الكتاب: النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1437 هـ
عدد الصفحات: 145
ISBN: 978-620-3-85922-5
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه الإسلامي، لدوره الكبير في بيان أحكام الشريعة الإسلامية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجالاتها، فدوره هو تنزيل أحكام الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها، ويجري عليه أحكامها.
انطلاقا من هذا، حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج:
1 ــ المنهج الاستدلالي.
2 ــ المنهج المذهبي.
3 ــ المنهج المذاهبي.
4 ــ منهج التيسير.
5 ــ منهج التشديد.
6 ــ المنهج المقاصدي.
وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين - باختصار- الخصائص التي يتميز بها كل منهج، مع الأعلام الذين تبنوه، والآليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (7)
يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه الإسلامي، لدوره الكبير في بيان أحكام الشريعة الإسلامية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجالاتها، فدوره هو تنزيل أحكام الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها، ويجري عليه أحكامها.
وهو لذلك المحك الذي تعرف من خلاله واقعية الشريعة الإسلامية ومدى مراعاتها لأحوال المكلفين، ومدى انسجامها مع طبيعة البيئة الزمانية والمكانية الحادثة.
ويعتبر كذلك، وبدرجة أهم، هو المنهج الذي من خلاله يستطيع الفقيه أن يجعل الشريعة هي الحاكم في كل شؤون الحياة، بالبحث عن الأحكام والبدائل المتناسبة مع القيم التي جاءت الشريعة لتحقيقها، ولذلك لا يقف فقيه النوازل منتظرا أن يستفتى فيفتي، بل يبادر فيبحث عن الأحكام، ويبحث في نفس الوقت عن البدائل الشرعية في حال الحاجة إليها.
ولهذه الأهمية الكبيرة، فإن تحصيل ملكة الاجتهاد فيه يتطلب – قبل كل شيء - معرفة منهج البحث فيه خطوة خطوة، حتى لا يقع الباحث فيما حذر منه القرآن الكريم من الفتوى بغير علم، أو الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (1)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم،
__________
(1) سورة النحل: 116.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (8)
فضلوا وأضلوا) (1)
وقد حصل في الواقع بعض ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تصدي بعض من لم تتوفر فيهم القدرات العلمية الكافية على الفتوى في مسائل خطيرة، بناء على اجتهادات لم تستكمل أدواتها، فشوهوا بذلك شريعة الله السمحة، المبنية على العلم والحكمة والعدل والرحمة.
وقد أتاحت تلك الفتاوى الشاذة الفرصة للعلمانيين واللادينيين للسخرية من الشريعة الربانية، واستعمال هذه الفتاوى ذريعة لذلك، دون تفريق بين ما هو رباني في الشريعة، وبين ما هو اجتهاد بشري يقبل الخطأ والصواب.
وقد رأينا أن السبب الأكبر فيما نراه في واقع الفتوى هو المنهج الذي يعتمده الفقهاء والمفتون على الساحة الإسلامية، فالمنهج هو الأصل الذي يعتمد عليه المفتي، ولا يمكن أن نرقى بالفتوى في النوازل ما لم نتعرف على المنهج الصحيح الذي طلبت الشريعة التزامه.
انطلاقا من هذا، حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج:
1 ــ المنهج الاستدلالي.
2 ــ المنهج المذهبي.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم رقم (100) (انظر: صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: الأولى، 1422 هـ، ج 1، ص 31)
ورواه مسلم في كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه، وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان رقم (2673) (صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج 4 ص 2058)
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (9)
3 ــ المنهج المذاهبي.
4 ــ منهج التيسير.
5 ــ منهج التشديد.
6 ــ المنهج المقاصدي.
وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين - باختصار- الخصائص التي يتميز بها كل منهج، مع الأعلام الذين تبنوه، والآليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع.
وقد قسمنا الدراسة إلى ستة مباحث، بالإضافة إلى تمهيد وخاتمة، وهي على الشكل التالي:
التمهيد: تناولنا فيه مفهوم فقه النوازل وأهميته.
المبحث الأول: تناولنا فيه المنهج الاستدلالي وأعلامه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الثاني: تناولنا فيه المنهج المذهبي وأعلامه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الثالث: تناولنا فيه المنهج المذاهبي وأعلامه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الرابع: تناولنا فيه منهج التيسير وأعلامه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث الخامس: تناولنا فيه منهج التشديد وأعلامه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
المبحث السادس: تناولنا فيه المنهج المقاصدي وأعلامه وأدلته ومنهج الفتوى فيه.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (10)
لغة: النوازل على وزن فواعل من: نزل ينزل نزولا فهي نازلة، جاء في لسان العرب: نزل: النزول: الحلول، وقد نزلهم، ونزل عليهم، ونزل بهم، ينزل نزولاً ومَنْزَلاً ومَنْزِلاً، والنازلة: الشديدة تنزل بالقوم، وجمعها النوازل (1).
اصطلاحا: بما أن فقه النوازل لم يكن بابا من أبواب الفقه المعتمدة، وإنما كان ضمن المباحث الفقهية المختلفة، ولهذا لا نجد له في تراثنا الفقهي تعريفا خاصا دقيقا مثلما نجد ذلك في سائر المسائل والأبواب، ولهذا نذكر هنا بعض ما ذكره العلماء مما يمكن أن يستنتج من خلاله تصورهم له:
فقد عرفه معجم لغة الفقهاء بأنه: (الحادثة التي تحتاج إلى حكم شرعي) (2).
وعرفه الشيخ بكر أبو زيد بأنه (الوقائع والمسائل المستجدة، والحادثة المشهورة بلسان العصر باسم النظريات والظواهر) (3)
ولعل إطلاق النازلة على المسألة الواقعة يرجع إما لملاحظة معنى الشدة لما يعانيه الفقيه في استخراج حكم هذه النازلة، ولذا كان السلف يتحرجون من الفتوى ويسألون هل نزلت؟
__________
(1) لسان العرب، ابن منظور، دار صادر – بيروت، ج 11، ص 658.
(2) معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1408 هـ، ص 471.
(3) بكر أبو زيد، فقه النوازل، بيروت: مؤسسة الرسالة، ص 8.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (11)
أو أنها سميت نازلة لملاحظة معنى الحلول، فهي مسألة نازلة يجهل حكمها تحل بالفرد أو الجماعة ((1).
من المصطلحات التي تطلق على هذا النوع من الأحكام الفقهية:
وهي أشهر المصطلحات وأقدمها وأفضلها، فقد ذكر في القرآن الكريم في مواضع مختلفة منها قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (2)
وقد عرفه الحطاب من المالكية بقوله: (هي الإخبار بحكم شرعي لا على وجه الإلزام) (3)
وعرّفه القرافي عند بيانه الفرق بين الفتوى وبين الحكم فقال: (فأما الفتوى فهي إخبار عن الله تعالى وبيان ذلك أن المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي) (4)
والعلاقة بينها وبين فقه النوازل علاقة عموم وخصوص، فالفتوى أعم من فقه النوازل، ذلك أن المفتي يتعرض لكل المسائل سواء ما كان منها حادثا أو ما لم يكن، ولهذا نجد من أهم مصادر فقه النوازل الكتب المختصة بالفتاوى كفتاوى ابن تيمية، والفتاوى الهندية، وفتاوى ابن حجر الهيثمي، وفتاوى الشيخ عليش، وغيرها كثير.
__________
(1) سبل الاستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة، الدكتور عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ع 11 ج 2 ص 533.
(2) سورة النساء: 127.
(3) مواهب الجليل، الحطاب، دار الفكر، ط 3، 1992، ج 1، ص 32.
(4) الفروق، القرافي، بيروت، عالم الكتب، ج 4، ص 89.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (12)
وهي مثل الفتاوى، وقد ذكرت في القرآن الكريم كذلك كثيرا كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1)
وسميت بذلك لأنها أسئلة يطرحها المستفتون على المفتين، ومن المؤلفات في هذا: مسائل القاضي أبي الوليد بن رشد.
وقد سميت كذلك في مراجع أخرى بالأجوبة، أو الجوابات، وهي تسمية لبعض علماء الأندلس لأنها مسائل أجاب عنها العلماء بطلب من الناس.
لاشك في اعتبار فقه النوازل من أهم الفروع الفقهية وأشدها صعوبة، ذلك أنها محاولة لتطبيق الشريعة الإسلامية في حياة الناس، والإجابة على الإشكالات التي تعرض لهم، بل هو فوق ذلك محاولة للبحث عن البدائل المناسبة لتيسير ممارسة الحياة وفق الشريعة الإسلامية.
وقد ذكر الباحثون في هذا الباب الكثير من الفوائد المبينة لأهمية هذا الجانب، نذكر منها (2):
1 - البحث فيها يبرهن على صدق الإسلام وخلوده وصلاحيته للقيادة والريادة في هذه الحياة.
__________
(1) سورة البقرة: 189.
(2) انظر: الضوابط الشرعية لبحث القضايا المعاصرة في الرسائل العلمية، مجموعة من الباحثين، بحث مقدم لمؤتمر (الدراسات العليا ودورها في خدمة المجتمع)، والمنعقد بتاريخ 19/ 4/2011 في الجامعة الإسلامية – غزة، دت، دط، ص 7، فما بعدها.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (13)
2 - بيان ما يمتاز به الفقه الإسلامي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة، وتنوعه الشامل، وقواعده المحكمة وعطائه المتواصل مما يستوجب الاهتمام به علما وعملا، دراسة وتطبيقا.
3 - بحثها يعطي إمكانية الاطلاع على الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من العصور الإسلامية والتي واجهت كل طارئ وجديد، وكيف أن الفقه الإسلامي نجح في مواجهة تلك الإشكالات الواقعية، الميدانية، في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامدا عاجزاً عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.
4 - أن لفقه النوازل أهمية كبرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا صورا من المجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والأدبية (1):
فمن الناحية الفكرية: يعرفنا فقه النوازل بالعلاقة بين المذاهب الفقهية، ويظهر ذلك من خلال المناظرات والمناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء المذاهب في أثناء التعرض لنازلة من النوازل.
ومن الناحية الاجتماعية: تقدم النوازل الكثير من الإشارات إلى أحوال المجتمع الإسلامي في منطقة النازلة، الأمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم الاجتماع مثلما هو للفقيه والعالم.
لذا نجد كثيرا من المؤرخين قد انصرف إلى مصنفات النوازل والفتاوى لدراستها واستنباط ظواهر اجتماعية منها واستنتاج إفادات تاريخية، ومن هؤلاء المستشرق الفرنسي جاك بارك الذي اعتنى بنوازل المازوني- الذي استفاد كثيرا من كتب فقه النوازل لإبراز
__________
(1) انظر هذه الفوائد وغيرها في: د. عبد الحق بن أحمد حميش، مدخل إلى فقه النوازل، دت، دط، ص 15، فما بعدها.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (14)
جوانب اجتماعية للمغرب في عصر هذه النوازل.
ومن الناحية الأدبية: فإن لفقه النوازل فوائد عظيمة، فقد تحتوي الأسئلة والأجوبة عن تلك النوازل على قطع أدبية بليغة أو شعر نادر استشهد به، كما أنها تحافظ لنا على لغة الفقه والفقهاء الأدبية الرائعة.
ومن الناحية السياسية: تنقل هذه النوازل صورة واقعية لحوادث تاريخية تمس ذلك المجتمع الذي وقعت فيه النازلة في السلم والحرب مما قد يفيد السياسي في دراسته ومما يعينه في فهم كثير من أحداث الزمان.
ومن الناحية الاقتصادية: تقدم النوازل جملة من الصور عن الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد الإسلامية، وعن الملكية والتجارة والبنوك وهذا كله يمكن معرفته من خلال تلك النوازل والمسائل المتعلقة بالمواضيع الاقتصادية، كطغيان البنوك الربوية على واقع المسلمين اليوم وكثرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون ويطرحها الواقع المر الذي يتخبط فيه الجانب الاقتصادي في المجتمعات المسلمة، ومشكلة الديون التي تتعب كاهل الدول الإسلامية وغيرها من المواضيع الاقتصادية التي تحتاج إلى فقه واجتهاد في نوازلها وواقعاتها المريرة.
ومن الناحية التاريخية: تقدم النوازل أحداثا تاريخية وقعت للأمة الإسلامية ونزلت بها وتم الجواب عنها، وتقدم أحيانا أحداثا أغفلها المؤرخون الذين ينصب اهتمامهم غالبا بالشؤون السياسية وما يتصل بالحكام والأمراء ومثال عن ذلك ما يحدث اليوم في أفغانستان من تقاتل بين الفصائل الأفغانية، أو مثل الحرب العراقية الإيرانية التي وقعت في الثمانينيات أو اجتياح العراق للكويت وما ترتب عليه من استعانة بالكفار، وما حدث ويحدث لإخواننا المسلمين في يوغسلافيا من اضطهاد واغتصاب وما يستلزم ذلك من فقه واجتهاد يجيب عن تلك الشدائد والنوازل التي تنزل بالأمة الإسلامية في عصورها المتتالية.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (15)
5 - ومن فوائد فقه النوازل ذلك الأثر العلمي الذي تخلفه هذه الإجابات لأنها تحفظ لنا مسائل واجتهادات العلماء بنصها لتكون سجلا للفتوى والقضاء ومرجعا مهما للمهتمين بها من أهل الاختصاص لا يمكن الاستغناء عنها بحال.
6 - كما أن فقه النوازل يعرفنا بأسماء لامعة من العلماء المجتهدين المفتيين، الذين تصدوا لهذه النوازل، وكيف أنهم بذلوا الجهد والوسع للوصول إلى الحكم الشرعي وذلك باتباع أصول الاجتهاد دون تعصب أو هوى.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (16)
يمكن تعريف المنهج الاستدلالي بما عرف به العلماء الفقه نفسه، وهو أنه (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة من الأحكام الشرعية العلمية المستفادة من أدلتها التفصيلية) (1)
ففي هذا التعريف نلاحظ أن الأحكام الشرعية تستنبط من الأدلة التفصيلية، وهي الأدلة المستنبطة من المصادر الكبرى للتشريع الإسلامي من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها.
يقول الدهلوي: (حقيقة الاجتهاد - على ما يفهم من كلام العلماء - استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام الكتاب والسنة والإجماع والقياس ويفهم من هذا أنه أعم من أن يكون استفراغا في إدراك حكم ما سبق التكلم فيه من العلماء السابقين أو لا وافقهم في ذلك أو خالف) (2)
ولذلك فإن هذا المنهج يعتمد أصحابه في استنباط الأحكام الشرعية على تلك المصادر الأصلية والتبعية من غير نظر أو اهتمام لما توصل إليه غيرهم من الفقهاء من أصحاب المذاهب أو غيرهم، بل يعتبرون التقيد بأقوال الفقهاء والالتزام بها من غير نظر في الأدلة بدعة حادثة في الملة لا يستحق صاحبها أن يوصف بالمجتهد ولا الفقيه، ولا يحق له بالتالي أن يتصدر لمنصب الإفتاء إلا على سبيل النقل لقول غيره.
__________
(1) علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع، عبد الوهاب خلاف، مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر، ص 13.
(2) عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ (الشاه ولي الله الدهلوي)، تحقيق: محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية - القاهرة (ص: 3).
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (17)
وأصحاب هذا المنهج إذا عرضت لهم حادثة يبدؤون أولا بالنظر فيما ورد حولها في المصدرين الأساسيين للدين من الكتاب والسنة.
وربما يكون هذا هو موضع الاتفاق الوحيد بينهم (1)، ذلك أن لكل منهم بعد ذلك مصادره الخاصة به، والتي يؤسس عليها رؤيته للاستنباط من مصادر الشريعة.
ويبدأ الخلاف من اعتبار الإجماع أو عدم اعتباره، وفي حال اعتباره يحصل الخلاف الطويل أيضا في كون المسألة التي ادعي فيها الاجماع مجمع عليها حقيقة أم لا، فلا يهم أصحاب هذا المنهج أن يقفوا مع جماهير الفقهاء أو يخالفوهم، لأن العبرة عندهم بالدليل، لا بكثرة الفقهاء أو قلتهم (2).
ثم يتسلسل الخلاف بعد ذلك في اعتبار ما يطلق عليه بالأدلة المختلف فيها كالاستحسان وشرع من قبلنا، وغيرها، فإن أداهم الاجتهاد إلى صحة شيء منها أفتوا به، وإن تعارضت عندهم الأدلة فإنهم يفتون بما يترجح لديهم منها.
وهذا المنهج ينتقد بشدة سائر المناهج، وخاصة المناهج التي تعتمد التقليد، أو تعتمد الرأي المجرد، أو تعتمد أحوال المكلفين من التيسير والتشديد ومراعاة المصالح ونحو ذلك، لأنها تعتبر أن الأصل في الفتوى هو الإخبار عن مراد الله من عباده، وهذا المراد لا يمكن
__________
(1) بل هم يختلفون أيضا في هذا من حيث آليات الاستنباط كما هو معروف في مظانه من كتب أصول الفقه، وكما ذكر العلماء ذلك بتفصيل في الكتب التي بينت أسباب خلاف الفقهاء، ومن أهمها: أسباب اختلاف الفقهاء، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، تقديم: حسن بن عبد الله آل الشيخ وعبد الرزاق عفيفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1431 هـ / 2010 م.
(2) انظر تفاصيل الخلافات الواردة حول الإجماع في كتب أصول الفقه، وكمثال على ذلك: أصول الفقه، محمد بن مفلح، أبو عبد الله الصالحي الحنبلي (المتوفى: 763 هـ)، حققه وعلق عليه وقدم له: الدكتور فهد بن محمد السَّدَحَان، مكتبة العبيكان، ط 1، 1420 هـ - 1999 م، ج 2، ص 366، فما بعدها.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (18)
التعرف عليه إلا من المصادر الأصلية أو ما انبنى عليها.
