكره بربه، وبالقيم النبيلة التي جاء بها دينه، ويملؤه مخافة على مصيره، وحرصا عليه حتى لا يعبث به العابثون.. مثلما كان يفعل العلماء والربانيون، والذين لا يزال لهم وجود كبير، ولكن الناس أعرضوا عنهم، وراحوا إلى تلك القنابل الصوتية، حتى يتحول الجميع إلى علماء من غير معاناة بحث ولا نظر.
ومن أول علامات أولئك العلماء أنهم لا يلقون للعامة إلا ما يفيدهم في دينهم، فهم يكتفون بقراءة القرآن الكريم وتفسيره، أو شرح الحديث النبوي الشريف وملأ القلوب والعقول من خلاله محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أو ذكر الصالحين وجعلهم أسوة للمهتدين..
أما غيرهم، أصحاب القنابل الصوتية، فهم الذين حولوا المنابر التي تتاح لهم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (37)
لنشر الهداية، إلى ماحل لتمجيد الملاحدة، وإنكار عذاب القبر، والترغيب والدفاع عن نظرية التطور، واحتقار كل علماء الأمة وصالحيها، وبذلك أصبحت تلك المنابر منابر هدم، لا منابر بناء، وأصبحت منصة لإنتاج الغرور والمغترين، لا لإنتاج المتدينين المتأدبين المتواضعين.
نحن لا نقول هذا لنلغي البحث والفكر والنظر.. ولكن لنقول لأولئك المغترين الذين تصوروا أنهم ـ باستماعهم لبعض السلاسل الصوتية، أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية قد صاروا باحثين ومجتهدين وعلماء ـ: كفوا عن ذلك، فالعلم يحتاج إلى جهد كبير، وتأمل عظيم، وقراءة كثيرة، وليس هو لكل كسول يتصور أنه يمكن أن يفهم كل شيء من غير بحث ولا دراسة ولا نظر.
أما الاستماع، فخصصوه للعلماء الربانيين لتسفيدوا منهم التقوى والصلاح، والأخلاق والأدب، وإن شئتم أن تتعلموا المعارف العلمية، فهناك أشرطة علمية وثائقية كثيرة يمكنها أن تنمي معلوماتكم وثقافتكم، وفي نفس الوقت تعرفكم بخلق الله وعظمته.. وهي أجدى لكم من أولئك الذين ينعقون فيكم بما لا تطيقونه، ولا تطيقه عقولكم.
ورحم الله الشيخ محمد أبا زهرة ذلك العالم الجليل صاحب المصنفات الكثيرة الممتلئة بالعلم النافع، والذي كان في غاية التواضع، والذي لم يصدم الأمة بأي شيء يهز ثوابتها إلا أنه ـ وفي مؤتمر علمي ـ وبين العلماء والمختصين، لا بين عامة الناس، ولا في أي قناة فضائية ـ راح يقول لهم، وبكل تواضع وأدب (1): (إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عشرين سنة، وكنت قد بحت به للدكتور عبد العزيز عامر)، ثم راح يخاطبه قائلا:
__________
(1) وذلك في مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام (1972).
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (38)
(أليس كذلك يا دكتور عبد العزيز؟)، قال: بلى.. ثم قال الشيخ، هو ممتلئ حياء وتواضعا: (آن لي أن أبوح بما كتمته، قبل أن ألقى الله تعالى، ويسألني: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس)
ثم راح يذكر القضية التي كتمها عشرين سنة، ولم يقلها إلا بعد بحث طويل، ونظر عميق، وأمام كبار العلماء والمختصين.. وهي قضية بسيطة جدا مقارنة بالقضايا التي تطرح اليوم، فقد ذكر موقفه من رجم المحصن في حد الزنى، حيث رأى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.
ثم راح يذكر أدلته العلمية عليها بالتفصيل، وأمام المختصين، وبكل تواضع.
قارنوا هذا الموقف بأولئك الذين يخرجون علينا كل يوم بمقولة جديدة لا تتعلق بفروع الدين فقط، وإنما تتعلق بأصوله أيضا.. بل تتعلق بأصول أصوله.. ثم لا يذكر لها أي دليل، ولا يستدل لها بأي حجة إلا برأيه المجرد الذي يلقيه بكل غرور وكبرياء، ثم يقول للناس: لا شك أن المتطرفين سيكفرونني.. ويتباهى بذلك، ولا يخشى أن تكون الشريعة نفسها هي التي تكفره.. لا المتطرفون فقط..
لأن دين الله أعظم من أن يكون شرعة لكل وارد، ولعبة لكل أفاك أثيم، يستمع لوحي الشياطين، ثم يذهب لدين الأمة يخربه، ويهدم أصوله وفروعه.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (39)
القاسم المشترك بين التنويريين جميعا هو ذلك التضخيم للإنسان، واعتباره مركزا للكون كله، بل مركزا للوجود بحد ذاته، بحيث يكادون يلغون الله نفسه من أجل الإنسان.
وهم في ذلك يرددون بطريقة غير مباشرة ما ردده قبلهم [جان بول سارتر] زعيم الوجودية الأكبر الذي عبر عن نفوره من مزاحمة الله لوجوده، كما يعتقد، فقال: (مرة واحدة شعرت بأن الله موجود حين كنت ألعب بعيدان الكبريت، وأحرقت سجادة صغيرة، وفيما كنت أخفي جرمي أبصرني الله فجأة.. لقد شعرت بنظراته داخل رأسي.. أحسُ أنني مرئي منه بشكل فظيع، وشعرت بأنني هدف حي للرماية، ولكن الإستنكار أنقذني، فقد اغتظت لفضوله المبتذل، لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إليَّ أبدًا فيما بعد) (1)
وقال معبرا عن هذه النظرة بصيغة أشد جزما: (إذا انفجرت الحربة مرة أخرى في روح الإنسان، لم يبق للآلهة على هذا الإنسان أي سلطة)، وقال: (إذا كان الله موجودًا فالإنسان عدم)، وقال: (إن وجود الله يعطل وجودي أنا، فالأفضل أن لا يكون الله موجودًا حتى أوجد أنا)
وقال في مسرحية [الشيطان والإله الطيب]: (لم يكن هناك غيري، لقد قررت وحدي الشر، ووحدي اخترعت الخير، أنا الذي عشت، أنا الذي أفعل المعجزات، أنا الذين أتهم نفسي، وأنا وحدي من أستطيع الغفران لنفسي، أنا الإنسان، إذا كان الله
__________
(1) نقلا عن: القس أنجيلوس جرجس، وجود الله وصور الإلحاد 85.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (40)
موجودًا فإن الإنسان هو العدم) (1)
ونفس التعبير ذكره رائد التنوير الأوروبي [فويرباخ] الذي قال: (إن نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعنى فيها الإنسان إن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه)، وقال: (الإنسان الذي يؤمن بالله لا يؤمن بنفسه، فالله هو الإنسانية لا أكثر ولا أقل، والدين يجب أن يموت، فيقوم على أنقاضه عالم على مقاييس الإنسان، الذي يلزمه أن يكون إله نفسه) (2)
ومثلهما قال [ميخائيل باكونين] صاحب الفكر المتمرد على كل شيء: (إذا كان الله موجودًا فلست بحر، أنا حر فالله إذا غير موجود)، وقال: (تتألف حرية الإنسان من مُجرد التالي: أن يُطيع قوانين الطبيعة لأنه أدركها بنفسه على هذا النحو، وليس لأنها فُرضت عليه بواسطة سلطة خارجية، بشرية أو إلهية، جماعية أو فردية)، وقال: (تتضمن فكرة الإله التخلي عن العقل والعدالة، إنها النفي الأكثر حسماً للحرية الإنسانية. وتنتهي بالضرورة إلى إستعباد الجنس البشري في كل من النظرية والتطبيق) (3)
هؤلاء بعض الذين صرحوا بإلحادهم من أجل الحفاظ على وجودهم في مقابل الله الذي يتصورون أن اعتقادهم بوجوده يلغي وجودهم.. ولعل فرعون كان منهم ومعهم حين راح يزعم لنفسه أنه هو الله، ويصيح في المصريين قائلا: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقائلا: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]
__________
(1) الشيطان والإله الطيب ص 131.
(2) انظر: رحلة في قلب الإلحاد.
(3) انظر هذه النصوص وغيرها كثير في كتاب [ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (41)
وقد كان هؤلاء مع إلحادهم الشديد أكثر صدقا وصراحة مع أنفسهم من الكثير من التنويريين والحداثيين الذين راحوا يستعملون المصادر المقدسة نفسها، ليجعلوها رغما عنها تردد ما ردده جان بول سارتر، وفويرباخ، وميخائيل باكونين.
فقد حولوا المركزية في الكون والوجود من [الله] إلى [الإنسان].. فالإنسان عندهم هو الهدف، وهو الغاية، وهو المبتدأ، وهو الخبر، وهو البداية وهو النهاية.. أما الله عندهم فهو مجرد ظل للإنسان.. وليس عليه أن يملي شيئا، وإن أملى عليه شيئا؛ فيمكن للإنسان أن يتمرد عليه إن رأى أن ذلك ليس لصالحه.
وبهذا المفتاح يمكننا أن نفتح جميع أبواب التنويريين، وأن نفهم جميع مشاريعهم.. فمشاريع حسن حنفي كلها مهما اختلفت عناوينها تصب في نزع مركزية الكون والوجود عن الله، لوضعها في يد الإنسان.
فهو في مشروعه [من العقيدة إلى الثورة] يقول: (إذن عبارات؛ الله عالم، الله قادر، الله حي، الله سميع، الله بصير، الله متكلم، الله مريد، إنما تعكس مجتمعا جاهلاً عاجزاً ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، مسلوب الإرادة، وبالتالي يكشف الفكر الديني الذي يجعل الله موضوعا في قضايا من هذا النوع عن الظروف الإجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطلق في أمثال هذه القضايا، فالله كموضوع في قضية خير مشجب لأماني البشر، وأصقل مرآة تعكس أحلامهم وأحباطاتهم)
وهذه العبارة تعني أن ذلك الاهتمام الذي يوليه المؤمنون لربهم، بل يجتهدون في إفناء أفعالهم وصفاتهم وإراداتهم بل حتى ذواتهم في سبيل التقرب إلى ربهم.. ليست معان روحية سامية، وليست ذوقا إنسانيا رفيعا، وليست حقيقة وجودية مطلقة.. وإنما هي عند حسن حنفي كما عند التنويريين هروب من الإنسان والظروف التي تحيط به،
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (42)
والتي عليه أن يسيطر عليها، ولا يمكن أن يحصل ذلك عندهم إلا بعد أن يفني الإنسان ذاته في ذاته لأجل ذاته، من دون اعتبار لربه، فهو رب نفسه، كما يقول الوجوديون.
والإشكال الذي ذكرناه، والذي جعل من التنويريين ومن تعلق بهم أخطر من الملاحدة أنفسهم هو ذلك التأويل للمقدس لينسجم مع هذه الأهواء.
وكمثال على ذلك أن ما يردده حسن حنفي كثيرا في كتبه ومحاضراته من قوله: (ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر.. وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد بل مساعدة الطبيعة على الازدهار والحياة على النماء.. وما أسهل أن يولد الدفاع عن حق الله دفاعا مضاداً عن حق الإنسان)
ونجد نفس الدعوة عند زعيم الحداثيين الأكبر [محمد أركون] الذي جعل كل همه إزاحه الله من الدين، ليحل الإنسان بدله، وتصبح المركزية للإنسان بدل الله.. وقد كان من أوائل ما كتبه في هذا رسالته في الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1969 م، والتي تحمل عنوان [نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي]
وقد راح هو الآخر يستعمل القرآن الكريم لتحويله من كتاب إلهي مقدس يجب التسليم له، والخضوع لأوامره إلى كتاب إنساني، ونتاج بشري، خاضع للمناقشة، ويمكن للزمن والبيئة أن تؤثر فيه، وفي كل المفاهيم التي جاء بها، وقد قال معبرا عن ذلك بكل صراحة: (إن القرآن ليس إلا نصاً من جملة نصوصٍ أخرى، تحتوي على نفس مستوى التعقيد، والمعاني الفوّارة الغزيرة: كالتوراة والإنجيل، والنصوص المؤسِّسَة للبوذية أو الهندوسية، وكلُّ نصٍّ تأسيسي من هذه النصوص الكبرى؛ حَظِيَ بتوسعاتٍ تاريخيةٍ معينة، وقد يحظى بتوسعاتٍ أخرى في المستقبل) (1)
__________
(1) الفكر الأصولي؛ لمحمد أركون (36)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (43)
وهو لهذا يدعو إلى قراءة القرآن الكريم قراءة جديدة بعيدة عن كل المفاهيم التي تعلق بها المسلمون في جميع عصورهم، والتي جعلتهم ـ حسب تصوره ـ يتخلفون عن ركب الأمم، فيقول متأسفا: (وهذا التأخر يعكس التفاوت التاريخي، بين المجتمعات الإسلامية، والمجتمعات الأوربية أو الغربية. فالقرآن لا يزال يلعب دور المرجعية العليا المطلقة، في المجتمعات العربية والإسلامية. ولم تحلَّ محلّه أيّة مرجعيّة أخرى حتى الآن.. إنه المرجعية المطلقة، التي تحدد للناس ما هو الصَّح، وما هو الخطأ، ما هو الحق، وما هو الشرعي، وما هو القانوني، وما هي القيمة) (1)
ولهذا فإن القراءة الصحيحة عنده للقرآن، والتي تعيد مركزية الإنسان هي أن (ننظر إلى القرآن من خلال مقارنته مع الكتب المشابهة له في الثقافات الأخرى ـ أي التوراة والإنجيل ـ، فالمقارنة هي أساس النظر والفهم) (2)
وهكذا نجد كل التنويريين يشيدون بالإنسان باعتبار المركز، لا باعتباره مجرد كائن من الكائنات التي خلقها الله تعالى لتؤدي وظائفها في هذا الوجود مثل سائر الكائنات، وأول وظائفها تعرفها على ربها، وعبوديتها له.
ومن الكتابات التي كتبت أخيرا في هذا ما كتبه التونسي [عبد الوهاب بوحديبة] في كتاب له بالفرنسة بعنوان [الإنسان في الإسلام]، والذي انطلق فيه من أنّ (المشروع الإسلامي قائم على نظرة إنسيّة إضافة إلى التعالي أو المفارقة الإلهيّة، وأن الله أمام الإنسان لا في تقابليّة ضديّة أو في علاقة عبوديّة بسيطة بل في استخلاف حقيقي لبني آدم، استخلاف قوامه الحريّة الأصليّة للإنسان، وأنه لا يمكن الفصل بين الإسلام كدين
__________
(1) الفكر الأصولي؛ لمحمد أركون (22)
(2) الفكر الأصولي؛ لمحمد أركون (22)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (44)
والإسلام كثقافة وحضارة، فالاعتقاد قد تجلّى في التاريخ وبتجليه يمتزج ضرورة بالثقافة فلا عقيدة خارج الثقافة أي الإنتاج المعنوي للإنسان ولا ثقافة في تاريخ الإسلام دون استحضار وتأويل للنصّ الديني، فاهتمّ بوحديبة ببعض النماذج لما يسميه بالمشروع الإنسي في الإسلام من خلال نصوص القرآن والسنّة واجتهاد الفقهاء وظرف الأدباء ونظر الفلاسفة وتأمّل المتصوّفة... فيما يعتبره أمثلة عن المشروع الإنساني الكبير، وكأن الكتاب يحاول أن يضع الإسلام في دور وظيفي للمشروع الإنساني بغض النظر عن الموقف العقدي المدعى من الدين، وتؤول نصوص الإسلام وتراثه من زاوية الإنسان المحور) (1)
هذه مجرد أمثلة عن بعض كتابات الحداثيين حول هذا المعنى، وهو ليس سوى ترديد لتلك الصيحات التي رددها الملاحدة، ولكن بصيغة أخرى أكثر تهذيبا، وأقل تشنيجا للمخالفين، ولو أن النتيجة في كليهما واحدة.
وتلك النتيجة خطيرة جدا، لأنها تسلب عن الإنسان حقيقته وكمالاته وتجعله ممتلئا بأنانية مقيتة يغض الطرف خلالها عن كل ما حوله من كائنات ليحصر همته في النظر إلى مرآة نفسه، أو كما ذكر ملهمهم سارتر أنه عندما توفي والده هنأ نفسه بموته، لشعوره بتحرره منه، وقد قال في ذلك: (لو كان أبي حيًا لكان تمدَّد عليَّ بملء قامته وسحقني، ولحسن حظي مات أبي عندما كنت صغيرًا.. إن موت جان باتسيت (والده) كان الحدث الأهم في حياتي، لقد أعاد إليَّ حريتي) (2)
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: مقاربات الإنسان في الإسلام: بين هموم الأيديولوجية والمعرفة، عبد الرحمن حللي، مجلة الملتقى..
(2) الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 169.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (45)
وهكذا كان ينظر بعين الريبة للذين يبدون له مودتهم ومحبتهم، فقد كان يقول عنهم: (إننا منذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنسانًا آخر ينظر إلينا، إنما نشعر أيضًا بأن الآخر يسلبنا عالمنا على نحو من الأنحاء، هذا العالم الذي كنا نمتلكه وحدنا حتى هذه اللحظة)، وقال: (إنني ابتداءً من الآونة التي أشعر فيها أن أحدًا ينظر إليّ، أشعر أنني سلبت عن طريق نظر الآخر الموجه إليّ وإلى العالم، إنّ العلاقة بيننا وبين الآخرين هي التي تخلق شقاءنا)
والملاحدة والحداثيون يتصورون أنهم بهذا الطرح يحرررون الإنسان من أي سلطة خارجية تتحكم فيه، لكنهم ينسون أنهم بهذا السلوك يخرجون الإنسان من دائرة السلطة والحكم الإلهي إلى دائرة حكم الهوى، وسلطة الشياطين.
وهم بذلك لن يكسبوا الإنسان، وإنما سيخسرونه، لأنه يستحيل للإنسان أن يكون إنسانا ويتحقق بمعاني إنسانيته ما لم يكن مسلما تسليما مطلقا لله، مثلما يسلم الخليفة للمستخلف.
بالإضافة إلى كونهم ـ بذلك ـ يقصرون الإنسان على هذا الجسد الفاني، وتلك النفس الأمارة.. أما المعاني الروحية السامية، فلا وجود لها في قواميسهم، لأنه لا يعرفها إلى من أفنى ذاته في ذات الله، وفر إلى الله من نفسه، كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50، 51]
ولن يفهم الإنسان إلا من ترك ذاته وهاجر إلى الله ورسوله، وردد مع إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]
ولن يفهم الإنسان إلا من عجل بالرحلة إلى الله، لينال المواهب الحقيقية التي
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (46)
تجعل روحه تسمو إلى عليين، كما قال موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]
ولهذا، فإن أول ما يخسره هؤلاء الحداثيون هو أنفسهم وحقيقتهم ووجودهم، لأنه لا وجود لهم من دون وجود الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40]
وأعظم ما يخسره هؤلاء التنويريون الذين جعلوا كل همهم عشق أنفسهم ومحبتها والوله بها، ذلك المعنى الذي ذكره الله تعالى عن عباده المؤمنين، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]
ولذلك لن يتذقوا أبدا من ذلك الشراب الذي شربه المؤمنون بعد فنائهم عن أنفسهم، وسباحتهم في بحار المحبة الإلهية مخاطبين الله تعالى بقوله:
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت... إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم... إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزوناً ولا فَرِحا... إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش... إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكاس
ولذلك تظل الكآبة والإحباط وكل الآلام النفسية تلاحقهم، لأن في (القلب شعث، لا يلمه إلا الإقبال على الله. وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (47)
عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة: لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له. ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا) (1)
__________
(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 156)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (49)
أركون.. وفزاعة المناهج الغربية
يعتبر المفكر الجزائري الكبير محمد أركون (1927 - 2010) من أكثر التنويريين شهرة على المستويات العربية والعالمية، ولا يمكن لأحد من الناس أن يقلل من شأنه، وشأن الجديد الكثير الذي جاء به، والذي جعله يجلس على عرش الحداثة والفكر الحداثي، بل جعل الكثير من كبار الحداثيين والتنويريين يجثون أمامه، وأمام المنابع التي نهل منها، كما يجلس الحواريون أمام النبي، يسلمون لكل ما يقول، ويخضعون لكل ما يقرر.
وقد ألفوا حوله الكتب الكثيرة (1) وأحاطوه بهالة إعلامية عظيمة، وأقاموا حول كل فكرة من أفكاره المؤتمرات التي تبشر بها، وتدعو إليها.
وفي حياته أتاحوا له أن يحاضر في عشرات الجامعات الأوروبية، والأمريكية، والعربية والإسلامية.. وحتى في اليابان والهند.. بل إنه درّس في الولايات المتحدة الأمريكية، كما شغل منصب أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي بجامعة (السوربون).. كما كان مديرا لقسم الدراسات العربية والاسلامية فيها، وكان مديرا لمجلة أرابيكا (مجلة دراسات عربية واسلامية)
وقد أثنى عليه جميع الحداثيين والتنويريين واعتبروه من العقول العملاقة، كما
__________
(1) منها على سبيل المثال [نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون]، لمحمد الفجار.. و[القرآن الكريم والقراءة الحداثية – دارسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون]، لحسن العباقي.. و[التراث والمنهج بين أركون والجابري]، لنايلة أبي نادر.. و[العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب - الجهود الفلسفية عند محمد أركون]، لرون هاليبر.. و[الحداثة في فكر محمد أركون]، لفارح مسرحي.. و[العقل بين التاريخ والوحي – حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون]، لمحمد المزوغي.. وغيرها كثير.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (50)
عبر عن ذلك علي حرب بقوله: (إننا نجد أنفسنا مع نص أركون إزاء سيل لا يتوقف من الإحالات إلى مختلف المراجع والمناهج، والاستشهاد بمعظم أعلام الفكر المعاصر والاحتجاج بمختلف مجالاته) (1)
ومن خلال هذه الكلمات التي تعبر عن حقيقة الجديد الذي جاء به أركون نريد أن نناقش أطروحاته، وأطروحات كل من تبعه وتأثر به.
فالجديد الذي جاء به أركون هو محاكمة المقدس للمناهج الغربية، وذلك عبر الاحتيال على القراء حتى لا يصطدمهم بموقفه الحقيقي من المقدس بتصويره أنه ينتقد العقل المسلم، حتى يتوهم القارئ البسيط أنه يقصد العقل الذي يستند للتراث بينما هو في حقيقة الأمر يقصد به العقل الذي يستند للمقدس الذي يبدأ من القرآن الكريم..
وأول من يستند إليهم أركون في هذا النقد [إيمانويل كانط] ذلك الفيلسوف الألماني الذي ولد عام 1724 م، وكان من ألمع فلاسفة عصرالتنويرالأوروبي، والذي شهد له [وِل ديورانت] في كتابه (قصة الفلسفة) بأن فلسفته كانت لها السيادة والنفوذ في عصر التنوير، بحيث استطاعت أن تتفوق على كافة الأفكارفي القرن التاسع عشر، ذلك أنها قضت على التطورالمنعزل للفكرالعقلاني المتجرد المؤمن بسيادة العقل، لتعيد إلى الإيمان بالعقائد والأديان اعتباره بشكل مستقل، ومجرد عن العقل النظري.
وبعد انتقاده للعقل الخالص، اعتبر أن الأديان لا تستند لحقائق مطلقة، بل العقل لا يدل عليها، وإنما تستند لمجرد الإيمان الذي هو اختيار نابع من الإرادة، وليس نابعا من التفكير.
وهذه نفس أطروحة أركون، والتي ينطلق منها بعد ذلك لنقد المقدس والعقل
__________
(1) علي حرب، نقد النص ص 83.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (51)
الذي يستند إليه، ذلك أن نقد العقل يعني نقد كل البنيان الفكري الذي بني عليه.
ومن هنا كانت صعوبة محاورة أمثال هؤلاء، لأنهم ـ عند الحوار ـ لا يلتفتون للأفكار؛ فيناقشونها وفق معايير محددة ثابتة، وإنما هم ينظرون من أبراجهم العاجية إلى المحاور لهم، ويسخرون من طريقة حواره وتفكيره نفسها.
وهم في ذلك يشبهون الحوار مع المحلل النفسي الذي لا يسمع للكلمات والأفكار المطروحة، بقدر ما يلتفت لحركات جسد محدثه، وملامح وجهه، ليصنفه بعد ذلك في أي خانة من خانات الأمراض النفسية.
وقد عبر علي حرب عن هذا المعنى عند ذكره لدور فلسفة كانط في توجيه الحداثيين إلى مناقشة العقول، بدل مناقشة الأفكار، فقال: (لا جدال في أن ما أتى به كانط هو عمل غير مسبوق يمتاز بالجدّة والأصالة، وتتجلى الأصالة أول ما تتجلى في النقلة التي أحدثها كانظ في مفهومه للنقد نفسه وفي ممارسته له بطريقة جديدة ومغايرة، ذلك أنه مع النقد الكانطي ننتقل من نقد (الكتب والمذاهب) إلى نقد (العقل نفسه) أي نتخطى نقد المعارف إلى نقد الآلة التي بها نعرف)
ولهذا وجد الحداثيون بمختلف مدارسهم الفرصة لنقد المقدس عبر نقد العقل الذي يؤمن به، وبذلك ينهار المقدس، لا من خلال مناقشة أطروحاته، وإنما من خلال مناقشة العقول التي تؤمن به، وتستند إليه.
ولهذا يمكن للمقدس ـ بحسب هؤلاء ـ أن يتحول إلى أي شيء، بحسب الطريقة التي يفكر بها الناقد، ولهذا نجد مشاريع مختلفة لنقد العقل، لأن كل واحد منها يستند لطريقة تفكير خاصة، أو لمدرسة نقدية خاصة.
وطبعا، فإن كل المدارس النقدية، أو المناهج النقدية، هي مناهج غربية، سواء
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (52)
كانت ذات توجه ماركسي، أو وجودي، أوظاهراتي، أو بنيوي، أوتفكيكي.. وغيرها.
ولهذا سمينا كل هذه الطروحات [فزاعة]، لأن أصحابها يطرحونها باعتبارها مناهج مقدسة، بل هي أكثر قداسة من المقدس الذي يؤمن به المؤمنون، وسبب ذلك عندهم هو كونها مناهج غربية، وبما أن الغرب متطور ومتحضر ـ بسبب اعتماده في نقد المقدس على هذه المناهج ـ فنحن كذلك ـ كما يصورون ـ لا يمكن أن نتقدم أو نتطور من دون اعتمادها.
هذه خلاصة الطريقة التي يفكر بها أركون، ومن تتلمذ عليه من الحداثيين، ومن لم يتتلمذ، وقد عبر عن هذا المعنى بعض الباحثين أحسن تعبير، فقال: (.. من هنا كان مشروع الجابري وأركون في نقد العقل العربي الإسلامي، حيث تحول نقد التراث عبر مشروعهما، من نقد المسائل والمقولات التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتج تلك المسائل والمقولات، ومن مناقشة التصورات الدينية في التراث إلى مناقشة النظام الفكري العميق، أو الأنظمة الفكرية المنتجة للتصورات الدينية في التراث الإسلامي.. وهذا هو الانعطاف النقدي الجديد الذي حصل مع الجابري وأركون. وحين نقول نقد النظام أو الأنظمة، فهذا يعني أن الهدف هو دراسة المنهج، أي بنية العقل الديني وطريقة اشتغال آلياته وليس مضامين الشريعة والعقيدة بحدّ ذاتها، فمسائل الشريعة والعقيدة كما يقول أركون (قد تختلف، ولكن الجذور المعرفية واحدة)، أو بتعبير آخر؛ (ليس الاهتمام بالأفكار ذاتها، وإنما بالأداة المنتجة لهذه الأفكار) (1)
وأركون يذكر في مواضع كثيرة من كتبه تلك المناهج الغربية التي طبقها على
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: بين أركون والجابري.. في نقد العقل العربي/ الإسلامي: قراءة تحليلية للأبعاد الفلسفية، عبد الله المالي.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (53)
الإسلام بمصادره المقدسة، وبفخر عجيب، وكأن الإسلام سيبقى متخلفا حتى يفهم على ضوء النظارات الغربية، والفهم الغربي، وكأن الغرب هو رمز الحضارة والقيم الممثلة لها، وهذا ما يدل على الانبهار والتقليد الذي يتميز به الحداثيون الذين يصورون أنفسهم مجددين، مع أنهم في الحقيقة ليسوا سوى مقلدين ومستهلكين للبضاعة الغربية.
ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض كتبه: (إن كل المسائل الحارقة التي دشّنها الاستشراق في بداية القرن العشرين ينبغي أن تُستعاد من جديد وتُدرس علي ضوء التعاليم المستحدثة للعلوم الإنسانية: كعلم الألسنيات الضروري جداً لدراسة النصوص المقدسة أو التراثية، وكعلم السيميائيات أو الدلالات اللغوية وغير اللغوية، وكعلم النفس التاريخي الذي ازدهر كثيراً في فرنسا داخل إطار مدرسة الحوليات الشهيرة، وكالنقد الديني، وكعلم الاجتماع الحديث، وكالأنتروبولوجيا... كل هذه العلوم ينبغي أن تُجيّش بمناهجها ومصطلحاتها من أجل تشخيص مشاكل التراث الإسلامي. بالطبع فإن المسلمين التقليديين سوف يحتجون ويغضبون مثلما احتجوا وغضبوا ضد الاستشراق الكلاسيكي ومنهجيته الفيلولجية - التاريخية التي تعود إلي القرن التاسع عشر) (1)
ومن العجيب أنه يصور غضب المسلمين، وكأنه ليس شيئا طبيعا، مع كونه لا يفعل إلا مثلما يفعل ذلك الأحمق الذي تطلب منه أن يضيف بعض الديكور على بيتك، فيذهب، ويهدمه جميعا، بحجة أن ديكوره لا يتناسب إلا مع بناء خاص.
وهكذا يفعل هؤلاء الذين يغالطون أنفسهم، والعالم بأن القيم الحضارية والتنوير
__________
(1) نقلا عن: نقد العقل التقليدي للإسلام.. المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون: بقلم: هاشم صالح، الفجر نيوز، نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 02 - 2008.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (54)
لا يمكن أن يناله سوى من تخلص من دينه ومقدساته، وهدمها، ليبنيها على أسس الفكر الغربي، مثلما حصل للمسيحية التي تخلت عن الكثير من مبادئها إرضاء للعقل الروماني، كما قال شيخنا محمد الغزالي: (لست أدري هل ترومت المسيحية، أم تمسحت روما)
والمشكلة التي جعلتنا نعتبر التنوير الجديد مؤامرة على الإسلام، هي أن هؤلاء التنويريون لا يدلون بآرائهم فقط، باعتبارها آراء مجردة يمكن أن تناقش، وإنما هم يتعاملون معها باعتبارها حقيقة مطلقة، يستعملون كل الوسائل للدعوة إليها.
وهم يستثمرون في تلك الدول العربية التابعة للغرب، ليفرضوا عليها تعديل مناهجها التعليمية حتى تتناسب مع هذا الطرح التدميري للإسلام.
ولهذا نجد أركون يدعو إلى اعتبار التعليم بمراكزه المختلفة النواة التي ينشر من خلالها هذا النوع من التفكير.. وقد قال في بعض تصريحاته لمجلة [الاكسبريس] الفرنسية (1): (لا يمكن للعالم العربي أو الإسلامي أن ينطلق حضاريا إلا إذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة لأنظمة الفكر الديني القديم المسيطر والراسخ الجذور.. وكذلك ينبغي تفكيك كل الأيديولوجيات الغوغائية التي سيطرت علينا بعد الاستقلال وأدت الي كل هذا الفشل الذريع الذي نشهده حاليا كالقومجية الشوفينية والماركسوية الكاريكاتورية وسواهما.. ولكن نلاحظ حاليا أن أي عمل نقدي هادف لتحريرنا من الرواسب التراثية يتعرض لرقابة مزدوجة: إما من طرف السلطة، وإما من طرف معارضاتها الأصولية.. الجميع يزاود على الاسلام بالمعنى التقليدي للكلمة لكي يكسب المشروعية ورضي الجماهير. وفي كلتا الحالتين نجد أن الفكر الحديث بكل
__________
(1) مجلة الاكسبريس الفرنسية بتاريخ 27 - 3 - 2003.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (55)
مكتسباته العلمية مرفوض أو مهمش في أحسن الأحوال)
ثم يذكر بعض اقتراحاته في هذا المجال؛ فيقول: (نلاحظ مثلا أنهم لايعلمون في المدارس بل وحتى الجامعات إلا الإسلام، ويستبعدون دراسة كل الأديان الأخرى.. وهذا يعني أن مادة تاريخ الأديان المقارنة ممنوعة في العالم العربي والإسلامي كله.. والأسوأ من ذلك هو أن تعليم الإسلام نفسه يتم بطريقة قروسطية عتيقة عفى عليها الزمن.. وهو علي أي حال خاضع كليا للأرثوذكسية الأصولية الصارمة سنية كانت ام شيعية.. انظر حالة ايران)
وهو بهذا يدعو إلى عرض الإسلام باعتباره نموذجا من النماذج التاريخية للفكر الديني، وليس باعتباره هداية الله لعباده.. وهو يقول ذلك مع كونه يعلم أنه في كل الجامعات الإسلامية توجد فروع خاصة بمقارنة الأديان، لكنه لا يريدها كذلك، بل يريد تعميمها حتى في المدارس، أي أن يدرس للتلاميذ في المدرسة الابتدائية والإعدادية اليهودية والمسيحية جنبا إلى جنب، وبالطريقة التي تجعلهم يعتبرون الإسلام مجرد مرحلة من مراحل الفكر الديني، وليس دين الله الثابت المستقر الذي يمثل الحقيقة المطلقة.
وقد صرح بأهدافه الرسالية التي آتت ثمارها في الكثير من البلاد للأسف، ومن بينها الإمارات العربية المتحدة، التي فتحت فرعا للسربون في بلادها، وقد قال معبرا عن ذلك: (أنا شخصيا أناضل من أجل تغيير برامج التعليم في كل الدول العربية والإسلامية.. وينبغي على الاتحاد الاوروبي أن يتفاوض مع بلداننا لتغيير هذه البرامج، وبخاصة فيما يتعلق بتعليم مادة التربية الدينية.. أقول ذلك لأن تعليم الدين بطريقة ظلامية أصولية وصل مؤخرا إلى أوروبا ذاتها وانتشر في جالياتها المغتربة من عربية
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (56)
واسلامية. وبالتالي فالخطر أصبح على أبواب الغرب نفسه، ولهذا السبب أقول ينبغي على العالم الإسلامي أن يتوصل إلى الحداثة بأقصي سرعة ممكنة وبدون تحفظ)
ثم يملي ما على العالم الإسلام أن يفعل حتى يتوصل إلى هذه الحداثة في أقرب وقت؛ فيقول: (ينبغي عليه أن يتعرف على المكتسبات التحريرية للحداثة من علمية وفلسفية، ثم يهضمها ويستوعبها، وإلا فإنه سيظل رهينة في أيدي الاصوليين المتزمتين)
وهذا التصريح يشبه تصريح الساسة أكثر من شبهه بتصريحات المثقفين الذين يعالجون القضايا وفق الرؤى المختلفة، ووفق الحوار الهادئ، ولا يعتمدون فرض أفكارهم، ولا تهييج المخالفين لها، أو ترهيبهم.
وهو يحرص كل حين على التهكم والسخرية من الذين يعتبرون الإسلام حقيقة مطلقة ثابتة مستقرة مقدسة، بكونهم منغلقين فكريا.. أي أن المتحرر عنده هو الذي يضع أدوات الجراحة على تلك المصادر المقدسة، بعد نزع قدسيتها، ثم يعمل فيها مبضعه ليشرحها بالطريقة التي يشتهي.
وقد قال في بعض تصريحاته في هذا المجال: (إن إطار الفكر الخاص بالاعتقاد الأرثوذكسي، وكذلك معجمه اللفظي القديم يقفان كعقبة كأداء في وجه استقبال أي فكر نقدي تحريري عن الاسلام في العالم العربي.. إنهما يشكلان عقبة في وجه التحليلات التفكيكية للعلوم الانسانية الحديثة، ولهذا السبب فإنهم يمنعون الأبحاث التاريخية الجادة عن القرآن، والحديث النبوي، والشريعة، والفقه، والتفسير، ومختلف جوانب التراث القديم. إنهم يحرمون كل ذلك عن طريق فتاوي الهيبة العليا لرجال الدين الكبار وعن طريق خطب الجمعة والمواعظ التي تعتبر نفسها مقدسة أو معصومة. كل الفكر النقدي الحديث عن التراث الإسلامي ممنوع في كليات الشريعة والمعاهد التقليدية بل
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (57)
وحتى في المدارس والجامعات الحديثة. وبالتالي فهناك هوة سحيقة تفصل بين الفكر الديني التقليدي السائد حاليا في كل أنحاء العالم العربي الإسلامي، وبين الفكر العلمي الحديث المتشكل عن الاسلام وكل الأديان. نحن في واد، والمشايخ في واد آخر. واللقاء شبه مستحيل بين الطرفين) (1)
وطبعا، نحن وإن كنا نوافقه في ضرورة توفير المزيد من البحث العلمي في مناقشة التراث، لكنا نختلف معه اختلافا جذريا في المناهج التي تستند إليها تلك البحوث، ذلك أنه يدعو إلى محاكمة التراث، ابتداء بالمقدس منه إلى المناهج الغربية، ونحن نرى أن يحاكم التراث المقدس إلى التراث المقدس نفسه، فالمتشابه يرد إلى المحكم، وفي المقدس نفسه ما يكفي من الأدوات التي تصحح ما ران عليه من فهم العصور المختلفة.
