الكتاب: التنويريون والصراعات مع المقدسات
الوصف: ردود علمية على مواقف التنويريين من المقدسات
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1439 هـ
عدد الصفحات: 242
ISBN: 978-620-3-85911-9
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
من أخطر مظاهر التنوير المعاصر تلك الجرأة على الحقائق المقدسة المعصومة التي وردت في القرآن الكريم أوالسنة الصحيحة القطعية التي لا مجال معها للفكر، ولا للنظر، لأن كل ذلك جرأة على الله، وسوء أدب معه، وتقديم للهوى على النص..
فمن ذا الذي يعطي لنفسه الحق في أن يعقب على كلام ربه، أو كلام رسوله الذي لا ينطق عن الهوى؟.. ومن ذا الذي يتصور أنه أكثر علما وفهما وإحاطة بحقائق الوجود حتى يعطي لنفسه ذلك الحق؟
لكن التنويريين باتجاهاتهم المختلفة أعطوا لأنفسهم هذا الحق؛ فراحوا يناقشون في كل المقدسات التي اتفقت عليها الأمة وأجمعت عليها إجماعا كليا، لا طائفيا، وراحوا لأجل ذلك يلوون أعناق النصوص المقدسة، ويتلاعبون بها ليتحول الدين إلى مزاجهم وأهوائهم ورغباتهم.
ولذلك حاولنا في هذا الكتاب أن نناقش القضايا الكبرى التي تركز عليها الدعوات التنويرية، والتي حاولت بكل الوسائل أن ترفع عنها القداسة، ليصبح الدين مادة هلامية يتلاعب بها كل من هب ودب، وذلك عبر مقالات مختلفة كتبت في أوقات متباينة، وعبر بعض السجالات التي حصلت بيننا وبين بعض التنويريين.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (6)
من أخطر مظاهر التنوير المعاصر تلك الجرأة على الحقائق المقدسة المعصومة التي وردت في القرآن الكريم أوالسنة الصحيحة القطعية التي لا مجال معها للفكر، ولا للنظر، لأن كل ذلك جرأة على الله، وسوء أدب معه، وتقديم للهوى على النص..
فمن ذا الذي يعطي لنفسه الحق في أن يعقب على كلام ربه، أو كلام رسوله الذي لا ينطق عن الهوى؟.. ومن ذا الذي يتصور أنه أكثر علما وفهما وإحاطة بحقائق الوجود حتى يعطي لنفسه ذلك الحق؟
لكن التنويريين باتجاهاتهم المختلفة أعطوا لأنفسهم هذا الحق؛ فراحوا يناقشون في كل المقدسات التي اتفقت عليها الأمة وأجمعت عليها إجماعا كليا، لا طائفيا، وراحوا لأجل ذلك يلوون أعناق النصوص المقدسة، ويتلاعبون بها ليتحول الدين إلى مزاجهم وأهوائهم ورغباتهم.
ولذلك حاولنا في هذا الكتاب أن نناقش القضايا الكبرى التي تركز عليها الدعوات التنويرية، والتي حاولت بكل الوسائل أن ترفع عنها القداسة، ليصبح الدين مادة هلامية يتلاعب بها كل من هب ودب، وذلك عبر مقالات مختلفة كتبت في أوقات متباينة، وعبر بعض السجالات التي حصلت بيننا وبين بعض التنويريين.
وبناء على طبيعتها والأغراض التي تهدف إليها، فقد قسمتها إلى ثلاثة أقسام على الرغم من كونها متداخلة فيما بينها، لأن الهدف منها جميعا هو توضيح خطورة الفكرة التنويري، واعتباره نوعا من التطرف المضاد الذي لا يختلف عن التطرف السلفي أو الحركي أو غيرهما من أنواع التطرف التي حاولت هذه السلسلة علاجها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (7)
القسم الأول ـ التنويريون.. والمصادر المقدسة: وقد حاولت أن أوضح فيه حقيقة موقف التنويريين من المصادر المقدسة، ابتداء من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، بالإضافة إلى توضيح بعض النماذج عن ذلك التلاعب بالألفاظ، وتحريف الكلم عن مواضعه.
القسم الثاني ـ التنويريون.. والعقائد الإسلامية: وقد رددت فيه على تلك الطروحات المرتبطة ببعض العقائد الإسلامية التي شكك فيها التنويريون، كنماذج عن مواقفهم من سائر العقائد الإسلامية.
القسم الثالث ـ التنويريون.. وأحكام الشريعة: وقد ذكرت فيه بعض النماذج عن مواقف التنويريين من بعض أحكام الشريعة القطعية والمتفق عليها، وكيف حولوها عن مقاصدها الشرعية على الرغم من اتفاق الأمة جميعا، وفي جميع العصور عليها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (9)
التنويريون.. والقراءة المدنسة للقرآن
ربما يكون الأساس الأكبر الذي أوقع التنويريين، الحداثيين منهم، ومن يطلق عليهم زورا وبهتانا لقب [القرآنيين]، في أكثر الأخطاء التي وقعوا فيها، ولا يزالون يقعون، تلك الكبرياء في التعامل مع النص القرآني تنزيلا أوتأويلا.
فكلاهما يتوهم أنه يستطيع بعقله المحدود الإحاطة بالمعاني القرآنية، وفهمها، بعيدا عن كل جهة مقدسة وغير مقدسة، وذلك باستعماله لبعض القواميس، وبعض المناهج التي تلقفها من النقاد الغربيين تقليدا، وراح يطبقها، لتخرج لنا كل يوم قراءة جديدة للقرآن الكريم، ومعنى جديدا من معانيه.
ونحن لا نريد هنا أن نتحدث عن مدى صلة تلك القراءات قربا أو بعدا بالحقائق القرآنية؛ فذلك يستدعي النظر في كل قراءة، فليست كل قارئة باطلة، ولا كل قارئ مخطئا، ولكنا نريد أن نبين خطأ المنهج نفسه.. فالمشكلة ليست في القراءة، وإنما في المنهج المتبع فيها.
ولذلك نعتب على الذين يأتون ببعض النماذج عن بعض الفهوم السليمة لبعض تلك القراءات، ثم يقارنها ببعض الفهوم السقيمة الواردة في بعض كتب التراث، ثم يتصور أنه عبر ذلك النموذج الانتقائي يكون قد برهن على صوابية القراءة التنويرية وخطأ القراءة التراثية.
وهذا الأسلوب لا علاقة له بالعلم؛ فكما أن في التراث بعض القراءات الخاطئة، والتفاسير التي تحتاج إلى تصحيح، باعتبارها فهوما بشرية، لكن فيها الكثير، من الفهوم السليمة الراقية التي لا يجادل أحد في صحتها وقوتها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (10)
والمشكلة ـ كما ذكرنا ـ لا ترتبط بالقراءات بقدر ما ترتبط بالأسس التي تقوم عليها، وهنا محل الخلاف بين القراءة القديمة والقراءة التنويرية.
فالقديمة، وإن أخطأت في تفسير بعض الآيات، لكنها انطلقت من كونها كلام الله، وأنها وحيه المقدس الذي لا يستطيع العقل أن يحيط به، لذلك يحاول أن يلمسه ويقترب منه بكل أدب واحترام وتقديس، ويستغفر الله تعالى بعد ذلك من سوء الفهم أو قصوره.
بخلاف القراءة التنويرية بفرعيها، والتي تتصور أنها محيطة بالقرآن، وأنها ـ لكبرها ـ قد فهمت منه ما لم يفهمه الأوائل والأواخر، وأنه يحق لها بسبب تلك الآليات التي تضعها أن تمسح جميع كتب التفسير، لتضع للنصوص القرآنية تفاسير جديدة، لا علاقة لها بتاتا بتلك التفاسير القديمة.
والمشكلة الأكبر، والتي ينطلق منها الحداثيون خصوصا، قراءة القرآن باعتباره منتوجا ثقافيا بشريا، لا وحيا إلهيا مقدسا.. وهنا، وبسبب هذه القراءة المدنسة، تقع في كل ما وقع فيه المنحرفون عن القرآن الكريم والمعترضون عليه.
ذلك أن من يقرأ قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 47 - 50] وهو يعتقد أن صاحب هذا الكلمات هو الله نفسه خالق الكون جميعا، وأنه هو الذي بنى السماء، وهو الذي يوسعها، وهو الذي فرش الأرض ومهدها.. يمتلئ هيبة وخشوعا وتعظيما لله.
لكن الذي يقرؤها ـ مثلما قرأها المشركون ـ باعتبارها منتوجا ثقافيا وأدبيا صاغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا محالة سيضحك على هذه العبارات، ويسخر منها، وربما يتوهم
التنويريون والصراعات مع المقدسات (11)
مثلما توهم المشركون أن قائلها مجنون أو كاهن.
وهكذا، فإن للبعد المقدس لقراءة القرآن الكريم تأثيره الكبير في فهمه واستيعابه والاستفادة منه، بخلاف الذي يقرؤه كنص بشري، أو كنص مجهول المصدر، أو كنص غير مقدس، فإنه لن يستفيد منه شيئا، بل سيرى فيه دعاوى كثيرة، لا يليق لبشر أن يدعيها.
وهذا واضح جدا، فلو أن الخطاب الذي يقدمه رئيس الجمهورية، والذي هو صاحب القرار الأكبر في دولته، نسب لبواب أو عامل بسيط لسخر منه، ذلك أن البواب لا يستطيع أن يقرر تلك القرارات الكبرى التي لا يقررها إلا الكبار.
وهكذا عندما يقرأ الحداثي أو التنويري النص القرآني بعيدا عن أصله المقدس؛ فإنه يقع لا محالة في الاعتراض، حتى لو لم يصرح باعتراضه، وكيف لا يعترض، وهو يتوهم أن الذي يقول: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 30 - 34] مجرد بشر عادي، لا إله هذا الكون جميعا.
أما عندما يقرأ تلك الآيات الكريمة، باعتبارها وحيا إلهيا، وأن صاحبها هو الله نفسه خالق الإنسان، وخالق الكون جميعا؛ فإن فرائصه ترتعد عندما يسمعها، مثلما نرتعد عندما نسمع صوت القاضي، وهو يحكم الأحكام المشددة، بينما نضحك على صوت البواب عندما يقلده فيها، لأن البواب لا علاقة له بالأحكام القضائية، بخلاف القاضي.
وهكذا يكون لاعتقاد القداسة دوره الكبير في فهم القرآن الكريم، وفي التأثر به، والانفعال له.. بل إن الكثير من التساؤلات التي قد يوحي بها الشيطان أثناء القراءة
التنويريون والصراعات مع المقدسات (12)
تزول مباشرة عند تذكر أن هذا الكلام كلام الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، من {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50]، والتي تشكل عقبة كبيرة في عقول التنويريين، لا يستطيعون استساغتها، بينما يقرؤها المؤمن بذوق عظيم، وروحانية عالية، لأنه يعلم من خلالها مكانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه، وكيف خصه بهذا التخصيص، ويرتبط من خلال تلك القراءة بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويزداد إيمانا بهما.
لكن التنويري، يحاول الفرار من تلك الآية وغيرها، ويلتمس الحيل الكثيرة لذلك.. وربما يوقعه سوء ظنه في الكفر والجحود.. وهو ما نص عليه القرآن الكريم نفسه عندما قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]
فالآية الواحدة يقرؤها المؤمن؛ فيزداد بها يقينا ونورا وهدى، ويقرؤها من حجب بعقله التنويري؛ فيقع في الأوهام وسوء الظن، وقد يبحث في القواميس ليحرف الكلم عن مواضعه، ويحول من القرآن الكريم أداة للتلاعب بالألفاظ والمعاني.
وهكذا ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى يمتحن عباده بأمثال تلك الآيات حتى يتميز من يسلم لله، ولا يقدم بين يديه شيئا، والآخر الذي يسقط في الامتحان، وعند
التنويريون والصراعات مع المقدسات (13)
أول اختبار.
ولهذا قال تعالى محذرا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقد جاء عقب هذه الآية قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]، وهي الآيات التي ملأت قلوب التنويريين والغريبيين أوهاما في حق النبوة وقدسيتها.
ولهذا ورد عن الكثير من الصحابة قولهم: (لقد عشنا برهة من دهر وأحدنا يرى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزاجرها، وما ينبغي أن نوقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ولا يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه وينثره نثر الدقل) (1)
وهو يعني أن أثر القرآن الكريم والفهم السليم له، لا يكو ن إلا بعد تحصيل الإيمان بقداسته، واعتباره كلام الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
ولهذا كان الأولى بالتنويريين ومن تبعهم البحث عن البراهين الدالة على كون القرآن الكريم وحيا من الله تعالى، وذلك بالنظر في الأدلة المختلفة التي ذكرها المتكلمون، أو بتأمل القرآن الكريم بصدق وحيادية.. وعندما يحصل لهم الإيمان يحصل
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، قال الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة ووافقه الذهبي.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (14)
لهم الفهم السليم.
أما تجريد القرآن الكريم من قداسته؛ فإنه لن يزيدهم إلا ضلالا في فهمه، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]
وبين الفرق بين القراءتين المقدسة والمدنسة، فقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد 19]
وأخبر عن الأحوال التي تعتري المقدسين للقرآن الكريم، والمدنسين له؛ فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]
ثم بين أن الله تعالى ينزل على عباده من الفتن ما يميز به المؤمنين من غيرهم، قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]
ومن أمثلة ذلك تلك الآيات التي تأمر بالقتال، والتي لا تزال تحدث آثارها السلبية في نفس أصحاب القراءات المدنسة، والتي راحوا يؤلونها بصنوف التأويل والتحريف، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 20، 21]
ومنها ما عبره عنه قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا
التنويريون والصراعات مع المقدسات (15)
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرً} [الإسراء: 60]
وهكذا نرى القرآن الكريم يخبرنا أن فيه معايير لتحديد الصادقين من غيرهم، فالصادقون مع الله هم الذين يقرؤون القرآن الكريم بقناعة تامة أنه من الله، ولذلك يتناولون ما فيه بكل تقديس، ولا يخطر لهم نحوه أي خاطر سوء.. أما الآخرون، فهم يرونه منتجا ثقافيا، وليد بيئة جاهلية، وزمن قديم.. فلذلك يحقرونه ويزدرونه شعروا أو لم يشعروا، وذلك ما يحول بينهم وبين فهمه أو تناول معانيه، فهو كما هدى للمتقين، وليس هدى لغيرهم.
ولهذا ذكر الغزالي عند بيان الآداب الباطنة لتلاوة القرآن الكريم، هذان الأدبان الرفيعان، اللذان لا يمكن أن يفهم القرآن من دون تحققهما.
أما أولهما، فهو استحضار عظمة القرآن: لما لذلك من تأثير نفسي على القارئ، ولهذا الاستحضار تأثير كبير في تلقي التالي واستعداده للفهوم التي يفيضها الله على عباده العارفين بعظمة كلامه، وذلك لأن فيها فتحا لمجالات مطلقة للقرآن الكريم لا يحدها التركيب اللغوي المحدود (1).
وأما الثاني، فهو استحضار عظمة الله تعالى، وذلك بأن يعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، ولهذا كان بعض الصحابة ـ كما ينقل الغزالي ـ إذا نشر المصحف غشي عليه، ويقول: (هو كلام ربي، هو كلام ربي) (2)،وطريق التحقق بهذا ــ كما يرى الغزالي ــ هو أن يحضر بباله عند بداية التلاوة العرش والكرسي والسماوات والأرض وما بينهما
__________
(1) إحياء علوم الدين، 1/ 280.
(2) المصدر السابق، 1/ 281.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (16)
من الجن والإنس والدواب والأشجار، ويعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد، وأن الكل في قبضته، مترددون بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبعدله (1).
وهذا التعظيم التمهيدي هو وسيلة وغاية في نفس الوقت، لأنه بقدر تعظيمه عند القراءة يكون فهمه عن الله، وبقدر فهمه عن الله تكون معرفته ويزداد تعظيمه.
هكذا يقرأ القرآن الكريم، وهكذا يمكن أن يفهم، أما كل أولئك التنويريين الغارقين في ظلمات أنفسهم وأهوائهم، فهم محجوبون عن القرآن.. لأنه لا يمكن أن يفهم القرآن من حجب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو تصور أنه مجرد بشر كسائر البشر، من غير أن يوحي إليه شيء.
ولايمكن أن يفهم القرآن ذلك المغرور الذي يتصور أنه يمكن أن يفهمه بعيدا عن النبوة، وعن ورثة النبوة.. فالمتكبر المستعلي محجوب عن آيات الله، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]
__________
(1) المصدر السابق، 1/ 281.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (17)
التنويريون.. والجرأة على السنة
يكاد يتفق التنويريون جميعا بمختلف طوائفهم على احتقار السنة النبوية المطهرة، وعدم اعتمادها أو اعتبارها، بل هم يذبونها عنهم مثلما يذبون الذباب، لا يتكلفون في ذلك أي عناء ولا جهد ولا بحث.. فلازمتم المعروفة هي مخالفة السنة للعقل، وللقرآن، وللفطرة، وأنها من إنتاج الأمويين أو العباسيين، أو من نتاج الكذابين الوضاعين.
وعندما يذكرون ذلك، يتوهم الكثير أن هذه النتائج قد تولدت عن بحث طويل، أو عناء شديد في النظر في أسانيد الأحاديث أو طرقها، أو أنهم عرضوها فعلا على القرآن الكريم أو العقل الحكيم.. بينما هم لم يفعلوا شيئا من ذلك.. ذلك أنهم لم يعرضوها إلا على هواهم المجرد، والذي يسمونه مرة قرآنا، ومرة عقلا، ومرة فطرة، وهو في حقيقته لا يعدو أن يكون هواجس نفس أمارة، أو وساوس شيطان رجيم.
ولذلك يمكن اعتبار موقفهم من السنة المطهرة هو السبب في كل البلايا التي وقعوا فيها، ذلك أن احترام السنة احترام لصاحبها، وتعظيم له، واحتقارها احتقار له، ويستحيل على من يفعل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوفق لأي خير، أو يهتدي لأي صواب.
فالله تعالى نهانا عن مجرد دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، أو رفع الصوت أمامه؛ بل اعتبر ذلك محبطا للعمل؛ فكيف بالتجرؤ على إنكار سنته، أو إدخال الهوى فيها؟
لذلك نجد الصادقين لا يتجرؤون على ردها، ولا على مناقشتها، ولا على كتمانها، وإنما يجتهدون في تفعيلها في كل شيء، مثلما يجتهدون في تفعيل القرآن الكريم، فكلاهما من مشكاة واحدة، هي مشكاة الحقيقة المطلقة، وقد قال الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا
التنويريون والصراعات مع المقدسات (18)
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]
وهم لا يقولون أبدا تلك المقولة التي يرددها القرآنيون، والتي هي سبب كل بلاء وقع في الأمة: (حسبنا كتاب الله)، ذلك أن الله تعالى هو الذي وكل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ببيان كتابه، ووضع الضوابط لدينه حتى لا تتلاعب به الأهواء، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]
وقد ورد في الحديث الشريف وصف دقيق لأمثال هؤلاء، والذي لم يخلوا من أمثالهم التاريخ، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) (1)
وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معدي كرب يقول: (حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر أشياء، ثم قال: (يوشك أحدكم أن يكذبني، وهو متكئ يحدث بحديثي؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) (2)
وهكذا تواترت النصوص الكثيرة الواردة في المصادر الحديثية للمدارس الإسلامية المختلفة على تعظيم السنة، وخطورة ردها بالهوى المجرد، أو خطورة ضربها بالقرآن الكريم، مع كونها لم ترد إلا لبيانه وتأكيد معانيه، وتفصيل مجمله، وتوضيح
__________
(1) الترمذي العلم (2663)، أبو داود السنة (4605)، ابن ماجه المقدمة (13)، أحمد (6/ 8).
(2) الترمذي العلم (2664)، أبو داود السنة (4604)، ابن ماجه المقدمة (12)، أحمد (4/ 132)، الدارمي المقدمة (586).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (19)
كيفية تنفيذه في الواقع؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن سوى قرآنا ناطقا، ولم يكن خلقه إلا القرآن.
ولهذا كان الصالحون يعتبرون كل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة، ما قبل البعثة وما بعدها، حتى خلوته في غار حراء، يعتبرونها من السنن النبوية التي يمكن تفعيلها في الواقع.. لأن حقيقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت متمثلة بالنبوة وبطهارتها وسموها، ولم يكن الوحي المقدس الذي أوحي له إلا تتويجا لتلك النبوة السابقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه مخبرا عن موعد نبوته عندما سئل: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ فقال: (وآدم عليه السلام بين الروح والجسد) (1)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يكلف أصحابه بتبليغ سنته مثلما يكفهم بتبليغ القرآن الكريم، ويعدهم من الأجر مثلما يعدهم به، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم، ومن ذلك ما حصل يوم حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر حين قال لهم: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه) (2)
ومن خلال استقراء أطروحات التنويريين المرتبطة بالقرآن الكريم نجد أنها لا تعدو تعلقها بمغالطتين اثنتين، أولاهما حول حجية السنة نفسها، وعدم اعتبارها، والثانية، هي الاعتراف بتلك الحجية، مع مناقشة ثبوتها، ووضع العراقيل الكثيرة التي تتيح لأي هوى أن يرد ما شاء من السنة، من غير بينة ولا اجتهاد ولا نظر.
__________
(1) أحمد 4/ 66 (16740) و5/ 379 (23599)، وقال في (مجمع الزوائد: 8/ 223): رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(2) البخاري الحج (1654)، مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، ابن ماجه المقدمة (233)، أحمد (5/ 37)، الدارمي المناسك (1916).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (20)
وسنناقش كلا الشبهتين فيما يلي:
أولا ـ المغالطات المرتبطة بحجية السنة
ينطلق التنويريون في ردهم للاحتجاج بالسنة المطهرة من تلك المقولات المتطرفة التي تجعل من الأحاديث الشريفة أصلا يُتحاكم إليه قبل القرآن الكريم نفسه، ولذلك ترى إمكانية نسخ القرآن بالسنة، أو القول بنسخه وتخصيصه من خلال الروايات الواردة في أسباب النزول، أو من خلال تلك المبالغات في اعتبار الروايات تفسيرا نهائيا للنص القرآني.
وكان في إمكان التنويريين مواجهة هذا الموقف، والرد عليه في المحل الذي وقع فيه الخطأ من دون تجاوزه، لكنهم، ولكسل العقل التنويري الذي يعتمد الهدم لا البناء، راحوا يستغلون تلك الأخطاء لرمي السنة جميعا.
وهذا ما أوقعهم في انحراف لا يقل خطرا عن انحراف السلفيين أو من هو على شاكلتهم ممن عطل نصوصا قرآنية كثيرة بسبب روايات وأحاديث رواها واعتمدها من غير تحقيق في أسانيدها ولا تثبت في مدى صحة الاحتجاج بها في حال معارضتها للقرآن الكريم.
فكلا الطرفين وقع في خطأ التعميم.. أولهما: وهم السلفيون ومن تبعهم أخطأوا في اعتماد الأحاديث اعتمادا مطلقا حتى لو خالفت القرآن الكريم وعارضته معارضة صريحة.. وثانيهما: التنويريون، الذين راحوا يسخرون من كتب السنة، ويستعملون تلك الأخطاء مبررا لهجماتها عليها.
أما الموقف الوسط، وهو الذي تبنيناه بحمد الله في كتبنا، فهو اعتبار القرآن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (21)
الكريم والسنة المطهرة، لكن مع مناقشة أحاديث السنة المعارضة للقرآن الكريم، إما بتأويلها لتتناسب معه، أو بردها إذا لم تتناسب مطلقا معه، بناء على الأحاديث الواردة في ذلك.
وقد وجدت بحمد الله، ومن خلال تلك الروايات المحدودة التي تتعارض مع القرآن الكريم، أنه يمكن ردها من خلال الموضوعية في مناقشتها سندا، أو من خلال تأويلها لتتناسب مع القرآن الكريم.
ومن أمثلة على ذلك ما ذكرناه بتفصيل في كتاب [الطائفيون والحكماء السبعة]، حيث رددنا فيه حديث (من بدل دينه فاقتلوه) (1)، مع كونه مرويا في الصحاح، لا لكونه يخالف الآيات الكريمة الكثيرة، والتي تتحدث على عقوبة الردة، ولكنها لا تنص على الحد الدنيوي المرتبط بها، بخلاف سائر الجرائم التي ذكرت حدودها، وإنما لكون مناقشته سندا تقتضي ذلك، فهذا الحديث من رواية عكرمة مولى ابن عباس، وقد انفرد بها دون تلاميذ ابن عباس جميعا، مع كون الكثير منهم مثل سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وغيرهم ممن هم أكثر اختصاصاً به من دواعي التوقف في قبول هذا الحديث.. بالإضافة إلى ذلك فإن تلاميذ ابن عباس المتفق على ثقتهم يعدون بالعشرات، ولم يرووه عنه رغم أهمية الحديث واختصاره وسهولة حفظه، ورغم ارتباطه بحد من الحدود الخطيرة.. فكيف يجهل عشرات الرواة عن ابن عباس هذا الحديث، ويجهل هذا الحديث الصحابة والتابعون، ويعلمها تابعي واحد هو نفسه محل إشكال واختلاف؟
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان عكرمة من الخوارج الذين حاربوا الإمام عليا.. وهذا الحديث فيه تجريح خطير للإمام علي.
__________
(1) البخاري 12/ 238 و239.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (22)
بالإضافة إلى ذلك، فقد رويت الروايات الكثيرة التي تتهمه من لدن الصحابة أنفسهم، فقد روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: (لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس)، وفي ذلك أكبر تجريح له.. فالذي جرحه ليس البخاري ولا يحي بن معين، بل هو ابن عمر نفسه.. وهو من الصحابة.. وهو يعرفه.. وهو أدرى الناس به.. لكن لحبنا للحديث غفلنا عن ذلك كله وتغافلنا عنه.
وهكذا روي عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد، قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي (1).
وقال ابن حجر عنه: (وفد عكرمة على نجدة الحروري فأقام عنده تسعة أشهر، ثم رجع إلى ابن عباس فسلم عليه، فقال: قد جاء الخبيث قال: فكان يحدث برأي نجدة، وكان يعني نجدة أول من أحدث رأي الصفرية وقال الجوزجاني قلت لأحمد بن حنبل أكان عكرمة إباضيا فقال: يقال: إنه كان صفرياً، وقال أبو طالب عن أحمد كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وقال يحيى بن معين كان ينتحل مذهب الصفرية ولأجل هذا تركه مالك، وقال مصعب الزبيري كان يرى رأي الخوارج) (2)
وهكذا لو تأملنا كل الأحاديث التي عارضت القرآن الكريم معارضة صريحة، وجدناها من هذا الباب، يمكن مناقشتها سندا.
وفي المقابل نجد مئات الأحاديث في المصادر الإسلامية المختلفة ممتلئة بالجمال والقيم النبيلة، ولا يصح عقلا أو شرعا رميها جميع بحجة مخالفتها للقرآن..
__________
(1) انظر: وفيات الأعيان 1: 320، وتهذيب التهذيب 7: 238 وسير أعلام النبلاء للذهبي 5: 22.
(2) مقدمة فتح الباري 425.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (23)
فمعظم أحاديث الترغيب والترهيب، حتى الكثير من الضعيف منها يمكن الاستفادة منها في تحقيق المقاصد القرآنية، ومن الخطأ رميها ورفضها، بحجة أن السنة تحجب عن القرآن، وكيف تحجب عنه، وهما من مشكاة واحدة.
ولهذا اعتمدنا بحمد الله في كتبنا كل المصادر الحديثية ورأينا حرمتها وقداستها، وقد قلت في مقدمة كتابي [رسول الله والقلوب المريضة]، وهو الكتاب الذين ناقشنا فيه الأحاديث التي تشوه النبوة، وتسيء إليها: (ونحب في هذا المحل أيضا أن ننكر نكيرا شديدا على من يتجرأ على كتب الحديث بمدارسها المختلفة.. كصحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرها من كتب الحديث في المدرسة السنية.. أو كتاب الكافي في الأصول والفروع للكليني، أو تهذيب الأحكام والاستبصار للطوسي، أو من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.. وغيرها من كتب الحديث في المدرسة الشيعية.. أو مسند الربيع بن حبيب في المدرسة الإباضية، فكتب الحديث هي المحال التي جمع فيها الحديث بصحيحه وضعيفه وموضوعه، ولذلك من الخطأ الكبير أن نسب مصدرا كاملا للحديث بسبب بعض الأحاديث المردودة فيه.. بل لو لم يصح من كتاب كامل إلا حديث واحد لكان من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحترم ذلك الكتاب) (1)
وقلت فيه: (لهذا فإني ـ مع ردي بعض الأحاديث الواردة في المصادر الحديثية المختلفة ـ لا أرد الأحاديث مع اعتقادي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالها أو فعلها.. فذلك عين الضلال، بل عين الكفر، فمن يتجرأ على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يبقى له من الإسلام شيء.. ومثل ذلك فإني لا أتهم الصحابي الذي روى الحديث، لأن الحديث لم نسمعه
__________
(1) رسول الله والقلوب المريضة، ص 12.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (24)
من الصحابة مباشرة، وإنما ورد إلينا عن طريق طويل قد يختلط فيه الحابل بالنابل، والمحق من المبطل.. ومثل ذلك لا أتهم صاحب الكتاب الذي ورد فيه الحديث، لأن أكثر المحدثين كانوا يجمعون الأحاديث، ويتركون المواقف منها ومن فهمها للفقهاء والمفسرين وغيرهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) (1).. ومثل ذلك لا أتهم أي راو من الرواة بأنه هو من وضع الحديث لأن ذلك غيب.. والله أعلم به.. كل الذي أفعله هو أني أقارن الحديث بالصورة التي وردت في القرآن الكريم حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وورد مثلها في الأحاديث الكثيرة، وفوق ذلك تؤيدها الفطرة الصافية والعقل السليم. فإن وجدت الحديث موافقا لها، قلت به، وصدقته حتى لو كان راويه متهما بالضعف.. وكل حديث مخالف لذلك أنكرته ونقدته حتى لو كان الراوي قد وثق من الجميع) (2)
واستدللت لذلك بما فعله العلماء الكبار من ردهم لبعض الأحاديث بسبب تعارضها مع القرآن الكريم، ومن ذلك ما ذكره جمال الدين القاسمي ـ عند تبريره لانتقاده الشديد لحديث سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الأمثلة من فعل السلف، فنقل عن الإمام الغزالي قوله في (المستصفى): (ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردّ خبر الواحد. كردّ عليّ خبر أبي سنان الأشجعي في قصة (بروع بنت واشق) وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث. وكردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. وظهر من
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رسول الله والقلوب المريضة، ص 12.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (25)
عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث) (1)
ونقل عن ابن تيمية في (المسوّدة) قوله: (الصواب أن من ردّ الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الرادّ أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا، فقد ردّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث) (2)
ونقل عن العلامة الفناري في (فصول البدائع) قوله: (ولا يضلل جاحد الآحاد)
ثم قال تعقيبا على ذلك كله: (والمسألة معروفة في الأصول، وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي من أكبر رد خبر رواه مثل البخاري، وضلل منكره، فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول، لا بل بأصول مذهبه. كما رأيت عن الفناري. ثم قلت: العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزنا. وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من ردّ خبرا فيه؟) (3)
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك موقف الإمام مالك من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)، والذي يدل بصيغة قطعية على أن لكل من المتبايعين حق إمضاء العقد أو إلغائه ماداما لم يتفرقا بالأبدان.
__________
(1) محاسن التأويل: 9/ 578.
(2) محاسن التأويل: 9/ 578.
(3) محاسن التأويل: 9/ 578.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (26)
وقد ورد ما يؤكد هذا من السنن الأخرى، فقد روى البيهقي عن عبد الله بن عمر قال: (بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يردني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا)
وقد ذهب إلى هذا جماهير العلماء من الصحابة والتابعين.. لكن الإمام مالك خالف ذلك، ورد الحديث حتى نقل عن ابن أبي ذئب –وهو من كبار علماء المدينة - أنه لما ذكر له أن مالكا لم يعمل به، قال: (يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه) (1)
بل أكد موقفه هذا الإمام أحمد نفسه حيث قال عن ابن أبي ذئب: (هو أورع وأقول بالحق من مالك) (2)
لكن مع ذلك نجد العلماء جميعا يعتذرون لمالك، ويقفون منه موقفا طيبا، بل يبررون قوله، والمالكية إلى الآن لا زالوا يأخذون بقوله في المسألة، ولا يأخذون بالحديث الوارد في صحيحي البخاري ومسلم.
وهذا الموقف هو الموقف الوسط، وهو الذي كان على التنويريين أن يقوموا به، لا أن يرفضوا الأحاديث جميعا، ومن دون دراسة ولا بحث، وإنما يسارعون إلى ذلك من دون تثبت.
ولا نحتاج في هذا المحل إلى ذكر النصوص القرآنية الكثيرة التي تأمر بالرجوع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واعتباره حكما وشارحا ومفصلا لآيات الذكر الحكيم، فهي كثيرة جدا، ودلالتها صريحة جدا، ولا ينكرها إلا جاحد.
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 1/ 49.
(2) سير أعلام النبلاء:1/ 49.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (27)
ولعل أشهرها وأوضحها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، فهذه الآية الكريمة واضحة في دلالتها على كون ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو نفسه ما قضى به الله تعالى؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق الهوى.
ومثل ذلك تلك الآيات الكثيرة التي تأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقرنها بطاعة الله، كما قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تتحول إلى آيات لا يمكن تطبيقها إلا في الواقع الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف نطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف نتبع أوامره، ونحن ننكرها ونردها.
أما ادعاء القرآنيين بأن القرآن الكريم حوى كل شيء، وأنه لذلك يمكن الاستغناء عن السنة، كما قال عبد الله جكرالوي مؤسس فرقة القرآنيين: (إن الكتاب المجيد ذكر كل شيء يحتاج إليه في الدين مفصلا ومشروحا من كل وجه، فما الداعي إلى الوحي الخفي وما الحاجة إلى السنة) (1)، وقال: (كتاب الله كامل مفصل لا يحتاج إلى الشرح ولا إلى تفسير محمد صلى الله عليه وآله وسلم له وتوضيحه إياه أو التعليم العملي بمقتضاه) (2)، فهو قول ممتلئ بالمغالطات.
ذلك أن الكثير من الأحكام لا يمكن تنفيذها من دون السنة المطهرة، ولذلك
__________
(1) مجلة إشاعة القرآن ص 49 العدد الثالث سنة 1902 م، وإشاعة السنة 19 ص 286 سنة 1902.
(2) ترك افتراء تعامل 10 وقد قال بمثله الخواجه أحمد الدين والحافظ أسلم. انظر برهان القرآن 4، ونكات... قرآن 49.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (28)
تولت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان ذلك.. وفصلته وعلمته لنا.
وقد يتصور البعض أن هذا خاص بالعبادات فقط، ولذلك يذكرون إمكانية الاعتماد على السنة في هذا المجال، وهذا خطأ، فحتى في القضايا الأخرى، نجد شروحا وتفاصيل لا يمكن فهم القرآن الكريم إلا من خلالها.
ومن الأمثلة على ذلك تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعنى الغيبة، والفرق بينها وبين البهتان، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أتدرون ما الغيبة؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه) (1)
وهكذا نجد الأحاديث الكثيرة التي تنهانا عن الغيبة، وتؤكد حرمتها، وتبين عظم خطورتها، وهو ما يزد الحقائق القرآنية المرتبطة بهذا الجانب توثيقا وتأكيدا وتحقيقا.
ولسنا ندري لم نرمي كل تلك الثروة الأخلاقية، بسبب بعض الأحاديث التي خالفت القرآن الكريم، والتي كان يمكننا رفضها لوحدها، أو محاولة فهمها على ضوء القرآن الكريم، أما أن نرمي السنة جميعا بسببها، فهذا بهتان عظيم، فالتعميم دائما يحمل الأخطاء.
ولهذا، قلنا في كتاب [أبو هريرة وأحاديثه في الميزان]، والذي اتهمنا فيه البعض بإنكار السنة: (ولذلك لا نريد من خلال هذا البحث رمي أحاديث أبي هريرة، ولا طرحها، ولا تكذيبها جميعا، وإنما ندعو إلى تمحيصها حتى نميز السم عن العسل، والصدق عن الكذب، والإلهي عن البشري، والمقدس عن المدنس، ذلك أن الكثير من الروايات التي رواها أبو هريرة نجدها مروية من طرق غيره من الصحابة، بل نجدها
__________
(1) رواه مسلم، 2589.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (29)
عند الشيعة أو غيرهم من فرق المسلمين بأسانيدهم الخاصة بهم، لكن غيرها، وخاصة مما اختص به، نحتاج فيه إلى تحقيق كبير، ذلك أن أبا هريرة لم يكن من الصحابة السابقين، ولا من الذين اكتفوا بالتلمذة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كان تلميذا نجيبا لغيره، وخاصة لكعب الأحبار، ولذلك اختلطت ـ باتفاق العلماء والمحدثين ـ أحاديثه التي رواها عن كعب بأحاديثه التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان له فوق ذلك اجتهاداته في بعض روايات الحديث، حيث كان يروي الحديث، ثم يضيف له بعض الإضافات التي يسميها العلماء إدراجا، ويعبر عنها هو بأنها من كيسه)
وبناء على ذلك قمنا بدراسة رواياته، وخاصة تلك التي انفرد بها، وعرضها على القرآن الكريم، بل عرضها على كلام أهل العلم أنفسهم، وقد وجدنا أنهم يفندونها ويردونها حتى أن
ومن الأمثلة على ذلك الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فقال: (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) (1)
وهذا الحديث الذي يصرح فيه أبو هريرة بالسماع، بل يصرح بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصه به، بل أخذ بيده حين قاله، اتفق العلماء على عدم صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أبا هريرة أخطأ فيها، فبدل أن يقول: أخذ كعب الأحبار بيدي، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي.
__________
(1) مسلم (2789)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (30)
يقول ابن كثير في تفسيره تعليقا عليه: (فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه، والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا) (1)
بل إن ابن تيمية نفسه رد الحديث، فقال في (مجموع الفتاوى): (.. خلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخارى وغيرهما وذكر البخارى أن هذا من كلام كعب الأحبار) (2)
بل إن السلف الأول من الصحابة أنفسهم ردوا أحاديثه، واتهموه في الرواية، بل فيهم من اتهمه بالكذب، ومن الأمثلة على ذلك ما روي من رد عائشة على أبي هريرة حول ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار)، ففي الحديث عن أبي حسان الأعرج، أن رجلين، دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول: (إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار)، قال: فطارت شقة منها في السماء، وشقة في الأرض، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة، ثم قرأت عائشة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]) (3)
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 294.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 18 ص 18.
(3) رواه أحمد 6/ 150، وفي 6/ 240 وفي 6/ 246.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (31)
وفي رواية عن مكحول، قيل لعائشة إن أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشؤم في ثلاثة: في الدار والمرأة والفرس)، فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (قاتل الله اليهود، يقولون إن الشؤم في ثلاثة: في الدار والمرأة والفرس، فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله)
فهذا الحديث بروايتيه يشير إلى ذلك التسرع الذي اتسمت به رواية أبي هريرة للأحاديث، وهو ما جعله يقع في خلط كثير، ولهذا غضبت عائشة، بل طارت شقة منها في السماء، وشقة في الأرض، من ذلك الخلط الذي يمارسه أبو هريرة في رواية الحديث.
ومع ذلك، لم نرم كل أحاديث أبي هريرة، بل إنا ذكرنا الكثير منها في كتبنا، لأنا لم نر بها بأسا، فمعانيها شرعية صحيحة، وإنما اقتصر ردنا على ما نراه مخالفا لما ورد في القرآن الكريم من تنزيه الله أو تنزيه رسله، أو الدعوة للقيم النبيلة.
وهذا هو الحل الصحيح في التعامل مع السنة المطهرة، لا رميها جميعا، وتكذيبها جميعا، بجرة قلم واحدة، لأن هذا وليد الكسل والمراهقة الفكرية.. ولا قبولها جميعا كذلك، لأن بعض الروايات يفعل فعل السم في تحطيم الشريعة وتشويهها وتشويه كل القيم النبيلة التي جاءت بها.
ثانيا ـ المغالطات المرتبطة بثبوت السنة
مثلما انطلق المنكرون لحجية السنة من بعض تلك الأخطاء التي وقع فيها الذين أخروا القرآن الكريم عن السنة، وجعلوا أحكامه منسوخة أو مخصصة أو مقيدة بسببها، فكذلك فعل المنكرون لثبوت السنة، والذين توهموا أنهم بإنكار ثبوتها، يكونون قد ألغوا الحاجة إليها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (32)
فقد اعتمدوا هم أيضا على تلك الروايات الضعيفة، أو تلك الأسانيد المريضة، أو ذلك الوضع الذي انتشر في فترات مختلفة من التاريخ، ليعمموه على كل الأحاديث والروايات، وهذا خطأ كبير، لا يقل عن الخطأ السابق.
بل إن بعضهم، ومبالغة في تأكيد مغالطته راح يزعم هذا الزعم الذي عبر عنه بقوله: (لو كانت السنة جزءاً من الدين لوضع لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهجا كمنهج القرآن من الكتابة والحفظ والمذاكرة.. لأن مقام النبوة يقتضي أن يعطي الدين لأمته على شكل محفوظ، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم احتاط بكلّ الوسائل الممكنة لكتاب الله، ولم يفعل شيئا لسنّته، بل نهى عن كتابتها بقوله: لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) (1)
وما ذكره غير صحيح، فالأحاديث الكثيرة تدل على وجوب تبليغ الأمة لسنته صلى الله عليه وآله وسلم، وهي لم تحدد كيفية ذلك اعتمادا على صدق المبلغين وذاكرتهم القوية، بل هي لم تحدد حتى منهج حفظ القرآن الكريم، ولا أمرت بتكثير نسخه، بل كان الاعتماد الأكبر على حفظ الصدور، كما هي عادة العرب.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمرا بتبليغ سنته: (نضر الله امرأ سمع منّا شيئاً فبلّغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع) (2)، وقال مرات كثيرة: (ليبلغ الشاهد الغائب) (3)
أما الحديث الوحيد الذي استدل به هؤلاء في النهي عن كتابة الحديث، وهو ما رواه مسلم من طريق همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ: (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) (4) فهو مردود سندا ومتنا.
__________
(1) مقام حديث 7.
(2) أخرجه الترمذي (2647) واللفظ له، وابن ماجه (232) من حديث ابن مسعود، وهو حديث متواتر.
(3) أخرجه البخاري (67) ومسلم (1679).
(4) صحيح مسلم (3004) كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (33)
أما الرد عليه سندا، فهو كونه لم يروه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا همام بن يحيى، فقد قال الخطيب: (تفرد همام بروايته هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعا، ويقال: إن المحفوظ رواية هذا الحديث، عن أبي سعيد - هو - من قوله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، ونقل عن البخاري وغيره: أن حديث أبي سعيد - هذا - موقوف عليه، فلا يصح الاحتجاج به ونسبه ابن حجر إلى بعض الأئمة.
وهذا الاضطراب في رفع الحديث ووقفه يرجح وقفه، لا رفعه، خاصة مع وجود الأحاديث الكثيرة المعارضة، وقد قال الحازمي - في الوجه العشرين، من وجوه الترجيح بين الخبرين اللذين تعذر الجمع بينهما -: (أن يكون أ حد الحديثين متفقا على رفعه، والآخر قد اختلف في رفعه ووقفه على الصحابي، فيجب ترجيح ما لم يختلف فيه، على ما اختلف فيه، لأن المتفق على رفعه حجة من جميع جهاته، والمختلف في رفعه على تقدير الوقف، هل يكون حجة أم لا؟ فيه خلاف، والأخذ بالمتفق عليه، أقرب إلى الحيطة)
بالإضافة إلى ذلك، فإن من علل هذا الحديث الكبرى كونه غريبا، فقد تفرد به همام عن زيد، وهذا ما يجعل أحاديث إباحة الكتابة الصحيحة أرجح منه، فليس فيها التفرد الذي في هذا الحديث.
بالإضافة إلى ذلك كله، فإن أبا سعيد - الذي روى الحديث ـ لا يرى علة لهذا المنع، إلا أنه لا يريد أن يجعل الحديث كالقرآن في مصاحف، ولا يذكر أن العلة هي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك، وهذا يؤيد ما قيل من أن الحديث الذي نقلوه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو موقوف عليه.
أما الرد عليه متنا؛ فهو ذلك الاهتمام الذي أولته الأمة ابتداء من عصورها الأولى
التنويريون والصراعات مع المقدسات (34)
بكتابة السنة المطهرة، ومحاولة تمييز الصحيح منها من السقيم.
ونحن وإن كنا انتقدنا بعض المناهج المرتبطة بذلك في كتبنا، وخاصة في كتاب [التراث السلفي تحت المجهر]، ولكن ذلك لا يعني طرح جميع الأحاديث، وإنما كان تركيزنا على الأحاديث التي هي موضع خلاف بين الأمة، مثل أحاديث التوسل والقبور وبعض مناقب الصحابة ونحوها، مما يمكن اعتباره من صنف الحديث المختلف فيه.
أما الأحاديث الأخرى، وخاصة تلك المرتبطة بالقيم العقدية والسلوكية والأخلاقية؛ فهي موضع اتفاق في الأمة، حتى ما كان منها ضعيفا، لأنه قد يرد في المصادر السنية بأسانيد ضعيفة، بينما نجده في المصادر الشيعية بأسانيد أقوى، وبذلك تقوي الأسانيد بعضها بعضا.
وقد حاولنا في كتابنا [سنة بلامذاهب] أن نضع القواعد المرتبطة بذلك، والتي يسهل استعمالها لإخراج الأحاديث بعيدا عن النزاعات المذهبية والطائفية.
وقد ذكرنا فيه أنه يمكن الاستفادة من أي حديث يخدم المقاصد القرآنية، حتى لو كان ضعيفا، لأنه لا يصح رمي كل حديث ضعيف، بل ترمى الأحاديث التي تخالف القواعد الشرعية فقط، ومن أمثلة ذلك الحديث العظيم الذي يروى في فضل العلم، والذي رفعه معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعلمُوا الْعلم فَإِن تعلمه لله خشيَة وَطَلَبه عبَادَة، ومدارسته تَسْبِيح، والبحث عَنهُ جِهَاد، وتعليمه من لَا يُعلمهُ صَدَقَة، وبذله لأَهله قربَة، وَهُوَ الأنيس فِي الْوحدَة، والصاحب فِي الْخلْوَة، وَالدَّلِيل عَلَى الدَّين، والمصبر عَلَى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، والوزير عِنْد الأخلاء، والقريب عِنْد الغرباء، ومنار سَبِيل الْجنَّة، يرفع الله بِهِ أَقْوَامًا فيجعلهم فِي الْخَيْر قادة سادة هداة يُقْتَدَى بهم، أَدِلَّة فِي الْخَيْر تقتص آثَارهم وترمق أفعالهم، وترغب الْمَلَائِكَة فِي خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب
التنويريون والصراعات مع المقدسات (35)
ويابس لَهُم يسْتَغْفر حَتَّى حيتان الْبَحْر وهوامه وسباع الْبر وأنعامه وَالسَّمَاء ونجومها) (1)
وهو حديث اتفق الكل على تضعيفه، بينما هو في لغته ومعانيه قطعة أدبية رفيعة ممتلئة بالمعاني السامية، ولا ضرر في روايتها ورفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن كل المعاني الواردة فيه واردة في نصوص أخرى، بالإضافة إلى كونه مرويا في المصادر الشيعية.
وهكذا يمكننا بهذا المنهج الذي يعتمد المتن، أن نجمع الكثير من نصوص السنة النبوية، والممتلئة بالمعاني السامية، والتي تخدم المقاصد القرآنية، من غير أن يكون في ذلك أي ضرر.
بل إننا بهذا المنهج يمكننا الاستفادة من الأحاديث التي تحوي على بعض العبارات والجمل التي تناقض القواعد الشرعية، حيث يمكننا حذفها والإبقاء على باقي الحديث الذي نرى توافقه مع الشريعة، وبذلك يمكننا أن نرى ثروة كبيرة من الحديث يمكننا الاستفادة منها في خدمة المقاصد القرآنية.
وهذا المنهج هو الذي اعتمده الغزالي والفيض الكاشاني والمنذري وغيرهم في كتاباتهم المرتبطة بالترغيب والترهيب، لأن الدعوة للقيم الرفيعة تستدعي توافر الكثير من النصوص التي تشجع على العمل الصالح، وتنفر من العمل القبيح، ذلك أن بعض الناس قد لا تؤثر فيهم مجملات القرآن الكريم بقدر ما تؤثر فيهم التفصيلات الواردة في السنة.