انطلاقا من هذه الخلاصة المختصرة للرؤية العامة لأصحاب هذا المنهج، نحاول هنا باختصار أن نتعرف على كبار ممثليه من أعلام الفقهاء، ثم على الأدلة التي يعتمدون عليها في التأسيس لمنهجهم، ثم على الآليات العملية التي يعتمدونها في الفتوى.
ليس من الصعب التعرف على العلماء الذين يتبنون هذا المنهج، ذلك أنهم جميعا كتبوا أو صرحوا بما يدل على ضرورة العودة إلى الاجتهاد وعدم غلق بابه، وعلى النهي عن التقليد وخاصة إذا تعارض التقليد مع النص، ولكنا مع ذلك نذكر كبار من يتبنون هذا المنهج ابتداء من العصر الأول إلى عصرنا:
أولا ـ أعلام القرون الفاضلة الأولى من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المذاهب الفقهية وغيرهم من الفقهاء الذين لم يكن لهم من التلاميذ من ينشر آراءهم ومذاهبهم، فأبو حنيفة كان يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) (1)
والإمام أحمد كان يقول: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا) (2)
والشافعي كان يقول: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي) (3).
__________
(1) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 1 ص 64.
(2) محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل - بيروت، 1973، ج 2، ص 201.
(3) المرجع السابق، ج 2، ص 421.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (19)
وقال المزني صاحب الشافعي في أول مختصره: (اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه) (1)
أما ابن حزم، وهو من أكبر أعلام المذهب الظاهري، فقد كان من كبار المتشددين على المقلدين، وخاصة مقلدي المذاهب الأربعة، وحصلت بينه وبينهم مناظرات، بل حصلت له بسبب ذلك محنة (2).
وقد عاتب في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) المقلدين لأئمة المذاهب عتابا شديدا، وعندما وصلت نوبة الحديث إلى الظاهرية، قال: (وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد، فمن قلد أحدا مما يدعي أنه منهم فليس منهم، ولم يعصم أحد من الخطأ، وإنما يلام من اتبع قولا لا حجة عنده به، وألوم من هذا من اتبع قولا وضح البرهان على بطلانه، فتمادى ولج في غيه، وبالله تعالى التوفيق، وألوم من هذين وأعظم جرما من يقيم
__________
(1) نقلا عن: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، علماء نجد الأعلام، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط 6، 1417 هـ/1996 م، ج 5، ص 297.
(2) يقول ابن حيان واصفا المحنة التي تعرض لها ابن حزم: (استهدف إلى فقهاء وقته، فتألّبوا على بغضه، وردّ قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنّعوا عليه، وحذّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا أعوامهم عن الدنوّ إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيّرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به، منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا، به يبثّ علمه فيمن ينتابه بباديته من عامّة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة الذين لا يحسّون فيه الملامة بحداثتهم، ويفقّههم ويدرسهم، ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف حتى كمل من مصنّفاته في فنون العلم وقر بعير، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية) (انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة، محمد بن عبد الله الغرناطي الأندلس، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1424 هـ، ج 4، ص 91.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (20)
على قول يقر أنه حرام، وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام، ويتركون أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقرون أنها صحاح، وأنها حق، فمن أضل من هؤلاء، نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهدى والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو) (1)
ثانيا - بعض أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم من الذين لم يمنعهم انتماؤهم في الظاهر لمذاهبهم عن التشدد مع المقلدين، ذلك أن اتباعهم للمذاهب ليس على سبيل التقليد، وإنما على سبيل الاتباع.
ومن الأمثلة على ذلك ابن عبد البر المالكي (ت 364 ه)، وهو من كبار المتشددين على المقلدين، وإن كان مالكي المذهب، وقد ضمن رأيه في التقليد قصيدة في كتابه (جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) جاء فيها:
يا سائلي عن موضع التقليد... خذ عني الجواب بفهم لب حاضر
واصغ إلى قولي ودن بنصيحتي... واحفظ علي بوادري ونوادري
لا فرق بين مقلد وبهيمة... تنقاد بين جنادل ودعاثر (2)
ومنهم العز بن عبد السلام، والذي كان شافعي المذهب، ومع ذلك كان يتعجب من المقلدين الذين يعرضون عن الأدلة، ويكتفون بما ذهب إليه أئمتهم، ومن تصريحاته في ذلك قوله: (ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم لأندلسي القرطبي الظاهري، تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ج 2، ص 120.
(2) جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر يوسف عبد البر النمري القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، ج 2، ص 988.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (21)
بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وظن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره) (1)
ثم ذكر حال الفقهاء في عصره وغيره، فقال: (فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر) (2)
ثم قارن ذلك الوضع بما كان عليه السلف الصالح، فقال: (وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته) (3)
ثالثا - ظهر في العصور التي ترسخ فيها التقليد بعض الأعلام الكبار الذين دعوا إلى
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة، 1414 هـ - 1991 م، ج 2، ص 159.
(2) المرجع السابق،، ج 2، ص 159.
(3) المرجع السابق،، ج 2، ص 159.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (22)
العودة إلى الدليل وترك التقليد، وقد كان من كبار هؤلاء ابن تيمية، فقد ألف الكتب والرسائل الكثيرة في الرد على التقليد، بل كانت له اجتهاداته الكثيرة في الفتوى، والتي جعلته يواجه الكثير من فقهاء المذاهب بسببها.
وقد ذكر في الفتاوى الكبرى بعض الجهد الذي بذله في ذلك، والأقوال التي انفرد بها عن أهل عصره، فحصل له بسببها من المحنة ما حصل: (ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل قوله: بالتكفير في الحلف بالطلاق، وأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة، وأن الطلاق المحرم لا يقع، وله في ذلك مصنفات ومؤلفات. منها قاعدة كبيرة سماها: (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان). نحو أربعين كراسة. وقاعدة سماها: (الفرق بين الطلاق واليمين). بقدر نصف ذلك. وقاعدة في (أن جميع أيمان المسلمين مكفرة) مجلد لطيف. وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة. وقاعدة سماها: (التفصيل بين التكفير والتحليل). وقاعدة سماها: (اللمعة)، وغير ذلك من القواعد والأجوبة في ذلك لا تنحصر ولا تنضبط) (1)
وقريب منه الشاطبي (ت 790) الذي لم يمنعه انتماؤه للمذهب المالكي من التصريح بضرورة العودة إلى الدليل وترك التقليد لأئمة المذاهب، يقول في (الاعتصام): (والرابع: رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم، وحتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير، وفوقوا إليه سهام النقد، وعدوه من الخارجين عن
__________
(1) الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، دار الكتب العلمية، ط 1، 1408 هـ - 1987 م، ج 4، ص 161.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (23)
الجادة، والمفارقين للجماعة، من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي) (1)
وضرب مثالا لذلك بما حصل لبقي بن مخلد، فقال: (ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرين، حتى أصاروه مهجور الفناء، مهتضم الجانب، لأنه من العلم بما لا يدي لهم به، إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه، ولقي أيضا غيره، حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله، وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك، بحيث أنكروا ما عداه، وهذا تحكيم الرجال على الحق، والغلو في محبة المذهب، وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء، فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه، لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به، فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره) (2)
رابعا - ظهر في القرون المتأخرة بعد ابن تيمية بعض الأعلام الكبار الذين أحيوا الدعوة إلى فقه الدليل، وكتبوا في ذلك المؤلفات الكثيرة، وتعرضوا لبعض المحن بسبب ذلك.
ومن كبار هذه الطبقة الشوكاني صاحب المؤلفات الكثيرة في نصرة فقه الاستدلال بدل فقه التقليد، ومن تصريحاته في هذا الباب قوله بعد إيراده الخلاف في (قول الصحابي هل هو حجة أم لا): (والحق: أنه ليس بحجة (3)، فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة
__________
(1) الاعتصام، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، ط 1، 1412 هـ - 1992 م. ج 2 ص 865.
(2) المرجع السابق، ج 2، ص 865..
(3) رد أبو زهرة بشدة على الشوكاني في هذه المسألة بقوله: (ولا شكَّ أن هذه مغالاة في ردِّ أقوال الصحابة، ومن الواجب علينا أن نقول: إنَّ الأئمة الأعلام عندما اتبعوا أقوال الصحابة لم يجعلوا رسالةً لغير محمد (، ولم يعتبروا حجَّةً في غير الكتاب والسنَّة، فهم مع اقتباسهم من أقوال الصحابة مستمسكون أشدَّ الاستمساك بأن النبي واحدٌ، والسنَّةَ واحدةٌ، والكتابَ واحدٌ، ولكنهم وجدوا أن هؤلاء الصحابة هم الذين استحفظوا على كتاب الله سبحانه وتعالى، ونقلوا أقوال محمد (إلى من بعدهم، فكانوا أعرف الناس بشرعه، وأقربهم إلى هديه، وأقوالهم قبسةٌ نبويةٌ، وليست بدعاً ابتدعوه، ولا اختراعاً اخترعوه، ولكنها تلمُّسٌ للشرع الإسلامي من ينابيعه، وهم أعرفُ الناس بمصادرها ومواردها، فمن اتبعهم فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة:100] (أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، ص 218)، ونحب أن ننبه هنا بأن الشوكاني أيد القول بحجية الصحابي في كتابه (التقليد والإفتاء والاستفتاء) (انظر: التقليد والإفتاء والاستفتاء (ج 1 / ص 51) فما بعدها)
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (24)
إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وليس لنا إلا رسول واحد، وكتاب واحد، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه، وسنة نبيه، ولا فرق بين الصحابة وبين من بعدهم، في ذلك، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، وباتباع الكتاب والسنة، فمن قال: إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله، وسنة رسوله، وما يرجع إليهما، فقد قال في دين الله بمالم يثبت، وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به، وهذا أمر عظيم، وتقول بالغ، فمن حكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله، أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى، مما لا يدان الله عز وجل به، ولا يحل لمسلم الركون إليه، ولا العمل عليه، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله، الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم، وإن بلغ في العلم والدين عظم المنزلة أي مبلغ) (1)
ثم ختم قوله: (فاعرف هذا، واحرص عليه، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه
__________
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني اليمني، تحقيق: الشيخ أحمد عزو، دار الكتاب العربي، ط 1، 1419 هـ - 1999 م، ج 2، ص 188.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (25)
الأمة رسولا إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمرك باتباع غيره، ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا، ولا جعل شيئا من الحجة عليك في قول غيره، كائنا من كان) (1)
بالإضافة إلى الشوكاني، فقد ذكر السيوطي في كتابه المهم (الرد على من أخلد إلى الارض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) (2) الكثير من أقوال الفقهاء المتأخرين الذين دعوا إلى فتح باب الاجتهاد والرجوع إلى المصادر الأصلية مباشرة، وأنه في الإمكان أن يظهر المجتهدون في العصور المختلفة.
ومن العلماء الذين ذكرهم (3):
1 - (الماوردي) في أول كتابه (الحاوي)
2 - و(الروياني) في أول (البحر)
3 - والقاضي (حسين) في (تعليقه)
4 - و(الزبيري) في كتاب (المسكت)
5 - و(ابن سراقة) في كتاب (الأعداد)
6 - و(إمام الحرمين) في كتاب السير من (النهاية)
7 - و(الشهرستاني) في (الملل والنحل)
8 - و(البغوي) في أوائل (التهذيب)
__________
(1) المرجع السابق، ج 2، ص 189.
(2). طبع في دار الكتب لعلمية سنة 1403 هـ في مجلد بتحقيق (خليل الميس)، وأهمية هذه الرسالة تكمن في تتبع السيوطي لكل أقوال العلماء الذين أيدوا هذا المنهج، وقد ذكر أقوالهم، وبعض المصادر التي اعتمد عليها مفقودة.
(3) انظر كتاب: الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، تحقيق: (خليل الميس، دار الكتب لعلمية، 1403 هـ من (ص 68) إلى (ص 96).
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (26)
9 - و(الغزالي) في (البسيط)، و(الوسيط)
10 - و(ابن الصلاح) في (أدب الفتيا)
11 - و(النووي) في (شرح المهذب) و(شرح مسلم)
12 - والشيخ (عز الدين بن عبد السلام) في (مختصر النهاية)
13 - و(ابن الرفعة) في (المطلب)
14 - و(الزركشي) في كتاب (القواعد)، و(البحر)
وممن نص على ذلك من أئمة المالكية القاضي (عبد الوهاب) في (المقدمات)، و(ابن القصار) في كتابه في أصول الفقه، ونقله عن مذهب (مالك) وجمهور العلماء، و(القرافي) في (التنقيح)، و(ابن عبد السلام) في (شرح مختصر ابن الحاجب)، و(أبو محمد بن ستاري) في (المسائل المنثورة) و(ابن عرفة) في كتابه (المبسوط) في الفقه.
خامسا – نتيجة للدعوات السابقة إلى فقه الدليل، فإن المنهج الغالب على الكثير من الباحثين والفقهاء في عصرنا الحاضر هو هذا المنهج، وإن كانوا يختلفون في امتلاك الآليات التي تتيح لهم ممارسته.
أفرد أصحاب هذا المنهج أو الدعاة له الكثير من المؤلفات في نصرته، والرد على المخالفين لهم، وخصوصا من أصحاب المنهج المذهبي أو المذاهبي، ومن أهم تلك المؤلفات (المختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) لأبي شامة المقدسي، و(شرح قول المطلبي، إذا صح الحديث فهو مذهبي) للسبكي، و(جزء التمسك بالسنن) للذهبي، و(الاتباع) لابن أبي العز، و(فيض الشعاع، الكاشف للقناع، عن أركان الابتداع) للحسن بن أحمد الجلال اليماني، و(الوجه الحسن، المذهب للحزن، لمن طلب السنة ومشى على السنن) لإسحاق بن
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (27)
يوسف الصنعاني، و(إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد) للأمير الصنعاني، و(إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار) لصالح الفُلاَّني، و(إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن) لمحمد بن علي السنوسي (مالكي)، و(القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) و(أدب الطلب، ومنتهى الأرب) كلاهما للشوكاني، و(كشف الغمة عن سبب اختلاف الأمة) و(الاكتناف لأحكام الاختلاف) للأمير صديق حسن خان القنوجي، و(القول السديد في أدلة الاجتهاد والتقليد) لأبي النصر علي بن حسن خان القنوجي، و(الطريقة المثلى في ترك التقليد واتباع ما هو الأولى) لأبي الخير نور الحسن بن حسن خان القنوجي، وغيرهم كثير.
وبما أن استيعاب كل ما ذكروه يحتاج إلى مجلدات ضحمة، فسنقتصر هنا على مجامع الأدلة دون تفاصيلها:
ما ورد في النصوص الداعية إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة مطلقا أو في حال النزع، وهي كثيرة جدا نقتصر منها على ما يلي:
من القرآن الكريم: وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو إلى العودة المباشرة إلى الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1)
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2)
__________
(1) سورة النساء: 59.
(2) سورة المائدة: 92..
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (28)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1)
من الحديث الشريف: وردت أحاديث كثيرة في الحث على العودة المباشرة إلى المصادر الأصلية منها ما حدث به العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة، وإن عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد) (2)
ما ورد من الأدلة الكثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة والآثار عن الصحابة والتابعين على حرمة التقليد، وقد جمع ابن عبد البر الكثير منها كتابه (جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) في (باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع) (3)، ومن الأدلة التي أوردها:
1 - ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
__________
(1) سورة محمد: 33.
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ - 2001 م، ج 28، ص 367.
(3) جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 975.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (29)
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (1)، وقد ورد في تفسير هذه الآية عن عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب فقال لي: يا عدي بن حاتم، ألق هذا الوثن من عنقك)، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) قال: قلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا، قال: (بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟)، فقلت: بلى، قال: (تلك عبادتهم) (3)
2 – قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} (4)، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون.
3 – قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ
__________
(1) سورة التوبة: 30، 31.
(2) سورة التوبة: 31.
(3) المعجم الكبير، سليمان بن أحمد، أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، ط 2، ج 17، ص 92.
وانظر: سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة، الترمذي، أبو عيسى، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ط 2، 1395 هـ - 1975 م، ج 5، ص 278.
(4) سورة الزخرف: 23، 24.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (30)
اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} (1)
وقد علق ابن عبد البر على هذه الآيات وغيرها بقوله: (وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه، وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2)، وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا، فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك) (3)
الاستدلالات العقلية، وكثير منها صيغ بشكل مناظرات وحوارات مع المخالفين من القائلين بالتقليد معاملة لهم بالمناهج التي يعتمدون عليها في الاستدلال، ومن الأمثلة على ذلك ما نقله الزركشي وغيره عن المزني من قوله: (يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم أبطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت فيه بغير حجة قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال
__________
(1) سورة البقرة: 166 - 168.
(2) سورة التوبة: 115.
(3) جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 977.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (31)
وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} (1) أي من حجة بهذا، فإن قال: أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي، قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك، فإن قال: نعم ترك تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا يتناقض، فإن قال: لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك قيل له: وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه؛ فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك، فإن فاد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى الأدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحا وفسادا) (2)
ومثل ذلك ما روي عن سحنون، قال: كان مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، وكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دينار وذووه لم يجبهم، فتعرض له ابن دينار يوما فقال له:
__________
(1) سورة يونس: 68.