وأركون كغيره من الحداثيين المقلدين، ينطلقون من تشبيه الإسلام بالمسيحية من غير مراعاة للاختلاف الشديد بينهما، ولهذا يطالبون بمحاكمة المصادر المقدسة للمسلمين، بما حوكمت به المصادر المقدسة للمسيحيين مع البون الشديد بين كلا المصدرين.. المصدر الممتلئ بالتحريف الذي لا يمكن لأي عقل تجاهله، والمصدر الممتلئ بالقيم الثابتة، بل بدلائل الإعجاز التي لا يمكن لأي صادق في البحث أن يمر عليها من دون أن يتأثر بها.
ولهذا نراه دائما يتأسف للتأخر الهائل الذي يعاني منه الفكر الإسلامي قياسا إلى الفكر المسيحي في أوروبا.. وهو يتأسف كذلك لكونه من أكبر الأديان في تاريخ البشرية، وقد يصبح أكبرها من حيث العدد عما قريب.. (لكنه مع ذلك توقف عن التطور والتجدد بعد إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط: أي عصر
__________
(1) ألقى هذا التصريح في الدار البيضاء بتاريخ 14 - 11 - 2006.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (58)
الجمود والتكرار والاجترار. هذا في حين ان المسيحية، في أوروبا الغربية على الأقل، اضطرت إلى تجديد رسالتها الدينية وإعادة تأويل نصوصها المقدسة بسبب الصعود الذي لا يقاوم للعقل العلمي والفلسفي منذ القرن السابع عشر.. وبالتالي فأوروبا ليست متفوقة علينا بالتكنولوجيا والعلوم الفيزيائية والرياضية فقط وانما هي متفوقة أيضا في العلوم الدينية أو فلسفة الدين. وهذا شيء نجهله تماما.. أوروبا دخلت الآن لاهوت ما بعد الحداثة في حين أننا لا نزال نتخبط في لاهوت ما قبل الحداثة: أي لاهوت القرون الوسطي وفقهها القديم)
وهكذا لا يكتفي أركون وغيره من الحداثيين بدعوتنا إلى اعتماد المناهج الغربية، وإنما يدعونا إلى التأسي بالمسيحية وتطورها، وهو لا يعلم أن بعض المدارس المسيحية لم تتطور إلا بعد أن تخلصت من القيم المسيحية نفسها.
وقد ذكر بعضهم ذلك التطور الذي حصل للكنيسة والمسيحية، معبرا عن مشاهداته الشخصية؛ فقال: (وإذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة فى العالم المسيحى كله، فإنها فى أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة، وإنه ليصعب عليك أن تفرق بينها وبين أى مكان آخر، معد للّهو والتسلية.. ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً، ومكاناً للقاء والأنس، ولتمضية وقت طيب، وليس هذه شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها.. ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين، ويجتهد راعى كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة أن هناك تنافساً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب، ولهذا تتسابق جميعاً فى الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة، وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران، للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة، المشوقة لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التى تتبعها المتاجر ودور العرض
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (59)
والتمثيل، وليس هناك من بأس فى استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن، وأبرعهن فى الغناء والرقص والترويح)
ثم ذكر نموذجا من نماذج مشاهداته، فقال: (كنت ليلة فى إحدى الكنائس، ببلدة جريلى بولاية كولورادوـ فقد كنت عضواً فى ناديها، كما كنت عضواً فى عدة نواد كنسية، فى كل جهة عشت فيها، إذ كانت هذه ناحية هامة، من نواحى المجتمع، تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل ـ وبعد أن انتهت الخدمة الدينية فى الكنيسة، واشترك فى التراتيل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبى ساحة الرقص، الملاصقة لقاعة الصلاة، يصل بينهما الباب؛ وصعد (الأب) إلى مكتبه، وأخذ كل فتى بيد فتاة، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتى، كانوا وكن، يقومون بالترتيل ويقمن.. وكانت ساحة الرقص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح البيض..)
إلى آخر تصويراته لمشاهد المجون في الكنيسة، والتي يريد منا أركون وغيره من الحداثين أن نطور مساجدنا ومعابدنا وفقهنا وعقائدنا لتتناسب معها.
وقد ذكر هاشم صالح.. ذلك التلميذ النجيب لأركون، والناشر لأفكاره والمترجم لها، الهدف الأكبر الذي يسعى إليه أركون بكل صراحة، وهو نفس الهدف الذي سعى إليه كل المصارعين للكنيسة، بل للمسيحية نفسها؛ فقال: (في الواقع إن هدف أركون الأخير هو التوفيق بين الإسلام والحداثة مثلما فعل ابن رشد في وقته عندما وفق بين الإسلام والفلسفة الارسطوطاليسية، ومثلما فعل فلاسفة التنوير في أوروبا عندما أجبروا المسيحية ورجال الدين علي تقديم تنازلات كبيرة للعقل والحداثة العلمية الصاعدة)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (60)
ثم بين أن المنهج المعتمد لذلك ليس مجرد نقد التراث، والدعوة إلى تحديثه ليتناسب مع العصر، وإنما الدعوة إلى تحديث المقدس نفسه بكل ما يحمله من عقائد وشرائع وسلوكات، لينضبط بما يقتضه، ويصبح خاضعا لإملاءاته، فقال متحدثا عن الغرب وكيف استطاع أن يتحقق بالتنوير: (.. لم يستطيعوا التوصل إلى هذا المكتسب الكبير إلا بعد أن فككوا اللاهوت المسيحي القديم، وكشفوا عن تاريخيته ومشروطيته البشرية، ومعلوم أنه كان يقدم نفسه، وكأنه الهي معصوم تماما كالفقه القديم في الإسلام، ومعلوم أيضا أن اللاهوت القديم يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، المقدسة المتعالية، التي لا تناقش ولا تمس، وبالتالي فكل شخص يقع خارجها أو لا يعتنقها هو شخص مدان ومصيره جهنم وبئس المصير)
وهو بهذا الطرح ينظر إلى الإسلام مثلما ينظر إلى سائر الأديان، ويخضعه لنفس المناهج التي أخضعت لها، ولا يرى فيه أي مزية تميزه عنها، ولهذا يدعو إلى تفكيكه تفكيكا تاما، وذلك بعد تخليصه من القداسة، أي أن كل شيء يصبح في مباحا للمبضع الحداثي ليزيله بحجة وقوفه في وجه التنوير.
يقول هاشم صالح معبرا عن أفكار أركون في هذا المعنى الخطير: (.. فكل دين يزعم امتلاك الحقيقة الالهية المقدسة دون غيره، وعلى هذا النحو تشكلت الأنظمة اللاهوتية الثلاثة، وسيطرت على العقول طيلة العصور الوسطي، أقصد الانظمة اللاهوتية اليهودية، فالمسيحية، فالإسلامية.. وقد مارست دورها ـ كما يقول أركون في احدي أطروحاته الشهيرة ـ على هيئة أنظمة للنبذ والاستبعاد المتبادل، فكل دين يتهم الاديان الأخري بأنها خرجت على الصراط المستقيم، أي الأرثوذكسية باللغات الاجنبية.. وبالتالي فهي تنبذ بعضها بعضا، ثم تستبعد بعضها بعضا من جنة الله والنجاة
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (61)
في الدار الآخرة، كل واحد يكفر أتباع الأديان الأخرى، وكل طائفة تعتقد اعتقادا جازما أن الله اصطفاها وحدها دون سواها)
وهذا الطرح كله مبني على فلسفة كانط التي استند إليها أركون وكل الحداثيين، وهي عدم امتلاك أي دين لأي مصداقية في ذاته، أو براهين ثابتة تدل عليه، وأن الأديان مجرد اختيارات بشرية، ولا يستطيع أي دين من الأديان أن يزعم أنه يملك الحقيقة أو الأدلة على ثبوته وكونه من الله تعالى.
وبذلك لا يمكن لأي شخص أن يحاور أمثال هؤلاء.. لأنه إن قيل له ما ذكره القرآن الكريم في حواراته مع المخالفين: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، أعرضوا ونأوا واكتفوا بذكر أطروحاتهم بكل استعلاء، لأن كل البراهين الدينية عندهم ليست عقلية، ولا علمية، لسبب بسيط وهو أن كانط في ذلك الزمان أن الدين يستند للعقل العملي، والاختيار البشري، والإيمان المجرد، ولا يستند لأي براهين تثبته أوتدل عليه.
وبناء على هذه القاعدة يضع التنويريون شروطهم لقبول الدين، وهي أن يتحول الدين إلى مزاجهم وأفكارهم، لا أن يتحولوا هم إلى ما يطلبه الدين من عقائد وقيم وأفكار.
وقد ذكر هاشم صالح المدى الذي بلغه أركون في طرحه الحداثي، وتقدمه على غيره فيه، فقال: (أركون يقول لنا بأن الحل إما أن يكون جذريا، راديكاليا، أو أنه لن يكون.. فآخر الدواء الكي كما تقول العرب.. إنه ينصحنا بتفكيك كل الأنظمة الفقهية واللاهوتية الموروثة عن العصور الوسطي.. فكر أركون يتجاوز كل هؤلاء بطبيعة الحال لأنه يعيش في عصر الحداثة أو ما بعد الحداثة، ويحاضر في كبريات جامعات العالم، ولذا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (62)
فهو ينظر إلى الظاهرة الدينية من كافة جوانبها، ويعرف كيف يفكك ببراعة منقطعة النظير كل الانغلاقات التراثية في كل الأديان)
ويذكر كيف كان يتعامل مع الأجيال التنويرية التي خرجها، فقال: (في دروسه الأسبوعية الرائعة في السوربون كثيرا ما كان ينفعل، ويدعونا إلى أن نخرج من أقفاصنا وسجوننا التراثية لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج)
وأحب أن أذكر هنا أن الكثير من المغترين بفكر أركون يتصورون أنه يكتفي بمجرد نقد التراث، متناسين أن ذلك مجرد مرحلة من مراحله الفكرية، أو هي معركة من المعارك التي يشنها على الدين نفسه.. ولهذا نراه في مواضع يشن حربه على طائفة من الطوائف، فيتصور البعض أنه ينتصر لغيرها، ولكنه في الحقيقة لا يفعل ذلك، وإنما ينفرد بكل واحدة منها، ليقضي عليها بعدها جميعا، لا يفرق في ذلك بين أقوالها الصحيحة المعتبرة التي تستند إلى المصادر المقدسة، وبين رؤاها المجردة عن تلك المصادر.
وقد ذكر هاشم صالح في مقال له نشرته بعض الجرائد السعودية، أن محمد أركون مع تشدده مع المقدس في كل مراحل حياته إلا أن حدته عليه زادت بعد أحداث 11 من سبتمبر، والتي كانت فرصة لظهور الإلحاد الجديد، كما كانت فرصة لتغول الحداثة، وانتشار التنوير، وتبنيه من طرف ممالك النفط العربية خصوصا.
فقد ذكر في مقاله المعنون بـ[هل تغير محمد أركون!؟] كتاب محمد أركون عن [النزعة الانسانية والإسلام.. معارك فكرية ومقترحات من أجل الخروج من الأزمة]، وطروحات أركون الجديدة فيه، فقال: (والآن ماذا حصل؟ هل غير موقفه في كتابه الأخير؟ هل عدل منه؟ يخيل إليَّ أن نعم.. صحيح انه كان يقول في السابق بضرورة تطبيق المنهج العلمي أو التاريخي على التراث العربي الإسلامي بكل صرامة ودقة
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (63)
موضوعية، وصحيح أنه كان يمارس هذا التطبيق عملياً من خلال مشروع عمره الطويل العريض: نقد العقل الإسلامي.. ولكنه كان يمر مرور الكرام على ذكر التنوير ويتحاشى التوقف عنده طويلاً، أو قل إنه بعد ان يتوقف عنده كان كثيراً ما يحذر من سلبياته من دون أن ينكر ايجابياته بالطبع.. أما الآن، وفي هذا الكتاب، فإنه يعترف صراحة بضرورة أن تمر الشعوب العربية والإسلامية بالمرحلة التنويرية، مثلما حصل للشعوب الاوروبية بدءاً من القرن الثامن عشر)
ويقول: (يخيل إليَّ أنه بعد ضربة (11) سبتمبر ثم بالاخص بعد ضربة (11) مارس في مدريد راح يغير مواقفه النقدية، أو قل راح يجعلها راديكالية أكثر.. لم يعد يراعي التيار التقليدي، ويجامله أكثر مما ينبغي، كما كان يفعل سابقاً. لقد أجبرته هذه التفجيرات التاريخية والمأساوية على استشعار حجم المرض العضال بعد أن استفحل في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية، ووصل الى ذروته القصوى)
هذه خلاصة مبسطة لطروحات أركون وأهدافها التي لا تختلف عن أهداف سائر التنويريين، وهي هدم الإسلام عبر تمريره على المناهج الغربية التي مورست مع الكتاب المقدس، ومن شاء أن يطلع عليها من خلال كتبه، فله ذلك، ولكن بشرط أن يقرأها قراءة كلية، لا جزئية، فذكاء الرجل يجعله يتحرك بهدوء، من غير أن يثير أي حساسية.. ولذلك لا يفهمه إلا من عرفه وعرف مقاصده، وخرج من عالم الألفاظ المجردة إلى المعاني الكبرى التي تنطوي عليها.
فهو مثلا قد يشيد بابن رشد أو غيره، فيتصور القارئ أنه يدعو إلى أن نلتزم نفس منهج ابن رشد في التوفيق بين الشريعة والفلسفة والعقل.. لكنه يعود بعد ذلك، ويذكر أن طروحات ابن رشد طروحات هزيلة جدا أمام ما يقتضيه التنوير.. فإذا سألته عن
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (64)
ذلك أجابك وبطرق ملتوية كثيرة بأنه إعادة النظر في المقدس نفسه أو معالجته ليصبح متناسبا مع الحداثة والعصر.. أي تعاد خياطته وتفصيله ليتناسب مع المزاج الذي تفرضه العقول المعاصرة.. العقول الممتلئة بالقيم الغربية، لا العقول المممتلئة بالإيمان بالله ورسوله.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (65)
أركون وابن نبي كلاهما من الجزائر، وكلاهما ولد في عهد الاستعمار الفرنسي، وكلاهما درس في فرنسا، وتعلم اللغة الفرنسية، وأتقنها وكتب بها..
وكلاهما اهتم بالحضارة والنهضة، ودعا إليها.. وكلاهما اهتم بالقرآن الكريم وكتب فيه.. ولكيلهما جمهور عريض في المشرق والمغرب..
وإلى هنا تنتهي القواسم المشتركة، لتبدأ المفارقات العجيبة.. والتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (مَثَلُ المؤمن الذي يقرأُ القرآن ويعملُ به كمَثَل الأُتْرُجَّة؛ ريحُها طيِّب، وطعمُها طيِّب، ومَثَلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل التَّمرة؛ لا ريح لها، وطعمُها حلوٌ، ومَثَل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة؛ ريحها طيِّب، وطعمها مر، ومَثَل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمَثَل الحنظلة؛ ليس لها ريح، وطعمها مرٌّ) (1)
فأحدهما، يمثل ذلك المؤمن الذي ربي في الكتاتيب القرآنية، وحبب إليه القرآن الكريم في صغره الباكر، وعندما ذهب إلى فرنسا، ذهب إليها وهو يحمل ثقافته وهويته ودينه، ولذلك كان يقرأ القرآن الكريم، ويعيش معانيه، وينفعل لها، ويعتقد أنها الترياق الذي يحل كل أزمة وقعت فيها أمته، وأن تخلفها وحتى الاستعمار الذي ابتليت به، لم يكن إلا وليد ابتعادها عن مصادرها المقدسة.. ولذلك استطاع من خلال تدبره أن يستنبط شروط النهضة وأسبابها ووسائلها..
وهو في ذلك كله، ومع كونه بين أساطين التنوير الغربي، إلا أنه لم ينبهر بحضارة الغرب، ولا ماديتها، ولذلك حُفظ له كلام ربه الذي لم ينحرف عنه قيد أنملة.
__________
(1) رواه البخاري 5/ 2070 (5111)، ومسلم 1/ 549 (797)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (66)
ولذلك لم يذهب لجامعة السربون ليتلقى الفلسفة الغربية، ولا أفكارها، فعنده ما يكفي من الفلسفة والأفكار، وإنما ذهب إليها ليتعلم التقنيات التي تحتاجها أمته.. فالأمة تحتاج إلى تقنيات الغرب، وتطوره المادي، ولا تحتاج إلى فلسفته وأفكاره..
وقد كان ابن نبي يدرك جيدا أن تلك الفلسفة والأفكار الغربية لو نفعت أحدا من الناس لانتفع بها الغرب نفسه، وكيف ينتفع بها، وهو يمد أساطيله في عرض المحيطات والبحار، ويمد طائراته الحربية في أجواء المستضعفين ليملأهم رعبا، وليفرض عليهم همينته وكبرياءه وسطوته، وليبتز منهم آخر قطرة من دمائهم وعرقهم والثروات التي أتاحها الله لهم.
ولذلك يمكن اعتباره مصداقا لما ورد في الحديث الشريف من كونه مثل الأترجة، ذات الرائحة الطيبة، والطعم اللذيذ، بالإضافة إلى استعمالها في المداواة، وكونها ـ كما يذكر الأطباء القدامى ـ من الأدوية المفرحة، والمؤثر في نفسية آكليها.
وهكذا هو مالك بن نبي رحمه الله، فقد كان أترجة انتفع الناس برائحتها، وبتلك الوصفات الربانية التي وصفها لنهضة الأمة ورقيها، ولم يستعن في ذلك، لا بمناهج الشرق، ولا مناهج الغرب، وإنما استفادها من القرآن الكريم.. وصفة الهداية الإلهية، والتنوير الرباني..
وقد ذكر في كتابه العظيم [الظاهرة القرآنية] أنه لم ينطلق في هذه النتائج التي وصل إليها من تقليد الآباء ولا الأجداد، وإنما وصل إليها عبر البراهين العقلية التي جعلته يرى أن مصدر القرآن الكريم هو الحقيقة المطلقة، الممتلئة بالثبات والاستقرار، لا منتوجا هلاميا ثقافيا وليد بيئة معينة وزمان معين وأحوال نفسية معينة.
ثم من خلال القرآن الكريم، ومنابع عظمته ذكر كيف عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (67)
وكيف راح يشيد به، باعتباره المثال الأعلى، والنموذج الأكمل، وأنه اصطفاء رباني لتلك الوظيفة الخطيرة، التي تمثل التنوير الحقيقي، لا التنوير المزيف، كما قال تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]
ومن خلال هذين المصدرين: الكتاب والنبوة.. راح ابن نبي يفند الحضارة الغربية، ومعها الفلسفة المادية التي قامت عليها، ليدعو إلى الحضارة الإيمانية التي تنطلق من المقدس باعتباره يمثل الحقيقة المطلقة، التي لا يمكن التعرف على القيم الثابتة للكون إلا من خلالها.
ومن خلال تلك المناقشات للفكر المادي، والحضارة التي قام عليها طرح لنا ابن نبي البديل الحضاري والتنويري.. والذي ينسجم تماما مع هوية الأمة وشخصيتها، بل يجعلها ـ إن هي التزمت بمقدساتها ـ في مرتبة أسمى بكثير من تلك المرتبة التي دعانا إليها أركون وغيره من التنويريين.
هذا هو مالك بن نبي مصداق الأترجة التي وردت في الحديث الشريف.. أما الثاني، فلا يهمنا ماذا ينطبق على شخصه.. هل ينطبق عليه وصف التَّمرة التي لا ريح لها، وطعمُها حلوٌ، أو وصف الرَّيحانة؛ التي ريحها طيِّب، وطعمها مر، أو وصف الحنظلة؛ التي ليس لها ريح، وطعمها مرٌّ.. ولكن يهمنا وصف أفكاره التي لا شك في كونها لا تختلف أبدا عن الحنظلة.. فهي مرة، ولا ريح لها، وإن كان لها ريح فهي ريح منتنة.
وهكذا كان أركون الذي لم يرب في كتاتيب القرآن الكريم.. وإنما ربي بأيدي الآباء البيض، وعندما ذهب إلى فرنسا لم يتعلم الكهرباء، ولا الهندسة، وإنما ذهب لتعلم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (68)
فكر الغرب وفلسفته، ليتحول إلى مستشرق فرنسي، لا إلى مهندس عربي أومسلم.
ولذلك راح ينظر إلى أمته وشعبه وبلده كما ينظر المستشرقون الحاقدون، مع كونه يعلم أن بلده عاش فترة طويلة ضحية بين جلادي فرنسا المجرمة، وأن الكثير من أسباب تخلف بلده تعود إلى ذلك الاستعمار البغيض..
لكن ذلك لم يمنع أركون من أن يشيد بفرنسا، ويدعو إلى قيمها، وينسى أن قيمها هي التي دفعتها لاستعمار بلاده، ونهب ثرواتها.
وهكذا راح أركون ـ على عكس مالك بن نبي ـ يشيد بأولئك الماديين الذين احتقروا المقدس، وتصورو أن الإنسان هو رب نفسه، وسيد مصيره، وأنه لا مقدس في الوجود، بل لا حقيقة ثابتة في الوجود، إلا الهوى المجرد.
ولذلك كانت قراءته للقرآن الكريم كقراءة المنافق الذي يبحث عن الثغرات، لا المؤمن الذي يبحث عن الحقائق..
ولذلك سول لنفسه أن يقترح على ربه، وأن يقدم رأيه بين يدي كتابه، وأن يخضعه لتلك المقاييس البشرية التي يحلل بها أي كلام، وتحلل معها أي نفسية.
وقد كان في موقفه هذا يشبه ذلك الموقف الذي ذكره القرآن الكريم؛ فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]
وهكذا كان ابن نبي كلما سمع آية من القرآن الكريم اهتز واستبشر، وراح يبحث فيها باعتبارها ترياقا ربانيا، ووصفة إلهية أنعم الله بها على عباده، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (69)
أما أركون، فكلما سمع آية راح يطبق عليها مقاييسه التي تعلمها من أساتذته، ليبحث في الحالة النفسية التي أفرزتها، أو في الظاهرة الاجتماعية التي ولدتها، أو في البيئة الزمانية التي أنتجتها، أو في الظروف المختلفة التي رعتها..
ليخرج بعد كل ذلك التدبر من القرآن الكريم بما خرج به الوليد بن المغيرة الذي وصف الله تعالى قراءته للقرآن الكريم؛ فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 11 - 25]
وهكذا فعل أمثاله من الحداثيين الذين انشغلوا بالمال والبنين وزينة الحياة الدنيا.. فبعد تفكرهم وتدبرهم وتقديهم، راحوا يقولون عن القرآن: إنه مجرد سحر أثر في بيئة معينة، وزمن معينة.. وأن سحره قد زال بزوال تلك العصور.
هذا هو الفرق بين مالك بن نبي ذلك العملاق الكبير في الفكر الإسلامي.. وبين أركون ذلك القزم الحقير الذي وضع نفسه عبدا من عبيد الغرب، ولأجلهم باع دينه، ولم يظفر بدنياه.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (70)
من الشخصيات التنويرية التي صدرها لنا السربون، وأخرجها لنا أستاذ الحداثة الأكبر [محمد أركون]، وكانت من أكثر الشخصيات مساهمة في شرح أفكاره، ونشرها، والدعوة إليها شخصية [هاشم صالح] (1)، الذي نستطيع من خلال كلماته الصريحة والجريئة أن نفهم الأهداف الكبرى من التنوير والحداثة، وكونها لا تعدو تقليدا حرفيا للتنوير الأوروبي، واعتباره نموذجا مثاليا يمكن تطبيقه، بل يجب تطبيقه على واقعنا الإسلامي بمصادره المقدسة.
وهم يفعلون هذا من غير نظر إلى الفوارق الكبيرة بين الإسلام والمسيحية، ولا بين القرآن الكريم والكتاب المقدس، ولا بين رؤية المسلمين للإسلام، ورؤية المسيحيين له.. فهم يعتبرون الكل واحدا، ولذلك يرون أن التجربة التي نجحت في أوروبا ستنجح إن طبقت حرفيا في بلاد المسلمين..
وكل ذلك مغالطات.. فالإسلام يختلف عن المسيحية، والقرآن الكريم يختلف عن الكتاب المقدس، والمؤسسات الدينية الإسلامية تختلف جذريا عن المؤسسات الدينية المسيحية.. وكون أوروبا تخلصت من الكنيسة، لم يضعها في التنوير الحقيقي، بل إن جرائمها بعد فترة التنوير كانت أكبر بكثير من جرائمها في الفترة التي حكمت فيها
__________
(1) مفكر وكاتب ومترجم سوري متخصص في قضايا التجديد الديني ونقد الأصولية ونقاش قضايا الحداثة وما بعدها. حاصل على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث من جامعة السوربون 1982. وعلى دبلوم الدراسات العليا من جامعة دمشق 1975. يكتب بأهم الصحف والمجلات الدولية، نقل هاشم صالح العديد من مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية، انظر: حوار مع الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح: سوف تحصل في الإسلام ثورة معرفية كتلك التي حصلت في المسيحية الغربية، مولاي أحمد صابر، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (71)
الكنيسة، فالاستعمار والحروب العالمية والإبادات الجماعية كلها ممارسات وجرائم حصلت في عصر التنوير وابتداء من الثورة الفرنسية، ولم تقع الكنيسة في كل ذلك.
لكن التنويريين لا يلتفون لكل هذا، بل يتصورون أن الغرب يمثل الغاية الكبرى، ونهاية التاريخ، ولذلك يجب أن نضحي بكل مقدساتنا للتحقق ما وصل إليه.
وقد كتب هاشم صالح لنشر هذه الأطروحة التنويرية الكثير من الكتب، وترجم أعمالا كثيرة، وخصوصا لمحمد أركون الذي أعجب به إعجابا شديدا، ومن مؤلفاته كتاب [معضلة الأصولية الإسلامية]، وكتاب [الانسداد التاريخي]، وكتاب [مدخل إلى التنوير الأوروبي]
والكتاب الأخير يمثل جوهر ما يدعو إليه هاشم صالح، والذي ذكر مصادره الفكرية فيه في مقال له بعنوان [نقد العقل التقليدي للإسلام.. المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون] (1)، والذي ذكر فيه أثر محمد أركون في تشكيل عقله وطريقة تفكيره، فقال: (كل ما كتبه أركون منذ أربعين سنة وحتى اليوم يندرج تحت العنوان العريض التالي: [نقد العقل الإسلامي] إنه مشروع العمر وخلاصة الفكر)
وحتى يزيل الالتباس المرتبط بهذا النوع من النقد، وعدم توجهه للتراث فقط، وإنما للمصادر المقدسة أيضا، عقب على ذلك بقوله: (.. وانما تعني ما يلي، وبحسب ما أفهم فكر أركون بعد أن عاشرته أو بالأحري عاشرت فكره طيلة أكثر من ربع قرن: كل التراث العربي الإسلامي منذ البداية وحتى اليوم ينبغي أن يتعرض لغربلة عامة شاملة، من أجل معرفة بنيته الداخلية، أو كيفية تشكّله التاريخي طيلة القرون الستة
__________
(1) نقد العقل التقليدي للإسلام.. المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون: بقلم: هاشم صالح، الفجر نيوز، نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 02 - 2008.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (72)
الأولى بشكل خاص، فما جف منه وتخشب ومات نطرحه، ونبقي فقط على الجوهر الروحي والأخلاقي لرسالة الاسلام العظيم)
وهو طبعا، كسائر التنويريين يستعملون مثل هذه الألفاظ [الجوهر الروحي والأخلاقي لرسالة الاسلام العظيم]، ليوهموا القارئ أن نقدهم وهدمهم لا يمس الإسلام، وإنما يمس ما تخشب منه، وهم لا يعلمون أنهم يقصدون بهذا التخشب كل الحقائق الإسلامية ابتداء من العقائد الأساسية القطعية التي لا يمكن أن يقوم الدين من دونها.
وقد عبر هاشم صالح عن ذلك بصراحة بقوله: (فالمعرفة التي نمتلكها عن الفترة التأسيسية للتراث الإسلامي لا تزال لاهوتية، أسطورية تضعه فوق التاريخ، أو فوق المشروطية الاجتماعية التاريخية)
وهذه العبارة هي التي تلخص جوهر أكثر الحداثيين والتنويريين، وهي اعتبار الإسلام ومقدساته وليد فترة تاريخية محددة، ولذلك لا يمكن اعتباره عندهم معبرا عن الحقيقة المطلقة، أو رسالة إلهية عابرة للزمان، وإنما هو ـ بحسبهم ـ يعبر عن الفكر الذي ساد في تلك البيئة الزمنية، والذي يمكن تطويره، بل تحويره ليتحول إلى أي بيئة جديدة بما يتناسب معها.
ولذلك كان جوهر رسالة جميع الحداثيين هو تحويل الإسلام من مرحلته التاريخية التأسيسية إلى مرحلة حديثة، ولو بتفريغه من محتواه تماما، باعتبار أن ذلك المحتوى المقدس لم يعد نافعا ولا صالحا في هذا الزمان.. فالنفعية البراغامتية هي المحدد عندهم لصلاحية الشيء، لا الحقيقة التي تدل عليها الأدلة أو البراهين.
وقد ذكر هاشم صالح هذا المعنى عند إجابته على سؤال طرحه بقوله: (لماذا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (73)
يشكل ذلك حاجة تاريخية لا بد منها، أو لا مندوحة عنها؟)
ثم أجاب على ذلك بقوله: (لأن المسلمين، كل المسلمين وليس فقط العرب، وصلوا الآن إلى مفترق طرق: فإما أن ينخرطوا في هذه العملية الجراحية الخطيرة الضرورية لمصالحة الاسلام مع الحداثة، وإما أن يستسلموا للمقادير، وينقطعوا عن حركة التاريخ كلياً في عصر العولمة الكونية ويصبحوا مهمشين وواقعين في مؤخرة كل الأمم)
وهو يشبه هذه العملية الجراحية الخطيرة التي يريد إجراءها للمصادر العميقة للإسلام بما حصل لأوروبا عندما راحت تسخر من الكنيسة والدين وتستبدله بالمذاهب والفلسفات المادية، فيقول: (ويراهن كاتب هذه السطور علي الحقيقة التالية: لو لم تخض أوروبا معركتها مع نفسها، لو لم تصفّ حساباتها مع ذاتها التاريخية - أي مع تراثها المسيحي القديم- لما استطاعت أن تقلع حضارياً وأن تسيطر على العالم. فأزمة الوعي الأوروبي مع نفسه كانت قد وصلت إلي حد التفاقم الأقصي الذي يهدد بالانفجار أو بالانهيار)
ثم يحدد بدقة نوع النقد الذي يجب أن يوجه للعقل المسلم، حتى ينسجم مع الحداثة؛ فيقول: (مشروع المستقبل ليس نقد العقل العربي كما يتوهمه الجابري على الرغم من تقديرنا لجهد المحاولة لديه ولبعض النقاط الايجابية أيضا، وإنما هو مشروع نقد العقل الإسلامي التقليدي. لماذا نقول ذلك؟ لأنه لا يوجد شيء اسمه عقل عربي أو تركي أو إيراني وإنما يوجد عقل إسلامي أو ديني بالأحري مثلما يوجد عقل علمي أو فلسفي أو وضعي سمه ما شئت. وبينهما قطيعة الحداثة)
وبذلك، فإن النقد الحداثي للعقل عنده هو نقد لطريقة تفكير المسلم، أي مسلم،
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (74)
وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ، ما دام يؤمن بالغيب، ويعتقد أن مصادره المقدسة، تحوي قيما عقدية وسلوكية ثابتة، وقد عبر عن هذا المعنى بقوله: (وبالتالي فالعقل البشري واحد عند جميع الشعوب. فقط هناك شعوب تحررت من العقل اللاهوتي الغيبي الطائفي القديم كشعوب أوروبا الغربية مثلا، وشعوب لم تتحرر بعد.. وهذه هي حالتنا نحن)
وليؤكد هذا المعنى، يعود كسائر الحداثيين إلى أوغست كونت، وفلسفته الوضعية، باعتبار أن كل التقدم والتطور (الذي نشهده أمام أعيننا اليوم في مختلف مجتمعات الغرب هو ثمرة الفلسفة الوضعية التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فهذه الفلسفة كانت تعتقد اعتقاداً جازماً بأن العقل والعلم هما اللذان ينبغي أن يقودا البشرية نحو الحضارة والتقدم والرقيّ، وبالتالي فينبغي أن يحلاّ محل اللاهوت المسيحي التقليدي الذي أدى إلى محاكم التفتيش، والتواكل، وتأخر المجتمع على كافة الأصعدة والمستويات) (1)
ووضح ذلك في محل آخر بصراحة، فقال: (وبالتالي فالشعوب تمر بعدة مراحل من التطور العقلي والفكري؛ فهناك أولا المرحلة الأسطورية البدائية للعقل، تليها المرحلة الدينية الأكثر تطورا، ثم أخيرا المرحلة العلمية الفلسفية، وهي أعلى درجات العقل أو العقلانية)
وهو ينتقد الجابري وأمثاله ممن لم يتجرؤوا على اقتحام المقدسات خلافا لأستاذه أركون؛ فقال: (قناعتي هي أن الجابري لم يتجرأ على مواجهة المشكلة اللاهوتية وجها لوجه؛ فقرر خوض المعركة مع العقل العربي لا العقل الإسلامي)
__________
(1) أوغست كونت: الفلسفة الوضعية ومفهوم التقدم، هاشم صالح، مجلة الأوان، ديسمبر 2013.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (75)
لكنه يعود فيعتذر له، ولأمثاله بأن السبب ليس عدم قناعتهم بضرورة مواجهة المقدسات، وإنما لكونهم يمارسون بعض التقية مع المجتمعات التي يعيشون فيها حتى لا يصطدموا معها، يقول في ذلك: (.. وهذا تحايل على الموضوع في نهاية المطاف أو تهرب من المواجهة، ولكنه مفهوم لأن للتقليديين سطوة في الشارع، ويستطيعون تهديد أي مثقف وتخويفه)
ليس ذلك فقط، وإنما لكونهم أيضا ـ بحسبه ـ يفتقرون لتلك المناهج التي يملكها أستاذه أركون.. ذلك أنه وحده من (يمتلك التكوين المنهجي الكافي والعدة المفهومية والمصطلحية للقيام بنقد العقل الديني في الإسلام.. ووحده من بين كل المثقفين العرب من يمتلك ذلك الآن.. وكل من يفهم في شؤون الفكر وشجونه يعرف ذلك.. وكل مطلع على الفكر الحديث وتاريخه ومناهجه العويصة ومصطلحاته يعرف ما الذي أقصده هنا.. ولذلك راهنت علي هذا الفكر منذ ثلاثين عاما ولا أزال)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (76)
لا يظنن أحد أن في هذا العنوان نوعا من الشتيمة أو البذاء أو الفحش؛ فقد نهينا عن ذلك كله، وإنما هو وصف للواقع كما هو، ذلك أنا إن سمينا الحمار حمارا، والكلب كلبا، والخنزير خنزيرا، لم نكت شاتمين، ولا طاعنين، لأن تلك الأسماء هي الأسماء التي لا تعرف الحمير ولا الكلاب ولا الخنازير إلا بها.
ومن هنا كان وصفنا لمحمد شحرور بكونه مهندسا وأفاكا، ليس سوى أوصاف دقيقة وعلمية تختصر حقيقة هذا الرجل ومشروعه الفكري، ورسالته التي ندب نفسه لها، والتي وجدت تجاوبا من جهات كثيرة تريد أن تستأصل من خلالها الدين من أساسه.
أما كونه مهندسا، فلا نريد منها كونه دارسا للهندسة المدنية، ذلك أننا لا نجد له فيها أي نتاج علمي، بل هو فيها تابع مجرد، لم يتجرأ أن يضيف إلى البنيان الهندسي أي لبنة واحدة، ولا أن ينتقد أي نظرية، ولا أن يؤسس أي نموذج، ولذلك فإننا نريد بالمهندس هنا كونه مهندسا في الدين، لا مهندسا في البنيان، فهو قد طبق هندسته المدنية في المصادر المقدسة، ولم يطبقها مع الإسمنت والرمل والخرسانة المسلحة.
وكل عمله من هذا القبيل، فهو ـ بعد أن طرح السنة المطهرة، وطرح معها كل أقوال المفسرين واللغويين والفقهاء ـ راح إلى الألفاظ القرآنية يتعمل معها كما يتعامل مع اللبنات، يضعها في المحل الذي يشاء، وينزعها من المحل الذي يشاء، مستعملا كل قدراته الهندسية التي تعلم منها فن الاحتمال، وفن المراوغة، ليؤسس القصور الكبيرة من اللبنات القليلة، كما يؤسس الأكواخ الحقيرة من اللبنات الكثيرة.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (77)
وكمثال على ذلك أنه عندما اصطدم موقفه الهندسي مع موقف القرآن الكريم من الصلاة، حيث أنها وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدا، واعتبر غير المصلي مجرما، وتوعده الله تعالى بالويل والعذاب الشديد، وذلك كله يتنافى مع رؤيته للدين، وأن الصلاة فيه اختيار لا واجب، راح يفكك كلمة الصلاة في القرآن الكريم، معتمدا حيلة لم يفطن لها الأولون، ولا الآخرون، ولا تعتمد على أي أساس علمي.
وقد عبر عن الدافع الذي دفعه إلى تلك الحيلة الهندسية، فقال: (قد رأينا أن من الضروري توضيح معنى الصلاة، جرياً وراء التوفيق ورفع اللبس بين قوله تعالى في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، واعتبار هذا القول موجهاً للمتقاعس عن أداء الصلاة بأوقاتها، كما ترى كتب التفسير، وبين قوله تعالى في سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 15 - 18]، واللبس يتلخص في أن الله سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصلاة بالويل (وهو واد سحيق من وديان جهنم)، ويتوعد به في ذات الوقت المجرمين المكذبين، ومن المستحيل أن يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الشعائر، والمكذب المجرم الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر)
ثم راح يتدرج بالقارئ ليصل به إلى الحل الذي يرفع الويل عن المصلين، لا بحثهم على إقامة الصلاة والاهتمام بها، ولا باعتبارهم مجرمين ما داموا مقصرين في حق الصلاة، وإنما بتفريغ كلمة [المصلين] من محتواها، لتصبح مجرد دعاء يقال في أي حانة أو مرقص أو مقهي، من دون وضوء ولا غسل ولا قبلة.