ومن الأمثلة على ذلك الحديث الذي يذكر عقوبة تارك الصلاة، والذي كان
__________
(1) قال الألباني في [ضعيف الترغيب والترهيب (1/ 45)]: رواه ابن عبد البر النَّمِري في "كتاب العلم" من رواية موسى بن محمد بن عطاء القرشي: حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمّي عن أبيه عن الحسن عنه. وقال: (هو حديث حسن [جداً]، ولكن ليس له إسناد قوي، وقد رُوَّيناه من طرقٍ شتى موقوفاً، كذا قال رحمه الله، ورفعه غريب جداً..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (36)
ينتشر بين العامة بكثرة، وقد كان له تأثيره الواقعي الكبير، لولا أن بعض أصحاب الاتجاه السلفي راح يحذر منه بحجة كونه موضوعا، مع كونه مرويا في المصادر الشيعية، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة، ست منها في دار الدُّنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.. فأما اللواتي تصيبه في دار الدُّنيا: فالأولى: يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزَّ وجلّ سيماء الصالحين من وجهه، وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين.. وأما اللواتي تصيبه عند موته فأولاهن: أنه يموت ذليلاً والثانية: يموت جائعاً، والثالثة: يموت عطشاناً، فلو سقي من أنهار الدُّنيا لم يرو عطشه.. وأما اللواتي تصيبه في قبره فأولاهن: يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية: يضيِّق عليه قبره، والثالثة: تكون الظلمة في قبره.. وأما اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره فأولاهن: أنه يوكل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية: يحاسبُ حساباً شديداً، والثالثة: لا ينظر الله إليه ولا يزكِّيه وله عذاب أليم) (1)
ومن هذا الباب أيضا تلك الأدعية الكثيرة والممتلئة بالمعاني السامية، والتي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يمكن أن نستغني عنها بسبب ضعف أسانيدها، ذلك
__________
(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ص 24. لكن قال عنه الشيخ ابن باز في مجلة [البحوث الإسلامية: (22/ 329)]: (أما الحديث الذي نسبه صاحب النشرة إلى رسول الله (في عقوبة تارك الصلاة وأنه يعاقب بخمس عشرة عقوبة الخ: فإنه من الأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي (كما بين ذلك الحفاظ من العلماء رحمهم الله كالحافظ الذهبي في [لسان الميزان] والحافظ ابن حجر وغيرهما)، وقال عنه الشيخ ابن عثيمين: (هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله (لا يحل لأحد نشره إلا مقروناً ببيان أنه موضوع حتى يكون الناس على بصيرة منه) [فتاوى الشيخ الصادرة من مركز الدعوة بعنيزة " (1/ 6)]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (37)
أن العبرة بمعانيها، لا بألفاظها، فإن كان في ألفاظها ما يعارض المعاني القرآنية، حذف، وترك الباقي لتستفيد الأمة منه.
ولهذا نجد في المدرسة الشيعية انفتاحا كبيرا في هذا الباب، وهو ما أورثهم ثروة كبيرة من الأدعية والمناجيات التي لا نجد نظيرا لها في المدرسة السنية، وهم مع اعتراف محققيهم بضعف الكثير منها إلا أنهم لا يرون بأسا باستعمالها ما دامت تخدم المقاصد القرآنية.
وطبعا.. لم يكن هدفي هنا هو البحث في هذا المجال، وإنما أردت أن أبين لهؤلاء الذين يزعمون أنهم قرآنيون، أن العاقل هو الذي يبحث عن كل شيء يحقق مقاصده، لا الذي ينفر منها، وبما أن السنة المطهرة أحسن الوسائل لتحقيق المقاصد القرآنية والدعوة إليها، فمن قلة العقل أن نزعم لأنفسنا أننا قرآنيون، ثم نرمي تلك الثروة العظيمة، بحجة عدم ثبوتها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (38)
من الأدوات التي يستخدمها التنويريون الجدد للتشكيك في الحقائق القطعية، وممارسة وظيفة الهدم، التي هي أسهل الوظائف، وأكثرها انتشارا، أداة [خرق الإجماع]
ذلك أن هذه الأداة تتيح لهم أن يدلوا بأقوال لم يسبقهم إليها أحد، وبذلك يعتبرون أنفسهم، أو يعتبرهم جمهورهم أصحاب مشاريع تجديدية؛ فهم لا يريدون أن يظهروا بين الناس بأنهم مقلدة، أو بأنهم يجترون أقوال من سبقهم.
وهي أيضا تيسر عليهم التعامل مع القضايا المختلفة بسهولة ويسر، ذلك أنهم لن يحتاجوا إلى البحث في كتب العقيدة ولا الفقه ولا الحديث ولا التفسير، ولا يحتاجون لمراجعة العلماء من المدارس المختلفة للتحقق في أنواع البراهين، وأنماط الحجج، وإنما يكفيهم أن يدلوا برأيهم، ثم بقنبلة واحدة يرمون جميع الفقهاء والمفسرين والمحدثين من المدارس المختلفة من غير أن يطلعوا على أقوالهم، أو يكلفوا أنفسهم عناء فهمها.
وهي أيضا تيسر لهم أن يكونوا أحرارا غير محاطين بأي قيود تحول بينهم وبين التفكير الحر، الذي لا يتقيد بأي قيود حتى لو كانت قيود الشريعة نفسها.
ولذلك ما أسهل لمن يفكر بهذه الطريقة أن يحدد أهدافه من الدين، ثم يحدد بعد ذلك وسائله لتحقيقها، وقد يستفيد ذلك من التيارات الفكرية المختلفة.. ليحمل الدين بعد ذلك عليها.. فإن كان شيوعيا حول من الدين نظرية شيوعية.. وإن كان وجوديا جعل من الدين وسيلة لتحقيق الرؤى الوجودية.. وإن كان يرى أن غاية الحياة هي تحقيق الديمقراطية حول الدين جميعا أداة لتحقيق الديمقراطية.
وهو لن يستعمل في ذلك إلا بعض الخدع والحيل التي استعملها السفسطائيون،
التنويريون والصراعات مع المقدسات (39)
والذين قضوا على المنطق، وعلى كل معقول مثلما يقضي التنويريون الجدد على كل قطعي من الحقائق، وكل متفق عليه من شؤون الدين والدنيا.
ومن الحيل التي يستعملونها في هذا الجانب أنهم يلجؤون إلى الخصام الحاصل بين الفرق الإسلامية؛ فيستفيدون من ردود السنة على الشيعة، أو من ردود الشيعة على السنة.. ليضربوا كلا من السنة والشيعة.. ولا يعلمون أنهم لا يضربون فقط مواضع الخلاف بينهم، وإنما يضربون أيضا مواضع الإجماع والاتفاق.
وهم بذلك يفعلون مثلما يفعل ذلك الملفق المحتال على الدين، والذي عبر عنه أبو نواس بقوله:
أباح العراقيّ النّبيذ وشربه... وقال: حرامان المدامة والسّكر
وقال الحجازي: الشرابان واحد... فحلّ لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما... وأشربها لا فارق الوازر الوزر
وعبر عنه آخر نثرا، فقال: (أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ، وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا الغناء، فأوجدونا السبيل إلى الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق) (1)
وهذا هو منهجهم في النقد الذي يسمونه [نقد العقل العربي] أو [نقد العقل الإسلامي]، ونحن لا ننكر إنكارا مطلقا على هذا السلوك، وقد فعله الغزالي عند نقده للفلاسفة، فقد ذكر أن مراده إلزامهم بأي حجة، وقد تكون حجة للمعتزلة أو لمدرسة فلسفية مخالفة وغيرها، ليثبت لهم أن العقل المجرد لا يكفي وحده لحل حقائق الوجود الكبرى.
__________
(1) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 769)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (40)
ولكنا ننكر خرقهم للإجماع، لا إجماع الطائفة الذي عبر عنه الإمام أحمد بقوله: (من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك لعلهم اختلفوا) (1)، ذلك أنه لا يصح أن يسمى هذا النوع إجماعا، فالأمة الإسلامية تشمل جميع الطوائف، لا طائفة بعينها، ولذلك فإن الذي يذكر الإجماع يحتاج أن يعرف موقف المدارس الإسلامية المختلفة من القضية المطروحة، وهو ما فعله الإمام أحمد نفسه حين استدل بالإجماع على نجاسة الدم، فأجاب من سأله: (الدم والقيح عندك سواء؟) بقوله: (الدم لم يختلف الناس فيه، والقيح قد اختلف الناس فيه) (2)
وذلك الإجماع الذي لا يحل الخروج عليه هو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة) (3)
وهو جزء من حديث دل معناه على صحته، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم، فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة)
والقرآن الكريم يدل على هذا، ذلك أن وقوع جميع الأمة في الباطل يعني انتصاره على الحق مع أن الله تعالى أخبر أن الحق لن ينطفئ نوره أبدا، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]
وأخبر عن بني إسرائيل أنهم لم يجمعوا على تحريف الدين، بل بقيت منهم طائفة
__________
(1) إقامة الدليل على إبطال التحليل ص 275.
(2) شرح العمدة، 1/ 105.
(3) أبو داود 4/ 98، حديث 4253، وابن ماجه، حديث رقم 3950، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة (ج 3 / ص 319)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (41)
صالحة، إلى أن جاء الإسلام فاتبعته، كما قال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن في هذه الأمة كذلك، لن يجمع الكل على الانحراف، بل ستبقى طائفة ملتزمة بالحق، حتى تقام الحجة على الخلق.. ذلك أنه لو لم يبق إلا الباطل المجرد، لما استطاع الخلق التمييز بين الحق والباطل.
وقد نص على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) (1)
وبذلك تنقطع حجة كل من يريد أن يأتي في الدين بالجديد الذي يغيره من جذوره، كما نسمع الكثير من التنويريين الذين يريدون إنشاء دين جديد لا علاقة له بما اتفقت عليه الأمة.
وهذا لا يعني أننا لا نجتهد في فهم النصوص، ولا في استفادة الجديد منها، ولا في البحث عن كيفية تفعيلها في الحياة، ذلك أن كل هذا بناء، وليس هدما.. وإنما نعني به ذلك الهدم الذي ينقض الدين من أساسه، باستعمال الحيل السفسطائية المستفادة من المناهج المختلفة.
وقد يتصور البعض أن مساحة إجماع الأمة محدود، وهذا وهم كبير، فمساحة الاتفاق في الأمة أكبر بكثير من مساحة الخلاف فيها.. فهي تتفق في أكثر مسائل العقيدة وقضاياها، فهم يتفقون جميعا في معظم المسائل المرتبطة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهم يتفقون في أكثر مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وإن كانوا يختلفون في بعض الفروع، التي ليس لها من الأهمية ما لأصول الدين الكبرى
__________
(1) البخاري 6/ 731، حديث 3641، ومسلم 3/ 1524.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (42)
التي نصت عليها الأدلة القطعية.
وهم يتفقون كذلك في أكثر مسائل الفقه وقضاياه، سواء في أبواب العبادات أو المعاملات، باعتبار أن أصول هذه الأبواب مذكورة في القرآن الكريم بصيغة قطعية، لتحفظ وحدة الأمة في هذا الجانب، بل إننا عندما نرجع للمصدر الثاني الذي هو السنة المطهرة، نجدهم كذلك يتفقون في أكثر الفروع الفقهية، والخلافات بينهم لا تعدو بعض الصور أو القضايا البسيطة.
وهم يتفقون كذلك في أكثر قضايا السلوك والأخلاق، والتي وردت التفاصيل الكثيرة المرتبطة بها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، واتفقت الأمة عليها بلا خلاف.
وهم يتفقون كذلك على مركزية القرآن الكريم، والكثير من السنة المطهرة، وكونها مصادر الدين في جميع أحكامه.
بالإضافة إلى هذا كله يتفقون في الكثير من المواقف التاريخية أو السياسية كالقضية الفلسطينة، وعلى ضرورة وحدة الأمة، وعلى مواجهة كل مشاريع التخلف والعولمة والحداثة والاستعمار التي تريد أن تقضي عليها.
وبذلك فإن مساحة الخلاف محدودة جدا، وإنما يضخمها المتطرفون الدينيون، والمتطرفون اللادينيون حتى يستثمروا مسائل الخلاف في تشويه الدين، وتحطيم الأمة، وإطفاء نور الحقيقة فيها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (43)
ينتقد التنويريون كل حين، وبلهجة شديدة، ذلك التخلف الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية بسبب وقوعها في الخرافات والدجل، وعدم اهتمامها بالحقائق التي تؤثر في الواقع الشخصي؛ فتهذبه وترقيه، أو الواقع الاجتماعي؛ فتجعله واقعا حضاريا راقيا متطورا.
لكنهم يقعون في نفس الخطأ حين يهجمون، ومن دون أثاره من علم، أو سلطان من حجة على معاني كثيرة؛ فيفتون فيها بجزم وتحقيق، وكأن كتاب الغيب قد فتح لهم؛ فراحوا يقرؤونه للناس، وبذلك يقعون في نفس ما أنكروه على غيرهم، بل ربما يقعون فيما هو أخطر منه.
ذلك أن خرافات السابقين، تستند لروايات يتفق جميع المسلمين على أنها ليست روايات معتبرة، وأن أصحابها كانوا يهودا، نقلوا معارفهم وثقافتهم للمسلمين الذين تفرقوا، ففيهم من استمع لها، وفيهم من لم يستمع إليها.
لكن خرافات التنويريين الجدد، لا تستند لتلك الروايات، بل هي تسنتد لمناهج غريبة في الاستنباط، لا يدل عليها العقل، ولا أي منطق صوري ولا رياضي.. ولا يدل عليها إلا الهوى المجرد، والتحكم الذي لا ضابط له.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها في هذا المقال المختصر، ولذلك نكتفي ببعض ما ذكره من يصور لنفسه وأتباعه أنه المحيط بحقائق القرآن الكريم، وأنه أخرج منها من المعارف ما سبق به الأولين والآخرين، وهو محمد شحرور، وذلك في سلسلة الكتب التي ألفها حول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتي تنبع استنباطاته فيها من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (44)
نفس المنابع التي نهل منها كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهما من التكلف الممقوت، والفضول الذي نهينا عنه.
ومن ذلك ما فسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]، والتي كان يمكن أن يقرأها كما يقرؤها أي مؤمن من أن نوحا عليه السلام مثال للصبر الجميل، وأنه مكث كل تلك المدة مع قومه يؤدي رسالة الله، ويبلغ حججه من غير أن يضيق أو يضجر، ويقرأ منها مدى صبر الله وحلمه على خلقه، وأنه لم ينزل بهم عقوبة الطوفان إلا بعد تلك السنين الطوال.
لكن شحرورا لم يقرأها بهذه الطريقة، بل راح يبحث عن الحيلة التي يحول بها تلك المئات من السنين إلى أربعين سنة، وكأن الله الذي خلق كل شيء يعجز أن يمد في عمر نوح عليه السلام إلى تلك المدة التي ذكرها القرآن الكريم.
وسنذكر هنا ما ذكره لنرى عجائب ما استدل به لذلك؛ فقد قال: (كانت الأعمار في عهد نوح لا تزيد أبداً عن الأعمار في يومنا هذا، بل لعلها كانت أقل، فلقد أثبتت الوثائق التاريخية أن متوسط الأعمار عند الفراعنة لا يزيد عن 40 عاماً، أما الزعم بأن عمر آدم كان ألف عام، وأن نوحاً لبث في قومه تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الإسلام فهذا ضرب من العبث والتخريف، لا نلوم عليه أصحاب التراث التوراتي لأن علوم التاريخ كانت مجهولة لديهم، لكننا نلوم المعاصرين الذين ما زالوا يظنون ويفرضون علينا ظنهم، أن الإنسان كان يعيشِ ألف عام وأكثر) (1)
وهذا استدلال عجيب، إذ كيف يستدل بالوثائق التاريخية المرتبطة بالفراعنة على
__________
(1) شحرور، القصص القرآني، قراءة معاصرة، 2/ 49..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (45)
زمن نوح عليه السلام، والذي لا نملك أي آثار تدل عليه؛ فالآثار لم تحفظ لنا كل التاريخ، ولذلك من العجيب أن نستدل على حقائق التاريخ، وخاصة ذلك الموغل منه في القدم بما ليس لدينا أي حجة أو براهين عليه، ثم ننسف بعد ذلك الحقائق القطعية التي حكاها لنا ربنا.
وبعد أن يضع شحرور تلك المقدمة التي لا تملك أي حظ من العلمية، يقدم مقدمة أخرى، يتفق الجميع على صحتها، لكنه يستخدمها بطريقة خاطئة، فيعتمد ـ مثل عادته ـ القواعد الصحيحة، لا للبناء، وإنما للهدم؛ فيقول: (من حيث المبدأ، إذا تعارض ظاهر نص قرآني مع حقيقة علمية ثابتة وجب اللجوء إلى التأويل، وإن تعارض فهمنا لنص قرآني مع حقيقة علمية ثابتة حكمنا بأن فهمنا للنص هو الخطأ، وليس النص بذاته، لأن كلام الله تعالى بداهة لا يمكن ولا يجوز أن يتعارض مع كلماته أي مع قوانينه ونواميسه) (1)
وهذه حقيقة، ولكنها تستعمل عندما يتعارض ظاهر النص القرآني مع ما ثبت علميا، وما ذكره عن الفراعنة ليس له علاقة بتاتا بعمر نوح عليه السلام، ولا أعمار قومه؛ فالمسافة بينهما طويلة، ولا يمكن قياس الغائب على الشاهد.
والنتيجة التي وصل إليها بعد لف ودوران طويلين هي ما عبر عنه بقوله: (إن القرآن استعمل التقويم الذي كان سائداً في عهد نوح، وليس في تقويمنا نحن، فمتوسط أعمار البشر في نمو مستمر، وليس العكس) (2).. وبذلك، وبعد اطلاع هواه المجرد على التقويم الذي كان معتمدا في عهد نوح عليه السلام خلص إلى أن الألف سنة التي
__________
(1) المرجع السابق، 2/ 51..
(2) المرجع السابق، 2/ 53.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (46)
تحدث عنها القرآن الكريم قد لا تساوي 40 عاما.
وبقوله هذا يصبح ما ذكره القرآن الكريم من مدة مكث نوح عليه السلام مع قومه لا معنى له، ذلك أن الله تعالى لم يذكر مدة مكث نوح عليه السلام في أداء دوره الدعوي إلا بسبب تلك الخاصية التي تميز بها، وهي الطول الشديد الذي يستدعي الصبر الجميل مع الحلم والأناة.
وبذلك، فإن شحرورا بسلوكه هذا ـ والذي تصور أنه يصحح فيه معلومة أخطأ جميع المفسرين في فهمها ـ قضى على حقيقة قرآنية، وقيمة من القيم الجميلة التي جاءت تلك الآية الكريمة لبيانها.
ومثل ذلك حديثه عن سفينة نوح عليها السلام، ومن ركبها، والتي كان يمكن أن يسلم بما ورد في القرآن الكريم عنها من كونها سفينة عجيبة حمل فيها نوح عليه السلام المؤمنين به، وزوجين من الحيوانات كما ذكر القرآن الكريم من غير أن يتكلف في البحث عن طول السفينة، ولا عرضها، ولا فيمن ركبها من الإنس والحيوانات، لأن هدف القرآن الكريم من ذكرها هو بيان نصر الله للمؤمنين، وعقابه للجاحدين، وليس تفاصيل السفينة، ولا من ركبها.
لكن شحرورا لم يفعل ذلك، وإنما راح يقزمها ويحتقرها، ولم يكتف بذلك، بل راح يجادل فيمن ركب فيها من البشر ويشكل عليه، مع كون القرآن الكريم أخبر أنه لم يركب فيها إلا المؤمنون.
وقد قال معبرا عن ذلك: (تحدث المفسرون بالتفصيل الممل عن أن ركاب السفينة ثلاثة أنواع: الأول يشمل الحيوانات والنباتات ويحكمه مبدأ من كل زوجين اثنين أولهما ذكر والثاني أنثى، والثاني يشمل أهل نوح وهم ثمانية: نوح وامرأته وأبناؤه
التنويريون والصراعات مع المقدسات (47)
الثلاثة سام وحام ويافث لكل واحد منهم زوجة، وهذا النوع الثاني يحكمه ما يحكم النوع الأول، أما الثالث فيشمل من آمن بنوح وهم قليل، لكننا لم نسمع أحداً من المفسرين أشار إلى المبدأ الذي يحكمهم أهو مبدأ الإيمان فقط أم هو مبدأ من كل زوجين اثنين الذي حكم النوعين الأول والثاني؟)
وقد طرح هذا الذي توهمه إشكالا ليؤسس عليه بأن نوحا عليه السلام، لم يركب ابنه في السفينة بسبب عدم إيمانه، وإنما بسبب كونه عازبا، وقد قال مقررا هذا: (والسؤال الآن: ماذا يفعل نوح بشاب عازب مؤمن؟ هل يتركه للغرق لأنه عازب؟ أم يحمله معه لأنه مؤمن ليسطو على زوجات الآخرين بعد انحسار الطوفان؟)
ويشكل على زوجة نوح عليه السلام أيضا، مع أن القرآن الكريم لم يتحدث عن ركوبها في السفينة معه، لأن الغرض هو الحقائق والعبر لا تفاصيل من ركب السفينة ومن لم يركبها، فلذلك كان يكفيه أن يقرأ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]
لكن شحرورا لم يفعل ذلك، وإنما راح يستنبط من القرآن الكريم بطريقته الخاصة أسماء من ركب ومن لم يركب، فقد قال: (وإن كان المعيار في الدخول إلى السفينة هو الإيمان فلماذا حمل نوح امرأته وقد ضربها الله في كتابه مثلاً للذين كفروا ولم يحمل ابنه؟ والأهل هم الزوجة والأولاد، وابنه ممن سبق عليه القول، لأنه ليس ابنه) (1)
وهكذا راح يتكلف في استنباط شكل السفينة وقدراتها، ويتصور أن الإجابة على ذلك تشكل مسألة مهمة، مع كونها ليست كذلك، وحتى لو كانت كذلك، فإنه ليس
__________
(1) المرجع السابق، 2/ 45 - 46..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (48)
لدينا من الأدلة ما يمكننا أن نستند إليه.
وقد قال معبرا عن ذلك: (هنا سيظهر سؤال في غاية الأهمية وهو: ما هو المستوى الإنتاجي في الأدوات المستخدمة لصنع الفلك؟ ومن ركب في الفلك؟ لقد أجاب القرآن على هذه الأسئلة كالتالي.. لم يكن في زمن نوح حبال ولا مسامير لربط الخشب بعضه إلى بعض، وإنما تم ربط الخشب على مبدأ الدسر وهي الألياف الطبيعية.. أما الفلك نفسه فقد جاء من فعل [فلك] وهو الاستدارة، وهو بمثابة المعدية المائية، وقد أكد القرآن أنه لم يكن في ذلك الوقت مجاذيف للتجذيف ولا دفة للتوجيه ولا أشرعة.. أي أن الفلك مجرد جسم خشبي له استدارة يعوم على الماء فقط.. فإذا سأل سائل: كيف تم التوجيه والجر في فلك نوح؟ أقول: لقد تم الجر بواسطة التيار المائي حسب اتجاهه الطبيعي.. أما الآن فإن توجيه السفن يجري بواسطة الرادار والبوصلة، والشد يجري بواسطة المحرك والأشرعة)
وهكذا راح يتكلف في كيفية حصول الطوفان، وكان في إمكانه ألا يبحث في ذلك كله، ويركز على المعاني والعبر المرتبطة بذلك، خاصة مع عدم ورود أي دليل.
وقد قال ذلك بصيغة التقرير والجزم، بل والإيجاب: (يجب أن نفهم أن طوفان نوح كان محليا أي عبارة عن عاصفة مطرية كبيرة جدا جرت بشكل محلي، حيث كان قوم نوح يسكنون في مناطق منخفضة قريبة من الأنهار تحيطها الجبال.. ونحن نعلم الآن أنه خلال ساعات من العاصفة المطرية الشديدة يمكن إغراق مدينة بأكملها، وبنفس الوقت نعلم إذا كانت هناك عاصفة مطرية تبعها طوفان في منطقة ما في أستراليا فهذا لا يعني أن الطوفان قد وصل إلى مصر أو الهند، وأن من يفسر بأن الطوفان عم كل الأرض فهذا غير صحيح ولكنه عم لك الأرض التي سكنها قوم نوح وبنفس الوقت لم يغط
التنويريون والصراعات مع المقدسات (49)
الجبال.. وبما أن المنطقة التي سكن فيها قوم نوح عبارة عن منطقة محاطة بالجبال، فقد حصل تيار مائي قوي وكان الموج كسلاسل الجبال من حيث الشكل لا من حيث البعد كما نراه الآن في طوفان الأنهار الجبلية ذات الميول الكبيرة)
وهكذا راح يتكلف في تفاصيل كثيرة، بل راح يصور أن قوم نوح عليه السلام لم يهلكوا بسبب كفرهم، وإنما بسبب عدم معرفتهم بالسباحة، فقد قال: (وبما أن كل الذين لم يركبوا في الفلك هلكوا فمن الجائز أن الإنسان في زمن نوح كان لم يتعلم السباحة بعد)
وراح يفسر قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]، والذي يستدل به العلماء عادة على وقوع العذاب في البرزخ، لكن شحرورا فسرها بغير ذلك؛ فقال ـ ليفر من عذاب البرزخ ـ (لقد جرف السيل جثث قوم نوح ورماها في فوهة البركان حيث يتبين من الآية أن فوهة البركان كانت منخفضة وعلاها الماء، ودخلت الجثث في البركان، وقد بين هذا في قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]، هنا استعمل فاء السببية والتعقيب بين الغرق وإدخال النار واستعمل النار نكرة وهنا لا يقصد فيها نار جهنم)
ومثل ذلك تكلفه في معرفة تفاصيل كثيرة عن أقوام الأنبياء من غير أي دليل، كقوله عن قوم نوح عليه السلام أنهم كانوا يعبدون الظواهر الطبيعية (1) بدليل قوله تعالى حكاية عن دعوة نوح عليه السلام لقومه: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16]
مع أن مثل هذه الآيات واردة في خطاب القرآن الكريم للبشر جميعا بما فيهم قوم
__________
(1) المرجع السابق، 2/ 16..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (50)
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفسهم، فالله تعالى يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، فهل هذه الآية الكريمة وغيرها كثير موجهة لمن يعبد الظواهر الطبيعية، أم أنها خطاب الله لعباده ليستدلوا بالصنعة على الصانع.
وعلى هذا المنهج نجد أتباع هذه المدرسة يتكلفون كل حين، ليخرجوا لنا من الاستنباطات ما لم يذكره الأولون والآخرون، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه بعضهم تحت عنوان [النبي محمد ليس من ذرية النبي إسماعيل] (1)، وهو منشور في موقع شحرور، والذي تكلف فيه صاحبه تكلفا شديدا ليثبت في الأخير أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إسحق، وليس من ذرية إسماعيل.
وقد قال في مقدمة مقاله ذلك ـ كعادة التنويريين ـ: (لدراسة هذا الموضوع وبعيداً عن تأثير اليهود في التاريخ وتحريفه لصالحهم، لابد من إعادة دراسة الموضوع من القرءان ذاته وترتيب النصوص مع بعضها وفق منطق اللسان العربي ومنطق القرءان لتتكامل الصورة، وهذه محاولة لإعادة ترتيب النصوص وفهمها من جديد حسب المحكم منها ورد المتشابه لها، مع الانتباه إلى أن حادث ضيوف إبراهيم هو واحد، والمرأة القائمة على خدمة الضيوف هي ذاتها في النصوص، والبشرى بالولد في النصين متعلقة بواحد)
ثم ذكر أن بكر إبراهيم عليه السلام هو إسحق وليس إسماعيل، وأنه هو الذي
__________
(1) النبي محمد ليس من ذرية النبي إسماعيل، سامر إسلامبولي، موقع شحرور.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (51)
أمر بذبحه، ثم علق على ذلك بقوله: (وبهذا العرض القرآني وصلنا إلى أن الولد صاحب البشرى هو إسحاق، وليس قبله أي ولد، ولا يوجد عند النبي إبراهيم غير أم إسحاق بدليل فهمها أنها المقصودة بالحمل والولادة، ولو كان يوجد غيرها لما صكت وجهها وقالت: إنها عجوز عقيم، عقب سماعها البشرى لبعلها، وبعد ذلك توجهت الملائكة بالبشرى لها)
بل إنه ذهب إلى أن إسماعيل عليه السلام ليس ابنا لإبراهيم عليه السلام، واستدل لذلك باستدلال عجيب عبر عنه بقوله: (وما يؤكد ما ذهبنا إليه من كون النبي إسماعيل ليس ابناً للنبي إبراهيم هو غياب ذكر النبي إسماعيل من قول النبي يوسف عندما ذكر آباءه: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6].. وذكره الله منفصلاً عن النبي إبراهيم وأبنائه في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]، وهذا إشارة إلى أن النبي إسماعيل من ذرية النبي نوح مثله مثل النبيين الذين ذكروا معه، أما النص الذي ذكر النبي إسماعيل كأب لأبناء يعقوب وهو {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فهو لأن النبي إسماعيل من الآباء السلف الذين مضوا بالنسبة لأبناء يعقوب وهو معاصر للنبي إبراهيم)
هذا وجه استدلاله، وقد ذكرناه بطوله لنعرف الطريقة التي يستنبط بها هؤلاء التنويريون ما يتوهمونه من حقائق، والتي يحرصون فيها على البحث عن الجديد أكثر من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (52)
حرصهم على الوصول إلى الحقيقة المجردة.
والنتيجة التي يخلص إليها في الأخير هي ما عبر عنه بقوله: (وما ذكرناه من أن النبي إسحاق هو ابن النبي إبراهيم فقط، وهو الذبيح، وهو الذي سكن عند البيت المحرم، والنبوة حصراً من ذريته أو من ذرية النبي نوح، أو من كليهما، نصل إلى أن نسب النبي محمد الخاتمي هو من ذرية النبي إسحاق لأنه هو الذي سكن عند البيت المحرم، والأنبياء في هذه المنطقة كلهم من ذريته)
وهكذا يستنبط من القرآن الكريم أن كل تلك الأحاديث عن بني إسرائيل، ليس هو ما نتوهمه أو نقرؤه في كتب التفسير والحديث والتاريخ، وإنما (الخطاب في القرآن [يا بني إسرائيل] هو خطاب لمجموعة من القبائل من سكان منطقة شبه الجزيرة العربية، وهم متداخلون مع أهل مكة وذرية النبي إبراهيم عن طريق النبي يعقوب، وبُعث النبيين فيهم على الغالب من ذرية النبي إبراهيم وبعضهم من ذرية النبي نوح مثل النبي موسى أو متداخلة مع ذرية النبي إبراهيم.. وبنو إسرائيل هم أرومة القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية ويحتضنون ذرية النبي إبراهيم، ولا علاقة لليهود بذلك قط)
هذه مجرد أمثلة عن ذلك التكلف المقيت الذي يمارسه التنويريون مع الحقائق القرآنية من غير أن تكون لهم أثارة من علم، ولا سلطان من حجة، اللهم إلا تلك الأوهام التي يخادعون بها العقول التي تأثرت بهم، وتصورت أنها بلجوئهم إليها قد نجت من التطرف، وغفلت عن أنها خرجت من تطرف يلبس عباءة القدماء إلى تطرف يلبس عباءة المحدثين والحداثيين، وكلاهما انحراف.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (53)
التنويريون.. وتحريف الكلم عن مواضعه
من السلوكات التي ذكرها القرآن الكريم عن أهل الكتاب كنتيجة لنقض الميثاق، وقسوة القلب [تحريف الكلم عن مواضعه]، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]
فتحريف الكلم عن مواضعه ـ بحسب الآية الكريمة ـ تبرير لنقض الميثاق، ذلك أن أي إنسان يمارس الخطيئة، ويستحليها، ويدمن عليها، لا يكتفي بها، بل يحاول أن يبررها، ويعطيها من الشرعية ما يحول منها طاعة وقربة، وما يكتسب منها جاها وسمعة، ويكون تبريره لها أخطر من المعصية نفسها، ذلك أن التبرير استحلال للمعصية، ومحادة لله، وتأل عليه.
وهو أيضا يعبر عن قسوة القلب، ذلك أنه لا يحاد الله إلا من قسى قلبه، وطبع بالران والختم والأقفال التي تحول بينه وبين الاستبصار والهداية.. والقلب القاسي هو ذلك الذي يقدم هواه على ربه، ويقدم فكره على كلماته المقدسة، ويجعل من شريعة الله مطية لتلبية نداء أهوائه وشهواته.
ولذلك أخبر الله تعالى عن الظلم العظيم الذي يقع فيه من يضع الشرائع من هواه المجرد؛ فيجعل من نفسه إلها من دون الله، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18، 19]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (54)
وهاتان الآيتان الكريمتان لا تصدقان على أحد في هذا العصر كما تصدق على أولئك التنويريين الجدد الذين جعل كل واحد منهم لنفسه مشروعا كاملا على أساسه يحلل ويحرم، بل يضع العقائد والقوانين التي تحكم الكون.. بل يتألى على الله فوق ذلك؛ فيفرض عليه أن يدخل من يهواه الجنة، ومن يبغضه النار.
وهم يستعملون نفس ما استعمله أهل الكتاب من قبلنا من تبديل الكلم عن مواضعه؛ فيحولون الكلمات عن معانيها الواضحة البسيطة اليسيرة إلى معان أخرى لا علاقة لها بها، وعندما يخرب بنيان الكلمات يخرب معها بنيان المعاني.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها، ولكنا نذكر اختصارا بأن أكثر المناهج التي استفادها التنويريون من الغرب، واستعملوها مع القرآن الكريم، باعتباره عندهم مجرد منتوج ثقافي بشري يسري عليه ما يسري على جميع النصوص البشرية، تحريف للكلم عن مواضعه.. ذلك أن النتيجة التي يخلصون إليها هي تفريغه من محتواه، وتحويله إلى مجرد كلمات يتعبد بها من غير أن يكون لها أي حقيقة خارجية واقعية.
وقد ذكرنا في مقالات كثيرة في هذا الكتاب وغيره أمثلة كثيرة عن ذلك التحريف الواضح للألفاظ القرآنية، وإخراجها عن مقاصدها الواضحة، وسنذكر هنا أمثلة أخرى، باختصار، لنتبين كيفية التحريف وآثاره ودوافعه.
فمن ذلك ما نرى التنويريين يكادون يتفقون عليه من تحريف لكلمة [الحور العين]، والتي ذكرها القرآن الكريم كنموذج من نماذج النعيم المقيم الذي وفره الله لعباده في الجنة، ليكون دافعا لهم للعفة والعمل الصالح في الدنيا..
وكان في إمكان التنويريين أن يسلموا لله فيما ذكر، فهو أدرى بعباده، وبرغباتهم، ولذلك خاطبهم بما يتناسب معهم.. لكنهم لقسوة قلوبهم، ولتمردهم على الله،
التنويريون والصراعات مع المقدسات (55)
وتقديمهم لأهوائهم عليه لم يفعلوا.. بل راحوا يصورون ذلك باعتباره هوسا جنسيا، والعياذ بالله، مع أن القرآن الكريم لم يذكر أي شيء يرتبط بذلك، بل اكتفى باعتباره من نعيم الجنة مثله مثل الولدان المخلدون والقصور التي تجري تحتها الأنهار.
وكان في إمكانهم أن يتركوا كيفية التعامل مع ذلك النعيم لله تعالى، لأن الحقائق القرآنية لم تذكر التفاصيل المرتبطة بذلك، وإنما اكتفت بالنماذج التي تملأ النفس بالرغبة، كما اكتفت من ذكر بعض مشاهد النار التي تملأ النفس بالرهبة، ومن خلال هذين الجناحين يهذب المؤمن نفسه، ويرقي روحه، ويصلح سلوكه.
لكن التنويريين ساءهم أن يذكر الله تعالى ذلك، بل تمنوا لو حذفت أمثال هذه النصوص من القرآن الكريم، لكونها في تصورهم تشويه له، ولست أدري ما محل التشويه، وهم أنفسهم يركعون أمام كل غانية، بل يبيعون دينهم ودنياهم من أجل متاع بسيط من الدنيا، في نفس الوقت الذي يحتقرون فيه ذلك النعيم المقيم الذي وعد الله به عباده المؤمنين.
وكل ذلك دليل على قساوة قلوبهم، وإلا فإن القلوب المؤمنة قلوب ورعة تعظم ما عظم الله، وتحقر ما حقر.. فلذلك لا ترى الدنيا بمتاعها جميعا مساويا للحظة الواحدة من لحظات النعيم المقيم الذي أعده الله لعباده الصالحين.
وقد كان أحسن التنويريين تعبيرا من تحدث عن الحور العين بهذا الطرح الذي عبر عنه بقوله: (و [الحور العين] كفكرة مثالية جميلة، ترتبط فى أحد جوانبها بـ (العفة) خصوصا فى المجتمعات الفقيرة وشقيقتها المغلقة، حين يكون الزواج أمرا شاقا مع ارتفاع تكاليف الحياة فليس هناك حصن للراغب فيه إلا التعفف والانتظار، وإن لم يفز بها فإنه سيجد تعويضا مناسبا كلما تذكره حفزه على عدم التورط فى أمور أخرى يرفضها
التنويريون والصراعات مع المقدسات (56)
الدين والمجتمع، أو تفرض الثقافة المجتمعية على الراغبين فى الزواج الالتزام بمسار معين للارتباط يقلل من خيارات الشاب فما عليه إلا أن يرضى بما يفرضه عليه العرف حتى وإن كان ظالما، فالصبر أفضل طالما أن جائزته تنتظره فى الجنة)
ومنهم من راح يتهكم بهم، ويصور الصور الكاريكاتورية عنهم، لا لشيء، إلا لأن الإرهابيين والمتطرفين جعلوا من الحور العين وسيلة لاصطياد المغفلين، وكان في إمكانهم مواجهة التطرف والعنف، لا الرد على الحقائق الثابتة، لأن ردها رد على الله نفسه.
ومنهم من راح يتساءل عن سر وجود حور عين للرجال، وعدم وجود حور عين للنساء، ورأى أن ذلك تفريقا بين الذكر والأنثى، وأن النعيم في الجنة خاص بالذكور لا بالإناث.
وهذا كله تحريف للكلم عن مواضعه؛ فالقرآن الكريم ذكر نماذج عن النعيم، ولم يذكر كل النعيم، واكتفى بالمتعارف منه، وأعطى فوق ذلك قاعدة تشمل الجميع، عبر عنها قوله تعالى في خطاب لعباده المؤمنين الذين نجحوا في امتحانات الدنيا: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 70، 71]
فقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} كاف لترك الخيال يسرح حيث يشاء، ليخترع من النعيم ما يشاء؛ فقدرة الله لا تحدها الحدود.
وفوق ذلك؛ فكل النعيم المذكور في الجنة مما يتعلق بالجنسين، الذكر والأنثى، وقصر الحور العين على الرجال، لاعتبارات خاصة، لا يعني تفضيل الرجال على النساء، ولا يعني أنه لا يوجد نعيم خاص بالنساء في الجنة، لأن الآيات الكريمة لم تفصل لنا كل
التنويريون والصراعات مع المقدسات (57)
النعيم، وإنما اكتفت بنماذج عنه.
ولعل من علل ذكر القرآن الكريم للحور العين خصوصا، هو توفير القابلية للرجال لمواجهة الفتن الكثيرة التي تفرزها علاقتهم بالنساء، وهي فتن واقعية لا شك فيها، وليست مرتبطة كما يذكر البعض بالبيئة البدوية، بل هي مرتبطة بكل الجغرافيا وكل التاريخ، ونحن لا نزال نسمع كل حين، بأن فلانا من الناس من ذوي المناصب الراقية اتهم بالتحرش، أو بفضيحة جنسية..
ولذلك لا داعي لأن نكذب على أنفسنا، وتعتبر الفتنة بالنساء خاصة بالعرب أو بالبدو أو بذلك الجيل الذي نزل القرآن الكريم في عهده، ففي كل الأجيال نجد فتنة التأثر بالنساء، وفي كل الأجيال نجد قيسا وليلى.. ونجد روميو وجوليت..
فلذلك كان الخطاب القرآني المرتبط بالحور العين خطابا واقعيا يخاطب النفس بما أعد الله لها من نعيم مرتبط بهذا الجانب لتستعلي على فتنة النساء في الدنيا، لأن الله سيعوضها بدلها بالنعيم المقيم في الآخرة، والذي يكون من جملته [الحور العين]، والتي وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) (1)
ومع وضوح الأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة على كون الحور العين من نساء الجنة، إلا أن التنويريين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه راحوا يفسرونها تفاسير مختلفة.
لعل أطرفها بحث مطول زعم فيه صاحبه أن الحور العين ليسوا نساء، وإنما هن
__________
(1) رواه البخاري.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (58)
فاكهة، ثم راح يستعرض كل الآيات القرآنية المرتبطة بهن، وبنعيم الجنة، ليحول منهن فاكهة رغم كل شيء (1).
وقد ذكر في مقدمة مقاله المواضع التي وردت فيها لفظة الحور بمشتقاتها، ثم راح يتصرف فيها، ويتلاعب بها بطرق مختلفة من ذلك قوله: (يجب أن نتأمل آية مهمة من القرآن تعطينا معنى جيد وحقيقي وهي قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14]، فالمعنى هنا يقول إن المجرم الذي استلم كتابه خلف ظهره ظن أن العذاب لن يعود عليه ويرجع، اذاً فتطبيق هذا المعنى على حور عين يدلنا على أن هذه النعم من فاكهة ستعود دوما، من حور يعود بشكل عين لاتنضب، ويتفق هذا المعنى بالتالي بالآية التالية، وهى أن أهل الجنة كلما قطفوا من فاكهة الجنة أعيدت لهم على الفور إنشاءها بشكل متماثل رزقا لاينقطع، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، فهذه الثمرات كما في معنى ستحور، وتعود وترجع كلما أخذها أهل الجنة، واذا تابعنا بهذا المعنى نرى اتصال باقي الآيات بهذا السياق من كونها أي النعم من فاكهة ونعم وخيرات مختلفة، الخيرات الحسان وهذه لهم لاتنقطع عندما يدخل المتقون الجنة من الجنسين (الذكر والانثى) يزوجون بها بمعنى الاقتران والتلازم، لذلك فهي للذكور والاناث معا بلا تفرقة)
وبمثل هذه الطريقة راح يستعرض ما ورد في شأنهن في سورة الرحمن، ثم يعقب على ذلك بقوله: (فاذا نظرنا الى كلمة فِيهِنَّ في آية {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} نجد أن هذا جمع مؤنث في حرف النون يدل ضمن شيء من أشياء التأنيث، جنتان، عينان، مدهامتان، فيهما.. وهذا بالتالي لايعود على التأنيث، بل يعود على فاكهة الجنة من رمان
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: الحور العين، محمد البارودى، موقع أهل القرآن، 30 اكتوبر 2009.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (59)
وخلافه، أي أن في كلتا الجنتين على حدة كثير من الفاكهة القاصرات الطرف التي يسهل الوصول اليها.. وفي السياق نفسه بالاتصال مع آية اخرى، فهذه الحور مقصورة داخل خيمتها التي تحفظها كما تحفظ كل فاكهة قشرتها وتبدو أيضا هذه الثمار (حسب آية اخرى) من أكمامها كاللؤللؤ المكنون)
وهكذا راح يحول من كل أوصاف الحور في العين القرآن الكريم إلى أوصاف للفاكهة، ويستعمل في ذلك كل ألوان الحيل والخدع التي مارسها أهل الكتاب من قبلنا ليحرفوا الكلم عن مواضعه.
أما آخر، فقد راح يستعمل حيلا أخرى، ليحول من الحور العين إلى ما عبر عنه بقوله: (وحار تعنى رجع أو عاد إلى ربه فى الآخرة.. وعلى ذلك فالحور هن المؤمنات العائدات.. وهؤلاء المؤمنات قد تحوَّرت أشكالهن أيضا، فعدن فى شكل شابات جميلات كواعب ذوات عيون ساحرة فقد أعاد الله إنشائهن إنشاءً.. وعِينٌ تعني: نُجْلُ العُيُونِ حِسَانُهَا، والمفرد للرجل: أعْيَنُ، وللمرأة: عَيْنَاءُ.. فسوف يتزوج المؤمنون فى الجنة بهؤلاء المؤمنات الراجعات أو العائدات إلى الله، وبالطبع سيعود الرجال إلى شبابهم مثل النساء، لأن لهم ما اشتهت أنفسهم، وهل لن يشتهي أحد أن يعود إلى شبابه وعُنفوانه؟.. وهذا هو نصيب النساء فسيتمتعن بأزواجهن كما سيتمتع بهن أزواجهن) (1)
وهكذا نجد كل يوم من يجتهد، ليبحث عن معنى جديد للحور العين مما لم يفطن له أحد من المفسرين ولا اللغويين القدامى والمحدثين.
وليت الأمر اقتصر على الحور العين، إذن لهان، بل إننا نجد كل يوم تفسيرات
__________
(1) الحور العين، عز الدين نجيب، موقع أهل القرآن، 11 نوفمبر 2011.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (60)
جديدة ممتلئة بالغربة لكل القطعيات والبديهيات، ومن أمثلة ذلك ما فسر به شحرور المصطلحات القرآنية (1)، والتي اهتم بها اهتماما بالغا كسائر التنويريين لأنه لا يمكن تزييف الحقائق من غير أن تبدل المصطلحات الدالة عليها.
فقد فسر مصطلح [القرآن] بقوله: (القرآن: يمثّل القرآن نبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لهذا ذُكر مع كلّ من التوراة والإنجيل، ويمثّل مجموع الآيات المتشابهات (آيات النبوّة وتفصيلها) التي تتحدّث عن القوانين الكونية التي تتحكّم في الكون بما فيه من نجوم وكواكب وزلازل ورياح ومياه في الينابيع والأنهار والبحار.. وعن قوانين التاريخ والمجتمعات التي تحكم نشوء الأمم وهلاكها، وعن غيب الماضي من خلق الكون وخلق الإنسان وأنباء الأمم البائدة (القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي)، وعن غيب المستقبل كقيام الساعة والنفخ في الصور والحساب والجنّة والنار. والقرآن جاء من فعل قرن لأنّه قرن القانون العام للوجود مع القانون الخاصّ له مع خط تطوّر سير التاريخ الإنساني، وهو بذلك قرن بين معلومات اللوح المحفوظ، ومعلومات الإمام المبين، ويُعدّ الجزء الأكبر من الكتاب ولا يوجد فيه تشريع إطلاقاً)
وفسر [اللوح المحفوظ] بقوله: (بما أنّ القرآن المجيد هو القوانين الصارمة الناظمة للوجود، فإنّ اللوح المحفوظ هو بمثابة برنامج هذه القوانين.. وهذا البرنامج بقوانينه الصارمة التي تسيّر الوجود هو برنامج ثابت ولا يتغير، لا هو ولا قوانينه، وبالتالي لا ينفع فيه الدعاء لأنّه لا يتغيّر من أجل أحد مهما كان)
وفسر [الكتاب المبين] بقوله: (هو مجموع آيات القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي، أي هو مجموع الآيات التي تتطرّق إلى أنباء غيب الماضي وإلى أخبار القصص
__________
(1) انظر: دليل المصطلحات الواردة في التنزيل الحكيم، محمد شحرور، موقعه الرسمي.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (61)
المحمّدي، لأن آيات القصص المحمّدي بما فيها من آيات القتال كانت أخباراً بالنسبة لمن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنّها تحوّلت إلى أنباء عن الماضي لمن بعدهم من العصور)
وفسر [الإمام المبين] بقوله: (هو أرشيف الإنسانية من يوم خلقها الله عزّ وجلّ إلى يوم الدين، أي أرشيف الأحداث التاريخية الإنسانية الفردية والجماعية إلى قيام الساعة، ومنه جاء الكتاب المبين (القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي). تمت فيه أرشفة الأحداث الإنسانية بعد حدوثها وتحوّلها إلى واقع)
وفسر [مواقع النجوم] بقوله: (هي الفواصل الموجودة بين آيات الكتاب، سواء جاز الوقف عندها أو لم يجز، وليست مواقع النجوم التي في السماء، هي من مفاتيح فهم الكتاب كله خصوصاً بالنسبة للقرآن في عملية تأويله، لأن مواقع النجوم في الكتاب تجعل كلّ آية من آيات الكتاب تحمل فكرة متكاملة: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة 75 - 77)
وفسر [الإسلام] بقوله: (هو الإيمان تسليماً بوجود الله وباليوم الآخر وأداء العمل الصالح.. فالإيمان بالله هو التسليم بوحدانيته والتصديق بنبوّات الأنبياء ورسالات الرسل كل في زمانه، فكلّ هؤلاء يؤمنون بالله واليوم الآخر، وقد سمّاهم التنزيل الحكيم المسلمين على اختلاف مللهم. ولهذا فإنّ شهادة أنْ لا إله إلا الله هي تذكرة الدخول إلى دين الإسلام مهما كانت ملّة الإنسان. والإسلام يُبنى على العمل الصالح بعد الإيمان تسليماً بوجود الله وباليوم الآخر، وقد جعل الله الإيمان به مسلّمة لا يمكن البرهان عليها علمياً أو دحضها علمياً، لذا فهي خيار وقناعة يتساوى فيهما أينشتاين وبائع الطعمية، وفيها تظهر عدالة ربّ العالمين، إذ يجب على المسلم أن يكون عنده ذرة شكّ في وجود الله، والملحد عنده ذرة شكّ في الإلحاد، وهذا الشكّ هو الدافع
التنويريون والصراعات مع المقدسات (62)
الأساسي وراء تقدّم المعارف الإنسانية قاطبة، ومبدأ الشك هذا وضعه إبراهيم عليه السلام. أمّا العمل الصالح فيرتكز على القيم الإنسانية وعلى رأسها الوصايا العشر (الفرقان) المذكورة في سورة الأنعام التي خضعت للتراكم بين الرسالات. كما يُبنى الإسلام على التشريع الذي خضع للتطوّر وانتهى بالتشريع الحنيفي المتغيّر (الحدودي)، وعلى الشعائر التي خضعت للاختلاف)
وهكذا نجده يضع قواميس جديدة للمصطلحات القرآنية، وتطبيقها لا يعني إلا شيئا واحدا، وهو هدم الإسلام من أساسه، ولو أنا اكتفينا من تبديله للكلم عن مواضعه بما ذكره عن كلمة [الإسلام] لكفى ذلك في هدم الإسلام.