(2) نقلا عن: البحر المحيط في أصول الفقه، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، دار الكتبي، ط 1، 1414 هـ - 1994 م، ج 8، ص 329، وانظر: جامع بيان العلم وفضله ج 2، ص 992، وانظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 2، ص 136.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (32)
يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ قال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا؟ فقال: (أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟) قال: نعم، قال: إني قد كبر سني ورق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقا قبلاه، وإذا سمعا مني خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه، قال محمد بن حارث: هذا والله هو الدين الكامل والعقل الراجح لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن) (1)
ومثل ذلك هذه المناظرة الافتراضية التي صاغها ابن عبد البر بقوله: (يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا فإن قال: قلدت؛ لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له: أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعض دون بعض، وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه، فإن قال: قلدته لأني علمت أنه صواب قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، فإن قال: نعم، فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا يحصى من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك وتجدهم في أكثر ما ينزل بهم من السؤال مختلفين فلم قلدت أحدهم؟ فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس قيل له: فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا وإن قال: إنما قلدت بعض الصحابة قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج 2، ص 137.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (33)
قوله منهم أعلم وأفضل ممن أخذت بقوله على أن القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه) (1)
وكثيرا ما نرى أصحاب هذا المنهج يحاجون المخالفين لهم من المقلدين بما ذكره أئمتهم الذين يقتدون بهم، فالأئمة الأربعة، قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه كما رأينا ذلك سابقا.
بل يذكر ابن القيم أن غير المقلدين أكثر احتراما للعلماء من المقلدين، فيقول في فصل بعنوان (الفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها): (فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم، ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم، فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به، لا من خالفهم، فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه، ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به، ولذلك سمي تقليدا بخلاف ما استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى) (2)
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله: ج 2، ص 994.
(2) الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة، محمد بن أبي بكر بن ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية – بيروت، ص 264.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (34)
الرد على ما استند إليه المخالفون من أدلة، وأشهر ما انصب عليه اهتمامهم ما يستدل به المخالفون من أصحاب المناهج المذهبية أو المذاهبية كثيرا، وهو حديث (اختلاف أمتي رحمة) (1)، فقد جعل أصحاب المنهج المذهبي هذا الحديث شعارهم وقاعدتهم التي يحتمون بها (2)، وقد رد هؤلاء على هذا الحديث – أولا – ببيان وضعه (3)، و– ثانيا – بمعارضته الواضحة لما ورد في النصوص القطعية من القرآن والسنة من ذم الاختلاف، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4)، وقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (5)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض) (6)
ومن السابقين من أصحاب هذا المنهج الذين اشتدوا في رد هذا الحديث ابن حزم، فقد قال بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث: (وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان
__________
(1) باعتبار هذا الحديث محل خلاف بين المناهج، فسنتحدث عنه بتفصيل هنا، وفي محال أخرى من هذه الدراسة.
(2) نظر على سبيل المثال: شرح النووي على صحيح مسلم، النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ، ج 11 ص 91، وفيض القدير، المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1356، ج 1 ص 210.
(3) من المراجع التي حققت في بيان وضعه: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، دار المعارف، الرياض، الممكلة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ / 1992 م، ج 1، ص 141، وصفة صلاة النبي، الألباني، السعودية مكتبة المعارف، د ت،: ص: 49.
(4) سورة الأنعام: 153.
(5) سورة الأنفال: 46.
(6) صحيح مسلم (1/ 81)
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (35)
الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط...) (1)
ومن الذين اشتدوا في بيان وضعه، ونشر ذلك بين الناس الشيخ الألباني، ومن ردوده عليه ما ذكره في تعليقه على هذا الحديث في الضعيفة: (لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا) (2)
ثم ذكر الآثار السيئة لهذا الحديث، فقال: (وإن من آثار هذا الحديث السيئة أن كثيرا من المسلمين يقرون بسببه الاختلاف الشديد الواقع بين المذاهب الأربعة، ولا يحاولون أبدا الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة كما أمرهم بذلك أئمتهم، بل إن أولئك ليرون مذاهب هؤلاء الأئمة إنما هي كشرائع متعددة يقولون هذا مع علمهم بما بينها من اختلاف وتعارض لا يمكن التوفيق بينها إلا برد بعضها المخالف للدليل، وقبول البعض الآخر الموافق له، وهذا مالا يفعلونه، وبذلك نسبوا إلى الشريعة التناقض، وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عز وجل لو كانوا يتأملون قوله تعالى في حق القرآن {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3)، فالآية صريحة في أن الاختلاف ليس من الله، فكيف يصح إذن جعله شريعة متبعة، ورحمة منزلة؟) (4)
كما عرفنا سابقا فإن هذا المنهج ينطلق من الدليل في أي مسألة يبحث فيها، وهذا لا
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج 5، ص 64.
(2) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ج 1، ص 141.
(3) سورة النساء: 82.
(4) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ج 1، ص 142.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (36)
يعني عدم استفادته من آراء الفقهاء السابقين، بل هو يستفيد منها، بل قد ينطلق منها في بحثه عن الجواب الشرعي في المسائل الحادثة أو غير الحادثة، ولكنه لا يكتفي بذلك كما يفعل المقلدون، بل يعرض تلك الفتاوى على المصادر الأصلية أو التبعية للدين.
وبذلك فإن هذا المنهج يعتمد على مصدرين كبيرين:
الأول: هو النظر في النصوص والاجتهاد في فهمها أو استنباط الحكم الشرعي من خلال منطوقها أو مفهومها، أو من خلال القياس عليها، ونحو ذلك، ويستدلون لهذا:
1 ـ بما ورد في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن،: (كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟)، قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: (فإن لم يكن في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أجتهد رأيي، لا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدري، ثم قال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) (1)
2 ـ بما ورد عن الصحابة من منهجهم في الفتوى، ومن ذلك ما روي عن حريث بن
__________
(1) مسند أحمد، ج 36، ص 333، قال محققه: إسناده ضعيف لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو، لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين من أهل العلم، منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية.
وقال ابن القيم: (حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟ ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به) (إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج 1، ص 155.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (37)
ظهير- قال: أحسب- أن عبد الله قال: قد أتى علينا زمان وما نسأل، وما نحن هناك، وإن الله قدر أن بلغت ما ترون، فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم تجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما أجمع عليه المسلمون فإن لم يكن فيما أجمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك ولا تقل: إني أخاف وأخشى، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1)
ومثله ما روي عن شريح، أن عمر بن الخطاب كتب إليه: (إن جاءك شيء في كتاب الله، فاقض به ولا تلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر، فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك) (2)
الثاني: هو الاستفادة من اجتهادات المجتهدين من الفقهاء من أصحاب المذاهب وغيرهم من غير تقليد لها، ولهذا فإن هذا المنهج لا ينكر التمذهب مطلقا، بل ينكر ترك الدليل لأجل المذهب، كما جاء في الدرر السنية: (ونحن أيضا في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب، أو سنة
__________
(1) مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، التميمي السمرقندي، تحقيق: نبيل هاشم الغمري، دار البشائر (بيروت)، ط 1، 1434 هـ - 2013 م، ص 136.
(2) المرجع السابق، ص 135.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (38)
غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.. ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا. ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه) (1)
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ج 1، ص 227.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (39)
يراد بالمنهج المذهبي (1) في الفتوى المنهج الذي يعتمد على ما أفرزه التقليد المذهبي للأئمة الأربعة خصوصا من تراث فقهي كبير مس جميع المجالات من كتب التفسير وشروح الحديث، إلى متون الفقه وشروحها وحواشيها، بالإضافة إلى ما كتب في خصوص الفتوى في المتغيرات الحادثة في كل عصر مما يسمى بفقه النوازل.
وهذا المنهج بدأ متقدما على المذاهب الأربعة، فقد كان لكل إمام من أئمة الفقه من يتبعه ويذهب مذهبه في الفتوى، كما قال ابن عبد البر: (وقد كان العلماء قديماً وحديثاً يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف، ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم
__________
(1) يطلق المذهب في اللغة: على الطريق ومكان الذهاب، يقال ذهب القوم مذاهب شتى إذا ساروا طرائق مختلفة، قال الزبيدي: (المذهب: المعتقد الذي يذهب إليه.. والمذهب الطريقة، يقال: ذهب فلان مذهباً حسناً، أي طريقة حسنة) (انظر: تاج العروس، الزبيدي، دار الرشاد، الدار البيضاء، ج 1 ص 752، وانظر: لسان العرب، 2/ 1081)
ويطلق في الاصطلاح: على ما ذهب إليه إمام من الأئمة في الأحكام الاجتهادية، ويطلق عند المتأخرين على ما به الفتوى، فيقولون المذهب في المسألة كذا من باب إطلاق الشيء على جزئه الأهم، كإطلاق الصلاة على الفاتحة، والحج عرفة، وبهذا فإن (المذهب المالكي: هو الطريق الذي سلكه مالك في استنباط الأحكام الاجتهادية. انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، الحطاب، دار الفكر، ط:2، 1992، 1/ 24).
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (40)
في النبيذ الشديد، ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء) (1)
ولكنه بعد ذلك ولأسباب كثيرة، سنذكر هنا بعضها، اقتصرت دلالته على أتباع المذاهب الأربعة، والتي سرى إليها الخلاف هي أيضا، فصار لكل مذهب فقهاؤه الكبار الذين توزعوا على المدارس الفقهية التقليدية في العالم الإسلامية قرونا طويلة.
وقد اختلف أصحاب هذا المنهج في حكم الالتزام بهذه المذاهب بين متشدد ومتساهل:
فمن أمثال المتشددين ما عبر عنه صاحب (الفواكه الدواني)، وهو مالكي المذهب، بقوله: (وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من الأئمة الأربع: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم، وإنما حرم تقليد غير هؤلاء الأربعة من المجتهدين، مع أن الجميع على هدى لعدم حفظ مذاهبهم لموت أصحابهم وعدم تدوينها، ولذا قال بعض المحققين: المعتمد أنه يجوز تقليد الأربعة، وكذا من عداهم ممن يحفظ مذهبه في تلك المسألة ودون حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته، فالإجماع الذي نقله غير واحد كابن الصلاح وإمام الحرمين والقرافي على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد منه شرط من ذلك) (2)
وقال الحطاب في (مواهب الجليل) معللا سبب الاقتصار على المذاهب الأربعة دون غيرها: (قال القرافي: ورأيت للشيخ تقي الدين بن الصلاح ما معناه أن التقليد يتعين لهذه
__________
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، 1387 هـ، ج 10، ص 115.
(2) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي، دار الفكر، دط، 1415 هـ - 1995 م، ج 2، ص 356.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (41)
الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر فيها تقييد مطلقها وتخصيص عامها وشروط فروعها فإذا أطلقوا حكما في موضع وجد مكملا في موضع آخر، وأما غيرهم فتنقل عنه الفتاوى مجردة فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا لو انضبط كلام قائله لظهر فيصير في تقليده على غير ثقة، بخلاف هؤلاء الأربعة قال: وهذا توجيه حسن فيه ما ليس في كلام إمام الحرمين) (1).
أما المتساهلون فهم الذين لم يحكموا بوجوب التزام هذه المذاهب، ولم يحكموا بوجوب الاقتصار عليها، كما ورد في (البحر الرائق) وهو من كتب الحنفية المعتبرة: (فصل: يجوز تقليد من شاء من المجتهدين، وإن دونت المذاهب كاليوم وله الانتقال من مذهبه، لكن لا يتبع الرخص فإن تتبعها من المذاهب فهل يفسق وجهان) (2)
وقال النووي، وهو شافعي المذهب: (الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، أو مَنِ اتَّفق من غير تلقُّطٍ للرخص، ولعل مَن مَنَعَه لم يثق بعدم تلقطه) (3)
ونقل ابن عابدين في حاشيته عن الشرنبلالي قوله: (ليس على الإنسان التزامُ مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غيرَ إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له
__________
(1) مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل، ج 1، ص 99.
(2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري، دار الكتاب الإسلامي، ط 2، ج 6، ص 292.
(3) روضة الطالبين وعمدة المفتين، محيي الدين النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ، ج 11، ص 117.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (42)
إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض) (1)
وهكذا نجد المتساهلين والمتشددين في كل مذهب من المذاهب، والمتساهلون عادة يقتربون من المنهج السابق، أو ربما يميلون إلى المناهج الأخرى التي سنعرض لها في المباحث اللاحقة.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المبحث السابق من أعلام هذا المنهج الذين يمثلونه، وأدلتهم، والمنهج أو الآليات التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى.
ليس من الصعوبة التعرف على أعلام هذا المنهج، والذين مثلوه طيلة التاريخ الإسلامي، ذلك أنهم يكادون يمثلون أكثر فقهاء هذه الأمة، وتمثل كتبهم كثيرا من التراث الفقهي الضخم الذي وصل إلينا.
وهذا الأمر غير مستغرب، ذلك أن الذين اعتمدوا فقه الدليل كانوا من النخبة، وهي محدودة عادة، بخلاف الذين انتهجوا هذا المنهج فهم في أحسن أحوالهم مجتهدون في إطار المذهب لا يخرجون عنه.
وقد ساعد على هذه الوفرة في الأعلام والمشايخ الفقهاء أنهم رأوا أن مذاهبهم هي التي تمثل الشريعة، وبالتالي فإن نصرتها أو التعصب لها نصرة للشريعة نفسها، ومن الأمثلة على ذلك – ولسنا ندري مدى دقته - ما ذكره تاج الدين السُبكي الشافعي (ت قرن: 8 هـ) عن الحافظ عبد الله الأنصاري الهروي الحنبلي (ت 481 هـ) من شدة تمسكه بالمذهب الحنبلي
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، محمد أمين عابدين، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، الطبعة الثانية 1407 هـ، 1987 م، ج 1، ص 51.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (43)
إلى درجة أنه كان ينشد على المنبر:
أنا حنبلي ما حييتُ وإن متُ فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
حتى أنه أيضا ترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحيري لكونه أشعريا (1).
ولم يكن أمر العلماء أو طلبة العلم قاصرا على تمسكهم بمذاهبهم أو تعصبهم لها فقط، وإنما برز بنوع من العداوة للمخالفين لهم، وقد ساهم ذلك في تعميق هذا المنهج، ليصبح كل مذهب وكأنه شريعة من الشرائع مستقلا عن غيره.
ومن الأمثلة على هذا الفقيه الحنفي أبو عبد الله محمد البلاساغوني التركي (ت 506 ه)، والذي كان شديد التعصب للمذهب الحنفي، وشديد العداوة لمخالفيه، وخصوصا من المذهب الشافعي، وقد حكي عنه – ولسنا ندري مدى دقة ذلك- أنه كان يقول: (لو كان لي ولاية لأخذتُ الجزية من الشافعية) (2)
ومن الأمثلة الفقيه الشافعي أبو المظفر محمد بن محمد البروي (ت 567 ه)، وقد كان متعصبا للشافعي مناوئا للحنابلة، وكان يقول عنهم: (لو أن لي أمر لوضعتُ على الحنابلة الجزية)، وقد حصل له بسبب هذا أن دس له بعض الحنابلة من أهدى له شيئا فمات (3).
وهكذا، فإن التعصب الشديد لأصحاب المذاهب جعل فقهاء كل المذاهب يتنافسون في تكثير سواد التلاميذ وطلبة العلم على الأسس التي تمسكوا بها، ليتمكنوا من
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، حققه محمد الطناجي، ط 2، الجيزة، دار هجر، 1992، ج 2، ص 473..
(2) معجم البلدان، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله لرومي الحموي، دار صادر، بيروت، ط 2، 1995 م ج 1، ص 476.
(3) طبقات الفقهاء الشافعيين، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: د أحمد عمر هاشم، د محمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، 1413 هـ، ج 2، ص 671.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (44)
نشر المذهب والحفاظ على وجوده، وقد استخدموا لأجل هذا صنفين من الناس:
1 ـ الساسة والحكام: باعتبارهم من أولي الأمر الذين تجب طاعتهم، وبالتالي فإن الوصول إلى هؤلاء يضمن للمذهب الانتشار الواسع.
وكمثال على ذلك دولة المرابطين (453 - 541 ه) التي استطاعت أن تطبع المغرب العربي بطابع المذهب المالكي (1)، في مقابل دولة الموحدين (441 - 668 ه) التي حاربت التمذهب عامة، واشتدت على خُصومها من المرابطين، فكفّرتهم واستباحت دماءهم (2).
بالإضافة إلى ما لهؤلاء الحكام من قدرة على بناء المدارس والمساجد التي ترسخ الانتماء المذهبي، وكمثال على ذلك الملك قطب الدين محمد بن الملك صاحب سنجار الزنكي (ت بعد:594 ه) الذي كان حنفيا مناوئا للشافعية، وقد بنى لأجل هذا مدرسة للحنفية بمدينة سنجار، وجعل النظر فيها للحنفية، بل اشترط أن يكون بواب المدرسة وفراشها على المذهب الحنفي (3).
ولأجل هذا انتشرت المدارس والمساجد المرتبطة بالمذاهب المختلفة، والتي لا يمكن
__________
(1) العبر، الذهبي، حققه صلاح الدين المنجد، ط 2، الكويت، مطبعة حكومة الكويت، 1984، ج 4 ص: 60، ومما رواه في هذا ما حصل للفقيه المالكي محمد بن زرقون (ت 622 ه)، ذلك أنه لما أمر السلطان الموحدي يوسف بن يعقوب بعدم قراءة كُتب الفروع عامة والمالكية خاصة، استمر ابن زرقون في تدريس الفقه المالكي متحديا لأمر السلطان، فلما ظُفر به يُدرّس الفقه أُخذ للقتل صبرا (نحو سنة 591 ه)، ثم سُجن ولم يُقتل، فطال سجنه وأحرقت كتبه (سيّر أعلام النبلاء، الذهبي، حققه بشار عواد، بيروت، مؤسسة الرسالة ج 22 ص: 311)
(2) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، الناصري احمد بن خالد، الدار البيضاء، دار الكتاب، ط 1، 1997 ج 1 ص: 125.
(3) وفيات الأعيان، ابن خلكان، حققه إحسان عباس، دار الثقافة، 1968. ج 2 ص: 331.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (45)
ذكرها هنا لكثرتها (1)، وقد كان لها دور كبير في إمداد المذاهب الفقهية بالكثير من العلماء وطلبة العلم، وهذا ما كان سببا في كثرتهم وكثرة مصنفاتهم.