وقد عبر عن تلك الحيلة التي أفرغ بها الصلاة من محتواها بقوله: (والحل في رأينا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (78)
يكمن في مفهوم الصلاة ذاتها؛ فقد وردت الصلاة في التنزيل الحكيم بمعنيين محددين يختلف أحدهما عن الآخر في الشكل، ويلتقي معه في المضمون، فالصلاة في الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء. ولكن هذه الصلة أخذت منذ ابراهيم شكلين: أولهما صلة بين العبد وربه قالبها الدعاء، لا تحتاج إلى إقامة وطقوس، يؤديها كل إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة، (وقد وردت في التنزيل الحكيم الصلاة بالألف)، وثانيهما صلة بين العبد وربه، لها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها، (وقد وردت في التنزيل الحكيم [الصلوة] بالواو). وهي من شعائر الإيمان)
والحيلة التي اعتمدها عجيبة جدا، فهي لا تتعلق بمعاني الكلمة اللغوية، ذلك أنها واحدة، ولا بالسياق الذي وردت فيه، وإنما باعتماد الرسم القرآني مع العلم أنه رسم اجتهادي كتبه الصحابة، ولم يكتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرد أي دليل على اعتماده في المعاني.. وربما يكون السبب في كتابة الصلاة بالواو أو بالألف خاضعا للكتبة، فبعضهم يرسم حرف المد ألفا، وبعضهم يرسمها واوا..
لكن شحرورا ـ ليفرغ الكلمة من محتواها ـ استعمل هذه الحيلة.. والطريق إليها بسيط جدا، وخاصة مع التقنيات الحديثة، فهو لن يحتاج ـ كما يتوهم القارئ البسيط ـ أن يرجع للمصحف كل مرة، ويقوم بالتحقيق، بل يكفي أن يستعمل أي برنامج ليضع له كلمة الصلاة باشتقاقاتها ورسمها ومواقعها الإعرابية، ليتعامل معها هو بعد ذلك كما يتعامل مع رقعة الشطرنج، وليوهم المستمعين أو القارئين له أنه نقب وحقق وتدبر إلى أن وصل إلى تلك النتيجة العظيمة التي لم تخطر على بال أحد.
وبعد أن وضع تلك المقدمات التي على أساسها فرق بين الصلاة التي يدعو
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (79)
إليها، والتي هي مجرد دعاء، والصلاة التي جاءت بها الشريعة، وجاءت معها التحذيرات من التهاون فيها، راح يعطي النتيجة للقارئ، وهي نتيجة تجعل من البشر جميعا مصلين.. مسلمهم وكافرهم.. ذلك أن المسلم عنده هو كل من آمن بالله.. والمصلي عنده هو كل من دعا الله.. وهو متحقق في جميع الملل والنحل، وبين جميع الشعوب.. فلا أحد منهم إلا ويقول: يا الله.. في أي مناسبة من المناسبات.
وهكذا راح يحتال على الصوم ليحول منه إلى إطعام المساكين، مستثمرا كلمة من كلمات القرآن الكريم هي كلمة [يطيقونه] مفسرا لها بحسب مزاجه، لا بحسب ما اتفقت عليه أقوال اللغويين والمفسرين.
وهكذا راح إلى كلمة الإسلام نفسها، يحولها عن مدلولها الواضح الذي ضبطه القرآن الكريم، وضبطته السنة المطهرة، إلى مفهوم مطاط مرن، يشمل كل الأديان.. ليصبح الإسلام الذي نعرفه مجرد اختيار شخصي، يمكن أن يستبدله المرء متى شاء، وكيف شاء من غير أي حرج.
ولذلك لم نكتف في وصفه بكونه مهندسا فقط، وإنما بكونه أفاكا أيضا.. فالأفاك هو الكاذب الذي يستعمل كل الحيل ليصرف الأسماع والقلوب عن الحقيقة إلى البدائل التي يضعها لها.. ولذلك حذر الله منه، وتوعده بالعذاب الشديد، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 7 - 9]
وهذه الآيات الكريمة لا تنطبق على أحد كما تنطبق على ما يقوم به شحرور وأبناء مدرسته، ذلك أنهم ـ مع إقرارهم بكونهم يسمعون آيات الله ـ إلا أنهم يصرون على أنهم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (80)
لم يسمعوها، ذلك أنهم لا يسمعون منها إلا ما يرغبون ويشتهون، ويفسرونها كما يحبون، متخذين منها مطية لأهوائهم، لا يبحثون فيها عن الحقائق ليلتزموها، وإنما يجعلون منها مطية لأمزجتهم وأفكارهم ورغباتهم.
وهو ما يجعلهم محلا لتنزلات الشياطين كما ذكر الله تعالى ذلك عند وصفه لاستعداد الأفاكين لتقبل وحي الشياطين، ذلك الوحي الذي يسميه المغفلون [مشاريع فكرية] أو [اجتهادات تجديدية]، بينما هو في المصطلح القرآن [الإفك الآثم]
قال تعالى يذكر ذلك كله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 221 - 226]
ولذلك، فإن المشروع الحقيقي لشحرور هو تحريف القرآن الكريم، وتفريغه من محتواه، وتحويله إلى كتاب آخر، لا علاقة له بالشريعة ولا بالقيم التي أجمعت عليها الأمة بمدارسها المختلفة.
وقد طرح ملامح مشروعه في تلك الحصة الخطيرة المسماة [النبأ العظيم]، والتي تذيعها قناة [روتانا خليجية]، وهي قناة من تلك القنوات التي تستهدف تمييع المجتمع المسلم، ونشر الانحرافات الأخلاقية والفكرية، ليخرج المسلمون من إسلامهم وقيمهم بكل سلاسة.
فقد ذكر في الحصة الأولى من ذلك البرنامج منهجه في فهم القرآن، والذي انطلق فيه من مفهوم شرعي متفق عليه، وهو كون القرآن رسالة عالمية، أي أن البشر جميعا مطالبون بالتعرف على القرآن الكريم والالتزام بتعاليمه..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (81)
لكن شحرورا لم يفهم هذا، وإنما طالب القرآن الكريم بأن ينزل إلى مستوى العالم بشعوبه المختلفة، أي أنه (يجب أن يلائم كل الشعوب كالياباني والأمريكي).. وبذلك يجب أن يصبح تابعا للقيم العلمانية المعاصرة، حتى ترضى عنه تلك الشعوب، ويصبح تابعا لها، لا تابعة له.
ولأجل هذا راح يلوي أعناق النصوص بالحيل المختلفة، ليستخرج المفاهيم التي تتلاءم مع هذه القيم، وهو لن يحتاج أي شيء لتحقيق هذا، فيكفيه أن يبحث عن الجذر اللغوي للكلمات القرآنية، ثم يلجأ إلى القواميس يبحث فيها عن معنى يجده أكثر توافقا مع القيم العلمانية المعاصرة ليطبقه عليها.
ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك، ما فسر به قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]
فمع كون الآية الكريمة واضحة في دلالتها إلا أن شحرورا حاول أن يرضي بها أهواء معينة، فراح ينكر كون المراد بالنساء في الآية المفهوم المعروف المتداول، وإنما جعل من النساء ـ بحسب القاموس الذي اعتمده ـ مشتقة من [النسيء]، أو هي جمع كلمة [نسيء] التي تعني التأخير، ومن ثمّ يصبح المعنى: الأشياء المؤخّرة، أي الأشياء الجديدة المحبوبة للناس، أي بالتعبير المعاصر [الموضة]، أي أن الآية الكريم تذكر أن الناس حببت إليهم الموضة، لا النساء المعروفات.
وقد قال معبرا عن ذلك: (إنّ الآية فيها خبر عن جميع الناس، وليس العرب خاصة، ويجب أن يكون خبر الله صادقًا، ومن ثم يجب أن يتطابق قول الله مع حال العالم اليوم، والشيء الجديد محبوبٌ من قبل كل الشعوب، ومن ثم يكون معنى [النساء] جمع
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (82)
نسيء، أي الأشياء المؤخَّرة، أي الأشياء الجديدة)
ولست أدري هل حب النساء خاص بالعرب فقط.. ومن أوحى له بهذا، ونحن نرى أن قصص العشق والغرام مرتبطة بكل الشعوب، بل إن كل الشعوب اليوم لا تستثمر في شيء كما تستثمر في النساء باعتبارهن الوسيلة الأكثر قبولا من لدن البشر جميعا.
وهو لأجل هذا لا يتعامل مع القرآن الكريم باعتباره جملة، وإنما باعتباره مفردات متراصة، يمكنه أن يتحكم فيها كما يتحكم المهندس في البنيان، فيزيل ما يشاء من الجدران، ويضيف ما شاء منها.
ولهذا نراه يعزل السياق متى شاء، ويثبته متى شاء، ونزاه يعود لأسباب النزول، ثم سرعان ما ينكرها إن لم تتساير مع رغبته.. وهكذا في تعامله مع الأحاديث المطهرة، أو مع أقوال المفسرين أو اللغويين، فهو ينطلق دائما من النتيجة، ثم يبحث بعد ذلك عن الأدلة التي تخدمها.
ولذلك كان أحسن وصف له هو كونه مهندسا أفاكا.. فهو قد استعمل الهندسة والتفكيك وإعادة البناء، لأجل تمرير الإفك على المغفلين الذين يبحثون عن الجديد من غير أن يتأكدوا من سلامته.. فيكفي عندهم أن يكون جديدا.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (83)
بعد الانتكسات الكثيرة التي مر بها واقعنا العربي والإسلامي، وعند ظهور المدارس الثورية المختلفة، خاصة اليسارية منها، برز في مجتمعاتنا الإسلامية صنفان من الثورة، ومعهما صنفان من الثوار:
صنف رأى أن سبب التخلف هو البعد عن الإسلام وقيمه الحضارية النبيلة، وأننا نحتاج إلى العودة إلى الإسلام الأصيل، بمفهومه الصحيح، ونقيم ثورة على التخلف الذي استثمر بعض مفاهيم الدين ليشوه الدين والدنيا من خلالها.
وصنف رأى أن سبب التخلف هو الدين نفسه، فلذلك راح يحمل على الدين، ويدعو إلى البعد عنه، ويتصور أنه أفيون الشعوب، ومن هؤلاء من جاهر بذلك، ومنهم من استعمل التقية والحيلة وأصناف الخدع لتمرير ذلك، وكان منهم صاحب المشاريع الكثيرة [حسن حنفي] الذي يمكن تلخيص مشاريعه جميعا في العبارة التي ذكرناها في العنوان، وهي [الثورة على الدين]
والميزة التي تميز بها على الكثير من الثوار على الدين أنه يملك ذكاء حادا، جعله لا يقع فيما وقع فيه أولئك المغفلون الأغبياء الذين جاهروا بإلحادهم، وصرحوا به، وادعوا صراحة تبنيهم للفكر اليساري بمنظومتة العقدية والاجتماعية، لأنه يعلم أن أولئك سيرمون في النفايات، ولن يلتفت لهم أحد.
ولذلك راح يستعمل مصطلحات الدين نفسها ليضرب الدين؛ فزعم أنه متكلم وأصولي وفقيه.. وراح يتحدث عن القضايا المختلفة كما يتحدث عنها رجال الدين أنفسهم، ويستعمل نفس تعبيراتهم.. حتى أن الكثير جلس للتلمذة بين يديه كما يجلس
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (84)
بين يدي المشايخ.
لكن الحقيقة لا يمكن أبدا أن تطمسها الألفاظ، كما قال تعالى عن المنافقين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 1، 2]
وهاتان الآيتان الكريمتان تعبران عن المشروع الذي يحمله حسن حنفي ويدعو إليه أحسن تعبير، فهو في ظاهره وبدايته ومقدماته ينطلق من العقيدة والشريعة الإسلامية، لكنه في باطنه ثورة عليهما، ودعوة للتملص منهما، والعبرة عند العقلاء بالنتائج لا بالمقدمات، وبالنهايات لا بالبدايات.
وتبدأ ثورته على الإسلام من ذلك المنهج البراغماتي الذي اعتمده، ودعا إلى استعماله، واستطاع أن يمرر مشروعه من خلاله.. وهو أن يُنظر إلى الإسلام، لا باعتباره دين الله، وأنه حقيقة مطلقة دلت عليها الأدلة العقلية، وأثبتتها أصناف الحجج، وإنما من كونه مادة يمكن استثمارها والاستفادة منها في تغيير المجتمع وتوجيهه.
وليته اكتفى بذلك، بل راح يدعو إلى استثمار التوجه الديني، لا بتعميقه، وتصحيحه، وإنما بتحريفه عن مساره تحريفا كاملا، لتتحول العقيدة إلى ثورة، ويتحول الإله إلى إنسان، ويتحول كل شيء في الدين إلى وسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي والرفاه الاقتصادي باعتباره الغاية الكبرى، لا رضوان الله، ولا جنته، ولا تحقيق السعادة الأبدية التي تحن إليها كل النفوس، ولا ترقية الروح لتتصل بالملأ الأعلى، وتتحقق بما يتطلبه ذلك المحل الرفيع من سمو وروحانية.
ولذلك فإن أقرب المفكرين إليه هو [وليم جيمس] ذلك الفيلسوف البراغماتي
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (85)
الأمريكي، صاحب [إرادة الاعتقاد]، والقائل: (إن الاكتشاف الأعظم الذي شهده جيلي والذي يقارن بالثورة الحديثة في الطب كثورة البنسلين هو معرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حياتهم عبر تغيير مواقفهم الذهنية)، والذي قال في كتابه [البراغماتية]: (إن الحقيقي فى أوجز عبارة ليس الا النافع الموافق للمطلوب فى سبيل تفكيرنا تماما، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب فى سبيل مسلكنا، وحيازة الحقيقة بعيدة كل البعد على أان تكون غاية فى ذاتها، فهى لاتزيد عن كونها مجرد وسيلة أو إرادة أولية لبلوغ الإشباع والرضا والسرور.. كما أن الحقيقة نفسها فى حالة تغير وتبديل وانتقال)
وهكذا، وبنفس الأسلوب عبر حسن حنفي عن مشروعه التجديدي حين قال: (مهمة التراث والتجديد إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة، بل ووضع احتمالات جديدة، واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد صواب وخطأ نظري للحكم عليها، بل لا يوجد إلا مقياس عملي، فالاختيار المنتج الفعال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب، ولا يعنى ذلك أن باقي الاختبارات خاطئة، بل يعنى أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى وعصور أخرى ولت أو مازالت قادمة) (1)
وبناء على هذا راح يصيغ أفكاره حول العقيدة والشريعة، والتفسيرات الجديدة لهما، والتي يرى أنها تتناسب مع هذا العصر الجديد، وهي بمجموعها ليست سوى تفريغ للإسلام من محتواه، بحيث لا يبقى منه إلا الأسماء، أما المسميات، فتتغير تغيرا تاما.
ومن الأمثلة على هذا التفريغ، أو على هذه الثورة على حقائق الإسلام قوله: (فالله الواحد الذي ليس كمثله شيء، والذي لايرى ويرى كل شئ، ليس هو بالضرورة
__________
(1) التراث والتجديد، حسن حنفي.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (86)
التصور الوحيد لله كما نعلم من تاريخ العقائد، فهناك الله الحسي المجسم، محل الحوادث، عند الكرامية والمشبه على اختلاف فرقهم، وليس بالضرورة أن يكون التصور الأول صحيحا والثانى باطلا، إذ يعكس التصوران صراعا قويا، وقوة السلطان الذى ليس كمثله شئ وقوة المعارضة التي تجعل حركة التاريخ جزءا من الألوهية، أما الصفات التى تجعل الله يسمع ويرى ويبصر كل شيء، فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسى خالص للسلطة، والتى هى بدورها ترى وتسمع وتبصر كل شيء) (1)
وهكذا يعبر عن القرآن الكريم والوحي الإلهي، فهو عنده مجرد افتراض لا يمكن التحقق منه إلا بمدى خدمته للواقع، فيقول: (أما الوحي بالنسبة لي، فإنني آخذه على سبيل الافتراض. أنا في رأيي؛ الوحي هو افتراض في البحث العلمي، يقوم بدور الافتراض في البحث العلمي. فهل يتحقق؟ والتحقق من الصدق. أقصد التحقق تجريبيًا صِرفًا وليس صوريًا، لا اتفاق نتائج مع مقدمات، ولكن التحقق من صحة هذا الفرض في الواقع الاجتماعي. ومن ثم فأهلًا وسهلًا، أنا أتقبل كل النبوات وكل الوحي وكل الآراء. وعليّ أن امتحنها على محك الواقع) (2)
ويؤكد هذا المعنى بقوله: (نصوص الوحي ليست كتابًا أُنزل مرة واحدة مفروضًا من عقل إلهي! ليتقبله جميع البشر. بل مجموعة من الحلول لبعض المشكلات اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة) (3)
وهو بهذه الطريقة من التفكير يردد نفس ما ردده [وليم جيمس] حين قال: (إننا
__________
(1) التراث والتجديد، حسن حنفي.
(2) الإسلام والحداثة (ص 220،219)
(3) التراث والتجديد (135)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (87)
بدلا من أن نتسائل عما يسير الأشياء، وهل هي المادة أم الله؟ يجب أن يكون تساؤلنا كالتالي: ماهو الفرق العملي الذي يمكن أن يحدث الآن إذا قدر للعالم أن تسير دفته بواسطة المادة أو بواسطة الله؟ إننا في مقدورنا أن نتمتع بإلهنا إذا كان لدينا إله)
ولهذا كانت مشاريعه جميعا مشاريع ثورية تحاول أن تحافظ على الأسماء مع تغيير المسميات، بناء على تصورها أن الدين والتراث ليسا سوى نتيجة للواقع السياسي والاجتماعي الذي مرت به الأمة في مراحلها المختلفة.
ولهذا نجد هذه العناوين في كتبه ومشاريعه: (التراث والتجديد)، و(من العقيدة الى الثورة)، و(من النص الى الابداع)، و(التراث والعصر والحداثة)، وهي كلها مشاريع لا تريد التجديد أو الإبداع بمفهومة المعروف، وإنما تريد إلغاء القديم وإحلال مفاهيم جديدة بدلها لا علاقة لها بها.
فمهمة المفكر في التعامل مع التراث ـ على حسب ما يصور ـ هو (أن يعيد قراءته بحيث يعيد إليه تعدد الاختيار بين بدائله حتى يستقر على وجه آخر أصلح للناس وأنفع لهم)
ولذلك فإن المنطلق عنده في التعامل مع التراث ليس البحث في ذاته، والتحقيق فيه، وفي مدى عقلانيته وعلميته، على أسس علمية وموضوعية بحتة، وإنما في الانطلاق من الواقع والمجتمع، لتخير ما يتناسب معهما، فإن لم نجد نبتدع ما يتناسب مع المجتمع، وهو نفس ما عبر عنه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]
فهذا الصنف الذي ذكره القرآن الكريم هو الذي ينظر إلى الدين، لا باعتباره
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (88)
حقائق واقعية، وإنما باعتباره وسائل نفعية، يمكن الاستفادة منها، واستثمارها في الدنيا وللدنيا، فإن تحقق الاستثمار، فبها، وإلا رمي كما يرمى كل شيء لا منفعة فيه.
وهكذا يدعو حسن حنفي إلى تطوير الدين، بحيث يتحول إلى وسيلة للدنيا، وللرفاه، لا وسيلة للتعرف على الحقائق، والسلوك وفق مقتضياتها.
ولهذا، فإنه بعد بحثه في التراث والتاريخ، وجد أن (المعتزلة أفضل من الأشاعرة بالنسبة للعصر، فحاجتنا إلى العقل والحرية.. والدفاع عن الفلسفة القديمة وحكمتها المنطقية والطبيعة والإلهية أفضل من رفضها)
وهو يذكر ذلك ليوهم القارئ أنه يفضل المعتزلة على الأشاعرة، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهو يرفضهما جميعا، لأنه يصور أن الواقع الحالي يحتاج تطورا أكثر، وجرأة أكثر في التعامل مع الحقائق الدينية، ولذلك طرح البديل عن علم الكلام المعروف بما سماه: لاهوت الثورة، ولاهوت التحرير، ولاهوت التنمية، ولاهوت التقدم، والتي يرى أنها جميعا (لا تقل شرعية عن نظرية الذات والصفات عند الاشاعرة، أو عن أصلى التوحيد والعدل عن المعتزلة)
أو كما عبر عن ذلك في كتابه [الحداثة والمعاصرة] بقوله: (والحقيقة أن الطبيعات والالهيات علم واحد مرة مقلوبا إلى أسفل فتصبح الطبيعات، ومرة مقلوبا إلى أعلى فتصبح الإلهيات)
ولهذا، فإن الله عنده (هو الثابت فى الكون، والعالم هو الحركة فيه واجهتان لشئ واحد.. لا يوجد إلا العالم، والله هو دوامه وبقاءه واستمراره وقوانينه وسنته الثابتة، وإذا كان الطريق إلى الفوز والنجاة والسعادة الأبدية فى نظرية الخلق هو تطبيق الشريعة وممارسة الشعائر.. فإنه فى نظرية قدم العالم العلم بقوانين الطبيعة من أجل السيطرة
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (89)
عليها وتسخيرها)
وبناء على ذلك، فإن الاعتبار الأساسي عنده ليس لله، ولا لوحيه، ولا لشريعة، وإنما للمجتمع، فـ (المجتمع أولاً والوحي ثانياً. والناس أولاً والقرآن ثانياً) (1)
أو كما عبر عن ذلك تحت عنوان [أنساق العقائد والنظم الاجتماعية] بقوله: (يمكن إفراز أنساق عقائدية جديدة تلبى مطالب الظروف الحالية وتطلعات أجيالنا الى التحرر والحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة والتنمية وتأصيل الهوية وحشد الجماهير. هم (القدماء) رجال ونحن رجال نتعلم منهم ولانقتدى بهم. يمكن أن يكون الله هو الأرض حرصاً من على تحرير الأرض وربطها بالألوهية وكما هو وارد بنص القرآن {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، ويمكن أن يكون الله هو الخبز والحرية تعبيرا عن حاجتنا إلى الغذاء والأمان طبقا لنص القرآن {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]) (2)
وبناء على هذا كله، فإن الدين عنده ليس سوى منتج حضاري، يمكن تطويره بحسب الظروف المختلفة، بل يمكن هدمه من جذوره، وبناء دين جديد على أساسه، لتتحقق المنفعة التي هي الهدف الأكبر من الدين.
وقد قال بصراحة معبرا عن ذلك: (نشأ التصور الواحدى فى مجتمع جاهلى قبلى تتناحر فيه القبائل تعبيرا عن حاجة وتلبية لمطلب لدى مجتمع محدد فى لحظة تاريخية معينة) (3)
__________
(1) الحداثة والمعاصرة، حسن حنفي.
(2) الحداثة والمعاصرة، حسن حنفي.
(3) الحداثة والمعاصرة، حسن حنفي.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (90)
وقال في كتابه [دراسات إسلامية]: (علم العقائد إذن اختيارات سياسية محضة، وليس علما مقدسا، وكل ظروف تفرض اختياراتها، وقد تتم تحت ظروفنا الحالية اختبارات أخرى. قد يكون من صالح الأمة الآن الدفاع عن الله وتصوره باعتباره أرضا درءا للاحتلال وتحريرا للأرض)
وهكذا يتحول الدين عنده من دين يبحث عن الله، وإقامة الصلات الروحية به إلى دين يبحث في الإنسان الذي يعتبره صانعا لله، وليس الله هو الصانع للإنسان.
ونحب أن نبين هنا أن حديثه عن التراث لا يعني به ما أنتجه المسلمون طيلة تاريخهم من أبحاث في الفقه والعقائد والتفسير وغيرها فقط، وإنما يعني به القرآن الكريم والسنة المطهرة أيضا، فهي عنده من التراث الذي يحتاج إلى انتقاء وإعادة قراءة، لا على أسس علمية، وإنما على أسس براغماتية.
وبناء على هذا المنهج البراغماتي، يتحدث عن النبوة قائلا: (وهل تجب النبوة لحاجات عملية أي للتنفيذ والتحقيق وأداء الرسالة مادام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان، ألا يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة الإمام لها، هناك أيضا العقل الاجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع.. إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يند عن العقل. هل استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص الإنسان وهي أول من يعترف بها؟)
وبناء على ذلك ينكر أن يكون في القرآن أي شريعة، فيقول: (ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد، بل مساعدة الطبيعة على الازدهار والحياة على النماء)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (91)
وبناء عليه أيضا يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره زعيما براغماتيا لا رسولا يحمل الحقائق والقيم المطلقة؛ فيقول: (النبي محمداً كان يحمل هم الوحدة الوطنية للقبائل العربية وتكوين دولة في الجزيرة العربية، وكانت له مشاكل مع اليهود والنصارى ومع المشركين أيضا، فجاء المشركون إليه بعرض جيد، وقالوا له: نعم أيها الأخ، ما المانع أن تذكر اللات والعزى لمدة سنة واحدة، وقل أنهم ليسوا آلهة.. فقال بينه وبين نفسه: إن هذا العرض يشكل بالنسبة لي كزعيم سياسي شيئا جيد، لأنه يحقق لي مصالحة مؤقتة مع العدو، وماذا يعني لو أنني ذكرت اللات والعزى لمدة سنة واحدة ثم أغير بعدئذ؟)
أما أحاديثه عن الله، فهي لا تختلف كثيرا عن مقولات اليساريين، ولو أنه يحاول كل حين تهذيبها حتى لا تصطدم بأولئك الذين يقدسونه دون أن يدركوا أهدافه، فهو يتحدث عن علماء الكلام وحديثهم عن الله قائلا: (مع أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن الإنسان الكامل؛ فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكَبَّر إلى أقصى حدوده)
ويقول: (إن لفظ (الله) يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتباره مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات، مطلقاً يراد التعبير عنه بلفظ محدود)
ويقول: (فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضاً عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله)
ويقول: (ومن ثم فتوحيدنا هو لاهوت الأرض، ولا هوت الثورة، ولا هوت التنمية، ولا هوت النظام، ولا هوت التقدم، كما هو الحال في العديد من الثقافات المعاصرة في البلاد النامية التي نحن جزء منها)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (92)
وبناء على ذلك كله؛ فإن النتيجة التي يرمي إليها من خلال مشاريعه جميعا، وهي نفس النتيجة التي ينطلق منها جميع التنويريين الجدد، هي إقصاء الدين إقصاء كليا من الحياة، وفي جميع مستوياتها، وقد عبر عن ذلك بقوله: (فإن قيل إن التراث والتجديد سيؤدي حتماً إلى حركة علمانية وفي العلمانية قضاء على تراثنا القديم ومورثاتنا الروحية وآثارنا الدينية، قيل قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوة طبيعية تقوم على أساس رفض الصور الخارجية وقسمة الحياة إلى قسمين واستغلال المؤسسات الدينية للجماهير وتوطينها مع السلطة وحفاظها على الأنظمة القائمة نشأت العلمانية استرداداً للإنسان لحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك ورفضه لكل أشكال الوصاية عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير، العلمانية إذن رجوع إلى المضمون دون الشكل وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته وإلى الإنسان دون غيره.. العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره والدونية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ما هي إلا رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا هي الأساس واتهامها باللادونية تبعية لفكر غريب وتراث مغاير وحضارة أخرى)
وهو بهذا يردد نفس ما ردده الماركسيون والوجوديون وجميع الملاحدة حين يعتبرون وجود الله إلغاء لوجود الإنسان، ويعتبرون شريعة الله كبتا واغتصابا لحرية لحرية الإنسان، ولذلك فإن أحسن تعبير عن مشروع حسن حنفي هو [الثورة على الدين]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (93)
من المظالم العظيمة التي تسلط على الشيعة خصوصا دون غيرهم إلصاق كل من لبس العمامة السوداء أو البيضاء بهم، وحمله عليهم، واتهامهم جميعا به، فإن ظهر راقصا في حفلة، فعلماء الشيعية وملاليهم جميعا راقصون، وإن سب الصحابة وأمهات المؤمنين، فهو عندهم ناطق رسمي باسم جميع علماء الشيعية وفقهائهم، ولو تبرأ من قوله جميع المراجع، وظهرت البيانات الموقعة من جميع العلماء ترد ذلك، وتكذبه.
ولا نجد هذه التهمة في المدرسة السنية، حيث أنه إن ظهرت فضيحة من أي جهة؛ فإن المدرسة جميعا، تنسب الأمر لأصحابه فقط دون من عداهم، فالإرهابيون ـ مع كونهم من المدرسة السلفية خصوصا كما تصرح بذلك كتبهم وأحاديثهم ـ إلا أنهم لا يحملون على السلفية، ولا على المدرسة السنية جميعا..
وهكذا فإن حداثيي المدرسة السنية وتنويرييها لا يحملون على المدرسة السنية، بل يُعتبرون من المنحرفين عنها، ولم يوجه أحد من الناس التهمة للمدرسة السنية بكونها تتبنى أطروحات شحرور ولا أركون ولا الجابري ولا غيرهم.
إلا القبانجي، ذلك المعمم التنويري الحداثي الذي هو أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإسلام؛ فإنهم يعتبرونه بسبب تلك العمامة التي وضعها على رأسه، وبسبب البيئة التي ولد وعاش فيها مفكرا شيعيا.. ولست أدري هل يمكن لمتشيع أن ينكر الجنة والنار، وأن يقول بكل تلك الطروحات التي لم يقل بها شيعي في التاريخ جميعا.. ومع ذلك يحمل على الشيعة رغم أنوفهم كما حمل ياسر الحبيب، واللهياري وكل دجال وأفاك، لأن الحاكم ليس العقل ولا المنطق، ولا العدل، وإنما الحقد الذي نهانا الله عنه؛ فقال: {يَاأَيُّهَا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (94)
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
ولذلك، فإن خطور القبانجي لا تكمن في الأفكار التي يطرحها؛ فمثلها كثير في البيئة السنية، وإنما في تلك العمامة السوداء التي يلبسها، والتي يخيل لكل من رآها أنه أمام مفكر ومرجع وداعية شيعي، فلذلك يحمل كل كلماته عليهم ظلما وزوروا وبهتانا.
لذلك آثرنا أن نتحدث عنه هنا، لنطرح فكره من جهة ـ باعتباره نموذجا للمدرسة التنويرية ـ ولننفي المظلمة عن المدرسة الشيعية التي يضع عليها الحاقدون كل النفايات، وينسون أن ينسبوا إليها أي مكرمة، لأنها في نظرهم شر محض.
وأحب أن أبين قبل أن أتحدث عنه، بأن النظام الذي رعاه، وقدره، وساهم في نشر فكره هو النظام العربي الخليجي المتمثل في دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما النظام الذي واجهه، وانتقده، بل أدخله السجن بسبب أفكاره الخطيرة التي كان ينشرها هو النظام الإيراني (1).. ثم يأتي بعد ذلك الناعقون ليذكروا أن أفكاره التي يطرحها هي أفكار إيران، لا أفكار الإمارات.
فقد كان أول ما بزغ نجم هذا القبانجي في دولة الإمارات عام 2010 م، حينما استدعي من طرف ولي عهد أبي ظبي ليلقي محاضرة بعنوان [الإسلام الأصولي والإسلام الحداثي]، والتي انتقد فيها الأحزاب والجماعات الإسلامية ذات التوجهات السياسية، حيث اعتبرها مسؤولة عن أفكار الاستبداد والانغلاق المعرفي الذي تعاني منه الشعوب العربية.
__________
(1) في 2013 م، اعتقلته السلطات الإيرانية، لإشهاره لطروحاته بين طلبة العلم، ولتشكيكه في أساسيات الدين، لكن المظاهرات المؤيدة له والتي اندلعت في البصرة وبغداد، كان لها دور كبير في الإفراج عنه وإطلاق سراحه.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (95)
وقد أعلن عنه حينها بأنه المفكر والباحث الكبير، وكان ذلك مقدمة لإشهار أفكاره في أبي ظبي وغيرها، مثلما كانت منطلقا لإشهار كل تلك الأفكار التي لا تهدم الجماعات الإسلامية فقط، بل تهدم معها الإسلام أيضا.
وبغض النظر عن المصدر الذي نشر أفكاره، وساهم في الدعوة إليها، فإنه السهولة لأي عقل ناضج أن يقرأ أو يستمع لتلك الطروحات التي يطرحها، ثم يقارنها بموقف علماء الشيعة ليتبين الحقيقة، ويعلم أن تلك العمامة التي يلبسها ذلك القبانجي ليست سوى عمامة مدنسة بالتنوير المزور، والأهواء المجردة.
فهل وجدتم ـ يا من تحملون هذا القبانجي على الشيعة ـ أحدا من علمائهم ومراجعهم يقول: (إن الجنة والنارهي خلاف العقل ولا وجود لها، وإن ورود جهنم في القرآن هو لتخويف الانسان فقط، والوعد بالجنة هو لترغيب الانسان كي ينجذب الى الدين والايمان بالاسلام وبرسوله وكتابه) (1)
أو يقول: (في الجنة لايوجد كرم أو إيثار أو مواساة أو التنافس على العمل ولا إبداع او عمل الخير، فالناس في الجنة لا شغل لهم سوى نكاح الحوريات وشرب الخمر والعسل واللبن من الانهار، حيث لا وجود للصفات الانسانية هناك وهذه حياة حيوانية)
أو يذكر بأنه إذا عرضت عليه الجنة، فسيرفضها، وسيكون سعيدا إذا ذهب إلى جهنم.
وهل رأيتم عالما أو مرجعا شيعيا يردد بأن الأحكام الشرعية (كانت صالحة في
__________
(1) انظر هذه النص وغيره في مقال بعنوان: الاسلام العقلاني والليبرالي عند الشيخ احمد القبانجي، صباح إبراهيم، الحوار المتمدن-العدد: 3569 - 2011/ 12 / 8 - 08:35، وهي موجودة في محاضراته على اليوتيوب.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (96)
زمان النبي وبدء ظهور الاسلام، وهي لاتصلح لكل زمان ومكان، فالآيات جاءت لظروف محدودة ولزمن معين)، وهو نفس ما يردده أكثر التنويريين الموجودين في البيئة السنية.
وهل سمعتم عالما شيعيا يردد ما يقوله هذا القبانجي: (إن ماجاء به محمد ليس كلاما إلهيا وليس من الله، بل كلام ناتج عن عمق اتصاله مع الله ومع الناس؛ فأخذ يصوغ للناس كلاما نورانيا من ذهنه، وليست نصوصا مبلغا بها من الله)
وهل سمعتم أحدا منهم ـ وهم الذين يقولون بالعصمة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وللأنبياء جميعا، بل يضيفون إليهم حتى أئمة أهل البيت ـ يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له أخطاء علمية كثيرة، وأن من أخطائه (اعتبار الارض مسطحة، وكان يعتقد أن القمر خُلقَ ليكون مواقيت للناس فقط، حيث لايستعمل الآن للتوقيت لوجود التقاويم الحديثة والساعات وغيرها من الأجهزة، وأخطأ القرآن في أسباب خلق الجبال، فاعتبرها رواسي للأرض لاعتقاده أن الأرض تطفو على سطح المياه وبحاجة للرواسي كي لا تميد وتنزلق، وهذا ما ينفيه العلم الحديث)
وهل سمعتم أحدا منهم يردد قوله: (قال النبي محمد: [إن الله هو الضال والهادي]، فكيف يدعو الله الى الخير والشر، وهذا محال أن يناقض الله نفسه)
أو يقول: (إن ثقافة محمد ومعارفه استقاها من القس النصراني ورقة بن نوفل والأحبار اليهود وقسس النصارى الذين كانوا يلتقون به خلال أربعين سنة قبل البدء بدعوته، وأنه تزوج النصرانية خديجة بنت خويلد ابنة عم القس ورقة بن نوفل على الطقوس النصرانية، حيث أنه لم يطلقها ولم يتزوج عليها كما توصي تعاليم الدين المسيحي حيث عقد القس ورقة بن نوفل بنفسه عقد قِران محمد على خديجة بحضور
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (97)
عمه أبي طالب ولي أمر محمد)
أو يقول: (نحن لانحتاج الى الله خالق السماء والأرض، بل نبحث عن الله الخير نبحث عن الرب)
أو يقول: (ثبت أن القرآن ليس من الله لوجود الكثير من الأخطاء والتناقضات واللابلاغية واللاأخلاقية واللاعلمية فيه.. ويصف القرآنُ اللهَ بأنه جبار وماكر وغضوب وأن محمد يجسد الله ويجلسه على عرش وكرسي، وأن الله يعذب ويظلم ويستهزئ ويمكر ويأمر بالفسق والقتل وينتقم ويضل من يشاء، وهذه كلها صفات بشرية يتنزه الله عنها، ثم يناقض محمد نفسه ويصف ربه انه ليس كمثله شئ.. لذلك فإن القرآن هو تفسير محمد لكلام الله، وليس هو كلام الله.. فالآيات القرآنية هي صياغة بشرية لما يراه النبي من تفسيرات وجدانية.. والقرآن كتاب خطابي وليس فلسفي.. وهو كلام موجه للهمج من العرب، وأدلته ضعيفة.. وكل ماجاء به من الأحكام والشرائع وقصص الأنبياء مستوحى من التوراة والانجيل والتراث المكتوب ما قبل الاسلام وليس فيه شئ جديد)
أو يقول: (إن محمدا هو من ابتدع فكرة أن يكون خاتم الانبياء وقد انتظر 18 سنة كاملة حتى أتى بسورة الاحزاب {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] لأنه كان يعتقد أنه سيرزق بولد ليكون خليفته ونبيا من بعده، ولما يئس من أن يرزق بولد ذكر، قال: (لانبي من بعدي) لخوفه من ظهور أنبياء جدد منافسين كمسيلمة وسجاح ويغيروا من دينه وينكروا نبوته من بعده)
أو يقول: (إن ختم النبوة بمحمد يتنافى مع الحكمة الإلهية.. وأن القرآن ذكر أن الله سيرسل رسلا لهداية البشر بعد محمد.. وهذا يدل على استمرار ارسال رسل آخرين
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (98)
قبل وبعد محمد، حيث لا يعقل أن ينقطع اتصال الله بالبشرية حتى قيام الساعة)
أو يقول: (كان الاسلام كاملا في زمان محمد، والآن يعتبر الإسلام ناقصا لتطور المجتمعات والحضارة والقوانين التي لا تنطبق عليها أحكام وشريعة الاسلام الغابرة، فلا يجوز أن تُعتبر اليوم المراءة مساوية لنصف الرجل في الارث والشهادة، وهي تدير حكومات ووزارات وأبحاث علمية، وتذهب في رحلات للفضاء الخارجي، ولا يجوز اليوم معاقبة إنسان ما بقطع يده أو عنقه بالسيف)
أو يقول: (لو كان القرآن هو المحرك للعقل البشري للتطور والتقدم لكان المسلمون أرقى شعوب الأرض حضارة ورقيا، ولكن العكس هو الصحيح؛ فالحضارة ظهرت في أوربا بأبهى أشكالها وأفضل قوانينها، وبقى المسلمون متخلفين لحد الآن بسبب اتباعهم لأوامر القرآن والشريعة)
وغيرها من المقولات الكثيرة التي يحملها بعض الحاقدين على الشيعة مصورا أنها مقولاتهم، لسبب بسيط، وهو أن قائل كل تلك الهرطقات رجل قد لبس العمامة التي تعود طلبة العلم في البيئة الشيعية أن يلبسوها، كما تعود طلبة الأزهر والزيتونة والقرويين وغيرها أن يتميزوا بلباسهم الخاص.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (99)
ما الذي أنكره على عدنان إبراهيم؟
يتصور البعض أننا عندما ننتقد شخصا، أو ننكر على جهة، أننا ننكر كل شيء فيها، وننتقد كل ما يصدر منها، وهذا وهم كبير، فليس هناك باطل مجرد، بل الحق يختلط مع الباطل، ونحن نحتاج إلى التمييز بينهما، وقد نضطر في بعض الأحيان إلى ذكر الأسماء حتى يحصل ذلك التمييز، وحتى يزول الالتباس.