فالإسلام عنده مجرد الإيمان بالله والعمل الصالح.. والعمل الصالح مرن جدا، يمكن للمجتمع أن يحدده، ويمكن للزمن أن يغيره.. وهكذا الإيمان بالله.. حيث يتساوى عنده الملحد مع المؤمن، بل إنه ـ ومن خلال أحاديثه عن الملاحدة وإشادته بهم ـ نجده يفضلهم على المؤمنين.
وقد قال في تأبينه لهوكينغ: (لا يسعني إلا أن أعزي الإنسانية بفقيدها، وكلي ثقة أن الله سيتباهى أمام خلقه بستيفن هوكينغ، كما يتباهى (ولله المثل الأعلى) الأب بإنجازات ابنه، حتى لو افترضنا أن هذا الابن لم يعترف بأبيه)
وبذلك فإنه لا وجود عنده لمجموعة من الناس تحمل اسم الإسلام.. فالإسلام عنده هو دين البشرية جميعا، ولذلك لا معنى لدعوة الملاحدة أو المسيحيين أو اليهود أو البوذيين أو غيرهم من أهل الأديان للإسلام.. لأنهم مسلمون أصلا.
وهكذا حول من معنى الصلاة الذي يراد به تلك الشعيرة المعروفة التي وردت تفاصيلها في كتب الحديث والسنة إلى مجرد دعاء، من قام به في أي لحظة من حياته، وقي
التنويريون والصراعات مع المقدسات (63)
ذلك العذاب الشديد الذي خصصه الله بتاركي الصلاة.
أما تلك الشعيرة، فهي خاصة عنده فقط بالمؤمنين، لا المسلمين، وهي اختيار شخصي، من شاء منهم فعله، ومن لم يشأ لم يفعله.
وهكذا راح لكل الشرائع والشعائر يحرفها عن مواضعها، ويستعمل تلك الخدع التي يسميها المغفلون مشاريع فكرية، وهم لا يعلمون أنها مشاريع شيطانية، لا تختلف عن تلك المشاريع التي استعملها أهل الكتاب مع كتابهم حين كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (64)
من المهارات العجيبة التي يتقنها الكثير من التنويريين الجدد ذلك التلاعب بالحروف والكلمات والجمل، حتى يهيأ لك أنك لم تعرف في يوم من الأيام لغتك العربية الجميلة الواضحة، وأنك لم تقرأ في يوم من الأيام كتاب ربك، ولا فهمته، ولا تدبرته، مع كونه ـ كما يصف الله تعالى ـ {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]
بل يحيلونه في عينيك كتابا من كتب الطلاسم، الممتلئ بالحروف العجيبة، واللغة الغريبة، والجمل التي لا يمكن فك أسرارها ورموزها.. وكأن الله تعالى عندما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، والتي كررت أربع مرات في سورة القمر، لم يكن يقصد التيسير، بل كان يقصد عكسه.
فمن أمثلة ذلك ما قرأته عن بعضهم أن مكة المكرمة ليست هي مكة التي نعرفها.. بل هي مكة أخرى.. والدليل على ذلك أن الميم تفيد كذا وكذا.. والكاف تفيد كذا وكذا.. وهكذا يركب من خلال تلك الحروف جملة عجيبة تجعل من مكة المكرمة بلدة في الشام، أو في إفريقية، أو في أي مكان آخر إلا المكان الذي توجد فيه.. ويصبح حينها كل الحجاج على مدار التاريخ ـ والذين قصدوها بقلوبهم وأجسادهم، وتحملوا كل ألوان العناء في سبيل ذلك ـ مجرد مضللين ومخدوعين وتائهين.. لأنهم لم يعيشوا للزمن الذي تعرف فيه مكة الحقيقية.
ويذهب آخر إلى اسم الله العظيم [الرحمن]، فيربطه بالآرامية أو السريانية أو العبرية ليحوله إلى معنى جديد لم يسمع به لا الخلف، ولا السلف، حتى يهيأ لك أنه لولا ذلك المفسر العجيب، لبقي هذا الاسم العظيم مجهولا إلى يوم الدين.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (65)
وهكذا يذهب آخر إلى لفظة [كتاب].. فتتحول إلى كل شيء ما عدا الكتاب.. وآخر يذهب إلى كلمة البقرة.. فتتحول من الحيوان المعروف الذي نشرب لبنه، ونأكل لحمه إلى كائن آخر.. مختلف تماما.
والمشكلة ليست في الكلمات، بل في المعاني حيث يتحول المعنى القرآني الواضح الدقيق إلى معنى ممتلئ بالغرابة، ليصبح بعدها مطية لكل دجل وخرافة وأسطورة.
حتى صار الذي يريد أن يؤيد نظرية التطور يذهب إلى قوله تعالى: {سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، فيحولها إلى [سلالة من قردة]، ويحول الطين إلى ما يسميه علماء التطور بـ[الحساء البدائي]، ويفرق بين البشر والإنسان.. ليجعل من القرآن الكريم مطية لقبول تلك النظرية البائسة، والخرافات المرتبطة بها.
وهكذا نجد التلاعب بالقيم القرآنية، وحقائقها المقدسة الواضحة، حيث تتحول إلى معان أخرى، مختلفة تماما.. وكل ذلك من خلال التلاعب بالحروف والكلمات والتراكيب، مستثمرين قوة العربية، وسعتها، ومستثمرين تلك المناهج التي تجعل من النصوص المقدسة نصوصا مطاطة يمكن لأي شخص أن يتلاعب بها، ويحرفها إلى الجهة التي يريد.
ولعل القرآن الكريم أشار إلى هذا المعنى عن اليهود، وما كانوا يفعلونه من تلاعب بالألفاظ، حين قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]
وللأسف، فقد صار القرآن الكريم عند هؤلاء لا نورا للهداية، ولا دستورا للصراط المستقيم، ولا كلمات الله المقدسة التي أنزلها لعباده لينقذهم من نفوسهم وأهوائهم والشياطين التي تتربص بهم، بل أصبح وسيلة للتضليل والتمويه والتلاعب.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (67)
تشكل النبوة ـ بالمفهوم القرآني ـ النقطة المركزية التي ينطلق منها المؤمن للتعرف على حقائق الوجود، والتعرف على القيم السلوكية التي يتحقق السالك لها بمرضاة الله ومحبته وتقريبه.
ولذلك لا نكاد نجد سورة من القرآن الكريم إلا وتمتلئ بذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، باعتبارهم تجسيدا للحقيقة، والقيم النبيلة، بالإضافة إلى كونهم تأريخا حقيقيا لأهداف وجود الإنسان على هذه الأرض، وتاريخ الصراع بين الحق والباطل، والشيطان والإنسان.
لكن ذلك الشكل الجميل الذي عُرضت به النبوة في القرآن الكريم، والذي يملأ أقطار النفس بالإعجاب والتبجيل والتعظيم تعرض للكثير من التشويه، سواء من أولئك القدامى الذين سلموا قرآنهم لأهل الكتاب ليفسروه لهم؛ فحولوا الحقائق القرآنية إلى أساطير الأولين، أو أولئك الذين سلموا القرآن لأهواء المحدثين والمعاصرين، فحولوه إلى خرافات وأساطير لا تقل عن خرافات الأولين وأساطيرهم.
وقد كانت أول حملة التنويريين على ما ورد في القرآن الكريم من أحاديث الأنبياء وقصصهم ذلك الإنكار لها باعتبارها مجرد أمثلة سيقت للعبرة، وليس لها أي حظ من الوجود الواقعي، كما فعل ذلك محمد أحمد خلف الله، في بحثه المعنون بـ[الفن القصصي في القرآن الكريم]، والذي تقدم به لنيل الدكتوراه عام 1947 م.
والذي استعمل في الاحتيال لبث هذه الشبهة نفس ما يستعمله التنويريون من التكلف والفضول والتألي على الله، فقد قال في مقدمة كتابه: (إن التاريخ ليس من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (68)
مقاصد القرآن، والتمسك به خطر أي خطر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القرآن. بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة، وإن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع وليست من مقاصد القرآن في شيء ومن هنا أهمل القرآن مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث) (1)
وقال: (فطن العقل الإسلامي إلى أن هذه الأشياء لا تفهم على أنها الحق التاريخي والواقع العلمي إلا بضروب من التأويل، ولو أن العقل الإسلامي أقام فهمه للقصص القرآني منذ اللحظة الأولى على المذهب الأدبي لما احتاج إلى هذه التأويلات) (2)
وكل هذا تكلف ممقوت، وثقة زائدة بالآثار والتاريخ، وكأن الآثار سجلت كل أحداث التاريخ، ولم تغفل منها شيئا، وهو ما لم يقل به أحد من المؤرخين السابقين ولا اللاحقين.
بل إن المؤرخين أنفسهم يعتمدن في التاريخ على الكثير من الوثائق الأدبية ككتابات كونفوشيوس، وإلياذة هوميروس، والشعر الجاهلي، باعتبارها جميعا مصادر يمكن التعرف من خلالها على الواقع التاريخي.
بالإضافة إلى أن القرآن الكريم، يذكر كل تلك الأحداث باعتبارها واقعا تاريخيا، وأن الله تعالى هو الذي أخبر رسوله عنها، ولذلك نجد فيه أمثال قوله تعالى بعد ذكره لقصة موسى عليه السلام: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا
__________
(1) الفن القصصي في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خلف الله، ص 42.
(2) المصدر السابق، ص 44..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (69)
وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 44 - 46]
ومثله قوله عن قصة مريم عليها السلام: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]
أو قوله تعقيبا على ما حصل لقوم لوط عليه السلام: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 136 - 138]
ولا يعقل أن يكون كل ذلك مجرد أمثال فنية لا علاقة لها بالواقع، ولا بالتاريخ، والمشكلة التي جعلت التنويريين يقعون في هذا التكلف هو تصورهم أن العلم البشري قد أحاط بكل شيء، وأنه ما دام لم تسجل أسماء عاد وثمود، أو ما ذكره القرآن الكريم من أسماء وحقائق، فإن ذلك يعني عدم وجودها، وهو وهم كبير، فما نجهله من التاريخ أكبر بكثير مما نعلمه.. وحتى ما نعلمه منه؛ فإن الكثير منه مبني على الظنون أكثر من كونه مبنيا على الحقائق، والمؤرخون أنفسهم يذكرون هذا، ويقررونه، ولا يزعمون لأنفسهم أنهم يحيطون بالحقائق من جميع جهاتها.
هذا ما ذكره التنويريون القدامى، والذين تأثروا بالمستشرقين في الاعتماد على التشكيك في كل شيء، حتى في الحقائق الواضحة، أما التنويريون المحدثون؛ فقد راحوا يستعملونه ما تلقنوه من مناهج غربية بغية الالتفاف على النبوة، وتفريغها من مضمونها مثلما فعلوا مع سائر أحكام الدين وقيمه وعقائده.
ومن الأمثلة على ذلك ما قام به شحرور من عبث فكري حول الحقائق القرآنية
التنويريون والصراعات مع المقدسات (70)
الواضحة التي وردت في القرآن الكريم، والتي حولها عن مسارها تماما، معتمدا في الكثير من ذلك على نظرية التطور التي تصور أنها وحدها يمكن أن تفسر تاريخ الأنبياء، ولذلك أخرج لنا نظريات جديدة غاية في الغرابة.
ولا يمكننا في هذا المقال المختصر أن نناقش كل ما ذكره من تفاصيل، ولذلك نكتفي ببعض النماذج، ومن خلالها يتبين لنا منهجه، ومنهج الرد عليه.
وأول تلك النماذج، والذي انطلق فيه من إيمانه العميق بنظرية التطور هو تصويره لتدرج النبوة في مراحل مختلفة بحسب المراحل التي مر بها الإنسان في سلم التطور.. ولذلك ذكر أن الأنبياء الأوائل الذين أرسلوا للبشرية لم يكونوا من البشرـ باعتبار البشر لم يتطوروا بعد ـ وإنما هم من الملائكة، ولذلك فإن أول نبي عنده هو نوح عليه السلام، وأنه لعدم كفايته لأداء هذا الدور كان معه ملائكه، يقومون هم أيضا بالدعوة.
فقد قال تعليقا على قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]: (هذا الهدى جاء بداية على شكل نذر من الملائكة كان الله يبعثهم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقد استمرت النذر مع نوح {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24]، ومع هود {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الأحقاف: 21]، وإلى إبراهيم وإلى لوط وإلى صالح؟، وكانت النذر تأتي على شكل مشخص يعرفون أنها ليست منهم، وإنما هي مرسلة من السماء، ونحن نرى في الأطروحة القديمة أن الحكام جاءوا من السماء، وأنهم من دم آخر رواية أسطورية، لمفهوم النذر الواردة في التنزيل الحكيم) (1)
__________
(1) شحرور، القصص القرآني، دار الساقي، بيروت، ط 1، 2012 م، ج 2/ ص 11.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (71)
ثم يوهم القارئ أنه يعتمد في ذلك على الحقائق والوثائق؛ فيقول: (الطوفان قضى على الجميع، وبعد الطوفان نزل الحكم الملكي من السماء من جديد، وأصبحت مدينة كيش مقر حكم الملوك، وقبل الطوفان كان الحكم الملكي قد هبط من السماء لأول مرة في مدينة أريدو.. ونؤكد هنا أيضاً أنه قبل نوح كانت النذر من الملائكة فقط، وقد تم التعبير عنه بأن الحكم هبط من السماء، ثم صار مشتركاً بشراً وملائكة (نوح حتى إبراهيم)، ثم بشر فقط وهو الرسول محمد) (1)
وهو يتكلم بثقة عجيبة ناسيا أن القرآن الكريم الذي يتصور أنه يعتمد عليه لإثبات هذه الحقائق هو نفسه الذي انتقدها وردها، وبين وجوه ردها، فالله تعالى ذكر في مواضع منه أن كل الرسل الذين أرسلوا للبشرية كانوا من جنسها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]
بل إن الله تعالى رد على المشركين الذين طالبوا بنزول الرسول الملك بدل الرسول البشر، بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8، 9]، واعتبر قولهم ذلك نوعا من السخرية؛ فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10]
وسبب هذا الموقف هو نظرية التطور التي يؤمن بها، وجعلته يتوهم أن البشر
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 51..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (72)
كانوا من الضعف بحيث لم تكن لهم القدرة على استقبال النبوة البشرية، ولذلك تدرج الله معهم.
وهكذا ينطلق من هذه النظرية ليفسر النبوة، والتي يعتبرها مرحلة ترتبط بالضعف والقصور البشري، وأن البشر في تلك المراحل كانوا ـ مثل الطفل الصغير ـ يحتاجون إلى رعاية خارجية؛ فلما كبروا استغنوا عنها، ولهذا يفسر ختم النبوة، بكون البشر أصبح لهم من الرقي العقلي ما يغنيهم عن النبوة، وبالتالي يمكنهم التخلي عن النبوة الخاتمة نفسها، بتلك الأفكار التي يمكنهم أن يصلوا إليها.
بل إنه ينطلق من هذه النظرية ليفسر الأدوار التي كلف الأنبياء عليهم السلام بالقيام بها، وهي أدوار تخالف تماما ما ورد في القرآن الكريم من شأنها.
فهو عند ذكره لوظيفة نوح عليه السلام مع قومه، يعبر عنها بقوله: (لقد كان نوح أول رسول ونبي من البشر في منطقة الشرق الأوسط كما يعتقد العالم القديم، وقومه هم بداية الإنسان الحديث في هذه المنطقة حيث كان هناك مجموعة من الناس لها علاقات اجتماعية بدائية، ولها لغة مجردة بحيث تسمح لنوع من الوحي المجرد، وكان الوضع الإنتاجي في هذه الحقبة التاريخية بدائيا جدا، لذا فقد كان الشرك الأساسي الذي وقع فيه الإنسان آنذاك هو عبادة مظاهر الطبيعة وخاصة الشمس والقمر، وقد ذكر هذا في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16]، وبالتالي فقد اقتصرت رسالة نوح على التوحيد والاستغفار فقط دون أن يكون هناك أي وصايا أخلاقية أو شعائر تعبدية، فعند نوح لا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا أي شكل من أشكال العبادات التي نعرفها) (1)
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 17..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (73)
ولست أدري كيف استنتج كل هذا، مع أن القرآن الكريم اعتبر من أسباب ما وقع لقوم نوح من العقوبة هو خطاياهم، وهي معنى ينتظم الخطايا العقدية والخطايا السلوكية، فقد قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]
بل إن شحرورا يوغل في التطرف حين يزعم أن القتل نفسه، لم يكن في ذلك الحين جريمة، بل كان شيئا عاديا، لم تأت الشرائع لتحريمه، لأن أول تحريم له ـ حسب تصوره ـ كان مرتبطا ببني إسرائيل، فقد قال في معرض ذكره للعبر والعظات المستنبطة من من قصة نوح عليه السلام في القرآن الكريم: (عدم وجود تشريعات من أي نوع، لأن مفهوم التشريع لم يوجد بعد، والمجتمعات ما زالت بدائية لا تجارة فيها ولا بيع ولا شراء، وجريمة القتل الأولى التي حصلت مع ابني آدم لم يشرع تحريمها إلهيا إلا على بني إسرائيل) (1)
وهكذا، فإن الوظيفة الأساسية التي كلف بها نوح عليه السلام ـ على حسب رؤية شحرور ـ هي الترقية الحضارية المادية لقومه، ولذلك كان من بنود الأساسية لرسالة نوح عنده هي [التبشير بالبنيان والاستقرار]، والتي استدل لها بقوله: (لقد عاش الإنسان في عهد نوح في الكهوف حيث كانت المنطقة تحيط بها الجبال، وفيها أنهار؛ فيعتقد أنهم كانوا يعيشون في الكهوف وفي الغابات المحيطة بالأنهار، لذا فقد كانوا يعبدون مظاهر الطبيعة، حيث أن تمييز الآلهة لم يوجد عندهم بعد؛ فكانت من نبوة نوح التبشير بالبنيان والاستقرار، وهذا التبشير في نبوته ورد في قوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12].. من هنا نلاحظ كيف
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 17..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (74)
بشر نوح الناس بالاستقرار من البناء وهذا الاستقرار فعلا كان حاصلا حتى زمن هود)
وهو ـ كعادته في الإغراب ـ لا يفهم من لفظة [البنين] ما تعودنا أن نفهمه منها، وإنما يرى أنها مشتقة من (فعل [بنن]، وتعني الثبات واللزوم والإقامة، وهذه هي طبيعة الأبنية والبنيان)
لكنه عندما يواجه بقوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28]، والذي ورد فيه لفظ [البيت] ومعناه واضح جلي، يذهب إلى تأويله بكونه ليس المراد منه البيت الذي نعرفه، والمشكل من البنيان المعروف، وإنما هو (اسم جنس، ولها أصل واحد وتعني المأوى والمآب وجمع الشمل. فليس من الضروري أن يكون البيت بنيانا إذ يمكن أن يكون كهفا)
وهكذا في تأويله للفظة الأموال، فهو يفسرها بقوله: (فهنا المال لا يعني النقد، بل جاء من فعل [مول] وتعني هنا أدوات الإنتاج البدائية، وما يمكن أن يصطاده الإنسان ويجنيه من الطبيعة، وفي القاموس خرج إلى ماله: أي خرج إلى ضياعه وإبله)
وهكذا انطلق من نظرية التطور ليصور أن اسم [الله] لم يكن موجودا، ويستدل لذلك من القرآن الكريم على طريقته في الاستنباط الممتلئ بالغرابة، فهو يقول ـ عند حديثه عن تطور اسم الإله ـ: (لقد رأينا كيف شاع التشخيص قبل إبراهيم، وانتشرت ظاهرة تعدد الآلهة من كواكب ونجوم وأصنام وتماثيل، وكيف كان مفهوم الإله المجرد غامضاً لا اسم له لعدم اكتمال القدرة العقلية على التجريد عند أهل تلك العصور؛ فقد كان اسمه عند الأسباط (إله إبراهيم)، وذلك في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، وكان اسمه عند
التنويريون والصراعات مع المقدسات (75)
فرعون: (إله موسى)، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37]، وكان اسمه عند سحرة فرعون: (رب العالمين)، و(رب موسى وهارون)، كما في قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121، 122]، أو لم يكن له اسم على الإطلاق كما عند فرعون في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]) (1)
وهو يصور أن الاهتداء لله لم يتم إلا في عهد إبراهيم عليه السلام، وذلك (بعد رحلته الطويلة في البحث عن الله من المشخص إلى المجرد، وليولد عنده مفهوم الإسلام والتسليم لهذا الإله المجرد لأول مرة في تاريخ الإنسان بدلالة قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]) (2)
بالإضافة إلى ذلك، نراه يحرف ما ذكره الله تعالى عن أنبيائه من قيم نبيلة، وأخلاق عالية، وتسليم مطلق لله؛ ليتحول كل ذلك إلى تصرفات لا معنى لها، بل قد تحمل معان لا تتناسب مع الأنبياء عليهم السلام.
ومن أمثلة ذلك أنه حول من رؤيا إبراهيم عليه السلام ـ والتي ذكرها الله تعالى وأشاد بها ليبين مدى تسليم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لله ـ إلى مجرد أحاديث نفس، لا علاقة لها بالواقع، وقد قال مقدما لهذه الفرية العظيمة: (احتار إبراهيم ماذا يفعل ليتقرب من هذا الإله، فالناس يقدمون قرابين لآلهة مزيفة لا تملك ضراً ولا نفعاً لأحد.. وظلت فكرة تقديم القربان لله تدور في رأس إبراهيم حتى سيطرت عليه، وبدأ
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 105..
(2) المصدر السابق، 2/ 105..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (76)
يرى في المنام أنه يذبح ابنه، ثم تكررت الرؤيا حتى ترسخت، فقرر إبراهيم أن يحولها إلى فعل على أرض الواقع، بعد أن أيقن أنها ليست مجرد رؤيا بل تكليف وأمر إلهي) (1)
وهكذا يحرف موقف إسماعيل عليه السلام الممتلئ بالحلم والتسليم لله، حيث يعلق عليه بقوله: (إننا نفهم أن جواب إسماعيل لأبيه كان أن يفعل ما يؤمر لا ما يرى في المنام، لأن إسماعيل لا يقبل أن يقتله أحد بمجرد منام حتى لو كان أباه، فإذا كانت المسألة أمراً بالقتل فليفعل، وإن كانت رؤيا فلا) (2)
وهو يشير بذلك إلى أن إسماعيل عليه السلام مع صغر سنه، فهم من الحلم ما لم يفهمه والده، ولذلك أمره أن يلتزم أمر الله، لا ما يراه في منامه.
وهكذا يحرف ذلك النص الصريح الذي أخبر الله تعالى فيه عن تسليم كلا النبيين الكريمين لله تعالى، وهو قوله تعالى {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] بقوله: (في هذا إشارة إلى أن معركة المعاناة النفسية قد حُسمت لمصلحة التسليم لله تعالى، وإلى أن نار تنازع الأفكار وتجاذب الوساوس في أعماقهما قد انطفأ لمصلحة الإيمان والإنابة، وإلى أن الحيرة عندهما قد اطمأنت للطف الله) (3)
وعندما يواجه بقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105]، يفسرها بأن كل ما حصل لم يحصل؛ فلا إبراهيم هم بذبح ابنه، ولا إسماعيل أذن بذلك.. بل إن الله تعالى اكتفى منه بذلك الموقف الذي تراجع فيه إبراهيم عن رؤياه بعد أن صححها له ابنه إسماعيل.
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 109..
(2) المصدر السابق، 2/ 111..
(3) المصدر السابق، 2/ 112..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (77)
ونفس هذا الموقف نجده عند تلميذ تنويري آخر، راح يعبر عن تلك الرؤيا بقوله: (وهذا المنام ليس أمر من الله بذبح النبي إسحاق، فالأوامر الإلهية لا تأتي في المنامات، وإنما كان مناماً يقصد به شيء آخر، ولكن النبي إبراهيم أوله على ظاهره وخاصة بعد تكرار رؤيته له، فأراد أن يذبح ابنه ظناً منه أنه ينفذ أمر الله، وأخطأ في تأويل المنام، فنزل الأمر الإلهي بتوقيف هذا العمل وأعطاه فداء لمنامه وابنه، وأخبره أنه تم تصديق الرؤيا من خلال الخضوع لله وذبح الدنيا وزينتها وإخراجها من قلب النبي إبراهيم، وليس المقصود الصورة المادية للمنام، وأن ذبح الولد في المنام رمز لذبح الدنيا وزيتنها) (1)
ولا يقتصر أمر الإغراب عند شحرور وسائر التنويريين الجدد على هذا الحد، بل إنه ـ وعند حديثه عن القيم الأخلاقية التي ارتبطت بالأنبياء في القرآن الكريم ـ يقع في إغرابات لا تقل خطورة.
فهو ـ مثلا عند حديثه عن يوسف عليه السلام ـ وكيف تحلى بالعفة، وواجه الفاحشة بكل قوة، خالف مخالفة قطعية المنهج القرآني، بل صور أن الفاحشة نفسها لم تكن محرمة، وإنما راعى يوسف عليه السلام فقط ما تعلمه من بيئته البدوية من وفاء ومروءة، فقد قال معلقا على قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]: (ونفهم منه أموراً أولها: أن يوسف كان يعرف الله بدليل أنه استعاذ به (2)، ثانيها: أنه استكبر واستنكر أن يمتثل لما تدعوه إليه باعتباره يتعارض أخلاقياً مع
__________
(1) النبي محمد ليس من ذرية النبي إسماعيل، سامر إسلامبولي، موقع شحرور.
(2) وذلك بناء على قوله بأن معرفة الله كانت مرحلة من مراحل التطور البشري.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (78)
ما انفتحت عيناه عليه في بيئته الأولى من مكارم وقيم ومثل عليا كالوفاء والمروءة، وليس باعتباره زناً محرماً لأن تحريم الزنا لم يكن قد نزل به تحريم إلهي) (1)
بل إنه ـ وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] راح يقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها أولئك الذين انتقدهم باعتبارهم خرافيين وظلاميين؛ فقد قال تعقيبا عليها: (هذه الآية لا يمكن فهمها إلا إذا فهمنا لماذا استعاذ يوسف بالله في الآية السابقة، والجواب إنه من موقعه كنبي يعلم أن ميل الرجل للمرأة والمرأة للرجل غريزة فطرية جعلها الله فيهما.. ويعلم أن هذه الغريزة المخلوقة المجعولة فيه قانون رباني قاهر لا فكاك لإنسان منه نبياً كان أم غير نبي إلا بتدخل من الله الخالق البارئ المصور، وهذا ما أشار إليه يوسف نفسه في قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، ومن هنا كان طبيعياً أن يلجأ يوسف إلى ربه مستعيذاً به راجياً منه متوكلاً عليه)
ثم راح يفسر كيف استجاب الله له، فقال: (والسؤال الثاني: كيف حصل ذلك وتم؟ والجواب: كما أن الله سبحانه استجاب لإبراهيم وعطل خاصية الإحراق في نار النمرود فجعلها برداً وسلاماً، وكما استجاب لموسى في مباراته أمام فرعون فحول العصا من خشب إلى لحم ودم فإذا هي حية تسعى، كذلك استجاب الله لنبيه يوسف فجرده من قدرته على الجماع، فإذا بعنوان ذكورته خرقة بالية لا تنفع لا للخل ولا للخردل، وهذا هو البرهان الرباني المادي الذي رآه يوسف رأي العين وهي تهم به ويهم بها، وهكذا أصبح الجماع الجنسي مستحيلاً. وهذا هو برهان الله على الإحصان من
__________
(1) شحرور، القصص القرآني قراءة معاصرة، 2/ 233.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (79)
الفاحشة، وهو برهان من مقام الربوبية، وإلى يومنا هذا إذا أراد الله منع إنسان من الوقوع في الفاحشة؛ فإنه يفقده القدرة على الجنس أن كان فاحشة، ونحن نؤكد قوله تعالى بأنه لو لم يهم بها لما رأى برهان ربه) (1)
وخطورة هذا الطرح لا تتعلق بقصة يوسف عليه السلام فقط، وإنما بذلك التبرير للفاحشة، واعتبارها ميلا طبيعيا، وأن الإنسان فيها خاضع لغريزته القاهرة، وأنه ليس مسؤولاً عنها ما دامت تلك هي إرادة الله، إلا إذا أراد الله منعه منها، فيعطل قدرته على ممارستها.
ونفس كلامه هذا نجده عند حديثه عن الفواحش التي وقع فيها قوم لوط؛ فهو يبررها، ويسوغها، ويعتبر أنها مرتبطة بالنواحي البيولوجية للإنسان، وليست اختيارات سلوكية يختارها لنفسه، ولذلك يعقب على قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام وخطابه لقومه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] رادا على أقوال المفسرين التي استنتجت من الآية الكريمة أن أول من فعل تلك الفاحشة هم قوم لوط: (نقول هذا ونحن نعلم أن المثلية، سواء أكانت لواطاً بين ذكر وذكر، أم كانت سحاقاً بين أنثى وأنثى، هي بالأصل شذوذ تكويني في هرمونات الذكورة لدى المفعول به في اللواط، واضطراب تكويني في هرمونات الأنوثة لدى الفاعلة في السحاق، يدفع الأول إلى التماس اللذة عند ذكر مثله، ويدفع الثانية إلى تفريغ شهوانيتها عند أنثى مثلها، وهذا يعني أن اللواط كان موجوداً قبل قوم لوط بشكل غير علني وعلى الصعيد الفردي، إلا أنهم جعلوه ظاهرة عامة
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 233 - 234..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (80)
اجتماعية تمارس علناً في المجالس والمنتديات) (1)
ويقول تعقيبا على الآيات الكريمة التي أخبرت أن سبب العقوبة التي حصلت لهم هي تلك الفواحش: (.. فإننا لا نستطيع أن نقتنع بأن هذه الويلات المخيفة، جاءت عقاباً على سيئة اجتماعية يصعب كثيراً أن نضعها تحت عنوان الفواحش؛ لأنها أقرب إلى الحسن والقبح منها إلى المعروف والمنكر في جانب، وأقرب إلى الأخلاق الاجتماعية المصطلح عليها منها إلى العقائد) (2)
والتعبير بـ[المصطلح عليها]، يعني أنها لست منكرة بذاتها، وإنما هي منكرة باعتبار الأعراف والشرائع؛ فإذا استسيغت في بعض الأعراف، فإنه لاحرج فيها، مثلما تحدث عن الحجاب، واعتبر أن للعرف دورا كبيرا في تحديده، فإذا ما قبل عرف من الأعراف أن تخرج المرأة لا تستر إلا جيوبها؛ فإنها محجبة بحسب ذلك العرف.
هذه مجرد نماذج عن تهديم شحرور للنبوة، وكل القيم النبيلة التي جاءت بها، وخطورته أنه لا يستعمل قصص كعب الأحبار، ولا وهب بن المنبه، وإنما يستعمل خياله الواسع، وقواميسه التي يستعملها كل حين لتبديل الكلم عن مواضعه.. ليستقبل ذلك المنكرون على خرافات السلف، والذين لم يفطنوا إلى أنهم هربوا من تطرف السلف ليقعوا في تطرف الخلف.
__________
(1) المصدر السابق، 2/ 188..
(2) المصدر السابق، 2/ 188..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (81)
من المغالطات الكبرى التي يقع فيها التنويريون، وعلى أساسها ينكرون الكثير من الحقائق، أو يتدخلون بعقولهم فيها، توهمهم أن العقل السليم هو الذي تكون له الجرأة على إنكار كل ما لا يستسيغه، ولذلك تجدهم، ومن غير تحقيق، ولا بحث ولا نظر يرمون بالخرافة حقائق كثيرة ثبتت أدلتها النقلية بطرق متواترة قطعية لا يجادل فيها أحد.
وهذا النوع من التفكير في حقيقته لا يختلف عن عقل أهل الجاهلية الذين تصوروا أن الإيمان بالبعث، وما بعده، مخالف لما تدل عليه عقولهم البسيطة؛ فرد عليهم الله تعالى بما يقوم به عقولهم، وما يجعلها تنظر إلى القضايا المختلفة وفق المنهج الصحيح، لا منهج الهوى المجرد، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 78 - 82]
وهذه الآيات الكريمة نفسها يمكن أن توجه لأولئك التنويريين الذين لم تستسغ عقولهم تلك الأحاديث الكثيرة المتواترة التي اتفقت عليها جميع المدارس الإسلامية، والمتعلقة بالدجال، باعتباره عصارة للفتن، وخلاصة للشر، وأنه سيظهر في يوم من الأيام، ويجر وراءه الكثير عبر ما يخترعه من حيل وتقنيات، وما تكون له من قدرات وعجائب.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (82)
ولست أدري ما العجب في ذلك كله، ما دامت الأدلة الكثيرة قد دلت عليه، ذلك أن الخرافة ليست هي العجيب من الأخبار، وإنما الخرافة هي الأوهام التي لا دليل عليها، حتى لو كانت تحمل صورة واقعية بسيطة.
ولو كانوا يعتبرون العجيب من الأخبار خرافة، فليتجرؤوا، ويكذبوا تلك العجائب التي أخبر الله تعالى بها عن سليمان عليه السلام، وكيف سخر له كل شيء، أو لينكروا تلك الناقة التي خرجت من الصخر، أو ينكروا إحياء المسيح عليه السلام للموتى، أوتحويله من الطين طيورا، أو ينكروا تحول عصا موسى عليه السلام إلى ثعبان.
وإن كانوا يعتبرون كل ذلك خاصا بالأنبياء؛ فقد أخبر الله تعالى أن في قدرات الإنس والجن عجائب كثيرة: فقد ذكر عن صاحب سليمان عليه السلام قدرته على إحضار العرش من مسافة طويلة جدا، وفي طرفة عين، لا بسبب معجزة، وإنما بسبب كونه أوتي علم بعض الكتاب، كما قال تعالى: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 38 - 40]
وما داموا لا يستطيعون إنكار ذلك كله، باعتباره واردا في القرآن الكريم، فلم يتجرؤون على إنكار الدجال، وهو وارد في السنة المتواترة القطعية الثبوت، التي اتفقت عليها جميع المدارس الإسلامية.
وقد قال الكتاني معبرا عن تواتر أحاديثه في كتب المدرسة السنية وحدها: (أحاديث خروج المسيح الدجال ذكر غير واحد أنها واردة من طرق كثيرة صحيحة عن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (83)
جماعة كثيرة من الصحابة، وفي [التوضيح] للشوكاني منها مائة حديث، وهي في الصحاح والمعاجم والمسانيد، والتواتر يحصل بدونها، فكيف بمجموعها؟! وقال بعضهم: أخبار الدجال تحتمل مجلدات، وقد أفردها غير واحد من الأئمة بالتأليف، وذكر جملة وافرة منها في [الدر المنثور] لدى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]) (1)
هذا في المدرسة السنية وحدها، فكيف لو ضممنا إليك تلك الروايات الكثيرة الواردة في سائر المدارس الإسلامية.
وقد كان في إمكان العقل التنويري لو كان يحترم نفسه، ويحترم إيمانه الذي يدعيه أن يسلم لله في أمره، ويعلم أن إنكاره لمثل هذه النصوص المقدسة قد يجره إلى إنكار غيرها.
وقد كان في إمكانه أن يعلم أنه أقل من أن يفتي في أمر لم يحين زمانه بعد، ولذلك قد يكون للمستقبل من العجائب ما يبدد ذلك الاستغراب الذي يقفه أمام عجائب الدجال.
بل إن الواقع يدل على أن التقنيات العلمية في المستقبل القريب أو البعيد ستكون عجيبة جدا، وأنه قد يستطيع فرد من الناس، وفي طرفة عين أن يصل إلى مئات الملايين بل ملاييرهم، وأنه يستطيع أن يميز بينهم، وأنه يستطيع أن يكرم من يشاء منهم، أو يهين من يشاء.. ودور الدجال، كما ورد في الأحاديث الكثيرة ليس إلا ذلك.
وقد كان في إمكان التنويريين بعد هذا، أن ينكروا بعض العجائب عن الدجال التي لم تصح عندهم أدلتها، أو يتوقفوا في قبولها، أو يسكتوا عن الحديث عنها ما داموا
__________
(1) نظم المتناثر من الحديث المتواتر، الكتاني، دار الكتب السلفية، القاهرة، ط 2، د. ت، ص 228، 229.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (84)
لم يستكملوا البحث في شأنها..
لكن التنويريين أصحاب الجرأة العظيمة، والمراهقة الفكرية، والتسرع في كل شيء، راحوا يرمون تلك الأحاديث بالخرافة، سواء نطق بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندهم أو لم ينطق؛ فهو عند الكثير منهم قد يجتهد في الإخبار بالغيب، ويخطئ في اجتهاده.
وهم في حججهم على الإنكار لا يقدمون سوى ما تعودوا عليه من تلك الأيقونة التي تعودوا عليها، والتي عبر عنها أحدهم بقوله: (هل المسيخ الدجال خرافة؟... ما عليك إلا أن تكون شاهدت مسلسل السندباد أو فيلم لص بغداد أو جاسون وآلهة الحرب والسيكلوب بعين واحدة، والتنين الذي ينفث النار.. ثم تأمل قليلاً لتتخيل شكل المسيخ الدجال، كي تعلمه وتحذره ثم يهبك الله القوة لتنتصر عليه، وبعدها يعم السلام والخير هذا العالَم.. إنها ميثولوجيا مُخلّص آخر الزمان وأمنيات الضعفاء والحمقى بانتصارهم دون جُهد، ولا زالوا في شوقٍ لهذا المخلص الشجاع الذي سيهب الله على يديه الخير والسلام لهذا العالَم، مرات ومرات تنتكس فيها الشعوب وقد طال بها أمد الانتظار) (1)
أو كما عبر آخر عن ذلك ـ بجرأة عظيمة ـ بقوله: (لا شأن للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شأن للاسلام بهذه الأحاديث كلها، سواء ما اتصل منها بالغيوب، أو بالتشريع أو بالأخلاقيات والمواعظ والتاريخ.. نحن ننكر أى صلة بين تلك الأحاديث والاسلام، ونكذّب بها أى نكذّب أن يقول النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد قالها، ونرى أن متن هذه الأحاديث صادق فى التعبير عن ثقافة الناس فى العصور التى قيلت فيها. هى إنعكاس لثقافتهم ومعارفهم ومدى ما وصل اليه علمهم، غاية ما فى الأمر أنهم جعلوا تلك الثقافة بما فيها
__________
(1) أكذوبة المسيخ الدجال، سامح عسكر، موقع أهل القرآن، الأحد 13 ابريل 2014.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (85)
خطأ وصواب جزءا من الاسلام، وأضافوها للاسلام بأثر رجعى، وهذا مرفوض. لأن الاسلام قد تم واكتمل بانتهاء القرآن نزولا. وبموت النبى عليه السلام لم يعد هناك مجال للإضافة أو الحذف أو التغيير أو التبديل. من هذه الثقافة التى جعلوها أحاديث ما كانت جذوره فرعونية الأصل، حتى مع تعرضها للتحوير وبعض التغيير، مثل اسطورة ايزيس واوزوريس وست. والصراع بين إلهى الخير والشر (أوزريريس) و(ست). ومنها انحدرت عقائد نزول المسيح والمسيح الدجال، والمهدى المنتظر.. ومن الطبيعى أن يختلف التعبير عنها باختلاف الزمان والمكان، وأن تبدأ على استحياء فى موطأ مالك فى الجزيرة العربية، ثم يتم التوسع فيها فى البيئات النهرية المتأثرة جدا بالموروثات الفرعونية. لقد وصل تأثير عقيدة ايزيس واوزيريس الى أوربا قبل الاسلام، واستمر حتى قبيل النهضة الأوربية) (1)
أو كما عبرت عنه ثالثة بقولها ـ في مقال تحت عنوان: [خرافة المسيح الدجال] (2): (.. مقال يدور المقال حول أخطر المعتقدات التي نخرت ملة ابراهيم وخاتم النبوة محمد رسول الله الذي اططفاهما لتبليغنا وحيه، لكن للأسف تم تلفيق أساطير إغريقية وطقوس وثنية للنبي، وبالتالي يدخلون الشك في نبوته، وهكذا الطعن بالقرآن، فالدارسون وأولي الألباب لا يقبلون الروايات التي تخالف الفطرة، أو تتسم بدنو مستواها، وهكذا تزلزل عقيدتهم، أما العوام الذين يتلقون ويحجر عليهم التدبر بحجة [الإجماع]، واحتكار العلم لرجال الدين الذين درسوا اللغة العربية وتخرجوا من الأزهر ويحفظون الأحاديث عن ظهر قلب فللأسف يصدقون تلك الخرافات والمصيبة أنهم
__________
(1) المرجع السابق.
(2) خرافة المسيح الدجال، سلمى أمين، موقع أهل القرآن.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (86)
يكفرون ويعادون من لايؤمنون بها: (ويلك! إنها في صحيح البخاري ومسلم، هل أنت تعرف أكثر من الشيخ...)، فمنذ متى كان الخوض في أسرار القرآن من إختصاص فئة واحدة؟)
وأمثال هذه الخدع الكثيرة التي يسمونها حججا، وهي لا تحمل إلا مقدمات واحدة يطبقونها في كل ما لا يشتهون.. وإلا فما العلاقة بين التقدم والتطور والرفاه، أو بين استنارة العقل وبعده عن الخرافة، وبين إنكار وجود الدجال الذي يمثل قمة الشر والضلال والفتنة.
بل إن العقل السليم، قد يهتدي إلى ذلك، حينما يرى طاغوتا جبارا مثل ترامب، يتحكم في العالم، لا في أمريكا وحدها، بل في أوروبا، وفي جميع دول المستضعفين، حتى أنه يقضي على الاتفاقات الدولية التي اتفقت عليها دول العالم بما فيها دولته نفسها.
وقبله استطاع هتلر أن يشعل حربا عالمية، ويباد بسببها عشرات الملايين، وتدمر أمثالها من البيوت.. ويشرد مئات الملايين، مع أنه عاش في زمن لم يتح له فيه أن يملك القنابل النووية ولا الهيدروجينية، فكيف لو عاش في زماننا هذا، ووضعت بين أصابعه أزرار القنابل المختلفة.
وهكذا نرى التقنيات المتطورة تجعل للأفراد سلطات كبيرة لم تكن تتاح لهم في الماضي، وهي لا تتعلق فقط برؤساء الدول، بل قد تتعلق برجال الاقتصاد أو الإعلام أو حتى الغناء والرقص والتمثيل، فالذي يؤثر في العالم اليوم مجموعة قليلة من الأفراد.
فما المانع بعد هذا أن يظهر في محور الشر رجل تتوفر فيه كل قدرات التي تنجذب لها النفوس الشريرة، بحيث يستطيع أن يسيطر لا على ممتلكاتهم فقط، بل على مشاعرهم أيضا.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (87)
أنا لا أريد من خلال هذا المقال أن أبين كيف يكون الدجال، فذلك غيب محض، ولكن أريد أن أذكر بأن العقل السليم المؤيد بالإيمان بالغيب الذي هو علامة الإيمان الحقيقي، لا يستبعد شيئا في قدرة الله، ولو أن ما نعيشه من تقنيات عرض على أهل القرون من قبلنا لتعجبوا منها، بل لسارع المتنورون منهم إلى إنكارها، وربما لن يقبلها منهم إلا أولئك الذين يطلق عليهم التنويريون لقب الخرافيين.
ولذلك فإن العاقل الحقيقي هو صاحب العقل المتواضع، الذي يرى أن قدرة الله أكبر من أن تحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يفتري على الله، أو يقول ما لا حقيقة له، ويعلم كذلك أن الأمة التي اتفقت على وجود هذه الشخصية، لا يمكن أن تكذب في ذلك، وكيف تكذب في أمر وقع إجماعها عليه؟
بل إن العاقل يرى أن في وجود مثل هذه الشخصيات في الثقافات والديانات الأخرى دليلا على وجودها الواقعي، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن كل الأنبياء حذروا أقوامهم من الدجال، فقال: (ألا كل نبي قد أنذر أمته الدجال) (1)
والعجيب أن عدنان إبراهيم مع علمه بتواتر أحاديث الدجال، وورودها في كتب الصحاح في جميع المدارس الإسلامية، إلا أنه راح يستعمل عقله البسيط في إنكاره بحجج غريبة جدا، عبر عنها في بعض خطبه التي عنونها [المسيح الدجال.. تدجيل أم تغفيل] بقوله: (إذا كان الدجال بهذه القدرة الفائقة على الإضلال، أوليس الناس معذورون باتباعه؟ أليس من يحمل هذه الصفات فتنة يريد من قدّر خروجه وهو الله تعالى أن يضل الناس ويفتنهم عن دينهم؟ وأن الآيات إنما تأتي تخويفاً، فقط وليست إضلالاً وتكفيراً للناس؟ إن الله لا يمكن أن يفعل هذا، فإن قال قائل بأن إبليس نفس
__________
(1) عبد بن حميد (118/ 2)، وابن عساكر (1/ 610 - 611)، والحاكم (4/ 537 - 539)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (88)
الحكاية، قال لا، إبليس لا يملك لقدرة على هذا.. والنتيجة: الدجال تدجيل وتغفيل)
وهذا استدلال عجيب، وتحكم غريب؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما أخبر عن الدجال أخبر عن خطورته، وعلمنا الطرق التي يمكننا أن ننجو منه إن اتبعناها، ولم يذكر أبدا استحالة النجاة منه، بل أخبر أن المؤمنين الصادقين ينجون منه بوسائل بسيطة جدا (1).
ثم لو طبقنا هذا الاستدلال، فإن الله تعالى في تصوره سيعفي كل من يتعرض لفتن كبيرة، والعالم الآن يموج بفتن كبيرة لم تكن موجودة في العصور السالفة، بل إن الفتن ـ بحسب ما يدل عليه الواقع ـ تسير وفق منحنى تصاعدي خطير.
ثم استدل لذلك بكون الروايات التي تتحدث عنه تحوي أحاديث ضعيفة ومكذوبة ومتناقضة.. وهذا كله لا يساوي شيئا أمام تواتر الروايات الواردة عنه، وخاصة مع اتفاق المدارس الإسلامية عليها، ذلك أنه عند التواتر تلغى أحكام الآحاد.
ولذلك كان في إمكانه أن يناقش تلك الأحاديث التي يرى أنها لا تتفق مع الصورة الصحيحة للدجال بحسب الروايات المعتبرة، وكان في إمكانه أن ينكر بعض التفاصيل التي لم تتواتر الأدلة عليها، أو لم تثبت في الأحاديث الصحيحة، لكنه لم يفعل، وراح مثل التنويريين جميعا يهدمون كل ما لا يستسيغونه، متصورين أن ذلك حكم العقل، بينما هو في حقيقته ليس سوى حكم للهوى.