بالإضافة إلى هذا فقد كان الجهاز القضائي في الدولة بيد أصحاب المذاهب، وقد كان لذلك دوره الكبير في انتشار هذه المذاهب.
يقول المقريزي: (فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ. فاستمرّ ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعريّ، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يولّ قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم) (2)
وقد أشار الشوكاني إلى الدور الذي يمارسه القضاة في ترسيخ المذاهب، فقال: (وقد امتحن الله تلك الديار بقضاة من المالكية يتجرؤون على سفك الدماء، بما لا يحل به أدنى تعزير، فأراقوا دماء جماعة من أهل العلم جهالة وضلالة وجرأة على الله، ومخالفة لشريعة رسول الله، وتلاعبا بدينه، بمجرد نُصوص فقهية، واستنباطات فروعية ليس عليها أثارة
__________
(1) للتوسع في ذلك انظر: الدارس في تاريخ المدارس، عبد القادر النعيمي، حققه جعفر الحسيني، دمشق، المجمع العلمي، 1951.
(2) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أحمد بن علي، تقي الدين المقريزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ، ج 3 ص 390.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (46)
من علم، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (1)
2 ـ العامة والدهماء: والذين انتشر التعصب المذهبي بينهم، فجعلهم لا يهتمون ولا يستفتون إلا من يرون فيه ما رسخ فيهم من تمسك بالمذهب وتعصب له، بل وصل الأمر بهم إلى إيذاء المخالفين، وحصلت بسبب ذلك الفتن بين أتباع المذاهب المختلفة.
ومن الأمثلة على هذا ما ذكره المؤرخون في أحداث سنة 447 هجرية حيث حصلت فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد، كان من أسبابها جهر الشافعية بالبسملة في الصلاة، فانقسمت العامة بين مؤيد ومخالف لهم، ثم انحازت كل طائفة إلى الطرف الذي مالت إليه، ثم توجه الحنابلة إلى أحد مساجد الشافعية، ونهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، ثم تطور النزاع إلى الاقتتال، فتقوى جانب الحنابلة وتقهقر جانب الشافعية، حتى أُلزموا البيوت، ولم يقدروا على حضور صلاة الجمعة ولا الجماعات، خوفا من الحنابلة (2).
والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصر، وقد ساهمت جميعا في ترسيخ المذاهب، والاهتمام بتكوين الفقهاء فيها، حتى يتقوى كل طرف على الأطراف الأخرى.
يستند أصحاب هذا المنهج إلى أدلة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي:
صعوبة الاجتهاد، بل استحالته على العامة وطلبة العلم، بل لا يصل إلى الاجتهاد
__________
(1) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، دار المعرفة - بيروت، ج 1، ص 21..
(2) أرخت الكثير من المراجع التاريخية لأمثال هذه الأحداث، منها على سبيل المثال: الكامل في التاريخ، ابن الأثير، حققه عبد الله القاضي، ط 2، بيروت، دار الكتب العلمية، 1995، ج 8 ص: 73.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (47)
بحسب الشروط التي قرروها إلا الثلة القليلة من العلماء، والذين لا يعدون في تصورهم أصحاب المذاهب الأربعة ونظراؤهم.
وقد أجاب الشيخ عليش في فتاواه عن سؤال قال صاحبه: (ما قولكم فيمن كان مقلدا لأحد الأئمة الأربعة م وترك ذلك زاعما أنه يأخذ الأحكام من القرآن والأحاديث الصحيحة تاركا لكتب الفقه مائلا لقول أحمد بن إدريس بذلك قائلا: إن كتب الفقه لا تخلو من الخطأ، وفيها أحكام كثيرة مخالفة للأحاديث الصحيحة، وكيف تترك الآيات والأحاديث الصحيحة وتقلد الأئمة في اجتهادهم المحتمل للخطأ، وقائلا أيضا لمن تمسك بكلام الأئمة ومقلديهم أنا أقول لكم: قال الله أو قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تقولون قال مالك أو ابن القاسم أو خليل، فتقابلون كلام الشارع المعصوم من الخطأ بكلام من يجوز عليهم الخطأ) (1)
فكتب في الجواب: (.. لا يجوز لعامي أن يترك تقليد الأئمة الأربعة ويأخذ الأحكام من القرآن والأحاديث؛ لأن ذلك له شروط كثيرة مبينة في الأصول لا توجد في أغلب العلماء ولا سيما في آخر الزمان الذي عاد الإسلام فيه غريبا كما بدأ غريبا، ولأن كثيرا من القرآن والأحاديث ما ظاهره صريح الكفر ولا يعلم تأويله إلا الله تعالى والراسخون في العلم) (2)
واستدل لهذا بما ورد عن السلف من خطورة الرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما من غير استناد إلى رؤية المجتهدين من الفقهاء، فنقل عن ابن عيينه قوله: (الحديث مضلة إلا للفقهاء)، وعلق عليه بقوله: (يريد أن غيرهم قد يحمل الشيء على ظاهره وله تأويل من
__________
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، محمد بن أحمد بن محمد عليش، أبو عبد الله المالكي (المتوفى: 1299 هـ)، دار المعرفة، ج 1، ص 85.
(2) فتح العلي المالك، ج 1، ص 90.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (48)
حديث غيره أو دليل يخفى عليه أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر وتفقه) (1)
ونقل عن عبد الرحمن بن مهدي قوله: (السنة المتقدمة من سنة أهل المدينة خير من الحديث)
ونقل عن النخعي قوله: (لو رأيت الصحابة يتوضئون إلى الكوعين لتوضأت كذلك وأنا أقرؤها إلى المرافق؛ وذلك لأنهم لا يتهمون في ترك السنن وهم أرباب العلم وأحرص خلق الله على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يظن ذلك بهم أحد إلا ذو ريبة في دينه) (2)
وقد رد أصحاب المنهج الاستدلالي على هذا ببيان سهولة الاجتهاد، وأنه ليس بالصعوبة التي يعتقدها المقلدون، ومن الردود المفصلة في هذا ما رد به ابن الوزير (ت: 840 هـ) في كتابه (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)، فقد ذكر الآثار الكثيرة عن السلف، والتي تدل على أن الاجتهاد لا يحتاج إلى كل التعقيدات التي وضعها المذهبيون، يقول في ذلك: (إن اجتهادَ أولئك يَدُلُّ على سُهولَةِ الاجتهاد، لأن الظاهِرَ من أحوالهم أنَّهم ما اشتغلوا بالعلم مِثْلَ اشتغال المتأخرين، ولا قريباً منه، وكان الواحدُ منهم يَحْفَظُ مِنَ السُّنة ما اتفق أنَّه سَمِعَه من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مِن غيرِ درس لِما سَمِعَهُ، ولا تعليقٍ ولا مبالغةٍ في طلب النصوص مِن سائر أصحابه، وإنما كانوا يبحثون عندَ حدوثِ الحادثة عن الأدلة، فهذا أبو بكرٍ ما درى كَمْ نَصِيبُ الجَدَّةِ من الميراث، وأدنى طلبةِ العلمِ في زماننا لا يخفي عليه أنَّ لَهَا السُّدُسَ حتى قامَ فيهم وسألهم، ولو أن رجلاً ممن يَدَّعي الاجتهادَ في زماننا ما عَرَفَ نصيبَ الجدة، لكثَّر عليه أهلُ التعسير للاجتهاد، وعَظَّمُوا هذا عليه.. وكذلك عُمَر ما كان يَعْرِفُ النصوصَ في دِيَةِ الأصابع، وتوريثِ المرأه من دِية زوجها وكذلك ابنُ عباس
__________
(1) فتح العلي المالك، ج 1، ص 90.
(2) فتح العلي المالك، ج 1، ص 90.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (49)
قال: لا ربا إِلاُّ في النَّسيئة حتى بلغه النص، وكذلك ما عَرَفَ أن المُتْعَةَ منسوخةٌ) (1)
ثم تتبع كل الشروط التي وضعها المذهبيون شرطا شرطا، وبين أنها ليست بالصورة التي وضعوها، وأن قصدهم من ذلك ليس إلا غلق باب الاجتهاد.
أن وجود الأدلة وعدمها سواء بالنسبة للعامة، وغير من توفرت فيهم ملكة الاجتهاد، ولذلك لا مفر لهم من التقليد، وقد استدلوا لذلك بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)، يقول الشاطبي مبينا وجه الاستدلال بالآية على جواز التقليد، بل وجوبه: (والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا؛ فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3)، والمقلد غير عالم؛ فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع) (4)
ويبين الشيخ محمد حسنين مخلوف أن أقوال المجتهدين ليست سوى ترجمة للمصادر الشرعية، ولذلك فإن التلقي منها هو تلق من المصادر مباشرة، يقول في ذلك: (وقد اعتبر
__________
(1) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير، محمد بن إبراهيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 3، 1415 هـ - 1994 م، ج 2، ص 27.
(2) سورة النحل: 43.
(3) سورة النحل: 43.
(4) الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، 1417 هـ/ 1997 م، ج 5، ص 337.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (50)
الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية - لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنا - أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع) (1)
ومن هذا المنطلق بين أن التقليد على العوام واجب، كما أن الاجتهاد على غيرهم ممن توفرت فيهم أدوات الاجتهاد واجب، يقول في ذلك: (وكما أمر الله تعالى ورسوله المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2)، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله، أو قول رسوله، أو مجردا عنه، فإن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لمَن لم يعلم حكم الله في النازلة غير لازم خصوصًا إذا كان ممَّن لا يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان الدليل ذا مقدمات يتوقف فهمها
__________
(1) بلوغ السول في مدخل علم الأصول، محمد حسنين محلوف، مطبعة مصطفى الحلبي، ص 15.
(2) سورة النحل: 43.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (51)
وتقريب الاستدلال بها على أمور ليس للعامي إلمام بها) (1)
أن هناك مصالح كثيرة لا تتحقق إلا باتباع المذاهب الأربعة خصوصا، يقول الدهلوي: (مما يناسبُ هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها الأفهامُ، وزلت الأقدام، وطغت الأقلام منها أنَّ هذه المذاهب الأربعة المدونة قد اجتمعتِ الأمةُ أو من يعتدُّ به منها على جواز تقليدها إلى بومنا هذا وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم، وأشربتِ النفوسُ الهوى، وأعجبَ كلُّ ذي رأي برأيه) (2)
ما ورد من الأدلة على أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد، قال الزركشي ذاكرا هذا، ومن قال بها من العلماء: (يجوز خلو العصر عن المجتهد عند الأكثرين وجزم به في المحصول، وقال الرافعي: الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم ولعله أخذه من الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في الوسيط: قد خلا العصر عن المجتهد المستقل ونقل الاتفاق فيه عجيب، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعض أئمتنا، والحق أن الفقيه الفطن القياس كالمجتهد في حق العامي، لا الناقل فقط) (3)
وقد أوردوا الأدلة الكثيرة على هذا، وردوا بشدة على من زعم لنفسه القدرة على الاجتهاد من أمثال السيوطي وبقي بن مخلد وابن حزم وغيرهم.
__________
(1) بلوغ السول في مدخل علم الأصول، محمد حسنين محلوف، مطبعة مصطفى الحلبي، ص 15.
(2) حجة الله البالغة، أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ (الشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: السيد سابق، دار الجيل، بيروت – لبنان، ط 1، 1426 هـ - 2005 م. ج 1، ص 263.
(3) البحر المحيط في أصول الفقه، ج 8 / ص 240.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (52)
ولهذا نرى عالما كالسيوطي يحاول بكل الوسائل أن يبرهن لأهل عصره أنه قد بلغ مرتبة الاجتهاد، وأن دعوى غلق باب الاجتهاد غير صحيحة، يقول في رسالته (التحدث بنعمة الله): (فقد بلغتُ ولله الحمد والمنة، رُتبة الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية وفي الحديث النبوي، وفي العربية) (1)
بل إنه فوق ذلك يُصرح بأنهُ مجدد المائة التاسعة، يقول: (فإن ثم من ينفخ أشداقهُ ويدعي مناظرتي، ويُنكر عليّ دعوى الاجتهاد والتفرد بالعلم على رأس هذهِ المئة، ويزعم أنهُ يُعارضُني ويستجيش عليّ بمن لو اجتمع هو وهُم في صعيد واحدٍ ونفخت عليهم نفخة صاروا هباءاً منثوراً) (2)
ولأجل هذا كتب كتابه المعروف (الرد على من أخلد إلى الارض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) (3)
ولأجله أيضا كثرت كتبه ورسائله، لأنه كان يكتب في كل مسألة يختلف فيها مع المخالفين كتابا أو رسالة، مثل: (طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة)، و(الاستنصار بالواحدِ القهار)، و(الكاوي في تاريخ السخاوي)
وقد نقل عنه بعض تلاميذه قوله: (وخالفتُ أهل عصري في خمسين مسألة، فألفتُ
__________
(1) التحدث بنعمة الله، السيوطي، تحقيق: إليزابيث ماري سارتين، المطبعة العربية الحديثة، مصر، 1972 م، ص 205.
(2) الكشف عن مجاوزة هذهِ الأمة الألف، مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوي، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الفكر، بيروت، ج 2، ص 86.
(3) طبع في دار الكتب لعلمية 1403، هـ في مجلد بتحقيق (خليل الميس)
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (53)
في كُلِ مسألة مؤلفاً أثبتُ فيه وجه الحق) (1)
بناء على ما ذكرنا سابقا من كثرة أعلام هذا المنهج، وكثرة تصانيفهم في جميع العلوم الشرعية، فإنه ليس من الصعوبة التعرف على منهج الفتوى عندهم، فهم ينطلقون من الآراء التي اختارها أئمة مذاهبهم أو أتباعهم الكبار باعتبارها أصلا يبنى عليه، وتفسر جميع النصوص على أساسه، بل وصل الأمر إلى أن تصبح كالمصادر الأصلية نفسها يقاس عليها ويستنبط منها، وهذا ما يسمى عندهم بمجتهد المذهب، أو مجتهد التخريج (2).
وأدنى منه من كانت له القدرة على الترجيح بين أقوال إمامه المذكورة في المذهب، ويطلق عليه (مجتهد الترجيح) (3)
وأدنى منه (مجتهد الفتوى) (4)، وهو من كانت له القدرة على فهم فقه مذهبه مع حفظه له، أو لأكثره وفهمه لضوابطه وتخريجات أصحابه، ويستطيع الرجوع إلى مصادر
__________
(1) الطبقات الصُغرى، عبد الوهاب الشعراني، تحقيق: عبدالقادراحمد عطا، مكتبة القاهرة، مصر، 1970 م، ص 20.
(2) معنى التخريج في الاصطلاح الفقهي: بناء فرع على أصل بجامع مشترك، وله طريقان: الأول يكون من القواعد الكلية، والثاني: يسمى التخريج بالنقل، بأن يجعل نص الإمام أصلا، ويقاس عليه. انظر: نوار بن الشلي، التخريج المذهبي أصوله ومناهجه، الرباط،1997، ص 52.
(3) انظر: يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، التخريج عند الفقهاء والأصوليين، الرياض، مكتبة الرشاد،1414 هـ، ص 313.
(4) الرد على من أخلد إلى الارض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، السيوطي، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب لعلمية 1403 هـ، ص 116.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (54)
هذا المذهب؛ غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته (1).
وهذا التقسيم نجده عند جميع أتباع المذاهب الأربعة، وإن اختلفت عباراتهم في ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك هذا التقسيم الذي ذكره القرافي في كتابه (أنوار البروق في أنواء الفروق) تحت عنوان: (الفرق بين قاعدة من يجوز له أن يفتي وبين قاعدة من لا يجوز له أن يفتي) (2) فقد قسم الأحوال التي يكون عليها طلبة الفقه المالكي وعلماؤه إلى الأحوال التالية:
الحالة الأولى: وهي من يشتغل بمختصر من مختصرات مذهبه فيه مطلقات مقيدة في غيره وعمومات مخصوصة في غيره
والحكم في هذه الحالة - كما يقرر القرافي - هو أنه (متى كان الكتاب المعين حفظه وفهمه كذلك، أو جوز عليه أن يكون كذلك حرم عليه أن يفتي بما فيه وإن أجاده حفظا وفهما إلا في مسألة يقطع فيها أنها مستوعبة التقييد، وأنها لا تحتاج إلى معنى آخر من كتاب آخر، فيجوز له أن ينقلها لمن يحتاجها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان، وتكون هي عين الواقعة المسئول عنها لا أنها تشبهها ولا تخرج عليها بل هي هي حرفا بحرف لأنه قد يكون هنالك فروق تمنع من الإلحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من الفتيا بالمحفوظ فيجب الوقف) (3)
__________
(1) أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى والاستفتاء، ابن الصلاح الشهر زوري، تحقيق: فوزي عبد المطلب، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط 1، 1992.، ص 47..
(2) أنوار البروق في أنواء الفروق، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي، عالم الكتب، ج 2، ص 107.
(3) المرجع السابق، ج 2، ص 107.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (55)
الحالة الثانية: أن يتسع تحصيل الطالب في المذهب بحيث يطلع من تفاصيل الشروحات والمطولات على تقييد المطلقات وتخصيص العمومات، ولكنه مع ذلك لم يضبط مدارك إمامه ومسنداته في فروعه ضبطا متقنا، بل سمعها من حيث الجملة من أفواه الطلبة والمشايخ.