وقد فعلنا ذلك مع عدنان إبراهيم في الفترة الحالية بعد أن كنا ننكر عليه تلميحا لا تصريحا.. لكن بعد تحوله إلى قيادة اجتماعية، أو ـ يتعبير مالك بن نبي ـ[صنم فكري]، أصبح من الضرورة ذكر اسمه، للتنبيه والنصح إلى أن يؤخذ كلامه في المسائل العلمية أو السياسية باحتراز شديد، حتى لا يقع محبوه ضحية التقديس لشخصه.. وحتى لا يكونوا كالذين هربوا من وثنية قديمة إلى وثنية جديدة.
بناء على هذا، فإن الذي أنكره على عدنان إبراهيم أربعة أمور:
أولها ـ الجرأة على الحديث على مسائل كبيرة في العلم والدين من غير تحقيق كبير، بل نراه يلقي رأيه أمام وسائل الإعلام، ثم يدعمه ببعض الأدلة الخطابية، لا العلمية، ولا العقلية، لأنه يعلم أن جمهوره سيقبل منه ذلك بسهولة، بل سيبني عليه أحكاما كثيرة، لأنه يريد أن يسمع كل مرة جديدا، ولا يهمه البحث المفصل فيه، ولا في أدلته.
وهذا منهج غير صحيح في طرح القضايا العلمية، ذلك أنها تحتاج طرحا مفصلا للأدلة، ومناقشة علمية هادئة لأدلة المخالفين، وكل ذلك بطريقة علمية ممتلئة بالهدوء.
والمشكلة الأكبر ليس في تلك الطروحات، وإنما في إثارة عامة الناس ممن لم تكتمل لهم أدوات الاجتهاد والبحث ليتحدثوا في كل شيء، ويناقشوا كل شيء من غير
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (100)
بذل جهد في البحث والمراجع، ومطالعة المطولات.. فقد عودهم على الوجبات السريعة، والحديث في القضايا الكبرى في أقل وقت ممكن.
ثانيها ـ أنه يعيش في أوروبا، ويخطب من على منابرها، ولديه الكثير من الفرص الإعلامية التي تتيح له الحديث عن قضايا الأمة التي لا ينبغي السكوت عليها، لكنه لم يفعل.. وقد ذكرنا أنه في الوقت الذي حصل فيه العدوان الثلاثي على سورية، كانت خطبته حول الترحم على هوكينغ، بل كانت صفحته كلها دعاية لهوكينغ..
ومثل ذلك موقفه من اليمن الذي يُقتل أطفاله، وتُدمر بيوته ومؤسساته، ويلقى من الظلم ما لم يلقه بلد في التاريخ.. ومع ذلك لم نجده يتكلم كلمة واحدة في نصرة ذلك الشعب المظلوم، مع أن مؤسسات حقوقية كبرى تحدثت عنه، ومع أنه في بلد يتيح له أن يتكلم في كل شيء بحرية كبيرة.
ثالثها ـ أنه مع عدم كلامه في السياسة ـ كما يقول أتباعه ـ الذين يريدون تبرير مواقفه من السكوت عن الاعتداءات على سورية واليمن نراه يمجد كاذبا السعودية، ويزعم أنها تسير الآن في الطريق الصحيح.. ويثني ثناء عطرا على أمرائها.
ولسنا ندري سر هذا.. ولا مدى علميته.. وهل يكون دفع مئات الملايير من الدولارات لأمريكا وفرنسا وغيرهما تحضرا؟.. وهل جلب المطربين والممثلين والمهرجين، وفتح دور السينما هي الحداثة التي يريد أن نسير عليها؟
ومثل ذلك موقفه من حكام آخرين للخليج هو يعلم تماما أنهم لم يقدموا لا لشعوبهم، ولا لأمتهم شيئا، بل لم يقدموا لها إلا الخراب.. ومع ذلك يثني عليهم، ويذم أعداءهم لا الإسرائيليين، وإنما أعداءهم من المسلمين.
ولهذا صرت أخاف أن يخرج علينا في يوم من الأيام بخرجة جديدة يقول فيها:
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (101)
(بعد البحث الطويل تبين لي أن عداوتنا لإسرائيل لا مبرر لها.. بل يمكننا أن نتحول إلى أصدقاء، فنستفيد من خبرتها وتجربتها.. والأدلة على ذلك..)، ثم يسوق من الأدلة ما تعود أن يسوقه.
ولا أقول هذا مجازفة.. ولكن كل شيء يدل عليه، لأن الأرضية أصبحت مهيأة من الناحية النفسية، كما ذكرت ذلك بتفصيل في المقالات الكثيرة التي ترد على تلك السماحة الزائدة التي خرجت عن حدودها الشرعية، والتي أصبح أتباعه فيها يترحمون، ويثنون ويقدسون ملاحدة العالم في نفس الوقت الذي يلعنون فيه علماءهم وتراثهم وكل شيء ينتمون إليه.
رابعها ـ أن الاهتمام الزائد به، والذي يوليه جمهوره له حجبهم عن كثير من الشخصيات العلمية، وهو ما يحرمهم من العلم والتحقيق وفهم الإسلام بصورته الشاملة.. ذلك أن الإسلام أعظم من أن يحيط به شخص واحد.
ولهذا عندما كنت أكتب أي شيء في الرد على بعض أطروحاته تقوم قيامة أتباعه، مع أنهم يعلمون أني باحث لا أقل عنه، بل أنا متخصص، وأكثر تفرغا ودراسة ومطالعة بحكم ظروفي، ولكنهم يتصورون أن الإعلام هو الذي يصنع الأعلام، وهو الذي يقرر من يكون باحثا ومجددا وعالما.
وعندما ضربت المثال بشخصي الضعيف، لم أقصد شخصي الضعيف، فهناك الكثير من العلماء المحققين المجهولين الذين لم يصلوا إلى الناس، لأنهم لم يمدوا يدهم لمصافحة الوليد بن طلال، ولا غيره من مجرمي العالم.. ولذلك لم تكن هناك كاميرات تسلط الضوء عليهم، أو جهات تتبناهم، فهُجروا لا لقلة علمهم، وإنما لأن العيون لا تهفو إلا لمن يظهرون على وسائل الإعلام.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (103)
التنوير.. والتفسير المزاجي للإسلام
من مظاهر التنوير الجديد، والتي لا تتناسب تماما مع مفهوم الإسلام والتسليم المطلق لله، ذلك التفسير المزاجي للإسلام، والذي ينطلق من الأنا والمزاج وتأثيرات البيئة قبل أن ينطلق من مصادر الإسلام المقدسة التي تبين حقيقته، وتوضح مراد الله منه.
فلهذا لا نتعجب من التنويري إن خالف النصوص القطعية الصريحة من القرآن الكريم، أو السنة المطهرة، وفسرها بحسب مزاجه، لا بحسب حقيقة الأمر.. لأنه لا ينطلق من الموضوع وإنما ينطلق من الذات، ويستحيل على من امتلأ بأهواء الذات أن يكون موضوعيا، أو أن يصف الحقيقة كما هي.
وحتى يتخلص التنويري من هذه الأهواء عليه أن يقرأ المصادر المقدسة بعيدا عن نفسه، وعن بيئته، وعن الظروف التي يعيش فيها، ليفهم المقدس بطهارته وصفائه وسموه، ولا يخلطه بأي شيء، ولا يملي عليه شيئا.
وليفعل هذا عليه أن يفهم الإسلام باللغة التي فهمها به إبراهيم عليه السلام، والذي ذكر الله تعالى أنه هو الذي اختار هذا الاسم، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]
بل ذكر الله تعالى أنه هو الذي عرّف هذا الاسم تعريفا فعليا واقعيا واضحا، وذلك عندما أمر بذبح ابنه في رؤيا منامية.. حينها كان يمكن ـ لو كان إبراهيم عليه السلام تنويريا ـ أن يصيح بملء فيه: (يستحيل أن يصدر هذا الأمر من الله الرحمن الرحيم).. ثم يستعيذ من تلك الرؤيا، ويعتبرها وساوس شيطانية أنشأها شياطين
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (104)
الدجل في عقله الباطن.
أو ربما يتنازل، فيعتبرها رؤيا ملكوتية، لكنه يؤولها بما يفعله الكثير من التنويريين؛ فيفسر الذبح بذبح التخلف والفقر والسلبية ونحوها.. أو يفسرها بذبح كل تحكم أو توجيه لابنه ليتركه يعيش حياته الطبيعية، وكأنه من غير أب، وكأن الأب من غير ابن..
ويمكنه أن يفسرها بما تعود التنويريون أن يفسروا به الحقائق؛ فيغيروها عن مسارها الذي تدل عليه؛ فإن عجز عن ذلك دله التنويريون على تجاهل الرؤيا، وعدم اعتبارها، بل إقناع نفسه أنه لم يرها أصلا..
لكن إبراهيم عليه السلام، والذي يعلم أنه عبد الله، وأنه لا يملك من أمره شيئا لم يفهم من تلك الرؤيا إلا أنها أمر إلهي بذبح ابنه.. فهم ذلك مع علمه اليقيني القاطع برحمة الله ورأفته بعباده.. ولكنه يعلم في نفس الوقت أن الله حكيم ولطيف، وأنه لحكمته ولطفه يدبر من التدابير لعباده ما تتحقق به الرحمة والرأفة في أجلى مراتبها.
لقد كان يعلم أن الذي أوحى إليه بذلك الأمر إله عظيم خلق هذا الكون جميعا، وقدراته لا حد لها، وعلمه لا حد له.. فلذلك راح يلغي العقل المحدود، والذوق القاصر، ويسلم نفسه تسليما مطلقا لصاحب العلم المطلق، والرحمة الواسعة.
وهذا هو الإسلام.. فالإسلام هو أن نسلم وجوهنا إلى الله.. ولا ندبر معه.. ولا نقترح عليه.. بل نعلم أن أمره لا يكون إلا لخير أو مصلحة حتى لو جهلناها نحن، ولم تتناسب مع مزاجنا، كما لا يتناسب الذبح مع مزاج أي أب في الدنيا.. فالمزاج يتناقض مع التسليم.
وهذا ما فهمه إسماعيل عليه السلام أيضا، وهو الشاب اليافع الذي لم يتردد ولم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (105)
يحتل على أمر الله.. بل بمجرد أن طرح عليه أبوه القضية راح يرد عليه من غير تفكير ولا تلكؤ، ولا طلب إقناع، فيكفي أن يكون الله هو الآمر حتى يكون ذلك مبررا لقناعتنا، لقد قال له بكل هدوء: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]
ولهذا عقب الله تعالى على تصرف الأب وابنه تجاه أمره بكونه إسلاما، فقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]
وهذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام، والذي يستحيي من ذكره بعض المتنورين، هو أقوى ابتلاء واجهه إبراهيم عليه السلام، بل هو أقوى من تلك النار التي أوقدت له.. ذلك أن النار فرضت عليه.. أما ذبح ابنه فلم يُفرض، بل تُرك له الخيار.
وقد نجح إبراهيم عليه السلام في الاختبار.. لكونه لم يعمل عقله القاصر، ولا مزاجه المحدود، ولا رأيه الضعيف، ولا بيئته الجاهلة، ولا أي شيء آخر.. أعمل فقط ما أمره به ربه حتى لو كان ذلك الوحي رؤيا منامية.
هذا المعنى هو الذي ينبغي أن نفهم من خلاله الإسلام.. فالإسلام هو دين الله المعبر عن مرضاته.. والله خالق كل شيء.. وهو {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].. فلذلك كان الأدب مع الله هو التسليم المطلق له، مثلما نسلم أنفسنا للطبيب الجراح ثقة منا فيه وفي علمه المحدود وقدراته القاصرة.
وحين يتحقق منا التسليم المطلق لله تأتينا هدايا الله، ونرى جميل لطفه، مثلما حصل تماما مع إبراهيم عليه السلام، فبمجرد أن تله للجبين ناداه الله: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (106)
(109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 104 - 111]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (107)
ومن يبتغ غير الإسلام دينا.. فسيقبل منه!
من أخطر الطروحات التي يطرحها بعض التنويريين الجدد، والتي يمكن أن تقضي على الإسلام ـ كدين يحمل عقيدة وشريعة ـ قضاء نهائيا، ذلك التمييع لمفهومه، أو تطبيق معناه العام على معناه الخاص، وذلك مما يفقده حقيقته ولوازمه.
وهؤلاء يفعلون مثلما يفعل ذلك الكسول الذي تدعوه للتسبيح والذكر والسجود، فيقول لك: أوليس كل شيء يسبح الله ويذكره ويسجد له؟.. فإن قلت له: أجل.. قال: فأنا من تلك الأشياء، وكل أعضائي وخلاياي وذراتي تذكر الله، وتسبح بحمده، وتسجد له.
وهكذا مفهوم الإسلام.. فالمفهوم العام للإسلام يتناول كل شيء.. فكل شيء طوع لإرادة الله، وملك لمشيئته، من شاء ذلك، أو من كره، كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]
والذي يزعم أنه مسلم بهذا الاعتبار مع التقصير في حق الله، وفي الإيمان بما يقتضيه الإسلام الخاص، لا يمكن أن نطلق عليه لقب [المسلم]، ولذلك لا يصدق فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]
ذلك أن هذا النوع من الإسلام مرتبط بعقائد وشرائع تضبطه، وتحميه من أن يصبح مجرد دعاوى لا دليل يدل عليها.. فإذا ما جاء أحد من الناس إلى تلك الضوابط التي تحمي حمى الإسلام، فراح يتساهل فيها أو يتلاعب بها؛ فإنه بذلك لن يبقي من
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (108)
الإسلام إلا اسمه، أما حقيقته، والتي تشكلها المعاني التي يتكون منها، فإنها تزول بزوالها.
فهل يمكن أن يكون هناك إسلام من دون أن يكون فيه صلاة ولا صيام ولا حج ولا تلاوة ولا ذكر؟.. وهل يمكن أن يكون هناك إسلام لا تحرم فيه الخمر ولا الخنزير ولا القمار ولا الربا، ولا الفواحش، ولا كل ما ورد في الشريعة تحريمه؟.. وهل يمكن أن يكون هناك إسلام لمن يعتقد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر خلاف ما ورد في القرآن الكريم من عقائد واضحة صريحة، تثبت الكفر لمن جحدها وعاندها بعد أن سمع بها؟
هذه أمور واضحة جدا، والنصوص المقدسة كلها من القرآن الكريم والسنة المطهرة المتفق عليها عند المدارس الإسلامية جميعا تدل عليها، لكن مع ذلك يأتي من التنويريين من يشكك في ذلك كله، ويزعم أنه يمكن للمسيحي أو اليهودي أو البوذي أو على أي دين شاء أن يحتفظ بدينه، وبشعائره وشرائعة وعقائده حتى لو كانت مناقضة للإسلام بشرط واحد، وهو أن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا علميا ذهنيا لا علاقة له بسلوك ولا بعقائد.
ولست أدري ما الذي دعاه إلى هذا؟.. وهل آلمه أن يدخل الناس في دين الله أفواجا، حتى راح يقول لهم: لا داعي لأن تسلموا.. فأنتم مسلمون أصلا، يكفي فقط أن يصدر منكم اعتراف بأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلف عن إرميا وإشعيا وبوذا.. وأن الإيمان به وحده يكفي، كما أن الإيمان بالمسيح وحده يكفي.. فلا حاجة لأن ترهقوا أنفسكم بالتكاليف الشرعية، التي هي خاصة فقط بتلك الأمة التي لم ترفع عنها الأغلال التي رفعت عنكم.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (109)
وهذا الذي أقوله هو الذي راح ينشره ـ للأسف ـ من سمي رئيسا لجمعية لقاء الحضارات في النَّمسا، وهو عدنان إبراهيم، الذي قدم لهذا الفكر التنويري الجديد والخطير بقوله: (ما انتهى إليه اجتهادي في هذه المسألة المشْكِلة جدًّا، وطبعا أعرف أن هذا الاجتهاد حقيق أن أكفر عليه، وبسببه من كثير من المسلمين الذين ينتظرون فرصة كهذه)
ولست أدري لم يحصر مخاطر المسألة في شخصه، وكونه سيصير محلا للتفكير.. لم لا ينظر لأولئك المسلمين الذين يعبدون الله على حرف، وكيف سيستقبلون مثل هذه الفتوى، والتي تتيح لهم أن يصبحوا مسيحيين أو يهودا، في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على مزايا الإسلام، وامتيازاته؛ فليس عليهم سوى أن يعترفوا بأن محمدا رسول الله.. أما اتباعه؛ فليس ضروريا.
ولم لا ينظر كذلك إلى تلك الانحرافات التي ملأت الأديان؛ فأبعدتها عن كل القيم العقدية والسلوكية، لتتحول إلى أديان بشرية محضة.. ثم يأتي سعادة الأستاذ ليضيف إليها شيئا بسيطا، وهو الاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتتحول مباشرة إلى دين لله، وليس دينا من صنع البشر.. وليس على أصحابها إن أرادوا الهداية أن يتحولوا إلى الإسلام؛ فهم مسلمون أصلا.
والأمر الأعجب من كل ذلك هو زعمه أن المسلمين ينتظرون منه هذه الفرصة ليكفروه، ولست أدري ما الذي ينفعهم تكفيرهم له.. وهو الذي راح يميع اسم الإسلام أصلا ليحول منه مجالا رحبا لا ضوابط تحكمه، ولا شرائع يعرف بها، ولا عقائد ثابتة يمكن اعتقادها.
هو لا يعلم أنه بموقفه هذا لا تختلف عن ذلك الذي: [يبني قصرا، ويهدم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (110)
مصرا]؛ فهو يريد أن يرضي سائر الأمم، وينسى أنه يحطم الإسلام بذلك.. بل ينسى أنه يضع الحجب بين الأمم والإسلام؟.. بل يضع الحجب بين المسلمين والإسلام؛ فالمسلم الذي يرى أنه يمكن أن يتحقق بإسلامه من غير أن يلتزم بشرائعه، يكون قد ترك الإسلام من حيث لا يشعر.
لقد قال عدنان معبرا عن هذه الفكرة الخطيرة، والتي عبر عنها في محال كثيرة، وراح يستعمل كل الوسائل للدعاية لها: (لكن باختصار: الذي بان لي أن الكتابي ـ يهوديا أو نصرانيا ـ ليس ملزما بأكثر من أن يقر بنبوة محمد، يقول: نعم هذا نبي. لكنه ليس ملزما بأن يتبعه، وأن يتدين بشرعه)
بناء على هذا كله، وجب الرد على هذه الشبهة الخطيرة بكل صنوف الرد، والتحذير منها؛ فهي تتدحرج كل حين كما تتدحرج كرة الثلج، خاصة وأن الذي يتولى أمرها قوم مراهقون فكريا، يبحثون عن كل جديد غريب، من دون عرضه على الأمة، أو على مصادرها المقدسة.
ويوشك ـ لو استمر الوضع على ما هو عليه الآن ـ أن يأتي اليوم الذي يدعى فيه غير المسلمين إلى البقاء على أديانهم، باعتبارها أفضل عند الله لهم.. وما أسهل أن تُركب بعض النصوص، أو توضع بعض المفاهيم والتصورات والهلوسات لتحول من ذلك كله حقيقة ملموسة.
بناء على هذا سنذكر هنا ـ باختصار ـ مجامع الأدلة على هذه الشبهة، وهي الأدلة الخمسة التالية:
1 ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة.
2. تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول الله.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (111)
3 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا.
4 ـ تعارض المعاني التي فهموها بالنصوص الدالة على ضلال أهل الكتاب.
5 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع الأمة.
وسنتحدث عن كل واحد منها هنا، وقبل ذلك نحب أن ننبه إلى أن تمنينا لو كان ما يذكره عدنان إبراهيم مكتوبا في كتب أو مقالات علمية، حتى نستطيع توثيقه، وحتى نرى وجوه الاستدلال التي يعتمدونها.
لكن هؤلاء للأسف ليس لديهم الوقت الكافي للكتابة، ولا البحث المرتبط بها، بل يدلون بتصريحات فقط، كتصريحات الساسة، وإلا فإن دعوى كونه اجتهد في المسألة اجتهادا لم يسبق إليه، أو يخاف على نفسه أن يكفر بسببه كان يدعوه إلى وضع كتاب فيها، يجمع فيه الأدلة، ويناقش فيه الاحتمالات المختلفة، ولكنه لم يفعل.. لأن التصريح أيسر من الكتابة، والإثارة أهم من الأناة والبحث العلمي الدقيق والموضوعي.
1 ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة
فقد تعلق هؤلاء كما تعلق المجسمة وغيرهم بنصوص متشابهة تحتمل معاني متعدد، وراحوا يفرضون عليها المعنى الذي يريدون، من دون أن يحاولوا الجمع بين النصوص كما هي العادة المعمول بها عند التعارض.
ومن خلال استقراء استدلالتهم في هذا الجانب يمكن أن نجد موضعين من القرآن الكريم، كانا محل شبهة لديهم:
أ ـ ما ورد في القرآن الكريم من النصوص الدالة على الدعوة لإقامة التوراة والإنجيل، كقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (112)
وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، والتي علق عليها عدنان إبراهيم بقوله: (لا تقل: لي القرآن. الله قال: {ما أنزل إليكم} انتبه)
وقد غفل هذا الأستاذ وغيره ممن اتبعه فيها أو قلده عن أن تلك الآية الكريمة قد عقبت مباشرة بما يزيل الفهم السيء الذي قد يفهم منها؛ فالله تعالى عقب ذلك بقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68]، حيث اعتبرهم كافرين لإعراضهم عما أنزل من القرآن الكريم.
وبذلك فإن الذي يقيم التوراة والإنجيل مضطر معهما لإقامة القرآن الكريم، حتى لا يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]
فإذا فعلوا ذلك، وأقاموا القرآن الكريم نتيجة إيمانهم به مثل إيمانهم بكتبهم، ونتيجة إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه لا يمكن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الإيمان بما أنزل عليه.. حينها يصبح الإيمان المجرد عن الاتباع لغوا، وهو ما ينقض أصل الأطروحة التي طرحوها.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أخبر القرآن الكريم في مواضع كثيرة عن نوع الإقامة التي طلبها منهم، ومنها ما ورد في الكتاب المقدس من البشارات به صلى الله عليه وآله وسلم، ووجوب اتباعه، وهي كثيرة جدا، وقد أشار إليها القرآن الكريم في مواضع منه، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (113)
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]
بل أخبر أنه قد ورد في الكتاب المقدس من التفاصيل المرتبطة به صلى الله عليه وآله وسلم ما يجعلهم موقنين به، غير شاكين فيه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]
ومنها ما ورد فيها من الوصايا الأخلاقية كالوصايا العشر، ونحوها، والتي وردت جميعا في القرآن الكريم الذي هو المهيمن على الكتب، والحاوي لكل ما فيها من قيم نبيلة، ومعارف سامية.
بالإضافة إلى هذا، فقد أخبر القرآن الكريم أن هناك تحريفات حصلت في هذه الكتب، وأن أهل الكتاب كانوا يشترون بتحريفها ثمنا قليلا، فهل يعقل أن يأمر الله تعالى أهل الكتاب بأن يقيموا ما حرف من كتابهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]
فإذا كان ذلك حقيقة مقررة، فكيف نجيز لأحد من أهل الكتاب أن يظل على دينه، بل يعتقد بما ورد فيه من تجسيمات وخرافات وأباطيل.. ونعتبره مسلما بسبب ذلك.
لا يقول ذلك إلا من لا يعرف الكتاب المقدس، وما يحتوي عليه من أنواع الضلالة والانحراف والدجل، والتي كانت سببا في ظهور الإلحاد وغيره.. فهل يمكن أن نعتبر هذه المصادر بعد ذلك، ثم نطلب من أهل الكتاب إقامتها، وأن يضيفوا إليها فقط الاعتراف بكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجرد رسول لا يجب اتباعه؟
والخلاصة التي ننتهي إليها من مفهوم الآية هي أن هذه الآية الكريمة تدعو أهل
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (114)
الكتاب للعودة لكتابهم المقدس ليتمثلوا القيم النبيلة الموجودة فيه، ويتمثلوا ما ورد فيه من أوامر باتباع الرسول الخاتم الذي تكاد الكثير من الأسفار تصرح به.. وهي لا تعني بذلك اكتفاءهم بما فيها عن اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إن مثل ذلك مثل من يخاطب سياسيا يراه قد انحرف عن مشروعه السياسي الذي طرحه، بالعودة إلى مشروعه والعمل بما فيه، مما كان قد وعد به، وذلك لا يعني أن مشروعه معصوم، أو أنه كاف، وإنما هو نوع من التنزل في مخاطبة الآخر.
وهو منهج قرآني في الحوار، فقد قال تعالى في مخاطبة المشركين: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25]، فهل يمكن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على أن المسلمين كانوا مجرمين.
ب ـ ما ورد في القرآن الكريم من النصوص الدالة على نجاة غير المسلمين، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]
فهذه الآيات الكريمة لا يمكن أن تفهم إلا في ضوء النصوص الأخرى الكثيرة الدالة على كفر من أشرك بالله من اليهود والنصارى كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (115)
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تنص على كفر من أشرك بالله تعالى، أو لم يتبع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو كذبه، كما سنرى في الدليل الثالث.
والإيمان بجميع الآيات يدعونا إلى التساؤل عن الفهم الصحيح لتلك الآيات التي يوردونها، وهو بسيط جدا لمن يعرف لغة القرآن الكريم.. فالقرآن الكريم لا يتحدث عمن رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعوا به، فأولئك يجب عليهم الإيمان به واتباعه، وإنما يتحدث عمن لم يروه، ولم يسمعوا به إما لأسباب زمانية أو مكانية.
أما الزمانية؛ فلكونهم في أزمنة سبقت الإسلام، ولم يعرفوا دينا إلا تلك الديانات، فهم غير مكلفين إلا بها، وأما المكانية؛ فهو كونهم في أقصى الأرض، ولم يتهيأ لهم أن يسمعوا بالإسلام، فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك.
ومما يدل على هذا الأسلوب القرآني في التعبير قوله تعالى ـ عند الحديث عن بني إسرائيل ـ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، فهو لا يقصد وجودهم في كل الأزمنة، وإنما يقصد وجودهم في الأزمنة السابقة قبل رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه بعد إرسال الله له صار على الجميع وجوب اتباعه كما سنرى.
وإن شاء هؤلاء التنويريون أن يجادلونا؛ فيذكروا أن تلك الآيات الكريمة ذكرت نجاة غير المسلمين ممن عاصروا الإسلام ولم يتبعوه، حينها سيعترضون على آيات كثيرة جدا في القرآن الكريم، والتي تنص على كفر من لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤمن بما جاء به.
بل حينها تعتبر دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لليهود والنصارى لغوا، وإرساله الكتب لملوك النصارى وتحذيره لهم مجرد تصرف لا معنى له.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (116)
وكيف يستقيم ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم في نصارى نجران المسالمين الذي تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل سماحة ولطف، ولكن مع ذلك لم يسكت عن كفرهم وجحودهم عن اتباعه، بل دعاهم إلى المباهلة، فقال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]
وقال لهم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70]، وقال لهم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]
وهكذا ورد في القرآن الكريم الآيات الكثيرة التي تخبر عن الموقف الحقيقي من أهل الكتاب، وهو الموقف الذي يبين ضلالهم عن الحق، وكفرهم بسبب عدم اتباعهم له، وفي نفس الوقت يأمر بالسماحة معهم، وتأليف قلوبهم.
ولا تعارض بين الأمرين، ذلك أن البعض يتصور أن القول بكفرهم وجحودهم للحق، يقتضي المعاملة السيئة، وهذا غير صحيح، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعامل مع وفد نجران بكل سماحة وأدب، ولكنه في نفس الوقت لم يداهنهم ولم يجاملهم، ولم ينزل إلى رغباتهم، بل بين لهم حقيقة ضلالهم، ودعاهم إلى المباهلة عند جحودهم لها.
وهذا ما ينص عليه قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]
2 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (117)
ذلك أن أول مقتضيات قولهم بعدم شرطية اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاكتفاء بمجرد الإقرار بكونه رسولا من الله تعالى، دون التزام ما جاء به من عقائد وشرائع، هو عدم عالمية رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ذلك أن أول مستلزمات العالمية وجوب الاتباع الكامل لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لدن جميع الأمم، كما ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجلٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي، إلا كان من أهل النار) (1)
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي.. [وذكر منها]: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) (2)
بل هذا الذي دل عليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة، فالله تعالى أخبر أن رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كافة الناس بخلاف رسائل سائر الرسل، والتي ذكر أنها لأقوامهم خاصة، ومن تلك النصوص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون} [سبأ: 28]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (لأعراف:158)، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1)، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: 90)، وقوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم:52)، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
__________
(1) رواه مسلم: ج 1، ص 134، ح 240.
(2) رواه البخاري 1/ 369 و370، ومسلم رقم (521)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (118)
[الأنبياء:107]
وغيرها من الآيات الكريمة التي لا يفهم منها إلا كون رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاملة للعالمين جميعا.. وكيف يتحقق ذلك إذا قلنا بمقولة أولئك التنويريين الذين يذكرون أنه يمكن أن يحافظ كل شخص على دينه، وأنه ليس ملزما بالاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه يكفيه أن يعترف به فقط؟
مع أنه لو عدنا للكتاب المقدس، فإننا نجد كل البشارات التي تبشر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخبر أن رسالته للعالمين، وأن على اليهود والنصارى وغيرهم وجوب اتباعه، ذلك أن كل الشرائع تنسخ بشريعته، كما ورد في [متى 5/ 17 - 18]: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل)، فهذا المبشر به هو الكل الذي له الكل، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
في نفس الوقت الذي يقول فيه المسيح عليه السلام عن نفسه كما جاء في [متى 15/ 24]: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)؟
وهكذا ورد في نبوة النبي حزقيال عليه السلام، كما في [حزقيال 21/ 27]: (يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه)
ولهذا جاء اليهود إلى المدينة المنورة، لأنهم كانوا يترقبون مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم إليها بحسب ما تدل عليه كتبهم، والتي تأمرهم بوجوب اتباعه، كما قال تعالى مخبرا عن ذلك: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89)
فهذه الآية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (119)
الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الاية السابقة ـ كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: (إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم)، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به.. فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (النساء: 155)
وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا: (يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته)، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: (ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89) (1)
وبهذا الوجه أيضا يفسر ذلك النص الذي فهم منه التنويريون خلاف مقصوده؛ فإقامة الكتاب في هذه الناحية هو لزوم اتباع الرسول الجديد الذي تنسخ برسالته جميع الشرائع.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 547) وتفسير الطبري (2/ 233).
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (120)
وهذا ما فعله النصارى أيضا؛ فعندما جاء وفد نجران طولبوا بالإسلام، ولم يطالبوا بالاعتراف المجرد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون اتباعه، وقد نزلت آيات كثيرة في ذلك، ومنها آية المباهلة المعروفة.
بالإضافة إلى ذلك كله، فإن كل النصوص الواردة في الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى، تخبر أن كل أنبيائهم بما فيهم المسيح عليه السلام خاص ببني إسرائيل، وهم شعب محدود العدد جدا، فكيف نجيز لهؤلاء الذين يتبعونه في أصقاع الأرض، وهم ليسوا من بني إسرائيل في نفس الوقت الذي لا نطالبهم فيه باتباع الرسول الذي أرسل للناس كافة.
فقد ورد في [متى:2: 6]: (وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل)
بل حدث المسيح عليه السلام عن نفسه، فقال، كما في متى (15: 24): (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)
وعندما جاءته المرأة الكنعانية أعرض عنها، لكونها ليست من القوم الذين كلف بهم، كما في [متى 15: 23 ـ 27]: (ثم غادر يسوع تلك المنطقة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا، فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي، قد تقدمت إليه صارخة: (ارحمني ياسيد، ياابن داود! ابنتي معذبة جدا، يسكنها شيطان) لكنه لم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه يلحون عليه قائلين: (اقض لها حاجتها. فهي تصرخ في إثرنا!)، فأجاب: (ما أرسلت إلا إلى الخراف الضالة، إلى بيت إسرائيل!)، ولكن المرأة اقتربت إليه، وسجدت له، وقالت: (أعني ياسيد!)، فأجاب: (ليس من الصواب أن يؤخذ خبز البنين ويطرح لجراء الكلاب!)، فقالت: (صحيح ياسيد؛ ولكن جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (121)
يسقط من موائد أصحابها!)
وفي مقابل هذا نجد النصوص القرآنية بالإضافة إلى ما ورد من بشارات في الكتاب المقدس تنص على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل فيها ما ينص على وجوب اتباع الأنبياء أنفسهم له، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]
وفي الحديث الصحيح المعروف: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني) (1)
فكيف يطالب الأنبياء عليهم السلام بوجوب اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لا تؤمر أممهم بذلك؟
3 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة تأمر باتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتباعا مطلقا، وتعتبر ذلك الاتباع علامة على صدق الإيمان؛ فلا قيمة لإيمان لا يتجاوز حدود الذهن، وكيف يمكن لعقل أن يقبل بأن شخصا ما هو رسول رب العالمين، وهو خاتم الرسل،
__________
(1) رواه أحمد (3/ 387).
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (122)
وأن رسالته هي المهيمنة والناسخة لجميع الشرائع والأديان، ثم بعد ذلك يكتفي بهذه المعرفة دون أن يكون لها أي مفاعيل في الواقع.
إن من يقول هذا يشبه ذلك المريض الذي يكتفي بمعرفة اسم طبيبه والشهادة له بكونه طبيبا، وطبيبا كبيرا، ومختصا في مجاله، ثم بعد ذلك لا يأبه للدواء الذي يصفه له، ولا يقر به، ولا يذعن له.. فهل يمكن اعتبار هذا المريض صادقا فيما يزعمه؟
وهذا ليس خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو عام لكل الرسل، فكل الرسل أطباء، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]
ولهذا نجد في القرآن الكريم ربط الاتباع بالإيمان، فأول علامات الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ذلك الخضوع المطلق لكل ما يأمر به أو يدعو له؛ فكلامه صلى الله عليه وآله وسلم وحده حجة، ولا يحتاج المؤمن بعده أي دليل، وكيف يحتاج إلى دليل، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الناطق باسم الحقيقة المطلقة، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]
ومن الآيات الواردة في هذا المجال قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]
فهذه الآية الكريمة تخبر عن موقف المؤمنين من كل حكم يحكم به الله ورسوله، وهو الإذعان المطلق الذي لا مجال فيه لأي تفكير أو تدبر أو اختيار.
وكل النصوص المقدسة التي تأمر بطاعة الله ورسوله تربط ذلك بالإيمان، وهو علامة على أن تلك الطاعة من مستلزمات الإيمان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (123)
بل إن الله تعالى ربط بين عدم الطاعة والكفر، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]
واعتبر عدم الطاعة توليا، فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12]
وحذر مَن يخالف أمره بالفتنة والعذاب، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]
واعتبر اتباعه المطلقة علامة على محبة الله وشرطا لها؛ فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]
وهكذا ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة المتفق عليها بين المدارس الإسلامية جميعا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلُّ أمتي يَدْخلون الجنة إلاَّ من أبى)، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: (من أطاعني دخلَ الجنَّة، ومن عصاني فقد أبَى) (1)
فقد اعتبر طاعته شرطا للإيمان، وليس مجرد المعرفة الذهنية أو الإيمان العقلي الخالي من أي ارتباط أو تبعية أو تبعة عملية.