فالعقل يحترم نفسه، ويعلم أن الجرأة على إنكار ما لم ييسر لنا علمه صعبة بل مستحيلة، كما قال تعالى في ذكره لهذا النوع من التفكير: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]
__________
(1) تحدثنا عن الدجال بتفصيل مع إيراد كل ما ورد فيه من النصوص وتوجيهها في كتابنا [أوكار الاستكبار]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (89)
وهكذا هؤلاء، يكذبون بشيء لم يحيطوا بعلمه، ولا لديهم أدوات ذلك، وفوق ذلك لا يعرفون تأويله وحقيقته الواقعية، لأن الزمن حجاب بينهم وبينه.
وسبب ذلك كله هو أن العقل التنويري ـ بسبب مراهقته الفكرية ـ يتصور أنه أوتي مفاتيح الحقائق، وأنه من خلالها يثبت ما يشاء، وينكر ما يشاء، من غير برهان ولا حجة ولا دليل إلا الهوى المجرد.
وهو لذلك يفعل مثلما يفعل ذلك المراهق المتهور الذي يتصور أنه ـ من خلال الحروف القليلة التي درسها ـ يستطيع أن يحكم في كل شيء، بخلاف الشيخ الحكيم الذي حنكته التجارب، والذي يتأنى قبل أن يدلي برأيه في أي قضية.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (90)
من عجائب تحكم الهوى في عقول التنويريين الجدد تلك المحادة لله ورسوله في أمور قطعية وردت بها الأحاديث المتواترة، المتفق عليها من جميع المدارس الإسلامية، بحجج لا يمكن أن يقتنع بها عاقل إلا إذا كان له الجرأة الكافية على رفض النصوص المقدسة ومخالفتها وتقديم هواه عليها.
وحينها يمكن إلزامه بإنكار ما عداها من النصوص التي تساويها في الثبوت، أو حتى تلك التي تقل عنها فيه.. وحينها سيفرغ الدين من كل محتوياته، لأنه لا يمكن أن تبقى شعيرة من شعائر الإسلام ولا حكم من أحكامه بعد رفع الثقة عن المتواتر القطعي المتفق عليه.
وربما يكون أحسن نموذج لهذا التألي على الله موقفهم من الإمام المهدي، ذلك الذي تواترت النصوص المقدسة على التبشير به، واعتباره أملا للأمة، بل للبشرية جميعا، وأن الأرض بمجيئه ستمتلئ عدلا بعد أن ملئت جورا، وأن الحق سيعود لنصابه، وأن الدين سيظهر عنده على الدين كله.
لكن التنويريين لم يلاحظوا كل هذا، بل راحوا بجرة قلم ينفون كل تلك النصوص، لأن عقولهم لم تقتنع بها، ولست أدري هل اقتنعت عقولهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105، 106]، وهو صريح ينطبق تماما على الإمام المهدي ومن بعده من الصالحين الذين يرثون الأرض بعد أن ينهار مشروع الشيطان، ويقوم مشروع الرحمن.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (91)
وفي إخباره تعالى عن كون هذه القضية مذكورة في الزبور إشارة صريحة إلى أن البشارة بالإمام المهدي ليست خاصة بهذه الأمة فقط، بل هو مبشر به في سائر الديانات.. فكلها يذكر وجود مخلص في آخر الزمان، وإن كانوا يختلفون في اسمه.
وبذلك لا يستعمل التنويريون عقولهم في مواجهة النصوص النبوية القطعية المتواترة المتفق عليها فقط، بل يقفون أيضا في وجه القرآن الكريم، وفي وجه كل الديانات التي تنص صراحة على وجود المخلص، وتنتظره، وتعقد آمالا كبيرة عليه.
وللأسف، فإن الموقف من الإمام المهدي على الرغم من الدلائل الكثيرة التي تدل عليه، لم يكن خاصا بالتنويريين الجدد، بل انضم إليهم الكثير من الحركيين، بل حتى من السلفيين الذين اشتهروا بتكفير كل من يكذب ولو حديثا واحدا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم مع أحاديث الإمام المهدي راحوا يتساهلون، بل يلتمسون الأعذار لمن أنكره، بل إن فيهم من تجرأ على إنكاره، ومع ذلك لم يتهم بتلك التهم التي اتهم بها من شكك في أحاديث لطم موسى عليه السلام لملك الموت وغيره.
وسر ذلك هو تلك القاعدة التي تبناها الجميع في اعتبار التشيع بدعة مطلقة، وشرا مطلقا، ولذلك فإن السنة عندهم هي مخالفة الشيعة، حتى لو جر ذلك الخلاف إلى خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
وقد رأى الجميع مبلغ اهتمام الشيعة بالإمام المهدي، واعتباره مشروعا كاملا للمؤمن، يدخل في جميع أجزاء حياته، فبركاته عندهم لا يتنعم بها أهل عصره فقط، بل تتنعم بها كل العصور، لأنه يعيش في كل العصور.. ولذلك نجد من ألقابه عندهم [إمام العصر والزمان]
وهو عندهم أشبه بالشمس التي حجبها الغمام؛ فهم يتنعمون بها من خلف
التنويريون والصراعات مع المقدسات (92)
الغمام، ويعملون كل جهدهم ليزيحوا ذلك الغمام لتبدو الشمس منيرة للعالم كله، فتحجب بطلعتها البهية كل ظلمة، وتزيل كل عناء، وترفع كل جور.
وبناء على هذا كله راح الجميع يبشرون بعدم وجود الإمام المهدي، حتى أن القرضاوي وفي برامجه التي تبثها الجزيرة، والتي يشاهدها مئات الملايين، كان ينكر كل حين أحاديث الإمام المهدي، ويعتبره خرافة لا وجود لها.
ويستدل لذلك، لا بما يعارض ذلك من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، أو الأدلة العقلية، وإنما بما سمعه وكتبه الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية فى دولة قطر فى كتابه [لامهدى يُنتظر بعد الرسول محمد خير البشر]، والذي قال فيه: (إن أحاديث المهدى ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بل كلها مجروحة وضعيفة، والجرح مقدم على التعديل وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهى أحاديث خرافة سياسية إرهابية، صيغت وصُنعت على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت؛ فأخذوا يُرهبون بها بنى أمية ويتوعدونهم بأنه سيخرج المهدى وقد حان وقت خروجه فينزع الملك عنهم ثم يرده إلى أهل البيت إذ أنهم أحق به وأهله)
مع العلم أن هذا الشيخ ابن نجد، وأحد أبرز رموز المدرسة الحنبلية الوهابية، فقد تلقى دروسه على يد الشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ - قاضي حوطة بني تميم -، ولازم الشيخ عبدالعزيز الشثري (أبو حبيب)، وطلب العلم على يد الشيخ محمد بن إبراهيم - مفتي الديار السعودية - بالرياض وأخذ عنه سنة كاملة، ثم اختاره ابن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (93)
إبراهيم ضمن ثمانية من أبرز تلاميذه للذهاب إلى #مكة للوعظ والتدريس بها (1).
وقد استعمل في رسالته التي أنكر فيها الإمام المهدي نفس أسلوب السلفية في التشدد مع المخالفين، ولكنه في هذه المرة تشدد مع الأحاديث نفسها على الرغم من أنه يقبل ما هو دونها، بل يبدع من أنكر ما هو دونها بكثير، وقد قال معبرا عن الدوافع والرغبات التي جعلته ينكر الإمام المهدي، واعتباره بدعة دخيلة على الإسلام: (حتى لو صدقنا الأحاديث الواردة في المهدي، فهو ليس بملك معصوم، ولا نبي مرسل، ما هو إلا رجل عادي، كأحد أفراد الناس إلا أنه عادل، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة ويترجح أنها موضوعة على لسان رسول الله ولم يحدث بها)
وقال: (لا يجب الإيمان الجازم بخروجه، فليس من عقيدة المسلمين الإيمان به، ليست كالإيمان بالرب والملائكة والبعث والجنة والنار، فهذه كلها أثبتها القرآن وصحيح السنة، وليس منها الإيمان بالمهدي.. والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي ونبذها، وعدم اعتقاد صحتها، وعندنا كتاب الله نستغني عنه من كل بدعة، واتباع كل مبتدع مفتون.. فلا نفع للمسلمين أن يهربوا من واقعهم، ويتركوا واجباتهم لانتظار مهدي مجهول، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات)
وقال: (مسألة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول، ولا بين التابعين، وأن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم #الشيعة، فسرت هذه الفكرة، بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة، فدخلت في معتقدهم، وهي ليست من أصل عقيدتهم)
وقد أشاد يوسف القرضاوي بهذا الكتاب، واعتبره مرجعا لهذه المسألة، وقد ذكر
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: فتوى سلفية حنبلية.. (المهدي المنتظر) خرافة، عبد الله الرشيد، صحيفة عكاظ..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (94)
في بعض أحاديثه المتلفزة التي يراها عشرات الملايين أنه حضر (للقاء بين العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، فلم يستطع الألباني إقناع عبد الله بموضوع المهدي وصحة أحاديثه)
وهذا من العجيب أن يحكم في مسألة ترتبط بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال مجلس من المجالس، أو من خلال شخصية من الشخصيات، ولست أدري أيهما أكثر علما بالحديث: هل الألباني المختص صاحب المصنفات الكثيرة فيه، أم ابن محمود ذلك الذي لم يشتهر إلا برسالته التي ينكر فيها الإمام المهدي؟
ولم يكن القرضاوي ولا ابن محمود وحدهما من أنكره، بل أصبح الآن هو العقيدة المشتهرة خاصة بعد أن قام عدنان إبراهيم وتلاميذه من التنويريين بشن الحملة الشديدة عليه، حتى صار الحديث عن الإمام المهدي كالحديث عن التنين وعروس البحر وسائر الخرافات.
ولم يقتصر الأمر على الإنكار، بل أصبح الإمام المهدي ـ أمل الأمة الأكبر، ومن نصت عليه النصوص المقدسة، ذلك الذي يتلهف المؤمنون للقائه ـ موضع سخرية من صبيان الأمة وشيوخها وشبابها.
ولهذا سأذكر هنا باختصار شبهاتهم الكبرى مع الرد العلمي عليها.
الشبهة الأولى ضعف الأحاديث الواردة في شأنه
وهي شبهة عجيبة، ولو طبقنا هذا المعيار على جميع الأحاديث النبوية الشريفة، لألغيناها جميعا، وألغينا معها كل الأحكام الشرعية، فالقرضاوي وعدنان إبراهيم وكل من أنكروا أحاديث الإمام المهدي يقبلون بما هو أدنى منها بكثير، وهذا دليل على تحكم
التنويريون والصراعات مع المقدسات (95)
الهوى، لا النص المقدس، ولا العقل، ولا الفطرة، ولا أي شيء آخر.
ذلك أنه لا يوجد أي شيء يمكن أن تعارض به تلك الأحاديث.. فلا هي تخالف العقل، ولا هي تخالف الفطرة، ولا هي تخالف القرآن الكريم، ولا هي تخالف أي معلوم من الدين بالضرورة، بل هي تنص فقط على أنه سيظهر في المستقبل من يعيد إحياء الدين، ومن في عهده يظهر دين الله على الدين كله، وليس في ذلك أي حرج، فقدرة الله أعظم من أن تعجز عن تنفيذ ذلك.
فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثماني (يعني حججاً) (1)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) (2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجل مني أو من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) (3)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة، التي لو شئنا لفهمناها على ضوء القرآن الكريم، فهي جميعا ليست إلا بيانا لما ورد النص عليه في النصوص الكثيرة من انتصار الإسلام على الدين كله، وهيمنته عليه، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]
__________
(1) أخرجه الحاكم (4/ 557) بهذا اللفظ وقال: صحيح، وأخرجه أبو داود (4284)، وأحمد (3/ 37) بنحوه، قال ابن القيم على سند أبي داود: إسناده جيد. وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة 2/ 336): سنده صحيح.
(2) أخرجه أحمد (2/ 58)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وأخرجه ابن ماجة.
(3) أخرجه أبو داود في باب ذكر المهدي (4281)، وقال الألباني: صحيح..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (96)
أو تلك النصوص التي تخبر بأن الأعداء مهما فعلوا؛ فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]
وغيرها من النصوص المقدسة الكثيرة التي تخبر أن الأمة ستعود إلى رشدها، وستسير خلف القائد الرباني الذي يقوم دينها، ويزيل كل الانحرافات التي علقت به، والتي جعلته أقرب إلى دين البشر منه إلى دين الله.
لكن مع ذلك نجد شيخا كالقرضاوي يبلغ به الهوى إلى درجة أن يستدل على الملأ بكون الأحاديث المرتبطة بالإمام المهدي ضعيفة لأنها لم ترد في الصحيحين، مع أنه يعلم جيدا أن عدم ذكر الشيخين [البخاري ومسلم] لأحاديث المهدي في صحيحيهما، لا يعد دليلا على إنكار المهدي لأنهما لم يستوعبا كل الصحيح في صحيحيهما، وذلك بشهادتهما، فضلا عن إجماع علماء الحديث والفقه على ذلك، والقرضاوي نفسه يقول بذلك.
بل إننا لو تأملنا في الكثير من الأحاديث الواردة في الصحيحين، لوجدنا أنها لا تنطبق إلا على الإمام المهدي، كما أقر بذلك شراحهما، بل إن جمعا من علماء الحديث أقر بأن في الصحيحين أحاديث تتعلق بالمهدي، وإن لم تكن صريحة في ذكر المهدي.
وفوق ذلك كله؛ فقد نص العلماء على تواتر الأحاديث الواردة في شأنه، ومنهم العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي الذي قال: (اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك
التنويريون والصراعات مع المقدسات (97)
الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى عليه السلام ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته.. وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم: أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل: علي، وابن عباس، وابن عمر، وطلحة، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وأم حبيبة، وأم سلمة، وثوبان، وقرة بن إياس، وعلي الهلالي، وعبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنهم.. وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح، وحسن، وضعيف. وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها فلم يصب بل أخطأ) (1)
وقال القاضي الشوكاني تأليف له سماه (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح): (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح، والحسن، والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك) (2)
وقال الإمام أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في كتاب (مناقب الشافعي): (وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته،
__________
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود، (11/ 361 - 362)
(2) كتاب (الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة) (ص: 124).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (98)
وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه)
وقال العلامة المحدث أبو العلاء السيد إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني: (أحاديث المهدي متواترة - أو كادت - وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد)
قال المحدث أبو الطيب صديق حسن الحسيني البخاري في كتاب (الإذاعة): (والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جداً تبلغ حد التواتر، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد)
وقال العلامة أبو عبد الله محمد جسوس في شرح رسالة أبي زيد: (ورد خبر المهدي في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر)
بل إن الشيخ عبد العزيز بن باز أثبت تواترها، ورد على أنكر صحتها أو تواترها، فقال: (أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين فهو قول باطل، لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً، قد تواترت تواتراً معنوياً، وكثرت جداً واستفاضت كما صرح بذلك جماعة من العلماء بينهم: أبو الحسن الآبري السجستاني من علماء القرن الرابع، والعلامة السفاريني، والعلامة الشوكاني وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم، ولكن لا يجوز الجزم بأن فلاناً هو المهدي إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الثابتة، وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً) (1)
بالإضافة إلى هذا، فقد ألفت المؤلفات الكثيرة في الروايات المرتبطة بالإمام
__________
(1) الرسالة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة لماهر بن صالح آل مبارك- ص: 89.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (99)
المهدي، والتي لم يكتبها الشيعة فقط، وإنما كتبها أعلام كبار من المدرسة السنية، بل من المدرسة السلفية نفسها، فقد كتب الشيخ عبد المحسن العباد كتابه: (الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي)، وكتب الشيخ حمود بن عبدالله بن حمد التويجري مجلداً بعنوان (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر)، وغيرهما كثير.
ومما يؤكد هذا التواتر ويدعمه تلك الروايات الكثيرة جدا، والتي رويت في المصادر الشيعية بالطرق الصحيحة المعتبرة، وللأسف فإن الذين ينكرون صحة أحاديثه، أو ينفون تواترها، يستكبرون على تلك النصوص الكثيرة، والتي تتجاوز حد التواتر بكثير.. ولكنهم لكبرهم يتصورون أنه لا حديث إلا الذي يحدثهم به من ينتمون لمدرستهم، وتشبعوا بفكرهم.
ومن هذا الباب تلك الشبهة التي يذكرون فيها أن الأحاديث المرتبطة بالإمام المهدي من رواية الشيعة لا من رواية السنة، وهذا خطأ كبير، فأغلب الروايات الواردة في كتب السنة عن الإمام المهدي ليس في اسنادها أي رجل متهم بالتشيع.
الشبهة الثانية عدم جدوى التبشير به أو انتظاره
وهي من الشبه العجيبة، التي لا نسمعها من المستشرقين، ولا من المستغربين، وإنما من المسلمين الذين يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، ويعلمون أن كل ما يقوله حق وخير، وأنه لا مجال لإدخال العقول في تكذيب ما قاله أو توجيهه.
ولهذا كان الأجدر بهم الاكتفاء بإثبات عدم صحة الأحاديث الواردة عنه، لا إدخال أهوائهم، ورد الأحاديث بسبب كون الدين قد اكتمل، ولذلك لا حاجة لأي مهدي يجدده، أو يصحح ما انحرف منه.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (100)
والعجيب أن هؤلاء الذين يتساءلون عن مدى جدوى الإخبار عنه، لا يتساءلون عن جدوى ما ورد في النصوص المقدسة من أن الشمس ستشرق من مغربها، أو الدخان، أو الدابة، أو يأجوج ومأجوج، وغيرها من الآيات التي ورد في النصوص المقدسة أنها ستكون علامات على الساعة.
فإذا ما سألهم أحد عن سرها، أحالوه إلى علم الله، وكون الله أعلم بخلقه، وأنهم لا يحيطون بشيء من علمه، أو قرأوا عليه ما قصه الله تعالى علينا عن الملائكة عندما أخبرهم بأنه سيجعل خليفة في الأرض، فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]
وكان في إمكانهم أن يسترشدوا بهذه الآية الكريمة، ليتعلموا فن الأدب مع الله تعالى؛ فلا يعقبوا عليه، ولا يردوا أمره؛ ذلك أنهم لا يحيطون بتأويل الحقائق، ولا معرفة أسرار ما يريده الله.
وكان في إمكانهم أن يسترشدوا بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، وكيف دله على أن في الغيب أشياء كثيرة تبرر ما لا ندركه من عالم الشهادة.
وكان في إمكانهم أن يعودوا إلى الاسم الذي سماهم الله به، وهو الإسلام، وهو اسم لا يستحقه إلا من سلم لله تسليما مطلقا في شريعته وعقيدته وسلوكه ومواقفه، بل يكون بين يديه كالميت بين يدي الغسال، أو كالريشة في مهب الريح.
لكن الدين المزاجي الذي طبع عليه التنويريون، ومن تبعهم في هذا الموقف جعلهم يعترضون من حيث لا يشعرون؛ فيتساءلون بعقولهم القاصرة المجردة عن جدوى ظهور هذا الإمام العظيم الذي وكلت له أخطر مهمة في التاريخ.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (101)
وهم في نفس الوقت يصححون حديث التجديد الذي قال في صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (1)، مع كونه لا يرقى في صحته لأحاديث الإمام المهدي، لا في عدد رواته، ولا في عدد مخرجيه، ولا في أي شيء آخر.
ومع ذلك نجد القرضاوي، وكل من ينكر أحاديث المهدي، يؤمن به، ويصححه، بل يؤلف فيه الكتب، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس إلا ويذكره، ويعدد من خلاله المجددين الذين ينطبق عليهم الحديث، ويكاد يذكر نفسه ـ لولا الحياء ـ من بينهم، مع أنه لا فارق بين الأمرين؛ فالذي بشر بظهور المجددين في كل مائة سنة، هو نفسه الذي بشر بظهور المجدد الأعظم بعد مئات السنين.
ولذلك فإن على الذي يذكر عدم جدوى التبشير بالإمام المهدي واعتبار الدين قد كمل فلا حاجة إليه، أن ينكر أيضا حديث التجديد كل مائة سنة.. لأن الدين قد كمل، فلا حاجة للمجددين.
لكن العقل المزاجي الذي يقدم هواه على النصوص المقدسة، يتقن فنون الحيل، فيقبل ما يشاء من النصوص، ويرفض ما يشاء، من دون أن يدلي بأي سلطان أو أي حجة.
وأنا لا يمكنني في هذا المقام أن أذكر الفوائد التي تدل عليها تلك البشارة العظيمة بالإمام المهدي، ولكني أعبر عن نفسي فقط، وعن تأثير حضور الإمام المهدي في حياتي.. وليعتبرني من يشاء خرافيا أو ضالا أو متكاسلا أو ما شاء من الأسماء.
فأول شعور أشعره هو ذلك الشعور الذي شعره ورقة بن نوفل ومن معه من
__________
(1) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة (149)، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم/599).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (102)
الأحبار الصادقين الذين كانوا يترقبون ظهور النبي الأمي الذي بشرت به الأنبياء؛ فأفنوا أعمارهم في ذلك الانتظار الجميل، الذي لا يختلف عن انتظار يعقوب عليه السلام ليوسف عليه السلام.
وهذا الشعور لا يمكن وصفه، ولا التعبير عنه، لأنه ذوق محض، ولذة محضة، فكلما ذكرت الإمام المهدي كلما دعتني الأشواق إلى تقبيل التراب الذي يسير عليه، أو الهواء الذي يتنسمه، فريحه هي نفس ريح يوسف التي أعادت ليعقوب بصره.
وعلاقتي به ليس لذة نفسية فقط، بل هي طاقة روحية أيضا تجعلني ـ من حيث لا أشعر ـ أتواصل معه، كما تواصلت أرواح أولئك الأحبار والرهبان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يخرج من عالم الملكوت إلى عالم الملك.
وهو أيضا ليس أشواقا روحية فقط، بل هو طاقة كبرى تجعلني أشعر بأن علي أن أقدّم أي هدية تليق بذلك الجناب الرفيع الذي جعله الله أملا للأمم، يصحح مسارها، ويعيد للإنسان الخليفة حقيقته ومكانته، بعد أن يخرجه من أسر الشياطين التي سجنته في سجونها قرونا طويلة.
وهذا ما يجعل من الانتظار حركة، لا كسلا، وعزيمة لا وهنا.. فالذي ينتظر الغالي عليه أن يقدم الغالي، حتى لا يلقاه ويداه فارغتان.
هذه مشاعري، والتي لا أستطيع أن أكبتها، أو أكتمها مخافة أن أتهم في عقلي وديني، لأني أشعر أن علاقتي به أعظم من كل علاقة.
وهي ليست صعبة، ولا أنا من ينفرد بها، بل هي ممكنة لكل شخص يسلم للنبوة، ويعلم أنها لا تقول إلا الخير، ولا ترشد إلا للخير.
أما دعاوى بعضهم؛ فهي ناشئة من تلك التصورات المرضية المبنية على عالم
التنويريون والصراعات مع المقدسات (103)
الملك، لا على عالم الملكوت، فهم يتصورون أن تعظيمهم للإمام المهدي يؤثر في تعيظمهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم لا يعلمون أن الإمام المهدي الذي هو حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليس سوى قطعة منه، فهو منه كما ورد في الحديث، ولذلك كان تعظيمه تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبته محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والشوق إليه شوق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونصرته نصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذلك لا نملك إلا أن نقول لأولئك الذين يتساءلون عن جدوى ظهوره أو خروجه أو وجوده: يحق لكم أن تتساءلوا، لأنكم تتصورون الدين بتلك الصورة البسيطة، الخالية من المشاعر المتدفقة نحو النبوة والولاية.. ذلك أنكم تتعاملون مع النبوة تعاملا جافا؛ فتختصرون دورها في دور ساعي البريد الذي يبلغ الرسالة، وينتهي دوره.
أما من يعشق النبوة في ذاتها، ويعشق الولاية التابعة لها؛ فهو يعلم أنه يستحيل أن تقوم الشريعة من دون النبي الذي تنزلت عليه، أو من دون الولي الذي يمثلها، ولذلك كانت محبة الولي والشوق إليه وانتظاره ليست إلا سيرا في خطى النبوة، وتمثلا حقيقيا للعلاقة معها.
وربما لن يفهم هذا الحركيون خصوصا أولئك الذين فشلوا في كل مشاريعهم بسبب غياب هذا البعد عن دعوتهم، لأنهم طالبوا بتحكيم شريعة الله بعيدا عن الأولياء الذين يمثلونها، والشريعة الحقيقة لا يمثلها ولا يطبقها إلا الأولياء، ورثة الأنبياء.
وللأسف نجد أكثر الحركيين ابتداء من حسن البنا وانتهاء بقادة الإخوان المسلمين المعاصرين ينكرون الإمام المهدي، ولو أنهم تمثلوه في دعوتهم، واستطاعوا أن يستفيدوا من البشارات المرتبطة به، لنجحوا في أقصر مدة، مثلما نجح غيرهم.. لكنهم
التنويريون والصراعات مع المقدسات (104)
لا يعتبرون.
الشبهة الثالثة أن الإمام المهدي فكرة مقتبسة من الديانات الأخرى
وهي من الشبه التي يبثها أولئك التنويريون الذين يتوهمون أنهم بأطروحاتهم يقومون بتنقية الإسلام من التأثيرات اليهودية والمسيحية وغيرها، والتي تسربت إليه ـ حسب وصفهم ـ عبر العصور المختلفة.
ونحن لا ننكر ذلك التسرب، ولا ننكر ضرورة تصفية الإسلام، وخاصة التفاسير القرآنية من آثار تلك الإسرائيليات التي شوهت الدين، وحرفته.
ولكن ليس كل ما ورد في الكتب المقدسة لتلك الديانات مما يتنافى مع ديننا، فهناك قواسم كثيرة مشتركة، ولو أننا طبقنا هذا الأساس لاعتبرنا الدعوة إلى الله نفسها دعوة مسربة من الكتاب المقدس، ذلك أن في الكتاب المقدس نصوص كثيرة ممتلئة بالجمال تعرف بالله وبأسمائه الحسنى وتدعو إلى محبته والتوكل عليه.. فهل نعتبر تلك النصوص مما تسرب إلى ديننا.
ومثل ذلك تلك البشارات الكثيرة المرتبطة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا يزال علماء المسلمين يستعملونها في مناظراتهم مع أهل الكتاب، بل إن الكثير من أهل الكتاب آمن بسببها قديما وحديثا.. فهل نحكم على تلك الكتب والأسفار بأنها محرفة جميعا حتى ما ارتبط منها بتلك البشارات؟
وهكذا فإن القرآن الكريم يخبرنا أن التحريف مس بعض الكتاب، ولم يمسه جميعا، ولذلك كان علماء المسلمين في حوارهم مع أهل الكتاب يستعملون نفس
التنويريون والصراعات مع المقدسات (105)
نصوص الكتاب المقدس ليقيموا عليهم الحجة من خلاله، بل إن القرآن الكريم أول من استعمل هذا المنهج عندما قال مخاطبا اليهود: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]
وهكذا أخبر عن المؤمنين من أهل الكتاب، ووصفهم بكونهم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]
بل إن القرآن الكريم أخبر أن إله أهل الكتاب هو نفسه إله المسلمين، كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]
وبناء على هذا؛ فإن كل النصوص الواردة في حق الإمام المهدي، والتي وردت في الكتب المقدسة المختلفة، ليست سوى مصداق لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]؛ ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله تعالى بأن البشارة بوراثة الصالحين للأرض كتبها في الزبور، والإمام المهدي هو بداية تلك البشارة كما ورد في الرويات المختلفة.
وفي الزبور الحالي نجد إشارات كثيرة تنطبق تماما على ما ذكر في القرآن الكريم، ففي المزمور (377) من زبور النبي داود عليه السلام، وفي الفقرة التاسعة منه قال: (الأشرار ينقطعون، أمّا المتوكّلون على الله فإنّهم سيرثون الأرض).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (106)
وفي الفقرة الثامنة عشر جاء: (إنّ الله يعلم أيّام الصالحين وسيكون ميراثهم أبديّاً)
وفي الفقرة الثانية والعشرين ورد: (الذين باركهم الله سيرثون الأرض، أمّا الذين لعنهم الله فسينقطعون)
وجاء في الفقرة التاسعة والعشرين: (الصدّيقون سيرثون الأرض وسيسكنون فيها إلى الأبد)
وهكذا نجد أمثال هذه البشارات في سائر أسفار الكتاب المقدس، ففي سفر أشعياء [باب 11/ 1 ـ 3 و6 ـ 9]: (برز برعم من جذع يسي، يمتدّ غصن من جذوره، يستقرّ فيه روح الله، وروح الحكمة والفطنة، وروح المشورة والجبروت، وروح العلم والخشية من الله، يحكم وفق علمه لا وفق ما يسمع ويرى، يعيش الذئب مع النعجة والنمر مع المعزى والعجل مع شبل الأسد، ويرعى الدبّ مع البقرة والأسد يأكل التبن مثل البقرة، ويلعب الطفل الرضيع بجحر الأفعى، ولا يحدث ضرر وفساد في جميع جبالي المقدّسة، لأن الأرض تمتلئ بمعرفة الله مثل المياه التي تَمْلؤ البحار)
وطبعا هذا النص يشيربلغته الرمزية إلى ذلك الزمان الجميل الذي يعم فيه السلام والعدالة الأرض بسبب حكم الصالحين، والذي يبدأ بحسب الروايات من الإمام المهدي.
وهكذا نجد أمثال هذه البشارات في العهد الجديد، ففي إنجيل لوقا [باب 21، 25 ـ 277]: (تكون في الشمس والقمر والنجوم آيات، ويظهر على الأرض للأمم ضيق وحيرة بسبب اضطراب أمواج البحر، وتضعف قلوب الناس من الخوف، ومن ترقّب تلك الوقائع التي تظهر على ربع الأرض المسكونة، وتتزلزل قوة السماء، عندها
التنويريون والصراعات مع المقدسات (107)
يُرى إبن الإنسان ممتطياً غمامة، يأتي بقوّة وجلال عظيم)
وقد ذكر علماء المسيحية أنفسهم في (قاموس الكتاب المقدّس) بأن المراد بابن الإنسان هنا ليس السيد المسيح عليه السلام، بل إن عبارة ابن الإنسان تكرّرت في الأناجيل ثمانين مرّة، يمكن تطبيق ثلاثين منها مع عيسى المسيح عليه السلام فقط، وأمّا البقيّة فإنّها تتحدّت عن المنجي الذي يظهر في آخر الزمان.
ومثل ذلك نجد هذه البشارة في رؤيا يوحنّا اللاهوتي [باب 12 الفقرات: 1 و2 و5 و14]، فقد ورد فيها: (ظهرت علامة عظيمة في السماء، امرأة تتلفَّعُ بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها تاج فيه إثنا عشر كوكباً، وكانت المرأة حُبلى وتصرخ من شدّة ألم الطلق، ثم ولدت طفلاً ذكراً سيحكم جميع الأُمم بعصا حديدية، ولأجل حفظ ذلك المولود بشكل تام، فقد اختفى عن أنظار الشياطين لعصر وعصرين ونصف عصر)
بل إننا نجد أمثال هذه البشارات في الكتب المقدسة لغير أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ففي [أوبانيشاد]، وهو أحد الكتب المعتبرة عند الهنود نجد هذا النص الذي لا ينطبق إلا على المخلص: (عند نهاية العالم أو عند انتهاء العصر الحديدي يظهر (مظهر ويشنو المظهر العاشر) ممتطياً حصاناً أبيض وفي يده سيف مصلت يلمع كالنجم المذنّب، يقضي على جميع الأشرار ويجدّد الخلق ويُعيد الطهارة، المظهر العاشر هذا يظهر عند انتهاء العالم)
ونجد في [باسك]، وهو من الكتب المقدّسة عن الهنود: (تُختم الدنيا بملك عادل في آخر الزمان؛ يكون إماماً للملائكة والإنس والجنّ يكون الحقّ معه، ويستحوذ على كل ما هو مخفي في الجبال والبحار والأراضي، ويخبر عمّا في السماوات والأرض ولا يأتي إلى الدنيا أعظم منه)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (108)
وفي [باتيكل]، وهو أيضا من الكتب المقدّسة عن الهنود: (عند انتهاء العالم تتجدّد الدنيا القديمة، وتعود حيّة، ويظهر صاحب المُلك الجديد، وهو من أولاد سيّدي العالم العظيمين أحدهما (ناموس آخر الزمان) والآخر (الصدّيق الأكبر)، أي وصيّه الأكبر المسمّى بـ (بشن)، واسم صاحب هذا المُلك الجديد (هادي). يصير ملكاً بالحقّ وخليفة (رام) وله معاجز كثيرة. يطول عمر دولته، ويعمّر أكثر من أولاد (الناموس الأكبر). وبه تختم الدنيا، ويسيطر على ساحل البحر المحيط وجزائر سرانديب وقبر الأب آدم وجبال القمر وشمال هيكل الزهرة وسيف البحر والمحيطات، ويهدّم بيت أصنام (سومنات) وبأمره ينطق (جغرانات) ويُكبّ على وجهه في التراب فيكسره ويلقيه في البحر الأعظم ويكسِّر جميع الأصنام في كلّ مكان)
وفي [ريغ ودا] وهو من الأسفار الهندية المقدسة: (يظهر ويشنو بين الناس، هو أقوى وأقدر من كل شخص، في يد ويشنو (المنجي) سيف مثل كوكب مذنّب، وفي يده الأخرى خاتم يسطع نوره، وعند ظهوره تظلم الشمس والقمر وتهتز الأرض)
وغيرها من النصوص الكثيرة، والتي لا نزال نرى أتباع الديانات المختلفة يؤمنون بها، ويعتقدون أن هناك مخلصا تتخلص البشرية على يديه من كل جور وظلام وانحراف، ليصحح مسارها إلى الصراط المستقيم بعد فترة الضلال الطويلة.
ولا يهم الأسماء التي يسمون بها ذلك المخلص، لأن العبرة بالحقائق، لا بالأسماء، وبالمعاني لا بالصور.. ولذلك لا معنى لاعتبار ما اتفقت عليه الأمم جميعا خرافة، أو ضلالة خاصة إذا ورد في كتابنا ما يؤيدها.
بل إننا نجد لفكرة المخلص تأثيرها النهضوي الكبير في سائر الأمم، حتى لو كان تأثيرا سلبيا، لكن له دوره الفاعل.. فالمسيحيون المتصهينون، والحركة الصهيونية نفسها
التنويريون والصراعات مع المقدسات (109)
لم تقم، وتخلص اليهود من ذلك الذل الذي كانوا يعانونه إلا بنشرها لفكرة المخلص، ولهذا يجتهدون في بناء الهيكل له، تمهيدا لظهوره.
الشبهة الرابعة أن الإمام المهدي كان سببا للدعاوى والفتن
وهي من الدعاوى الغريبة جدا، ذلك أنها تستعمل ما يسميه الفقهاء [سد الذرائع] في موضوعات الأخبار، لا في الموضوعات العملية والفقهية، مع أن لسد الذرائع ـ في حال القبول به ـ شروطه الكثيرة في الفقه والأصول، والتي يشكل عدم التعارض مع النص أولى أولوياتها.
فهل نحن أكثر حرصا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة، حتى نكتم أو نكذب أحاديثه الصحيحة الصريحة، التي نقبل ما هو دونها بكثير، بحجة أن تلك الأحاديث قد تستعمل استعمالا خاطئا؟
ولو طبقنا هذا المعيار لألغينا جميع أحكام الشريعة، بل ألغينا جميع عقائدها، فالإرهابيون الآن يستندون إلى ما ورد في النصوص المقدسة من نعيم الجنة، ليستقطبوا المزيد من الأتباع، وينشروا إرهابهم، فهل يأتي أحد من الناس، ويزعم أنه لا توجد جنة، حتى يسلب هذه الورقة من أيدي الإرهابيين؟
والإرهابيون يتحدثون عن كثير من معاني الشريعة، ويحرصون عليها؛ فهل نخالف الشريعة طلبا لمخالفتهم؟
ولذلك؛ فإن هذا البعد الذي عبر عنه الشيخ ابن محمود النجدي القطري، وجعله من مبررات إنكاره للإمام المهدي؛ فقال: (جميع العلماء والعوام، في كل زمان ومكان، يقاتلون كل من يدعي أنه الإمام المهدي، لاعتقادهم أنه دجال كذاب، يريد أن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (110)
يفسد الدين، ويفرق جماعة المسلمين، ويملأ ما استولى عليه جورا وفجورا، كما جرى لكثير من المدعين للمهدية، وسيستمر الناس يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟) تأل على الله، واجتهاد مع النص، وإدخال للعقل فيما لا مجال له فيه.
بل إننا لوتأملنا التاريخ لوجدنا أن ادعاء المهدوية أكبر دليل عليها، مثلما حصل مع أدعياء النبوة، وخاصة قبل الفترة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إننا لو طبقنا هذا المعيار، وهو الادعاء واعتباره داعية لإنكار تلك النصوص المقدسة الكثيرة، فإننا ـ وحتى لا نقع في التطفيف في الميزان، أو في المكاييل المزدوجة ـ علينا أن نترك تعلم العلوم الدينية، لأن هناك من العلماء بالدين من راح يفسد الدين، ويضلل الناس..
بل نترك كذلك الأحاديث الدالة على التجديد، ذلك أن الصراع في التاريخ حصل بين المجتهدين، وكل منهم يزعم أنه المجدد، ولا زال الآن الصراع موجودا؛ فكل جهة تتصور أن زمام التجديد بيدها.
وهكذا، كانت هذه الشبهة مجرد هوى، ذلك أن الحقيقة لا يضرها من خالفها، كما لا ينفعها من وافقها، والهروب منها بأمثال تلك الحجج كتمان للعلم، وقد قال تعالى في وصف أهل الكتاب وكتمانهم للبشارت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]
ولو تأملنا حجج أهل الكتاب في ذلك الكتمان لوجدناها نفس حجج هؤلاء، ذلك أنهم يتصورون أن مصلحة الدين في بقاء النبوة في بني إسرائيل؛ فإذا ما خرجت
التنويريون والصراعات مع المقدسات (111)
منهم كان في ذلك الضلال.. وهو نفس ما يتذرع به هؤلاء الذين يتصورون أن التجديد حكر عليهم، ولذلك لا يصح أن يسلموه لغيرهم كائنا من كان حتى لو كان الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل بشر به كل الأنبياء.
وهم يفعلون ذلك خصوصا مخالفة للشيعة الذين يعطون قيمة كبيرة لتلك البشارات النبوية، بل يتحركون في التاريخ على أساسها؛ فيخالفونهم، ولا يعلمون أنهم يخالفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
والمشكلة الكبرى بعد ذلك كله ليس في مجرد الكتمان؛ فهو مع الإثم العظيم المرتبط به لا يساوي شيئا أمام التكذيب.. لا تكذيب الرواة والمحدثين، وإنما تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
ولا تتعجبوا من هذا؛ فقد رأيت المنكرين لأحاديث الإمام المهدي، يقبلون نفس الطرق والأسانيد التي رويت بها أحاديث أخرى، ويعتبرونها من السنة الصحيحة، بل يشنعون على المخالف إن أنكرها، متهمين إياه بإنكار السنة.
لكنهم في نفس الوقت يكذبون نفس الرواة، بل نفس السلسلة، إن روت أحاديث الإمام المهدي، ولست أدري ما هو معيار تكذيبهم لها؛ فإن كان كذبها، فلتكذب في سائر الأحاديث، وإن كان غير ذلك، فليس إلا الهوى، ذلك أنه لا اجتهاد مع النص.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (112)
من القضايا العقدية التي خاض العقل التنويري فيها من غير أن تكون له أثارة من علم، أو بصيرة من هدى، أو دليل من وحي مقدس ما يطلق عليه اصطلاحا [عذاب القبر]
ذلك العذاب الذي وردت به النصوص المقدسة المتواترة، من الكتاب والسنة المطهرة، ودل عليه معهما العقل الممتلئ بالحكمة والإيمان، وقال به كل الحكماء والعلماء الذين لم يستطع أحد منهم وعلى مدى القرون الطويلة أن يتجرأ؛ فيكذب ما دلت عليه النصوص، أو يحشر أنفه فيما لا طاقة لعقله المحدود في التعرف عليه، أو الإحاطة به.
لكن التفكير الرغبوي والمزاجي للتنويريين راح يخوض فيه كما خاض في غيره، ولا دليل له إلا الهوى المجرد.. ذلك أنه من الناحية العقلية يمكن لخالق هذا الكون أن يعذب من شاء، متى شاء، كيف شاء، وفي إطار قوانين العدالة التي يضعها، ولا يحجر عليه أحد في ملكه أو تدبيره أو تصريفه.
ومن الناحية الشرعية، والتي هي المخول الوحيد بالحديث في هذا الجانب، نرى النصوص الكثيرة التي تحذر من عذاب القبر، وتبين الرذائل التي يمكن أن تكون سببا في حصوله، بل تعلمنا من الأدعية والتضرعات ما يجعل منه قضية حاضرة في أذهاننا، لنربي أنفسنا من خلالها؛ فنقاوم نزغات الهوى بسياط الرهبة، كما ندفعها إلى العمل الصالح بجوائز الرغبة.
لكن التنويريين، وبسبب ما رأوه من بعض المشايخ والوعاظ من استعمال هذا النوع من القضايا العقدية في محله أو في غير محله، راحوا لا يكتفون بالإغارة عليهم أو
التنويريون والصراعات مع المقدسات (113)
نقدهم، وإنما الإغارة على النصوص المقدسة نفسها، ونقدها.
وهذا ما يدل على كون العقل التنويري عقلا مراهقا؛ فهو لا يفكك القضايا، ويميز بين المقبول والمرفوض، وبين الحقيقة والاستعمال الخاطئ لها، وإنما يغير على الجميع، وبطريقة استئصالية لا علاقة لها بالعلم، ولا بالحكمة، ولا بالتؤدة، وإنما هي تجسيم للهوى المجرد، والتفكير الرغبوي، والعقل المزاجي.
ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: في مقال تحت عنوان [عذاب القبر أم عذاب الفقر] (1): (بالطبع لا يخفي على أحد المنتفعين من تجار الدين بالأزهر الذين يدافعون عن مصالحهم الشخصية باسم الدين والتدين ودفاعهم المستميت عن موضوع عذاب القبر، ندعو الله أن يقبرهم في جهنم إن شاء الله، حقيقة شيء مخزي أن تكرس حياتك للدفاع عن عالم أنت لا تعلم عنه شيئا، هو جزء من عالم الغيب، هو عالم الأموات، فلا أنت ولا أنا ولا أي شخص ولا أي علم في الماضي والحاضر استطاع أن يخترق هذا العالم عالم الموت ويعلم ما الذي يحدث لأي إنسان بعد الموت، ولكن المنتفعين من تجار الدين بالأزهر ركزوا جلّ اهتمامهم على الإنسان بعد موته فقط، أما نفس الإنسان وهو حي يرزق، وكيف سيعيش سعيدا أم حزينا مثل ملايين البؤساء الذين يعيشون في فقر وبؤس وسط هؤلاء المجرمين من تجار الدين)
وبعد كل هذه المصادرات على المطلوب، والخلط بين القضايا، وردة الفعل التي لا تدل على الحكمة والأناة، راح صاحب المقال يخطب قائلا: (أليس من العار أن تدافع عن الأموات وتترك الأحياء يزدادون بؤسا باسم تمثيلية عذاب القبر.. فيا أستاذ يا إنسان يا من تؤمن أن الله كرمّك.. اشعر بمن حولك من البشر اشعر بهم وهم أحياء
__________
(1) عذاب القبر أم عذاب الفقر، رمضان عبد الرحمن في الخميس 16 اكتوبر 2014.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (114)
يشتركون معك في المكان والزمان.. اشعر بهم وقف معهم وبجانبهم ضد الفاسدين لا تقف ضدهم من أجل مصلحتك الشخصية، فمزبلة التاريخ لا تجامل ولا ترتشي أعد حساباتك، فعذاب الفقر أهم مليار مرة من عذاب القبر، فلا يطلق الفقر والفقراء إلا على الأحياء والعقل يقول أن الذي لا يهتم ويشعر بمعاناة الناس وهم أمامه أحياء، فمن المؤكد أن ما يقوله مدعيا خوفه على نفس الناس وهم أموات يعتبر محض كذب وافتراء وضحك على نفس الناس حتى ينشغلوا عن حقوقهم الطبيعية وهم احياء)
ولست أدري ما علاقة عذاب القبر بكل ذلك، وهل في إمكان العالم أو رجل الدين أو الخطيب أن ينقذ الناس من الفقر، وهل هذا دوره، أم دوره أن يبين أحكام الشريعة، ويعظ الناس ويوجههم، أما تكليفه بإغنائهم من الفقر، فهذا ليس من مسؤوليته، والسبب فيما ذكره من السرقات الكبرى ليس رجال الدين الذين يؤمنون بعذاب القبر، ولكن رجال الدنيا الذين ينكرونه، لأنهم لو كانوا يؤمنون به، لما تجرأوا على سرقة دينار واحد.
ولهذا فإن هذا التنويري في حقيقته لا يعطي حلا لعلاج الفقر، وإنما يريد أن يضم للفقر الذي يعانيه الفقراء كفرا وضلالا وزندقة، ليجمع الفقراء بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، أو ليضموا إلى معاناتهم المادية معاناة أخرى نفسية وروحية، أشد وأخطر.
ومثل ذلك كتب آخر يقول في مقال بعنوان [عذاب القبر بين الحقيقة والخيال] (1): (من المؤسف جدا أن تجد في هذه الأيام وبعد نزول القرآن الكريم على خاتم النبين منذ أكثر من 1200 سنة عددا كبيرا من أبناء هذه الأمة الإسلامية ما زال
__________
(1) عذاب القبر بين الحقيقة والخيال، فتحى احمد ماضى، 04 سبتمبر 2016.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (115)
يؤمن بمقولة عذاب القبر ضاربا بمقولته هذه بكل الآيات القرآنية عرض الحائط، والتي تنفي هذا الادعاء نفيا قطعيا لا مرية فيه، ويتمسكون ببعض أحاديث الآحاد، والتي يجمع معظم علماء الأمة بأنها أحاديث ظنية الثبوت، وتاركها لا إثم عليه ولا يجوز استنباط او استخراج أسس الدين من هذه الأحاديث)
وهكذا راح هو وأمثاله ينتقون من القرآن الكريم بعض الآيات التي تنص على العذاب الأكبر في القيامة، متجاهلين آيات أخرى، تتحدث عن العذاب الذي قبلها، وبدل أن يحكموا جميع الآيات والنصوص، راحوا يستعملون بعضها لضرب بعض.
وبناء على هذا نحاول في هذا المقال، وباختصار، ذكر شبهاتهم، والرد عليها، وبيان مخالفتها للنصوص المقدسة، ومخالفتها للعقل والحكمة، ومناقضتها للمقاصد الشرعية من ذكر هذه القضية واستعمالها وسيلة للتربية والإصلاح.
الشبهة الأولى ـ أن عذاب القبر أطروحة مستمدة من الديانات الأخرى
يصر التنويريون في كل قضية اتفق فيها الإسلام مع سائر الأديان على تكذيبها، بحجة أن المسلمين أخذوها من أهل تلك الأديان، وليس من مصادرهم المقدسة، أو ربما يتصورون من حيث لا يشعرون أن المصادر المقدسة للمسلمين استفادتها من أهل تلك الأديان، ولم يوح بها من الله تعالى.. وهم في هذا يطلبون من الله تعالى بأن يختار للمسلمين عقائد ينفردون بها، ولا يزاحمهم فيها غيرهم.