والحكم في هذه الحالة كما يقرر القرافي، هو أنه (يجوز له أن يفتي بجميع ما ينقله ويحفظه في مذهبه اتباعا لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا، ولكنه إذا وقعت له واقعة ليست في حفظه لا يخرجها على محفوظاته، ولا يقول هذه تشبه المسألة الفلانية لأن ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية، وهل هي من باب المصالح الضرورية أو الحاجية أو التتميمية، وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم أو جنسه في جنس الحكم، وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي هي أدنى رتب المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع بالاعتبار أو هي من باب قياس الشبه أو المناسب أو قياس الدلالة أو قياس الإحالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك من تفاصيل الأقيسة ورتب العلل في نظر الشرع عند المجتهدين) (1)
ثم علل هذه المحدودية بما ذكرناه عن أصحاب هذا المنهج من أنهم يعتبرون أقوال الأئمة أصلا يمكن أن يتعامل معه الفقيه كما يتعامل مع المصادر الأصلية نفسها، يقول: (وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه، والتخريج على مقاصده، فكما أن إمامه لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق لأن الفارق مبطل للقياس والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه، فكذلك هو أيضا لا يجوز له أن يخرج على مقاصد إمامه فرعا على فرع نص عليه إمامه
__________
(1) المرجع السابق، ج 2، ص 107.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (56)
مع قيام الفارق بينهما لكن الفروق إنما تنشأ عن رتب العلل وتفاصيل أحوال الأقيسة فإذا كان إمامه أفتى في فرع بني على علة اعتبر فرعها في نوع الحكم لا يجوز له هو أن يخرج على أصل إمامه فرعا مثل ذلك الفرع لكن علته من قبيل ما شهد جنسه لجنس الحكم فإن النوع على النوع مقدم على الجنس في النوع ولا يلزم من اعتبار الأقوى اعتبار الأضعف) (1)
الحالة الثالثة: وهي أن يتحقق طالب العلم بالتمكن من المذهب أصوله وفروعه، وحكم هذا كما يذكر القرافي هو أنه (يجوز له أن يفتي في مذهبه نقلا وتخريجا ويعتمد على ما يقوله في جميع ذلك) (2)
وقد نقل ابن فرحون عن المازري: أن الذي يتصدى للفتوى، أقل مراتبه أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب، وتأويل الأشياخ لها، وتوجيههم لما وقع من الاختلاف فيها وتشبيههم مسائل بمسائل سبق إلى الذهن تباعدها، وتفريعهم بين مسائل يقع في النفس تقاربها (3).
وبهذا فإن الفتيا في هذا المنهج لا تعتمد المصادر الأصلية إلا على سبيل التبعية، فالنص عندهم هو الذي ينقاد للمذهب، لا المذهب ينقاد للنص، كما هو عليه الحال في المنهج السابق.
وبناء على هذا ألفت التفاسير وشروح الحديث الكثيرة، والتي تختلف الفهوم فيها باختلاف المذاهب التي يتبعها أصحاب تلك الكتب، وقد برز التعصب المذهبي وآثاره على تلك المصنفات، حيث أصبحت الآيات تفسر على قواعد المذهب في استنباط الأحكام، وأخرجت للناس تفاسير لا نكاد نجد بينها وبين أمهات كتب الفقه كبير فارق، وخالط
__________
(1) المرجع السابق، ج 2، ص 108.
(2) المرجع السابق، ج 2، ص 110.
(3) تبصرة الحكام، ابن فرحون، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط 1، 1986، ج 1، ص 76.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (57)
بعضها تعصب للمذهب مذموم، وجاء بعضها الآخر محموداً (1)
ومن الأمثلة على ذلك الفقيه المالكي ابن العربي صاحب (حكام القرآن) الذي يقول عنه محمد حسين الذهبي: (إن الكتاب يعتبر مرجعاً مهماً للتفسير الفقهى عند المالكية، وذلك لأن مؤلفه مالكى تأثر بمذهبه، فظهرت عليه فى تفسيره روح التعصب له، والدفاع عنه، غير أنه لم يشتط فى تعصبه إلى الدرجة التي يتغاضى فيها عن كل زَلَّة علمية تصدر من مجتهد مالكي، ولم يبلغ به التعسف إلى الحد الذى يجعله يفند كلام مخالفه إذا كان وجيهاً ومقبولاً، والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحياناً، ما يلمس منه روح التعصب المذهبي التي تستولى على صاحبها فتجعله أحياناً كثيرة يرمى مخالفه وإن كان إماماً له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة، تارة بالتصريح، وتارة بالتلويح. ويظهر لنا أن الرجل كان يستعمل عقله الحر، مع تسلط روح التعصب عليه، فأحياناً يتغلب العقل على التعصب، فيصدر حكمه عادلاً لا تكدره شائبة التعصب، وأحياناً - وهو الغالب - تتغلب العصبية المذهبية على العقل، فيصدر حكمه مشوباً بالتعسف، بعيداً عن الإنصاف) (2)
وقد خصص أصحاب هذا المنهج للمتغيرات الحاصلة في كل عصر ما يسمونه بكتب (النوازل)، والمؤلفات فيها كثيرة جدا، ومعظمها لا يكاد يخرج عن المذهب الذي اعتمده.
ومن الأمثلة على ذلك في المذهب الحنفي الفتاوى العالمكيرية، المشهورة باسم
__________
(1) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، د. فهد الرومي، طبع بإشراف إدارة البحوث العلمية، الرياض، الطبعة الأولى،1407، ج 2، ص 714.
(2) التفسير والمفسرون، الدكتور محمد السيد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة ج 2، ص 331.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (58)
(الفتاوى الهندية)، وهي منسوبة إلى الملك محمد أورنك زيب، ويلقب بعالمكير، أي فاتح العالم، وقد بسط سلطانه على الهند من سنة [1029 إلى 1119 هـ / 1608 - 1707 م] وقد جمع هذا الملك لتأليف هذا الكتاب فقهاء الحنفية في عصره، برئاسة الشيخ (نظام الدين) وأجرى عليهم النفقات، ثم انتخبوا من جمع كتب المذهب الحنفي أصح ما قيل فيها من الأحكام وصاغوها في هذا المؤلَف مع عزو كل حكم إلى مصدره، فاحتوى على ما لا يوجد في سواه، طبعت هذه الفتاوى لأول مرة سنة 1282 هـ بمصر في ستة مجلدات ضخمة (1).
ومن أهمها في المذهب الشافعي (فتاوى الإمام النووي)، واسمه (المنثورات وعيون المسائل المهمات) درسه وحققه، أحمد عطاء وطبعه بمؤسسة الكتب الثقافية في جزء واحد فقط، يقول النووي في المقدمة: (ولا ألتزم فيها ترتيبا، لكونها حسب الوقائع فإن كملت يرجى ترتيبها.. وألتزم فيها الإيضاح وتقريبها إلى أفهام المبتدئين ممن لا اختلاط لهم بالفقهاء، لتكون أعم نفعا) (2)
ومنها الحاوي للفتاوى للسيوطي، وفتاوى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي، والفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي (3).
وفي الفقه الحنبلي نجد (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية): (وقد طبعت عدة مرات وآخرها تلك المجموعة التي استلها جامعها من مختلف المكتبات والكتب، وطبعها بالمملكة السعودية في سبعة وثلاثين مجلدا، المجلدان الأخيران فهارس للفتاوى) (4)
__________
(1) المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا، دار الفكر، دمشق، ط 9، 1998، ج 1، ص 190.
(2) الفتاوى، النووي، تحقيق: عبد القادر أحمد عطاء، لبنان، مؤسسة الكتب الثقافية، ط 2، 1988، ص 17.
(3) تاريخ الفقه الإسلامي، عمر سليمان الأشقر، الجزائر، قصر الكتاب، 1990، ص 135.
(4) ابن تيمية، أبو زهرة، مصر، دار الفكر العربي، 1991، ص 433 وما بعدها.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (59)
أما في الفقه المالكي، فهي كثيرة جدا، وأهمها: (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب) لأبي العباس الونشريسي، وقد جمع فيه فتاوى المتقدمين والمتأخرين من علماء المغرب والأندلس، وزاد فيه فتاويه الخاصة.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (60)
نريد بالمنهج المذاهبي المنهج الذي يتميز أصحابه بثلاث خصائص:
الأولى: أنهم لا يرون ضرورة الالتزام بالمذهب الواحد، على عكس أصحاب المنهج المذهبي.
الثانية: أنهم يرون صعوبة الاجتهاد أو سد بابه، ولهذا لا يرون ضرورة العودة إلى النصوص مباشرة لاستنباط الأحكام منها، على خلاف المنهج الاستدلالي.
الثالثة: وهي التي على أساسها اكتسبوا هذا الوصف، وهي أنهم يرون أن كل ما كتبه الفقهاء سواء كانوا من أتباع المذاهب الأربعة أو غيرهم، يمكن الاعتماد عليه والرجوع إليه، إما لاعتبارهم أن كل مجتهد في الفروع مصيب، أو أن المصيب واحد ولكن لا نستطيع أن نعينه.
وبناء على هذا فإن المفتي على حسب هذا المنهج يبحث في كل التراث الفقهي عن المسألة التي سئل عنها، ويورد الأقوال فيها ليترك للمستفتي حرية الاختيار بينها.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المبحثين السابقين من أعلام هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو الآليات التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى.
على عكس ما ذكرنا في المنهج السابق، فإن عدد المتبنين لهذا المنهج في الواقع الإسلامي، طيلة التاريخ الإسلامي محدود جدا، لأنه لا ينطبق إلا على القائلين بأن كل مجتهد في الفروع مصيب، وعدد هؤلاء محدود جدا.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (61)
وقد ذكر السيوطي في رسالته التي وضعها لنصرة هذا المنهج، والتي أسماها بـ (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) أن (ترجيح القول بأن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله في كل واقعة تابع لظن المجتهد، هو أحد القولين للأئمة الأربعة، ورجحه القاضي أبو بكر، وقال في (التقريب): الأظهر من كلام الشافعي، والأشبه بمذهبه ومذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب، وقال به من أصحابنا: ابن سريج، والقاضي أبو حامد، والداركي، وأكثر العراقيين، ومن الحنفية: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبو زيد الدبوسي، ونقله عن علمائهم جميعاً) (1)
ولكن مع ذلك، وفي الفروع الفقهية المختلفة يمكن أن نجد الكثير من الفقهاء المتبنين لهذا المنهج:
فالشيخ عبد الوهاب الشعراني - مثلا – مع كونه شافعي المذهب، يمكن اعتباره من أعلام هذا المنهج، فقد سلك مسلكا في إرجاع مسائل الخلاف الفقهي إلى الوفاق، بأن حمل كل قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلفين، وقد بنى كتابه (الميزان) على هذا المبدأ الذي عبر عنه بقوله: (إن الشريعة المطهرة قد جاءت من حيث الامر والنهي: على مرتبتين: تخفيف وتشديد، لا على مرتبة واحدة، كما يظنه غالب الناس، ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للتكاليف، فمن قوي منهم خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا، أو المستنبط منها في مذهبه أو غيره، ومن ضعف منهم: خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا أو مستنبطا منها في مذهبه أو غيره. فلا يؤمر القوي بالنزول إلى مرتبة الرخصة، مع قدرته على فعل العزيمة، ولا يكلف الضعيف بالصعود إلى
__________
(1) جزيل المواهب فى اختلاف المذاهب، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، تحقيق: عبد القيوم محمد شفيع البستوي، دار الاعتصام، ص 35.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (62)
مرتبة العزيمة، مع عجزه عنها، فالمرتبتان على الترتيب الوجودي، لا على التخيير) (1)
ومثله ابن القيم، فمع كونه من علماء، بل من أعيان المنهج الاستدلالي إلا أنه في بعض المسائل يميل إلى هذا المنهج، وقد أشار إلى هذا، بل اعتمده ـ مع قوله بعدم صحة اعتبار أن كل مجتهد مصيب ـ عند بيانه لمخارج الطلاق، فقد عقد فصولا مهمة للمخارج من الوقوع في التحليل، قال في مقدمتها: (أي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعذر عند الله ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه ومباءته باللعنة) (2)
ثم ذكر مصدره الذي اعتمده لاستنباط هذه المخارج، فقال: (فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف، أو أفتى به بعضهم، أو هو خارج عن أقوالهم، أو هو قول جمهور الأمة أو بعضهم أو إمام من الأئمة الأربعة، أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام، ولا تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك، فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر، ولا ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه، ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل) (3)
يستند أصحاب هذا المنهج إلى أدلة كثيرة نلخص أهمها فيما يلي:
__________
(1) كتاب الميزان، أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن عميره، عالم الكتب، ط 1، 1409 هـ - 1989 م، ص 8.
(2) إعلام الموقعين: 4/ 47.
(3) إعلام الموقعين: 4/ 47.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (63)
اعتبار أن الخلاف الفقهي الحاصل في الأمة خلاف رحمة وتوسعة على عكس ما يرى أصحاب المنهج الأول، يقول السيوطي في كتابه (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب): (اعلم أن اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟! ومن العجب أيضاً من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي، إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء، صارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك. وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة (رضى الله عنهم وأرضاهم)، وهم خير الأمة، فما خاصم أحد منهم أحداً، ولا عادى أحد أحداً، ولا نسب أحد أحداً إلى خطأ ولا قصور) (1)
ولهذا نرى أعيان هذا المنهج– على عكس المنهج الأول – يدافعون عن حديث (اختلاف أمتي رحمة) (2)، وقد نقل النووي عن الخطابي قوله: (وقد اعترض على حديث: اختلاف أمتي رحمة رجلان: أحدهما مغموض عليه في دينه، وهو عمر بن بحر الجاحظ، والآخر معروف بالسخف والخلاعة، وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي؛ فإنه لما وضع كتابه في الأغاني، وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزود من إثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث، وزعم أنهم يروون ما لا يدرون، وقال هو والجاحظ: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم زعم أنه إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة؛ فإذا اختلفوا سألوه، فبين لهم والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد: أنه لا يلزم من كون
__________
(1) جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، ص 25.
(2) انظر على سبيل المثال: فيض القدير، المناوي، مصر، المكتبة التجارية الكبرى، 1356، ج 1 ص: 210.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (64)
الشيء رحمة أن يكون ضده عذابا، ولا يلتزم هذا ويذكره إلا جاهل أو متجاهل. وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)، فسمى الليل رحمة، ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا، وهو ظاهر لا شك فيه. قال الخطابي: والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام: أحدها: في إثبات الصانع ووحدانيته، وإنكار ذلك كفر، والثاني: في صفاته ومشيئته، وإنكارها بدعة، والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها، فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث: اختلاف أمتي رحمة) (2)
ومثل ذلك ما استدل به السيوطي في رسالته (جزيل المواهب) بقوله: (روى البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس - -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى، فالعمل به لا عذرَ لأحدٍ في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني، فما قال أصحابي. إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة) (3)
ثم علق عليه بقوله: (في هذا الحديث فوائد: إخباره صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف المذاهب بعده في الفروع، وذلك من معجزاته؛ لأنه من الإخبار بالمغيبات، ورضاه بذلك، وتقريره عليه، ومدحه له حيث جعله رحمة، والتخيير للمكلف في الأخذ بأيها شاء من غير تعيين لأحدها، واستنبط منه أن كل المجتهدين على هدي، فكلهم على حق، فلا لوم على أحد منهم، ولا ينسب إلى أحد منهم تخطئة، لقوله: (فأيما أخذتم به اهتديتم)، فلو كان المصيب واحداً،
__________
(1) سورة القصص: 73.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم، ج 4، ص 258.
(3) جزيل المواهب، ص 19.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (65)
والباقي خطأ، لم تحصل الهداية بالأخذ بالخطأ) (1)
وذكر في موضع آخر بعض وجوه الرحمة في الخلاف الفقهي الحاصل في الأمة، فقال: (فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الأمة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة، فكانت الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث أحدهم بشرع واحد، وحكم واحد، حتى إنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا؛ كتحريم القصاص في شريعة اليهود، وتحتم الدية في شريعة النصارى، ومن ضيقها أيضاً: لم يجتمع فيها الناسخ والمنسوخ ليعمل بهما معاً في هذه الملة في الجملة، فكأنه عمل فيها بالشرعين معاً، ووقع فيها التخيير بين أمرين شرع كل منهما في ملة، كالقصاص والدية، فكأنها جمعت الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث، وهو التخيير الذي لم يكن في أحد الشريعتين. ومن ذلك: مشروعية الاختلاف بينهم في الفروع. فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة، كل مأمور بها في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميعها. وفي ذلك توسعة زائدة لها، وفخامة عظيمة لقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخصوصية له على سائر الأنبياء، حيث بعث كل منهم بحكم واحد، وبعث هو صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر الواحد بأحكام متنوعة، يحكم بكل منها وينفّذ، ويصوب قائله، ويؤجر عليه، ويهدي به) (2)
ما ورد من الآثار من اعتبار الخلاف توسعة ورحمة ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن عبد البر عن رجاء بن جميل قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، فجعلا يتذاكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم قال: وجعل ذلك يشق
__________
(1) المرجع السابق، ص 20.
(2) المرجع السابق، ص 28.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (66)
على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر: (لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم) (1)
وروى عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، أنه قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: (ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة) (2)
وروى عن أسامة بن زيد قال: سألت القاسم بن محمد، عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه فقال: (إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة) (3)
وروى عن يحيى بن سعيد قال: (ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه) (4)
ونحب - من باب الأمانة العلمية - أن ننبه هنا إلى أن ابن عبد البر مع روايته لهذه الآثار إلا أنه رجح خلافها، باعتباره كان يدعو الى المنهج الاستدلالي، فقد قال تعقيبا عليها بعد روايته لها: (هذا مذهب القاسم بن محمد ومن تابعه وقال به قوم، وأما مالك والشافعي ا، ومن سلك سبيلهما من أصحابهما وهو قول الليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي ثور وجماعة أهل النظر أن الاختلاف إذا تدافع فهو خطأ وصواب، والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول على الصواب منها وذلك لا يعدم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين، فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، ج 2، ص 901.
(2) المرجع السابق، ج 2، ص 902.
(3) المرجع السابق، ج 2، ص 902.