4 ـ تعارض فهومهم مع النصوص الدالة على ضلال أهل الكتاب
وهي كثيرة جدا، فقد ذكر القرآن الكريم ما فعله بنو إسرائيل في كتبهم من تحريف، وما أضافوه من إضافات ما أنزل الله بها من سلطان، سواء في العقائد، أو في الأحكام، أو في القيم وغيرها؛ فكيف يمكن بعد ذلك أن نذكر بأن القرآن الكريم نفسه
__________
(1) البخاري، ح 6737.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (124)
يجيز لهم أن يعتقدوا بما في كتبهم من ضلالة، ويمارسوا ما ابتدعوه من بدع، ويكتفوا من إسلامهم بالاعتراف برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك الاعتراف الخالي من أي مضمون عملي.
لا يمكننا هنا ذكر كل ما ورد في النصوص المقدسة للدلالة على ذلك؛ فقد ذكرنا بتفصيل في سلسلة [حقائق ورقائق]؛ فلذلك نكتفي هنا ببعضها من باب الإشارة.
فمنها ما ورد فيه من تحريفهم لكتبهم، كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79)، وقوله: لقد ورد فيه: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 13)
وما نص عليه القرآن الكريم هو نفسه ما نص عليه الكتاب المقدس، حيث نجد الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيه، ينصون على وقوع التحريف، ففي (إرميا: 23/ 31 ـ 32): (وأقاوم الأنبياء الذين يسخرون ألسنتهم قائلين: الرب يقول هذا. ها أنا أقاوم المتنبئين بأحلام كاذبة ويقصونها مضلين شعبي بأكاذيبهم واستخفافهم)
وفي المزامير، في (مزمور:56/ 5): (اليوم كله يحرفون كلامي. عليّ كل افكارهم بالشر)
وفي (حزقيال:7/ 26): (ستاتي مصيبة على مصيبة. ويكون خبر على خبر.. فيطلبون رؤيا من النبي.. والشريعة تباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ)
وفي (إشعياء:10/ 1 - 2): (ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (125)
يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الارامل غنيمتهم وينهبوا الايتام)؛ فإشعيا ـ في هذا النص ـ يتحدث عن المطامع التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف.. وهو يتحدث عن بيع كتاب الله بثمن بخس، بل هو يصرح بذلك قطعا لكل تأويل، فيقول: (ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا ومن يعرفنا. يا لتحريفكم. هل يحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني. أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم) (إشعياء: 29/ 15 - 16)، ويقول: (ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس مني ويسكبون سكيبا وليس بروحي ليزيدوا خطيئة على خطيئة) (إشعياء: 30/ 1)
وهكذا نجد القرآن الكريم يصف ما ذكروه في كتبهم من عقائد لا تتناسب مع جلال الله وجماله، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]
وما أشار إليه القرآن الكريم من هذه العقائد الفاسدة لا يزال يوجد ما يدل عليها في الكتاب المقدس، فهل يمكن أن نقبل ذلك منهم؟.. وهل يمكن أن يسلم شخص يتصور الله بتلك الصورة البشعة التي يرسمها الكتاب المقدس، ثم لا يكتفى من إيمانه إلا بالاعتراف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
وهل يطالب التنويريون اليهود والنصارى بأن يقيموا أمثال هذه النصوص التي لا تزال توجد في كتبهم المقدسة المشتركة (1)، والتي تصف الله ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش
__________
(1) انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للمسيري.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (126)
للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/ 10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/ 23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/ 13 ـ 14)..
وهو إله متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/ 8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/ 21/22).
وهو إله الحروب (خروج 15/ 3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/ 30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/ 1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/ 16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد، (أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً) (تثنية 20/ 10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.
والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة، ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها (أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين) (خروج 3/ 22)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (127)
ماذا يفعل التنويريون بعد هذه النصوص وغيرها كثير جدا، وهي تشمل العقائد والعبادات والمعاملات والقيم وكل مناحي الحياة.. فهل يرضون من أهل الكتاب أن يقيموا كتابهم، ويلتزموا بما فيه.. ويكتفون منهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ليصبحوا من خلال ذلك الإيمان المجرد من كل مقتضيات مسلمين، قد صبغوا الإسلام صبغة كاملة.
5 ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع الأمة
لا نقصد هنا ذلك الإجماع المختلف فيه، والذي قال فيه أحمد بن حنبل: (ما يَدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا) (1)
وهو إجماع المدرس والطائفة والفرقة دون سائر المسلمين، بل نقصد إجماع المسلمين جميعا بفرقهم المختلفة، وهو إجماع معتبر؛ فالأمة لا يمكن عقلا أو نقلا أن تجمع على ضلالة.
وهذا الإجماع يمكننا أن نجده بسهولة في كتب العقائد والفقه والتفسير والحديث وغيرها، وعند جميع المدارس الإسلامية؛ فهي جميعا تنص على كفر من استحل عدم اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أحل حراما قطعيا، أو حرم حلالا قطعيا، أو قال بشريعة لم تنزل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا فإن اليهودي أو النصراني الذي يكتفي بالاعتراف المجرد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون الاتباع؛ فإنه يكون قد أحسن بذلك الاعتراف، وهو أحسن حالا من الجاحد، ولكن لا يمكن اعتباره مسلما، ولا يمكن إقراره على ذلك.. بل يطالب بالاتباع الكامل، كما نصت على ذلك النصوص المقدسة التي سبق ذكرها، والتي اتفق علماء الأمة
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (2/ 54).
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (128)
بمدارسهم جميعا على القول بمقتضياتها.
بل إن القرآن الكريم اعتبر اليقين المجرد عن الاتباع جحودا، فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]
وممن نقل إجماع الأمة في المسألة ابن حزم فقد قال في كتابه [مراتب الإجماع]: (واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً) (1)
وقال: (ولا يختلف اثنان من أهل الأرض ـ لا نقول: من المسلمين، بل من كلِّ ملةٍ ـ في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع بالكفر على أهل كلِّ ملةٍ غير الإسلام الذين تبَّرأ أهلُه من كل ملةٍ حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط) (2)
وقال: (وقد نصَّ الله عزَّ وجلَّ على أن اليهود يعرفون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءَهم، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وأخبر تعالى عن الكفار فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخرُف:87]، فأخبر تعالى أنهم يعرفون صِدْقه ولا يكذِّبونه، وهم اليهود والنصارى، وهم كفار بلا خلافٍ من أحد من الأمة، ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحدٍ من الأمة في كُفره وخروجه عن الإسلام) (3)
وقال: (ذكَرَ بعضُ من جمع مقالات المنتمين إلى الإسلام أن فرقة من الإباضية رئيسهم رجل يدعى يزيد بن أبي أنيسة ـ وهو غير المحدث المشهور ـ كان يقول: إنَّ من
__________
(1) مراتب الإجماع (ص 119)
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/ 142.
(3) المرجع السابق، 3/ 237.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (129)
كان من اليهود والنصارى يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى العرب لا إلينا)؛ كما تقول العيسوية من اليهود؛ قال: فإنهم مؤمنون أولياء الله تعالى، وإن ماتوا على هذا العقد، وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى... قال أبو محمد [ابن حزم]: إلا أنَّ جميع الإباضية يكفِّرون من قال بشيء من هذه المقالات، ويبْرَؤون منه، ويستحلُّون دمه وماله) (1)
وقد علق النووي على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) (2)، فقال: (أما الحديث ففيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة): أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب؛ فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. والله أعلم) (3)
وقال القاضي عياض: (ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه: فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك) (4)
وقال الباقلاني، وهو من كبار أئمة الأشاعرة: (باب الكلام على العيسوية منهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى عليهما السلام إنما بعثا إلى قومهما، ولم يبعثا بنسخ
__________
(1) المرجع السابق، 4/ 144.
(2) رواه أحمد (2/ 350)، ومسلم (1/ 93).
(3) شرح النووي على مسلم (2/ 188)
(4) الشفا في أحوال المصطفى (2/ 610)..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (130)
شريعة موسى عليه السلام. يقال لهم: إذا أوجبتم تصديق محمد وعيسى عليهما السلام في قولهما إنهما نبيان من عند الله؛ فما أنكرتم من وجوب تصديقهما في قولهما: إنهما قد بعثا إلى كل أسود وأبيض، وأنثى وذكر، وبنسخ شريعة موسى وكل صاحب شرع قبلهما؟! فإن كان قد كذبا في هذا القول مع ظهور المعجزات على أيديهما فما أنكرتم أن يكونا كاذبين في سائر أخبارهما، وهذا يبطل النبوة جملة، فإن قالوا: نحن لا نكذب محمدًا وعيسى عليهما السلام في هذا القول لو قالاه، لأنهما لو كذبا في بعض ما يخبران به عن الله سبحانه لم يكونا نبيين، ولكننا نكذب النصارى والمسلمين في ادعائهم ذلك عليهما، فالكذب واقع من ناحية أمتيهما، ولم يقع من جهتهما! يقال لهم: إذا جاز الكذب على النصارى والمسلمين في هذا الخبر الذي يدعونه على محمد وعيسى عليهما السلام فلم لا يجوز عليهم الكذب في جميع ما نقلوه عنهما، وفي نقلهم أعلامهما، ولم لا يجوز مثل ذلك على اليهود أيضًا؟! ونقله البلدان والسير، وهذا يعود إلى إبطال القول بالأخبار جملة، وفي إطباقنا وإياهم على فساد ما أدى إلى ذلك دليل على فساد قولهم، وصحة قول المسلمين والنصارى في هذا الباب) (1)
وقال أبو حامد الغزالي في كتابه: (الاقتصاد في الاعتقاد): (العيسوية: حيث ذهبوا إلى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم رسولٌ إلى العرب فقط لا إلى غيرهم، وهذا ظاهر البطلان فإنَّهم اعترفوا بكونه رسولاً حقًّا، ومعلومٌ أنَّ الرسول لا يكذب، وقد ادعى هو أنه رسول مبعوث إلى الثقلين، وبعث رُسُلَه إلى كسرى وقيصر وسائر ملوك العجم، وتواتر ذلك منه، فما قالوه محال متناقض) (2)
__________
(1) التمهيد، ص 218.
(2) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 111)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (131)
وقال فخر الدين الرازي في [التفسير الكبير] في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]: (وقال طائفة من اليهود ـ يقال لهم العيسوية، وهم أتباع عيسى الأصفهاني ـ: إن محمدًا رسول صادق مبعوث إلى العرب، وغير مبعوث إلى بني إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآيةُ. لأنَّ قوله: {يا أيها الناس} خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: {إني رسول الله إليكم جميعًا}، وهذا يقتضي كونه مبعوثًا إلى جميع الناس، وأيضًا: فما يعلم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى كل العالمين. فإما أن يقال: إنه كان رسولاً حقًّا أو ما كان كذلك، فإن كان رسولًا حقًّا، امتنع الكذب عليه. ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثًا إلى جميع الخلق؛ وجب كونه صادقًا في هذا القول، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل) (1)
وقال الآمدي الأشعري الشافعي في كتابه [غاية المرام في علم الكلام]: (وأما العيسوية فيمتنع عليهم ـ بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعوته ـ إلا الإذعان لكلمته، إذ لا سبيل إلى القول بتخصيص بعثته إلى العرب دون غيرها من الأمم، مع ما اشتهر عنه، وعُلم بالضرورة والنقل المتواتر من دعوته إلى كلمته طوائف الجبابرة وغيرهم من الأكاسرة، وتنفيذه إلى أقاصي البلاد وملوك العباد، وقتال من عانده، ونزال من جاحده، ثم ذلك معتمد على سند الصدر الأول من المسلمين، مع علمنا بأن ذلك الجم الغفير، والجمع الكثير، ممن لا يتصوَّر عليهم التواطؤ على الباطل عادةً، لا سيما لما كانوا عليه من شدة اليقين، ومراعاة الدين، فلو لم يعلموا منه ضرورةً أنه مبعوث إلى
__________
(1) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (15/ 383)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (132)
الناس كافة، وإلى الأمم عامة، من الأسود والأبيض، وإلا لما نقلوا ذلك، رعاية للدين، مع أنه ترك الدين، وكذلك أيضًا: من جاء من بعدهم على سنتهم، وهلم جرًّا إلى زمننا هذا، ولو لم يكن نبيًّا على العموم لزم أن يكون قد كذب في دعواه، وأبطل فيما أتاه، وذلك محال في حق الأنبياء، وحقِّ من ثبت عصمتهم بالمعجزات وقواطع الآيات) (1)
هذه مجرد نماذج عن بعض مقولاتهم في المسألة، وإلا فإن النصوص في ذلك أكثر من أن تحصر، وهي موجودة في كل أبواب الفقه التي تبين كفر من جحد معلوما من الدين بالضرورة، أو تكفر من استحل حراما، أو حرم حلالا، وغيرها.
__________
(1) غاية المرام في علم الكلام (ص: 359)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (133)
ربما يكون أحسن لقب للتنويريين بمختلف اتجاهاتهم ومناهجهم هو [الدنيويون]، فهم مستغرقون في حب الحياة الدنيا، والتعلق بها، والدعوة إليها، واعتبارها البداية والنهاية، وأن إليها المنتهى، لا إلى الله، ولا إلى حقائق الوجود المطلقة، التي لا تساوي الدنيا أمامها جناح بعوضة.
ولذلك يتفقون على أن الدين ـ بصورته الموروثة ـ عقبة دون التحقق بما تتطلبه الحياة الدنيا من مقتضيات، ثم يختلفون بعد ذلك، فمنهم من يصرح بإلحاده، مثلما فعل القس [جان مسلييه] الذي كان رجل دين مسيحي، لكنه آثر الإلحاد، ومات عليه، أو مثلما فعل عبد الله القصيمي، ذلك الذي كتب الكتب في نصرة الاتجاه السلفي، وتكفير الصوفية والشيعة وغيرهما، ثم راح يكفر بالدين نفسه، ويكتب الكتب في الرد عليه باعتباره عقبة كبرى دون التطور.
ومنهم من لا تكون له جرأة ماسلييه ولا القصيمي، فلذلك ينهج منهجا آخر هو أخطر على الدين من الإلحاد المجرد الواضح، وهو تفصيل الدين على مزاجه، باستعمال مناهج وأساليب مختلفة ليصبح الدين نفسه دنيويا، والغاية منه دنيوية محضة.
وأول علامات هؤلاء هو نفورهم من الغيب، وتركيزهم على عالم الشهادة، واعتبارهم أن الغيب يحول دون الشهادة، فلذلك إذا ما ذكر الغيب بينهم راحوا يسخرون، ويذكرون لازمتهم التي تعودوا ترديدها، وهي أن الغرب يتطور، ويصنعون الصواريخ، ونحن لا زلنا نبحث في عالم الغيب..
ولكنهم ـ وهم يقولون هذا الكلام بتثاؤب وكسل ـ لا يقدمون شيئا، وإنما
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (134)
ينتقدون فقط الإيمان بالغيب، ويسخرون من أولئك الطيبين الذين تعيش أجسادهم في عالم الشهادة بينما تحلق أرواحهم في عالم الغيب، وهم الذين مدحهم الله تعالى في أول كتابه، بل اعتبر الهداية قاصرة عليهم؛ فقال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2، 3]
وهكذا أثنى على الذين يخشون ربهم بالغيب، واعتبرهم من المتقين، لأنه لا تحصل التقوى إلا لمن آمن بالغيب، وجعله كل لحظة بين عينيه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 48، 49]
وهكذا اعتبرهم من الأوابين الحافظين للعهود، بسبب إيمانهم بالغيب، كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 31 - 33]
بل إنه أخبر أن الإنذار الذي كلف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستفيد منه إلا المؤمنون بالغيب، كما قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 10، 11]
وهذه الآية الكريمة تعبر بدقة عن ذلك السلوك الذي يمارسه التنويريون، ويكادون يتفقون عليه من إزاحة الإنذار من وظائف النبوة والدعوة إلى الله، واعتبار الدعوة فقط تبشيرا لا إنذارا، ولذلك يتصورون أن كل من يتحدث عن عذاب القبر أو عذاب جهنم منحرفا، وبعيدا عن فهم الدين.
ولست أدري من أين لهم هذا، والقرآن الكريم كله إنذار وتخويف، ولا يمكن لمن يقرؤه صادقا إلا أن يمتلئ بتلك الخشية من الله، والتي تولد فيه لا محالة حوافز
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (135)
التقوى، وروادعها.
بل إن القرآن الكريم، وفي ذكره للذنوب التي نحتقرها، يشدد ويتوعد ويهدد، ثم يأتي هؤلاء التنويريون بما أوتوا من سماحة لينسخوا كل ذلك، ويعقبوا على الله في حكمه، ليرضوا أهواءهم أو جماهيرهم، ولا يعلمون أن البشر الذين خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم نفسهم البشر الذين يقومون بخطابهم.
ومن علاماتهم تحقير العبادات والاستهانة بها، لأن الدين عندهم ليس سوى علاقة للإنسان مع الإنسان أو الكون؛ فالإنسان هبط إلى الدنيا في تصورهم ليعمرها، ويملأها بالأبراج والطائرات والصواريخ، ويسيطر على مناخها وتضاريسها، أما ترقية نفسه بممارسة العبادة وكثرة الذكر والرياضات الروحية، فهي عندهم تشدد وتطرف وبلادة.
ولذلك يستهينون بالشعائر التعبدية، ويحقرونها، ويحاولون تأويل كل ما ورد فيها من النصوص تأويلات مختلفة، حتى تصبح الصلاة أحقر الأعمال، لا أشرفها، ويصبح الذكر هو ذكر الدنيا، ولا ذكر الله، ولا الشوق إليه.
ومن علاماتهم احتقار الصالحين والأولياء الذين أمرنا الله تعالى بسلوك سبيلهم، وبأن نكون معهم، فالصالحون عندهم هم المخترعون والمكتشفون، لا أولئك الذين أفنوا أعمارهم في ذكر ربهم والدعوة إليه..
وهم لا يتوقفون عند أفراد الصالحين، وإنما يضمون إليهم الأنبياء والمرسلين، وخصوصا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك يحتقرون سنته، ولا يبالون بها، بل يعقبون عليه بما تمليه أهواؤهم.
والعلامة الأكبر لهؤلاء هو نفورهم من كل تلك النصوص المقدسة التي تحقر
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (136)
الحياة الدنيا، وتعتبر حبها أم الخطايا، وتعتبر كل ضلالة حصلت في الأرض ناتجة عنها، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]
وهذه الآية الكريمة تحوي وصفا دقيقا لهؤلاء الدنيويين الذين يسمون أنفسهم تنويريين، ذلك أن الدنيا قد زينت في أعينهم، فاستحلوها، ثم راحوا يسخرون من الذين آمنوا، والذين اتقوا، مع أنهم فوقهم يوم القيامة، كما أنهم فوقهم في الحياة الدنيا.
ولذلك لا نجد تنويريا إلا وهو يسخر من العلماء والأولياء والعباد والزهاد، ويعتبرهم جميعا متخلفين لم يفهموا الدين كما فهمه..
ولهذا نراهم يحتقرون الوعاظ الذين يمارسون ما كان يمارسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التحذير من الاستغراق والتثاقل إلى الحياة الدنيا، باعتبارهم أخطر ما يهدد حقيقة الإنسان نفسها، والتي قد تتحول إلى كلب يلهث، كما قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]
وبناء على هذا كله، فإن كل النصوص المقدسة التي تحذر من الحياة الدنيا، وتبين حقيقتها هي في الحقيقة رد على الفكر التنويري، الذي يبالغ فيها، ويعتبرها أصلا وغاية ومقصدا.
وهو عندما يفعل ذلك لا يقدم شيئا جديدا، لأنه عقل يهدم ولا يبني، ولهذا نرى الكثير من التنويريين يملكون شهادات علمية في الطب والفيزياء والهندسة وغيرها، ثم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (137)
يتركونها، ولا يقدمون في تخصصاتهم أي شيء جديد، بينما يذهبون إلى القرآن الكريم يتلاعبون بألفاظه ومعانيه، ليحولوها إلى المسار الذي تريده أهواؤهم.
ولهذا ذكرنا أن العقل التنويري أخطر من العقل الملحد، وأكثر بعدا من الدين عنه، لأن الملحد قد يقتنع في يوم من الأيام، ويعود إلى الله بتواضع، أما التنويري، فهو يتصور أنه على شيء، بينما هو لا يملك من الدين إلا السراب والأهواء والتقول على الله، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]
والعقل الملحد يكتفي بنقد الدين من دون أن يتدخل في تحريفه وتبديله والتلاعب به، بينما العقل التنويري يفعل ذلك، ويفتري على الله الكذب، ويزعم أنه يفهم من الوحي ما لم يفهمه كل العلماء والصالحين، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (138)
مع كثرة النصوص المقدسة المحذرة من الرياء وحب الجاه وطلب السمعة، والداعية إلى التواضع والعبودية وطلب خمول الذكر، نجد ألسنة كثيرة تتحدث عن الدين، وكأنه سلعة من السلع، أو اختراع من الاختراعات، أو مضمار من المضامير التي يتنافس فيها أهل الدنيا ويتقاتلون.
ومظاهر ذلك كثيرة جدا، ولعل أحسن وصف لها ما وصفه أولياء هذه الأمة عند تسميتهم لهؤلاء بكونهم [علماء الدنيا]، حتى لو كانوا يعلّمون القرآن، أو يدرّسون الفقه، أو يكتبون في العلوم الشرعية.
وأبشع تلك المظاهر هو تلك العبارة التي نسمعها كثيرا، وكأنها أدب من الآداب الشرعية، أو سنة من السنن النبوية، وهي قول بعضهم عندما يكشف الله له فهما من الفهوم، أو معرفة من المعارف: (وهذه فكرة لم أر من سبقني إليها)، أو (لم يسبقني إليها أحد)
فإذا وجدها بعد ذلك عند بعضهم، وقد ذكرها من غير أن ينسبها إليه قامت قيامته، وراح يهدد ويتوعد، مع العلم أن تلك الفكرة قد تكون مرتبطة بالإخلاص ودرجاته، والورع ومراتبه.. وقد يكون لها علاقة بالشرك وخفاياه، أو الرياء ومظاهره.. وقد تكون تفسيرا لآية قرآنية، أو شرحا لحديث نبوي.
وهو يفعل ذلك بكل تبجح، بل ربما يكتب في ذلك المقالات.. وكأن الدين شيء، والحديث عنه شيء آخر.. مع أن العلم بالدين يقتضي أولا أن يتدين المتعلم له، والمتحدث به، وإلا كان مغرورا مخادعا، أو مفتونا مضللا، {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (139)
هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]
كما ورد ذلك الوصف في الأثر عن الله تعالى خطابا لداود عليه السلام: (يا داود! لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتونا بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فان أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم، أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم)
وقال المسيح عليه السلام: (الدنيا داء الدين، والعالم طبيب الدين، فاذا رأيتم الطبيب يجرّ الداء إلى نفسه فاتهموه، واعلموا انه غير ناصح لغيره)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إياكم وثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم ; فأما زلة عالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وأن يزل فلا تقطعوا عنه آمالكم. وأما جدال منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق، فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فردوه إلى عالمه. وأما دنيا تقطع أعناقكم، فمن جعل الله في قلبه غنى فهو غني) (1)
وقال: (إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقا عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون) (2)
وقد ورد في الآثار عن الإمام الصادق وصفا رائعا لأمثال هؤلاء العلماء، وسلوكاتهم المتناقضة مع مقتضيات الدين، والدركات التي تنتظرهم في جهنم، وهو مما لا يقال بالرأي، وإنما تلقاه عن آبائه وأجداده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال: (إن من العلماء من يحب أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه فذاك في الدرك الأسفل من النار، ومن العلماء
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 186).
(2) رواه الطبراني في الأوسط والصغير، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 187)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (140)
من إذا وعظ أنف وإذا وعظ عنف فذاك في الدرك الثاني من النار، ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي الثروة ولا يرى له في المساكين، فذاك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين، فإن رد عليه شئ من قوله أو قصر في شئ من أمره غضب فذاك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزر به علمه ويكثر به حديثه فذاك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول: سلوني ولعله لا يصيب حرفا واحدا والله لا يحب المتكلفين فذاك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يتخذ علمه مروة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار) (1)
تمنيت لو أن هذه الروايات والنصوص المقدسة علقت على باب كل كلية إسلامية، ونشرت مع كل كتاب، ووضعت في باب كل مجلس علمي، حتى نجرد الدين من ذواتنا وأهوائنا ونتركه لله وحده، ونتعامل بكل عبودية مع كل معرفة تتاح لنا، أو فهم ينزله الله علينا.
__________
(1) بحار الأنوار، ج 8، ص 310.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (141)
مما دلت عليه النصوص المتواترة من السنة المطهرة، بل مما دلت عليه أديان الشعوب المختلفة ظهور الدجال، الذي تجتمع فيه كل أنواع الفتن، ما ظهر منها وما بطن.. بل إن التحليل البسيط لحركة التاريخ يدل عليه.. ذلك أن المشروع الشيطاني يكتمل عنده، فعنده يجمع الشيطان كل ما تعلمه في تاريخه الطويل من إغراءات ووساوس وتضليلات..
ولهذا ورد في النصوص المقدسة أنه يستطيع، وبحركات بسيطة أن يوفر لمن يتبعه كل المرافق التي يحتاجها، بل حتى تلك التي لم يكن يحلم به، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر. ثم يأتي القومَ فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيدهم شيء من أموالهم. ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) (1)
وهذا الحديث بهذا الوصف الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي راعى فيه قدرات البيئة التي كان فيها، والتي لم تكن ترى من فتن الدنيا إلا ذلك الغيث البسيط الذي ينزل من سمائها، أو ذلك العشب الأخضر الذي يكسو أرضها.. وهو يشير بلسان حاله إلى أمور أكبر وأخطر.. وهي تلك الكنور التي تتبعه وتسير خلفه وتسخر له.
وبذلك فإن الدجال ـ بحسب ما تشير إليه تلك النصوص ـ هو الزبدة والعصارة
__________
(1) مسلم (8/ 197 - 198)، وأبو داود (2/ 213)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (142)
والخلاصة التي تجتمع فيها كل المغريات التي عرفتها البشرية في جميع عهودها.. وذلك يستدعي أن تجتمع لديه جميع العلوم والتقنيات.. ليس ذلك فقط.. بل تجتمع لديه جميع وساوس الأبالسة وفلسفاتهم..
ولو كان الأمر قاصرا على توفر تلك المرافق والخدمات والمغريات لكان الأمر سهلا.. لكن الدجال لا يكتفي بذلك، بل هو يجعل من كل ذلك أحبولة لنزع الإيمان من قلوب.. نزع الإيمان بالله من القلوب، وإحلال الإيمان به وبدجله ومغرياته بدلها.
وكمقدمة لذلك ينشر الشيطان الآن بأدواته المختلفة من جميع أقطاب الشر، ومن يتبعه من الأذناب أنه لا أهمية للإيمان أو الكفر، أو الطاعة أو العصيان.. بل الأهمية لنمو الاقتصاد.. وتطور التكنولوجيا.. وتوفر الخدمات.. أما الإيمان والطاعة فهي مجرد أفكار نسبية لا قيمة لها.
وبذلك أصبحت موازين البشر هي موازين الدجال نفسها.. فالبشر لا يملكون قيمتهم بسبب الإيمان الذي يعمر قلوبهم، ولا بالأخلاق التي تكسو سلوكهم، وإنما بما سماه الله تعالى [ظاهر الحياة الدنيا]، وهي تلك المعارف البسيطة التي تهتم بخدمة الشهوات والأهواء والغرائز.. ثم تختصر الحياة والكون فيما تراه من ظواهر..
وقد اعتبر الله تعالى كل ذلك جهلا لا تساوي نشوة إيمان مؤمن حتى لو كان راع في جبل أو حمال في سوق، قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]
هذه الآية الكريمة كافية لمن تأملها في أن يعيد ضبط بوصلته.. حتى لا يكون من أنصار الدجال عند خروجه أو قبل خروجه.. وحتى لا يكون من الممهدين للدجال الذين يحتقرون الإيمان، والمعارف الإلهية، ويختصرون الحياة في الحياة الدنيا، ويختصرون
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (143)
القيم فيما تمليه الأهواء والغرائز.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (144)
المرجئة الجدد.. والتألي على الله
من أخطر الظواهر التي أصابت كل الأديان، وانحرفت بها عن القيم التي جاء بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام [ظاهرة الإرجاء]، وهي الظاهرة التي تعبر عن تلك الرغبات النفسية التي تريد أن تتجاوز موازين العدالة الإلهية، لتستبدلها بموازين جديدة، لا يدل عليها إلا الهوى، والتفكير الرغبوي المجرد، والمعتمد على العاطفة، أو بعض المصادرات على المطلوب.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا الإرجاء عند اليهود، وزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، لسبب بسيط، وهو أنهم يهود، وشعب الله المختار، فقال: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة:80]، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُون} [آل عمران:24].
والآية الكريمة تشير إلى ما أطلقنا عليه [التفكير الرغبوي]، أو [دين البشر]، والذي عبر عنه قوله تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُون}، فدين البشر يعتمد على تلك الأكاذيب التي يكذبون بها على أنفسهم، ثم يفرضونها على ربهم، ويتألون عليه، ويتصورون أن الجنة والنار صارت بيدهم، لا بيد ربهم.
وما ذكره القرآن الكريم عن اليهود، هو نفسه ما وقع فيه النصارى، فقد ورد في [رسالة يوحنا الرسول الأولى 2: 1)]: (يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لاتخطئوا وإن أخطأ أحدٌ فلنا شفيع عند الأب، يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (145)
وبناء على هذه المقولة وغيرها ذهبت كل تعاليم المسيح والقيم النبيلة التي جاء بها أدراج الرياح، ذلك أن السوط الذي جعله الله لتأديب عباده، وهو جهنم، وعذابها الشديد، صار ملغيا بفعل تلك المفاهيم الإرجائية.
ونفس الشيء حصل للمسلمين في عهدهم الأول، حيث تحول الكثير منهم إلى فرق إطفاء لجهنم، وسعيرها، بل إلغائها أصلا، واعتبار أن كل تلك التهديدات التي وردت في القرآن الكريم، ولأبسط التجاوزات والذنوب مجرد تهديدات لفظية لا قيمة لها..
وانتشر بينهم أن رحمة الله واسعة.. ولطفه بعباده عظيم.. وأنه يكفي أن يتحقق الإيمان بالله ورسوله، لتتنزل بعده السعادة المطلقة، ولا يهم بعد ذلك، هل كان ذلك الإيمان مجرد أقوال تقال، أو حركات تؤدى، أو كانت قيما يعيشها صاحبها، ويضحي بكل شيء من أجلها.
انتشر في ذلك الحين مثل تلك الأحاديث التي لا تعطي أي قيمة للعمل، ولا للسلوك الأخلاقي مثل حديث: (أتانى جبريل فبشرنى أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) (1)
وهكذا انتشرت مثل هذه النصوص الإرجائية، لتحول من الزنا والسرقة وشهادة الزور وكل الجرائم الإنسانية بما فيها القتل نفسه شيئا بسيطا لا أهمية له، مع أن الله تعالى في القرآن الكريم يتوعد بالعذاب الشديد لأجل قضايا بسيطة جدا، لا تساوي أمامها تلك الجرائم شيئا.
هذا حال المرجئة القدامى مع التعاليم القرآنية والنبوية، ومع القيم الشريفة التي
__________
(1) رواه البخارى (6/ 2721، رقم 7049)، ومسلم (1/ 94، رقم 94)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (146)
وردت فيهما، أما المرجئة المحدثين، فحدث ولا حرج.. فقد راحوا إلى الإيمان نفسه يحذفونه، فلا يشترط عندهم الإيمان لدخول الجنة.. بل يكفي أن يكون الإنسان طيبا، وخلوقا.. أما الإيمان فهو مسألة فرعية لا قيمة لها.
وأما قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12]، فهو عندهم منسوخ، ومؤول بصنوف التأويلات.. فالكافر عندهم لا وجود له إلا في النصوص المقدسة، وأما في الواقع، فلا وجود له.. حتى ذلك الذي ينفي الله، ويعيش عمره داعية إلى الإلحاد، أو ساخرا من الله، لا قيمة لكل ذلك عندهم، فهو ما دام يؤمن بالجاذبية أو بالطبيعة.. فيمكن أن نعتبره مؤمنا بالله بوجه من الوجوه..
وهم لا يكتفون فقط برجاء أن تشمله رحمة الله الواسعة، ولكنهم يتألون على الله، فيدعون لأولئك الذين كان في إمكانهم أن يؤمنوا، ولكنهم لم يفعلوا.. لا يدعون لهم بالهداية فقط، وإنما يدعون لهم بالرحمة والمغفرة والجنة الواسعة.. بل بالفردوس الأعلى.
ويتناسون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن العذاب الشديد الذي يحيق بأمته، مع إيمانها، بسبب بعض التقصير الذي قد تمارسه تجاه أوامر الله، ففي الحديث الصحيح المعروف، الذي يوصي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته: (ألا وإنى فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني مستنقذ رجالا- أو أناسا- ومستنقذ مني آخرون فأقول: يا رب، أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) (1)
فهذا الحديث وأمثاله من الأحاديث المروية في جميع الصحاح والمسانيد والسنن،
__________
(1) رواه أحمد (5/ 412، رقم 23544) (5/ 393، رقم 23385)، والبخارى (5/ 2404، رقم 6205)، والنسائى فى الكبرى (2/ 444، رقم 4099).
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (147)
والتي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حُرم من الشفاعة في أصحابه الذي عرفهم، وقد كانوا يصلون ويصومون ويتوضأون ويحجون ويمرضون.. ومع ذلك لم يخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
ومثله ما ورد في القرآن الكريم من أنه لا مجال للتلاعب بالقيم، وأن كل من تلاعب بها فإن مصيره إلى جهنم، وأول القيم قيم الإيمان بالله، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 38 - 48]
فالآيات الكريمة أخبرت أن الذين لا يصلون.. أي ليس لهم تواصل روحي بالله.. والذين لا يطعمون المسكين.. أي ليس لهم أي تواصل ورحمة بالمجتمع.. هؤلاء وغيرهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين حتى لو تقدموا للشفاعة لهم.
وهكذا نجد القرآن الكريم يصرح بغضب الله ولعنته وعقابه الشديد على ذنوب كثيرة نراها هينة سهلة عند أولئك الذين ضربوا القرآن بالحديث.. وضربوا الدين وقيمه بما شرعوه لأنفسهم من شرائع الهوى.
فالله تعالى أخبر عن الهمز واللمز وعقوبته، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ الله الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 1 - 9]
وأخبر عن عقوبة القتل العمد، وأنها الخلود في جهنم، فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (148)
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93] وغيرها من النصوص الكثيرة..
وفي الحديث الصحيح الشهير عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. قالت: وحكيت له إنسانا، فقال: ما أحب أنى حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا (1).
وعندما نسأل هؤلاء المرجئة الجدد عن الدافع الذي جعلهم يفكرون مثل هذا التفكير، ويلغون كل تلك النصوص المقدسة، يقولون لك: إننا عندما نذكر ما ورد في القرآن الكريم من الوعيد الشديد ينفر الناس من الدين، ونجعلهم يعرضون عنه، ويتصورون أن الله ما خلق الخلق إلا ليعذبهم.
ولست أدري ما يجاب به هؤلاء، فهل هم أعلم أم الله؟
وهل لديهم من صكوك الغفران ما يمكنهم أن يسلموها لمن شاءت لهم أهواؤهم تسليمها لهم؟
وكيف حال أولئك الأعراب البسطاء الذين أخبر القرآن الكريم عن العذاب الشديد الذي سيلحق بهم، لأجل أخطاء وقعوا فيها، وحدود تجاوزوها.. أم أن الأعراب يعذبون، وأهل المدنية المعاصرة يُتجاوز عنهم؟
ثم ما يقولون في تلك النصوص المقدسة التي حوت تلك التهديدات الشديدة.. مع العلم أن الله قد أمرنا بتلاوتها، والتدبر فيها لتبقى دائما بين أعيننا نرتدع من خلالها، لنتخلص من أسر الأهواء، والتثاقل إلى الأرض؟
ثم ما يقولون في اعتبار الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا بين يدي الساعة، واعتباره محذرا
__________
(1) رواه الترمذي رقم (2503) و(2504)، وأبو داود رقم (4875)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (149)
للبشرية من العذاب الشديد الذي سيلحق بها إن لم تتبعه، ولم تؤمن به؟
لا يمكنهم الإجابة عن هذه التساؤلات إلا بشيء واحد، وهو محو كل التهديدات الواردة في النصوص المقدسة، أو اعتبارها منسوخة بآية الرحمة الواسعة، مثلما نسخ المتشددون كل آيات الرحمة والصفح بآية السيف.. ويقرأ عليهم في هذه الحالة قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]
قد يقال: بأن هناك ناسا لم يسمعوا بالإسلام، ولا بأدلة الإيمان.. ولذلك، فإنهم معذورون من هذه الناحية.
ونحن لا ننكر هذا، ولكن هذا يصدق على العوام لا على الخواص، وعلى الأميين لا على العلماء.. وحتى لو صدق على العوام، فإن الشريعة تأمرنا بالتوقف في إصدار الأحكام في شأنهم، فلا نحكم لهم بجنة ولا نار، ولا ندعو لهم بأحدهما، لأن الأمر لله تعالى من قبل ومن بعد.
أما أن نصيح في الملأ، ونخطب على المنابر، داعين بالرحمة والمغفرة والجنة لمن قضى حياته يدعو إلى الإلحاد، ويبرره، ويصبغه بالصبغة العلمية، وبسببه صار للإلحاد سوق.. فهذا عجيب وإرجاء لم يحصل مثله في التاريخ.. حتى في تاريخ اليهودية والمسيحية.
مع العلم أننا لو طبقنا على هذا الشخص وغيره ما ورد في حديث المفلس، والذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة، ويأتي قد شتم عرض هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، فيقعد فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) (1) فسنرى ما هو أخطر من كل ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (150)
من أمثلة.. ذلك أن الملحد لم يشتم الناس، ولم يقذفهم فقط، وإنما راح يسرق منهم أغلى جوهرة، جوهرة الإيمان..