ومن الأمثلة على هذه الشبهة ما كتبه بعضهم تحت عنوان [مصدر خُرافة عذاب
التنويريون والصراعات مع المقدسات (116)
القبر] (1)، والذي أعاد فيه هذه العقيدة لمصادر مختلفة عبر عنها بقوله: (بما أن اليهود هم أصل هذه العقيدة عند المسلمين؛ فهذا يعني حدوث واحد من أمرين اثنين: إما أن اليهود ـ حينها ـ كانوا يؤمنون بالحياة في البرزخ، وأن البعث يكون مرتين الأولى في القبر، والثانية يوم القيامة، وبالتالي فهم يؤمنون بثلاثة أنواع من الحيوات، وهذه العقيدة هي نفسها عقيدة من يؤمن بعذاب القبر من المسلمين.. أو أن اليهود لم يكونوا يؤمنون بالبعث يوم القيامة أصلاً.. ولكن يؤمنون بالبعث في القبر، وأن الحساب الأخروي لديهم موجود بداخله، وهذا يعني أن عذاب القبر لديهم هو نفسه عذاب الآخرة)
ثم راح يرجح الاحتمال الثاني، ليبني عليه أن مصدر هذه العقيدة هم المصريون القدامى، فقال: وأنا أرجح الثانية.. لأن هذا الاعتقاد هو بعينه اعتقاد المصريون القُدماء، فنشأة اليهود بالأصل كانت مصرية حتى مع الخلاف حول هذه النتيجة، ولكنها كانت رؤية دينية عامة منتشرة في الشرق القديم، فالمعبود المصري يُقابله المعبود الفينيقي أو البابلي.. حتى أن عقائد اليونان القدماء لم تَخلُ من هذا الطرح.. وعقيدة الحساب والجزاء لديهم كانت في القبور وهذا ما حملهم على دفن متاع الميت معه.. ولأن كُتب وأسفار اليهود الكُبرى خلت من أي إشارة للبعث يوم القيامة، وأن الإيمان بيوم القيامة لدى اليهود لم يأتِ إلا متأخراً وبالتحديد بعد كتابة التلمود بشِقيه.. ولأنه لا يوجد أحد من اليهود الآن يقول بعذاب القبر.. بمعنى أنهم يعتقدون في أن البعث يكون يوم القيامة، وهذا يُثير التساؤل كيف وأن هذه العقيدة كان منشأها لدى اليهود ثم يُنكرونها الآن.. والإجابة جاءت في الوجه الثاني بأنهم كانوا يقولون بذلك قبل كتابة
__________
(1) مصدر خُرافة عذاب القبر، سامح عسكر، الحوار المتمدن، 23 فبراير 2013، ببعض التصرف مراعاة للاختصار.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (117)
التلمود، وبعدما جاء التلمود بعقيدة البعث يوم القيامة متأثراً فيه بالإنجيل... حينها آمن اليهود بأن البعث واحد يوم القيامة وأن الحياة اثنين في الدنيا والآخرة)
ثم أخذ يبين كيف تطور هذا المفهوم المستورد من المصريين القدامي، فقال: (يكفينا الإشارة بأن فكرة عذاب القبر عند المسلمين كانت فكرة دينية أخذت بُعداً اجتماعيا نتيجة لتطورها على أيدي المتصوفة.. أيضاً ومن أثر عُمقها الضارب في أذهان القُدماء الشرقيين، وهي تعني أن عذاب القبر لديهم كان هو العذاب الأخير لأنهم كانوا لا يعتقدون بيوم القيامة الذي يبعث الله فيه العباد ويُحاسبهم على أعمالهم فمن كان صالحاً دخل الجنة ومن كان طالحاً دخل النار، وأن الأساطير المصرية والعراقية واليهودية القديمة كانت متشابهة في البعض ومتطابقة في البعض الآخر.. وفي قضية عذاب القبر نكاد نرى تطابقاً عجيباً بين عقائد اليهود والفراعنة وبلاد العراق ـ خاصة السومريين والبابليين ـ قبيل ظهور التلمود وتأثر اليهود بالأناجيل التي أفصحت عن شكل الحياة بعد الموت وبأن هناك يوماً ستُرد فيه الحياة للأجساد وهو اليوم الأخير للعالم وبعدها يأتي الحساب)
ومثل ذلك كتب آخر في كتاب له بعنوان [أكذوبة عذاب القبر وأكاذيب شيوخ الثعبان الأقرع] (1) يقول في مقدمة الكتاب: (فى الوقت الذى يستعد فيه العالم لارتياد القرن الحادى والعشرين بمزيد من التقدم فى العلوم تقدماً يقترب من الخيال، يحصر المسلمون اهتماماتهم حول قضايا ترجع إلى خرافات تنتمى إلى القرن الحادى والعشرين قبل الميلاد. من نوع عذاب القبر والثعبان الأقرع التى اخترعها أجدادنا المصريون القدماء ثم عادت إلينا منسوبة زوراً إلى النبى، ونحن مشغوفون بهذه الخرافة ونعتبرها
__________
(1) أكذوبة عذاب القبر وأكاذيب شيوخ الثعبان الأقرع، أحمد صبحي منصور.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (118)
من المعلوم من الدين بالضرورة من أنكرها يكون كافراً، وهكذا ينفصل المسلمون عن عصرهم بأكثر من أربع آلاف سنة مع أن الإسلام حين نزل فى القرن السابع الميلادى وقف موقفاً حازماً من الأساطير والخرافات ووضع منهجاً علمياً تجريبياً فى القرآن للبحث والاكتشاف.. لكن الأسلاف ركنوا إلى الخرافة وأهملوا ما جاء فى القرآن الكريم من منهج علمى تجريبى.. وعندما بدأت الصحوة فى العصر الحديث فوجئنا بخرافات العصور الوسطى التى يرفضها القرآن الكريم وقد عادت إلى الظهور والتأثير على عقول الشباب المتدينين ليزدادوا تخلفاً باسم الإسلام وهو دين العلم ودين التعقل والتبصر)
ثم قال بكل حماسة: (مرة أخرى.. ماذا يراد بنا؟!.. هل يراد بنا أن نكون رقيق القرن الحادى والعشرين نعيش فى زوايا النسيان بينما يتقدم العالم من حولنا... هل يراد بديننا الحنيف أن يكون عنواناً للإرهاب والعجز والتخلف والخرافة؟!)
وهكذا راح يتصور أنه بمجرد تكذيبه لعذاب القبر يكون قد خلص المسلمين من الخرافة، وأنه بذلك سيؤهلهم لارتياد القرن الواحد والعشرين، وهو لا يعلم أن قوله هذا سيفتح الباب على مصراعيه لإنكار عقائد أخرى من الدين، قد توصف بالخرافة، حتى ندخل القرن الواحد والعشرين ـ كما يزعم ـ ونحن مسلحون بسلاح العلم المجرد.
ونفس الشيء نجده يردد في كتب ومقالات تنويرية كثيرة، تحاول أن تربط هذه العقيدة بعقائد الأمم السالفة، لتقوم بنسفها بعد ذلك، وكأن القاعدة الشرعية هي أن الإسلام لا يقصد سوى مخالفة عقائد الأمم.
ولو أن هؤلاء استمروا في تطبيق هذا المعيار على أحكام الحج، لألغوها جميعا، فقد كان الحج أيضا موجودا في الديانات المختلفة، بل إن القرشيين المشركين كانوا
التنويريون والصراعات مع المقدسات (119)
يتفقون مع المسلمين في كثير من أحكام الحج.
وهكذا نجد أكثر الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم هم أنفسهم المذكورون في الكتاب المقدس، بل نفس قصصهم موجودة، والاختلافات بين ما ورد في القرآن الكريم والكتاب المقدس محدودة؛ فهل نعتبر تلك القصص مستمدة من الكتاب المقدس، وأنها إرث من الديانات الأخرى تسلل لكتاب المسلمين ودينهم.
وهكذا الأمر في مسائل كثيرة جدا سواء من باب العقائد أم الشرائع، والتي تدل في الأصل على وحدة الدين، لا على كون المسلمين قد أخذوها من غيرهم.
ولو أن هؤلاء تواضعوا قليلا، وحاولوا أن يتخلصوا من ذلك العقل الرغبوي والمزاجي، وعادوا إلى نصوص القرآن الكريم نفسها، ومثلها إلى السنة المطهرة التي هي بيان للكتاب، وشرح له، لوجدوا الأدلة الكثيرة جدا، والتي تكفي آحادها لكف المؤمن عن التجرأ على مخالفتها.
ولذلك، فإن مجرد اتفاق المسلمين مع أهل الكتاب أو غيرهم من أهل الأديان على هذه العقيدة لا يعني إلغاءها، بل إنه يعني أن هذه العقيدة من العقائد المقررة في الأديان الأخرى، والتي لا زالت تحتفظ بها.
الشبهة الثانية ـ تعارض عذاب القبر مع القرآن الكريم
وهي الشبهة الأكبر التي ينطلق منها المكذبون بعذاب القبر، ولذلك يأتون ببعض الآيات الكريمة التي تنص على أن العذاب الحقيقي يكون بعد المساءلة والحساب يوم القيامة، ليضربوا بها غيرها من الآيات الكريمة.
وهم يستعملون في هذا كل ما لديهم من أدوات القص والكتمان والحذف التي
التنويريون والصراعات مع المقدسات (120)
يستعملها عادة العقل الرغبوي لتقرير ما يريد، ومن أمثلة ذلك اقتباس بعضهم لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، مع حذفه لتتمة الآية، والتي تقول: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]، ثم تعقيبه على النص الذي اقتبسه بقوله: (إذاً يقول الحق، هو موت فى البداية، ثم الحياة الدنيا التى نحياها الآن، ثم الموت، ثم الحياة فى الآخرة.. موتتان وحياتان، أي: 2+2 = 4.. إذَا اضفنا [حياة القبر] تصبح هذه المعادلة خاطئة لأننا نضيف حياة أخرى لمشاهدة الفلم المرعب [منكر ونكير والثعبان الأقرع... ]، ثم بعد ذلك موتة أخرى.. أي 3+3، وهذا لا يساوى 4 كما قال الحق)
لكنه لو قرأ فقط تتمة الآية، وهي قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] لرد على نفسه بنفسه، فالله تعالى ذكر رجوعه إليه، أي يوم القيامة بعد الحياتين والموتتين، وذلك ما يتطلب وجود حياة برزخية.
وهكذا نجدهم يقرؤون قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، ويتصورون أن العذاب سيؤخر إلى الآخرة، لأن الله تعالى لا يؤاخذ الظالمين قبل ذلك.
لكنهم لو قرأوا مع تلك الآيات آيات أخرى كثيرة جدا، تذكر تعجيل الله تعالى العقوبة لعباده في الدنيا قبل الآخرة، لفهموا تلك الآيات الكريمة فهما صحيحا؛ فهي
التنويريون والصراعات مع المقدسات (121)
لا تنفي العذاب المطلق، وإنما تنفي العذاب الأكبر الحقيقي، والذي لا يكون إلا في الآخرة، أما ما عداه؛ فهو هين جدا مقارنة بعذاب الآخرة، ولكن لا يعني أنه ليس عذابا، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47]، والتي فسرها ابن عباسٍ بقوله: (عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة) (1)
ومن الأمثلة التي ذكرها القرآن الكريم لذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112، 113]، فقد ذكر الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين، كيف أنه عجل العذاب لأهل هذه القرية، ولم يؤجله لهم، وهو لا يتنافى مع الآيات السابقة، وإنما يفهم منه أن العذاب نوعان: عذاب حقيقي كامل، وهو المؤجل إلى الآخرة، وبعد الحساب، وهناك عذاب ناقص وقاصر بالنسبة لعذاب الآخرة، وهو معجل في الدنيا أو في البرزخ.
ومثل ذلك قوله تعالى عن ثمود: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 157، 158]
بل إن الله تعالى خصص سورة في القمر بأنواع العذاب التي أصابت أهل القرى، بسبب بغيهم وظلمهم، ثم يقول بعد ذكره لكل عذاب يصابون به: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]
بل إنه يصف شدة العذاب الذي أصابهم؛ فيقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ
__________
(1) تفسير الطبري جـ 22 صـ 487.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (122)
كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 19 - 21]
وهكذا تدل هذه الآيات الكريمة على أن تأجيل العذاب لا يراد منه العذاب المطلق، وإنما يراد منه العذاب الحقيقي الذي لا يمكن أن يقارن به عذاب الدنيا، ولا عذاب البرزخ.
وهكذا نجد القرآن الكريم نفسه يخبرنا بأن العذاب المرتبط بالكافرين والمنحرفين لا يصيبهم في الآخرة فقط، بل يصيبهم في الدنيا أيضا، وفي حال الاحتضار خصوصا؛ فقد قال تعالى في أقسام المحتضرين، وكيف يعاينون العالم الذي سيفدون إليه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 - 94]
وهكذا أخبرنا عن فزع الإنسان عند اكتشافه لحقيقة المصير الذي سيصير إليه مباشرة بعد موته؛ فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]
وذكر لنا بعض العذاب الذي يصيبهم في حال الاحتضار بمجرد توفر القابلية لهم للخروج لعالم البرزخ؛ فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 50، 51]، وقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ
التنويريون والصراعات مع المقدسات (123)
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27، 28]
وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]
ولذلك، فإن القرآن الكريم لا يخبرنا فقط عن وجود عذاب القبر، أو عذاب البرزخ، وإنما يخبرنا أيضا، بأن العذاب يبدأ من لحظات الاحتضار نفسها.
وهو نفس ما قرره الحكماء والفلاسفة والروحانيين بناء على تصوراتهم للنفس الناطقة، وعلاقتها بالحقائق، وتأثيرها فيها، وهو ما يدل على أن عذاب القبر ليست قضية نصية فقط، بل يدل عليها العقل المجرد أيضا، ذلك أن القول بعدم البرزخ يعني العدم المطلق، وهو ما لم يرد عليه أي دليل، فالموت حالة من حالات الإنسان، وليس عدما، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]
وقد قال الغزالي مقررا هذه الحقيقة عند بيانه لمعنى سوء الخاتمة: (اعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم من الأخرى؛ فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد.. والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها؛ فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره؛ فيتفق قبض روحه في
التنويريون والصراعات مع المقدسات (124)
تلك الحال؛ فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها، ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب، ومهما حصل الحجاب نزل العذاب، إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه، فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى، فتقول له النار: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي، فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا، فالأمر مخطر لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه، إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح، وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك) (1)
ثم عقب على ذلك بقوله: (فإن قلت فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة، ويمهل طول هذه المدة؛ فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان، بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم، كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة، وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر، والتعذيب بعده، ثم المناقشة في الحساب، والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة، إلى آخر ما وردت به الأخبار فلا يزال الشقي مترددا في جميع أحواله بين أصناف العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته) (2)
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 173)
(2) إحياء علوم الدين (4/ 174)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (125)
وهكذا نجد الآيات القرآنية الكثيرة تخبر بأن العذاب يبدأ مباشرة بعد الموت، وذلك باستعمال الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن آل فرعون: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52]
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن قوم نوح عليه السلام: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]؛ فقد أخبر الله تعالى أن قوم نوح عليه السلام، عذبوا عذابين: عذابا في الدنيا بغرقهم، وعذابا في البرزخ بإدخالهم النار، وذلك باستعمال الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب.
ولم يكتف القرآن الكريم بهذه الشواهد الواضحة، والتي لا تتعارض مع كون العذاب الحقيقي هو عذاب الآخرة، لأن ما دونه لا يساوي شيئا بجانبه، وإنما ذكر هذا العذاب بصيغة صريحة لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، فقال عن قوم فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]
فقد أخبر أنهم وفي الوقت الحالي يعرضون على الناس غدوا وعشيا، وذلك ما يعني حياتهم في البرزخ على عكس ما يصور المنكرون لعذاب القبر، وهي أيضا تؤكد ما ذكرنا من أن العذاب الشديد يكون في الآخرة، لا في البرزخ، وبذلك يجمع بين الآيات التي تخبر عن تأجيل العذاب إلى الآخرة، وبين سائر الآيات.
ولم يملك صبحي منصور بعد إيراده لهذه الآيات الكريمة إلا أن يسلم بها، لكنه راح يحتال عليها بكون عذاب البرزخ مرتبطا فقط بآل فرعون، ولسنا ندري ما وجه التخصيص، مع أن القرآن الكريم يعتمد الأمثال والنماذج ليقرر الحقائق، والعاقل هو
التنويريون والصراعات مع المقدسات (126)
الذي يفهم الحقائق بإطلاقها، لا ذلك الذي يقصرها على شواهدها.
وهكذا نرى القرآن الكريم يرد على تلك الشبه التي يتعلق بها التنويريون، والذين يوردون بعض الآيات التي تتحدث عن كون أهل البرزخ يذكرون بعد بعثهم بأنهم كانوا في مرقد كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 51، 52] بآيات كثيرة تقرر وجود حياة حقيقية عند البرزخ.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى عن الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170]، فهاتان الآيتان الكريمتان تقرران بدقة ووضوح حياة الشهداء في البرزخ.
وهي لا تتنافى أبدا مع الآيات السابقة، والتي تذكر مقولة الخلائق بعد البعث، ذلك أن المراد منها هو كون الأجساد في مرقد، وكونها كذلك لا يعني عدم نعيمها، أو عدم عذابها.
بل إن النصوص تدل على أن كل حياة متدنية تعتبر موتا ونوما بالنسبة لما قبلها، كما وردت الإشارة إلى ذلك في الأثر: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) (1)
وقد أقر صبحي منصور في كتابه الذي حاول أن يستدل فيه على عدم عذاب القبر بحياة الشهداء في البرزخ، لكنه جعله خاصا بهم، كما خصص العذاب بقوم فرعون ونوح، وهذا كله تصرف بالهوى المجرد مع النصوص المقدسة التي من شأنها أن تذكر
__________
(1) البيهقي في الزهد الكبير (515) من قول سهل التستري، ورواه أبو الفضل الزهري في حديثه (710) من قول بشر بن الحارث.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (127)
الحقائق، لا أن تؤرخ لجهة من الجهات.
وقد قال في ذلك: (الذى يفقد حياته قتلاً مضحياً بها فى سبيل الله تعالى يهبه الله حياة أبدية وقت البرزخ وفى الآخرة يعيش فى نعيم دائم.. وفى المقابل فهناك من عاش حياته الدنيا بأكملها يحارب الله تعالى ويضطهد النبى المرسل إليه حتى يفقد حياته فى سبيل الشيطان، وذلك ما ينطبق على آل فرعون وقوم نوح فقط، ونقول فقط مع كثرة المكذبين الذين حاربوا الله ورسله، لأن القرآن ذكرهم فى هذا الخصوص بالتحديد، وذكر أيضاً أن المجرمين حين تقوم الساعة يقسمون ما لبثوا غير ساعة، إذن القاعدة العامة أن المجرمين يستيقظون عند البعث وقد مرت عليهم فترة البرزخ بدون إحساس أو شعور أو عذاب.. والاستثناء هو حالة آل فرعون وقوم نوح)
ولسنا ندري دليله على هذا الاستثناء، ولم لا يضع فيه أيضا تلك النصوص النبوية التي تجعل ذنوبا أخرى كالنميمة وعدم التنزه من البول وغيرها من موجبات عذاب القبر.
ولهذا فإن التنويريين أنفسهم يقرون بأن قوله تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]، لا يفهم فهما حرفيا، بل يفهم على ضوء سائر القرآن الكريم، من كون المرقد دلالة على القبر أو على الحياة المتدنية، لا على كون مرحلة البرزخ تساوي صفرا زمنيا، كما يزعم بعضهم.
وقد حاول صبحي منصور أن يستعمل كل الوسائل للفرار مما تقتضيه الآيات الكريمة الواردة في آل فرعون، فراح يجادل في مصطلح [عذاب القبر]، فقال: (إن عذاب فرعون ليس فى القبر، ولكنه عذاب فى البرزخ لأن الخصوصية التالية لفرعون أن الله أنجى جسده وقال له عند الموت {فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}
التنويريون والصراعات مع المقدسات (128)
(يونس 92). ولو كان هناك عذاب قبر كما يقول أشياع الثعبان لظل جسد فرعون فى القبر ينهشه الثعبان)
ونحن وكل من يؤمن بعذاب القبر يقره على هذا؛ فمصطلح [عذاب القبر] ليس المراد به القبر فقط، فحتى الذي لا يقبر قد يعذب، وقد ينعم.. ولكن جرى الاصطلاح على هذا، مع أن القبر ليس فقط محلا للعذاب، وإنما هو أيضا محل للنعيم، لكن جرى الاصطلاح على تسميته بالعذب، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وهكذا لو قرأنا القرآن الكريم، وتدبرناه لوجدنا فيه الآيات الكثيرة التي تصرح بعالم البرزخ بما فيه من نعيم أو عذاب، بل تصرح ببعض تفاصيله، كالمساءلة في عالم البرزخ، والتي نص عليها قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وقد ورد في الحديث ما يفسرها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّي محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك قوله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]) (1)
الشبهة الثالثة ـ عذاب القبر والسنة المطهرة
يقف التنويريون موقفين من الأحاديث النبوية المطهرة، والتي تنص صراحة على حياة البرزخ، بما فيها من نعيم أو عذاب.
أما أحدهما، وهو يمثل من يسمون أنفسهم [قرآنيين]، فهو لا يهتم بتلك الأحاديث، ولا يراعيها، لأنه لا يعتبرها مصدرا مقدسا؛ فهو يرى أن القرآن الكريم
__________
(1) رواه البخاري حديث: 1369/ مسلم حديث: 2871.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (129)
وحده يمكن أن يهديه للحقائق، ولا خطاب لنا مع هذا الصنف عند هذه الشبهة، لأنا خاطبناه في الشبهة السابقة، وبينا أن القرآن الكريم ينص صراحة على عذاب القبر، حتى أن شيخ القرآنيين المحدثين لم يملك إلا أن يقر بذلك، لكنه خصه بقوم فرعون، وقوم نوح عليه السلام، وهو نوع من الهروب من الحقيقة القرآنية التي دلت عليها كل الأدلة.
أما الثاني، وهو الذي يقر بالسنة، ولكنه يتعامل تعاملا مزاجيا معها، ذلك أنه يضع حدودا للسنة المقبولة تتناقض كل حين، بحيث لا يستطيع هو نفسه أن يضع ضابطا يطبقه على الجميع.. فإن أراد بالسنة المتواترة تواترا لفظيا فقط، فسيلغي الكثير من العقائد والشرائع التي يقر بها، ذلك أن مثل هذا التواتر لا يكاد يوجد.. وإن أراد بالسنة ما تواتر معنويا، فعذاب القبر مما تواتر معنويا خاصة إن قبلنا بتلك النصوص والروايات الكثيرة التي تعتمدها المدرسة الشيعية، والتي نص جميع أئمتها ابتداء من الإمام علي نفسه على عذاب القبر، وله فيها مواعظ لا تزال تردد في المجالس الشيعية.. وإن أراد عدم مخالفة القرآن، فأحاديث البرزخ تفسر القرآن، ولا تتناقض معه.. وإن أراد عدم موافقة العقل، فلست أدري أي عقل يقصد، ذلك أن كبار العقلاء والفلاسفة يقرون بحياة البرزخ وأنواع النعيم والعذاب فيها كما سنرى.
انطلاقا من هذا، سنورد هنا بعض الأحاديث الواردة في المصادر الحديثية المختلفة، بل في أوثق المصادر، والتي لا يستطيع أي محترم للسنة النبوية المطهرة، أن يردها هكذا، خاصة مع كثرتها، ودلالتها الواضحة.
فمن تلك الأحاديث ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ قائلا: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح
التنويريون والصراعات مع المقدسات (130)
الدجال) (1)
ومنها حديث مروره صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبيرٍ، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) (2)
ومنها ذلك الحديث الذي توهم البعض أنه يدل على أن هذه العقيدة مأخوذة عن اليهود، وهو أن يهوديةً دخلت على عائشة؛ فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عذاب القبر، فقال: (نعم، عذاب القبر حق) (3)، فلا إشكال فيه، ذلك أن العبرة بالحديث، وليس بمورده، فكون عائشة لم تعلم ذلك إلا في ذلك الحين، لا علاقة له بالحديث، وقد يكون حصل ذلك في أول الهجرة، حين كان لليهود وجود في المدينة.
أما قول عائشة: (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدُ صلَّى صلاةً إلا تعوذ من عذاب القبر)، فلا يدل ـ كما يتوهم ـ على أنه لم يكن يقول ذلك قبل ذلك، فهي أخبرت عن رؤيتها، ولم تخبر عن كل الأحوال، وهذا متفق عليه عند الأصوليين، بل حتى في الواقع؛ فعدم الثبوت لا يعني عدم الإثبات.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة (صباحًا) والعشي (مساءً)، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: (هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) (4)).
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربعٍ: من
__________
(1) البخاري حديث: 6376.
(2) البخاري حديث 218 / مسلم حديث 292.
(3) البخاري حديث: 1372.
(4) البخاري حديث 1379/ مسلم حديث 2866.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (131)
عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال) (1)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) (2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) (3)
وتخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأمة بالابتلاء في قبورها لا يعني عدم ابتلاء سائر الأمم، وإنما قد يعني أن هناك من لا يبتلى كأهل الفترة ونحوهم، بدليل ما ذكر في القرآن الكريم عن قوم نوح وآل فرعون.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العبد إذا وضع في قبره، وتولى وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم (صوتها عند المشي)، أتاه ملكان، فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فيراهما جميعًا، وأما الكافر ـ أو المنافق ـ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقةٍ من حديدٍ ضربةً بين أذنيه، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الثَّقَلين) (4)
ومنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج بعدما غربت الشمس، فسمع صوتًا، فقال: (يهودُ تُعذَّب في قبورها) (5)
__________
(1) مسلم حديث: 588.
(2) مسلم حديث: 627.
(3) مسلم حديث: 2867.
(4) البخاري حديث: 1338/ مسلم حديث: 2870.
(5) البخاري حديث: 1375/ مسلم حديث: 2869.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (132)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا يستطيع المسلم المسلّم للنبوة أن ينكرها جميعا، بل قد يكتفي بمناقشة بعضها بسبب بعض رواتها، أو قد يناقش في كون بعضها روي بالمعنى، أما أن يرميها جميعا، خاصة مع عدم مخالفتها للقرآن الكريم، ولا للعقل، فهو محض هوى.
وقد رويت هذه الأحاديث عن جمع كثير من الصحابة، لا كما يذكر التنويريون بأنها لم ترو إلا عن خمسة منهم، فقد قال عبدالغني المقدسي: (الإيمان بعذاب القبر حق واجب، وفرض لازم، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: علي بن أبي طالب، وأبو أيوب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بَكْرة، وأبو رافع، وعثمان بن أبي العاص، وعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأختها أسماء، وغيرهم) (1)
وقال حافظ حكمي: (نصوص السنة في إثبات عذاب القبر قد بلغت في ذلك مبلغ التواتر؛ إذ رواها أئمة السنة وحَمَلة الحديث ونقَّاده عن الجم الغفير والجمع الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منهم: أنس بن مالكٍ، وعبدالله بن عباسٍ، والبراء بن عازبٍ، وعمر بن الخطاب، وابنه عبدالله، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت أبي بكرٍ، وأبو أيوب الأنصاري، وأم خالدٍ، وأبو هريرة، وأبو سعيدٍ الخدري، وسمرة بن جندبٍ، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابتٍ، وجابر بن عبدالله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وزيد بن أرقم، وأبو بكرة، وعبدالرحمن بن سمرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبوه عمرو، وأم مبشرٍ، وأبو قتادة، وعبدالله بن مسعودٍ، وأبو طلحة، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وعبدالرحمن بن حسنة، وتميم الداري، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، والنعمان بن
__________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد ـ لعبدالغني المقدسي ص 174: 172.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (133)
بشيرٍ، وعوف بن مالكٍ) (1)
ولهذا حكى الكثير من العلماء تواتر هذه الروايات في المدرسة السنية وحدها، فقد قال الشوكاني، وهو من هو في علم الحديث: (تواترت بعذاب القبر الأحاديث الصحيحة، ودلت عليه الآيات القرآنية) (2)
ومما يقوي ذلك التواتر الأحاديث والروايات الكثيرة في المدرسة الشيعية، وهو ما يعطي المسألة قوة كبيرة تفوق التواتر، لأنه حينها يصبح إجماعا للأمة، لا مجرد إجماع للطائفة، والإجماع أكبر من التواتر، لأن التواتر قد يحصل في مدرسة واحدة، ويعبر عن وجهة نظرها فقط، بخلاف الإجماع الذي يدل على اجتماع الجميع.
ونحب أن ننبه الذي لا يعرف منهج الشيعة في التحديث إلى أن الروايات عندهم، وإن ظهرت بصيغة الوقف أو الانقطاع إلا أن لها حكم الرفع عندهم، لما روي عن الإمام الصادق، قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل) (3)
وأهل السنة يفعلون ذلك أيضا حين يحكمون على روايات الصحابة التي لا مجال فيها للاجتهاد بأن لها حكم المرفوع، كما قال محمد الأمين الشنقيطي: (فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع، كما تقرر في علم الحديث، فيقدَّمُ على القياس،
__________
(1) معارج القبول لحافظ حكمي جـ 2 صـ 117.
(2) فتح القدير للشوكاني ج 1 ص 184.
(3) الكليني في الكافي ج 1 ص 66.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (134)
ويُخَصُّ به النص، إن لم يُعْرَف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات) (1)
بناء على هذا، فمن روايات الشيعة في هذا ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يأتي على الميت ساعة أشدّ من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين، يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد مرتين، وفي الثانية بفاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرات ويسلم، ويقول: اللهم صلّ على محمد وآل محمد وأبعث ثوابهما إلى قبر ذلك الميت فلان ابن فلان، فيبعث الله من ساعته ألف ملك إلى قبره، مع كلّ ملك ثوب وحلّة، ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور) (2)
ورووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من صام اثني عشر يوماً من شعبان زاره في قبره كلّ يوم سبعون ألف ملك إلى النفخ في الصور) (3)
ورووا عن الإمام علي في رسالته لمحمّد بن أبي بكر، وقوله له: (يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته) (4)
ورووا عنه أنّه قال: (وبادروا الموت في غمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدّوا له قبل نزوله، فإنّ الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس، وشدّة الإبلاس، وهول المطّلع، وردعات الفزع، واختلاف الأضلاع، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد، وضيقة الوعد، وضمّ
__________
(1) مذكرة أصول الفقه (ص 256)
(2) بحار الأنوار، ج 6، ص 244.
(3) وسائل الشيعة، ج 10، ص 498..
(4) بحار الأنوار، ج 6، ص 218..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (135)
الضريح، وردم الصفيح) (1)
وروي في الدعاء عن الإمام زين العابدين: (اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين، وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين) (2)
وعنه قال: (.. فإذا دخلها (أي حفرة القبر) عبدٌ مؤمنٌ، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنت أحبّك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك، فيفسح له مدى البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، ويخرج من ذلك رجلٌ لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قط أحسن منك! فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله) (3)
ورووا عن الإمام الصادق، قال: (وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر؛ لأن للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة؛ ليأخذ أهبّته، ثم يقدّمه إلى شفير القبر) (4)
ورووا عنه أنه قال: (إنّ لكلّ شي ء قلباً، وإنّ قلب القرآن يس، من قرأها قبل أن ينام أو في نهاره قبل أن يُمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتَّى يُمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل الله به مئة ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن
__________
(1) بحار الأنوار، ج 60، ص 244..
(2) الصحيفة السجادية، دعاؤه رقم 206، بحار الأنوار، ج 91، ص 123.
(3) الكافي، ج 3، ص 130.
(4) من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 170..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (136)
كلّ آفة، وإن مات في يومه أدخله الله الجنّة) (1)
وعنه قال: (أيّما مؤمن عاد مؤمناً في الله عزّ وجلّ في مرضه، وكّل الله به ملكاً من العوّاد يعوده في قبره، ويستغفر له إلى يوم القيامة) (2)
وسأله أبو بصير: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ فقال: (نعوذ بالله منها، ما أقلّ من يفلت من ضغظة القبر) (3)
هذه مجرد نماذج، وإلا فالأحاديث الواردة عنهم في ذلك كثيرة جدا، وهي تفوق التواتر بكثير، ولهذا صارت الإيمان بحياة البرزخ من العقائد المقررة الأساسية في كتب الشيعة كما هي في كتب السنة، كما عبر عن ذلك الإمام الصادق بقوله: (من أنكر ثلاثة أشياء، فليس من شيعتنا: المعراج، والمُساءلة في القبر، والشفاعة) (4)
وهكذا نجد علماء المدرسة السنية يقررون هذا في باب العقائد، من دون خلاف، ومن أقول العلماء في ذلك، قول حنبل: (قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره؛ قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، قلت: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور) (5)
وقال أبو جعفر الطحاوي: (نؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهلًا، وسؤال منكرٍ
__________
(1) وسائل الشيعة، ج 6، ص 247..
(2) الكافي، ج 3، ص 120..
(3) الكافي، ج 3، ص 236..
(4) أمالي الصدوق: 370 / 464.
(5) الروح لابن القيم ص 77.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (137)
ونكيرٍ في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران) (1)
وقال ابن حزم تعليقا على قوله تعالى في آل فرعون: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]: (فهذا العرض هو عذاب القبر، وإنما قيل: عذاب القبر، فأضيف إلى القبر؛ لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون، وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع، والغريق تأكله دواب البحر، والمحرق، والمصلوب، والمعلق، فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان هؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مسألة، ونعوذ بالله من هذا، بل كل ميت فلا بد من فتنة وسؤال، وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة، فيوفون حينئذٍ أجورهم، وينقلبون إلى الجنة أو النار) (2)
وقال النووي: (مذهب أهل السنة: إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة؛ وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رواية جماعةٍ من الصحابة في مواطن كثيرة، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزءٍ من الجسد ويعذبه، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به، وجب قبوله واعتقاده) (3)
وغيرها من النصوص الكثيرة التي نجدها في كتب العقائد في المدارس الإسلامية المختلفة، وهي كافية للعاقل حتى لا يتجرأ على مخالفة جميع الأمة، بسبب رأي رآه أو
__________
(1) شرح الطحاوية ج 2 ص 157.
(2) الفصل في الملل والنحل لابن حزم ج 4 ص 56.
(3) مسلم بشرح النووي ج 9 ص 223.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (138)
سمعه من غيره، من غير تحقيق ولا تثبت.
الشبهة الرابعة ـ تعارض عذاب القبر مع العقل
وهي الشبهة الأساسية التي ينطلق منها التنويريون من أجل إلغاء هذه القضية العقدية، أو التهوين من شأنها، ولأجل ذلك يحاولون استخدام القرآن الكريم كسند لعقولهم، لعلمهم أن العقل وحده لا يكفي للتدخل في الأمور الغيبية.
ومن خلال استقراء مقولاتهم المرتبطة بالاستدلال العقلي على إنكار عذاب القبر يمكن أن نجد ثلاث شبهات:
أولها ـ خلطهم بين التعقل والتصور؛ وتوهمهم أن ما لا يدركونه بحواسهم ليس له وجود واقعي، وهذا غير صحيح، لأن عذاب القبر مثله مثل سائر عالم الغيب، لا علاقة للحواس به، فلذلك يكون التعامل معه بالتعقل، لا بالتصور.
ومن هذا الباب توهمهم أن المراد من عذاب القبر ونعيمه، ارتباطه بالقبر الحقيقي المعروف، وهذا غير صحيح، وإنما هذه التسمية جاءت من باب الغالب، لا من باب الحقيقة المطلقة، والتسمية الصحيحة لذلك، بحسب ما يذكر القرآن الكريم هي البرزخ، وهي المرحلة الفاصلة بين الحياتين الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]
ولهذا نرى العلماء ينبهون كل حين إلى أن المراد بالقبر هي حياة البرزخ، لا القبر في حد ذاته، كما قال قال النووي: (لا يمنع من سؤال الملكين وعذاب القبر كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك، فكما أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك، فكذا يعيد الحياة
التنويريون والصراعات مع المقدسات (139)
إلى جزءٍ منه أو أجزاءٍ وإن أكلته السباع والحيتان، فإن قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر؟! فالجواب أن ذلك غير ممتنعٍ، بل له نظير في العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذةً وآلامًا لا نحس نحن شيئًا منها، وكذا يجد اليقظان لذةً وآلمًا لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جلي، وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب) (1)
والمؤمن الذي يؤمن بالغيب، وبقدرة الله المطلقة، لا يتساءل عن الكيفية؛ فذلك لله تعالى، وعقولنا أقصر من أن تعرف حقيقة عالم الغيب، بل هي أقصر من أن تعرف عالم الشهادة، ولكن مع ذلك حاول العلماء أن يبسطوا هذا المعنى، ويقربوه خاصة لأولئك الذين يذكرون أنهم يرون الموتى بصورة عادية، ولا يرون أي آثار للعذاب عليهم.
وقد حاول الغزالي أن يقرب للعقول الكثيفة هذا المعنى، فذكر تعقيبا على تلك النصوص المقدسة التي تذكر الحيات والعقارب وأنواع العذاب درجات الإيمان بهذا؛ فقال: (فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة، وأسرار خفيّة، ولكنها عند أرباب البصائر واضحة، فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها. بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم، فإن قلت: فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه، ولا نشاهد شيئا من ذلك، فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة؟) (2)
__________
(1) مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 224.
(2) إحياء علوم الدين، ج 6 ـ الجزء 16، ص: 6.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (140)
ثم راح يجيب على هذا السؤال، بأن للمؤمن ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا:
أولها، وهو أكملها وأظهرها وأصحها وأسلمها وأكثرها أدبا مع الله، وهي التصديق موجودة فعلا، كما ورد في النصوص المقدسة، وهي تلدغ الميت، ولكننا لانشاهدها، لأن (هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت. أما ترى الصحابة رضي اللّه عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل، وما كانوا يشاهدونه، ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده؟)
ثم خاطب الغزالي من يشكك في هذا، بقوله: (فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك. وإن كنت آمنت به، وجوّزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة، فكيف لا تجوّز هذا في الميت؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات، فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا، بل هي جنس آخر، وتدرك بحاسة أخرى)
ثانيها، وهو للتقريب، وليس للحقيقة المطلقة، وقد عبر عنه الغزالي بقوله: (أن تتذكر أمر النائم، وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه، وهو يتألم بذلك، حتى تراه يصبح في نومه، ويعرق جبينه، وقد ينزعج من مكانه. كل ذلك يدركه من نفسه، ويتأذى به كما يتأذى اليقظان، وهو يشاهده، وأنت ترى ظاهره ساكنا، ولا ترى حواليه حية، والحية موجودة في حقه، والعذاب حاصل، ولكنه في حقك غير مشاهد. وإذا كان العذاب في ألم اللدغ، فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد) (1)
وطبعا؛ فإن المراد الغزالي من هذا هو التقريب، لا الحقيقة المطلقة، لأنها غيب،
__________
(1) إحياء علوم الدين، ج 6 ـ الجزء 16، ص: 6.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (141)
والذي خلق النوم، وأودع فيه تلك القدرات، يمكن أن يخلق غيره، ولا عجب في ذلك عند صاحب القدرة المطلقة.
ثالثها، وهو أدنى المراتب، وقد عبر عنه الغزالي بقوله: (.. أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم، بل الذي يلقاك منها وهو السم، ثم السم ليس هو الألم، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم؛ فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة.. وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب: والسبب يراد لثمرته لا لذاته) (1)
ثم ختم هذه المراتب ـ كعادته ـ بنصيحة غالية قال فيها: (والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك في تفصيل ذلك، ولا تشتغل بمعرفته، بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب كيفما كان، فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك، كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه، فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين، أو بسيف، أو بموسى، وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه، وهذا غاية الجهل، فقد علم على القطع أن العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم، أو نعيم مقيم، فينبغي أن يكون الاستعداد له. فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان) (2)
وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي ما أشار إليه الغزالي من التسليم لأمور الغيب من دون بحث فيها، ولا في كيفيتها، لتجاوزها حدود العقول؛ فقال: (قد تواترت الأخبار
__________
(1) إحياء علوم الدين، ج 6 ـ الجزء 16، ص: 7.
(2) إحياء علوم الدين، ج 6 ـ الجزء 16، ص: 8.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (142)
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عَوْدَ الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا، وسؤال الملكين في القبر يكون للروح والبدن جميعًا، وكذلك عذاب القبر يكون للروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم الروح وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به) (1)
ثانيها: توهمهم أن عذاب القبر يتنافى مع رحمة الله، وهذا غير صحيح؛ بل إن النصوص تدل على أن ما يظهر للإنسان في قبره هو عمله المتجسد له؛ فلذلك لا يلقى الإنسان في قبره إلا ما قدمه من عمل صالح، أو عمل سيء، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (2)
وتجسد الأعمال (3) مما دلت عليه النصوص الكثيرة، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8]، وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ 163.
(2) مسلم، 2577..
(3) تجسم الأعمال يعني: أنّ كل عمل يقوم به الإنسان سواء كان حسناً أو سيئاً، له صورتان، الأولى دنيوية، والثانية أخروية، وتكمن هاتان الصورتان في جوف وداخل العمل، وفي يوم الحشر وبعد التحولات والتطورات التي تحصل فيها، فإنّ العمل يترك صورته الدنيوية ويتجلّى ويتمثّل، ويظهر في صورته الأخروية الواقعية، وبها ينعم الإنسان ويتلذذ، أو يخسر ويتأذى. [السبحاني، مفاهيم القرآن، ج 8، ص 330.].
التنويريون والصراعات مع المقدسات (143)
وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا بعض أصحابه: (لا بُدَّ لك من قرين يُدفن معك وهو حيٌ، وتدفن معه وأنت ميتٌ، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن أصلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلا منه، وهو فعلك) (1)
وبذلك، فإن العذاب في القبر وغيره لا يتعارض مع رحمة الله، لأن الله تعالى جعل أسبابا للنعيم، وأسبابا للعذاب، فمن فعل السبب، لابد أن يتحمل النتيجة، مثل الذي يضع يده على التيار الكهربائي، فإن سنة الله فيه أن يصعق، وكذلك المعاصي، فإن لها آثارها الذاتية التي لا يمكن تفاديها.
وقد أشار الغزالي إلى هذا المعني، وفسر به الروايات الواردة في ذلك، فقال تعليقا على الأحاديث التي تذكر الحيات والعقارب في القبر: (ولا ينبغي أن يتعجب من هذا العدد على الخصوص، فإن أعداد هذه الحيّات والعقارب بعدد الأخلاق المذمومة من الكبر، والرياء، والحسد، والغل، والحقد، وسائر الصفات، فإن لها أصولا معدودة، ثم تتشعب منها فروع معدودة، ثم تنقسم فروعها إلى أقسام. وتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات، وهي بأعيانها تنقلب عقارب وحيات، فالقوي منها يلدغ لدغ التنين، والضعيف يلدغ لدغ العقرب، وما بينهما يؤذى إيذاء الحية. وأرباب القلوب والبصائر يشاهدون بنور البصيرة هذه المهلكات وانشعاب فروعها، إلا أن مقدار عددها لا يوقف عليه إلا بنور النبوة) (2)
__________
(1) الصدوق، الأمالي، النص 3، المجلس الأول.
(2) إحياء علوم الدين، ج 6 ـ الجزء 16، ص: 6.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (144)
ثم بين وجه ارتباط عذاب الميت بعد موته بهذا؛ فقال: (وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت، فتكون آلامها كآلام لدغ الحيّات من غير وجود حيّات. وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق، فإنه كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما، حتى يرد بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال) (1)
ثم راح يطبق هذا المثال، باعتباره الحقيقة، لا مجرد مثال؛ فقال: (بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت، فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه، فصار يعشق ماله، وعقاره، وجاهه، وولده، وأقاربه، ومعارفه، ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو، استرجاعه منه فما ذا ترى يكون حاله؟ ليس يعظم شقاؤه، ويشتد عذابه، ويتمنى ويقول ليته لم يكن لي مال قط، ولا جاه قط، فكنت لا أتأذى بفراقه؟ فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعه واحدة.. فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا، فتؤخذ منه الدنيا وتسلّم إلى أعدائه، ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسّره على ما فاته من نعيم الآخرة، والحجاب عن اللّه عز وجل، فإن حب غير اللّه يحجبه عن لقاء اللّه والتنعم به، فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته، وحسرته على ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد، وذل الرد والحجاب عن اللّه تعالى، وذلك هو العذاب الذي يعذّب به، إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم)
وبخلاف ذلك حال المؤمن، فهو ـ كما يصفه الغزالي ـ (من لم يأنس بالدنيا، ولم يحب إلا اللّه، وكان مشتاقا إلى لقاء اللّه، فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاسات الشهوات فيها، وقدم على محبوبه، وانقطعت عنه العوائق والصوارف، وتوفر عليه النعيم مع الأمن
__________
(1) إحياء علوم الدين، ج 6 ـ الجزء 16، ص: 6.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (145)
من الزوال أبد الآباد، ولمثل ذلك فليعمل العاملون)
ونحب أن نشير هنا إلى ما ذكرناه بتفصيل في كتاب [أسرار الأقدار]، من أن هذا العذاب الذي يعذب به المؤمن في قبره نتيجة بعض معاصيه هو في الحقيقة رحمة به، لأنه يربيه، ويطهره، حتى يأتي يوم القيامة سالما طاهرا من ذنوبه، لأن عذاب الآخرة {أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]
ثالثها: تصورهم أن المصلحة الشرعية تقتضي تغليب الرجاء على الخوف، وأنه لا يصح أن يذكر للناس عذاب القبر ونحوه، لأن ذلك قد يؤذيهم، ويخيفهم، ويقنطهم من رحمة الله.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عدنان إبراهيم في شريط متداول له تحدث فيه عن أمان المؤمن يوم القيامة استنادا إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، حيث فسّر الظلم بالشرك، واعتباره قاصرا عليه، مع أن القرآن الكريم اعتبر كل معصية ظلما.
ثم راح يستهزئ بالذين يخوّفون الناس من عذاب يوم القيامة، ومن عذاب القبر، ويملئون الدنيا بتلك الرسائل والأشرطة عن فزع يوم القيامة وأهوال القبر، ولست أدري ما المانع من ذلك إن كان الغرض منه الدعوة إلى التقوى والصلاح.
فالقرآن الكريم نفسه مارس هذا، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
وهو نفسه الذي أخبر عن حال المؤمنين، بل المقربين منهم، وخشيتهم لله؛ فقال: {نَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
التنويريون والصراعات مع المقدسات (146)
تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 5 - 10]}
ثم عقب على ذلك بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]
وهكذا عندما ذكر عباد الرحمن، قال عنهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63 - 66]
وهكذا نرى القرآن الكريم يتوعد المؤمنين بالعذاب الشديد على المعاصي المختلفة، ولم يذكر أبدا أنهم ما داموا مؤمنين، فهم معفون من ذلك.
ومن أمثلة ذلك تلك التهديدات الإلهية الخطيرة المرتبطة بآكل الربا، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]، فهل يضمن عدنان إبراهيم لآكلي الربا ألا يعذبوا في الآخرة بسبب عدم كونهم من المشركين؟
وهكذا توعد الله تعالى آكلي مال اليتيم؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، فهل يضمن هؤلاء ألا يعذب آكل مال اليتيم؟
وهكذا؛ فإن من علامات المؤمنين تذكر الأهوال وأنواع العذاب، حتى تردع النفس الأمارة وتؤدب، ولهذا ورد في النصوص المقدسة بيان الأعمال التي يعذب بها
التنويريون والصراعات مع المقدسات (147)
صاحبها في القبر، حتى تكون تحذيرا له، وليس من الأدب مع الله تعالى، ولا مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي استعمل هذه الوسيلة التربوية في أن نقوم نحن بالتهوين منها وتحقيرها.
وقد أحصى ابن القيم الكثير من المعاصي التي ورد في شأنها الوعيد بعذاب القبر، فذكر منها (النمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصن، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا علم له به، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب الخمر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا، ومعطيه، وكاتبه، وشاهداه، والمحتال على إسقاط فرائض الله تعالى، وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والمُعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه على سنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، والمغنون الغناء الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والمستمع إليهم، والمطففون في الكيل والميزان، والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون، واللمازون، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرَّافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله تعالى وذكَّرته به لم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وكفَّ عما هو فيه، والذي يجاهر بالمعصية ويفتخر بها بين الناس، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الناس اتقاء شره، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، والذي لا يبالي بما حصل من المال، من حلال
التنويريون والصراعات مع المقدسات (148)
أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين، ولا الأرملة، ولا اليتيم، ولا الحيوان البهيم، بل يزجر اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي الناس بعمله؛ ليكسب مدحهم له، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه ـ فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغيرها وكبيرها) (1)
وبذلك يصبح عذاب القبر وسيلة تربوية، تقمع الناس الأمارة بالسوء، وتعيدها إلى جادة الصواب، مثلها مثل ما ذكر في عذاب الآخرة، وقد روي عن روي عن الإمام علي قال في بعض خطبه: (.. والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتّى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنّما سودّت وجوهم بالعظلم، وعاودني مؤكّداً وكرر عليّ مردداً فأصغيت إليه سمعي فظنّ أنّي أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى، وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم صدقة أم زكاة فذلك محرّم علينا أهل البيت؟ فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين الله أتيتني لتخدعني أم متخبط أم ذو جنّة أم تهجر؟! والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى ولذّة لا تبقى،
__________
(1) الروح لابن القيم صـ 103: 101.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (149)
نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين) (1)
وهكذا كان لذكر العذاب، وتذكره دوره التربوي الكبير، وقد سئل بعض الصالحين: كيف نصنع نجالس أقواما يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير؛ فقال: (والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك أمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف) (2)
وهو نفس ما عبر عنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]، فقد اعتبر مسارعتهم للخيرات، ومسابقتهم لها بسبب ذلك الوجل الذي يحرك قلوبهم، ويمنعهم من الركون إلى أهوائهم.