(4) المرجع السابق، ج 2، ص 902.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (67)
نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1) هذا حال من لا ينعم النظر ولا يحسنه وهو حال العامة التي يجوز لها التقليد فيما نزل بها وأفتاها بذلك علماؤها، وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله لأحد أن يفتي ولا يقضي إلا حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان في معنى هذه الأوجه) (2)
هو ما ذكره القائلون بأن كل مجتهد مصيب من أدلة، وقد بسط الغزالي القول فيها، وأجاب عن الشبهات التي أوردها المخالفون، وقد قال بعد ذكره للخلاف في المسألة: (والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى) (3)
وقد أجاب على ما يورده المخالفون من أصحاب المناهج الأخرى من (أن هذا المذهب في نفسه محال، لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا، والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب) (4) بالتنبيه إلى نوع الخطاب بالحكم الشرعي، فهو ليس - كما يعتقده الكثير من الناس - من أنه يتعلق بالأعيان، بل إن الشرع
__________
(1) مسند أحمد، ج 29، ص 533.
(2) جامع بيان العلم، ج 2، ص 902.
(3) المستصفى في علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، تحقيق: محمد بن سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ/1997 م، ص 352.
(4) المستصفى: 1/ 355.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (68)
علقه بأفعال المكلفين، فلذلك لا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو، فالمرأة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي، والميتة تحل للمضطر دون المختار، والصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض.
والتناقض الحقيقي ليس في هذا، وإنما هو أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض، فالصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه، فاختلاف الأحوال ينفي التناقض.
وهذا عام في الأحوال المختلفة والأسباب المختلفة، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا.
وبناء على هذا نص الغزالي على وجه الورع في التزام الأقوال، فليس الورع فيها بمراعاة أعيانها، وإنما بالقناعة التي ينطلق صاحبها منها، والتي تختلف باختلاف الأحوال، يقول الغزالي: (ولو قال الشارع: يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة، ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك، فغلب على ظن الجبان الهلاك، وعلى ظن الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما، وكذلك لو صرح الشارع وقال: من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه، ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض) (1)
وبناء على هذا المثال يتوجه ما ذكرنا من اعتبار الأحوال المختلفة التي لا يجدي معها التعصب لقول بعينه.
ثم إن الغزالي - بأسلوبه الجدلي على طريقة المتكلمين - سلم للمخالفين ما أوردوه
__________
(1) المستصفى: 1/ 355.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (69)
من اعتبار الحل والحرمة وصفا للأعيان، ورد بأن القول بذلك أيضا لا يتناقض مع ما ذكره، لأنه يكون من الأوصاف الإضافية، فلا يتناقض عقلا أن يكون الشخص الواحد أبا ابنا لكن لشخصين، وأن يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لاثنين، وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين، كالمنكوحة حرام للأجنبي، حلال للزوج، والميتة حرام للمختار، حلال للمضطر.
وعلى هذا المنوال نجد السيوطي يدافع عن هذه المقولة في كتبه ورسائله المختلفة، بل إنه قرر أنه من الناحية العملية، ولو مع عدم القول بهذا، فقد نص كثير من العلماء على أنه لا الإنكار في المسائل المختلف فيها، فلا يصح الإنكار على من أخذ بقول من الأقوال لأي قناعة من القناعات.
وقد نقل عن الزركشي قوله في المسألة: (الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا) (1)
ومثلهما ابن عليش الذي لم يكتف بالأدلة العقلية أو النقلية، بل راح – بمنهجه الصوفي- يذكر عن بعض الصوفية كالشعراني وغيره ما يؤيد هذا القول عن طريق المكاشفة، فقال: (وسمعت (2) بعض أهل الكشف يقول: إنما يعبد الله تعالى المجتهدون بالاجتهاد ليحصل لهم نصيب من التشريع وتثبت لهم فيه القدم الراسخة فلا يتقدم عليهم في الآخرة سوى نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيحشر علماء هذه الأمة وحفاظ أدلة الشريعة المطهرة العارفون بمعانيها في صفوف الأنبياء والرسل لا في صفوف الأمم، فما من نبي أو رسول
__________
(1) المنثور في القواعد الفقهية، أبو عبد الله بدر الدين الزركشي، وزارة الأوقاف الكويتية، ط 2، 1405 هـ - 1985 م: ج 2، ص 140.
(2) هو ينقل الكلام هنا عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (70)
إلا وبجانبه عالم من علماء هذه الأمة أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر وكل عالم نهم له درجة الأستاذية في علم الأحكام والأحوال والمقامات والمنزلات إلى ختام الدنيا.. ومن هنا يعلم أن جميع المجتهدين تابعون للشارع في التخفيف والتشديد، فيا سعادة من أطلعه الله تعالى على عين الشريعة الأولى كما أطلعنا، ورأى أن كل مجتهد مصيب ويا فوزه وكثرة سروره إذا رآه جميع العلماء يوم القيامة وأخذوا بيده وتبسموا في وجهه، وصار كل واحد يبادر إلى الشفاعة فيه ويزاحم غيره على ذلك ويقول ما يشفع فيه إلا أنا ويا ندامة من قال المصيب واحد والباقي مخطئ فإن جميع من خطأهم يعبسون في وجهه لتخطئته لهم وتجريحهم بالجهل وسوء الأدب وفهمه السقيم) (1)
ثم رد على ما يورده المخالفون من الاستدلال بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر) (2) بقوله: (الجواب أن المراد بالخطأ هنا هو خطأ المجتهد في عدم مصادفة الدليل في تلك المسألة لا الخطأ الذي يخرج به عن الشريعة؛ لأنه إذا خرج عن الشريعة فلا أجر له لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) (3)، وقد أثبت الشارع له الأجر فما بقي إلا أن معنى الحديث أن الحاكم إذا اجتهد وصادف نفس الدليل الوارد في ذلك عن الشارع فله أجران: أجر التتبع وأجر مصادفة الدليل، وإن لم يصادف عين الدليل، وإنما صادف حكمه، فله أجر واحد وهو أجر التتبع، فالمراد بالخطأ هنا الخطأ الإضافي، لا الخطأ المطلق) (4)
ثم ختم فتواه فيها ببيان المنطلقات العقدية التي ينطلق منها أصحاب هذا المنهج،
__________
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام، مالك، ج 1، ص 97.
(2) صحيح البخاري، ج 9، ص 108، صحيح مسلم، ج 3، ص 1342. َ
(3) صحيح البخاري، ج 3، ص 184، صحيح مسلم، ج 3، ص 1343.
(4) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، ج 1، ص 98.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (71)
فقال – ناقلا عن الشعراوي -: (فإن اعتقادنا أن سائر أمة المسلمين على هدى من ربهم في جميع أقوالهم، وما ثم إلا قريب من عين الشريعة وأقرب وبعيد عنها وأبعد بحسب طول السند وقصره، وكما يجب علينا الإيمان بصحة جميع شرائع الأنبياء قبل نسخها مع اختلافها ومخالفة أشياء فيها لظاهر شريعتنا، فكذلك يجب على المقلدين اعتقاد صحة جميع مذاهب المجتهدين وإن خالف كلامهم ظاهر كلام إمامهم، فإن الإنسان كلما بعد عن شعاع نور الشريعة خفي مدركه ونوره وظن غيره أن كلامه خارج عن الشريعة، وليس كذلك، ولعل ذلك سبب تضعيف العلماء كلام بعضهم بعضا في سائر الأدوار إلى عصرنا هذا فتجد أهل كل دور يطعن في صحة قول بعض الأدوار التي قبله وأين من يخرق بصره في هذا الزمان جميع الأدوار التي مضت قبله حتى يصل إلى شهود اتصالها بعين الشريعة الأولى التي هي كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن هو محجوب عن ذلك، فإن بين المقلدين الآن وبين الدور الأول من الصحابة نحو خمسة عشر دورا من العلماء فاعلم ذلك) (1)
يعتمد أصحاب هذا المنهج على النظر في التراث الفقهي لكل المذاهب، لغرضين:
أولهما: انتقاء ما يرونه مناسبا من الأقوال للحادثة التي يستفتون فيها، وكمثال على ذلك ما فعله ابن القيم عند ذكره لمخارج الطلاق، فقد حاول أن يستفيد من كل الخلافات الموجودة ليسد باب الطلاق، وقد نص على أنه إذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا أو لا يدخل داره، فأفتاه مفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين، اعتقادا لقول علي وطاوس وشريح، أو اعتقادا لقول أبي حنيفة والقفال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط، أو اعتقادا لقول أشهب أنه إذا علق الطلاق بفعل الزوجة أنه لم يحنث بفعلها، أو اعتقادا لقول أبي عبد الرحمن
__________
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، ج 1، ص 98.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (72)
الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطلاق المعلق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق، وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر.
قال ابن القيم: (لم يحنث في ذلك كله، ولم يقع الطلاق، ولو فرض فساد هذه الأقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولا مقلدا ظانا أنه لا يحنث به، فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي، وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يستقص، ولم يسأل غير من أفتاه، وهذا بعينه يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يبحث، ولم يسأل عن المحلوف عليه، فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة، فكيف والمتأول مطيع لله مأجور إما أجرا واحدا أو أجرين؟) (1)
ثانيهما: ذكر الأقوال للمستفتي ليختار ما يتناسب مع حاجته، أو ليختارها جميعا إن كان يمكن الجمع بينها، ومن ذلك ما روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم، قال: أدرك مسروق وجندب ركعة من المغرب، فلما سلم الإمام قام مسروق فأضاف إليها ركعة، ثم جلس وقام جندب فيهما جميعا، ثم جلس في آخرها فذكر ذلك لعبد الله، فقال: كلاهما قد أحسن وأفعل كما فعل مسروق أحب إلي (2).
وكما أشرنا سابقا، فإن أصحاب هذا المنهج لا يكتفون بالمذاهب الأربعة، بل يرجعون إلى أقوال غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولو لم يقل بها إمام من أئمة المذاهب الأربعة، وذلك خلافا لمنهج المذهبيين الذين يتعاملون مع المذاهب الأربعة فقط، وكأن اتفاقها إجماع يحرم خرقه، ويعتبر شاذا من لا يقول به، ثم ينتقون من أقوال هذه المذاهب ما يرونه معتمدا أو مشهورا أو عليه العمل، ويعتبرون ما عداه ضعيفا أو مهجورا
__________
(1) إعلام الموقعين: ج 4، ص 89.
(2) الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد – الرياض، ط 1، 1409، ج 2، ص 234.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (73)
مع أنه قد يهجر في زمان ليحيا في غيره، أو يضعف مع شخص ليقوى مع غيره.
وقد عقد ابن القيم لهذا فصلا في الإعلام قال فيه: (فصل: القول في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوي الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين، وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم ; فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين) (1)
ثم بين خطأ الاقتصار في الفتوى على مذاهب المتأخرين وهجر أقوال المتقدمين مع كونها أقرب لزمن الوحي، فقال: (ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري، وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وأمثالهم، بل لا يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد، وأمثالهم، بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح، وأبي وائل وجعفر بن محمد، وأضرابهم مما يسوغ الأخذ به، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي
__________
(1) إعلام الموقعين: 4/ 118.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (74)
وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وأضرابهم، فلا يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك وفتاويهم، وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين الأخذ بها حكما، وإفتاء، ومنع الأخذ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم) (1)
__________
(1) إعلام الموقعين، ج 4، ص 118.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (75)
وهو المنهج الذي يعتمد التيسير على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يراعي حاجته، وييسر عليه تنفيذ التكاليف، ولو بأدنى مراتبها.
وهذا المنهج يتبنى المنهج السابق من حيث اعتقاده بإمكانية الاستفادة من جميع التراث الفقهي، ويضيف إليه بعد التيسير، لاعتقاده أن التيسير على المكلفين مقصد من مقاصد الشريعة لا يصح تجاوزه.
إلا أن هذا المنهج، ومن خلال الواقع، نراه ينشئ في المتبنين له، وخاصة في أوساط العامة، نوعا من التحرر من أحكام الشريعة، وذلك عبر بعض الظواهر التي تحدث عنها الفقهاء، واختلفوا في مواقفهم منها، وهي: ظاهرة التلفيق، وظاهرة تتبع الرخص، وظاهرة الحيل الشرعية، والتي سنتحدث عنها هنا في هذا المبحث.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار– لمثل ما عرضنا إليه في المباحث السابقة من أعلام هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو الآليات التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى.
ليس من السهولة أن نجد أعلاما خاصين بهذا المنهج لا يتجاوزونه أو لا يخالفونه مطلقا، ولكنا ومن خلال تتبع الفتاوى التي يجنح أصحابها إلى التيسير ورفع ثقل التكاليف عن المستفتي نجد ثلاثة أصول كبرى من اعتقدها جميعا، أو اعتقد ببعضها، يمكن أن نطلق عليه أنه من أصحاب هذا المنهج، وهذه الأصول هي:
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (76)
الأصل الأول: جواز تتبع الرخص.
الأصل الثاني: جواز التلفيق بين المذاهب.
الأصل الثالث: جواز الحيل الفقهية.
وسنتحدث عن هذه الأصول ومواقف الفقهاء منها في هذا المطلب.
ليس المراد بالرخص (1) هنا ما يقابل العزيمة (2)، باعتبار أن كليهما من أقسام الحكم الشرعي، لأنه لا خلاف بأن هذا النوع من الرخص مشروع بالكتاب والسنة، ومعلوم من الدين بالضرورة، ولا حرج على من أخذ به. وإنما المراد به رخص المذاهب الفقهية، فكل مذهب قد ييسر في محل، ويشدد في محل آخر.
وقد عرف هذا النوع من الرخص تعريفات كثيرة منها تعريف بدرُ الدِّين الزَّركشيُّ الشَّافعيُّ بأنَّها (اختيارُ المرء من كلِّ مذهب ما هو الأهون عليه) (3)
وعرفه المجمع الفقهيُّ الدَّوليُّ بأنَّه: (ما جاء من الاجتهادات المذهبيَّة مبيحًا لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره) (4)
ومع كون أكثر الفقهاء ينكرون تتبع الرخص، إلا أنه ظهر ولا يزال يظهر من الفقهاء
__________
(1) من التعاريف التي عرفت بها الرخص المتفق على جواز الأخذ بها: (الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر مع كونه حراما في حق غير المعذور) (البحر المحيط في أصول الفقه، ج 2، ص 32)
(2) من التعاريف التي عرفت بها العزيمة: أنها (عبارة عن الحكم الأصلي السالم موجبه عن المعارض)، كالصلوات الخمس من العبادات، ومشروعية البيع وغيرها من التكاليف. (انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، ج 2، ص 30)
(3) البحر المحيط: ج 6، ص 325.
(4) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي: (159 - 160)، قرار رقم (70).
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (77)
من لا يرى حرجا في تتبع الرخص، ويفتي على أساسها، وقد ذكر الشاطبي مدى انتشار ذلك في زمانه، فقال: (وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف (1)؛ فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا، وما ليس بحجة حجة) (2)
وقد اعتبر الشاطبي هذا من تتبع الهوى، ومتنافيا مع الاستقامة والتقوى التي أمرت بها الشريعة، فقال: (والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه) (3)
والأمر الأخطر في هذا الباب هو ما أشار إليه الشاطبي من قيام بعض المفتين بالانتقاء في الفتوى، فيفتي لكل شخص بحسبه في المسألة الواحدة، لا مراعاة لحاله، وإنما مراعاة لأمور أخرى عبر عنها بقوله: (وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال؛ اتباعا لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق.. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا
__________
(1) سنتحدث عنه في منهج التشديد.
(2) الموافقات، ج 5، ص 92.
(3) المرجع السابق، ج 5، ص 92.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (78)
كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة) (1)
وقد أشار إلى هذا أيضا ابن حزم، فقد وصف بعض الفقهاء في زمانه، فقال: (قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم، وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى، وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا منه عيانا، وعليه جمهور أهل بلدنا، إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها؛ لأننا لم نشاهدها) (2)
وأشار الشاطبي إلى أمر أخطر من الفتوى، وهو القضاء، حيث ذكر أن بعض القضاة يتخير في الفتوى ما يتناسب مع هواه في الحكم بين الخصوم، مع أن (القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر، مع عدم تطرق التهمة للحاكم، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله) (3)
ونقل في هذا عن ابن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الاتباع ليحيى بن يحيى، لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء، فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى؛ فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم، وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى، فصرف يحيى رسوله، وقال له: لا أشير عليه بشيء؛ إذ توقف على القضاء
__________
(1) المرجع السابق، ج 5، ص 84.
(2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 6، ص 167.
(3) الموافقات، ج 5، ص 86.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (79)
لفلان بما أشرت عليه. فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه، وركب من فوره إلى يحيى وقال له: لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع، وسوف أقضي له غدا إن شاء الله. فقال له يحيى: وتفعل ذلك صدقا؟ قال: نعم. قال له: فالآن هيجت غيظي؛ فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في الأقوال، فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف؛ فلا خير فيما تجيء به، ولا في إن رضيته منك، فاستعف من ذلك فإنه أستر لك، وإلا رفعت في عزلك)، فرفع يستعفي فعزل (1).
وذكر حادثة أخرى عن بعضهم أنه (اكترى جزءا من أرض على الإشاعة، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد، فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة في الإجارات، قال لي: فوردت من سفري، فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين- عن مسألتي؛ فقالوا: ما علمنا أنها لك؛ إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها. فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضي لي بها) (2)
بل وصل الأمر ببعضهم – كما يذكر الشاطبي- إلى الى أن يعتبر ذلك من حقوق الصداقة، قال: (أخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا المصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه) (3)
ثم ذكر الشاطبي مدى انتشار هذه الظاهرة في عصره، وموقفه منها، فقال: (وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها: لعل فيها رواية؟ أم لعل فيها رخصة؟ وهم
__________
(1) المرجع السابق، ج 5، ص 86.
(2) المرجع السابق، ج 5، ص 90.