فكيف يمكن أن يتعامل هذا الملحد يوم القيامة مع كل الذين يخاصمونه باعتباره الحجاب الذي حجبهم عن الإيمان، والقنطرة التي أدت بهم إلى الإلحاد.. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) (1)
لا يمكننا أن نشبه الدور الخطير الذي يقوم به هؤلاء إلا بذلك الصديق الأحمق الذي أراد أن يذب الذباب عن صاحبه، فقتله.. وهكذا يفعل هؤلاء، فهم بتعظيمهم الملاحدة، وبدعائهم لهم، ينشرون الإلحاد من حيث لا يشعرون، لأنهم يعتبرونه قيمة من القيم المحترمة، في نفس الوقت الذي يجلدون فيه الذات، ويحتقرون القيم الإيمانية والدينية.
وهم في ذلك لا يختلفون عمن وصفهم الله تعالى بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]، فهذه الآية الكريمة تكاد تنطبق على هؤلاء انطباقا تاما، فهم يؤمنون بآيات الرجاء، ولا يؤمنون بآيات الخوف، ولا يقدرونها حق قدرها.. وهم يرددون كل حين بأن سبيل المنحرفين عن الله، والمنفرين عنه، أهدى من سبيل المؤمنين.. وهو ما يفعله التنويريون والمرجئة الجدد كل حين عند تعظيمهم لغير المؤمنين، وتحقيرهم للمؤمنين.
__________
(1) رواه البخاري.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (151)
بالإضافة إلى ذلك كله فإن تلك الدعوات، لا ترتبط بالتدخل في الشؤون الإلهية فقط، ولا ترتبط بالدعوة غير المباشرة للإلحاد فقط.. وإنما لها آثارها الخطيرة على السلوك والقيم جميعا، ذلك أنه من البديهيات أن القيم السلوكية الرفيعة تحتاج إلى حوافز، تدفع إلى العمل بها، وعقوبات تنفر من الوقوع في أضدادها.. فإذا ما رفعت العقوبات.. ولم تبق إلا الحوافز التي يستوي فيها العاملون والمقصرون.. لن تبقى أي قيمة.. بل لن يبقى أي دين.
فهل يمكن أن يستقيم أمر دولة تضع القوانين المشددة للجرائم.. ثم يأتي أئمتها وخطباؤها ومفكروها ليقولوا لعامة الناس: لا تخافوا.. فكل تلك العقوبات المسطرة لن تحصل.. فالحاكم رحيم وصاحب قلب طيب.. وقد وسع برحمته كل رعيته صالحهم ومجرمهم.. برهم وفاجرهم.
هل يمكن أن تبقى في هذه المدينة أي قيم رفيعة، أو أخلاق عالية، أو نظام محكم؟
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (152)
التسامح خلق نبيل دال على رؤية سليمة لحقائق الوجود، ودور الإنسان فيه، وكون الأمر لله في خلقه من قبل ومن بعد.. ولذلك كان رسل الله وورثة الأنبياء عليهم السلام أكثر الناس تحققا بهذا الخلق؛ فهم أكثر الناس سعة صدر، ولين طباع.
ولكن مع ذلك، فإن التسامح له حدوده التي لا يصح أن يتجاوزها، مثله مثل سائر الأخلاق المحصنة بجداري العدل والحكمة..
فمن التسامح ألا نؤذي أصحاب أي دين كان، ولا أن نتدخل في خصوصياتهم، ولا أن نهدم معابدهم، أو نتكبر عليهم بأي لون من ألوان التكبر.. بل نحن مطالبون عكس ذلك بتأليف قلوبهم ومراعاة مشاعرهم، وعدم التعرض لمقدساتهم بالشتم أو السب أو الإساءة.
وقد علمنا الله ذلك مع أشد الناس كفرا، فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فالله تعالى لم يكتف بالنهي عن سبهم، وإنما راح يبرر سبهم في حال حصوله بكونه استفزازا، وعن غير علم.
هذا هو التسامح المشروع، والذي مثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن تمثيل، سواء مع من جاوره من اليهود، أو مع أولئك النصارى الذين وفدوا إليه من نجران.. فقد أنزلهم في المسجد، ولما حانت وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد، فكانوا يصلون في جانب منه (1)، وعندما حاورهم طبق في حواره لهم ما أمرنا الله تعالى به في قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 549)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (153)
وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، ولم يكرههم على الدخول في الإسلام، بل ترك لهم الحرية في الاختيار، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران (1).
ومثّله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يوصي بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين، ويدعو إلى مراعاة حقوقهم، والإحسان إليهم، وينهى عن إيذائهم؛ فيقول: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه ـ أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه ـ يوم القيامة) (2)، ويقول: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما) (3)
لكن مع ذلك، فإن التسامح له حدوده المشروعة التي لا يصح أن نتجاوزها، ومن تجاوزها وقع في الظلم والبخس الذي نهينا عنه.
ومن تلك الحدود ألا نسكت عن النصيحة والتوجيه، فاحترامنا لمقدسات الآخر لا تعني سكوتنا عليها، أو اعتبارها وجهة نظر، بل علينا أن ندعو إلى تصحيحها، ونستعمل كل الحجج لأجل ذلك، كما علمنا ربنا عند حديثه عن الذين ضلوا من أهل الكتاب وأسباب ضلالهم، والردود العقلية القوية على ذلك.
فمن الخداع لهم أن نعتبر ما يقعون فيه من الضلالة هداية، أو نقرهم على ذلك، مع أن الله تعالى أخبر بأنهم انحرفوا بذلك انحرافا خطيرا، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ
__________
(1) المرجع المرجع السابق (3/ 549)
(2) رواه أبو داود (3052)
(3) رواه أحمد 2/ 171 (6592)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (154)
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، فالله تعالى اعتبر القائلين بذلك كفارا، وتوعدهم بالعذب الشديد، ومن احترامنا لكلام الله أن نردد ما قاله، لا أن نناقضه، ونخالفه، ونخدع بذلك أنفسنا، ونخدع قبل ذلك أولئك الذين كان علينا أن ننصحهم، لا أن نجاملهم.
ومن تلك الحدود ألا تنسجم نفوسنا مع الباطل، وتقره، وتذعن له، بحجة التسامح وحرية الفكر والرأي.. فمن العجب أن نرى مسلما يسمع ملحدا يسخر بالله أو يستهزئ به، ثم لا يتحرك له جفن، ولا يهتز له عرق، وكأن شيئا لم يحصل، مع أنه لو تعرض أحد لأبسط شيئ يتعلق به لقامت قيامته، وتخلى عن كل ألوان التسامح والعفو وسعة الصدر.
وهذا المعنى هو الذي يشير إليه قوله تعالى مخبرا عن بعض عقائد أهل الكتاب أو غيرهم من الأديان {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88]، ثم بين تأثير هذه الكلمة العظيمة على الكون جميعا، وكيف ينفعل لها، فقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 89 ـ 92]
ولهذا فإن عدم اهتزاز قلب المؤمن لما يقال في حق الله مما لا يتناسب مع جلاله وعظمته وقدره هو ضعف في الإيمان، وقصور فيه؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتأثر كثيرا بسبب ما يقع فيه المشركون وغيرهم من أنواع الضلالة، كما قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]
لكنا للأسف صرنا نرى من لا يكتفي بعدم تأثره لكفر الكفرة، ولا إلحاد الملحدين، بل نراه يبرر لهم، ويدافع عنهم، بل هناك من يترحم عليهم، ويسأل الله لهم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (155)
الفردوس الأعلى، ومجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. إلى الدرجة التي يتصور فيها عوام الناس أن ذلك الذي عاش ملحدا أو كافرا أو ساخرا من الله سيستقبل من طرف المقربين ليدخل الجنات التي أعدها له هؤلاء المتسامحون.
ويغفل هؤلاء أن مثل هذه المواقف تؤثر في نشر مثل تلك الأفكار.. بل هي أكبر أداة من أدوات نشرها.. فهؤلاء المتسامحون قد يدعو أحدهم على جاره المؤمن بدخول جهنم، وبتلقي كل أنواع العذاب فيها، بسبب دينار أخذه منه، أو مقولة قالها له.. لكنه إن كان الأمر مع الله ومع حقائق الإيمان الكبرى تجده متهاونا متسامحا حليما كريما.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (156)
من أعظم الابتلاءات التي وضعت لتمييز المتجرد للحق من المتبع لهواه ذلك الابتلاء المرتبط بكون الباطل لا يكاد يخلو من الحق، وكون الحق مستعدا للتبلس بأي باطل.. ذلك أن الشر المجرد لا يكاد يوجد، وهنا يقع التمحيص والابتلاء.. لنرى أنفسنا هل نتبع الحق لكونه حقا، أم لكون هوانا هو الذي جرنا إليه؟
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. فنحن مثلا قد نختلف مع المتطرفين في كونهم يتشددون ويتنطعون، وربما يجرهم التشدد إلى العنف.. ولكنا مع ذلك إن عدنا إلى دينهم وجدناهم مؤمنين بالله ورسله، ويعظمون الله ورسله.. ويعظمون الشريعة، ويحترمونها.. ونحن مطالبون في هذا بأن نحترمهم لأجل هذه السلوكات الصحيحة الشرعية، وأن نقبلها منهم، ونشجعهم عليها، ومطالبون في نفس الوقت بالإنكار على تشددهم وتنطعهم وعنفهم.
وهنا يحصل الامتحان.. فمن الناس من ينظر إلى تعظيمهم لله ولرسوله ولما يرتبط بهما من أحكام وشرائع، فيتصور أنهم على الحق المجرد الذي لا يجوز خلافه، فيقع معهم في شراك التشدد والتطرف..
ومن الناس من يخالفهم في تشددهم وتطرفهم، ولكن خلافه يذهب به؛ بعيدا فيجعل همه لا الحق المجرد، وإنما مخالفتهم، فيقع عند فعله لذلك في مخالفة الشريعة، بل في مخالفة قضايا قطعية من الدين، فيظلمهم بذلك، ويظلم نفسه، ويظلم الحقيقة.. وكل ذلك بسبب كونه جعل خلافهم هدفا ومصدرا للحقيقة، ولم يجعل الحقيقة نفسها مصدره.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (157)
وهذا يصدق على كل الطوائف.. ففي الصوفية نواح كثيرة ممتلئة بالجمال والسمو والطيبة.. ففيه السلوك الطيب، والذوق الرفيع، والمعرفة السامية.. لكن الشيطان الذي لم يترك للمتشددين دينهم راح إليهم أيضا يشوه طرائقهم بالبدع والخرافات وأسرار الحروف والطلسمات والكشوفات التي ما أنزل الله بها من سلطان.. وهنا نقع في الحيرة.. هل ننكر كل شيء.. أم نقبل كل شيء.. أم يكون هدفنا الحق المجرد؟
ونفس الشيء يصدق على الحركات الإسلامية.. حيث نجد البعض يشكك في نياتها ويربطها بالماسونية وبالمؤامرات العالمية.. لكن الحقيقة التي يدل عليها ظاهر الأمر لا تدل على ذلك.. هم صادقون في نياتهم، ولكن قد يخطئون في بعض ممارساتهم ومواقفهم، والحكمة تدعونا إلى التمييز بين الحق والباطل، والخبيث والطيب، لا رمي الجميع في سلة واحدة.
وهكذا الأمر مع العلماء والمكتشفين والمخترعين.. ففيهم من قدموا خدمات كبيرة للإنسانية يحترمون عليها، ولكنهم في نفس الوقت قد أساءوا إلى الإنسانية بما نشروه من أفكار خطيرة، أو ما ادعوه من دعاوى عريضة.. والحق الذي يدعونا إلى الاعتراف بالأول، يدعونا إلى التحذير من الثاني.. حتى لا يصبح الأول مطية للثاني، وحتى لا نصبح وسائل وأدوات لنشر الباطل من حيث لا نشعر.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].. فالله تعالى أخبر أنه يميز الخبيث من الطيب قبل أن يرميه في جهنم.. فجهنم مأوى الخبيث لا الطيب.
ومثل ذلك قوله تعالى عن أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (158)
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
وهكذا يكون العاقل الحكيم متثبتا من كل موقف يقفه.. هل أراد به وجه الله، أم أراد به مخالفة قوم من الناس.. فإن كان الأول فهو المتجرد المخلص، وإن كان الثاني، فهو صاحب هوى لا صاحب حق.. فصاحب الحق لا يهمه من يقف معه، أو من يقف ضده.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (159)
من المغالطات التي يمارسها التنويريون الجدد في مناسبات كثيرة ادعاؤهم الرجوع للعلماء، وخاصة الكبار منهم، أو المقبولين لدى عامة الناس؛ وهو تصرف لا يتناسب مع دعوتهم للاجتهاد، والبحث عن الدليل، ذلك أن الاجتهاد يقتضي النظر في المسألة وحججها من غير اهتمام بمن قال بذلك، أو لم يقل.
وقد كان يمكن أن يقبل منهم ذلك، لو أن رجوعهم للعلماء كان سليما، وكان مبنيا على دراسة وتحقيق، وليس عن تهور وعجلة.. ذلك أن العجلة لا تتناسب مع التحقيق، ولا مع البحث العلمي، القائم على التدقيق والأناة للوصول إلى الحقيقة.
ومن الأمثلة على ذلك أنهم يرددون جميعا مقولة الغزالي في [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة] في سعة الرحمة الإلهية، وفي إمكانية شمولها للأمم جميعا؛ وهو قوله: (وأنا أقول: إن الرحمة تشمل كثيراً من الأمم السالفة، وإن كان أكثرهم يعرضون على النار إما عرضة خفيفة، حتى في لحظة، أو في ساعة، وإما في مدة، حتى يطلق عليهم اسم بعث النار، بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى: أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة) (1)
ثم ذكر أن هؤلاء ثلاثة أصناف: (صنف: لم يبلغهم اسم محمدصلى الله عليه وآله وسلم أصلاً، فهم معذورون.. وصنف: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.. وصنف: ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 85.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (160)
كذاباً ملبساً اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له المقفع، ادعى أن الله بعثه وتحدى بالنبوة كاذباً.. فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب) (1)
فهذا النص الذي تعلقوا به، وراحوا ينشرونه في كل محل، وكأنه من آية من القرآن الكريم، لا يدل على ما يقصدونه من الترحم على الكفرة والملحدين، فالغزالي ذكر فيه سعة الرحمة الإلهية العامة، وهو أمر متفق عليه عند جميع المؤمنين، بل عند جميع العقلاء، ولم يذكر فيه الترحم الذي لا يختلف عن طلب الشفاعة والاستغفار وصلاة الجنازة.. فكل هذه أحكام شرعية لم يشر إليها النص الذي اعتمدوا عليه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ذلك النص مقيد بنصوص كثيرة أوردها الغزالي في نفس كتابه هذا، أو في غيره من الكتب ولا يفهم ذلك النص إلا ضوئها.
فقد ذكر في محل قريب من هذا النص ما يناقض كل المستلزمات التي استلزموها من النص السابق، فقد قال: (وأما من سائر الأمم فمن كذبه بعدما قرع سمعه بالتواتر عن خروجه، وصفته، ومعجزاته الخارقة للعادة، كشق القمر، وتسبيح الحصا، ونبع الماء من بين أصابعه، والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه فإذا قرع ذلك سمعه، فأعرض عنه، وتولى ولم ينظر فيه ولا يتأمل، ولم يبادر إلى التصديق، فهذا هو الجاحد الكاذب، وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين) (2)
وهو بهذا يخرج من تلك الرحمة التي ذكرها في النص الأول كل من سمع برسول
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 86.
(2) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 86.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (161)
الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعرض عنه، ولم ينظر، ولم يتأمل، ولم يبحث، ولم يبادر إلى التصديق.. بل اعتبره جاحدا كاذبا.. وهذا الوصف يصدق على الكثير من عوام هذا العصر، فكيف بعلمائهم الذين كانت لهم علاقة بالمسلمين، واحتكاك شديد بهم، بالإضافة إلى سماعهم عن الإسلام.. سواء المشوه والمحرف منه، وغير المشوه والمحرف.. وكان ذلك في الأصل ـ كما يذكر الغزالي ـ داعية للبحث والطلب، كما حصل للكثير من الذين أسلموا بعد البحث والطلب؛ خاصة وأن كل الوسائل متوفرة للتحقيق والنظر.
بل إن الغزالي ـ الذي استعملوه مطية للإرجاء ـ زاد على ذلك التشدد بقوله ـ تتمة للنص السابق ـ: (بل أقول: من قرع سمعه هذا، فلا بد أن تنبعث فيه داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين، ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ فإن لم تنبعث فيه هذه الداعية، فذلك لركونه إلى الدنيا، وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين، وذلك كفر وإن انبعثت الداعية، فقصر عن الطلب، فهو أيضاً كفر) (1)
وهو قول أخطر من السابق، فلا يكفي عند الغزالي مجرد السماع، بل ينبغي أن يسرع في البحث والتحقيق والنظر، فإن منعه ذلك أي مانع من موانع الدنيا، فقد اعتبره كافرا مثله مثل من سبق.
وهو لم يعذر إلا من كان عاميا بسيطا لا قدرة له على البحث والنظر، أو ذلك الذي (اشتغل بالنظر والطلب، ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو أيضاً مغفور له ثم له الرحمة الواسعة) (2)
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 87.
(2) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 87.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (162)
فالغزالي لم يعف إلا من اجتهد، وبحث، ولكن الموت أدركه قبل أن يصل إلى الحقيقة.. لا الذي عاش عمره جميعا جاحدا لها، متبرئا منها، ساخرا من أصحابها.
وهكذا قال قبل ذلك النص الذي اعتمدوا عليه: (فأبشر برحمة الله وبالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح، وبالهلاك المطلق إذا خلوت عنهما جميع.. وإن كنت صاحب يقين في أهل التصديق، وصاحب خطإ في بعض التأويل، أو صاحب شك فيهما، أو صاحب خلط في الأعمال فلا تطمع في النجاة المطلقة.. واعلم أنك بين أن تعذب مدة ثم تخل، وبين أن يُشفَعَ فيك من تيقنْتَ صدقه في جميع ما جاء به أو غيرِهِ. فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء، فإن الأمر في ذلك مُخطِرٌ) (1)
وقبلها، وفي أول الكتاب ذكر ما هو أخطر من ذلك؛ فقد قال ـ عند بيانه لحد الكفر ـ: (لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر، بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين، فاعلم: أن شرح ذلك طويل، ومدركه غامض، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها، لتتخذ مطمح نظرك، وترعوي بسببها عن تكفير الفرق، وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم ماداموا متمسكين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صادقين بها، غير مناقضين لها؛ فأقول: الكفر: هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شيء مما جاء به، والإيمان: تصديقه في جميع ما جاء به) (2)
ثم راح يبين مصاديق ذلك، فقال: (فاليهودي والنصراني: كافران؛ لتكذيبهما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. والبرهمي: كافر بالطريق الأولى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين.. والدهري: كافر بالطريق الأولى، لأنه أنكر مع رسولنا المرسل، سائر الرسل، وهذا لأن
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 88.
(2) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 25.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (163)
الكفر حكم شرعي: كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه.. الحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي، فيدرك: إما بنص، وإما بقياس على منصوص: وقد وردت النصوص في اليهود والنصارى، والتحق بهم بالطريق الأولى: البراهمة، والثنوية، والزنادقة، والدهرية. وكلهم مشركون مكذبون للرسل. فكل كافر مكذب للرسل. وكل مكذب للرسل فهو كافر. فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة) (1)
وهذا النص واضح لا لبس فيه، وقد قاله في نفس الكتاب الذي تعلقوا به، ولو أنهم قرأوه بأناة لفهموا أغراض مؤلفه، ولم يخرجوا كلامه عن حده.
مع أن الغزالي لم يذكر أبدا الدعاء بالرحمة ولا بالمغفرة لأعيان هؤلاء الكفرة وغيرهم، بل ذكر إمكانية أن تسعهم رحمة الله تعالى، ما داموا لم يقصروا في البحث والنظر والتحقيق.
أما إذا عدنا إلى كتب الغزالي الأخرى، والتي خصصها للتربية والسلوك، فنجد الأمر أبعد مما تصوروا، فقد ذكر الغزالي عن نفسه ـ مع كونه مؤمنا مسلما، بل عالما من علماء المسلمين ـ كيف أحاطت به المخاوف من النار وعذابها، خشية أن يكون كل ما هو فيه رياء وسمعة، فقد قال في [المنقذ من الضلال]: (ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي - وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 25.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (164)
العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً، وأحل العزم يوماً، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جلد الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟) (1)
وهكذا ذكر في كتابه [أصناف المغرورين] الكثير من مظاهر الغرور، والتي تتأسس جميعا على الاعتقاد برحمة الله الواسعة مع التقصير في العمل الصالح، وقد عقد فيه فصلا خاصا بعصاة المؤمنين، وعرفهم بأنهم (من يتكلون على عفو الله ويهملون العمل)
ومما جاء فيه قوله: (وأما غرور العصاة بالله من المؤمنين فقولهم: غفور رحيم، وإنما يرجى عفوه فاتكلوا على ذلك وأهملوا الأعمال وذلك من قبل الرجا فإنه مقام محمود في الدنيا. وأن رحمة الله واسعة ونعمته وشاملة وكرمه عميم، وأنا موحدون نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان) (2)
وعندما ذكر منشأ غرور الكفار ومن شابههم من العصاة، قال: (ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله تعالى.. وبصفاته.. فإن من عرف الله تعالى فلا يأمن من مكر الله.. وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم.. مع أن الله تعالى أعطاهم من المال.. وقد حذر الله تعالى مكره فقال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
__________
(1) المنقذ من الضلال (ص: 173).
(2) أصناف المغرورين (ص: 29)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (165)
[الأعراف: 99].. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].. وقال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17].. فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة) (1)
أما في [إحياء علوم الدين]، فقد ذكر فيه ما هو أعظم من ذلك كله، فكل الإحياء دعوة إلى الورع، ومحاسبة النفس، وتفقد النقير والقطمير من الأعمال، مع ربط ذلك كله بمحاسبة الله لعباده، واعتبار الأمل في رحمة الله الواسعة بعيدا عن العمل مجرد أماني كاذبة.
وقد ذكر في باب الخوف والرجاء، خطورة استعمال أدوية الرجاء والأمل في رحمة الله الواسعة مع من غلبته المعاصي، فقال: (اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة، وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله.. وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال.. فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصي؛ فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه، وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد، وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة، بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له) (2)
وذكر في باب التوبة درجات البشر مع الجزاء الإلهي، وكلها ترتبط بالإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يريد فيه صاحبه وجه الله، وأعطى لذلك تشبيها بديعا، فقال:
__________
(1) أصناف المغرورين (ص: 28)
(2) إحياء علوم الدين (4/ 146)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (166)
(الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها، ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة؛ فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس) (1)
ثم راح يحصي هذه الأجناس الكبرى، فذكر أنهم (أربعة أقسام: هالكين، ومعذبين، وناجين، وفائزين).. وضرب مثلا لذلك بأن (يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلى بعضهم فهم الناجون، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون)
ثم بين سبب ما يفعله الملك بهذه الأقسام؛ فقال: (فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة.. ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته.. ولا يخلي إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب، ولم يخدم ليخلع عليه.. ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة)
وعند حديثه عن رتبة المعذّبين، ذكر أنها رتبة (من تحلّى بأصل الإيمان ولكن قصّر في الوفاء بمقتضاه، فإنّ رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلّا اللّه، ومن اتّبع هواه فقد اتّخذ إلهه هواه فهو موحّد بلسانه لا بالحقيقة، بل معنى قولك: (لا إله إلّا اللّه) معنى قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) وهو أن تذر بالكلّية غير اللّه ومعنى قوله (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) ولمّا كان الصراط المستقيم الّذي لا يكمل التوحيد إلّا بالاستقامة عليه
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 24)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (167)
أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة فلا ينفكّ بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير، إذا لا يخلو عن اتّباع الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم فذلك يقتضي لا محالة نقصانا في درجة القرب ومع كلّ نقصان ناران نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنّم كما وصفها القرآن فيكون كلّ مائل عن الصراط المستقيم معذّبا مرّتين من وجهين ولكن شدّة ذلك العذاب وخفّته وتفاوته بحسب طول المدّة إنّما يكون بسبب أمرين أحدهما قوّة الإيمان وضعفه، والثاني كثرة اتّباع الهوى وقلّته) (1)
هذا بعض ما ذكره في [إحياء علوم الدين] من مراتب الناس، وخطورة ما ينتظرهم إن قصروا في الإيمان بالله، أو في سلوك سبيله، أو تجاوز حدوده.
وهكذا نجده في سائر مواقفه؛ حيث نرى موقفه من الفلاسفة منسجما مع ما ذكره في كتبه جميعا؛ فهو يكفر الكثير منهم، مع كونهم موحدين، ويمارسون كل ما يمارسه المسلمون من شعائر وعبادات، وذلك لأسباب بسيطة جدا مقارنة بما يقوله هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين اتخذ الغزالي مطية للترحم عليهم؛ فقد قال في [المنقذ من الضلال]، وهو من أواخر كتبه: (ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم، إلا أنه استبقى من رذاذ كفرهم، وبدعتهم، بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين. كابن سينا والفارابي وأمثالهما) (2)
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 24)
(2) المنقذ من الضلال (ص: 137).
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (168)
وقال عند الحديث عن قسم الإلهيات في الفلسفة الإسلامية المقتبسة من الفلسفة اليونانية: (وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين، على ما نقله الفارابي وابن سينا، ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر) (1)
وتلك المسائل الفرعية التي رأى الغزالي وجوب تكفيرهم فيها، ولم يبرر خطأهم فيها بكونهم مجتهدين، هي ـ كما يذكر في المنقذ من الضلال ـ: (قولهم: إن الأجساد لا تحشر، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.. وقولهم: إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فهو أيضاً كفر صريح، بل الحق أنه: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3].. ومن ذلك قولهم: يقدم العالم وأزليته، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل) (2)
فكيف يستدل بكلام من يقول هذا في جواز الترحم على من لا ينكر النعيم الجسدي فقط، بل ينكر الآخرة أيضا، وينكر معها الله رب العالمين، ولا يكتفي بالإنكار المجرد، بل يستعمل العلم وسيلة للدعوة لذلك الإنكار؟
ولم يكتف الغزالي بكبار الفلاسفة كابن سينا والفارابي، بل راح للمتابعين لهم على أقوالهم يشن عليهم حملته الكبرى في كتابه [تهافت الفلاسفة]، والذي قال في مقدمته: (أما بعد، فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء
__________
(1) المنقذ من الضلال (ص: 143).
(2) المنقذ من الضلال (ص: 148)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (169)
بمزيد الفطنة والذكاء قد رفضوا وظائف الإسلام، واستحقروا شعائر الدين، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا) (1)
ونحن، وإن كنا ننكر عليه هذا التكفير، ولكنا أردنا من خلال ذكره أن ننبه هؤلاء الذين قرأوا نص الغزالي مقلوبا، ولم يفهموا مقصوده، فنقلوه من الرحمة إلى الترحم، ومن المجتهدين في البحث عن الحقيقة إلى المقصرين فيها، ومن العامة البسطاء إلى العلماء الكبار الباحثين، ومن الساكتين اللا أدرية إلى المصرحين بإلحادهم.
وهذا كله كيل بالمكاييل المزدوجة، وتلاعب بالعواطف، بل عبث بها، والبحث العلمي يأبى ذلك كله.
__________
(1) تهافت الفلاسفة ص 38..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (170)
يطرح الكثير من التنويريين الجدد مسألة الرحمة الإلهية الخاصة بغير المسلمين بطريقة وكأنها من القضايا المجمع عليها، وأن كل من مات في أوروبا وأمريكا وغيرهما، حتى لو كان ملحدا عنيدا، وفاسقا عربيدا، سيدخل الجنة مباشرة، وستشمله رحمة الله الواسعة، وأنه كما تنعم في الدنيا، سيتنعم في الآخرة، ولن يحاسب على شيء، ذلك أنه لم تبلغه الرسالة، أو بلغته مشوهة، ولذلك ليس هناك حجة لمن سيسأله عن ربه ونبيه ودينه.
وهذا ما يجعل من المسلمين في بلاد الإسلام، والذين يعيش أكثرهم في ظلال الفقر والبؤس، أو ظلال الاستبداد والظلم، في حيرة من أمرهم.. فهم يحاسبون على الصغير والكبير في الدنيا والآخرة؛ فقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة التي تخبر بالعذاب الشديد المرتبط بما يفعلونه من ذنوب، والتي تصف ذلك بدقة.. فالمسلم إن شرب الخمر سيسقى من طينة الخبال، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا وما طينة الخبال قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار) (1)، وفوق ذلك، فلن يشربها في الآخرة، كما ورد في الحديث: (من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة) (2)
أما الذي عاش في أوروبا وأمريكا يشرب الخمر، ويدمن عليها، ويظل مترددا بين الملاهي، لا يعرف إلها ولا دينا.. فهو عند هؤلاء المرجئة الجدد ممن تشملهم رحمة الله
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (171)
الواسعة، ولذلك لن يحاسب على معاقرته الخمر، لكونه غير مكلف؛ وبذلك فلن يصاب بأي عقوبة، ولن يحرم من أي مزية.
وهذا ما يجعل اللبيب حيرانا في الجمع بين العدالة والرحمة الإلهية.. فإن كانت الرحمة الإلهية واسعة إلى ذلك الحد، فلماذا كان أشقى الناس بها المؤمنون الذين بلغتهم الدعوة.. والذين يتمنون لو أنهم عاشوا في أوروبا وأمريكا صعاليك ملاحدة؛ فذلك خير لهم من أن يعيشوا في بلاد الإسلام ليشقوا في الدنيا، ثم يشقوا في الآخرة.
وقد ذكرت الجواب المفصل عن هذه الشبهة في كتابي [أسرار الأقدار]، عند حديثي عن العدالة الإلهية، وطرحت فيه الآراء المختلفة في المسألة، وبينت مدى صلتها بالرحمة والعدالة الإلهية، ولذلك سأكتفي هنا بالقول الذي يتناسب مع العدالة والرحمة الإلهية، وهو قول ينسجم مع العقل والحكمة، كما ينسجم مع الرحمة والعدالة، كما ينسجم مع النصوص الكثيرة المتعارضة، ويلغي التعارض بينها.
وهذا القول هو أن كل هؤلاء الذين لم تتح لهم فرصة التكليف في الدنيا بأي سبب من الأسباب كالمجانين والصبيان ومن لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم مشوهة، يجرى عليهم امتحان جديد في الآخرة، وذلك بأن يوضعوا في محال معينة، ويرسل إليهم الله تعالى رسولا ـ كما ورد تفصيل ذلك في الحديث ـ فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وبناء على ذلك يكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار.. وبذلك تجتمع النصوص المتعارضة في المسألة.
وهذا القول ينسجم مع العقل بادئ الرأي ذلك أننا إن قلنا بأنهم يدخلون النار، فبأي جناية جنوها؟.. وإن قلنا: إن أمرهم للمشيئة، أو لعلم الله فيهم، فلماذا لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة، فلم تقم محكمة القيامة، ولم يكن هناك حساب ولا كتب ولا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (172)
موازين؟
وإن قلنا ـ بما يقول به المرجئة الجدد ـ: إن أمرهم للرحمة، فقد يقول البالغ: لماذا يارب لم تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الصبي؟.. ويقول العاقل: لم يارب لم تذهب عقلي لأبصر من الرحمة ما يبصره المجنون؟.. ويقول الفيلسوف: لم يا رب لم تجعلني في غياهب الجهل التي حميت بها ذلك الفلاح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟.
وهو ينسجم أيضا مع ما نمارسه في الدنيا، والدنيا صنو الآخرة، كما يقال؛ فإنه إذا تقدم قوم للامتحان، وغاب آخرون عنه لسبب من الأسباب، فإن قوانين العالم كلها تحكم بأن لا يوزع النجاح للغائبين هكذا مجانا، بل يمتحنون مثلما امتحن غيرهم، لتتحقق العدالة بذلك، لأننا إذا رحمنا هؤلاء الغائبين نكون قد ظلمنا أولئك الممتحنين، والذين قد يكون سبب رسوبهم هو اجتهادهم في الحضور للامتحان.
وبناء على هذا، فقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك، سواء في المدرسة السنية أو في المدرسة الشيعية:
أما في المدرسة السنية، ففي الحديث الذي روي من طرق متعددة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، أما الأصم فيقول: (يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا) وأما الأحمق فيقول: (يا رب قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر) وأما الهرم فيقول: (يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا) وأما الذي مات في الفترة فيقول: (ما أتاني لك رسول)، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (173)
إليها) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان ما آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة: لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول الرب سبحانه: إني آمركم بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، ولو دخلوها ما ضرهم، فتخرج عليهم قوابس (2) يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون: خرجنا يا رب وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك فيقولون مثل قولهم فيقول الله عز وجل سبحانه: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم، فتأخذهم النار)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون: لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول ربهم: أرايتم إن أمرتكم بأمر تطيعونه؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعبروا جهنم فيدخلونها فينطلقون حتى إذا دنوا منها سمعوا لها تغيظا وزفيرا فيرجعون إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها، فيقول: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني، فيأخذ على ذلك من مواثيقهم فيقول: اعمدوا لها فينطلقون
__________
(1) رواه النسائي والحاكم وابن مردويه.
(2) قوابس: القبس: الشعلة من النار. النهاية 4/ 4.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (174)
حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا! فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فلو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما) (1)
وفي المدرسة الشيعية، ورد في صحيحة هشام عن أبي عبد الله، قال: (ثلاثة يحتجَّ عليهم: الأبكم، والطفل، ومن مات في الفترة، فترفع لهم نار فيقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى قال تبارك وتعالى: هذا قد أمرتكم فعصيتموني) (2)، ومثله روي في صحيحة زرارة عن أبي جعفر، وغيرها من الروايات (3).
وهذه الأحاديث لا تعني أن الكل سيسقط في الامتحان، وإنما تعني أن هناك ناسا سيسقطون فيه مثلما حصل في الدنيا.
وقد قبلنا هذه الأحاديث بطرقها المختلفة، بناء على اتفاق الأمة عليها من جهة، وعلى انسجامها مع العدالة والرحمة الإلهية من جهة أخرى.
وقد ذهب كبار المحدثين من المدرستين إلى صحتها، وقد رد ابن كثير على من شككوا فيها بقوله: (إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها) (4)
__________
(1) رواه البزار بإسنادين ضعيفين.
(2) الكافي 3/ 249.
(3) انظر: بحار الأنوار:5/ 290.
(4) تفسير ابن كثير: 5/ 58.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (175)
أما ابن القيم فقد أيدها بجملة وجوه، لا بأس من إيراد بعضها هنا (1):
1. منها أن هذه الأحاديث كثرت بحيث يشد بعضها بعضا، وقد صحح الحفاظ بعضها.
2. ومنها أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي.
3. ومنها أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زيادة على أنه قد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها.
4. ومنها أنه وإن أنكرها بعض المحدثين، فقد قبلها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها وأعلم بالسنة والحديث.
ويضاف إلى هذا التأييد الروائي، ما يدل على توافقها مع العدالة والرحمة الإلهية، وما يجمع على أساسه كل النصوص السابقة، وكل الأقوال المبنية عليها.
أما اتفاقها مع العدالة، فحتى لا يتأسف العاقل على أنه لم يكن مجنونا، أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا، وهذا ما نطق به القرآن الكريم ودلت عليه قواعد الشرع، قال ابن القيم: (فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بد أن يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد وتسمع الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين يدي الرب وينطق كل أحد بحجته ومعذرته فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع
__________
(1) أحكام أهل الذمة: 2/ 1147.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (176)
غيرهم) (1)
أما اتفاقها مع الرحمة، فإن الله تعالى يكلف هؤلاء بعد معاينتهم لأمر الآخرة، ويكون التكليف حينها مع شدته هينا.
أما اجتماع النصوص على أساسها، فلأن من هؤلاء من يطيع الله، فيدخل الجنة، ومنهم من يعصيه، فيدخل النار، وبذلك كله وردت النصوص، قال ابن كثير: (وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض) (2)
والاعتراض الثاني الذي قد يوجه لهذا القول هو ما ساد اعتقاده من أن الدار الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، فكيف يكلف هؤلاء بالعمل؟
ومع أن لهؤلاء أحوالهم الخاصة التي قد لا يشاركهم فيها غيرهم إلا أن الأدلة متظافرة على أن هذا الاعتقاد السائد ليس على عمومه، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم:42)، وقد ثبت في الحديث أن المؤمنين يسجدون للّه يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه (3).
وفي الحديث الآخر في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن اللّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول اللّه تعالى: (يا ابن آدم ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة (4).
__________
(1) أحكام أهل الذمة: 2/ 1149.
(2) تفسير ابن كثير: 5/ 58.
(3) رواه البخاري.
(4) الحديث طويل رواه البخاري ومسلم.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (177)
زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من الامتحانات والأسئلة التي يتعرض لها أهل القبور.
وقال نقل المجلسي عن الصدوق قوله: (إن قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك، ويقولون: إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء، تكليف. ودار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة. ودار الجزاء للكافرين إنما هي النار. وإنما يكون هذا التكليف من الله عز وجل في غير الجنة والنار، فلا يكون كلفهم في دار الجزاء، ثم يصيِّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم، فلا وجه لإنكار ذلك) (1)
أما الاعتراض الثالث، فهو تصور استحالة أن يكلفهم اللّه دخول النار، لأن ذلك ليس في وسعهم؛ فغير صحيح لأن ذلك في وسعهم من جهة، وهو مع مشقته لا يختلف كثيرا عن الكثير من التكاليف التي يطلب بها الفوز بسعادة الأبد:
ومنها أن الله تعالى يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً (2)، وهذا يشبه إلى حد كبير هذا الامتحان الذي تعرض له هؤلاء.