__________
(1) خطب نهج البلاغة 2 / 217.
(2) إحياء علوم الدين (4/ 162)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (150)
نتيجة لغلبة الدنيوية والمادية على الفكر التنويري، والذي يلح دائما على اعتبار الحياة الدنيا هي المحور والمركز، وهي البداية والنهاية، فإنه يحتقر الكثير من عوالم الغيب، إما بتجاهلها، وعدم الاهتمام بها، أو بنقد أولئك الذين يعيشون فيها، ويتصورون أن الإيمان لا يكمل إلا بالإيمان بها، بل باختلاط المشاعر بها إلى أن تصبح جزءا أساسيا من حياة المؤمن لاينفك عنها لحظة.
أو كما ذكر ذلك الصحابي الجليل الذي عبر عن إيمانه بقوله: (عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون)، والذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قوله هذا بقوله: (أصبت فالزم.. مؤمن نور الله قلبه) (1)
فهذا الحديث مرفوض جملة وتفصيلا عند التنويريين؛ فهم لا يؤمنون بالزهد، ولا بتلك الرياضات الروحية التي يمارسها المؤمن ليرتقي بروحه إلى الملأ الأعلى.. وهم لا يتطلعون إلى عرش الرحمن بقدر تطلعهم إلى التعرف على المجرات والنجوم والثقوب السوداء.. والجنة لا تشكل عندهم شيئا، لأن الجنة عندهم هي تلك الأبراج العالية، والحدائق المزينة الموجودة في أمريكا وأوروبا.. فتلك البلاد هي منتهى هممهم.. أما جهنم فهي ليست سوى البلاد التي يعيشون فيها، والتي يودون لو أحرقوها عن آخرها.
وهذا الكلام ليس تحاملا عليهم.. بل هو الحقيقة التي تنطق بها كلماتهم، وتنطق بها قبل ذلك ملامح وجوههم عندما يسمعون المؤمن يتحدث عن عوالم الغيب،
__________
(1) رواه البزار.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (151)
ويعطيها قيمة كبيرة في حياته.. لأنهم يريدون منه أن يعيش عالم الشهادة لا عالم الغيب، وكأن عالم الغيب يحول بينه وبين عالم الشهادة، وكأن الله تعالى لم يثن على المؤمنين الذين تركوا لأجسادهم أن تعيش في عالم الشهادة بينما تحلق أرواحهم في عوالم الغيب الجميلة، كما قال تعالى في أوائل أوصاف المؤمنين في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 2، 3]
فالإيمان بالغيب هو الأساس الذي تنطلق منه حياة المؤمن، بل هو المعيار الذي يفرق بين الإنسان الكامل الذي يعرف حقائق الوجود، ويطبق مستلزماتها، وبين ذلك الإنسان القاصر الناقص الكل الذي لا يعرف من الحياة إلا جانبها الهزيل البسيط، ولذلك تكون همته بحسب المعارف البسيطة التي يعيشها، ويتصور أنها البداية والنهاية.
ومن مسائل الغيب التي نجد للتنويريين احتقارا كبيرا لها، بل حياء عظيما منها [الجنة] التي هي سلوة المؤمن وعزاءه، كما أنها المحرك لهمته عندما تضعف نفسه، وتتخدر إرادته، حينها يتذكر ما هيأه الله للصابرين من عظيم الجزاء؛ فترتد إليه قوته وإرادته، ويصبح كالجبل الأشم الذي لا تحركه أعاصير الأهواء.
وهي فوق ذلك سلوة المريض الذي يعلم أن الجنة دار الصحة الأبدية، وسلوة الفقير الذي يعلم أن الجنة هي دار الغنى الأبدي، وسلوة المحرومين، والذين أرقتهم الحياة الدنيا لأنهم يعلمون أن الجنة هي دار الراحة الأبدية..
ولذلك لم تكن الجنة دار ضيافة إلهية في الآخرة فقط، بل هي أيضا ترياق وبلسم يداوي كل الجروح، ويملأ النفس بالطمأنينة والانشراح وكل أنواع السعادة.. فيعيش المؤمن مصحوبا بذكريات المستقبل الجميل الذي ينتظره عند الله.
لكن كل هذه المعاني التي ساهمت في الطمأنينة النفسية للمؤمنين وفي رقيهم
التنويريون والصراعات مع المقدسات (152)
الأخلاقي على الرغم من الظروف الصعبة التي يعيشونها، لم يلاحظها التنويريون، بل توهموا أنها حجاب دون العمل على الحصول على ذلك الرفاه الذي ينعم فيه الغرب، والذي لا يساوي في نظر المؤمن قطرة من بحار نعيم الجنة.
لقد تصور التنويريون ـ بسبب نظرتهم الدنيوية العوراء القاصرة ـ أن الجنة مثلها مثل كل عوالم الغيب هي سبب تخلفنا عن الغرب، وعن كوكب اليابان، وعن الكواكب الكثيرة التي يتصورون أنها الحقيقة الوحيدة المطلقة.
ومن أمثلة ذلك الجحود والاحتقار للجنة، بل السخرية منها تلك الأشرطة المنتشرة بكثرة، والتي يتحدث فيها أحد زعماء التنوير في العصر الحديث [أحمد القبانجي]، ذلك الذي يرتدي كذبا وزورا عمامة علماء الشيعة، مع كونه لا ينتسب لا للشيعة، ولا للسنة، بل هو معول لحرب كليهما، بل حرب الإسلام نفسه.
وقد أوهم ذلك بعض المغفلين بأن موقفه من الجنة وعالم الآخرة هو نفس موقف علماء الشيعة، دون أن يكلف نفسه بالبحث في التراث الشيعي، ليعرف حقيقة موقفهم من هذا.. ولكن الأحقاد تعمي وتصم.
وقد نشر القبانجي بعض أفكاره في هذه المجال في مقال (1) حاول فيه أن يبين عدم ضرورة الجنة، وأنها لا تشكل أي دافع للعمل الصاح، بل إنه لا حاجة إليها أصلا.
ولست أدري من الذي فوضه بأن يقول هذا الكلام، وهو الذي يسيل لعابه لمتاع الدنيا القليل.. لكن العقل التنويري المستكبر الذي حرم من ذلك الإيمان الذي ينعم به البسطاء والطيبون يتصور أن بيده كل شيء، ولذلك يتحكم في كل شيء، ابتداء من تحكمه في وظائف الإله نفسها.
__________
(1) انظر: الجنة والنار، أحمد القبانجي، الحوار المتمدن-العدد: 4363 - 2014/ 2 / 12 - 12:19.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (153)
وقد عبر عن ذلك الاحتقار للجنة بقوله: (أما الجنة، فليس فيها سوى إشباع للغرائز الحيوانية من أكل وشرب ونكاح، وليس فيها أي إشباع للغرائز الانسانية كالإبداع والإيثار والكرم والشجاعة ونصرة المظلوم وتعليم العلم وحب الرئاسة ووو..)
ولست أدري كيف عرف ذلك، وهل زار الجنة حتى يحكم عليها، وهل أحاط بالنصوص المقدسة التي تتحدث عن الجنة، وكونها دار الضيافة الإلهية التي تتحقق فيها كل الرغبات المشروعة، ويتحقق معها كل أنواع السمو الروحي والأخلاقي، حيث يعيش أهل الجنة الحضارة الراقية والذوق الرفيع والأدب الجم، حيث لا لغو هناك ولا تأثيم.
لكنه ـ بسبب العشى الذي أحاط ببصيرته ـ لم يعرف الجنة إلا من خلال ذلك الوعظ البارد الذي يستعمله بعض عوام الوعاظ والدعاة بعيدا عن الحقائق التي وردت في النصوص المقدسة، ولذلك توهم أن الجنة مجرد دار للمتع الجسدية وحدها.
ثم راح ـ مثل سائر التنويريين ـ يتحدث عن ذلك الكوكب الذي يسمونه كوكب اليابان؛ فيقول: (أما عمليا، فنحن نرى اليابان مثلا وهم لا يعتقدون بالجنة والنار (الديانة السائدة هناك التاوية والبوذية) أحسن من المسلمين أخلاقا وأقل كذبا وسرقة وغشا في تعاملهم وخدماتهم للبشرية معروفة، وفي المقابل نجد المسلمين مع اعتقادهم بالجنة والنار وكثرة منابر الوعظ والارشاد والكتب الدينية وخطب الجمعة أصبحوا أسوأ المجتمعات البشرية أخلاقا)
وهذا التحليل يدل على سطحية العقل التنويري، فهو لا ينظر إلى المشكلة من زاويتها الحقيقية، وإنما ينظر إليها من الزاوية التي يرغب فيها؛ فالمشكلة في المسلمين ليس
التنويريون والصراعات مع المقدسات (154)
كونهم يعتقدون بعالم الغيب، ولا بالجنة والنار، وإنما المشكلة في ضعف إيمانهم بذلك.. وإلا لو كان الإيمان بالغيب والجنة والنار قائما، لكان المسلمون قمة في الرقي الأخلاقي والحضاري.
فهم في الحقيقة مثل ذلك المريض الذي يملك الدواء، ولكن لا يستعمله؛ فيتوهم من يراه بأن الدواء لم ينفعه، ولم يجد مع مرضه، من غير أن يبحث في كون المريض استعمل الدواء أو لم يستعمله، وهل استعمله بالطريقة الصحيحة، أم استعمله بطريقة خاطئة.
ونفس الشيء يتوجه للقابنجي وللتنويريين جميعا الذين جعلوا من حديث الإرهابيين عن الجنة سببا لإلغائها واحتقارها، كما عبر القابنجي عن ذلك بقوله: (أصبح الاعتقاد بالجنة وحور العين سببا للإرهاب الآن.. أي سببا للرذيلة والجريمة لا لمنعها، فلولا الجنة وحور العين لما قام التكفيريون بقتل انفسهم وقتل الأبرياء)
وهذا يشبه أولئك الذين يحرمون الأدوية النافعة بسبب أن بعض الشواذ استعملها بطريقة خاطئة، فقتل نفسه بها.. أو يشبه أولئك الذين يمنعون من بناء الجسور حتى لا تستعمل وسيلة للانتحار.
ولم يكتف القبانجي بكل ذلك، بل راح إلى ذلك الرهان الذي يستعمله المؤمنون بالغيب في حواراتهم مع الجاحدين والملاحدة، والذي عبر عنه أبو العلاء المعري بقوله:
زعم المنجم والطبيب كلاهما... لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر... أو صح قولي فالخسار عليكما
أو ما عبر عنه بعضهم، بقوله: (قال الملحد للمؤمن: ما موقفك اذا مت ولم تجد الجنة! فرد المؤمن: لن يكون اسوأ من موقفك اذا مت ووجدت النار!)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (155)
أو ما عبر عنه مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد، والذي ذكر أنه قال له ساخرا: (ماذا يكون الحال لو اخطأت حساباتك، وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت وتراب ليس بعده شيء؟)، فأجابه مصطفى محمود بقوله: (لن أكون قد خسرت شيئا.. ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتي وصدقت توقعاتي.. وإنها لصادقة.. سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي) (1)
أو ما عبر عنه ـ قبل ذلك كله ـ الإمام الصادق مع بعض الملاحدة، حيث قال مخاطبا له: (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون، يعني المؤمنين، فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم)، فقيل له: وأي شي ء نقول وأي شي ء يقولون ما قولي وقولهم إلا واحد؟ فقال: (وكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد...) (2)
لكن القبانجي راح يرد على هذا السلاح القوي، بمقال له بعنوان [القمار مع الله!] (3)، قال فيه ساخرا: (في الدنيا نحن غير متساويين أيضا، فالمتدين يتعب نفسه بالتكاليف الشاقة كالصلاة والصوم والحج والزيارات والخمس وغيرها ويترك الملذات كالغناء والرقص والملاهي والصداقة مع الجنس الآخر، بل الزواج مع أتباع الديانات الأخرى مع وجود حب بين الاثنين، بل قد يطلب منه الدين الجهاد أو تفجير نفسه أو الكراهية لأتباع المذاهب الأخرى، وليس على الوجدانيين شيء من ذلك)
__________
(1) حوار مع صديقي الملحد.
(2) الكافي، ج 1 ص 74..
(3) انظر: القمار مع الله، أحمد القبانجي، الحوار المتمدن-العدد: 4083 - 2013/ 5 / 5 - 11:47..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (156)
وهذا كله كذب وبهتان، فكل تلك الشعائر التي يقوم بها المؤمن ليس لها علاقة بالتعب، لأن المؤمن يمارسها براحة نفسية كبيرة، بل إنه يشعر بتأثيرها في ترقية أخلاقه، وسمو روحه، وشعوره بالطمأنينة والسعادة، فوق ما لها من دور في حفظ من أهواء نفسه الأمارة بالسوء.
فالمؤمن ـ نتيجة إيمانه باليوم الآخر ـ لن يقع في الفواحش التي تدمر صحته وصحة المجتمع، ولن يدمن على المخدرات ولا على أي شيء يضره.. وفوق ذلك كله يمتلك دوافع أخلاقية عالية بخلاف ذلك الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، فهو لا يملك شيئا يسليه، كما لا يملك شيئا يدفعه لأي عمل صالح.
ولم يكتف القبانجي بذلك التزوير للحقائق، وإنما راح يفرض على الله ـ خلاف ما ورد في كتابه ـ من يدخله الجنة أو من يدخله النار، فيقول: (ما دام الانسان يسير في حياته الدنيا بوحي وجدانه ويتحلى بالفضائل ويترك الرذائل فهو من أهل الجنة لأن القرآن يقول: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] أي سليم من الحقد والحسد والانانية والتكالب على الدنيا وأمثال ذلك. ومعلوم ان التدين لا يهتم لنقاء القلب بقدر اهتمامه بالقشور والطقوس فتكون النتيجة أن خسر الدنيا والآخرة ونكون قد ربحنا الدنيا والآخرة)
وهذه كلها مغالطات، فسلامة القلب لا تقتصر على ما ذكره، بل أول سلامة للقلب هي عدم الاعتراض على الله والتسليم له والإذعان لشريعته والقيم التي جاءت بها.. أما ادعاؤه أن التدين يهتم بالقشور، فهو ناتج عن نظرته السلبية للدين مثله مثل سائر التنويريين، وإلا فإن الدين هو مجمع الفضائل، بل لا يمكن أن تتحقق الفضائل من دونه.. ذلك أنه يستحيل أن يجد البشر معايير للأخلاق، أو دوافع تحرك إليها من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (157)
دون الدين.
ويختم القبانجي حديثه عن ذلك الذي توهمه قمارا بقوله: (إن هذه الفرضية كلها بمثابة لعب القمار مع الله، لأنها تنزل بمستوى العلاقة مع الله الى الحضيض وتجعل من هذه العلاقة تجارة او قمارا، فالمتدين يصلي ويصوم.. بدافع احتمال وجود جنة ونار لا بدافع الايمان بالله والحب له والشكر لنعمائه، اي لو لم يكن هذا الاحتمال موجودا لا صلى ولا صام ولا ترك الرذائل. أما الوجداني فهو يعمل بالفضائل ويترك الرذائل لذاتها ويرتبط مع الله بدافع الحب له لا بدافع الخوف من النار والطمع في الجنة لأنه لا يؤمن بهما أساسا)
ولست أدري من الذي أخبره أن الطمع في جنة الله، يتنافى مع حب المؤمن له.. فالمؤمن يحب الله لذاته، ويحبه لصفاته، ويحبه لكرمه وجوده، والذي تجلى في الدنيا فيما وفر لخلقه من أصناف الرعاية.. وفيما سيوفر لهم في المستقبل من أضعافها.
وهل يمكن لعاقل أن يدعي أننا إذ أحببنا كريما لكونه تكرم علينا بأصناف العطاء، ووعدنا بأضعافها أننا لا نحبه إلا لأجل ما يعطينا.. هذا كذب وبهتان عظيم لأن محبة المحسن ذاتية حتى لو لم يحصل إحسانه إلى المحب..
بالإضافة إلى أن القبانجي والتنويريين معه يتصورون الجنة بحسب عقولهم البسيطة، وإلا فإن الله تعالى الذي اعتبر كل ما نراه في الدنيا من أصناف الجمال مجرد متاع قليل، واعتبر الحياة التي نعيشها حياة دنيا لا تساوي شيئا، في نفس الوقت اعتبر الحياة الأخرى هي الحياة الحقيقية يجعلنا نقف أمامها مبهوتين منبهرين لا ندري منها شيئا، أو كما قال ابن عباس: (ليس في الجنة شيءٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء) (1)
__________
(1) رواه أبو نُعَيْم في صفة الجنة (21/ 2)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (158)
ولذلك فإن كل أحاديث التنويريين عن الجنة وعالم الغيب أحاديث منطلقة من معلومات خاطئة، لأنهم تصوروا أنهم قد أحاطوا بتلك العوالم بينما هم لم يعرفوا منها شيئا، بل لم يذوقوا من شرابها اللذيذ قطرة واحدة، ولذلك استقذروا الشراب، ولو ذاقوه لفنوا عن أنفسهم، وباعوا كل ما لديهم من جاه ومال وسلطان بلحظة واحدة يعيشها المؤمن في صحبة عالم الغيب.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (159)
من الأدلة الكبرى على تناقض العقل التنويري، وكونه يتعامل بمزاجية ورغبوية مع الحقائق المختلفة موقفه من نظرية التطور، وربطها بالمصادر المقدسة، وخصوصا القرآن الكريم؛ فهو متناقض في ذلك غاية التناقض.
فبينما نراهم يشنعون على الذين يربطون بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم، ويعتبرونهم دجالين ومخرفين ومعقدين، نجدهم يفعلون ما ينهون عنه مع هذه المسألة خصوصا، مع كونها لم تثبت علميا، بل ثبت عكسها، ولم تثبت قرآنيا، بل ثبت عكسها أيضا.. ولكنهم، ولمزاجية تفكيرهم يقطعون بكلا الأمرين خلافا لكل علماء الطبيعة، ولكل علماء اللغة والتفسير.
ولا ينطبق هذا على نظرية التطور فقط، بل ينطبق على نظريات أخرى لم تثبت علميا، بل يستحيل إثباتها علميا، ومع ذلك نراهم يجتهدون في ربطها بمصادر الدين في نفس الوقت الذي يشنعون على من يربطون الحقائق القرآنية القطعية بالحقائق العلمية الثابتة.
ومن أمثلة ذلك محاولة عدنان إبراهيم للربط بين نظرية الأوتار الفائقة والمصادر المقدسة، مع أن هذه النظرية لم تثبت علميا (1)، بل يستحيل إثباتها علميا، لأن القصد منها ليس علميا، وإنما الفرار من الخالق، والبحث عن نماذج فيزيائية ترفض وجوده، أو تحاول أن تبرر وجود الكون بعيدا عنه، وقد قال عنها الفيزيائي الشهير [راسل
__________
(1) ذكرنا الأدلة العلمية الكثيرة على بطلان هذه النظرية من كلام الفيزيائيين أنفسهم في كتاب [الكون بين التوحيد والإلحاد] من سلسلة [الإلحاد والدجل]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (160)
ستانارد]: (إنها نظرية تحتاج لمصادم هيدروني بحجم مجرة لاختبارها وهذا غير ممكن.. حسنا لو قلنا ـ طبقا للنظرية ـ إن الكون خلق نفسه، فمن أوجد النظرية؟ ومن أوجد القوانين الفيزيائية الخاصة بها؟.. ورغم ذلك فلا توجد لها معادلة فيزيائية حتى الآن.. أطلب منهم أن يكتبوا معادلة فيزيائية.. لن يفعلوا لانهم ببساطة لايمتلكونها)
وهكذا موقفه من نظرية الأكوان المتعددة، مع كونها لم تثبت علميا، بل يستحيل إثباتها علميا، ومع ذلك راح يجتهد كغيره في ربطها بمصادر الدين المقدسة، وذلك لتمريرها رغم أنفها للعقل المسلم.
فالأكوان المتعددة التي يحاول ملاحدة الفيزيائيين الإشهار لها تختلف تماما عن تعدد السموات أو خلق الله الواسع، لأن الأكوان المتعددة ليست سوى احتمالات كثيرة للخلق ممتلئة بالعبث بينما الخلق المتعدد كله متناسق وليس فيه أدنى عبث، ولا يخضع لمبادئ الاحتمالات.
وقد ذكر بعضهم الدوافع النفسية لتلك النماذج، فقال: (اعتقد علماء الكون أنّ عليهم الالتفاف وراء المشكلة.. لقد حاولوا على مرّ السنوات الماضية إثبات عدة نماذج مختلفة للكون تتفادى الحاجة إلى بداية، مع الاستمرار في اشتراط انفجار عظيم.. يبدو الآن من المؤكّد أنّ الكون كانت له بداية)
وهكذا راحوا يفعلون مع نظرية التطور التي لم تثبت علميا، ولن تثبت علميا، بل إن العلم الآن يسير في مواجهتها والرد عليها، واعتبار القائلين بها مجرد خرافيين.
بل إن بدائل علمية كثيرة ظهرت كـ[التصميم الذكي] (1)، كان الأحرى بهؤلاء التنويريون الإشهار لها والتعريف بها، لكونها تتناسب تماما مع القرآن الكريم، ومع
__________
(1) شرحنا هذا البديل وأطروحاته بتفصيل في كتاب [الحياة تصميم لا صدفة] من سلسلة [الإلحاد والدجل]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (161)
العقل، والفطرة السليمة.
لكنا للأسف لا نزال نرى هؤلاء التنويريون يشيدون إلى الآن بدارون، مع كون معارفه التي جاء بها لا تساوي في موازين العلم الآن شيئا..
ولهم في ذلك مغالطات كثيرة نحاول مناقشتها هنا، ويمكن تقسيمها إلى قسمين: مغالطات مرتبطة بعلمية نظرية التطور، ومغالطات مرتبطة بتفسيرهم لبداية الخلق في القرآن الكريم.
المغالطات المرتبطة بعلمية نظرية التطور
من الأدلة التي تدل على افتقار التنويريين لكل أدوات البحث العلمي، وخاصة متابعة الجديد فيه، والاطلاع على كل ما كتب حوله، احتفاظهم بتلك المعلومات القديمة التي كتبها من انتصر من الغربيين لنظرية التطور دون البحث فيمن كتب في ردها من علماء الغرب أنفسهم، بل من المتخصصين الذين وضعوا بدائل لهذه النظرية بعد اكتشافهم لهشاشتها وبطلانها.
وبما أنا قد ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب [الحياة تصميم لا صدفة]، وكتاب [كيف تناظر ملحدا؟]، فسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض المغالطات الكبرى، التي تمرر مثل هذه النظرية على المتنورين وأتباعهم المفتقرين لأدوات البحث العلمي، والذين يكتفون فقط بمخالفة المشايخ الذين يعتبرونهم تقليديين ومحافظين ومتزمتين، ولذلك يجعلون هدفهم من تبني الحقائق هو المخالفة، لا البحث عن الحقيقة نفسها.
أولا ـ المفاهيم المتعددة لنظرية التطور
أول المغالطات التي يمرر بها التنويريون موقفهم من هذه النظرية على أتباعهم
التنويريون والصراعات مع المقدسات (162)
خلطهم بين مفهومين متداولين لهذه النظرية، أحدهما هو المفهوم الحقيقي، وهو الذي تطلق عليه النظرية عند الإطلاق، والثاني مفهوم مزيف، وأتي به بقصد تمريرها، ومحاولة إثبات أنها يمكن أن تخضع للتجربة.
أما الأول، وهو [التطور الكبير]، وهو المعروف عند الإطلاق، فيعني التغيّر في الصفات المورفولوجية والجينية مما يتسبب في الانتقال من نوع إلى نوع آخر، وهو المقصود الأصلي من نظرية التطور عند داورن وغيره من القدماء الذين تبنوا هذه النظرية، وهو الذي وقع فيه الجدل بين المتدينين من المسلمين وغيرهم، وبين الداروينيين.
وأما الثاني، وهو [التطور الصغير]؛ فيشير إلى مقدار التغير في تكرار المورث في العشيرة، ويتم التغير فيه على مستوى النوع الواحد نفسه، كتطوير كائن حي لمقاومته نحو جسم غريب، أو تغيير لون لجلد، أو تغيير في حجم عضو معين من الجسم، أو نحو ذلك.
وهذا النوع لا إشكال فيه، لأنه في أصله لا علاقة له بنظرية التطور، فالأنواع لا تنتقل فيه إلى أنواع جديد، وإنما تكتسب صفات جديدة بسبب التزاوج، ومن أمثلة ذلك أن هجرة الأوروبيين إلى أستراليا واختلاطهم بالشعب الأسترالي الأصلي، أدت إلى اختلاط العرقين، وقد أثر ذلك على أولادهم، بحيث أصبحت أشكالهم تمزج بين الأصلين.. وهم يعبرون عن هذا بالتطور البيولوجي للأستراليين.. ومن أمثلته أيضا ظهور فيروس الأنفلونزا كل مرة بصورة جديدة، بحيث لا تؤثر فيه اللقاحات السابقة.
وقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على أن هذا النوع عادي، ففي الحديث أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود ـ وهو يريد نفيه عنه ـ فقال
التنويريون والصراعات مع المقدسات (163)
له: (هل لك من إبل؟)، قال: نعم، قال: (ما ألوانها؟)، قال: حُمْر، فقال له: (هل فيها من أورق؟)، قال: نعم، قال: (فأنى كان ذلك؟)، قال: أراه عرقٌ نزعه، قال: (فلعل ابنك هذا نزعه عرق) (1)
والمغالطة التي يمارسها الداروينيون في هذا الجانب هي أنهم إذا طولبوا بدليل على التطور الكبير يذكرون أدلة التطور الصغير، وفي ذلك تغرير وخداع كبير.
وقد عبر عن هذا الخلط [مايكل بيهي] بقوله: (الدارونية الحديثة فسرت التطور الدقيق بشكل رائع، لكن عند الحديث عن التطور الكبير فعلى التطوريون أن يصمتوا)
وذكر [نيكولاس كومنينلس]، الأستاذ بجامعة ميزوري ـ كنساس، في كتابه [Darwin's Demise]، أنه من الأخطاء الشائعة في الاستدلال العلمي استخدام التكيُّفات الملحوظة في التطور الصغير لافتراض صحة التطور الكبير، والانتقال من نوع إلى نوع آخر.
ثانيا ـ كذب التنبؤات العلمية لنظرية التطور
من أهم أدلة مصداقية النظرية العلمية صدق تنبؤاتها في حال عدم إمكانية إثباتها عمليا، والأمثلة على ذلك في تاريخ العلوم كثيرة، ومن أشهرها وأقربها ما ذكرته وسائل الإعلام من أن العلماء رصدوا للمرة الأولى موجات جاذبية، وهي تموجات في المكان والزمان، تنبأ بها ألبرت أينشتاين، بالتزامن مع رصد ضوء ناجم عن الحدث الكوني نفسه، ولأجل ذلك فاز ثلاثة علماء أميركيين اكتشفوا تلك الموجات بجائزة نوبل في الفيزياء، وأثبت هؤلاء الباحثين أن النتائج التي اكتشفوها تساهم في تأكيد نظرية
__________
(1) رواه البخاري 9/ 389 و390 في الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، وفي المحاربين، باب ما جاء في التعريض، ومسلم رقم (1500)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (164)
أينشتاين (1).
لكن الأمر مختلف تماما مع كل الدعاوى والنبوءات العلمية التي طرحتها نظرية التطور، حيث نرى أنها كلها تخلفت، بل كلها أثبت الزمن عكسها تماما، فقد كان داروين ـ بعد طرحه لنظريته ـ يطمع في أن تثبت الاكتشافات اللاحقة في السجل الاحفوري نظريتة، وبناء على ذلك فإن التنبؤ الدقيق لنظرية التطور هو اكتشاف كميات كبيرة من الأشكال الانتقالية.
لكن صار المستقبل الذي كان يحلم به داروين بحد ذاته عبئا على الداروينية وكما يقول هنري جي المحرر العلمي في مجلة الطبيعة: ـ (إنّ عملية أخذ مجموعة من الحفريات والقول بأنها تعكس وجود سلسلة قرابة هي في الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها للاختبار، وكل ما في الامر انها مجرد حكاية أو حدوته من احاجي منتصف الليل المسلية التي قد تكون مُوَجِّهَةً أو مُرْشِدَةً للإنسان في كثير من الأحيان إلا أنها ومع ذلك لا تستند لأيّ أساس علمي) (2)
كما اعترفت مجلة [National Geographic] مؤخرا بقولها: (مضيء ولكن متقطع، يبدو السجل الأحفوري كفيلم للتطور فقد منه 999 من اصل 1000 صورة)
وهكذا يعترف التطوريون أن 99.9 بالمائة من الدليل مفقود، ومع ذلك يحاولون دائما خداعنا بنماذج مزيفة لحلقات انتقالية ليبرروا بها نظريتهم.
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: نبوءة أينشتاين تتأكد.. رصد متزامن لموجات الجاذبية بين أميركا وأوروبا تنبأ بها قبل أكثر من 100 عام، هاف بوست عربي، رويترز، تم النشر: 10:44 17/ 10/2017. على الرابط:
http://www.huffpostarabi.com/2017/10/17/story_n_18291660.html
(2) نقلا عن الدّاروينية في الزّمن القديم، هارون يحي، دط، دت، من موقعه الالكتروني، ص 34.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (165)
ولم يكن الأمر قاصرا على عدم اكتشاف الحلقات المفقود، بل إن الاكتشافات الأحفورية كل حين تثبت عكس كل التوقعات التي تبنتها الداروينية، ومن الأمثلة على ذلك تلك الحفرية البشرية التي عثر عليها في أسبانيا في سنة 1995، على يد ثلاثة علماء أسبان من جامعة مدريد متخصصين في الأنثروبولوجيا القديمة، وقد كشفت الحفرية عن وجه صبي في الحادية عشرة من عمره كان يبدو مثل الإنسان العصري تماما، على الرغم من مرور 800.000 سنة على وفاته.
وقد هزت هذه الحفرية قناعات المكتشفين لها، فقد قال [أرساجا فريراس]، وهو أحد المكتشفين: (لقد توقعنا أن نجد شيئا كبيرا، شيئا ضخما، شيئا منتفخا... كما تعلم، شيئا بدائيا. لقد توقعنا أن يكون غلام عمره 800.000 سنة مشابها لطفل توركانا. ولكن ما عثرنا عليه كان وجها عصريا تماما... بالنسبة لي كان الأمر مثيرا للغاية... إن العثور على شيءٍ كهذا غيرِ متوقع على الإطلاق لهُوَ من الأشياء التي تهز كيانك. فعدم العثور على حفريات أمر غير متوقع، تماما مثل العثور عليها، ولكن لا بأس. إلا أن أروع ما في الأمر هو أن تجد شيئا في الماضي كنت تعتقد أنه ينتمي إلى الحاضر. إن الأمر أشبه بالعثور على شيء مثل جهاز تسجيل في كهف جران دولينا. سيكون ذلك مدهشا للغاية، لأننا لا نتوقع العثور على أشرطة كاسيت وأجهزة تسجيل في العصر البلستوسيني الأدنى. وينطبق ذات الشيء على اكتشاف وجه عصري عمره 800.000 سنة. لقد اندهشنا جدا عندما رأينا هذا الوجه) (1)
ثالثا ـ ممارسة الداروينيين للخداع العلمي
__________
(1) المرجع السابق، ص 65.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (166)
بعد يأس العلماء المؤمنين بنظرية التطور من إيجاد الحلقات المفقودة التي تنبأ بها داورن، راحوا يموهون على أتباع هذه النظرية بالكثير من النماذج التي أثبت التاريخ بطلانها بعد ذلك، وللأسف لا زال التنويريون يؤمنون بها على الرغم من أن أصحاب النظرية أنفسهم تخلوا عنها.
ومن الأمثلة على ذلك، والتي استعملها الداروينيون لفترة طويلة، بل لا زال بعضهم يستعملها، ما يسمونه [إنسان بلتداون].. أو ما يطلق عليها الآن بـ[خدعة بلتداون] (1)، ففي عام 1912، ادعى فريق بحثي بقيادة عالم حفريات بريطاني هاوٍ يُدعى [تشارلز داوسون] اكتشاف حفرية.. وقد كان الأمر حينها عجيبا ومثيرا.. ذلك أن عظام فك تلك الحفرية التي تم عرضها تشبه عظام فك القرد، بينما الجمجمة كانت تمتلك صفات جمجمة الإنسان.
وقد اهتمت الهيئات الكثيرة بذلك الاكتشاف الخادع، وتم إطلاق اسم [إنسان بلتداون] على تلك الحفرية، والتي عُرضت في أهم متاحف العالم لأكثر من 40 عامًا متتالية على أنها دليل قاطع على صحة نظرية التطور.
وكان صداها هائلًا على المستوى الأكاديمي، حتى أن ما يقرب من 500 أطروحة للدكتوراه تمت كتابتها عن هذا الأمر لمدة 40 عامًا، بل كانت توصف بكونها رمزًا لانتصار نظرية التطور المزعومة، وُضعت للعرض والمشاهدة في المتحف البريطاني، والذي يعتبر واحدًا من أشهر المؤسسات في العالم.
وقد تم فحصها ودراستها في تلك الفترة الطويلة من قبل أشهر العلماء من جميع
__________
(1) انظر: مقالا بعنوان: خدعة إنسان بلتداون، هارون يحي.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (167)
أنحاء العالم، بل حتى من قبل أعداد لا تُحصى من الزائرين.
وفي الأخير، وبعد كل ذلك الانتصار الكاذب الذي لبس لباس العلم اكتشف أن الأمر كله لا يعدو أن يكون مجرد خدعة.
ففي عام 1949، استطاع [كينيث أوكلي] من قسم الحفريات في المتحف البريطاني أن يطور طريقة جديدة لتحديد أعمار الحفريات.. وبدأ باستخدام هذه التقنية التي أُطلق عليها اختبار الفلوريد على الحفريات الموجودة داخل المتحف.
وما إن راح يطبقها على جمجمة [إنسان بلتداون] حتى ذهل للمفاجأة، فقد اكتشف أن عظام الفك خالية من مادة الفلوريد، بينما احتوت الجمجمة على نسبة صغيرة منه.. وهذا يعني أن عظام الفك لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، والجمجمة لا يتجاوز عمرها بضع المئات من السنين على أقصى تقدير.
ومع تكثيف التحقيقات، اكتشف أن تلك الحفرية التي تم تصويرها على أنها أفضل دليل تم التوصل إليه لإثبات نظرية التطور كانت في الحقيقة محض كذب.. فعظام الفك تنتمي إلى إنسان الغاب المتوفى حديثًا.. والجمجمة تنتمي إلى إنسان متوفٍّ منذ فترة قاربت 500 عام..
ومن خلال الفحص عن قرب عرف أن الأسنان تم إرفاقها بعظام الفك في وقتٍ لاحق، وتم استخدام أداة صلبة لكشطها.. ثم تم غمرها في سائل ثنائي كرومات البوتاسيوم، وذلك لإعطائها مظهرًا قديمًا.
وقد أثبتت التحاليل المفصلة التي أجراها [جوزيف وينر] بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الحفرية كانت مجرد خدعة.
وكان البروفيسور [لو جروس كلارك] أستاذ التشريح بجامعة أوكسفورد
التنويريون والصراعات مع المقدسات (168)
واحدًا من هؤلاء العلماء الذين كشفوا هذا الغش والاحتيال.. وفي نهاية التحقيقات التي قام بها، قال: (بالفعل فإنه يبدو جليًا افتعال هذه الخدوش، ويبدو أنه من الجيد طرح السؤال الأهم، وهو: كيف أن هذه الخدوش لم يتم ملاحظتها من قبل؟.. إنهم لم يبحثوا عن هذا الأمر من قبل.. لم يقم أي شخص في السابق ممن فحصوا عظام فك بلتداون بوضع فكرة وجود تزييف محتمل نُصب عينيه، إنه تلفيق متعمد)
أما [كلارك هاول] أستاذ الأنثروبولوجيا، فقد قال معلقا على هذه الخدعة الخطيرة: (اكتُشفت بلتداون عام 1953 ولم تكن سوى عظام فك لقرد تم إدخالها على جمجمة إنسان، فهي خدعة قد تم وضعها عن عمد، فهم لم يقروا بشكل واضح عما إذا كان هذا الفك ينتمي لقرد أو إذا كانت الجمجمة تنتمي لإنسان، وبدلًا من ذلك فقد أعلنوا أن كل جزء من الجزئين السابقين هو شيء في المنتصف ما بين القرد والإنسان.. وقد أرجعوا تاريخه لحوالي 500 ألف عام مضت، وأطلقوا عليه اسم [الإنسان الفجرى الدوسوني أو إنسان داون]، وكُتب ما يقرب من 500 كتاب عن هذا الأمر خدع هذا الاكتشاف علماء الحفريات لمدة 45 عامًا)
هذا مجرد مثال.. والأمثلة كثيرة جدا.. بل إننا في كل يوم نسمع كذبة جديدة وخدعة جديدة، ويصدقها الكثير، لا لكونها علمية، ولكن لكونها تصب في ذلك التفكير الرغبوي المزاجي الذي جعل الداروينيين ينتصرون لهذه النظرية بالصدق أو بالكذب.
ومن الأمثلة على ذلك أيضا خدعة أخرى اسمها [إنسان نبراسكا].. وتبدأ قصة هذه الخدعة عام 1922، وهو الوقت الذي كانت الجهود المكثفة تبذل فيه بهدف الوصول لبرهان على نظرية التطور.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (169)
حينها كان الجميع مهووسون بالوصل إلى ذلك الإثبات.. أو بالوصول إلى الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالقرد أو بغيره من الحيوانات..
حينها أعلن [هنري فيرفيلد أوزبورن] رئيس قسم الحفريات بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي عن اكتشافه حفرية لضرس يعود تاريخه إلى الحقبة البليوسينية بالقرب من وادي الأفاعي غرب نبراسكا.
وقد حدث توافق بشكل تام بناءً على ضرس واحد فقط بأنه ينتمي إلى ما يسمى بالرجل القرد.. ثم دارت العديد من النقاشات العلمية العميقة حول هذا الدليل المزعوم، والذي لم يكن في الحقيقة أكثر من مجرد خيال.
وقد أُطلق على هذه الحفرية ـ والتي سببت جدلًا واسعًا ـ اسم [إنسان نبراسكا].. بل سرعان ما تم إعطاء اسم علمي عليها، وهو [هسبيروبايثيكوس هارولدكوكي].. وسرعان ما لقي مكتشفها الكثير من الدعم والاهتمام.
ومما يدل على فداحة التفكير الرغبوي لدى الداروينيين، وتسلطه عليهم، أنهم راحوا يجرون العديد من الرسومات لإعادة بناء جمجمة وجسد إنسان نبراسكا اعتمادًا على ضرس واحد فقط.. بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث نُشرت العديد من الرسومات الإيضاحية لإنسان نبراسكا مع أولاده وزوجته في بيئتهم الطبيعية التخيلية.
بل بدأ التطوريون مرة أخرى بحشد جميع الوسائل المتاحة لهم من أجل هذا السيناريو الوهمي..
ومع أن بعض العقلاء في ذلك الحين أقر بأن الأدلة المتعلقة بخصوص [إنسان نبراسكا] غير ملائمة تمامًا، وأن الدليل المتاح لا يبرهن على أي شيء، وأن على هؤلاء الانتظار مزيدًا من الوقت.. إلا أن التطوريين، ولحرصهم على نظريتهم، وخوفهم من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (170)
فقدان هذا الدليل الكاذب راحوا يشنون حملة مضادة تضمنت الدعاية التطورية المعتادة ضد من يخالفهم، باعتبارهم غير علماء ولا متخصصين ولا متطورين عقليا.
لكن بعد كل ذلك بفترة من الخداع والوهم اكتشف أن هذا الضرس لا ينتمي لا للبشر ولا للقردة، وإنما لفصيلة منقرضة من الخنازير البرية.
رابعا ـ التكتم على الانتقادات الكثيرة الموجهة لنظرية التطور
وهو أمر مخالف تماما للمنهج العلمي، ذلك أن الحقيقة العلمية منفتحة على النقد، وتتقبل الآخر، وتناقشه مناقشة علمية هادئة، ولا تفرض عليه أي سلطة أو وصاية.
ومن الأمثلة التي تدل على ذلك الانغلاق الفكري الذي يعانيه الداروينيون، موقفهم من كتاب [التطور: نظرية في أزمة] الذي أصدره [مايكل دنتون] عام 1985، والذي أثار الكثير من الجدل، بل من العنف والمواجهة من طرف التطوريين، لسبب بسيط، وهو أنه أقر فيه بالحقيقة، وصرح فيه بما جبن غيره أن يصرح به؛ فقد ذكر فيه أن نظرية التطور بالاصطفاء الطبيعي نظرية في أزمة علمية حقيقية.
ولهذا وُصف من قبل العديد من البيولوجيين بأنه نقض لأركان نظرية التطور وهدمها بأسس علمية.. وبسبب هذا تعرض الكتاب ومؤلفه إلى حملة كبيرة من التشويهات، لا لكونه غير علمي، ولا غير منسجم مع المنطق.. ولكن لكونه ناقض الخط العام المرسوم مسبقا، والقائل بقبول نظرية التطور حتى وإن كانت تناقض في كثير من نقاطها الحقائق العلمية الواضحة.
وهكذا نرى في الوقت الحاضر أنه لا يوجد سبب يدعو إلى ربط العلم بنظرية التطور، فالعلم يقوم على الملاحظة والتجريب، بينما تعبر نظرية التطور عن فرضية
التنويريون والصراعات مع المقدسات (171)
متصلة بماض لا يمكن إخضاعه للملاحظة.
ولهذا نراهم يتركون الاحتجاج العلمي المبني على الأسس المنطقية التجريبية، ويلجؤون إلى أساليب لا علاقة لها بالعلم من أمثال ادعائهم أن النظرية مقبولة بشكل واسع في المجتمع العلمي.
وكأن صحة أي نظرية تعتمد على الأغلبية المفترضة لأتباعها، لا على ما يدل عليها من أدلة.. ولهذا يمارسون نوعا من الضغط النفسي والدعاية الخالية من اللغة العلمية.
لقد أقر الدكتور [أدرا دينكل]، وهو برفيسور في الفلسفة، ومساند لنظرية التطور، بالطبيعة الخاطئة لهذا الأسلوب، فقال: (هل الحقيقة التي يؤمن بها العديد من الأناس البارزين أو المنظمات أو الهيئات يثبت صحة نظرية التطور؟.. هل يمكن اثبات النظرية بقرار المحكمة؟.. هل الحقيقة التي يؤمن بها الشخصيات أصحاب السلطة يجعلها صحيحة؟) (1)
ثم راح يجيب على هذه التساؤلات بقوله: (أريد أن أسترجع حقيقة تاريخية.. ألم يقف جاليلو ضد الشخصيات الهامة والمحامين، وخصوصًا العلماء في ذاك الوقت، وتكلم عن الحقيقة لوحده، وبدون أي دعم من أي شخص؟.. ألم تكشف محاكم الإستقصاء حالات أخرى مشابهة؟)
ثم ختم كلمته بقوله: (إن كسب دعم الدوائر البارزة والمؤثرة في صنع القرار لا يصنع الحقيقة، وليس له علاقة بالحقيقة العلمية)
__________
(1) انظر: أردا دِنكِل، ملحق العلوم والتكنولوجيا الصادر عن الكومهوريِت اليومية التركية، 27 شباط/ فبراير 1999..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (172)
إضافة إلى ما ذكره الدكتور [أدرا دينكل]، فإننا إذا تأملنا الواقع العلمي جيدا، وبنظرة حيادية، نجد نظرية التطور غير مقبولة من المجمتع العلمي كله، كما يشيع أنصار نظرية التطور.. بل إنه خلال العشرين سنة ماضية، نرى أعدادا محترمة من العلماء ترفض الداروينية بشكل متصاعد؛ فقد ترك معظمهم عقيدتهم الدوغماتية في الداروينية بعد رؤية تصميم لا عيب فيه في الكون وفي الكائنات الحية.
والأهم من ذلك كله أن الذين تخلوا عن النظرية هم أعضاء من جامعات مشهورة، ومن جميع أنحاء العالم، خاصة في الولايات المتحدة، فهم خبراء وأكاديميون في مناصب علمية مثل البيولوجيا والبيوكيماء والميكروبيولوجي وعلم التشريح وعلم الدراسات القديمة وغيرها من الحقول العلمية.. فلذلك، فإنه الخطأ الكبير القول بأن الأغلبية من المجتمع العلمي تؤمن بالداروينية.
وحتى لو فرضنا أن هناك إجماعا على قبول هذه النظرية، فهل الاحتكام إلى الإجماع من الناحية العلمية احتكام صحيح؟.. وهل الإجماع العلمي معصوم من الخطأ؟
لقد عبر عن هذا المعنى [مايكل كريتشتون] حين ذكر أن الإجماع يمكن استخدامه في مجالات الدين أو السياسة، ولكن لا مكان له في العلم، ذلك أنه يعتمد فقط على الأدلة المكتشفة من التجارب العلمية، ولا يعتمد على أعداد العلماء..
لقد عبر عن ذلك بقوله: (دعنا نكن واضحين: الأسلوب العلمي ليس له أي علاقة بالإجماع، الإجماع هو عمل السياسة.. العلم في الوجه المقابل، يحتاج إلى محققين يصادف أنهم على صواب، وهذا يعني أن لديه معلومات قابلة للإثبات بالمراجع في العالم الواقعي.. أما الإجماع العلمي فليس له علاقة، فالذي له علاقة هي النتائج القابلة
التنويريون والصراعات مع المقدسات (173)
للإنتاج.. أعظم العلماء في التاريخ كانوا عظماء بالفعل لأنهم كسروا الإجماع.. لا يوجد شيء اسمه إجماع علمي.. إذا كان هناك إجماع فهو ليس علما.. وإذا كان هناك علم فهو ليس إجماعا.. نقطة على السطر)
وعبر عن ذلك في موقف آخر بقوله: (الإجماع يستخدم عندما لا يكون العلم صلبًا بما فيه الكفاية.. لا أحد يقول إن إجماع العلماء يتفق على أنّ بعد الشمس عنا هو 93 مليون ميل.. لم يحدث أبدًا أن تكلم أحد بهذه الطريقة)
وقال: (أريد أن أتوقف هنا لمهلة وأتكلم عن فكرة الإجماع، والفكرة التي انتشرت بكثرة وهي الإجماع العلمي.. أنا اعتبر الإجماع العلمي تطورا خبيثا يجب إيقافه بدون رحمة.. فتاريخيًا، ادعاء الإجماع كان مأوى الأوغاد.. إنها طريقة لتجنب المناظرة بإدعاء أن القضية صارت محلولة.. كلما سمعت عن إجماع العلماء في الموافقة على شيء ما أو آخر، فابحث عن محفظتك، لأنه يتم شراؤك.. أو تفقد مخك، لأنه يتم غسيله)
وقبله بقرون عبر جاليلو عن موقفه من قضية الإجماع العلمي، فقال: (في الأسئلة العلمية، سلطة الآلاف لا تستحق التفكير المتواضع لشخص واحد)، هذا هو القانون الصحيح الذي يحتكم إليه في العلم، لا تفكير القطيع الذي يتصور أنه كلما كبر العدد كانت الحقيقة.
وفي هذا المقام نذكر نظرية التصميم الذكي التي هي البديل الحقيقي لنظرية التطور، والتي تمنينا لو أن التنويريين اهتموا بها بدل اهتمامهم بنطرية التطور، وهي نظرية نشأت في مواجهة نظرية التطور (1)، وتحاول تفسير نشأة الأنواع الحية تفسيرا علميا بعيدا
__________
(1) انظر مقالا مهما بعنوان: اتجاهات في تفسير التنوع الحيوي، منى زيتون.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (174)
عن كل أنواع الأيديولوجيا والتفكير الغرضي، وهي تتبنى توجهاً مناهضاً للدور العشوائي اللاغائي الذي تعطيه نظرية التطور للطبيعة، باعتبارها أداة فاعلة في الخلق..
وهي لأجل ذلك تواجه دعاوى التطوريين عن وجود عيوب في تصميم الأنواع الحية؛ لكونها تطورت بعضها من بعض، فنشأت العيوب نتيجة السمكرة وإعادة التخليق، وهي لذلك لا تعترف بوجود أعضاء بلا وظيفة، أو أعضاء غيّرت وظيفتها عبر المشوار التطوري.
وهي ترى في الأنظمة الحيوية تعقيدات وظيفية متخصصة، وتعقيدات غير قابلة للاختزال، ومن ثم تعجز الرؤية التطورية التدرجية التراكمية عن تفسيرها.