(3) المرجع السابق، ج 5، ص 90.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (80)
يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (1)؛ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدا بما لا يفتي به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟!) (2)
ولكن مع هذا نجد من العلماء من أباح هذا وبرره، وذكر أن للمقلِّد أن يختار ما شاء مما يجد فيه سهولة ويسراً على نفسه من التكاليف الشرعية، لأن ذلك من متطلبات الشريعة، مشددين على أن لا يكون في ذلك تهرباً من التكليفات الشرعية أو تشهّياً من المكلف، أو عودةً منه عن تقليد التزمه في المسألة) (3)
ويقول العطار في حاشيته: (يجوز اتباع رخص المذاهب، ولا يمنع منه مانع
__________
(1) سورة المائدة: 49.
(2) المرجع السابق، ج 5، ص 91.
(3) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية على الانترنت، الموضوع (1103)، التلفيق للتقليد فى مسألة واحدة باطل، منشور بتاريخ: 10/ 2 / 1954 م، جواب للشيخ حسنين محمد مخلوف على الرابط التالي: (www.dar-alifta.com)
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (81)
شرعي... لا أدري ما يمنع منه عقلاً وشرعاً) (1)
ولعل أكثر من اهتم بتتبع الرخص، وحاول أن يسوغها شرعا بعض علماء المذهب الحنفي، وهذا ما رجحه الكمال بن الهمام في (فتح القدير)، حيث يقول: (وأنا لا أدري ما يمنع هذا؟ النقل أو العقل؟ وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمةً عليه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحب ما خفف عن أمته) (2)
بل روي أن من الفقهاء من صنف في هذا، قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب (3).
ونحب أن ننبه هنا إلى أنه ليس كل تتبع للرخص أنكره الفقهاء الكبار، فمنه ما جوزوه، بل دعوا إليه، كما ذكرنا ذلك في المنهج السابق.
ومن ذلك ما روي أن الإمام أحمد سئل عن مسألة في الطلاق فقال: (إن فعل حنث) فقال السائل: (إن أفتاني إنسان: لا أحنث) فقال: (تعرف حلقة المدنيين؟) قلت: (فإن أفتوني حلّ)، قال (نعم)، وروي عنه روايات أنه سئل عن الرجل يسأل عن المسألة فدله
__________
(1) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي، دار الكتب العلمية، ج 2، ص 442.
(2) فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر، ج 7، ص 258.
(3) البحر المحيط في أصول الفقه، ج 8، ص 383.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (82)
على إنسان، هل علي شيء؟ قال: (إن كان متبعاً أو معيناً فلا بأس، ولا يعجبني رأي أحد) (1)
وقال ابن عقيل: يستحب إعلام المستفتي بمذهب غيره إن كان أهلا للرخصة. كطالب التخلص من الربا، فيدله على من يرى التحيل للخلاص منه، والخلع بعدم وقوع الطلاق (2).
وذكر القاضي أبو الحسين في فروعه في كتاب الطهارة عن أحمد: أنهم جاءوه بفتوى، فلم تكن على مذهبه. فقال: عليكم بحلقة المدنيين، (ففي هذا دليل على أن المفتي إذا جاءه المستفتي، ولم يكن عنده رخصة له أن يدله على مذهب من له فيه رخصة) (3)
الأصل الثاني جواز التلفيق بين المذاهب
بناء على الاعتبارين اللذين يراعيهما أصحاب هذا المنهج بشدة، وهما:
1. جواز الأخذ من أي مذهب من المذاهب الفقهية وغيرها، بل والتنقل بينها بحرية.
2. أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة، ولا حرج في استعماله في أي موضع.
فقد ظهر في الواقع الإسلامي ما يسمى بالتلفيق، أو تلفيق المقلد (4)، ويقصدون به
__________
(1) انظر: شرح الكوكب المنير، تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد المعروف بابن النجار الحنبلي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، ط 2، 1418 هـ - 1997 مـ، ج 4، ص 589.
(2) المرجع السابق، ج 4، ص 589.
(3) المرجع السابق، ج 4، ص 589.
(4) ويقابله التلفيق في الاجتهاد، ويسمى: الاجتهاد المركب: هو أن يجتهد اثنان أو أكثر في موضوع، فيكون لهم فيه قولان، ثم يأتي من بعدهم من يجتهد في الموضوع نفسه، ويؤدي اجتهاده إلى الأخذ من كل قول ببعضه، ويكون مجموع ذلك مذهبه في الموضوع، فيكون اجتهاده هذا اجتهادا مركبا بالنظر إلى ما سبقه من اجتهاد، انظر: التلفيق ورأي الفقهاء فيه، مصطفى كمال التارزي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، منظمة المؤتمر الاسلامي بجدة، ع 8، ض 277.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (83)
(أخذ صحة الفعل من مذهبين معاً بعد الحكم ببطلانه على كل واحد منهما بمفرده) (1) أو هو (الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد) (2)
ومعنى هذا أن الفقيه أو المفتي أو طالب العلم الذي ترسخت لديه المفاهيم السابقة يأخذ من كل مذهب ما يتناسب مع مصالحه، ولو أدى ذلك إلى أن يقوم بعمل يحكم الجميع بحرمته.
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء لهذا في أبواب العبادات (متوضئ لَمَسَ امرأة أجنبية بلا حائل، وخرجت منه نجاسة – كالدم – من غير السبيلين، فإن هذا الوضوء باطل باللمس عند الشافعية، وباطل بخروج الدم عند الحنفية، ولا ينتقض بخروج الدم من غير السبيلين عند الشافعية، ولا ينقض كذلك بلمس المرأة عند الحنفية، فإذا صلى بهذا الوضوء فإن صحة صلاته ملفقة بين المذهبين معاً)
ومن الأمثلة في باب النكاح (أن يتزوج الرجل امرأة بلا ولي ولا صداق ولا شهود، مقلداً كل مذهب يقول بواحدة من هذه لوحدها، كتقليد أبي حنيفة في عدم اشتراط الولي، وبعدم اشتراط الشهود مقلداً المالكية.. وهكذا) (3)
أو (أن يطلق زوجته ثلاثاً، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل، مقلداً في زواجها في صحة النكاح عند الشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلداً في صحة الطلاق وعدم
__________
(1) انظر: أصول الفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 1، ص 351.
(2) الرخصة الشرعية في الأصول والقواعد الفقهية، د. عمر عبد الله الكامل، دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت، ط 1 (1999 م).ص 215 – 216.
(3) الفتاوى الكبرى، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي، منشورات المكتبة الإسلامية، ج 3، ص 289.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (84)
العدة للإمام أحمد، ليجوز لزوجها الأول العقد عليها تلفيقاً بين هذا المذهب وذاك) (1)
والمسألة – كما نرى – ترجع إلى ما طرحه المتشددون من أصحاب المنهج المذهبي من ضرورة الالتزام بالمذاهب، وعدم الخروج عنها، وبالتالي فإن من يرى هذا يرى حرمة التلفيق، ومن يرى جواز التنقل بين المذاهب، ولو في القضية الواحدة، يرى جواز التلفيق.
وقد أشار إلى هذا، والخلاف الوارد فيه، الزركشي، فقال: (فلو التزم مذهبا معينا، كمالك والشافعي، واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب: (أحدها): المنع، وبه جزم الجيلي في الإعجاز، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فلا ضرورة إلى الانتقال إلا التشهي، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين. و(الثاني) يجوز، وهو الأصح في الرافعي، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، لأن السبب - وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين) (2)
ثم ذكر الزركشي صورتين لجواز التلفيق:
(إحداهما): إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا كالحلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء، ثم فعله ناسيا أو جاهلا، وكان مذهب مقلده عدم الحنث فخرج منه لقول من أوقع الطلاق، فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث قطعا، ولهذا قال الشافعي: إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام.
و (الثانية): إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا صحيحا ولم يجد في مذهب
__________
(1) أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، الطبعة الأولى (1986 م) ج 2، ص 1142.
(2) البحر المحيط في أصول الفقه، 8، ص 375.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (85)
إمامه دليلا قويا عنه ولا معارضا راجحا عليه، فلا وجه لمنعه من التقليد حينئذ محافظة على العمل بظاهر الدليل (1).
ونقل العطار الشافعي أقوال عدد من العلماء أجازوا التلفيق لغرض الأخذ بالرخصة والأيسر، فقال: (نقل الشرنبلالي الحنفي عن السيد أمير باد شاه في شرح التجريد: يجوز اتباع رخص المذاهب، ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك المسلك الأخف عليه من مذهب إلى مذهب، إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بقول آخر مخالف لذلك الأخف.. وقال ابن أمير الحاج إن مثل هذه التشديدات التي ذكروها في المتنقل من مذهب إلى مذهب إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص، وإلا فأخذ العامي بكل مسألة بقول مجتهد يكون قوله أخف عليه فلا أدري ما يمنع منه عقلاً وشرعاً) (2)
ونحب أن ننبه هنا فقط إلى أن التلفيق الذي أجازه هؤلاء العلماء لا علاقة له بما ذكره بعض المتحللين من أحكام الشريعة المتلاعبين بها، والذين عبر ابن الرومي عنهم، فقال:
أباح العراقي النبيذ وشربه... وقال الحرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي: الشرابان واحد... فحلت لنا من بين اختلافهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما... وأشربها لا فارق الوازر الوزر (3)
الأصل الثالث جواز الحيل الفقهية
ومعناها – كما يذكر ابن القيم- (سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى
__________
(1) المرجع السابق، ج 8، ص 376.
(2) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي، حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي، دار الكتب العلمية – بيروت، ج 2، ص 442
(3) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت، ط 1،، 1420 هـ، ج 1، ص 769.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (86)
حصول غرضه، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة.. وأخص من هذا استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعاً أو عقلاً أو عادةً، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس) (1)
وقد ذكر ابن تيمية بداية نشوء هذه الظاهرة، فقال: (أما الإفتاء بها وتعليمها للناس وإنفاذها في الحكم، واعتقاد جوازها فأول ما حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المئة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها ولله الحمد حيلة واحدة تؤثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سُئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموا وزجروا عنه) (2)
ومن المشهور في تاريخ التشريع الإسلامي أن الحنفية من أكثر من اهتم بهذا الجانب، وأن لهم فيها مؤلفات، منها (المخارج في الحيل) للإمام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي، وقد حصل خلاف في نسبة الكتاب إليه، ومنها (الحيل والمخارج) للخصاف الحنفي، وغيرها.
وتروى عن أبي حنيفة الكثير من القصص في هذا، منها ما رواه محمد بن الحسن، قال: دخل على رجل اللصوص، فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثا أن لا يعلم أحدا، قال: فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه، وليس يقدر يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة، فقال له أبو حنيفة: (أحضرني إمام حيك والمؤذن والمستورين منهم)، فأحضرهم إياه، فقال لهم أبو حنيفة: (هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه؟) قالوا: نعم، قال: (فاجمعوا كل داعر وكل متهم فأدخلوهم في دار، أو في مسجد، ثم أخرجوهم
__________
(1) علام الموقعين، ج 5، ص 188.
(2) بيان الدليل على بطلان التحليل، ابن تيمية، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي، ص 121.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (87)
واحدا واحدا، فقولوا له: هذا لصك، فإن كان ليس بلصه قال: لا، وإن كان لصه، فليسكت، فإذا سكت فاقبضوا عليه)، ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة، فرد الله عليه جميع ما سرق منه (1).
ومنها ما رواه عن وكيع قال: كان لنا جار من خيار الناس، وكان من الحفاظ للحديث، فوقع بينه وبين امرأته شيء وكان بها معجبا، فقال لها: أنت طالق إن سألتيني الطلاق الليلة، إن لم أطلقك الليلة ثلاثا، فقالت المرأة: عبيدها أحرار، وكل مال لها صدقة إن لم أسألك الطلاق الليلة، فجاءني هو والمرأة في الليل، فقالت المرأة: إني بليت بكذا، وقال الرجل: إني بليت بكذا، فقلت ما عندي في هذا شيء، ولكنا نصير إلى الشيخ أبي حنيفة فإني أرجو أن يكون لنا عنده فرج، وكان الرجل يكثر الوقيعة في أبي حنيفة وبلغه ذلك عنه، فقال: أستحيي منه، فقلت: امض بنا إليه، فأبى، فمضيت معه إلى ابن أبي ليلى وسفيان، فقالا: ما عندنا في هذا شيء، فمضينا إلى أبي حنيفة، فدخلنا عليه، وقصصنا عليه القصة وأخبرته أنا مضينا إلى سفيان وابن أبي ليلى، فعزب الجواب عنهما، فقال: إني والله ما أجد الفرض إلا جوابك، وإن كنت لي عدوا، فسأل الرجل: كيف حلف؟ وسأل المرأة: كيف حلفت؟ وقال: وأنتما تريدان الخلاص من الله في أيمانكما ولا تحبان الفرقة، فقالت: نعم، وقال الرجل: نعم، قال: سليه أن يطلقك، فقالت: طلقني، فقال للرجل: قل لها أنت طالق ثلاثا إن شئت، فقال لها ذلك، فقال للمرأة قولي: لا أشاء، فقالت: لا أشاء، فقال: قد بررتما وخرجتما من طلبة الله لكما، فقال للرجل: تب إلى الله من الوقيعة في كل من حمل إليك شيئا من العلم " قال وكيع: فكان الرجل بعد ذلك يدعو لأبي حنيفة في دبر الصلوات، وأخبرني أن المرأة تدعو له كلما صلت (2).
__________
(1) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، ج 2، ص 413.
(2) المرجع السابق، ج 2، ص 413.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (88)
ولكن هذا وإن اشتهر به الحنفية، فليس خاصا بهم، حيث نجد من فقهاء المذاهب الأخرى من أخذ بهذا الأصل أيضا.
يقول النووي: (ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرّمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضرّه وأما من صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان: (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد) (1)
لا يمكن استيعاب الأدلة التي يستند إليها أصحاب هذا المنهج، ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع التالية:
ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من بيان سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها، وأن من مقاصد الشرع الحكيم التيسير والتخفيف على المكلفين، كقوله تعالى تعقيبًا على أحكام الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
__________
(1) المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي)، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار الفكر، ج 1، ص 46.
(2) سورة البقرة: 185.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (89)
تَشْكُرُونَ} (1)، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (2)
ومن الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) (3)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا. وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (4)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) (5)
ولذا أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن فقال: (يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفّرا) (6)
ولهذا، فإن أصحاب هذا المنهج يرون في التشديد مخالفة لما ورد في هذه النصوص وغيرها من الأمر بمراعاة التيسير.
وقد استنبط الفقهاء –بمختلف مناهجهم -من تلك النصوص وغيرها الكثير من القواعد الشرعية التي استنبطوها من النصوص وغيرها، والتي تدل على أن التيسير غرض شرعي محترم لا جناح على الفقيه أن يعتمده، بل يجب عليه أن يعتمده في فتاواه.
ومن هذه القواعد:
1 ـ قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) المستنبطة من قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة النساء: 28.
(3) صحيح البخاري، ج 1، ص 16.
(4) صحيح البخاري، ج 1، ص 17..
(5) صحيح البخاري، ج 1، ص 16.
(6) صحيح البخاري، ج 4، ص 65.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (90)
وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1)، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (2)، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3)، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4)
2 ـ قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي مستنبطة من قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5)
3 ـ قاعدة (كلما ضاق الأمر اتسع) وهي مستنبطة من قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (6) وقوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (7)، وقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} (8)
4 ـ قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) المستنبطة من قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (9)، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} (10)، وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (11)، وقوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا
__________
(1) سورة البقرة: 185.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة الحج: 78.
(4) سورة البقرة: 286.
(5) سورة المائدة: 3.
(6) سورة النساء: 28.
(7) سورة الطلاق: 7.
(8) سورة الانشراح: 5 - 6.
(9) سورة البقرة: 286.
(10) سورة الطلاق: 7.
(11) سورة الأعراف: 157.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (91)
عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (1)
أنه كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المفتي الأول في الإسلام مراعاة التيسير، والنهي عن التشدد، ولذلك فإن الفقيه الذي يميل إلى التيسير إنما يطبق سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفتوى.
ففي الحديث عن عائشة أنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها) (2)
وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أَمَرَهُم أَمَرَهُم من الأَعمَال بما يُطيقُون) (3)
وعن عمار بن ياسر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة فأجنبْت فلم أجد ماءً، فمرغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه (4).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) (5)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يشق على أصحابه في أمر حتى في أوقات تعليمهم، فقد روى ابن مسعود
__________
(1) سورة النور: 61.
(2) صحيح البخاري (4/ 189)
(3) صحيح البخاري، ج 1، ص 13، صحيح مسلم، ج 1، ص 540.
(4) صحيح البخاري، ج 1، ص 75، وصحيح مسلم، ج 1، ص 280.
(5) صحيح البخاري، ج 2، ص 4.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (92)
أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا) (1)
وعن أنس، قال: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه) (2)
وهكذا كان الصحابة المنتجبون، وهم أدرى الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حدث عمر بن إسحاق: (لما أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ممن سبقني منهم؛ فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقلّ تشديداً منهم) (3)
ما ورد من النصوص في النهي عن التشدد في الدين، وهي كثيرة جدا، منها ما حدث به ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (هلك المتنطعون) (قالها ثلاثًا) وفي رواية: (ألا هلك المتنطعون) (4)، والمتنطعون هم المتعمقون والمتشددون في غير موضع التشديد.
وفي الحديث عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مه عليكم بما تطيقون! فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله ما دوام عليه صاحبه) (5)
وعن أبي هريرة، قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي
__________
(1) صحيح البخاري ج 8، ص 88.
(2) صحيح البخاري، ج 1، ص 143.
(3) مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي، أبو محمد عبد الله الدارمي، التميمي السمرقندي، تحقيق: نبيل هاشم الغمري، دار البشائر (بيروت)
ط 1، 1434 هـ - 2013 م، ص 128.
(4) صحيح مسلم ج 4، ص 2055.