__________
(1) بحار الأنوار، ج 5 ص 290..
(2) الحديث طويل، وهو مروي في أكثر أصول السنة، وبهذا اللفظ راه أبو داود وابن ماجه.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (178)
ومنها أن الله تعالى أمر بني إسرئيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها اللّه عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل (1)، وهو لا يقل مشقة على النفوس مما تعرض له هؤلاء.
ومنها أن الكثير من الأوامر التي أمر الله تعالى بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار (فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم وتعريضهم لأسرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من الأمر بدخول النار) (2)
زيادة على ذلك كله، فإن أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ (وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسلاما، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يوطن نفسه عليه أم لا؟ فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه) (3)
ومن هذا الباب أمر الله تعالى الخليل عليه السلام بذبح ولده، ولم يكن مراده تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتسليمه وتقديمه محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.
__________
(1) كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:54)
(2) أحكام أهل الذمة:2/ 1154.
(3) أحكام أهل الذمة:2/ 1152.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (179)
بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولا يقولون: ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية الألم، (فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم) (1)
بل إن اقتحامهم النار المفضية بهم إلى النجاة لا تختلف عن الكي الذي يحسم الداء، أو هي بمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية.
فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء، لأن (الله تعالى اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا لا عقوبة) (2)
وبهذه الوجوه جميعا يمكننا أن نفهم جيدا قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)
وقوله عند ذكر دقة الموازين الإلهية: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ
__________
(1) أحكام أهل الذمة:2/ 1155.
(2) أحكام أهل الذمة:2/ 1156.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (180)
(6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (الزلزلة)
ولا نملك بعد كل هذا إلا أن نكل الأمر لله من قبل ومن بعد، فهو العدل الرحيم، وقد قال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:128)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (182)
تمجيد الملاحدة وأثره في نشر الإلحاد
يتصور البعض أننا نبالغ عندما نتحدث عن هوكينغ أو غيره من الملاحدة الذين لم يكتفوا بإلحادهم، وإنما راحوا يساهمون في نشره، وبث المغالطات العلمية لطرحه، فهم يتصورون أن تمجيد هؤلاء بسبب مواقف وقفوها، أو علوم نشروها، أو خدمات قدموها، لن يتسبب في نشر أفكارهم الخطيرة.. وهذا غير صحيح، والواقع لا يدل عليه.
ومن الأمثلة القريبة على ذلك أن طروحات الفيلسوف الكبير المعروف [اللورد برتراند راسل] لم تكن لتنشر، وتؤدي دورها في نشر الإلحاد بين الطبقات العامة والمثقفة لولا مساهمة الكثير من البلهاء الطيبين في الدعاية له بسبب بعض مواقفه الإنسانية، مثل رفضه التجنيد في الحرب العالمية الأولى، ومثل تحريضه المواطنين الإنجليز على العصيان، وقد تحمل السجن نتيجة لذلك، إضافة إلى تأليفه قرابة سبعين كتاباً في الفلسفة والرياضيات والسياسة والأخلاق والاجتماعيات، إضافة لتكريمه بجائزة نوبل في الأدب..
فقد كان لكل تلك الصفات والمواقف والتكريمات أثرها الكبير على ذلك الجيل، وعلى الأجيال الأخرى إلى عصرنا الحاضر.
ومثله تلك الدعايات المجانية التي قام بها الكثير نحو داعية الوجودية والإلحاد الأكبر جان بول سارتر (1905 - 1980) الفيلسوف والروائي والكاتب المسرحي، بحجة مدافعته عن الثورة الجزائرية في الكثير من كتاباته، ونقده السياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر في العديد من مقالاته ومسرحياته، وبخاصة في The Condemned of
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (183)
Altona والتي عبر فيها عن السخط الأخلاقي ضد اضطهاد السكان المسلمين، وتعذيب الأسرى منهم على يد الجيش الفرنسي، وعن رفضه للفظائع التي ارتكبها النازيون في الجبهة الشرقية.. بالإضافة إلى العديد من المقابلات المهمة مع قادة ومناضلين سياسيين بارزين مثل: جيفارا، وجمال عبد الناصر.. بالإضافة إلى رفضه تسلم جائزة نوبل عام 1964، وتعليله سبب رفضه الجائزة قائلاً: (هؤلاء الذين يقدمون التشريفات سواء كانت وسام شرف أو جائزة نوبل لا يملكون في الحقيقة تقديمها)، ووصفه الجائزة بأنها (سياسية، مثلها مثل جائزة لينين - جائزة عالمية استحدثها السوفيت لتكريم المفكرين - ولو عرضت علي جائزة لينين أيضا سأرفضها)
لكنهم لم يعلموا أن تلك الدعاية المجانية لم تكن لتلك المواقف فقط، وإنما كانت أيضا لتلك الأفكار الوجودية الخطيرة التي ركزت عليها كل كتاباته ومواقفه، والتي عبر عنها بقوله: (إن وجود الله يعطل وجودي أنا، فالأفضل أن لا يكون الله موجودًا حتى أُوجد أنا)، وقوله عن الذين يعتقدون بوجود الله: (إنهم المؤمنون الجبناء القذرون)
ودعواته المختلفة إلى إجابة كل ما تمليه الشهوات على الإنسان.. ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية.. وما تواطأ عليه البشر من أخلاق..
ومن عباراته المشهورة التي لا تزال تتداول قوله: (اركب رأسك أيها الإنسان إلى حيث تشاء ساعة تشاء، وكما تشاء.. لأن الضمير والأخلاق والتقاليد ليست سوى ستار صفيق يحجب عنك حقيقة وجودك)
وقوله: (انطلق: أيها الأحمق الغبي في عمل ما تريد أو تشتهي وتهوى، مهما كان ذلك في اعتبار الناس شرًا، دون أن يكون لأحد عليك سلطان، فأنت الذي تصنع فكرة الخير بحسب مزاجك، وأنت الذي تصنع فكرة الشر، وأنت الذي تخلق فكرة الحق
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (184)
وفكرة الباطل، وأنت الذي تخلق فكرة الحسن وفكرة القبيح) (1)
هذان مجرد نموذجين.. والنماذج على ذلك أكثر من أن تحصى.. فتحضير القيادات الاجتماعية أول خطوة يبدؤها من يريد أن ينشر أي فكرة، أو يدعو إلى أي ضلالة.
ولهذا.. فإن العاقل هو الذي يدرس جيدا كل موقف يريد أن يقفه، وكل شخص يريد أن يشهد له، أو يدعو إليه.. ولا تكفي في ذلك مواقفه السياسية، ولا خدماته الاجتماعية.. فالقضية أخطر من ذلك.
لكن للأسف بعض الناس ينظرون إلى الأمور من زاوية واحدة، ويتصورون أن أعداء هذه الأمة يشتغلون في جهة واحدة.. وهذا خطأ منهجي.. فهم يشتغلون في كل الجهات، وعلى كل الصعد.
ولهذا لم نكن نناقش ما يقول، وإنما نسعى بكل جهدنا أن نفهم ما يقول، ثم نعتقد رغما عنا، وإلا اعتبرنا من حولنا من زمرة المتخلفين الرجعيين الذين لم يرتقوا في سلم التطور الإنساني إلى مداه الأعلى.
__________
(1) نقلا عن: كواشف زيوف، عبدالرحمن الميداني، ص 359 - 377)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (185)
لست أدري السبب الذي يجعلني أشعر بكثير من الأسف والحزن والاشمئزار عند رؤيتي لصور [تشي غيفارا]، وهي معلقة على الصدور والجدران ووسائل النقل وفي كل محل.. وعندما أستمع إلى تلك الحناجر، وهي تتحدث عنه بكل احترام وتعظيم وتقديس.
وهذا ليس لكوني من المعادين لهذه الشخصية، فأنا لا أعرف عنها الكثير، لا أعرف إلا أنه شخصية ثورية كان لها دورها في خدمة بلدها وشعبها، وأنها أصبحت بسبب ذلك أيقونة ورمزا للثورة.. وهذا ما آلمني..
فقد كان يمكنني أن أقبل تحول [تشي غيفارا] إلى رمز للثورة في أي بلد من بلاد العالم، وبين أي شعب من شعوبها.. وكان يمكن أن أقبل بأن تعلق صوره ويقدس في كل تلك البلاد إلا بلادنا الإسلامية.. لأننا بتعليقنا لصوره، وتمجيدنا له، واعتبارنا إياه رمزا كبيرا، نلغي الكثير من الصور والرموز والأبطال.. لأن للنفس الإنسانية مساحة محدودة في تقبل الأبطال.. فلا تستطيع أن تجمع بين الكثير منهم.. بل إنها كلما تأثرت ببطل راحت تمحو غيره.
والمشكلة الأكبر أنها عندما تتأثر ببطل من الأبطال، لا تتأثر به في الناحية التي برزت فيها بطولته فقط، بل تتأثر بنواحيه الأخرى، والتي قد تكون انحرافا أو ضلالة أو فسادا.. بل إنها قد تضيف إلى تأثرها كل شيء حتى طريقة تصفيف البطل لشعره، وطريقة مشيته وحديثه وكل شيء يرتبط به.
وهذا ما جعل من الحاملين لمشعل الثورة في بلادنا الإسلامية، ولفترة طويلة، من
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (186)
أكثر الناس بعدا عن الدين، بل كان منهم من يعتقد أن الدين أفيون الشعوب.. لسبب بسيط، وهو أنه تأثر بأولئك الثوار الشيوعيين أو غيرهم، فراح لا يكتفي بتقليدهم في ثورتهم فقط، وإنما يضيف إليها تقليدهم في إلحادهم وكفرهم بكل القيم الدينية.
ولو كنا نعدم أبطالا وثوارا لكان في ذلك العذر لكل أولئك المتأثرين.. لكن المشكلة هي أن لنا من الثوار والأبطال ما يقف كل ثوار الدنيا أمامهم موقف التلميذ من أستاذه، بل موقف السفح من الجبل، والفأر من الأسد.. فأين أبطالنا العظام، وأين أولئك الأقزام؟
لكن تجاهلنا لهم، وتكبرنا عليهم، وانشغالنا بمذاهبنا وطوائفنا صرفنا عنهم، ليهيئ الأرضية لأولئك الذين وإن قبلنا ثوريتهم، فلن نقبل أخلاقهم ولا دينهم ولا سلوكهم.
ومن أقوى الأمثلة على ذلك.. والذي تمنيت لو علق اسمه في كل محل، ووضع على كل راية، وثبت في كل صدر.. وأنشدت له الأناشيد.. ومثلت فيه الأفلام.. وسميت باسمه الساحات.. إمامنا العظيم، زعيم كل ثوار الدنيا، وأستاذهم الأكبر [الإمام الحسين] الذي هو مدرسة في الثورة، ومدرسة في كل القيم الرفيعة..
فالتعلق به وحده كاف لأن يحقق كل الأغراض.. أغراض الثورة على الظلم.. وأغراض الثورة على النفس.. وأغراض الترقي إلى الملأ الأعلى..
فالثوري الذي ينطلق من الإمام الحسين يختلف اختلافا جذريا عن الثوري الذي ينطلق من [تشي غيفارا].. فالأول ينطلق باسم الحق.. وبوسائل الحق.. لتحقيق الحق.. كما عبر الإمام الحسين عن ذلك بقوله: (إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (187)
المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين)
وأما الثاني، فيخلط الحق بالباطل.. ويصعب التفريق بينهما.. وهذا ما حصل لثوراتنا التي اختلط فيها الحق والباطل، والحرية والاستبداد، فلم نل منها شيئا.. لأن وجهتها لم تكن صحيحة، وأبطالها لم يكونوا حقيقيين.
فإن شئنا أن نبدأ ثورة حيقيقية على أنفسنا الأمارة بالسوء الأول.. فلنذهب.. ولنتتلمذ على الإمام الحسين.. فهو الحقيق بأن تمتلئ بحبه قلوبنا ومشاعرنا وعواطفنا.. وكيف لا نفعل ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح الذي اتفقت عليه الأمة جميعا: (حسين مني وأنا منه، أحب الله من أحب حسينا) (1)، وقال فيه، وهو يشير إليه: (من أحب هذا فقد أحبني) (2)
لكن الطائفية المقيتة جعلتنا نقدم [تشي غيفارا] وغيره على الإمام الحسين.. ولهذا لا يعتب أحد على من يعلق صوره، أو يصيح بحبه، أو ينشد فيه الأشعار.. لكن الدنيا تقام لو فعل ذلك أحد من الناس مع الإمام الحسين.. ولهذا كله أتأسف.. وأدعوكم أن تتأسفوا معي.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك.
(2) رواه الطبراني.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (188)
من المشاهد العظيمة الواردة في القرآن الكريم، والتي يمكن أن نستفيد منها ـ بشرط التدبر والتأمل المتجرد من كل ذاتية ـ الموقف الذي أخبر الله تعالى فيه عن حديث المسيح عليه السلام مع الله تعالى في شأن الذين اتخذوه إلها من دون الله، أو مع الله.
وتظهر قيمة ذلك المشهد عند مقارنته بتلك المشاهد المزورة التي راح يرسمها بعضهم لسؤال الله لعباده في الآخرة، والتي يتألون فيها على الله، ويسيئون الأدب معه، ويطالبونه بلهجة حازمة شديدة بأن يطبق ما ذكره من رحمته التي وسعت كل شيء.. وكأن الله تعالى مؤتمر بأوامرهم، وليسوا هم المؤتمرين بأوامره..
في ذلك المشهد يظهر المسيح عليه السلام بمثل صورته التي عرفناه بها في الدنيا.. صورة العبد المتواضع العارف الرقيق الممتلئ بكل ألوان الأدب.. والذي يعرف قدره، فلا يجاوزه، ويعرف قدر ربه، فيحفظه، ويوقره، ويقدسه.
عندما سأله الله عن أولئك الذين عبدوه من دون الله.. تنصل بكل أدب منهم، بل تبرأ إلى الله من فعلهم.. ثم بين أن شهادته عليهم كانت في الدنيا، أما بعد توفيه، فقد خرج الأمر من يده، وبقي بيد الله.
وبعد أن بين عذره، راح ينطق بهذه الحكمة العرفانية التي تحتاج منا أن نتأملها، لنتأدب مع الله، ونترك له الدينونة المطلقة، ولا نجاوز حدودنا وما أتيح لنا.. لقد قال ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117، 118]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (189)
هكذا بكل أدب خاطب ربه سبحانه وتعالى، فقد ترك الأمر إليه، فلم يقترح عليه شيئا.. بل قال بكل أدب: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]
حتى أنه عند ذكر المغفرة لم يقل: (فإنك أنت الغفور الرحيم).. وإنما قال: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، أي (إن تعذب ـ يا إلهى ـ قومي، فإنك تعذب عبادك الذين خلقتهم بقدرتك، والذين تملكهم ملكا تاما، ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بمملوكه. وإن تغفر لهم، وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فذلك إليك وحدك، لأن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح القوى القاهر الغالب الذي لا يعجزه شيء. والذي يضع الأمور في مواضعها بمقتضى حكمته السامية) (1)
هكذا خاطب الله تعالى بكل أدب ورقة وتواضع وعبودية، ولو أن هؤلاء المتألين على الله تُرك لهم الخطاب، وقد فعلوا من حيث لا يشعرون، لقالوا: (يا رب ارحمهم.. فقد كانوا جهلة.. وكانوا يحبونني كثيرا.. وقد رأوا من المعجزات التي حصلت على يدي ما جعلهم ينبهرون، ويتصورون أني إله.. فلذلك اعذرهم يا رب العالمين، فأنت أرحم الراحمين.. ورحمتك وسعت كل شيء)
أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه العرفان ـ: (يا رب هؤلاء لم يشركوا.. وإنما رأوا تجلي صفات كرمك في فراحوا يعبدونني.. فلذلك لم يكن يعبدونني أنا، بل كانوا يعبدونك أنت)
أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه التنوير ـ: (يا رب هؤلاء طيبون جدا، وقد ملأوا حياة البشرية بالخدمات الجليلة.. فهم الذين اكتشفوا الكهرباء والغاز..
__________
(1) التفسير الوسيط لطنطاوي (4/ 351)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (190)
وهم الذين وفروا للبشرية التي خلقتها كل وسائل الرفاه والراحة.. فلذلك اعف عنهم.. بل ارحمهم.. بل أدخلهم الجنة.. بل ضعهم في جواري في الفردوس الأعلى)
أو يقولون له ـ كما يقول شحرور، وبعض من يزعمون لنفسهم أنهم قرآنيون ـ: (يا رب المسألة بسيطة جدا.. فالإيمان مجرد قضايا فرعية جزئية.. وأنا كان همي في رسالتي إليهم هو نشر قيم السماحة والاعتدال والبعد عن التطرف.. وقد طبقوا الكثير من ذلك.. فارحمهم)
أو يقولون له ـ كما يقول ذلك الخطيب الألمعي الذي يريد أن يحافظ على جمال صورة الله في الغرب ـ: (يا رب ارحمهم.. وارحم حتى الملاحدة.. فإنك إن فعلت ذلك سيحبونك.. وسيقدسونك.. فما الفائدة في أن تلقي بهم في جهنم أو تعذبهم؟.. أليس من الأفضل لك أن تدخلهم جنتك.. فهي لا تكلفك شيئا.. وأنت أرحم الراحمين)
هذه نماذج افتراضية عن سوء أدبنا مع الله.. ونحن نسمعها كل حين من هؤلاء الذين لا يملكون ذرة أدب مع ربهم.. ولو عقلوا، وعادوا إلى كتاب ربهم، وتعلموا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب والتواضع وتوقير الله وتعظيمه.. لكفوا عن كل ذلك.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (191)
عاتبني بعض القراء الكرام على تشبيهي لهوكينغ وبعض الملاحدة ممن صنفتهم ضمن [الملاحدة الطبائعيين] في كتابي [ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ] بالخنازير البرية، ورأى أن ذلك نوع من السباب والشتائم التي لا تليق بمثلي، ولا بأي مؤمن، مع أني ذكرت في مقدمة الكتاب أنه رواية رمزية تحاول أن تصور الحقائق بلغة علمية ورمزية في نفس الوقت.
وقد عبرت عن سر اختياري للخنازير البرية لهؤلاء الطائعيين الملاحدة على لسان [ديموقريطس] اليوناني.. الفيلسوف، صاحب [المذهب الذري].. بقوله: (هذا ما كنت أعتقده، وما كنت أمليته.. وما حولني إلى هذه الصورة الخنزيرية وطباعها القذرة.. فأنا في حياتي لم أمارس سوى ما تمارسه الخنازير من الفتك بالمزارع، وإفساد الحقول، وتخريب العقول.. لقد أعطاني الله من الفرص، وأرسل لي من الحجج، ما كان يمكن أن يحافظ على إنسانيتي.. لكني صرفت نظري عن ذلك كله، ورحت إلى ثياب الخنازير أتقمصها.. وإلى وظائفها أؤديها)
وهكذا وضعت رموزا مختلفة لكل صنف من أصناف الملاحدة، مقتديا في ذلك بما ورد في القرآن الكريم من تشبيهات ورموز، كقوله تعالى في ذلك الذي أوتي العلم لكنه لم يعمل به، وخالفه، وأخلد إلى الأرض: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]
وقوله في الذين يحملون الكتب ويحفظونها، ولا يعملون بما فيها: {مَثَلُ الَّذِينَ
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (192)
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]
وقوله في غيرهم من الذين لا يسمعون ولا يبصرون الحقائق الواضحة: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، فقد اعتبرهم أضل من الأنعام.
ولذلك فإن ذلك التشبيه الرمزي المتناسب مع واقع علماء الملاحدة الذين أبصروا التصميم العظيم للكون، ومع ذلك غضوا أبصارهم عنه، وراحوا يشوهون الحقائق، ويصرفون الناس عنها، هو [الخنزير البري] لكونه لا يهتم بأن يأكل ما يحتاج إليه من ثمار، وإنما يخرب الحقول والمزارع.. فلا ينتفع هو، ولا ينتفع غيره، كما قال قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26].. كما يفعل الملاحدة تماما.
لكن الفرق كبير بينهما، فالخنزير حيوان غير مكلف، ولا يحاسب على تصرفاته، بل هو يفعل ما تمليه عليه طبيعته التي خلق عليها، ولذلك لا لوم عليه.. وفوق ذلك؛ فإن هذا الخنزير عارف بربه مؤمن له مسبح بحمده، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]
وقد روي عن الإمام زين العابدين أنه كان يقول: (ما بهمت البهائم عنه فلم تبهم عن أربعة: معرفتها بالرب تبارك وتعالى، ومعرفتها بالموت، ومعرفتها بالأنثى من الذكر، ومعرفتها بالمرعى الخصب) (1)، بل ورد في الحديث الشريف النهي عن اتخاذ الدواب منابر، وعلل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقوله: (فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله
__________
(1) الخصال، الشيخ الصدوق، ص 260.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (193)
تعالى من راكبها) (1)
لذلك، فإنه إن جاز لي أن أعتذر عن ذلك التشبيه، فإني أعتذر للخنازير البرية العارفة بربها، والتي لم تمارس إلا ما تمليه عليها طبائعها التي خلقت عليها.
وهي فوق ذلك لا ذنب لها، ولم تتسبب في كفر أحد من الناس، ولا إلحاده، ولا نزع نور الإيمان عنه، ولم يكن لديها من القوى العقلية ما كان لأولئك الملاحدة الذين غضوا أبصارهم عن الحقائق، وراحوا يعبثون بها بكل استعلاء وكبرياء.
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (194)
ما خطورة طروحات هوكينغ الإلحادية؟
مع اهتمامي الشديد بطروحات الملاحدة عبر التاريخ، وخصوصا المختصين منهم في علوم المادة، لم أجد أطروحة أكثر جرأة ودجلا وتعنتا وكبرا من الطروحات التي تبناها أو أخرجها هوكينغ.. ولعل ذلك كان السبب في الشهرة الكبيرة التي نالها.. وسأحاول إثبات ذلك الآن.. وأرجو من التنويريين الجدد أن يصبروا، ويتأكدوا قبل أن يحكموا، فلعل ذلك يخفف عنهم ذلك الغلو في تقديس شخص لم ينل شهرته إلا بسبب مقولاته الخادمة للإلحاد.
ولبيان ذلك أذكر أن المقولات الإلحادية منذ عهد ديموقريطَسْ، ذلك الفيلسوف اليوناني المادي صاحب المذهب الذرّي إلى الوقت الذي اكتشف فيه الانبثاق الكوني ـ إما بسبب نظرية الانفجار العظيم، أو بسبب القانون الثاني للديناميكا الحرارية ـ وملاحدة الفيزيائيين يستندون للحالة الثابثة للكون، وكونه قديما لا يحتاج إلى موجد يوجده من عدم.
ولذلك كان المؤمنون منهم يشعرون بحرج عظيم، وهم يناقشون حاجة الكون إلى خالق، خاصة مع قول أكثر الفلاسفة بقدم العالم..
ولهذا نجد صدمة كبيرة أصابت الكثير من الفيزيائيين بعد ورود الأدلة الكثيرة على نظرية الانفجار العظيم..
ومن ذلك موقف بعضهم (1)، وهو عالم الكوسمولوجيا والرياضيات البريطاني
__________
(1) انظر هذه النصوص والتوثيقات المرتبطة بها في كتاب: فمن خلق الله؟: نقد الشبهة الإلحادية [إذا كان لكل شيء خالق، فمن خلق الله؟] في ضوء التحقيق الفلسفي والنقد الكوسمولوجي، د. سامي عامري، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2016.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (195)
المادي (أرثر إدنجتن) (ت 1944 م) الذي اهتزّ لهذا الكشف، وذكر أنّ أصل الكون هو (فسلفيًا أمر بغيض.. وأنّه يبدو أنّ البداية تقدّم صعوبات لا تُقهر إلّا إذا اتفقنا أن ننظر إليها بصراحة تامة كأمر فوق طبيعي)
وهكذا كان موقف (روبرت ويلسن) مكتشف (إشعاع الخلفية الكونية الميكروي) مع (بنزياس)، والذي كان من أنصار الحال الثابتة عن أثر نظرية الانفجار العظيم على قناعاته وعقائده: (لقد أحببت فلسفيًا نظرية الحال الثابتة، وعليّ بوضوح أن أتراجع عن ذلك)
وقال (ألان سنداج) (ت.2010 م) الذي لُقِّب بأبي (الكوسمولوجيا الرصديّة المعاصرة)، وهو من أدقّ من قدّموا تقديرًا علميًا لعمر الكون ـ ([بدء الكون بانفجار] نتيجة غريبة.. لا يمكن أن تكون صحيحة)، لكنه بعد ثبوب الأدلة لم يجد إلا إلى أن يتحوّل في آخر حياته إلى الإيمان بالله.
أما (هويل)، فقد عبر بصراحة عما يحمله ثبوت الانبثاق الكوني من انتصارات للمؤمنين، فقال في كتاب مدرسي ألّفه سنة 1975 م: (الكثيرون مسرورون بقبول هذا الموقف دون البحث عن تفسير فيزيائي للبداية الحادة للجسيمات.. يُنظر إلى البداية الحادة عمدًا على أنّها فوق فيزيائية، أي خارج الفيزياء.. يبدو هذا النمط من التفكير مُرْض للكثير من الناس لأنّ [شيئًا ما] من خارج الفيزياء بالإمكان إضافته إلى بداية الزمن.. لقد وضعت كلمة [إله] مكان [شيء ما] بمخادعة لفظية.. لا أعتقد أنّنا بحاجة إلى استدعاء الميتافيزيقا لحلّ أيّ مشكلة بإمكاننا أن نفكّر فيها)
أما (دنيس شياما) (ت 1999 م)، وهو أستاذ (هوكنغ) في الفيزياء، وأحد كبار
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (196)
المناصرين لـ (نظرية الحال الثابتة) مع زميله (هويل)، فقد تحوّل عن مذهبه بعد اكتشاف (إشعاع الخلفية الكونية الميكروي) ليصبح من أهم المنافحين عن (نظرية الانفجار العظيم)
وقد أقرّ أنّه قد لعب دورًا في الدفاع عن (نظرية الحال الثابتة) لأنّها كانت جذابة بصورة كبيرة لدرجة أنه تمنّى أن تكون صحيحة، (لكن لما تراكمت الأدلة؛ اتّضح بجلاء أنّ اللعبة قد انتهت، وأنه يجب التخلّص من نظرية الحال الثابتة)
وهكذا نرى الكثير من ملاحدة الفيزيائيين يقعون في مواقف حرجة بسبب ثبوب الانبثاق الكوني إما بسبب نظرية الانفجار العظيم أو بسبب القانون الثاني للديناميكا الحرارية.. ولهذا اضطر بعضهم للإيمان والتراجع عن الحالة الثابتة للكون، واضطر آخرون للبحث عن نماذج أخرى بديلة تحاول أن تسد حاجة الكون إلى موجد خارجي.
كما عبر عن ذلك عالم الفيزياء الفلكية (كريستوفر إشام)، فقال: (ربّما أفضل حجة لصالح الطرح القائل إنّ (الانفجار العظيم) يؤيّد الإيمان بالله هو التململ الواضح الذي قوبل به من طرف بعض الفيزيائيين الملاحدة. وقد أدّى ذلك إلى ظهور أفكار علمية، مثل (الخلق الدائم) أو (الكون المتذبذب)، وقد تمّ تقديمها بحماسة تفوق بكثير قيمتها الحقيقية ممّا يلزم المرء بأن يرى دوافع نفسيّة أعمق بكثير من الرغبة المألوفة للمنظّر لدعم نظريّته)
وورد في مقال نشر في مجلّة [New Scientist]: (اعتقد علماء الكوسمولوجيا أنّ عليهم الالتفاف وراء المشكلة.. لقد حاولوا على مرّ السنوات الماضية إثبات عدة نماذج مختلفة للكون تتفادى الحاجة إلى بداية، مع الاستمرار في اشتراط انفجار عظيم. يبدو الآن من المؤكّد أنّ الكون كانت له بداية)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (197)
بعد هذا العرض الموجز لمواقف علماء الفيزياء والكون من الانبثاق الكوني نتساءل عن موقف هوكينغ، أو ما الذي فعله هوكينغ حتى ينقذ الموقف الإلحادي؟
وقبل أن نجيب عن ذلك نحب أن نذكر هنا مقولة للكوسمولوجي الشهير اللاأدري (ألكسندر فلنكن) سنه 2012 م في عيد ميلاد [هوكينج] السبعين، والذي ناقش فيه العلماء أهم نظريات نشأة الكون، حيث قال: (لقد قيل إن الحجة هي التي تقنع العقلاء والدليل هو الذي يقنع حتى غير العقلاء.. لم يعد بإمكان علماء الكون، بعد أن قامت الآن الأدلة، أن يتخفوا وراء إمكانية وجود كون أزلي. لم يعد هناك مهرب، عليهم أن يواجهوا مشكلة البداية الكونية)
والدور الذي قام به هوكينغ لإنقاذ الموقف الإلحادي يتمثل في أمرين، أحدهما شاركه فيه غيره، والثاني انفرد به لوحده.
أما الأمر الأول، فهو أنه مثلما حاول داروين باستماتة أن يستبدل تفسير (الخالق) بخرافة التطور الصدفي والعشوائي في الكائنات الحية، فقد حاول هوكينج استبدال تفسير (الخالق) بخرافة الأكوان المتعددة الصدفية والعشوائية لكي يبرر ظهور كوننا الغاية في الدقة من بينها.
ولذلك افترض في كتابه [التصميم العظيم] بحسابات رياضية معقدة ـ كما توصف ـ ليهرب من الاعتراف بالخالق إلى وجود 10 أس 500 كون.. وذكر أن هذا العدد الضخم يتناسب مع نظريته M التي ستجمع كل قوانين الوجود لتمكننا من فهم كل شيء بعيدا عن الخالق.
وهذا العدد الضخم للأكوان.. أي 10 وأمامها 500 صفر.. لم يخترعه أحد سواه.. وللأسف صار شعارا من شعارات الملاحدة، أو كما عبر عن ذلك [ريتشارد
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (198)
داوكنز] في حواره مع [ستيفن واينبرج] مبينا سبب اعتماد هذه النظرية والاهتمام بها، وهو كونها وسيلة لنفي الإله، وقد قال معبرا عن ذلك: (إذا اكتشفت هذا الكون المدهش المعد فعليا بعناية.. أعتقد أنه ليس أمامك إلا تفسيرين اثنين.. إما خالق عظيم، أو أكوان متعددة)
ونحب أن ننبه إلى أن هوكينج نفسه كان قد أقر في كتابه الأول [موجز لتاريخ الزمن] بحقيقة الضبط الدقيق للكون، وخصوصا الثابت الكوني وضبط مقدار الجاذبية الرهيب، ولم يبق أمامه لتبرير الإلحاد إلا اختراع فكرة الأكوان المتعددة الكثيرة جدا والعشوائية ليكون كوننا هو الوحيد من بينها الذي خرج بهذه الصورة.
وأما الأمر الثاني، وهو أخطر من الأول، وهو محاولة هوكينغ تجاوز نظرية الانبثاق الكوني، ببيان أن الكون حتى لو كان له بداية فإنه لن يحتاج إلى الخالق، ذلك أن القوانين الكونية وحدها كفيلة بخلق الكون، وهذا ما لم يقله غيره.
وقد عبر عن ذلك بقوله: (تماما مثلما فسر دارون ووالاس كيف أن التصاميم المعجزة المظهر في الكائنات الحية من الممكن أن تظهر بدون تدخل قوة عظمى، فمبدأ الأكوان المتعددة من الممكن أن يفسر دقة القوانين الفيزيائية بدون الحاجة لوجود خالق سخر لنا الكون.. فبسبب قانون الجاذبية فالكون يستطيع ويمكنه أن ينشيء نفسه من اللاشيء.. فالخلق الذاتي هو سبب أن هناك شيء بدلا من لا شيء، ويفسر لنا لماذا الكون موجود، وكذلك نحن) (1)
ونحب أن نشير هنا إلى أن قول الرياضي والفلكي المعروف [بيير سيمون لابلاس] حين سأله نابليون عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام
__________
(1) المرجع سابق.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (199)
السماوية، فقال له بكل ثقة: (يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض) (1) كان مبنيا على الحالة الثابتة للكون، أي أنه قال ذلك قبل الانفجار العظيم..
وهكذا حين نقارن بين نيوتن ـ وهو رائد العلماء في عصور النهضة، بل ربما في كل العصور، ومع كونه عاش في الزمن الذي كان يعتقد فيه بالحالة الثابتة للكون ـ مع هوكينغ نجد الفرق الكبير بينهما، فقد قال نيوتن متحدثا عن كتابه [برينسيبا ماثيماتيكا] الذي يعد من أعظم الكتب العلمية، وأكثرها تأثيرا في مسار التطور العلمي، ولا سيما في الفيزياء: (لقد كتبت هذا الكتاب وأنا أضع نصب عيني أن يكون سبيلا إلى مساعدة الناس على أن يؤمنوا بالله المعبود، ولن يسعدني شيء أكثر من تحقيق هذه الغاية)، ومن أقواله المأثورة: (يكفي أن أنظر لإبهامي حتى أكون مؤمنا بالله)
أما أعلام الفيزياء المتأخرون، فقد ذكر مؤلفا كتاب [العلم في منظوره الجديد] (2) الكثير من النماذج الدالة على تحولهم إلى الإيمان مقارنة بالفيزيائيين الكلاسيكيين.
ومن أمثلتهم ـ كما يذكر الكاتبان - الفيزيائي ادموند ويتيكر الذي نقلا عنه قوله: (ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية، والأبسط أن نفترض خلقا من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم)
ومثله الفيزيائي ادوارد ميلن الذي انتهى بعد تفكره في الكون المتمدد إلى هذه
__________
(1) نقلا عن العلم في منظوره الجديد لروبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو، ترجمة كمال خالايلي، طبع سلسلة عالم المعرفة، ورقمه في السلسلة (134)، ص 54.