وهي تحصر دورها في وصف حقيقة الحياة كما هي، وتزيل عنها الرؤية التطورية الخرافية.. وترى كل نوع من الأنواع عالما قائما بذاته، لم يتطور من غيره، ولم ينشأ عنه.. وهي لذلك تفسر خلق الأنواع الحية بكونها تمت من قِبل مصمم ذكي، ولا تسمي اسم ذلك المصمم ليجتمع فيها جميع الأديان المؤمنة بوجود مصمم ذكي بغض النظر عن اسمه وصفاته وحقيقته، وهذا ما يفرقها عن النظريات الدينية.
وقد تعرض أصحاب هذه النظرية لمضايقات كثيرة من طرف التطوريين؛ فمنذ بدأت حركة التصميم الذكي، والتطوريون يشيعون عن أصحابها أنهم [خَلْقَوِيُّون]، مع أن المنضمين إلى هذه الحركة والمؤسسات التابعة لها ليسوا كذلك جميعا.. فبعضهم دينيون مع اختلاف دياناتهم.. وبعضهم لا أدريون.. بل إن بعضهم ملاحدة.
ومن أقطاب هذه النظرية البروفيسور [دين كينيون]، وهو من أوائل المؤسسين لهذه الحركة، وأحد المشاركين في وضع نموذج شهير لتفسير نشأة البروتين في بدء الخلق من خلال الأُلفة الكيميائية للأحماض الأمينية، بعد أن تراجع عن نموذجه واعترف
التنويريون والصراعات مع المقدسات (175)
بعدم وجود قيمة تفسيرية له.
ومنهم البروفيسور [أنتوني فلو]، الذي قضى عمره في الإلحاد، ثم عاد عنه وصنّف كتاب [هناك إله] الذي أعلن فيه تراجعه عن إلحاده، وانضم إلى حركة التصميم الذكي..
ومنهم الدكتور البيولوجي [هنري جي] المُحرر بمجلة نيتشر التطورية الشهيرة، وذلك في كتابه [البحث في أعماق الزمن]، والذي علق على الاستشهاد ببضعة عظام لا تملأ صندوقا صغير على تطور الإنسان أو غيره ـ مع كونه من التطوريين ـ: (إن أخذ سلالة من الأحافير وادعاء أنها تمثل خطاً تكاثرياً لا يعتبر فرضية علمية قابلة للاختبار، وإنما هو تأكيد على قصة تحمل نفس قيمة القصص التي تروى قبل النوم ـ ربما مفيدة.. ولكن ليست علمية)
ومنهم [جيري فودور]، وهو بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي، والذي كتبت كتابه في التشكيك في حقيقة وجود خرافة الانتخاب الطبيعي مع كونه كان حينها ملحدا، وذلك في كتابه [لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟]
المغالطات المرتبطة بربط نظرية التطور بالقرآن الكريم
لم نكن لنهتم لأطروحات التنويريين المرتبطة بنظرية التطور لو أنهم اكتفوا بتبنيها، والدعوة إليها، دون أن يربطوها بالمصادر المقدسة، ويلووا أعناقها في سبيل ذلك، فنحن نعلم عشقهم لكل غربي ثبت أو لم يثبت، كما نعلم حبهم لمخالفة ما عليه سائر العلماء، واعتبارهم ذلك تحررا ووعيا وتعقلا.
والتناقض الأكبر الذي يقع فيه هؤلاء هو اهتمامهم بمثل هذه القضايا، التي لو
التنويريون والصراعات مع المقدسات (176)
طرحها علماء المسلمين لاعتبروهم متخلفين، ذلك أن هذه النظرية ـ في حال التسليم جدلا بثبوتها ـ لا علاقة لها بأي مجال من المجالات العلمية الواقعية، فسواء قلنا: إن الزرافة تطورت عن حيوان سابق، أو خلقت خلقا جديدا.. فإن ذلك لن يغير من الزرافة، ولا من فوائدها أو مضارها شيئا.. وبذلك فإن البحث في هذا نوع من الترف العقلي مثله مثل البحث في أيهما السابق البيضة أم الدجاجة.
بالإضافة إلى أن في هذا الكثير من التكلف.. فالله تعالى ما أشهدنا خلق كونه، ولا شيء منه، والاستشهاد بالحاضر على الغائب قياس فاسد.. مع أنه لم يثبت في المخابر أي دليل على التطور.. كل ما فيه بضاعة كلامية مزجاة خالية من كل دليل.. لا يهدف أصحابها إلا إلى تفسير كيفية نشوء الحياة، ومحاولة عزل الله عن ذلك النشوء، ابتداء أو استمرارا.
وبناء على سريان الشبهات التي طرحوها على الكثير من الناس، حتى أصبحوا تطوريين أكثر من دارون نفسه؛ فإننا سنناقش هنا أدلتهم، لا بتفاصيلها، وإنما بهدم الأسس التي تقوم عليها، وبيان مخالفتها للمصادر المقدسة.
ومن خلال استقراء النصوص المقدسة في هذا الجانب نجد ناحيتين اثنتين ركز عليهما القرآن الكريم، وفيهما أحسن الردود على من يتبنى هذه النظرية، أو يحاول ربطها بالمقدس، أولهما يرتبط بسنة الله تعالى في خلقه، وثانيهما يرتبط بخلق آدم عليه السلام، وكيف تم ذلك.
أولا ـ المصادر المقدسة والخلق المباشر
تحاول نظرية التطور في أساسها الفلسفي تفسير التنوع الحاصل في الحياة، كما تحاول تفسير نشأتها الأولى، بعيدا عن الحاجة للإله إما كليا بعدم الحاجة مطلقا، وهو
التنويريون والصراعات مع المقدسات (177)
مذهب الملاحدة، أو جزئيا على مذهب الربوبيين، باعتباره أعطى الشرارة الأولى للخلق، ثم تركه يتنوع بحسب ما تمليه العشوائية أو التوجيه الإلهي.
ولهذا نجد الكثير من المؤمنين بالله من جملة أتباع هذه النظرية، باعتبارها لا تلغي الله مطلقا، وإنما تعتبره ـ وخاصة على مذهب الربوبيين ـ مشعل الشرارة الأولى، لتبقى نار الحياة بعدها تسري من غير إدارة تتحكم فيها.
لكن المشكلة التي تواجه هذه النظرية هي مصادمتها للمصادر المقدسة للأديان الثلاثة خصوصا الإسلام والمسيحية واليهودية.. ولهذا انبرى رجالها جميعا للرد عليها.
فهي تتفق جميعا في قدرة الله المطلقة على الخلق المباشر لأي نوع، متى شاء وكيف شاء من غير حاجة لذلك السلم الطويل من التطور، ولا تلك الأحقاب الطويلة من الزمان.
وهذا ما أثبته القرآن الكريم بصيغ كثيرة إما على العموم المرتبط بجميع أنواع الخلق، أو على الخصوص بخلق الحياة نفسها.
وقد كان في إمكان التنويريين أن يفسروا تنوع الحياة على هذا الأساس من غير أن يصدموا بالحقائق العلمية، ولا بالمصادر المقدسة.. ذلك أن الله تعالى في إمكانه وهو القادر على كل شيء أن يخلق ما شاء متى شاء كيف شاء.
ولذلك فإن التفسير الأسهل بالنسبة لهم ـ خلافا للملاحدة ـ هو ألا يفسروا التنوع بالطفرة، وإنما بالخلق الجديد، فالطفرة عشوائية، والعلم الآن لا يثبتها بالصورة التي تبناها الداروينيون الأوائل، أو الداروينيون الأواخر.
ونظرية الخلق الجديد التي يذكرها القرآن الكريم لا تلغي وجود تقارب بين المخلوقات.. وإنما تعني أن الله تعالى باعتباره خلاقا، لا يطور الخلق السابق ليتحول إلى
التنويريون والصراعات مع المقدسات (178)
خلق جديد، وإنما يخلقه ابتداء، كما صور ذلك بدقة عند ذكره لخلق آدم عليه السلام، والذي ورد في النصوص القرآنية والنبوية أنه خلق من طين، ومن حمأ مسنون..
بل أشار إليها القرآن الكريم عند ذكره للبعث، بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]، فالله تعالى يرد على المشركين الذين تعجبوا من البعث، والذي هو خلق جديد، لا علاقة له بالتطور، بأن ذلك يسير جدا بالنسبة لقدرة الله المطلقة.
كما صور ذلك بدقة عند ذكره لناقة صالح عليه السلام، والتي أخرجها من الصخر آية من آيات الله.. كما قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]
فقد كان لهذه الناقة المخلوقة خلقا جديدا من الصفات والمميزات ما لم يكن لسائر النوق، فقد كانت تعطيهم لبنا كثيرا، كما أنها تستقي كثيرا، قال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]
وهكذا فإن من مقتضيات الإيمان بالبعث الإيمان بالخلق الجديد، فالإنسان عند بعثه لن يتطور من كائن آخر، وإنما سيخلق من جديد من تراب الأرض، وبخصائص جديدة تخالف الخصائص التي ولد بها في هذه النشأة.
ولهذا رد الله تعالى على الذين يفرضون عليه ماذا يفعل، وكيف يفعل، بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]، ومعناها ـ كما يذكر المفسرون ـ: (أعجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (179)
والمراد بالخلق الجديد (تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من غير موت)
وقد أشار إلى هذا أيضا ما ورد في القرآن الكريم من القدرات العظيمة التي آتاها الله للمسيح عيسى عليه السلام، ومنها إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص.. والتي وصلت إلى حد القدرة على الخلق بإذن الله.. والتي وردت في مواضع من القرآن الكريم، وبصيغ متعددة، منها قوله تعالى على لسان المسيح معبرا عن فضل الله عليه: {وَرَسُولًا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]
ومنها منة الله عليه بالقدرة على ذلك، قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]
وهذه الآيات فيها رد شديد على أولئك الذين يحيلون على الله أن يخلق أي أمة من الأمم ابتداء، ويتصورون أنه يفتقر إلى أن يطور خلقا سابقا، ليحصل منه خلق جديد، وكأنه عامل في مصنع، أو مخترع في مخبر، وليس قادرا على كل شيء.. يخلق ما يشاء.. متى يشاء.. كيف يشاء.
ولو أن هؤلاء نظروا فيما يخترعونه من مخترعات يزهون بها، لكان ذلك وحده كفيلا بتسليمهم لخالقهم، واعترافهم بقدرته المطلقة على الخلق ابتداء من غير حاجة لأي وسائط.
فهل كان الجيل الثاني من جهاز الكمبيوتر صناعة جديدة، أم أن المخترعين راحوا إلى نفس الجهاز القديم ينقصون منه ويضيفون، حتى تحول إلى جيل جديد.. لاشك أن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (180)
الواقع لم يدل على هذا.. بل إن كل جيل من الأجيال يقتضي أن يصنع صناعة خاصة تتناسب معه، مهما كان القرب بينه وبين الأجيال السابقة.
ثانيا ـ المصادر المقدسة وخلق آدم عليه السلام
لم يكتف التنويريون بالصراع مع تلك النصوص الدالة على قدرة الله المطلقة، وكونه {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، وإنما راحوا ـ بكل وقاحة وجرأة ـ يصادمون النصوص الصريحة التي تنص على أن آدم عليه السلام خلق من تراب، ومن طين، ليحولوه إلى كائن متطور عن كائن سابق، وأن تلك التسوية التي ذكرها القرآن الكريم ليست سوى ألفاظا عبثية اعتباطية لا دلالة حقيقية لها.
والمشكلة أن هؤلاء في تكلفاتهم يربطون ذلك بالقرآن الكريم، فيستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، ويلبسون على أنفسهم وعلى الناس، بأن الله شبه المسيح بآدم غافلين عن أن المشبه به لا يساوي المشبه في كل الوجوه.. وغافلين عن أن الله تعالى ما ذكر ذلك إلا ليبين أن له الإرادة المطلقة، ولذلك ـ كما خلق آدم عليه السلام ـ من غير أبوين، فهو قادر على خلق المسيح من غير والد.
ولو أن هؤلاء تخلوا عن كبريائهم، وراحوا يحترمون لغة القرآن الكريم، ويتدبروا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28، 29] والذي ورد في مواضع متعددة من القرآن الكريم.. لما وقعوا فيما وقعوا فيه.. ولما فضلوا أي فرضية مهما كانت على هذه الحقائق المقدسة.
وبناء على تلك الجرأة نشأت نظريات تأويلية مختلفة للقرآن الكريم يمجها الذوق
التنويريون والصراعات مع المقدسات (181)
السليم، وتمجها قبل ذلك اللغة القرآنية الراقية.
وسنشير هنا إلى بعضها لنرى مدى التهافت الذي وقعت فيه.. فمن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14]، وكونها ـ حسب تفسيرهم ـ تشير إلى نظرية التطور، وهذا لا يصطدم فقط مع موقفهم السلبي من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وإنما يصطدم أيضا بالحقائق القرآنية المرتبطة بهذا الجانب.
فالآية الكريمة، والتي وردت في خطاب نوح عليه السلام لقومه، لا تشير إلى تطور الأنواع، كما تنص نظرية التطور، والتي تعني تحول الكائنات من نوع إلى نوع عبر العديد من الطفرات والانتخاب الطبيعي خلال زمن طويل.
وإنما تعني مراحل الخلق التي يمر بها كل كائن حي.. حيث تمر آحاد الكائنات الحية خلقا من بعد خلق حتى تتحول من نطفة إلى كائن كامل، كما أشارت إلى ذلك آيات كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14]
ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]، فقد فسروا [القوم الآخرين] في الآية الكريمة بكونهم خلقا آخر غير البشر.
مع أنهم لو رجعوا للقرآن الكريم نفسه لوجدوا تأويلها واضحا جليا، فالله تعالى ذكر سنته في استبدال كل من ينقض العهود بغيرهم من الأقوام، مثلما فعل مع بني إسرائيل حين نقضوا العهد، فأبدلهم بالعرب، ثم هدد العرب أنفسهم أنهم في حال
التنويريون والصراعات مع المقدسات (182)
استبدالهم سيعوضهم بغيرهم، كما قال تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]، وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]
فهل تعني هذه الآية الكريمة ـ على حسب تصور التنويريين ـ هو تطور الإنسان إلى خلق آخر، لأن الآية الكريمة ذكرت عدم شبههم بالقوم السابقين: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}؟
وقد صرحت آيات أخرى بهذا المعنى، فالله تعالى قال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]، وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 16، 17]
ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، فقد تصوروا أن الله تعالى اصطفى آدم عليه السلام عبر طفرة جعلته مخالفا للجنس السابق الذي كان عليه أجداده.
وغفلوا عن أن الله تعالى ذكر اصطفاء نوح وآل عمران، فهل كان اصطفاؤهما أيضا عبر طفرة ميزت بينهم وبين آبائهم وأجدادهم؟
بل إن القرآن الكريم ذكر سنته في الاصطفاء؛ فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (183)
وذكر نماذج عن ذلك الاصطفاء، ومنهم مريم عليها السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42]
ومنهم طالوت، كما قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]
فهل هؤلاء جميعا تحولت جيناتهم عبر طفرة وراثية من نوع إلى نوع، أم أن المراد منه الاصطفاء المرتبط بالقيم والأخلاق والإيمان، لا بالنواحي البيولوجية التي يشترك فيها البشر جميعا.
ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، فقد فسروها بتلك التفسيرات المادية لمبدأ الخلق [الحساء البدائى]، والذي لم يثبت علميا، ويستحيل أن يثبت علميا، وقد ذكرنا الردود على ذلك بتفصيل في كتاب [الحياة: تصميم لا صدفة]
والمراد من الآية الكريمة هي نفس المراد من قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37]، وقد نقل الفخر الرازي عن ابن الأنباري في تفسيرها قوله: (التقدير أنبتها فنبتت هي نباتا حسنا، ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا، ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين، أما الأول فقالوا: المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد، وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة) (1)
__________
(1) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (8/ 206).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (184)
ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9]، وقد حملوا هذه الآية محامل عجيبة، لا علاقة لها باللغة، ولا بسائر الآيات القرآنية.
فقد فسروها على أن المراد منها أن الله تعالى بدأ خَلْق الإنسان من طين أي من [الحساء البدائي] كما يقول الداروينيون، والذي اختلفوا في الطاقة التي وهبته الحياة؛ ثم جعله يتناسل بالماء المهين، عبر المراحل المختلفة.. ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة ممثلة في بعض أنواع البكتيريا، وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.. ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.. وعبر ملايين السنة تطورت هذه الحيوانات لينشأ منها آدم (1).
وهذا تفسير عجيب جدا لا يصلح في أبسط التعابير البدائية التي نستعملها، فكيف باللغة القرآنية الدقيقة والمتماسكة، فهل يصح لشخص تسأله عن المادة التي بنى بها بيته أن يذكر لك أنه بناها من إلكترونات وبروتونات ونترونات، أو من المواد الأولية البسيطة التي تتشكل منها الذرة، أم أنه يذكر لك آخر شيء تتشكل منه الجزيئات التي بنى بها بيته.
__________
(1) يقول عمرو شريف في بيان دلالتها على ذلك: (تشير الآية إلى أن الإنسان لم يخلق من الطين مباشرة، بل من سلالة خلقت من طين، وهذه السلالة هي الكائنات الحية التي خلقت من مادة الأرض، وتسلسل ظهورها حتى وصلنا إلى الإنسان)، ثم يقول: (تأمل هذه الآيات - آيات سورة المؤمنون - مع الأخذ في الاعتبار أن حرف العطف (ثم) يفيد التابع مع التراخي، بالتالي نفهمه على أنه عطف يشير إلى الانتقال من نوع من الكائنات إلى نوع آخر، إذ يستغرق ذلك وقتاً طويلاً قد يمتد إلى ملايين السنين) [كيف بدأ الخلق (257 - 258)]
التنويريون والصراعات مع المقدسات (185)
وهكذا نرى هذه اللغة مستعملة في حياتنا جميعا، فلا نذكر في تعابيرنا إلا آخر شيء متشكل، لا أوله، ولا مقدماته.
ولو كان الأمر كما ذكروا لأخبر الله تعالى الملائكة عليهم السلام أنه خالق بشرا من سلالة الشمبانزي، أو من أي حيوان آخر، وأنه سيقوم بإجراء طفرة في سبيل ذلك، ولم يقل لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72]، وهي كلها مرتبطة ببعضها بفاء الترتيب والتعقيب.
ولو كان الأمر كما ذكروا لما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وهو يشير إلى أن كل إنسان في أحسن تقويم، وأن البشر لم يمروا بأي مراحل تطورية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن القرآن الكريم ذكر لنا مثالا مقربا لذلك، والقرآن يفهم بعضه من بعض، فقد قال تعالى عن المسيح عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، فهل كان المسيح عليه السلام أكثر قدرة من الله تعالى بحيث خلق الطير في لحظة واحدة، بينما على مذهب الداروينيين احتاج الله تعالى إلى مئات الملايين من السنين لتتشكل الطيور؟
أما معنى السلالة التي توهموا أن المراد منها هو سلالة الحيوانات السابقة لآدم عليه السلام، فذلك غير صحيح، وبحسب اللغة القرآنية نفسها، ذلك أن السلالة في اللغة مشتقة من قولهم: [سلَّ الشيء] إذا انتزعه واستخرجه من غيره، والشيء المسلول هو المنتزع من شيء آخر، والآية الكريمة نصت على أن الإنسان مستل ومستخرج من الطين.
وقد قال الزمخشري ـ اللغوي الكبير ـ معبرا عن ذلك: (السلالة: الخلاصة، لأنها
التنويريون والصراعات مع المقدسات (186)
تسلّ من بين الكدر، و(فعالة) بناء للقلة كالقلامة والقمامة. وعن الحسن: ماء بين ظهراني الطين. فإن قلت: ما الفرق بين من ومن؟ قلت: الأوّل للابتداء، والثاني للبيان، كقوله مِنَ الْأَوْثانِ. فإن قلت: ما معنى: جَعَلْناهُ الإنسان نطفة؟ قلت: معناه أنه خلق جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة) (1)
فالآية الكريمة تدل على أن أصل خلقة بني آدم وابتداءها كانت من الطين مباشرة، وليس من حيوانات سابقة، كما قال تعالى مقررا ذلك في آية أخرى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9]
بالإضافة إلى ذلك، فإن الآية الكريمة التي لووا أعناقها تخالفهم تمام المخالفة، فالله تعالى ذكر أن آدم عليه السلام خلق من طين، بينما هم يذكرون أنه خلق لأبوين، أي من أب وأم.. وبذلك يمكن أن ننسب خلقة كل شخص إلى الطين مع أن الله تعالى أخبر أن سلالة آدم عليه السلام من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]، بينما يرى التنويريون أن آدم نفسه من سلالة من ماء مهين.. وهو خلاف ما ذكره القرآن الكريم.
أما الإشكال الأكبر الذي وقعوا فيه، والذي نشأ من عدم معرفتهم باللغة القرآنية، فهو تصورهم أن قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] خاص بآدم عليه السلام، بينما الأمر ليس كذلك، فهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ
__________
(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 178)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (187)
مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 8]، وهي تشير إلى أن تلك التسوية والنفخ تعبير عن المراحل التي يمر بها الجنين، كما ذكر ذلك في آيات أخرى، وبالتالي فإن أداة (ثم) التي استدلوا بها ليس المراد منها تأخر خلق آدم عن الطين، وإنما المراد منها المراحل التي يمر بها الجنين، والتي ذكرت في القرآن الكريم بنفس الصيغة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 5]
ومن ذلك استدلالهم بالتفريق بين البشر والإنسان، وهو تكلف عجيب، وعدم فهم للغة القرآنية، وهو نفس ما وقعوا فيه من التفريق بين أمور كثيرة لإلغاء حقائق الأشياء، بدعوى عدم الترادف، مع أن عدم الترادف لا يعني تغير حقائق الأشياء، وإنما يعني أوصافها فقط.. كما يقول الغزالي: (هذه الأسامي مختلفة المفهومات، وليست مترادفة لأن الصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع، والمهند يدل على السيف من حيث نسبته إلى الهند، والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشارة إلى غير ذلك) (1)
وهكذا، فإن لفظتي البشر والإنسان مترافتان من حيث الحقيقة المرادة منهما، ومختلفتان من حيث دلالة كل منهما على الأوصاف المرتبطة بالإنسان.. فالبشر له دلالته اللغوية الخاصة، والإنسان له دلالته اللغوية الخاصة، ولو أن كليهما يشتركان في الدلالة على الإنسان.
ومثل ذلك مثل أسماء الله الحسنى، فهي لا تعني أن لكل اسم إله الخاص به، وإنما تعني أن الله تعالى واحد لكن له أسماء كثيرة بحسب الاعتبارات المختلفة.
__________
(1) المقصد الأسنى (ص: 28).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (188)
ومن هذا الباب نجد في اللغة أسماء كثيرة للسيوف وللجمال بل حتى للخمر، وذلك لأن لكل اسم دلالته على وصف من الأوصاف، لا على حقيقة جديدة.
هذه أبرز النصوص التي استدلوا بها على قضية لم تثبت علميا، بل ثبت عكسها، وهو دليل على مزاجية العقل التنويري، وحبه لمخالفة ما عليه جماهير العلماء، لا لشيء، وإنما لمجرد المخالفة.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (190)
من القواسم المشتركة للتنويريين جميعا، قديمهم وحديثهم، هو التهوين من قيمة الصلاة والشعائر التعبدية، وما يرتبط بها من معان روحية سامية.
وسر ذلك بسيط، وهو أن تصورهم للدين تصور مادي بحت، يبدأ بالحياة الدنيا، وينتهي بها، وغاية الحياة عندهم هي تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأن تكون للمسلمين حضارة مادية راقية كالحضارة الأوروبية، باعتبارها نهاية التاريخ، والنموذج المثالي للرقي الإنساني.
ولذلك ينظرون إلى الشعائر التعبدية، في أحسن الأحوال، باعتبارها مجرد أدوات ووسائل لتحقيق هذه الغايات المادية الدنيوية، لا باعتبارها أهدافا بحد ذاتها، أو أهدافا كبرى.
وبناء على ذلك ينكرون الأحاديث النبوية المطهرة التي اتفقت عليها الأمة بمدارسها المختلفة، والتي تعظم تلك الشعائر، وتبين خطر جحودها، أو التقصير فيها، أو التهوين من شأنها.
وبناء عليه أيضا نجدهم يحملون على الفقهاء، ويزدرون بحوثهم في هذه الجوانب، لتصورهم أن هؤلاء الفقهاء، قد غاب عنهم جوهر الدين ولبابه، الذي هو الرقي المادي، لا الرقي الروحي.
وبعد أن يقوم هؤلاء التنويريون بعزل الحديث الشريف المبين للقرآن الكريم، والمؤكد لمعانيه، والمفصل لها، وبعد أن يحملوا حملتهم على الفقهاء والمفسرين والمحدثين، يخلو لهم الجو مع القرآن الكريم، ليتلاعبوا بألفاظه ومعانيه، ويحولوها إلى المسار الذي
التنويريون والصراعات مع المقدسات (191)
يريدونه عبر استعمال خدع وحيل كثيرة.
ومن تلك الحيل إخراج الصلاة من مفهوم العبادة الواردة في القرآن الكريم، والذي اعتبره الله تعالى غاية الغايات عندما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
فشحرور والكثير من التنويريين يفسرون هذه الآية تفسيرا ماديا دنيويا بحتا، حيث يقصرون العبادة على تلك التعاليم التي اتفقت الأديان عليها (1)، والتي وردت في آخر سورة الأنعام، والتي تشمل: بر الوالدين.. والقسط في اليتيم.. والوفاء بالعهد.. وعدم الاقتراب من الفواحش.. وعدم قتل النفس.. وعدم الغش بالمواصفات.. وغيرها من القيم الأخلاقية التي لا يجادل أحد في أهميتها.
ولكنه لا يمكن أيضا أن يجادل في أهمية الصلاة، واعتبارها غاية في حد ذاتها، لا مجرد وسيلة.. لكن شحرور الذي يفسر القرآن الكريم بمزاجه، يأخذ ببعض الكتاب ليضرب بعضه، فيأخذ قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، ليصور أن الصلاة مجرد أداة للاستعانة بها على تحقيق تلك العبادات أو القيم الأخلاقية غافلا عن أن المقصود بذاته وبالأصالة، يمكن استعماله وسيلة لغيره، وهو لا يعني كونه غير مقصود بالأصالة.
وخطورة هذا الطرح، الذي هو اعتبار الصلاة مجرد وسيلة يوقعنا في ذلك الانحلال من الشريعة الذي وقع فيه بعض الصوفية عندما تصوروا أن الغاية هي الوصول إلى الله، فإذا وصل المرء إلى الله لم يعد مطالبا بتطبيق الشريعة وتكالفيها، ويستعملون في ذلك نفس ما استعمله شحرور من ضرب القرآن الكريم بعضه ببعض،
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: الإسلام عند د. شحرور، الشيخ حسن بن فرحان المالكي..
التنويريون والصراعات مع المقدسات (192)
فيجعلون اليقين غاية تنتهي عندها العبادة مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]،
وهكذا يفعل شحرور عندما يجعل الصلاة التي هي عمود الدين، مجرد وسيلة لتحقيق تلك القيم الأخلاقية والاجتماعية، وحينها يقول المتحقق بها: ما دامت هذه القيم هي الهدف المقصود من الدين، ومن شعائره التعبدية، فما الحاجة بي إلى الصلاة؟
وهذا الكلام ليس مجرد استنتاج استنتجناه من كلام شحرور وغيره في هذا المجال، وإنما هي حقيقة واقعية، ينطقون بها، ويتباهون بها، ويحتقرون الأحاديث التي اعتبرت الصلاة ركنا من أركان الدين، وعلامة أساسية كبرى للمسلم، وفارقا بينه وبين غيره.
ومن أمثلة ذلك قول شحرور ـ في بعض لقاءاته التي يحرص الإعلام على بثها ونشرها لتحقير أركان الدين الكبرى ـ يخاطب الفقهاء محتقرا لهم: (أود أن أسأل السادة الفقهاء: ما حكم جاحد الصلاة أو مهملها؟ وما هي عقوبته؟ هل هو كافر أم فاسق أم منافق أم عاصي؟ فقد اعتاد الفقهاء على إطلاق الأحكام على الناس بناءً على تركهم الصلاة أو إقامتها، وقد سئلت أنا شخصياً إن كنت أقيم الصلاة أم لا، ورفضت الإجابة لأنه لا يمكن لأحد أن يحكم على علاقتي مع الله إلا الله نفسه.. وأنصح القراء بأن يردوا بجواب على هذا السؤال بأنه لا علاقة لكم أيها الفقهاء بذلك، وكثيرون منهم قالوا أن جاحد الصلاة كافر، وحكموا عليه بالردة، والردة عقوبتها الإعدام إذا رفض الاستتابة كما يقولون، والمتقاعس عن الصلاة يتم جلده.. علماً إن الشعائر من صلاة وزكاة وحج وصوم لا يحق لأحد الحكم عليها، حتى الزكاة يمكن أن يزكي الإنسان بالسر، والله تعالى سمح بالإنفاق بالسر والعلن)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (193)
ثم يبين موقفه مقابل موقف الفقهاء؛ فيقول: (أما موقفنا فهو: لا يحق لأي إنسان أو سلطة أن يكره الناس على إقامة الصلاة أو يمنعهم من إقامة الصلاة، وبالنسبة لنا الثواب والعقاب يكمن ضمن كلمة الله العليا التي هي حرية الاختيار، فحرية الاختيار يقابلها طاعة الطاغوت.. أي أن حرية الاختيار هي رأس الأمر كله، فإن كنا نؤمن بالله يجب أن نؤمن بحرية الاختيار.. وليس من مهمة السلطة أو أي مؤسسة سوق الناس بالقوة إلى الجنة، ولايحق لها إبعادهم بالقوة عن النار)
وهذا كله من الوسائل التي تهون من شأن الصلاة، وتجعل منها شيئا شخصيا بحتا لا مظهرا اجتماعيا للمسلمين الذين يعظمون الصلاة فرادى وجماعات.
وهو في ذلك يغفل عن تلك الآيات الكريمة الكثيرة التي لا تدعو إلى الصلاة فقط، وإنما تدعو إلى الأمر بها، والمبالغة في الأمر بها، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وكما أثنى على إسماعيل عليه السلام، فقال: {اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55]
بل إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في أول الدعوة الإسلامية ـ بأن يقيم مع أصحابه الصلاة، لا العادية فقط، وإنما قيام أوقات كثيرة من الليل، وأخبر أنهم طبقوا ذلك أحسن تطبيق، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
التنويريون والصراعات مع المقدسات (194)
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]
فهل كان قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السابقين بهذا الجهد الكبير من الصلاة في الليل أو أكثر الليل مجرد وسيلة لتحقيق تلك الغايات التي هي موجودة عندهم أصلا، ولا حاجة لهم للاستعانة بالصلاة لأجل تحقيقها؟
هذه مجرد خدعة من الخدع التي يستعملها التنويريون للتحقير من شأن الصلاة، وهي مع خطورتها لا تساوي شيئا أمام ذلك التأويل لمعناها.
ومن أمثلته ما نشره شحرور في موقعه (1) لكاتب تنويري يشرح معنى الصلاة، فيقول مقدما لذلك بهذه المقدمة التي توضح تصور التنويريين لغاية الدين: (ماذا لو أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤت القرآن.. أقصد لو كان مثل باقي معظم الأنبياء (مثل لوط، يونس، إدريس، إلياس، شعيب.. فهؤلاء أنبياء لم يفضلهم الله بكتب) ماذا نحن فاعلين كعرب (قومية عربية) من حيث المعاملات والإنتاج والأبداع والأختراعات؟.. هل سنكون مثل اليابان، فلم يؤت لهم نبي أو رسول.. وانظر الى حضارتهم وتقدمهم ونضوج عقلهم واختراعاتهم!)
هذه هي المقدمة الخطيرة التي توضح البنية المادية للعقل التنويري؛ فالإنسان الكامل عندهم ليس أولئك الأنبياء والأولياء الممتلئين بالروحانية والتواصل مع الله، وإنما هو الإنسان الياباني المنتج والمبدع والمخترع.
ثم راح ينطلق من تلك المقدمة، ليوضح المفهوم الحقيقي للصلاة، والذي غاب عن السنة النبوية المطهرة، كما غاب عن الفقهاء والمفسرين والعلماء في كل العصور، ومن
__________
(1) مفهوم الصلاة، يعقوب العبيدي، موقع شحرور.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (195)
كل المدارس الإسلامية؛ فيقول: (لابد من تعريف مهم في حياتنا كمؤمنين.. هذا التعريف يخص الصلاة واسمح لي يا دكتور ـ يقصد شحرور ـ أن أعرفها: هي الديمومة التي يبقى فيها الفرد متصلاً بالله، باحثاً عن الحقيقة والوسيلة التي توصله الى المعارف الإلهيه مادام حياً.. ومن خلال هذا الاتصال والبحث سيكتشف النور والحقيقة)
وقد يخطر على البال هنا أن مراد الكاتب هو نفسه مراد العارفين من هدف الصلاة الذي هو المعرفة بالله والتواصل معه، لكن الأمر ليس كذلك، فهو يقول بعد استعراضه لكم الكبير من الآيات القرآنية، يلوي أعناقها كم يشاء: (وبعد انتهاء عهد وعصر النبوات كان ولابد على الانسان من مواصلة هذا النهج (الصلاة) من خلال هذا المقام العلمي للتوصل إلى مزيد من العلوم والمعارف التي لم تكتشف حتى يومنا هذا (مطلع القرن الواحد والعشرون) وعلينا نحن كمؤمنين بالله وبرسوله وكتبه وملائكته العودة الى هذا النهج العلمي (الصلاة)، وأن نبقي في ديمومة التواصل في البحث عن الظواهر المعرفية وباقي العلوم التي ستخرج من الظلمات الى النور، وبها سنخرج نحن كذلك دون الرجوع والنظر الى الخلف أو إلى الوراء وما قاله السلف وغيرهم.. ومن خلال هذه الأبحاث والاكتشافات التي توصلنا إليها سيكافئنا الله عز وجل. من هنا نصل الى تعريف مفهوم نظرية الصلاة)
وهكذا تتحول الصلاة بهذا المفهوم إلى بحث علمي، لا إلى معراج روحي، ويصبح المصلي حينها ذلك الباحث والمخترع والمكتشف، لا أولئك البسطاء الذين يركعون ويسجدون.
ولست أدري ما الداعي لخلط الأمور ببعضها.. فالمنهج العلمي محترم، والعلم محترم، والعلماء مهما كانت أبحاثهم محترمين.. وهم ليسوا جميعا بحاجة لأن نهون من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (196)
شأن الصلاة من أجلهم، أو نعتبر أفعالهم صلاة، مع أن الصلاة في الشرع لها مفهومها ودلالتها الخاصة، والمقترنة بالتواصل مع الله، لأجله، لا لأجل شيء آخر، فالله هو الغاية الكبرى، وليس هو مجرد وسيلة لتحقيق رفاهنا في الدنيا، كما قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]
ومن هذا المنطلق يتلاعب شحرور بالألفاظ القرآنية، بل بالرسم القرآني ليعتبر أن كل كلمة وردت في المصحف الشريف بالألف [الصلاة]، فالمراد منها مجرد صلة بين العبد وربه، وقالبها الدعاء، ولا تحتاج إلى إقامة وطقوس، ويؤديها كل إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة.
أما الواردة بالواو [الصلوة]، فهي صلة بين العبد وربه، ولها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها.. ويعتبر أنها وردت في القرآن الكريم باعتبارها من شعائر الإيمان.
وربما يتوهم المرء بادئ ذي بدء أن هذا الكلام لا غبار عليه، ولا حرج فيه، فالصلاة مثل الركوع والسجود وغيرهما قد يقصد بها تلك الحركات المعروفة، وقد يقصد بها مجرد الصلة المطلقة مع الله، لكن شحرور لا يكتفي بهذا، ولا يقف عند هذا الحد، وإنما يستعمل حيلا كثيرة ليصل من خلالها إلى نتائج خطيرة جدا.
وملخص تلك النتائج ـ باختصار ـ هو أن الصلاة ـ عنده ـ نوعان: الأولى لا يصح الإسلام من دونها، وهو وجود صلة مع الله بأبسط صورها، كأن نقول (يا رب ارحمني) بأي لغة، وبأي وقت وشكل.. ومن يقطع الصلة مع الله فهو وفق التنزيل الحكيم مجرم،
التنويريون والصراعات مع المقدسات (197)
وهو عكس مسلم.. فكل إنسان قطع صلته بالله تماماً وكذَّب باليوم الآخر هو من المجرمين وهو ليس من المصلين.
وبناء على هذا يفسر كل الآيات التي وردت في عقوبة تارك الصلاة كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، والتي يعقب عليها بقوله: (فهنا الكلام ليس عن ظهر وعصر ومغرب، بل عمن قطع صلته مع الله، لأن الويل أيضاً للمكذبين بالله واليوم الآخر، وهذا لا يمكن أن يكون لمن فقط تقاعس عن إقامة صلاته، فنرى أن هناك عقوبة واضحة للمجرم قاطع الصلة)
أما النوع الثاني، وهو ما يسميه [الصلاة الشعائرية]، ويرى شحرور أن الله تعالى لم يذكر أي عقوبة لتارك هذا النوع من الصلاة، ذلك أن الصلاة الأساسية عنده هي الصلاة الأولى، أما الصلاة الثانية، فليست لها تلك الأهمية، ولا يتعلق بها العقاب لا الدنيوي، ولا الأخروي، وقد أجاب عن سر ذلك عند تعليقه على قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، فقال: (رب سائل يسأل: الله أكبر من ماذا؟ السؤال الصحيح: ذكر الله أكبر؟ وذكر الله أكبر ممن ماذا؟ أقول: ذكر الله أكبر من إقامة الصلاة ذاتها، أي أن الإنسان يجب أن يكون من المصلين أولاً، وإذا دخل الإيمان يكون من مقيمي الصلاة، أي في بعض البلدان إن وجد مسجد ولم يوجد من يقيم الصلاة فعلى الأقل نحافظ على الأذان لأنه ذكر الله علناً)
وبهذا فإن الصلاة الحقيقية والتي توعد الله التاركين لها عنده هي الدعاء، والمصلي عنده هو الذي يكتفي بدعاء الله، ولا يهم على أي دين كان.. فالمسلم عنده يشمل كل منتسب لأي دين من الأديان.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (198)
ولا يكتفي التنويريون بهذا، وإنما راحوا للصلاة الشعائرية نفسها يردون على جميع ما اتفقت عليه المدارس الإسلامية في شأنها، وشأن أركانها ومواقيتها ومستحباتها.. ويحتقرون كل الفقهاء الذين تحدثوا عن تفاصيلها.
ومن الأمثلة على ذلك ما نشره شحرور في موقعه من تنويري يتحدى كل فقهاء المسلمين بأن يردوا عليه إن استطاعوا (1)، وهو يتعلق بعدد الصلوات، والتي يرى أنها ليست تلك الصلوات الخمسة المعروفة، وإنما هي ثلاثة فقط: صلاة في الصباح الباكر، ووقتها في أول النهار.. ومقدارها من الوقت: هو مقدار طرف النهار، ويبدأ من بداية النهار عند تلاشي الظلام إلى قبل طلوع الشمس.. وصلاة في المساء، ووقتها في آخر النهار، ومقدارها من الوقت: هو مقدار طرف النهار، ويبدأ هذا التوقيت من قبل غروب الشمس إلى آخر النهار عند بداية الظلام، أي عكس ما يقع في الصباح تماما.. وصلاة في الليل، ووقتها في أول الليل، ومقدارها من الوقت: يبدأ توقيتها من أول الليل إلى غسقه أي حتى يشتد الظلام.
ويلخص ذلك بقوله: (وخلاصة القول أن الله فرض علينا ثلاثة أوقات تقام فيها الصلاة، صلاة في أول النهار وتسمى الفجر، وصلاة في آخر النهار وتسمى الوسطى، وصلاة في أول الليل وتسمى العشاء، ولم ينزل الله غير هذا إلا ما كان نافلة في الليل، ومن قال غير هذا فقد افترى على الله كذبا وقال على الله ما لم ينزل به سلطانا)
وبعد أن يذكر مجموعة آيات كريمة تتحدث عن الصلاة وأوقاتها بعيدا عما ورد في تفسيرها من السنة المطهرة المتواترة والمجمع عليها، يقف على برجيه العاجي قائلا بكل غرور: (إلى جميع العلماء، رؤساء الأحزاب الإسلامية، رؤساء الأحزاب التالية:
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: أنزل الله ثلاث صلوات وليس خمسا – بنور صالح.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (199)
السنة، الشيعة، الإباضية، المعتزلة، المالكية، الحنفية، الحنبلية، الشافعية، الزيدية، الجعفرية، الإمامية، المهدوية، الصوفية، الشاذلية، القادرية، التيجانية، العلوية.. القرآنيين، الباطنية، الظاهرية.. إلى جميع الشعوب العربية والإسلامية.. اذكروا لنا الصلاة التي أنزلها الله ومواقيتها، ومن الآيات العديدة التي أنزلها الله في الصلاة إليكم)
ثم يذكر قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، ثم يسأل تلك الطوائف جميعا قائلا: (هل هذه الآية منسوخة؟.. هل هي فاعلة إلى يومنا هذا؟.. وهل يجب أن نعمل بها أملا؟.. كم صلاة أنزل الله فيها؟ 3 أم 5.. وما هي هذه الصلوات؟ أذكر أوقاتها، وأين هي الصلاة الوسطى في هذه الصلوات.. هل قرأ النبي هذه الآية على الناس؟.. هل بلغها؟.. هل تكلم بها بلسانه أم لا؟.. هل عمل بها؟.. وكم صلى حين عمل بها؟.. وهل هو الذي شرع الظهر والعصر؟.. إذا لم يكن هو فمن الذي شرعهما؟.. هل صلاة الظهر والعصر فرض؟.. إذا قلتم فرض فمن فرضهما؟ وأين فرضهما؟.. وما حكم الذي لم يصليهما، هل ارتكب معصية؟ إذا قلتم نعم، فمن عصى؟.. من الذي يشرع للعباد؟.. إذا شرع آخر مع الله هل هذا شرك بالله أم لا؟)
وهكذا يتحول من صلى الظهر والعصر عنده مبتدعا ومشركا وضالا بمجرد أسئلة يسألها عن آية لم يفهم معناها، ولا معاني غيرها من الآيات، وكيف يفهمها، وقد أبعد من أوكله الله بتأويلها وتوضيحها وتحديد المقصود منها، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذكر الله دوره العظيم المرتبط بالقرآن الكريم، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]
وقد ختم عجرفته تلك بقوله: (قدموا شهادة على الصلاة التي تصلونها على أن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (200)
الله هو الذي أنزلها عليكم، وأي شخص يقول بصلاة معينة يقدم شهادة عليها على أن الله هو الذي أنزلها، وإذا لم تجيبوا على هذه الأسئلة، وتقدموا شهادة عليها وعلى صلاتكم، فاعلموا أنكم حكمتم على أنفسكم أنكم مشركين، لست أنا الذي أحكم عليكم، بل تركتكم لتحكموا على أنفسكم، لقد أشركتم بالله في تشريعه ما لم ينزل به سلطانا، ومن فعل ذلك علم أم لم يعلم فهو من المشركين، فلا أحد يكفركم ولا أحد يضللكم بل أنتم الذين ستحكمون على أنفسكم هنا في الدنيا قبل الآخرة، والذي أنزله الله هو الذي كشف شرككم كما كشف شرك الذين من قبلكم، فهو الوحيد الذي يكشف ما قبله وما بعده، والآن أنتم على علم بضلالكم وشرككم، وما يزيدكم هذا الحق والتبيان إلا نفورا وطغيانا، استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)
ثم راح يقدم شهادته في كيفية الصلاة قائلا: (أشهد أني المسمى بنور صالح صاحب هذه الدعوة، وأشهد أن كل نبي رسول من الله وختمت الرسالة والنبوة بمحمد، وأشهد أمام الله وأمام العباد وأقسم بالله العلي العظيم أن الله أنزل ثلاث صلوات مفروضة، صلاة الفجر والصلاة الوسطى وصلاة العشاء، وصلاة النافلة في الليل فقط، هذه هي الصلاة التي أنزلها الله وختم التنزيل على هذه الصلاة، وأن الله لم ينزل صلاة الظهر ولا صلاة العصر، وأن نبينا محمدا كان يصلي الثلاث صلوات التي ذكرتها وأنه مات على هذه الصلوات الثلاث، وليس هو الذي شرع صلاة الظهر وصلاة العصر، بل الناس هم الذين شرعوا ذلك، وأن كل الأنبياء كانوا يصلون هذه الصلوات الثلاث وفي هذه الأوقات، ولم ينزل الله بصلاة في الظهيرة أبدا على الإطلاق في جميع الكتب المنزلة التي نعرفها والتي لا نعرفها، وأن الصلاة لم تتغير منذ أن أنزل الله الهداية
التنويريون والصراعات مع المقدسات (201)
على البشر إلى يوم الدين، وأن الله لم ينزل الصلاة مقدرة بالركعات، بل أنزلها دائما وأبدا مقدرة بالوقت، وأن النبي كان يصلي الصلاة مقدرة بالوقت وليس بعدد الركعات، وأن الصلاة الوسطى تبدأ قبل غروب الشمس، وأن النبي والأنبياء كلهم كانوا يصلون الوسطى قبل غروب الشمس، وأن الركوع ليس الانحناء، وأن الله لم ينزل الانحناء ولم يشرع به في الصلاة، وأن النبي وجميع الأنبياء لم يكونوا يقومون بالانحناء في الصلاة، وأن الله لم ينزل صلاة الجمعة، ولا صلاة الأحد، ولا صلاة السبت، إلا الصلاة المذكورة سابقا، وأن النبي وجميع الأنبياء لم يكونوا يصلون صلاة الجمعة ولا صلاة السبت ولا صلاة الأحد، وأن الله لم ينزل صلاة الأعياد، ولا صلاة في الأعياد أبدا، وأن النبي وجميع الأنبياء لم يكونوا يصلون صلاة الأعياد، وأن الله لم ينزل صلاة الاستسقاء إلا إن أراد الناس أن يتقربوا لله بالصلاة النافلة في الليل، وأن الله لم ينزل صلاة الجنازة إلا أن يدعو الناس لموتاهم كدعاء بعضهم لبعض وهم أحياء، وأن الصلاة على النبي هي الدعاء له بالرحمة والاستغفار، وليس هذا الشكل الذي يقال، وأخيرا إن كنت كذبت على الله في شيء من هذه الشهادة ولو شيء قليل فلعنة الله على الكاذبين.. هذه شهادتي، فقدموا عكسها في ما تخالفونني فيه، واعلموا بإذن الله أنكم لا تفعلون.. لأنكم تعلمون أنكم تكذبون)
ثم ختم بملاحظة يقول فيها: (كل من قرأ هذا الموضوع أرجو أن ينقله إلى علمائه وشيوخه للرد عليه إن كانوا صادقين في ما يعبدون.. وليعلم الناس أن علماءهم يعلمون الحق ولكنهم يكتمونه، فهم يفعلون كما فعل الذين من قبلهم، فهم لا يهتدون)
هذا مجرد نموذج عن التلاعب بالصلاة واحتقارها واحتقار كل ما ورد في شأنها، ولو تتبعنا تفاصيل ما ذكره التنويريون الجدد في شأنها لوصلنا إلى نتائج أخطر بكثير من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (202)
التي ذكرناها، فذلك نكتفي بهذا، لنعرف مدى التطرف الذي وقع فيه التنويريون، وأنهم حاولوا أن يعالجوا التطرف السلفي، فوقعوا في تطرف أشد منه.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (203)
من العبادات التي تضايق بها دعاة التحضر والتنوير في بلادنا العربية والإسلامية، ومنذ فترة طويلة [عبادة الصيام]، والتي توهموا أنها تقف دون العمل والإنتاج، وتقف بذلك بين بلادنا وبين أن تتطور مثلما تطور العالم الغربي الذي يعتبر عندهم نموذج الحضارة المثالية.
ولم يقف ذلك الموقف المتضايق من الصيام المفكرون والباحثون من حملة الأقلام فقط، بل انضم إليهم السياسيون أيضا.. وكان من أبرزهم الرئيس التونسيّ السابق [الحبيب بورقيبة]، الذي دعا العمالَ إلى الإفطار في رمضان لزيادة الإنتاج، وقدم خطبة طويلة في ذلك.
وقد ذكر في مصادر إخبارية كثيرة أنه طلب من العلامة الفقيه [محمد الطاهر بن عاشور] أن يفتي في الإذاعة بما يوافق ذلك، وذكرت أن الجمهور التونسي ترقّب تلك الفتوى من خلال البثّ الإذاعيّ، لكن الشيخ أخلف ظن رئيسه، وراح يقرأ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ثمّ قال بعدها: (صدق الله، وكذب بورقيبة)، ثم أفتى بحرمة الإفطار بحسب الفتوى التي اعتمدها الرئيس التونسي.
لست أدري مدى دقة هذه المعلومة، والتي وجدتها في مصادر كثيرة جدا، ولكن مهما يكن شأنها؛ فإنها تدل على أن العلماء المحققين من أمثال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ـ مع علمه باللغة العربية، ومقاصد الشريعة ـ لم يفهم من آيات الصيام إلا ما يفهمه كل مؤمن عادي بسيط.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (204)
فهو لم يتكلف، ولم يخرج عن المألوف، ولم يبحث له عن رأي نشاز يتميز به بين الناس، وذلك كله مع علمه الكبير بالقرآن الكريم، وباللغة العربية، وبمقاصد الشريعة، والذي لا يستطيع أحد من التنويريين وخاصة من أولئك الذين يسمون أنفسهم قرآنيين، أن يضاهوه فيه.
لكن إذا تركناه، وذهبنا إلى هؤلاء التنويريين الجدد الذين رزقوا جرأة على اقتحام كل شيء، والبحث عن أي جديد، والخروج عن كل معروف ومألوف ومجمع عليه، وجدنا العجب العجاب.
وأول ذلك العجب هو اتفاق أكثر التنويريين على ما يهدم الصيام من أساسه، بحيث يجعل منه شعيرة اختيارية الأولى تركها، واستبدالها بإطعام المساكين.. لأن في إطعام المساكين ـ بحسب تصوراتهم ـ خدمة اجتماعية حضارية، بخلاف الصيام الذي يؤثر على الإنتاج والتطور والرقي.
وممن أدلى بدلوه في هذا، وكان للإعلام دور كبير في الإشهار لطروحاته [المهندس محمد شحرور] الذي نشر المقالات والفيديوهات الكثيرة التي يجيز فيها الإفطار في رمضان لمن شاء، مع إطعام المساكين بدل ذلك.
والمشكلة الكبرى هي أنه استعمل القرآن الكريم لذلك مستخدما قواميسه المعروفة، والتي تجعله يجادل في القرآن الكريم كما يشاء، وكيف لا يفعل ذلك، وقد عزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كلفه الله ببيان القرآن.. وعزل الفقهاء والمفسرين عزلا تاما.. ليعتبر نفسه صاحب الفهم الصحيح الوحيد للقرآن الكريم.
والآية التي اعتمد عليها هي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:
التنويريون والصراعات مع المقدسات (205)
184]
وقد قال الراغب الأصفهاني ـ وهو العالم اللغوي صاحب السبق في البحث في مفردات القرآن الكريم ـ في تفسيرها: (وروي عن ابن عباس في أصح الروايتين أن ذلك في الشيخ والشيخة الهرمين والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فلفظ (الطاقة) ههنا ينبيء عن ذلك، فإن الطاقة هي التي تبلغ غاية المشقة، ولا يخرج عن القدرة والعجز، فذكر أن هؤلاء الذين يبلغ بهم الصوم غاية المشقة يجوز لهم الإفطار والفدية وقرئ (يُطَوقونه) أي يتكلفونه بجهد، وقرئ (يطوقونه) أي يحملون على أن يتطوقوا) (1)
ومثله قال الزمخشري، وهو الذي لا يجادل أحد في معرفته باللغة العربية، وتذوقه لبلاغتها، فقد قال في تفسيره للآية الكريمة: (ويطيقونه ويطيقونه بمعنى يتطوقونه، وأصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياء كقولهم: تدير المكان وما بها ديار. وفيه وجهان: أحدهما نحو معنى يطيقونه. والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية) (2)
لكن شحرورا وأصحابه ـ والذي توهم نفسه قد أحاط بالعربية وبالقرآن الكريم ـ راح يستعمل تلك الكلمة القرآنية للإجهاز على هذه الشعيرة من شعائر الله، بحيث يفرغها من محتواها تفريغا تاما.
وقد قال في مقال له بمناسبة حلول شهر رمضان (3)، وبعد أن راح يحرض على
__________
(1) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 389)
(2) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 226)
(3) الصيام وفق الاستطاعة، محمد شحرور، منشور بتاريخ 22 يونيو 2015.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (206)
الشعب السوري والدولة السورية، ويعتبرهما سبب ما يحصل من فتن، ناسيا أنه لولا تلك العمائم الممتلئة بالاستبداد لما استطاع أن ينشر أفكاره التخريبية للدين والدنيا جميعا.
بعد أن قال ذلك راح يستعمل كل الحيل المعهودة ـ باسم رفع الحرج ـ ليقضي على الصيام، إلى أن انتهى إلى هذه النتيجة، التي عبر عنها بقوله: (فالآية الأولى هي الآية المحكمة المتعلقة بالصوم، وكل ما ورد فيما يتعلق بالموضوع هو تفصيل لهذه الآية، وفي التفصيل حدد من يشمله الإعفاء من الصيام (الآية 184)، بداية من لا يتحمله (لا طاقة له به) وهما المريض والمسافر فيمكنهما تأجيل الصيام لوقت آخر، ثم من يتحمله (يطيقونه) فيمكنه دفع فدية [إطعام مسكين]، فإن كنت تستطيع الصيام فالصيام خير لك، وإن كنت لا تريد فعليك بالفدية وهي إطعام مسكين كحدٍ أدنى)
ثم راح يتهم جميع المفسرين في جميع مراحل التاريخ أنهم لم يفهموا معنى الآية الكريمة، فقال: (والمفارقة هنا أن السادة المفسرين وضعوا [لا] قبل [يطيقونه]، فيجد الباحث عن تفسير [يطيقونه]: [لا يطيقونه]، أو [يطيقونه بصعوبة].. وحرموا على الناس الإفطار برمضان مهما كانت الأسباب عدا المرض والسفر، وإلا صيام شهرين متتاليين، وقد يغفر الله وقد لا يغفر، مع أن التنزيل الحكيم لم يقل بذلك)
وهذا افتراء على المفسرين وعلى اللغويين قبلهم، لأن نفس كلمة [يطيقونه] في اللغة العربية تدل على معنى العنت والجهد الشديد الذي يصيب الصائم، والذي يبيح له الإفطار مع الفدية أو القضاء، بحسب حالته العمرية والصحية.. وقد ذكر ذلك جميع علماء اللغة واتفقوا عليه.. لكن شحرورا فهم هذه الكلمة على حسب المتعارف عليه، مع أنه يعلم أن اللغة العربية واسعة، أن اللفظة الواحدة لها دلالات متعددة..
ولم يكتف بذلك، بل راح إلى إطعام المسكين نفسه يتساهل فيه، ويلغيه، أي أن
التنويريون والصراعات مع المقدسات (207)
الذي يقدر على الصيام، ولكنه لا يرغب فيه، ويرغب في الفدية بدله، يمكنه ألا يقدمها أيضا إن لم يكن قادرا على تقديمها، وقد قال معبرا عن ذلك: (قد يقول البعض، وهل العامل قادر على دفع الفدية؟ وهل هذا الدين للأغنياء فقط؟ أقول لا، فالصيام وفق الاستطاعة ومن لا يملك قوت يومه لا حرج عليه، وكفانا تصوير الله تعالى وكأنه شرطي يتربص بالعباد، فقد قال وجل من قائل {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} وأتبعها بقوله {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ})
ثم راح ـ كسائر التنويريين ـ يصور الآثار العملية لهذه الفتوى الخطيرة التي تزيل هذه الشعيرة عن الإسلام، وتجعل المسلم مخيرا بين الصيام والفدية، بل تضع عنه الفدية نفسها، وتجعله في حل من إخراجها، فقال: (ولنتخيل حال عالمنا العربي والإسلامي لو كل من لا يريد الصيام أطعم مسكيناً في اليوم، أو لو تم جمع البدل النقدي عن فدية صيام من يعيشون في شمال أوروبا، هل سنجد جائعاً في بلداننا؟)
ثم راح يعلل ذلك بتصوره للحرية الدينية، والتي تتيح للمسلم أن يترك الصلاة والصيام وكل الشعائر التعبدية ما دام غير راغب فيها، من غير أن يخل ذلك بإسلامه ولا إيمانه ولا دينه، فقال: (وأكرر أن الشعائر يأتيها الإنسان طواعية، دون إرغام، وهي أهم تطبيق للآية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256)، والصيام يفقد معناه إن كان إلزامياً، لذا فإن فرض عقوبة أو غرامة على المفطرين هو أمر غير مقبول، ومراعاة مشاعر الصائمين أمر جميل، لكن ليس أكثر من ذلك. أيضاً ما نراه من تحميل عباد الله فضلاً بحجة الصيام، أو تعطيل الأعمال والأشغال بهذه الحجة، فهذا أبعد ما يكون عن ديننا)
ولم يكتف شحرور وسائر الشحارير الذين يظهرون كل يوم بهذا، بل راح إلى ميقات شهر رمضان نفسه، والذي حدده القرآن الكريم بدقة، ليحوله إلى شهر شمسي،
التنويريون والصراعات مع المقدسات (208)
مرتبط بفصل محدد هو فصل الخريف، حتى يزيل عن أتباعه مشقة الصيام في فصل الصيف.
وقد قال معبرا عن ذلك: (يبقى أن نشير إلى أن الأشهر القمرية تحتاج لتصحيح، يقوم به المختصون ويجمعون عليه، بحيث توافق الأشهر القمرية الأشهر الشمسية، أي ما يسمى بالنسيء، وأعتقد أن رمضان يوافق الشهر التاسع الميلادي (أيلول، سبتمبر)، إذ يكون النهار مساوياً لليل في نصفي الكرة الأرضية، علماً أن النسيء المحرم هو ما كان يقوم به العرب من تأخير وتقديم للأشهر بحيث يوافق الحج مواسم التجارة، وليس تصحيحاً وفق قواعد ثابتة)
وفي آخر مقاله لم ينس أن يعيد ما يكرره كل حين من دعوة الشعب السوري إلى الثورة للحصول على الحرية، ناسيا أنه يقتات من أموال الملوك والأمراء، وأعظم من عرفهم التاريخ من أصناف المستبدين.
ولم يكتف شحرور بطرح أفكاره في مقالاته، بل هو يفتي بها باعتباره مفتي الإسلام الأكبر، وقد سألته امرأة عن بعض أحكام الصيام؛ فأجابها بقوله: (أشكرك على مشاعرك، وقت الصيام يدخل ضمن حدود الله التي نهانا عن الاقتراب منها وهي من الفجر وحتى الليل.. ولكن لك أن تعلمي أن من لا يرغب الصوم يمكن أن يطعم مسكينا.. وعليك أن تعلمي أن هناك ثلاث فئات من الناس: المرضى – على سفر – القادرين على الصيام.. أي ليسوا مرضى ولا على سفر، هؤلاء رغبة الصوم عندهم مفتوحة على الفدية أو الصوم، والحد الأدنى للفدية هو طعام مسكين حسب إمكانياتك ومستوى البلد الذي تعيشين فيه، وهنا قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] هنا يخاطب المستطيع، والذي له الخيار بين الفدية والصوم، قال الصوم خير لكم من
التنويريون والصراعات مع المقدسات (209)
باب الترجيح وليس الفرض، لذا فعليك الفدية ولا تستمعي إلى من يقول الصوم حسب مكة أو حسب أقرب بلد إسلامي فهذه إفتاءات ليست أكثر من هراء، وكوني مطمئنة بالفدية، وانصحي الآخرين)
ثم راح يقترح عليها، وعلى المسلمين ـ بحسب الدين الجديد الذي جاء به ـ قائلا: (وأرى إنشاء مؤسسة في بلدان أوربا الشمالية تسمى (مؤسسة إطعام مسكين) توضع فيها أموال فدية رمضان، ويفتح بها مطاعم لإطعام الفقراء والمحتاجين فهذا أفضل)
أي أن هذا أفضل من الصيام.. وبذلك فعل شحرور بهذه الأمة نفس ما فعله بولس في المسيحية عندما حررهم من شريعتها وأحكامها.
ولم يقف الأمر عنده، بل إننا نجد كل يوم من ينادي بمثل هذه الطروحات، بل يحاول أن يغرب فيها، لأن دين الله أصبح سلعة لكل تاجر، وباحث عن الشهرة.
ومن الشخصيات التي كتبت في هذا، ودعت إليه بحماسة لا تقل عن حماسة شحرور أستاذ جامعي اسمه [يوسف قرنفل] الذي كتب مقالا بعنوان [هل الصيام اختيار؟]، ومما جاء فيه قوله: (المؤمن مخير بين الصيام وبين الإفطار. إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا ذنب عليه.. ويفدي عن كل يوم أفطر فيه بإطعام مسكين؛ وإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم أفطر فيه فهو خير) (1)
ومنها [فوزى فراج] الذي راح يدعي أن له السبق على الفكرة التي طرحها شحرور، فقد قال في مقال له في ذلك: (التفسير الذى جاء به الاستاذ شحرور ليس جديدا، فقد قلت مثله منذ سنوات، والآية من وجهة نظرى واضحة جدا، فقد قسم الله الناس فى موضوع الصيام إلى ثلاثة أنواع: الأول هم المرضى أو من على سفر، وقد صرح
__________
(1) هل الصيام اختيار؟، يوسف قرنفل، 29 ماي 2016.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (210)
لهم بعدم الصيام أى الإفطار على أن يصوموا فى أيام أخرى بعد إنتهاء السفر او المرض.. الثانى وهم الذين يستطيعون الصيام ولكنهم لأسبابهم الخاصة والتى لا يعرفها إلا الله، لا يريدون الصيام، فأحل لهم الإفطار مع إطعام مسكين، أو أكثر من مسكين، ولكنه فى نفس الوقت نصحهم بأن الصيام خير لهم من ذلك.. الثالث وهم الأغلبية من الناس الذين سوف يصومون الشهر كما كتب الله ذلك عليهم) (1)
ثم راح يردد ما ذكره شحرور وغيره، والجديد الذي أضافه في هذا الباب هو تفسيره لمعنى التقوى الواردة في الآية الكريمة، والتي اعتبرت علة للصوم، لكونه يربي النفس ويهذبها، ويرفع عنها القيود التي تقيدها بها شهواتها.
لكنه نظر إلى المسألة من زاوية تجديدية مادية، فقال: (الصيام ليس من أجل أن يجوع أو يعطش الصائم أو يحرم من معاشرة زوجته أو زوجها، الصيام من أجل التقوى كسبب رئيسى ورغم ذلك فليس من المؤكد ان كل صائم سوف يصل إلى التقوى بصيامه.. والإحصائيات تفيد بأن خلال شهر رمضان يقل الإنتاج فى العالم الإسلامى إلى النصف أو أقل، وجميعنا من عاش فى المجتمعات العربية والمصرية يعلم ذلك جيدا، ويعلم التباطؤ والتكاسل والتغيب مما يؤدى إلى تعطيل المصالح وكثرة الإختلافات والشجار بين الناس وزيادة حالات الطلاق، وكل ذلك كما يدعون بسبب الصيام، والصيام الذى أمر الله به بريء من كل ذلك)
ولذلك؛ فإن الحل بالنسبة له هو اعتبار الصيام عبادة تخييرية؛ فمن شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر أفطر من غير حرج، وليس عليه سوى أن يطعم مسكينا واحدا بدل ذلك اليوم.. وإن كان هو المسكين؛ فيمكنه أن يطعم نفسه، ويعتبر بذلك صائما..
__________
(1) شهر رمضان الذى يأتى كل عام، فوزى فراج، 02 تموز 2014.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (211)
بل يؤجر أكثر إن استطاع أن يرفع الإنتاج، ويحقق الرفاه الاجتماعي الذي هو الغاية العظمى التي خلق من أجلها الإنسان، كما يصور التنويريون.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (212)
من المعارك التي اتفق التنويريون قديمهم وحديثهم، على خوضها، واعتبارها من المعارك الأساسية المفصلية الكبرى المعركة التي يمكن أن نطلق عليها [معركة الحجاب]، وهي معركة لا يصح الاستهانة بها، ولا التهوين من شأنها، لأنها لا تتعلق فقط بذلك اللباس الذي ترتديه المرأة لتحصن العيون من سهامها المسمومة، وإنما له علاقة بكل القيم الأخلاقية والاجتماعية والحضارية.
فالحجاب رمز للعفة والطهارة والتضحية، ولكل القيم النبيلة، ذلك أن المرأة التي تستر محاسنها وفتنتها، في الوقت الذي تحب بفطرتها أن يظهر ذلك منها، تقوم بتضحية كبيرة، وتؤدي واجبا إنسانيا وأخلاقيا رفيعا، ذلك أنها بهذا السلوك الرفيع ترحم ما أودع الله في شقيقها الآخر من تطلع إليها، وفتنة بها، ولا تكلفه عنتا بأن يغض طرفه عنها، أو يكف نفسه عن التحرش بها.
وهو رمز لطهارة القلب، وسمو الروح، وتجرد العقل وتحكمه في صاحبه، ذلك أن المرأة التي تستر مفاتن جسدها، إنما تقول للمجتمع، ولكل المتطلعين إليها: أنا لست جسدا فقط، وإنما أنا روح وعقل وقلب ولدي من الأشواق والسمو الروحي ما للرجل تماما؛ فلذلك لا ينظر إليها باعتبارها فتنة، وإنما باعتبارها أسوة ونموذجا ومثالا إنسانيا رفيعا.
وهكذا نرى الحجاب معنى من المعاني التي اتفقت عليها جميع الديانات، وتوحد على الدعوة إليها كل الأولياء والأنبياء والمصلحين.
لكن التنويريين القدامى والجدد لم يلاحظوا كل هذه المعاني، وإنما تصوروه مجرد
التنويريون والصراعات مع المقدسات (213)
خرقة ولباس لا معنى لها، بل تصوروه نوعا من التدخل الإلهي أو الذكوري في شأن المرأة، وأنه مخالف للحضارة، وأن البشرية لن تتحضر حتى تتحرر المرأة من لباسها، لتصبح مرعى خصيبا لكل ذئاب الدنيا وكلابها.
وقد استعملوا في هذه الحرب مجموعة أسلحة، نشير إلى أهمها هنا:
وهو سلاح اتفق عليه القدامى والمحدثون، حتى أن بعضهم تصور أن سبب تخلف المسلمين هو الحجاب، وأن رمز رقيهم هو نزعه، ولذلك راح ينادي بخلع الحجاب حتى تترقى الأمة، وتترفع عن تخلفها.
ولذلك لا يربط التنويريون التطور العلمي والتقني الأوروبي بتوفر الظروف المناسبة للبحث والإنتاج العلمي، وإنما يربطونه بوجود المرأة التي تتخلى عن حجابها، كما تتخلى عن حيائها وعفتها، وتعمل بنفسها كل ما يرضي نزوات الرجل.
وقد صرح بذلك بعضهم، فقال ـ يمدح الانحلال الأخلاقي في المجتمع الأوربي ـ: (يضم المجتمع الأوربي الرجال والنساء دائماً، فيسهل الاتصال بينهم، وتنشأ فيما بينهم علاقات آلفة وصداقة وحب، وهذا الاختلاط بين الجنسين في الاجتماعات يُسبغ، عليها عذوبة ورقة، فالسحر الذي تشيعه المرأة في كل مكان توجد فيه شيء ممتع ونفاذ كعطر الزهور. وفي مثل هذه الاجتماعات ينعم المرء دائماً بالمرح، وغالباً ما يتودد للغير، ويخرج في النهاية مفعم القلب بالرضا!) (1)
وبناء على هذا تصور أنه لا يمكن أن تترقى الأمة، ولا أن تتحضر، ولا أن ترفع
__________
(1) المصريون، ضمن الأعمال الكاملة لقاسم أمين، تحقيق الدكتور محمد عمارة (ص 258)
التنويريون والصراعات مع المقدسات (214)
عنها جلباب التخلف إلا إذا رفعت عن المرأة الجلباب الذي أمرها الله بلباسه، وقد قال معبرا عن ذلك: (ليس من الممكن أن تصل المرأة إلى هذه المنزلة الأدبية ما دامت في الحجاب، ولكن من السهل جداً أن تصل إليها بالحرية، تصل إليها كما وصلت إليها غيرها من النساء الغربيات.. فإنا نرى أنه كلما زيد في حرية المرأة الغربية زاد عندها الشعور بالاحترام لنفسها ولزوجها ولعائلتها) (1)
وهو لا يستدل لهذا بما نراه في واقع المرأة الغربية من تحولها إلى مجرد سلعة للإعلانات التي توضع فيها بجانب الحلويات والمأكولات والملبوسات، وكأنها مجرد متعة من تلك المتع، وإنما يستدل لها بما تعود السلفيون أن يستدلوا به، وهو الرجال، فهو يرى أن العقل الأوروبي الذي استطاع أن يتقدم في الكثير من المجالات لا يمكن اتهامه في هذا المجال.
وقد عبر عن ذلك بقوله: (هل يظن المصريون أن رجال أوروبا، مع أنهم بلغو من كمال العقل والشعور مبلغاً مكنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر في كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعالي وتفضل الشرف على لذة الحياة، هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي نعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفتها؟! هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا خيراً فيه؟ كلا!. وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السذج وتركن إليها نفوسهم ولكنها يمجها كل عقل مهذب وكل شعور رقيق) (2)
__________
(1) المرجع السابق (ص 451).
(2) المرجع السابق (ص 372).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (215)
وهو ـ هنا ـ يقع في خلط كبير بين الرقي المادي والرقي الأخلاقي، فيتصور أنهما يسيران في خط واحد، مع أن الأمر مختلف تماما، فقد يسير الإنسان إلى أعلى قمم التطور المادي، في نفس الوقت الذي ينهار فيه أخلاقيا إلى أدنى مراتب الإنسانية، بل قد ينزل إلى مراتب البهيمية نفسها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى عندما اعتبر كل التطور المادي، والعلوم المرتبطة به، إنما هو ظاهر الحياة الدنيا، لا حقيقة الحياة، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]
ولذلك، فإن المفتون بالغرب المادي محجوب عن الغرب القيمي، ذلك الذي انهار فيه الإنسان انهيارا تاما بشهادة الغربيين أنفسهم، بل بشهادة هؤلاء التنويريين أنفسهم، فقد قال قاسم أمين ناقضا كلامه السابق: (المرأة الفرنسية حين تتزوج تصبح كائناً ناقصاً، وترتد إلى الطفولة ثانياً) (1)
وقال: (إن عادات بعض الطبقات الأوربية ساهمت ـ كما لو كان ذلك عن قصد- في زيادة الفرص التي تيسر السقوط) (2)
وقال: (تكشف الإحصاءات الفرنسية عن أن نسبة واحد وأربعين في المائة من نساء الهوى المعروفات رسمياً قاصرات، وأن أكثر من ربع المواليد المعروفين أبناء غير شرعيين، وأن المجتمع يفقد كل عام مائة وخمسين ألف طفل يُقتلون ساعة ولادتهم أو
__________
(1) المرجع السابق (ص 250).
(2) المرجع السابق (ص 260).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (216)
خلال الحمل) (1)
وقال: (إن ما هو القاعدة في أوربا ـ بخاصة فيما يتعلق بخيانة الأزواج- ليس في مصر إلا الاستثناء) (2)
وقال: (إن في أوربا شراً كبيراً) (3)
بل هو نفسه الذي شهد لمجتمعه المحافظ بأنه أكثر تطورا في القيم الأخلاقية من المجتمعات الأوروبية نفسها، فقد قال معبرا عن ذلك: (إن مشهد الأم المتفانية يملؤني حناناً، كما يحرك شعوري مشهد الزوجة التي تعنى ببيتها، في حين أني لا أشعر بأية عاطفة حين أرى امرأة تهل على خطى الرجال، ممسكة كتاباً في يدها، وتهز ذراعي في عنف، وهي تصيح بي: كيف حالك يا عزيزي؟ بل لعلي أشعر بشيء غير بعيد عن النفور) (4)
وهو السلاح الذي تستعمله أمريكا والغرب اليوم لتشويه الشعوب المستضعفة؛ فبدل أن تنقل إليها منتجاتها العلمية والحضارية التي تستأثر بها تدعوها لخلع الحجاب والعفة، وممارسة النمط الأمريكي والغربي للحياة.
وللأسف نجد بعض الدول العربية، وخاصة دول الخليج تسير في هذا المسار، فيحمل إعلامها حملته الشديدة على إيران، وفرضها للحجاب، ويعتبره امتهانا لكرامة
__________
(1) المرجع السابق (ص 274).
(2) المرجع السابق (ص 262).
(3) المرجع السابق (ص 275).
(4) المرجع السابق (ص 249).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (217)
المرأة، وتدخلا في شؤونها الخاصة.
مع أنه في أصله ليس سوى مراعاة لحقوق الإنسان؛ فالمرأة التي لا تلتزم بلباس العفة، لا تختلف عن المخدرات والمسكرات التي اتفق البشر جميعا على أنه لا علاقة لها بالحرية الشخصية، وكذلك المرأة التي تخلع حجابها، أو لا تلتزم بالحد الأدنى من اللباس المراعي للأخلاق، إنما هي سم يسري في المجتمع ليقتله، ويقتل جميع القيم النبيلة فيه.
ولا ينبغي أن نكذب على أنفسنا، فذلك واقع البشر، وهو فطرة مجبولون عليها، ويمكن للمجتمعات التي لا ترى ضررا في الفواحش أن تعتبر ذلك شيئا عاديا، لكن المجتمع المزين بزينة العفة، يتضرر بذلك ضررا شديدا، كما قال بعضهم معبرا عن ذلك:
كل الحوادث مبداها من النظر... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وهنا قد يقول بعض المتحذلقين: فلم لا يغض الرجل طرفه، حتى يحمي نفسه.. وهنا نقول له: ولم لا نضع المخدرات والمسكرات في الشوارع والطرق، ثم نترك للورع الموجود في النفوس أن يتجنبها..
كلا الأمرين واحد.. فالله تعالى كما يحاسب ذلك الذي أطلق بصره للمرأة حتى ترديه قتيلا مفتونا، يحاسب المرأة كذلك، لأنها جعلت نفسها سلعة للشيطان يستعملها ليغوي الإنسان.
وللأسف، فقد غاب عن التنويريين هذا المعنى أيضا، حين توهموا أن اللباس حرية شخصية، وأن للمرأة أن تلبس ما تشاء، وأنه لا يحق لأحد أن يتدخل في ذلك حتى لو كان ربها الذي تؤمن به، الذي هو أدرى بمصالحها.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (218)
وقد عبر عن هذا المعنى نصر حامد أبو زيد حين ذكر أن حجاب المرأة ليس سوى تجسيد رمزي لكل معاني التغطية العقلية والاجتماعية لها.
وقال قبله قاسم أمين ـ رائد التنويريين القدامى في هذا المجال ـ في كتابه (المرأة الجديدة): (إن إلزام النساء بالحجاب هو أقسى وأفضع أشكال الاستعباد) (1)
وقال: (أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية) (2)
وقال: (أول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب) (3)!!
بل إنه راح يتهم ـ من حيث لا يشعر ـ الدين نفسه بكونه سبب ذلك الظلم الذي تعانيه المرأة عندما تلتزم الحجاب، فقال: (الكمال البشري لا يجب أن نبحث عنه في الماضي، بل إن أراد الله أن يمن على عباده فلا يكون إلا في المستقبل البعيد جداً) (4)!.
وقال: (عاشت المرأة حرة في العصور الأولى، حيث كانت الإنسانية لم تزل في مهدها، ثم بعد تشكيل العائلة وقعت في الاستعباد الحقيقي) (5).
وهو يردد نفس ما يردده التنويريون المحدثون من عدم وجود علاقة بين الحجاب والعفة والقيم النبيلة المرتبطة بها، فيقول: (إن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفتها وتصون نفسها عما يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة؛ فإن عفة هذه قهرية أما عفة الأخرى فهي اختيارية، والفرق
__________
(1) المرجع السابق (ص 441).
(2) المرجع السابق (ص 450).
(3) المرجع السابق (ص 442).
(4) المرجع السابق (ص 498).
(5) المرجع السابق (ص 432).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (219)
كبير بينهما) (1)
ويقول: (إن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة من المرأة المحجوبة) (2)
ويقول: (إن القول بأن الحجاب موجب العفة، وعدمه مجلبة الفساد قول لا يمكن الاستدلال عليه؛ لأنه لم يقم أحد إلى الآن بإحصاء عام يمكن أن يعرف به عدد وقائع الفحش بالضبط والدقة في البلاد التي تعيش فيها النساء تحت الحجاب وفي البلاد الأخرى التي تتمتع فيها بحريتهن، ولو فرض وقوع مثل هذا الإحصاء لما قام دليلاً على الإثبات أو النفي في المسألة؛ لأن ازدياد الفساد في البلاد ونقصه مما يرتبط بأمور كثيرة ليس الحجاب أهمها) (3)
وسبب ذلك كله هو تصور أن الحجاب مسألة شخصية، وليس مسألة اجتماعية؛ فالحجاب لا يحمي المرأة فقط، ولا يمثل عفتها فقط، وإنما يحمي المجتمع، ويحمي قيم العفاف فيه.. ولذلك حتى لو كانت المرأة ليست عفيفة في نفسها، فإن المجتمع يطالبها بأن تظهر بمظهر العفة فيه حتى تحمي أبناءه من الانهيار.
ولهذا فرق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المجاهرة بالإثم والإسرار به؛ فقال: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملا، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان! قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف
__________
(1) المرجع السابق (ص 366).
(2) المرجع السابق (ص 165).
(3) المرجع السابق (ص 364).
التنويريون والصراعات مع المقدسات (220)
ستر الله عنه) (1)
بل ذكر القرآن الكريم ذلك، فقال: {لاّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148]
فالجهر بالسوء دعاية مجانية له، بخلاف الإسرار به.. ولذلك فإن مقولة بعضهم من أن الحجاب قناعة شخصة لا يختلف عن الذي يعتبر الأفيون والمخدرات والمهلوسات قناعة شخصة.. فكلاهما واحد.. بل إن خطر المتبرجة أشد، لأنها لا تقتل القيم النبيلة في إنسان واحد، بل في آلاف الناس.. ومن شاء أن يتأكد من ذلك، فليذهب إلى تلك الجرائد والمجلات التي لا تباع أعدادها إلا بقدر ما تنشره من أفيون العري والفسوق والفجور.
وهو أخطر الأسلحة التي استعملها التنويريون، وخصوصا المتأخرون منهم، أولئك الذين راحو يجادلون في قطعيات الدين التي اتفقت عليها الأمة بمذاهبها جميعا عليها.
وهؤلاء راحوا يكذبون الفقهاء باعتبارهم ذكوريين، وراحوا يكذبون السنة باعتبارها جميعا مكذوبة وموضوعة، فلما خلا لهم الجو مع القرآن الكريم راحوا يعبثون بألفاظه كما تعودوا ليحولوه عن معناه تحويلا تاما.
ومن أمثلة ذلك الدجل الممارس مع القرآن الكريم ما ذكره محمد شحرور في
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (221)
حديثه لبعض القنوات الخليجية (1) التي لا هم لها إلا نشر الفواحش والدعوة للانحراف، حيث راح كعادته يتلاعب بالألفاظ، ويجادل في القطعيات التي اتفقت عليها كل كتب التفسير والحديث والفقه من لدن جميع المدارس الإسلامية.
فيذكر أن (أن كلمة الحجاب وردت في التنزيل الحكيم ثماني مرات، ولم تمت في كل استعمالاتها إلى اللباس بأية صلة من قريب ولا من بعيد، فكانت الألفاظ التي تدل على اللباس هي الثياب والجلابيب والخُمر)
وهو نوع من المصادرة على المطلوب، والتي يخدع بها عادة عوام الناس، فالحجاب مصطلح، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا يهم أن يذكر في القرآن الكريم أو لا يذكر، لأن القرآن الكريم ذكر الستر ودعا إليه، واعتبر التعري بمختلف أشكاله ومستوياته دعوة شيطانية لا تنويرية، فقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]
بل إنه صرح بذلك حين قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]
ولم يكتف بذلك، بل راح يوضح ويبين بدقة كيفة يكون الستر ومحاله؛ فقال {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ
__________
(1) وهذه المعاني ذكرها بتفصيل في كتابه: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي - فقه المرأة.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (222)
آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]
وهذه الآية الكريمة وحدها تكفي لمن تأملها في التعرف على مقصد الشرع من الحجاب وأهميته.. حيث أن نرى أن القرآن الكريم الذي لم يذكر عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا أركان الحج وكيفيته، ولا أحكاما تفصيلية كثيرة.. لكن مع ذلك يذكر الحجاب، وكيف يكون، ومع من يكون.. وهو يدل على أهميته القصوى في حفظ المرأة والمجتمع على حد سواء.
لكن التنويريين الذين لم تعجبهم أمثال هذه النصوص، وتمنوا لو استطاعوا حذفها من القرآن الكريم راحوا يحتالون عليها، ويتلاعبون بها.
ومن صور ذلك الاحتيال والتلاعب تلك الفهوم العجيبة التي خرج بها شحرور على القنوات الفضائية ليقنع المؤمنات بأن الحجاب خدعة خدعهم بها الفقهاء، ولا علاقة لها بالدين.
فهو يرى ـ من خلاله فهومه للآيات الكريمة الواضحة التي ذكرناها ـ أن المرأة ليست مكلفة سوى بأن (تستر جيوبها السفلية (الفرج والإليتين) وهو الحد الأدنى للباس وهو ما يسمى بالعورة المغلظة أمام المذكورين في الآية 31 من سورة النور بما فيهم بعلها، والمحارم المذكورون في هذه الآية هم نصف المحارم وليس كلهم)
أي أن المرأة ـ بحسب فهمه هذا ـ يمكن أن تسير أمام أبيها وابنها وأخيها وجميع أقاربها المذكورين في الآية الكريمة فقط بلباسها الداخلي الذين يستر العورة المغلظة،
التنويريون والصراعات مع المقدسات (223)
وليس عليها أن تستر أي شيء آخر عدا ذلك.
أما عندما تريد أن تخرج خارج بيتها، فليس عليها سوى أن تغطي (الجيوب العلوية (الثديين وتحت الإبطين) بالإضافة إلى الجيوب السفلية (العورة المغلظة)، وبذلك تتحقق باللباس الشرعي، أو بالحجاب الشرعي، كما فهمه من القرآن الكريم.
أما ما عدا ذلك، فهو يرى أنه حرية شخصية يقررها المجتمع، لا الدين، فلذلك يراه ساريا (حسب أعراف المجتمع الذي تعيش فيه، وحسب ظروف الزمان والمكان بحيث لا تتعرض للأذى الاجتماعي)
وبذلك فهو يرى أن كل التبرج الذي نراه في الغرب ليس تبرجا، بل هو حجاب شرعي، لأن المجتمعات الغربية رضيت بذلك، وألفته، وصار شيئا عاديا بالنسبة لها.
وبناء على ذلك يرى أن الخمار أو غطاء الرأس ليس له علاقة بالإسلام ولا بالإيمان وإنما هو عرف اجتماعي، أو بدعة اجتماعية لبست لباس الدين.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (224)
بناء على تشبع التنويريين بالثقافة الغربية، وتصورهم أنها في جانبها الروحي والقيمي والأخلاقي تشبه جانبها المادي والتقني، راحوا يستعملون كل الوسائل للاحتيال على أحكام المواريث، وخاصة في الجانب القطعي منها، والذي ذكر في القرآن الكريم، حتى لا يتلاعب به المتلاعبون، أو يحتال عليه المحتالون.
وهم يركزون بصفة خاصة على ما ورد في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]؛ فيُحجبون عن كل معاني العدل الواردة في المواريث، وحتى في هذه الآية الكريمة نفسها بما ذكر فيها من كون نصيب الأنثى نصف نصيب الذكر.
وهم لا ينتبهون إلى أن إعطاء الأنثى نصف أخيها الذكر مرتبط بمنظومة تشريعية كاملة، لا يشكل الإرث إلا جزءا بسيطا منها، ولذلك كان العدل فيها ليس هو المساواة، بل العدل أن ينال كل طرف بحسب حاجاته ومسؤولياته.
وكمثال تقريبي على ذلك ما نراه في الواقع من أن بعض المؤسسات أو الكثير منها قد تعطي بعض العمال نصف المرتب الذي تعطيه لعمال آخرين، لكن في نفس الوقت، تعطيهم الكثير من الحوافز والهبات تحت أسماء مختلفة، والتي لو حسبناها لوجدناها تصل إلى نفس المرتب الذي فضل عليهم، بل قد تفوقه.
وهذا ما طبقته الشريعة الإسلامية العادلة والسمحة بالضبط مع المرأة؛ فعندما نتأمل الأحكام المالية المرتبطة بها نجد أنها لم تكلفها بالسعي في طلب رزقها، بل جعلت رزقها مضمونا في كل مراحل حياتها ابتداء من صباها إلى وفاتها، فهي تعيش في كنف
التنويريون والصراعات مع المقدسات (225)
والديها، أو قوامة زوجها، أو رعاية أولادها؛ فإذا لم يبق لها واحد من هؤلاء كلفت جماعة المسلمين بالإنفاق عليها.
بالإضافة إلى أن الشريعة التي فضلت الابن في العطاء هي الشريعة التي كلفته بالإنفاق على أخته، وهي التي كلفته بدفع المهر لمن يريد الزواج منها.. فهل تكلفه بكل هذا، ثم لا تجعل له من الحقوق ما يفي بما تتطلبه هذه الواجبات؟
بالإضافة إلى ذلك؛ فقد أتاحت الشريعة بنص القرآن الكريم، وفي الأحوال الطارئة التي يرى الوالد فيها أن ابنته قد يهضم حقها، أو قد يفرط أبناؤه فيها، أو يرى أن حاجتها للمال أكثر منهم.. في هذه الأحوال جميعا، وفي غيرها أتاحت له أن يوصي لها بما يسد تلك الحاجة، بحيث يصير نصيبها مساويا للذكور، أو ربما يفوق أنصبة الذكور.
وهو ما عبر عنه صريح قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وهو النص الذي كرر كل حين بعد ذكر أحكام المواريث ليبين أن الوصية تتمم تلك الأحكام، لتتناسب مع كل الظروف والأحوال والحاجات.
وقد صرح قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 180، 181] على أن الوصية يمكن أن تكون للورثة وغيرهم، وأنها حق شرعي للموصي، يضعه حيث يشاء.
لكن للأسف ذهب فريق من الفقهاء إلى تحريم الوصية للورثة، وبالتالي حرمان المورث من النظر في مصالح ورثته من بعده.. وكل ذلك بناء على حديث يروونه، وهم يعلمون أن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحيل أن يعارض القرآن الكريم، فكيف ينسخ أحكامه؟
التنويريون والصراعات مع المقدسات (226)
ومثل ذلك تلك الأحاديث المرتبطة بالعصبة، والتي حرموا فيها البنات من كثير من حقوقهم في الإرث، وجعلوا أبناء الأعمام مزاحمين للبنات.. وهو ما لم يدل عليه دليل قطعي، بل كل الأدلة الواردة في ذلك مناقضة للنصوص القرآنية القطعية، والتي تنص على أن {أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]
كان يمكن للتنوريريين أن يأخذوا بمثل هذه الأقوال الفقهية، وخاصة تلك الواردة عن أئمة أهل البيت، والتي تنص على إمكانية الوصية للورثة، وعلى أن الأقربين أولى بالمعروف، وبذلك تنتفي المشكلة من أساسها.
لكنهم لا يريدون إلا أن يظهروا مجددين في هذا المجال، كما ظهروا في غيره، ولذلك راحوا يتلاعبون بالنصوص، ويحتالون عليها، وكم فرحوا عندما سمعوا بالتشريع التونسي المرتبط بهذا المجال، وكأن الأمة لا ينقصها إلا سد هذه الثغرة.
وقد قال محمد شحرور تعليقا على ما فعلته تونس: (وإذ أهنئ شعب تونس على هذا الإنجاز، أهنئ نفسي ببارقة الأمل هذه، فرغم أن الطريق شائك لكن الشعوب لا بد لها أن تستيقظ لو بعد حين)
وقد كان لشحرور الذي تجرأ على كل أحكام الشريعة، وراح يجدد فيها من غير أن تتوفر له تلك الأدوات قصب السبق في هذا المجال، مع أنه، وفي فترة قريبة، وفي لقاء سجل معه، سئل فيه عن فهمه لآيات المواريث فأجاب بأنه (1) لم يصل لرؤية واضحة فيها، ولكنه بصدد دراستها وفق التغيرات المعاصرة في علم الرياضيات الحديثة التي توصلت لعلوم جديدة من التحليل الرياضي والإحصاء.
لكنه بعد فترة قصيرة، راح يخرج لنا بنظرياته العجيبة في هذا المجال، والتي لا
__________
(1) انظر: تخبط محمد شحرور في فهم آيات الميراث، د. خلدون مخلوطة.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (227)
علاقة بالرياضيات الحديثة، ولا بأي شيء حديث.. بل كلها من نوع الهرطقات اللغوية التي يستعملها، ويتصور أنه فهم من النصوص ما لم يفهمه الأوائل والأواخر.
وقد ذكر في بعض حوراته معبرا عن فهمه لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وأنه سئل في الجزائر ومصر والسعودية والعراق عن معناها؛ فقال لهم: (إذا أنا أعطيتك أنت ورفاقك وأنتم خمسة أشخاص كل واحد مائة دولار، وقلت لي: ماذا أعطيتني؟ قلت لك: أعطيتك مثل رفاقك، أليس هذا يعني أنني سويتك تماما برفاقك؟، وهكذا الآية إذا أعطيت أخاً مائة دولار وأختيه لكل واحدة مائة دولار، وسألني كما أعطيتني؟ فقلت له: أعطيتك مثل أختيك، يعني هذا أنني أعطيت الجميع مثل بعضهم البعض)
وبذلك تصور أنه قد حل المشكلة، وأن الآية الكريمة لم تنص أبدا على كون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى، وإنما أخبرت عن الحكم المرتبط بثلاثة أولاد: ابن وأختيه، حيث ينال الابن مثل نصيب كل واحد من أخواته.. وهو تلاعب واضح بالنص الصريح والواضح والذي يخاطب كل الحالات، لا مجرد الحالة التي افترضها.
فالآية الكريمة ذكرت أن نصيب الذكر حظ الأنثيين معاً، ولم تقل ـ كما توهم ـ أن نصيبه (مثل الأنثيين)، وهاتان الكلمتان [المثل] و[الحظ] تدلان على ذلك.
ثم هو بعد ذلك يناقض نفسه، لأن حالات الميراث لا ترتبط فقط بعائلة مكونة من ثلاثة أولاد، وإنما عدد الأولاد في أكثر العائلات يكون أكثر من ذلك بكثير، وهنا يقع الارتباك والخلط في منظومتة الهشة التي أسسها على الفهم المزاجي للنص، لا على الفهم الصحيح الذي تتطلبه ألفاظه، والذي اتفق عليه جميع اللغويين والمفسرين من جميع المدارس الإسلامية في جميع فترات التاريخ.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (228)
حيث أن تساوي الذكور مع الإناث عنده لا يتم إلا في حالتين فقط: إذا كان الوارث ابنا وبنتا؛ فيأخذ الابن النصف، والبنت النصف، أو إذا كان هناك ابن واحد وابنتان، فلكل واحد الثلث بالتساوي، ولكن عندما يكون البنات أكثر من اثنتين، أي ابن واحد وأربع بنات فيعطي الابن الثلث، والبنات الأربع الثلثان، وهنا ينتقض التساوي عنده، بل يصبح ما ذكره الفقهاء أكثر عدلا بكثير مما ذكره.
وقد أجاب شحرور عن هذا التناقض الذي حصل في العدالة التي راح يبحث عنها بأن هذا التفسير العلمي واللغوي للآية يحقق العدل للمجموعات لا للأفراد، (فبناءً على ما تم ذكره فإنه في بعض الحالات يحصل الذكر على ربع أو ثلث ما تحصل عليه الفتاة، ولذلك فإن حدود الميراث في القرآن تعمل على تحقيق العدل بين مجموعة الأولاد من الفتيات ومجموعة الأولاد من الذكور، لا العدل بين الأفراد، فرداً فرداً)
وهو نوع من الخداع والحيل التي تمرن عليها، لأنه وجد من يستجيب لها، ويعجب بها، ولسنا ندري كيف يجيب عن ذلك الارتباك الذي سيحل به لا محالة عندما يرى أن نصيب الزوج في الميراث ضعف نصيب الزوجة، والذي له مبرره الشرعي الممتلئ بالعدالة، والذي نص عليه بصراحة قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]
ولست أدري أي حيلة يدبر لهذه الآية الكريمة، حتى يحتال عليها، ويخرجها عن دلالاتها الواضحة والقطعية، والتي اتفق عليها جميع الفقهاء.
ومثل ذلك قوله تعالى عند ذكره للأحكام المرتبطة بالإخوة، والتي نص فيها
التنويريون والصراعات مع المقدسات (229)
صراحة على كون نصيب الذكر ضعيف نصب الأنثى، كما قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]
وقد كان من حكمة الله تعالى أن يختم هذه الآية الكريمة بقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]، ليبين أنه سيأتي من يتلاعبون بالألفاظ، ويحتالون على النصوص ليضلوا الناس عن هدي ربهم وعدالة ربهم إلى الدين المزاجي الذي يؤسسونه بأهوائهم، لا بسلطان من العلم أو الحجة.
وقد كان في إمكان التنويريين أن يدرسوا هذه الآيات الكريمة ضمن المنظومة الإسلامية الشاملة لحقوق المرأة وواجباتها، ليعلموا أن الشريعة التي كلفت المجتمع بالإنفاق على المرأة، وكلفت الزوج بجلب المهر لزوجته، هي نفسها التي فرضت للمرأة نصيب نصف الذكر.
فإذا ما حصل اختلال في المجتمع؛ فقصر في حق المرأة، ندعو إلى إصلاح الخلل الذي حصل، لا إلى تبديل أحكام الله.. وإلا فإنا لو طبقنا ذلك، فسيصبح الزمان أداة لمحو أحكام الله الصريحة والقطعية واحدا واحدا.
وقد كان في إمكانهم أيضا أن يدعو إلى تفعيل الوصية للأقربين بمفهومها الشرعي لتغطي الحالات الخاصة، مثلما فعل الفقهاء مع الوصية الواجبة المرتبطة بإرث الأحفاد الذين مات والدهم قبل موت جدهم، فأعطوا نصيب والدهم من الميراث بناء على الوصية الواجبة، مع أنها تخالف ما اتفقت عليه المدارس السنية من عدم وصية للورثة.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (230)
كان في إمكانهم أن يلجأوا إلى مدرسة أهل البيت في هذا المجال، فيجدوا فيها أشياء كثيرة تتناسب مع العدالة في الميراث، والتي يمكن الاستفادة منها كما استفيد من كثير من أحكام الطلاق.. فالكل مسلمون، ولا حرج في الاستفادة من أي مدرسة من المدارس ما دامت تتحقق من خلال أقوالها مقاصد الشريعة.
لكن التنويريين، نتيجة ضغوط الاتصالات الكثيرة، ووسائل الإعلام التي تزاحم أوقات فراغهم لم يجدوا الوقت الكافي للبحث في ذلك، واكتفوا بمزاجهم وأهوائهم وآرائهم المجردة عن كل دليل.
التنويريون والصراعات مع المقدسات (231)
من أخطر مظاهر التنوير المعاصر تلك الجرأة على الحقائق المقدسة المعصومة التي وردت في القرآن الكريم أوالسنة الصحيحة القطعية التي لا مجال معها للفكر، ولا للنظر، لأن كل ذلك جرأة على الله، وسوء أدب معه، وتقديم للهوى على النص..
فمن ذا الذي يعطي لنفسه الحق في أن يعقب على كلام ربه، أو كلام رسوله الذي لا ينطق عن الهوى؟.. ومن ذا الذي يتصور أنه أكثر علما وفهما وإحاطة بحقائق الوجود حتى يعطي لنفسه ذلك الحق؟
لكن التنويريين باتجاهاتهم المختلفة أعطوا لأنفسهم هذا الحق؛ فراحوا يناقشون في كل المقدسات التي اتفقت عليها الأمة وأجمعت عليها إجماعا كليا، لا طائفيا، وراحوا لأجل ذلك يلوون أعناق النصوص المقدسة، ويتلاعبون بها ليتحول الدين إلى مزاجهم وأهوائهم ورغباتهم.
ولذلك حاولنا في هذا الكتاب أن نناقش القضايا الكبرى التي تركز عليها الدعوات التنويرية، والتي حاولت بكل الوسائل أن ترفع عنها القداسة، ليصبح الدين مادة هلامية يتلاعب بها كل من هب ودب، وذلك عبر مقالات مختلفة كتبت في أوقات متباينة، وعبر بعض السجالات التي حصلت بيننا وبين بعض التنويريين.