(2) وهو من الكتب المهمة التي ترد على الإلحاد، وتذكر مواقف العلماء في المجالات المختلفة، وذاك فى شكل موازنة بين مقولات النظرة العلمية القديمة والنظرة العلمية الجديدة، ويعرض المؤلفان روبرت م. أغروس وجورج ن..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (200)
النتيجة: (أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله)
وهكذا صرح كبار أعلام الفيزياء الحديثة من أمثال [فيرنر هيزنبرج] صاحب مبدأ اللاحتمية أو الارتياب الذي عبر عن ذلك بقوله: (كنت طوال حياتى مدفوعا الى تأمل العلاقة بين العلم والدين ولم أجد فى أى وقت مهربا من الاقرار بدلالة العلم على وجود الاله)
وقال: (ما الذى يحكم حركة الابرة المغناطيسية لتستقر تجاه الشمال والجنوب، إنه نظام مبهر تحكمه قوة حكيمة قادرة، قوة لو اختفت من الوجود لاجتاحت الجنس البشرى مصائب رهيبة مصائب أسوأ من الانفجارات النووية وحروب الإبادة)
ومثله قال [اروين شرودنجر] مؤسس علم [ميكانيكا الموجات]: (إن الصورة التى يرسمها العلم للوجود من حولنا قاصرة للغاية، فبالرغم من الحقائق الكثيرة التى يقدمها لنا ويصيغها فى القوانين التى تحكم الوجود يقف العلم كالأبكم أمام الأمور القريبة من قلوبنا والتى تهمنا حقيقة)
ويقول [ماكس بلانك] العالم الألماني صنو أنشتاين والحائز على نوبل 1918 م ومؤسس فيزياء الكم: (لا يمكن أن نجد تعارضا حقيقا بين العلم والدين فكلاهما يكمل الآخر، إن كلا من الدين والعلم يحارب فى معارك مشتركة لا تكل ضد الادعاء والشك والتسلط والالحاد من أجل الوصول الى معرفة الإله)
ويقول: (العِلم الطبيعي لا يستطيع حل اللغز المُطلق للطبيعة، وذلك لأنه في التحليل الأخير نكون نحن أنفسنا جزء مِن الطبيعة، وبالتالي جزء من اللغز الذي نحاول حله)
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (201)
ويقول [بول ديراك]، وهو من كبار مؤسسى فيزياء الكم: (إن الاله خالق حسيب استخدم أرقى مستويات الرياضيات فى تصميم الكون ووضع قوانينه)
ولهذا نرى كبار الفيزيائيين المعاصرين، ومنهم زملاء لهوكنيغ نفسه ينحون عليه باللائمة بسبب استعماله الفيزياء لإرضاء النزوات الإلحادية، فهذا الفيزيائي الشهير [راسل ستانارد] يقول في مقاله في الجارديان: (إن فلسفة هوكنج هو تحديدا ما أعارضه فهي كما وصلتني مثال واضح على التعالم ـ ساينتزم- فطرح أن العلم هو مصدر المعلومات الوحيد وأننا لدينا فهم كامل لكل شيء هو هراء بل وهراء خطير أيضا فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور بشكل مبالغ فيه)
ويقول البروفسور جون بولكنجهورن من أشهر علماء الفيزياء النظرية: (إنها - يقصد الأكوان المتعددة ـ ليست فيزياء إنها في أحسن الأحوال فكرة ميتافيزيقيه ولا يوجد سبب علمي واحد للإيمان بمجوعة من الأكوان المتعددة... إن ماعليه العالم الآن هو نتيجة لإرادة خالق يحدد كيف يجب أن يكون)
ويقول الفيزيائي الشهير [روجرز بنروز]، وهو الذي أثبت مع هوكنج حدوث الإنفجار الكبير مُعلقا على كتاب هوكينج [التصميم العظيم]: (على عكس ميكانيكا الكم فإن النظرية M لاتملك أي إثبات مادي إطلاقا)
ويقول البروفيسور بول ديفيز الفيزيائي الإنجليزي في الجارديان منتقدا هوكنج بشدة: (تبقى القوانين المطروحة غير قابلة للتفسير.. هل نقبلها هكذا كمعطى خالد؟ فلماذا لانقبل الله؟ حسنا وأين كانت القوانين وقت الإنفجار الكبير؟ إننا عند هذه النقطة نكون في المياه الموحلة)
ويقول الفيزيائي وعالم الفضاء [مارسيلو جليسر]: (ادعاء الوصول لنظرية نهائية
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (202)
يتنافى مع أساسيات وأبجديات الفيزياء والعلم التجريبي وتجميع البيانات، فنحن ليس لدينا الأدوات لقياس الطبيعة ككل فلا يمكننا ابدا أن نكون متاكدين من وصولنا لنظرية نهائية وستظل هناك دائما فرصة للمفاجآت كما تعلمنا من تاريخ الفيزياء مرات ومرات. وأراها إدعاء باطل أن نتخيل أن البشر يمكن ان يصلوا لشيء كهذا.. أعتقد ان على هوكنج أن يدع الله وشأنه)
ويقول الفيزيائي بيتر ويت من جامعة كولومبيا: (لست من أنصار إدخال الحديث عن الله في الفيزياء لكن إذا كان هوكنج مصرا على دخول معركة الدين والعلم فما يحيرني هو إستخدامه لسلاح مشكوك في صلاحيته أو فاعليته مثل النظرية M)
ويقول ويليام كريج الفيلسوف الأمريكي ساخرا: (لا شيء جديد علميا في هذا الكتاب بالمره ولكن نقاش فلسفي بحت خصوصا في الثلث الأول، وهو شيء غريب إذا علمنا أن هوكنج في أول صفحة من كتابه يقول إن الفلسفة قد ماتت)
ويقول فيلسوف الفيزياء [كريج كالندر] في جامعة كاليفورنيا ساخرا: (منذ ثلاثين عاما صرح هوكنج بأننا على أعتاب نظرية كل شيء، وبحلول عام 2000 وحتى الآن في عام 2010 لاشيء.. لكن لايهم فهوكنج رغم ذلك قرر أن يفسر سبب الوجود بالرغم من عدم وجود النظرية.. إن ما يتحدث عنه هو مجرد حدس غير قابل للاختار أبدا)
ويقول الدكتور [هاميش جونستون] محرر موقع عالم الفيزياء: (توجد فقط مشكلة صغيرة وهي ضحالة الدليل التجريبي للنظرية M.. بمعنى آخر فهناك عالم كبير يخرج بتصريح للعامة يتحدث فيه عن وجود الخالق إعتمادا على إيمانه بنظرية غير مثبته.. إن الفيزياء بحاجة لدعم العامة حتى لاتتأثر بتخفيض النفقات وهذا سيكون صعبا جدا
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (203)
إذا ظنوا أن معظم الفيزيائيين يقضون وقتهم في الجدال عن ما تقوله نظريات غير مثبته عن وجود الخالق)
وأما الصحفي العلمي جون هورجان كتب مقالا بعنوان [البهلوانية الكونية] صف النظرية M التي يعتمد عليها هوكنج بالحثالة، وقال: (هوكنج نفسه قال باستحالة اختبار نظريته.. أن تضع نظرية لكل شيء فأنت لديك لاشيء.. أن يكون خلاصة بحثه هو النظرية M غير القابلة للإثبات.. إننا نخدع انفسنا إن صدقناه)
ويقول بروفيسورالرياضيات [جون لينوكس]: (إن قول أن الفلسفة قد ماتت خطير جدا خصوصا عندما لا تتوقف أنت نفسك عن استخدامها... ولأن هوكنج لديه فهم مغلوط لكل من الفلسفة والدين فهو يريدنا أن نختار بين الله وقوانين الفيزياء.. إن القوانين الفيزيائية لايمكن أن تخلق شيئا فهي مجرد الوصف الرياضي للظواهر الطبيعية.. فقوانين نيوتن للحركة لن تدفع كرة البلياردو على الطاولة بدون لاعب يضربها، فالقوانين لن تحرك الكرة فضلا عن خلقها.. إن ما يقوله هو خيال علمي بحت.. من أين جاءت الخطة الكونية التي تحدث عنها هوكنج؟ إنها ليست من الكون فمن جعلها تعمل إن لم يكن الله؟.. إن محاولة العلماء الملحدين الهروب من فكرة الخالق يجعلهم يعزون الوجود لأشياء أقل مصداقية كالطاقة والقوانين أوالكتل.. بالنسبة لي كلما زاد فهمي للعلم كلما زاد إيماني بالله لتعجبي من اتساع وتعقيد وتكامل خلقه)
ثم ضرب الأمثلة على إيمان كبار العلماء عبر التاريخ بوجود الخالق، فقال: (إسحق نيوتن بعدما إكتشف قانون الجاذبية وألف أهم كتاب علمي في التاريخ (برينسيبا ماثيماتيكا) قال إنه يأمل أن يساعد أصحاب العقول (أولى الألباب) أن يؤمنوا بالله.. وكانت قوانين آينشتين الرياضية مثار اندهاشه الدائم وإيمانه بوجود قوة حكيمة
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (204)
جبارة خلف هذا الكون (وإن لم يؤمن بإله الكتاب المقدس)... وآلان سانداج المعروف بالأب الروحي لعلم الفلك الحديث الحائز على أرفع الجوائز قال: إن الله هو التفسير لمعجزة الخلق)
هذه اقتباسات من أكبر علماء العصر في المجالات التي تخصص فيها هوكينغ، وللأسف لا يعرفهم هؤلاء التنويريون، ولا يهتمون بهم، ولا يترحمون عليهم إذا ماتوا، لسبب بسيط وهو أن الإعلام الملحد لم يتبناهم، ولم يقم بالدعاية لهم..
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (205)
من المهارات الكبرى التي يتقنها الإنسان الغربي عموما، وساسته ومثقفوه خصوصا قدرة التلاعب على أوتار العواطف.. وتبادل الأدوار فيها.. وهي تضاهي بنفس القيمة والمقدار مهارتنا في استعمال عواطفنا والخضوع لها، وتحييد العقل بأنواعه عند التعارض معها.
ويحضرني في هذا ما ذكره لي بعضهم أن الاستعمار الفرنسي كان يدخل القرية، فيعتقل شبابها، ويصادر ثرواتها.. وقبل انصرافه يوزع جنوده بعض الحلوى على أولاد القرية، فيصيح عجائزها قائلين: ما شاء الله.. كم هم لطيفون هؤلاء الفرنسيون.
وهذا ما يحصل لنا الآن بالضبط.. لكن الذي يصيح ليس عجائزنا، وإنما مفكرونا ومثقفونا والنخبة منا.. فأمريكا تفعل ما تفعل.. تدمر الأخضر واليابس.. وتزرع فينا وفي أرضنا كل ألوان السموم.. ثم تذهب إلى كل قطرة من بترولنا وخيراتنا لتستلبها رغم أنوفنا.. ثم إذا ما رأت الأحقاد بدأت تتسرب إلينا بسببها أرسلت لنا ممثلة رقيقة، أو صوتا حانيا، أو دبلومسيا ذكيا ليمسح عن قلوبنا مشاعر الكراهية، ويعيد بوصلتنا إلى قبلة البيت الأبيض من جديد.
وهذا ما يفعلونه هذه الأيام مع هوكينغ.. فمع أن لديهم الكثير من دعاة الإلحاد بأنواعه المختلفة إلا أنهم اختاروا شخصية هوكينغ خصوصا، ولمعوها تلميعا عظيما، وأعطوها بعدا إنسانيا رفيعا.. وصوروه بصورة الجبار الذي تحدى كل الإعاقات.. ليصيح بقوة بمثل ما صاح به نيتشة عن موت الإله.. وصوروه بصورة المساند للشعب الفلسطيني، بل بصورة المقاوم للكيان الصهيوني.. وكل ذلك ليمرروا لنا مشروعهم
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (206)
التدميري من خلاله، ومن خلال الكوفية المزورة التي ألبسوه إياها.
والإلحاد هو المشروع الغربي الجديد لأمتنا.. وهو خطير جدا، لأنه يريد أن يستل الجوهرة التي تنبع منها كل فضائل.. جوهرة الإيمان بالله.. ذلك أنهم رأوا أنهم مهما فعلوا بنا نعود من جديد بسبب تلك الجوهرة الثمينة إلى وعينا وحقيقتنا، فلذلك راحوا يهونون من شأنها.. ويساوون بين الملحد والمؤمن.. بل يجعلون الملحد أفضل من المؤمن.
وبما أننا قد عطلنا عقلنا المجرد الذي يعتبر الإيمان هو قمة قمم المعرفة.. ومن لم يؤمن بالله، فإن علومه لا تساوي شيئا.. بل إن أبسط مؤمن بالله أكثر علما وأكبر عقلا من كل ملاحدة الدنيا.. وبما أننا عطلنا عقلنا المؤيد والمسدد، والذي دلنا من خلاله الوحي المقدس على أن الجاهل بالله والمنكر له جاهل مهما أوتي من العلم.. ذلك أن علومه جميعا لا تساوي شيئا أمام إنكاره لهذه الحقيقة العظيمة.
وقد قال تعالى عن أولئك المشركين المتباهين بعلومهم أمام الرسل عليهم الصلاة والسلام: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]
والفرح هنا بمعنى التكبر والخيلاء والبطر.. وهو متحقق في واقعنا للأسف مع المسلمين المستلبين حضاريا وفكريا.. حتى أنه إذا قرئت على أحدهم الآية من القرآن الكريم، والحاوية لكل المعجزات، وكل حقائق الوجود، تجده ينفر منها، ويؤولها ويعطلها، فإذا ما قرئت عليه كلمات أعجمية، راح ينبهر بها، ويلغي بها ما بقي له من عقل.. وكل ذلك تفكير عاطفي لا حظ له من العقل المجرد، ولا المسدد، ولا المؤيد.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (207)
لم يكتف التنويريون الجدد.. أولئك المستلبون فكريا وحضاريا وإيمانيا.. بالترحم على هوكينغ، وسكب الدموع عليه وإقامة المآتم والتابينيات عنه وعن روحه.. وإنما راح بعضهم يحوله شهيدا.. بل يحوله آية من آيات الله التي يباهي الله بها عباده.. ووليا من أوليائه القديسين.. ويوشك أن يأتي بعض رجال الأعمال ليبني له قبة، ويؤسس له مزار.. وقد تتحول بسببه واشنطن أو نيويورك أو أي مدينة تحظى بجسده، أو ببعض آثاره إلى مدينة مقدسة.
هذا الكلام ليس مبالغة، بل هو حقيقة.. وقد أفرزها ـ للأسف ـ من لم نتوقع منه إلا ذلك.. وهو [محمد شحرور] ذلك الذي يزعم أنه تنويري وقرآني، وهو يخرج لنا كل حين ما يثبت المسافات الهائلة بينه وبين كليهما.. فالحقائق القرآنية واضحة جدا، ولا تحتاج إلى كل تلك التلاعبات اللفظية التي يمارسها هو وأمثاله، وهي ما جعلتهم يلوون أعناق النصوص المقدسة لتنسجم مع كل ما يريدونه، أو ما تفرزه أهواؤهم.
كتب محمد شحرور في مقال له تحت عنوان [إني جاعل في الأرض خليفة].. وهو مقال يغزو الشبكات الاجتماعية، وينتشر بينها انتشار النار في الهشيم.. يقول: (رغم أني كمؤمن موقن بوجود الله، أختلف مع هوكينغ في هذه الجزئية تحديداً، إلا أنه بنظري شهيد، بغض النظر عن إيمانه أو عدمه، فالهدف من وجودنا يحققه أمثاله، وبدونهم سنبقى غافلين)
ونلاحظ شحرور من خلال هذه الكلمات كيف يهون من [وجود الله] الذي هو أساس العقائد، حيث أصبح عنده مجرد جزئية بسيطة يمكن التنازل عنها.. وذلك يعني
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (208)
ـ حسبما يصور ـ أن الإنسان يمكن أن يمارس دوره في الخلافة من غير أن يعتقد وجود الله.. ومن غير أن يؤمن به طبعا.. فالوجود هو الأساس لكل العقائد.
بل إنه رفعه إلى رتبة الشهادة، وهي ليست شهادة التضحية ـ بحسب قصد شحرور ـ وإنما هي تلك الشهادة التي وصف الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام فقال عن المسيح: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]، وقال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]
وبذلك تحول هوكينغ ـ عند شحرور ـ إلى ما يشبه الأنبياء عليهم السلام، ذلك أنه لا فرق بينه وبينهم سوى في تلك الجزئية البسيطة التي لا قيمة لها في موازين الحياة.. جزئية الإيمان بالله.
ثم يترقى شحرور في الرفع من مكانة هوكينغ ليذكر أنه غاية الغايات.. وأنه لولاه ما خلقت الأفلاك.. (فالهدف من وجودنا ـ كما يقول ـ يحققه أمثاله، وبدونهم سنبقى غافلين)
ثم يورد ـ للتلاعب بمشاعر القراء ـ مقارنة بين إبراهيم عليه السلام ذلك الأواه المنيب، وهوكينغ.. فكلاهما في نظره واحد.. وليس من فرق بينهما سوى في جزئية الإيمان..
والدليل على ذلك ـ كما يصوره هو أن (الإنسان هو وجود فيزيولوجي (بشر) مضافاً له كم معرفي (الروح)، وهذه الروح هي التي ميزته عن باقي المخلوقات، فكلما زاد الكم المعرفي زادت إنسانية الإنسان وابتعد عن المملكة الحيوانية)، وبما أن هوكينغ له كم معرفي كبير ـ كما يذكر شحرور ـ مقارنة بغيره، فهو صاحب روحانية أكبر،
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (209)
ووظيفته في الكون تابعة للمدى الذي وصلت إليه روحانيته.
هذه مجرد قصاصات من الغثاء الذي وقع فيه المستلبون فكريا وحضاريا وإيمانيا.. أولئك الذين يتلاعبون بالقرآن الكريم، وبكل المقدسات لأجل إرضاء نزوات الهوى التي ينفخها الشيطان فيهم.
وأنا شخصيا أفضل الملحد الجاد، أو اللاديني الواضح على أمثال هؤلاء المتلاعبين الذين لا يختلفون عن أولئك الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وفي كل واد يهيمون..
فالوضوح علامة الصدق.. والصدق قد يكون مركبا للوصول إلى الحقيقة.. أما الغموض، فهو وسيلة النفاق والخداع.. وهما في الدرك الأسفل من النار.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (210)
من خلال مساجلاتي السابقة حول هوكينغ رأيت أكثر المنبهرين به لا ينطلقون من حقائق علمية، ولا من دراسة متأنية لأطروحاته وأفكاره، بل بعضهم لا يعرفها أصلا، ولم يسمع بها أبدا.. وربما لم يعرف الشخص إلا من خلال ذلك التهويل الإعلامي المرتبط به.
وعندما أتيحت له الفرصة للنظر إليه اكتفي بالنظر إلى شخصه وإعاقته، وانشغل بمشاعره الأليمة نحو إعاقته الجسدية عن الألم على إعاقته الفكرية التي هي أحوج إلى الحزن منها من الإعاقة الجسدية.
وهذا ما يبين مدى التخلف الذي نعيش فيه.. فنحن ننبهر بالأشخاص، لا بالأفكار، ونعيش عالم الأجساد، لا عالم الأرواح.. ولذلك يستعمل الغرب معنا وسائل الإثار الجسدية أكثر مما يستعمل وسائل الإقناع الفكري.. لأننا ببساطة نستعمل مشاعرنا أكثر مما نستعمل عقولنا.
ولهذا راح يعزف بواسطة شخص هوكينغ على الكثير من الأوتار..
أولها هو انبهارنا بالغرب وخصوصا أمريكا وتطورها العلمي الذي جعلها تحول من إنسان معاق لا قدرة له على الكلام ولا الحركة إلى باحث وكاتب وفيزيائي ورياضي وفليسوف.. وعبقري زمانه.. والانبهار بأمريكا هو المقدمة للسقوط في مشاريعها، والتحول إلى أداة من أدواتها.
وثانيها هو الانبهار بالشخص نفسه.. بإعاقته وعبقريته وتحديه.. والغفلة عن أفكاره الخطيرة جدا.. فلذلك يقدمون له الدعاية المجانية.. التي هي مقدمة للدعاية
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (211)
لأفكاره.
وثالثها.. وهو أخطر الجميع هو تهوين أمر الإيمان بالله.. واعتباره قضية ثانوية لا قيمة لها.. فالإنسان عندهم هو الذي يلبي شهواتهم ويقدم لهم الكثير من اللعب التي ينشغلون بها، حتى لو حطم إيمان الملايين من الناس.
فمشكلة هوكينغ ليس في كونه ملحدا.. وإنما في استغلاله لمجال تخصصه للدعوة للإلحاد.. فقد كان يخاطب الجماهير المعجبة بشخصة قائلا: لا حاجة لكم للإيمان بالله.. فقد دل العلم على أنه يمكن وعن طريق قوى بسيطة كالجاذبية أن تتخلق الأشياء من غير حاجة إلى خالق.. وهذا ما خالفه فيه كل الفيزيائيين الذين لم تتح لهم فرصة الإعاقة حتى يسمع الناس أفكارهم، ويقتنعوا بها.
وهو في ذلك يشبه الطبيب الذي يغري المرضى بالسموم التي تقتلهم.. والمرضى لا يملكون إلا طاعته.. لكونه طبيبا ومتخصصا.. ولا يتكلم في الظاهر إلا على ضوء تخصصه.
هذه هي مشكلتنا.. ولذلك استطاع الغرب أن يملي علينا حربه الناعمة.. التي لا تشمل فقط تخريب البنيان، بل تتعداه إلى تخريب الإنسان.
أرجو من الصادقين الذين جربوا عواطفهم أن يجربوا عقولهم.. وأن ينظروا إلى المسألة من زاوية أعمق.. فأنا لا أتحدث عن هوكينغ المعاق.. وإنما أتحدث عن هوكينغ الذي تحدى الله.. وراح يلغيه من الوجود.. واتبعه على ذلك الجماهير الكثيرة من الناس.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (212)
أخبروني عن خدمات هوكينغ للإنسانية
كل الذين جادلوا في هوكنيغ بعلم أو بغير علم راحوا يذكرون خدماته الجليلة للإنسانية.. ولست أدري هل يعون ما يقولون أم أنهم مجرد مغردين لما يقال.. لا يفهمون معناه ولا فحواه.. وإنما يكتفون فقط بتلك الألفاظ المنمقة والجمل المزخرفة التي لا معنى لها لديهم.
وأنا أسألهم هنا عن المرض الذي شخصه، والدواء الذي اكتشفه، والذي حفظ صحة البشرية، وطور طبها، وقاوم الأدواء التي تفتك بها، مثلما فعل آلاف الأطباء المجاهيل الذين جعلهم الله وسائل لحفظ الصحة، وحفظ الحياة، وجمالها.
فكم من طبيب اخترع كبسولة دواء كانت سببا في حفظ صحة الملايين من البشر.. ومع ذلك لم يسمع به أحد.. ولا ترحم عند وفاته أحد.. ولا بكت عليه عين.
فإن لم يكن له اكتشافات من هذا النوع، فليخبروني عن التقنيات التي طورها.. وهل ساهم في خدمة الإعلام الآلي أو الذكاء الصناعي؟.. وهل صمم البرامج النافعة؟.. أو وضع النظريات العلمية المفيدة لتطوير التقانات؟
فإن لم يفعل ذلك.. فهل كان مهندسا حفظ البنيان من الزلازل والبلايا؟.. أو كان عالم بيئة وضع الخطط لحمايتها؟.. أو كان فلكيا عرفنا بأسرار الكون وجماله؟
فإن لم يفعل كل ذلك فليخبروني عن الخدمة التي قدمها.. فأنا من خلال مطالعتي الواعية والدقيقة لكتبه وأفكاره وطروحاته لا أرى إلا أن كل ما طرحه لا يساوي كبسولة دواء، أو تخطيط معماري، أو اختراع مهندس.
فإن كنت مخطئا.. وقد أكون كذلك.. فأخبروني أنتم عن هذه الخدمات الإنسانية
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (213)
التي تمجدونها، وتلغون الآخرين بسببها، ولو كانوا من طينتكم وأهل بلدكم، وتذكرونه.
وأنا أجزم أنه لو كان في بلادنا العربية أو الإسلامية رجل مثله.. وأتى بما أتى.. وكتب ما كتب.. فلن يلتفت له أحد.. ولن يسمع به.. بل قد ينال منا السخرية.
وأنا أعرف الكثير من الفيزيائيين العرب والمسلمين الذين لم يسمع بهم أحد.. وعندما ماتوا لم يترحم عليهم أحد.. لكون ذلك الإعلام المؤدلج لم يتحدث عنهم، ولم يشد بهم.
فهؤلاء الذين يزعمون كل ذلك لا يعرفون المطالعة ولا البحث العلمي، وإنما هم ضحايا الإعلام الذي يسيرهم كما يشاء، ويحدد لقلوبهم مواضع المحبة والبغض، ومواضع الرضا والغضب.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (214)
الرحمة والترحم.. والمصادرة على المطلوب
تحضرني ـ وأنا أقرأ الكثير من الردود اللينة على [ولي الله الصالح هوكينغ!؟]، والقاسية علي وعلى أمثالي من المتطرفين ـ قول الشاعر متهكما من بعض العقول التي يحاورها:
أقول له زيداً، فيسمعُ خالداً... ويكتبهُ عمْراً، ويقرأه سعدا
وقول الشاعر الآخر:
يَعِي غَيْرَ مَا قُلْنَا وَيَكْتُبُ غَيْرَ مَا... وَعَاهُ وَيَقْرَأُ غَيْرَ مَا هُوَ كَاتِبُ
وهكذا حال هؤلاء.. وهذا حال مصادرتهم على المطلوب.. فبعضهم يذكر لي أن رحمة الله واسعة.. وأنها يمكن أن تسعه.. وأننا نحجر على الله حين نمنعه من أن يلقي رحمته على من يشاء.. ولست أدري هل خالفته أنا في هذا، أو قلت شيء يضاد هذا.
كل الذي قلته أن الترحم والترضي والاستغفار وغيرها معان شرعية، ونحن نحتاج إلى النصوص المقدسة التي تبين لنا الموقف السليم منها، ما دمنا نؤمن بهذه النصوص، ولا نعطيها ظهرنا، فهي كلام الله المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهي تعبر عن مراد الله منا.
وقد نصت هذه النصوص صراحة، وبطرق قطعية على حرمة ذلك.. فالله تعالى ذكر عن إبراهيم عليه السلام توقفه عن الاستغفار لقريبه بسبب كونه صار عدوا لله، بشركه به، والشرك أدنى مرتبة من الإلحاد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (215)
وهكذا نرى نهي الله تعالى للمؤمنين عن الاستغفار للمشركين مع قرابتهم الشديدة، فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]
وهكذا نرى نهي الله تعالى عن الاستغفار للمنافقين، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]، ونهى عن الصلاة عليهم أو القيام عند قبورهم، فقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]
وفي كل هذه الآيات الكريمة تعليل للنهي بعدم الإيمان أو الكفر.. وفيها بيان للعذاب الشديد الذي يحيق بهؤلاء..
أفنحن أعلم أم الله؟.. أم أننا أكثر تسامحا من الله، وأرحم بعباده منه؟.. أم أننا نعقب على الله وننتقده؟
أنتم أيها المتسامحون جدا بالخيار بين أن تلغوا حقائق القرآن.. أو تعتبروها نصوصا تاريخية.. أو أن تطبقوا ما ورد فيها من معان.. وهي محل اتفاق بين الأمة جميعا.. وبدعة الترحم على غير المسلمين لم تحصل إلا في عصرنا.
أما رحمة الله فمسألة أخرى.. ولا دخل لنا فيها.. والرحمة ليست كالترحم.. وعند مناظرة من ينهى عن الترحم لا يصح أن نرد عليه بالرحمة.. وإلا تحققنا بما يقال عن أولئك الذين يفهمون ما يحلو لهم، لا ما يسمعون.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (216)
دعوا لله جنته وناره.. ورحمته ونقمته
تصور البعض إنكاري للترحم على هوكينغ أنني أطلب منهم أن يدعو عليه أو على غيره.. وأنا لم اقل هذا، ولم أدع إليه.. ولكني ذكرت أن الجنة والنار لله.. والرحمة والنقمة حقه ومن صلاحياته التي لا يجوز لنا التدخل فيها..
بل إن الله تعالى، وفي صريح القرآن الكريم ينهى عن ذلك.. فقد قال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، وقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]
وقال عن رحمته وكونها مختصة بمن توفرت فيهم شروط معينة أهمها وأساسها الإيمان: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]
فهل من الأدب بعد هذا أن نفرض إرادتنا على الله، ونلزمه بأن يرحم أحدا لم يأذن برحمته، أو يدخل الجنة من لم يتوافق مع سننه؟
هذه أحكام الله التي وضحها في كتابه المقدس.. وهي ليست أحاديث يمكنكم أن تجادلوا فيها.. والأدب مع الله يقتضي منا مراعاة مراداته.
والمشكلة الأكبر ليس في هذا.. وإنما في خداع البسطاء بأن رحمة الله التي ذكر أنه كتبها لمن توفرت فيه شروط معينة.. يمكنها ان تشمل غيرهم.. وأن كلام الله تعالى بذلك لغو لا قيمة له.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (217)
عودوا إلى القرآن الكريم.. وتدبروه.. وإن شئتم أن تتحرروا.. فتحرروا وفق ضوابطه لا وفق أهوائكم.. وإن شئتم أن تعطوا شيئا لأحد من الناس فاعطوه ما تملكون لا ما لا تملكون.. وأنتم لا تملكون رحمة الله ولا جنته.. فلذلك لا تكذبوا على الناس ولا على أنفسكم.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (218)
رأيت من خلال بعض المنشورات تلك العواطف الجياشة والرقة العجيبة نحو هوكينغ سواء من بعض السنة أو الشيعة.. وخصوصا المتحررين من كليهما.. وأنا أدعو كلا الطرفين، لأن يجلسوا مع أنفسهم، ثم يضعوا أمامهم هذه التساؤلات:
لو أن هوكينغ ـ يا معشر السنة المتحررين ـ سخر من الصحابة واستهزأ بهم.. هل ترى موقفكم منه سيكون نفس الموقف؟
وأنتم كذلك ـ أيها المتحررون من الشيعة ـ لو ان هوكينغ سخر من الإمام علي أو الحسين أو غيرهم من الأئمة.. هل سيكون موقفهم منه نفس الموقف؟
للأسف صار [الله] عندنا آخر شيئ، فهو أهون عندنا من الصحابة ومن الأئمة ومن كل المقدسات التي لم تنل قدسيتها الا بسبب نسبتها لله..
بل صارت جنة الله التي كتبها لعباده الصالحين مرتعا خصبا لكل من يحلو لنا إدخاله إليها.. وصارت رحمته التي كتبها للمحسنين من عباده مشاعا نوزعه لمن نحب منهم.
لا تجيبوني عن سؤالي.. واسألوا أنفسكم فقط.. وأجيبوا أنفسكم فقط.. فالله هو الديان.. ولست انا ولا غيري.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (219)
يردد الكثير هذه الأيام بوعي أو بغير وعي أصداء تلك الدعاية المجانية لهوكنيغ بحجة أنه خدم الإنسانية.. وكأنه الوحيد الذي خدمها.. وكأن كل تلك الجحافل من الجنود المجهولين من الأطباء والمهندسين والبيولوجيين والتقنيين والمعماريين والأدباء والفنانين وغيرهم كثير لم يفعلوا شيئا.. وهم لم يلتفتوا لهم أصلا، وكأنهم غير موجودين.. لسبب بسيط، وهو أن القنوات الإعلامية الغربية لم تتبناهم، ولم تبثت دعايتها الإعلامية للإشهار بهم.
ولنسلم جدلا بذلك.. ولو أني شخصيا لا أسلم بذلك.. فأكثر ما طرحه هوكينغ يدخل ضمن الفيزياء النظرية البحتة.. بل يدخل ضمن الميتافيزياء.. فلا يمكن التثبت مما قاله، ولا تأكيده علميا، ولهذا ـ مع حرصه الشديد على نيل جائزة نوبل في الفيزياء ـ لم ينلها بسبب بسيط، وهو أن أفكاره لم تثبت علميا.. وحتى نظرية [إم] هي مجرد طرح خيالي لا حظ له من المصداقية العلمية..
لا بأس.. فلندع هذا.. ولنعتبر هوكينغ خادما صحيحا، وليس مزيفا.. وأطروحاته علمية لا خيالية.. لكن لننظر للأمر من زاوية أخرى.. وهي سبب الشهرة التي نالها بين عوام الناس.. وما أسهل أن نعرف ذلك.. يكفي فقط أن نكتب اسمه على النت ليبرز لنا كأكبر شخصية فيزيائية حديثة تصرح بالإلحاد، وتضع المبررات له.. بل تتصور أنه بإمكان قانون الجاذبية لوحده أن يغني الخلق عن الخالق.. ولذلك نال حظه واهتمامه من الملاحدة الجدد، فهو أيقونة من أيقوناتهم الكبرى، وهم يجادلون به، ويحاجون المؤمنين بأطروحاته.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (220)
وأنا لا يهمني إلحاده أو إيمانه، فكثير من العلماء ملاحدة، ولكن إلحادهم بقي حبيس نفوسهم.. لكن هذا الرجل كان يصرح به في كل المناسبات، ويدعو له، ولذلك فإن الدعاية له هي دعاية لأفكاره، والعوام الذين يتأثرون به، سيسرعون لا محالة لكتبه يقرؤونها، وللمواقع التي تشيد به يطالعونها، وبذلك نقدم لهم وله تلك الدعاية المجانية الخطيرة.
بقي موقفه من القضية الفلسطينية أو غيرها، وهذه مسألة أخرى.. هناك آلاف من المجاهيل الذين اهتموا بهذه القضية، والذين مزجوا بينها وبين عدم دعوتهم للإلحاد أو الانحراف عن القيم الإنسانية، وهم أولى منا بأن نؤدي أدوارنا الدعائية لهم.
ثم لو أننا لو تأملنا الكثير من أعلام الإلحاد كبرتراند رسل وجول بول سارتر وغيرهم، نجد لهم مواقف إنسانية محترمة.. فهل نقوم بالدعاية لهم كذلك بسبب تلك المواقف؟
لست أدري ما أقول لهؤلاء المتطوعين من الإعلاميين الذين تخلوا عن مبائدهم من كون أمريكا هي الشيطان الأكبر.. وهي حقيقة شيطان أكبر لا بسبب تصديرها للعنف والحرب الناعمة والصلبة للعالم فقط، وإنما بسبب نشرها لتلك القيم المنحرفة والأفكار الضالة وكل من يمثلها.. ولعل هذه أخطر بكثير من تلك.. فتلك تهدم البنيان، وهذه تهدم الإنسان.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (221)
هل من دموع على الفيزيائيين الذين اغتالهم الغرب؟
أدعو الذين سالت دموعهم البارحة على ستيفن هو كينغ باعتباره فيزيائيا كبيرا ـ كما يذكرون ـ ألا ينسوا أولئك العلماء الفيزيائيين الكبار الذين لا يقلون عنه شأنا، بل قد يفوقونه، أولئك الذين أمضوا أعماهم في أبحاث الذرة والطاقة النووية السلمية، وراحوا يستثمرونها بطرق علمية منهجية تفيد بلادهم والبشرية جميعا.
أولئك العلماء الذين جمعوا بين البحث العلمي، واليقين العقائدي.. والذين تجاهلهم الإعلام الذي راح يعطي كل وقته وجهده لتلميع صورة ملاحدة الفيزيائيين، وتحقير المؤمنين منهم.
وأحب في هذه المناسبة أن أذكر بعضهم لعل الدموع التي سالت البارحة من أجل هوكينغ تسيل أيضا على هؤلاء العلماء الذين لم يكتف الغرب بتجاهلهم ولا تحقيرهم ولا غض الطرف عنهم، وإنما راح يغتالهم وهم في زهرة قوتهم العلمية.
ومن هؤلاء مجيد شهرياري، أحد المسؤولين عن برنامج إيران النووي، الذي قتل في يوم وقع فيه تفجيران، أحدهما كان يستهدف رئيس هيئة الطاقة الذرية السابق فريدون عباسي الذي نجا بحياته، والآخر أودى بحياة شهرياري شمالي العاصمة.
ومنهم أستاذ الفيزياء وخريج جامعة شريف الإيرانية مسعود علي محمدي الذي اغتيل عام 2010 إثر انفجار وقع بالقرب من منزله في العاصمة طهران.
ومنهم مصطفى أحمدي روشن آخر العلماء المستهدفين وأصغرهم، فقد اغتيل عن عمر يناهز اثنين وثلاثين عاما، وهو أحد المسؤولين عن موقع نتانز لتخصيب اليورانيوم والواقع بالقرب من أصفهان وسط البلاد، إذ ألصق مجهولون عبوة ناسفة
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (222)
على سيارته أودت بحياته وبحياة السائق الذي كان إلى جانبه.
وغيرهم كثير من الإيرانيين واللبنانيين والمصريين.. ومنهم سمير نجيب.. وهو عالم ذرة مصري، وأستاذ في جامعة ديترويت بالولايات المتحدة، والذي اغتيل عندما قرر العودة إلى بلاده بعد حرب 1967، وفي ليلة سفره وأثناء قيادته سيارته اصطدمت شاحنة كبيرة بها فتحطمت ولقي مصرعه على الفور، وانطلقت سيارة النقل بسائقها واختفت، وقيد الحادث ضد مجهول.
ومنهم رمال حسن رمال.. وهو عالم لبناني، الذي قتل عام 1991 في مختبر للأبحاث في فرنسا، والذي وصفته مجلة [لو بوان] الفرنسية بأنه (أحد أهم علماء العصر في مجال الفيزياء)، وقد تعرض للتهديد حين حاول الفرار إلى بلده الأصلي، ولم توجد آثار عضوية على جثته.
ومنهم نبيل فليفل.. وهو عالم فلسطيني من مخيم الأمعري بالضفة الغربية، درس الطبيعة النووية ولم يتجاوز ثلاثين سنة من عمره، رفض كل العروض التي انهالت عليه للعمل في الخارج، وفجأة اختفى ثم عثر على جثته في منطقة بيت عور غربي رام الله سنة 1984.
ومنهم إبراهيم الظاهر.. وهو عالم ذرة عراقي حاصل على دكتوراه في هذا الاختصاص من إحدى الجامعات الكندية.
ومنهم سميرة موسى، المولودة سنة 1917، وهي أول عالمة ذرة مصرية ولقبت باسم (ميس كوري الشرق)، وهي أول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول، جامعة القاهرة حاليا.. والتي حصلت على شهادة الماجستير في موضوع التواصل الحراري للغازات، وسافرت في بعثة إلى بريطانيا درست فيها الإشعاع النووي،
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (223)
وحصلت على الدكتوراة في الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة.. وقد دعيت بعد شهرتها العلمية إلى السفر إلى أمريكا في عام 1952، حيث أتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية، وتلقت عروضاً لكي تبقي في أمريكا لكنها رفضت وقبل عودتها بأيام استجابت لدعوة لزيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورنيا، وفي طريق كاليفورنيا الوعر المرتفع ظهرت سيارة نقل فجأة؛ لتصطدم بسيارتها بقوة وتلقي بها في وادي عميق.
ومنهم [مصطفى مشرفة] عالم الفيزياء المصري، وأول عميد مصري لكلية العلوم، وقد دارت أبحاثه حول تطبيقه الشروط الكمية بصورة معدلة تسمح بإيجاد تفسير لظاهرتي شتارك وزيمان. كذلك، كان أول من قام ببحوث علمية حول إيجاد مقياس للفراغ، حيث كانت هندسة الفراغ المبنية على نظرية (أينشين) تتعرض فقط لحركة الجسيم المتحرك في مجال الجاذبية، كما أضاف نظريات جديدة في تفسير الإشعاع الصادر من الشمس، والتي تُعد من أهم نظرياته وسبباً في شهرته وعالميته؛ حيث أثبت د. مشرفة أن المادة إشعاع في أصلها، ويمكن اعتبارهما صورتين لشيء واحد يتحول إحداهما للآخر.. وقد قتل مسموما سنة 1950، ويقال بأنها أحدى عمليات جهاز الموساد الإسرائيلي.
ليت الذين تباكوا على هوكينع أيقونة الإلحاد الأكبر في الفيزياء الحديثة أن يذرفوا بعض الدموع على هؤلاء، وألا يكونوا ضحايا الإعلام الذي يزين ما يشاء، ويشوه ما يشاء، ويغفل عمن يشاء.
التنويريون والمؤامرة على الإسلام (224)
يحاول هذا الكتاب بمقالاته المتنوعة أن يوضح للقراء الكرام ذلك التطرف الجديد الذي لبس لباس التنوير، وراح لا يكتفي بمواجهة التطرف الديني، وإنما يقابله بتطرف لا يقل عنه خطرا، وهو التطرف التنويري، الذي يهدف إلى تفريغ الإسلام من جميع محتوياته، وقد قسمته إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: التنويريون.. والمؤامرات العالمية: وقد تناولت فيه بعض الحجج والبراهين والوثائق الدالة على عناية بعض الدوائر العالمية بتشجيع هذا النوع من التنوير، لبث الشبه والفتن والتشكيكات بين المسلمين، حتى لا يبقى لهم من الإسلام إلا ذلك الشعار المفرغ من كل معنى.
القسم الثاني: شخصيات.. ومشاريع تنويرية: وقد تناولت فيه نماذج عن شخصيات مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وكل من تعلق بهم ممن يدعون التنوير.
القسم الثالث: التنويريون.. وهدم القيم: وقد تناولت فيه بعض مظاهر الهدم للقيم الإسلامية، والأسس التي تقوم عليها، وأول ذلك الإسلام نفسه، والذي حوله هؤلاء التنويريون إلى معنى هلامي يمكن أن يتحقق من دون رعاية لشرائع وعقائده وأخلاقه.
القسم الرابع: التنويريون.. وتمجيد الملاحدة: وقد تناولت فيه ما دفعني إلى كتابته، وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ، والترحم عليه، على الرغم من إلحاده الذي صرح به، بل دعا إليه.