(5) صحيح البخاري، ج 2، ص 54، وصحيح مسلم، ج 1، ص 540.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (93)
صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) (1)
يمكن تقسيم الفقهاء الذين اعتمدوا هذا المنهج إلى فريقين:
وهم الذين اعتبروا التيسير مقصدا شرعيا مطلقا غير منضبط بالضوابط الأخرى، ولهذا أجازا تتبع الرخص مطلقا، بل أجازوا ما يسمونه بالحيل الفقهية على اعتبار أنها تحقق مقصد التيسير.
وقد ذكر من كتبوا في الرد على الحيل كابن تيمية وابن القيم الكثير من المناهج التي يعتمدها هؤلاء في مراعاة حاجات وأهواء المستفتين، ومن ذلك ما ورد في الحيل المرتبطة بالتهرب من الزكاة وهي كثيرة جدا، وتصطدم مع ما ورد في الشرع من مقاصد الزكاة.
ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم، وهي للأسف منتشرة بين الناس: أن يكون على من وجبت عليه الزكاة على رجل مال، وقد أفلس غريمه وأيس من أخذه منه، وأراد أن يحسبه من الزكاة، فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه، ومن ثم يطالبه بالوفاء، فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع، وقد ذكر ابن القيم هذه الحيلة، وقال: (وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه فكل هذا ليسقط عنه الزكاة ولا يعد مخرجاً لها شرعاً ولا عرفاً) (2)
ومن الحيل المنتشرة في هذا الباب إسقاط الدين على المعسر قائلاً: الدينُ الذي لي
__________
(1) صحيح البخاري، ج 1، ص 54.
(2) إعلام الموقعين، ج 3، ص 240.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (94)
عليك هو لك، ويحسبه من الزكاة، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – عن هذه المسألة فأجاب بقوله: (هذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} (1)، والأخذ لا بد أن يكون ببذل من المأخوذ منه، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد) (2)، فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد)، فلابد من أخذ ورد، والإسقاط لا يوجد فيه ذلك؛ ولأن الإنسان إذا أسقط الدين عن زكاة العين التي في يده، فكأنما أخرج الرديء عن الطيب، لأن قيمة الدين في النفس ليست كقيمة العين، فإن العين ملكه وفي يده، والدين في ذمة الآخرين قد يأتي وقد لا يأتي، فصار الدين دون العين، وإذا كان دونها فلا يصح أن يخرج زكاة عنها لنقصه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (3)
وهكذا أفتى ابن القيم فيمن (كان له على رجل مال، وقد أفلس غريمه، وأيس من أخذه منه، وأراد أن يحسبه من الزكاة، فيعطيه من الزكاة بقدر ما عليه، ومن ثم يطالبه بالوفاء، فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع)
فقد أجاب على هذا بقوله: (وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه فكل هذا ل يسقط عنه الزكاة ولا يعد مخرجاً لها شرعاً ولا عرفاً) (4)
وهكذا نجد العلماء المحققين يشتدون على هذا النوع من الحيل، باعتباره تملصا من
__________
(1) سورة التوبة: من الآية 103.
(2) صحيح البخاري، ج 2، ص 104، صحيح مسلم، ج 1، ص 50.
(3) سورة البقرة:267.
(4) إعلام الموقعين، ج 3، ص 240.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (95)
الشريعة، ولا يختلف عما فعله أصحاب السبت من بني إسرائيل، يقول الشاطبي: (وقد أذكر في هذا المعني جملة مما في اتباع رخص المذاهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط، وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم.. وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف، وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها) (1)
وقال ابن القيم: (وقد استقرت سنة الله في خلقه شرعاً وقدراً على معاقبة العبد بنقيض قصده، كما حُرِمَ القاتلُ الميراث، وورَّثَ المُطلَّقة في مرض الموت، وكذلك الفار من الزكاة لا يسقطها عنه فراره ولا يعان على قصده الباطل فيتمُ مقصُودُه ويسقطُ مقصودُ الرب تعالى، وكذلك عامة الحيل إنما يُساعِدُ فيها المُتحيلُ على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع) (2)
وهم الذين احترموا ما ورد في النصوص من اعتبار التيسير والتسهيل على المكلفين، ولهذا راعوا رفع الحرج في التكاليف من غير أن يصطدموا مع مقاصد الشرع التي راعاها في التكاليف المختلفة، وهذا المنهج يقبل الرخص الفقهية، وقد يتبعها، ولكن بشرط عدم أدائها لتساهل المكلف في أحكام الشريعة.
يقول الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) في باب التمحل في الفتوى ذاكرا هذا النوع من التيسيرات التي يحتاج المفتي إلى مراعاتها: (متى وجد المفتي للسائل مخرجاً في مسألته، وطريقاً يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه، كرجل حلف أن لا ينفق على زوجته
__________
(1) الموافقات، ج 5، ص 102.
(2) إعلام الموقعين، ج 3، ص 193.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (96)
ولا يطعمها شهراً، أو شبه هذا، فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها، أو دين لها عليه، أو يقرضها ثمن بيوتها، أو يبيعها سلعة وينويها من الثمن، وقد قال الله تعالى لأيوب عليه السلام لما حلف أن يضرب زوجته مئة {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (1) (2)
ثم ساق الخطيب آثاراً كثيرة في هذا المعنى، منها ما رواه عن علي: في رجل حلف، فقال: امرأته طالق ثلاثا إن لم يطأها في شهر رمضان نهارا، قال: (يسافر بها ثم ليجامعها نهارا) (3)
ومنها ما رواه عن حماد قال: قلت لإبراهيم: أمر على العاشر فيستحلفني بالمشي إلى بيت الله، قال: (احلف له، وانو مسجد حيك) (4)
__________
(1) سورة ص: 44.
(2) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، ج 2، ص 411.
(3) المرجع السابق، ج 2، ص 411.
(4) المرجع السابق، ج 2، ص 412.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (97)
وهو المنهج الذي يعتمد التشديد على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يشدد عليه تنفيذ التكاليف، أو يختار له أشدها وأكثرها احتياطا.
وهذا المنهج يرى إمكانية الاستفادة من جميع التراث الفقهي، ويضيف إليه بُعد التشديد والاحتياط والورع، لاعتقاده أن التشديد والاحتياط مقصد من مقاصد الشريعة لا يصح تجاوزه.
بناء على هذا سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المباحث السابقة من أعلام هذا المنهج الذين يمثلونه، وأدلتهم، والمنهج أو الآليات التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى.
من خلال تتبع الفتاوى التي يجنح أصحابها إلى التشديد على المستفتين نجد ثلاثة أصول كبرى من اعتقدها جميعا، أو اعتقد بأحدها، يمكن أن نطلق عليه أنه من أصحاب هذا المنهج، وهذه الأصول هي:
الأصل الأول: ترجيح العزيمة على الرخصة
الأصل الثاني: القول بسد الذرائع
الأصل الثالث: مراعاة الخلاف
وسنتحدث عن هذه الأصول ومواقف الفقهاء منها في هذا المطلب.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (98)
أو ما يسمى في الأصول بمبحث الاحتياط (1)، أو الأخذ بالأحوط، أو التحرز، أو التحري (2)، أو التوقف (3)، أو التورع (4).
وهو منهج اعتمده الكثير من العلماء مقابل المنهج السابق، يقول ابن تيمية: (وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط في كثير من الأحكام بناء على هذا، وأما الاحتياط في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة) (5)
ومثله صرح الشاطبي بأن الشريعة (مبنية على الاحتياط والأخذ بالأحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل، فليس
__________
(1) عرفه الجرجاني بأنه (حفظ النفس عن الوقوع في المآثم) (كتاب التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، ط 1، 1403 هـ -1983 م، ص 12)، وعرفه ابن عبد البر بأنه (الكف عن إيجاب ما لم يأذن الله بإيجابه) (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ج 2، ص 63)، وعرفه ابن تيمية بأنه (اتقاء ما يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح) (مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ/1995 م، ج 20، ص 138.
(2). عرفه السرخسي بأنه (عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته) (المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة – بيروت، 1414 هـ - 1993 م، ج 10، ص 185)
(3) عرفته الموسوعة الكويتية بأنه (عدم إبداء قول في المسألة الاجتهاديّة لعدم ظهور وجه الصّواب فيها للمجتهد) (الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، دارالسلاسل - الكويت، 1404 - 1427 هـ، ج 14، ص 176)
(4) عرف بأنه (اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات) (التعريفات، ص 346)
(5) مجموع الفتاوى، ج 20، ص 262.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (99)
العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها) (1)
ومثلهما ابن العربي الذي ذكر أن (للشريعة طرفين: أحدهما: طرف التخفيف في التكليف، والآخر: طرف الاحتياط في العبادات، فمن احتاط استوفى الكل، ومن خفف أخذ بالبعض) (2)
ومثلهم جميعا العز بن عبد السلام الذي اعتبر الاحتياط أصلا من الأصول المهمة التي لا يمكن تحقق مقاصد الشريعة من دونها.
وقد قسمه إلى قسمين (3):
الاحتياط المندوب: وهو المعبر عنه بالورع، ومثل له بأمثلة كثيرة منها: غسل اليدين ثلاثا إذا قام من النوم قبل إدخالهما الإناء، وكالخروج من خلاف العلماء عند تقارب المأخذ، وكإصلاح الحكام بين الخصوم في مسائل الخلاف، وكاجتناب كل مفسدة موهمة، وفعل كل مصلحة موهمة؛ فمن شك في عقد من العقود، أو في شرط من شروطه، أو في ركن من أركانه، فليعده بشروطه وأركانه، وكذلك من فرغ من عبادة، ثم شك في شيء من أركانها، أو شرائطها بعد زمن طويل، فالورع أن يعيدها.
الاحتياط الواجب: لكونه وسيلة إلى تحصيل ما تحقق تحريمه، فإذا دارت المصلحة بين الإيجاب والندب، والاحتياط، حملها على الإيجاب؛ لما في ذلك من تحقق براءة الذمة، فإن كانت عند الله واجبة فقد حصل مصلحتها، وإن كانت مندوبة فقد حصل على مصلحة الندب وعلى ثواب نية الجواب، فإن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإذا دارت
__________
(1) الموافقات، ج 3، ص 85.
(2) أحكام القرآن، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط 2، 1424 هـ - 2003 م، ج 2، ص 63.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج 2، ص 18.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (100)
المفسدة بين الكراهة والتحريم فالاحتياط حملها على التحريم، فإن كانت مفسدة التحريم محققة، فقد فاز باجتنابها، وإن كانت منفية فقد اندفعت مفسدة المكروهة، وأثيب على قصد اجتناب المحرم، فإن اجتناب المحرم أفضل من اجتناب المكروه، كما أن فعل الواجب أفضل من فعل المندوب (1).
وكما كان الحنفية من أكثر المذاهب ميلا إلى منهج التيسير في الفتوى، فإن الذهب المالكي من أكثرها ميلا إلى منهج التشديد مراعاة للاحتياط، يقول ابن عبد البر عن الإمام مالك: (وكان رحمه الله متحفظا كثير الاحتياط للدين) (2)
ويقول ابن العربي: (فإن اللفظ إذا كان غريبا لم يخرج عند مالك أو كان احتياطا لم يعدل عنه) (3)
وقال الحطاب: (ومذهبه (أي مالك) مبني على سد الذرائع واتقاء الشبهات، فهو أبعد المذاهب عن الشبه) (4)
وهذا لا يعني أن سائر الفقهاء لم يأخذوا به، ولكن درجاتهم أخذهم به كانت أخف من درجة أخذ المالكية به.
يقول السرخسي عن أصول المذهب الحنفي: (الأخذ بالاحتياط في العبادات
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج 2، ص 20.
(2) الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية – بيروت، ط 1، 1421 – 2000، ج 3، ص 380.
(3) أحكام القرآن، ج 1، ص 558.
(4) مواهب الجليل، للحطاب، ج 1، ص 37.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (101)
أصل) (1)
ويقول الزركشي: (فإن الشافعي يرى تقديم الأحوط، لأنه أقرب إلى مقصود الشارع) (2)
ولعل من أكبر المغالين في الأخذ به بعض الصوفية، كما ذكر ذلك السيوطي والشعراني والمناوي وغيرهم.
فهم يرون أن (يؤخذ من كل مذهب بالأشد والأحوط والأورع، فإذا كان في مذهب الشافعي - مثلا - الجواز في مسألة، والتحريم في أخرى، ومذهب غيره بالعكس، يأخذون بالتحريم احتياطا، وإذا كان مذهبه الوجوب في مسألة، والاستحباب في أخرى، ومذهب غيره بالعكس، يأخذون بالوجوب في المسألتين احتياطا، فيقولون بنقض الوضوء بلمس النساء، ومس الفرج، وبالقيء، والدم السائل، ويقولون بوجوب النية في الوضوء، ومسح كل الرأس، ووجوب الوتر، إلى غير ذلك) (3)
وقد خرج التشدد ببعضهم إلى الوقوع في الحرج المنهي عنه شرعا، وقد ذكر هؤلاء ابن القيم، فقال: (وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة، وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (4)
وبين الفرق بين الورع المستحسن شرعا والوسوسة التي هي نتاج المبالغة في
__________
(1) أصول السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة – بيروت، ج 1، ص 52.
(2) البحر المحيط، ج 6، ص 177.
(3) جزيل المواهب، السيوطي، ص 32.
(4) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، ج 1، ص 135.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (102)
الاحتياط بعيد عن فهم مقاصد الشارع، فقال: (والفرق بين الاحتياط والوسوسة أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحد من الصحابة زاعما أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاثة، فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارا أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطا، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطا إلى أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا، وزعموا أنه احتياط، وقد كان الاحتياط باتباع هدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه أولى بهم، فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط وعدل عن سواء الصراط. والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السنة، ولو خالفت أكثر أهل الأرض، بل كلهم) (1)
الأصل الثاني القول بسد الذرائع
بما أن المذهب المالكي هو أميل المذاهب إلى هذا المنهج، فقد كان من أكثرها عملا بسد الذرائع، قال القرطبي: (وسد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا) (2)
ثم حرر معناه عند المالكية، ومواضع الخلاف بينهم فيه، فقال: (حرر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعا أو لا، والأول ليس من هذا الباب، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والذي لا يلزم إما أن يفضي إلى المحظور غالبا أو ينفك
__________
(1) الروح، لابن القيم، ص 249.
(2) نقلا عن: البحر المحيط في أصول الفقه، ج 8، ص 90.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (103)
عنه غالبا أو يتساوى الأمران وهو المسمى ب (الذرائع) عندنا: فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه، وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة) (1)
ولأجل مبالغة مالك في سد الذرائع كرّه بعض المندوبات لئلا يعتقد في وجوبها أو سننها، وذلك شأنه في كراهة كُلّ النَّوافل التي تتخذ على طريقة الورد في أيام معلومات، ومن ذلك أنَّه كره صيام السِّتة أيام من شهر شوال، لئلا يعتقد العامّة أنَّها كصيام رمضان واجبة (2)، وأوَّل الحديث: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ) (3)، على أنَّ المقصود بشوال طول السَّنة أي ما يقابل رمضان، فاستحب صيام النَّافلة دون تحديد يوم أو أيّام معيّنة من السَّنة، قال مالك في الموطأ: (ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني عن أحد من السَّلَف، وإنَّ أهل العلم يكرهون ذلك مخافة بدعته، وأنْ يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم أو هم يعلمون ذلك) (4)
على خلاف هذا نجد الشافعي يؤكد استحباب صومها، فيقول: (هذا الحديث
__________
(1) المرجع السابق، ج 8، ص 90.
(2) يقول الشاطبي في الاعتصام مبررا رأي مالك في هذه المسألة: (فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه، لكنه لم ير العمل عليه وإن كان مستحبا في الأصل؛ لئلا يكون ذريعة لما قال، كما فعل الصحابة في الأضحية، وعثمان في الإتمام في السفر) (الاعتصام، ج 2، ص 492)
(3) صحيح مسلم، 2، ص 822.
(4) الموطأ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي – الإمارات، ط 1، 1425 هـ - 2004 م، ج 3، ص 447.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (104)
الصَّحيح الصَّريح، إذا ثبتت السُّنَّة فلا تُترك لترك بعض النَّاس أو أكثرهم أوكُلّهم لها، وقوله: قد يظن وجوبها، ينتقص يوم عرفة وعاشوراء، وغيرهما من الصَّوم المندوب) (1)
ومن الأمثلة على هذا أيضا موقف الإمام مالك من مجموعة من بيوع الآجال سدا لذريعة الربا، ففي الموطأ: (قال مالك في الذي يشتري الطعام فيَكْتَالُه، ثم يأتيه من يشتريه منه، فيخبر الذي يأتيه أنه قد اكتاله لنفسه واستوفاه، فيريد المبتاع أن يصدقه ويأخذه بكيله: إن ما بِيعَ على هذه الصفة بنقد، فلا بأس به، وما بِيعَ على هذه الصفة إلى أجل، فإنه مكروه حتى يكتاله المشتري الآخر لنفسه، وإنما كره الذي إلى أجل، لأنه ذريعة إلى الربا، وتخوف أن يدار ذلك على هذا الوجه بغير كيل ولا وزن، فإن كان إلى أجل، فهو مكروه، ولا اختلاف فيه عندنا) (2)
لكن المبالغة في هذا الأصل جعلت بعض الفقهاء يقابلون النص بسد الذرائع، وهو ما لقي النكير الشديد من أصحاب المنهج الأول، وقد بدأت هذه الظاهرة في العصر الأول، وتصدى لها الصحابة، وكمثال على ذلك ما روي أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها). فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول والله لنمنعهن) (3)
وهذا القول لم يبق قول بلال بن عبد الله وحده، بل صار قولا فقهيا له جمهوره العريض، قال الشوكاني: (وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر لأنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك
__________
(1) شرح مسلم للنَّوويّ، ج 8، ص 56.
(2) موطأ مالك ج 4، ص 974.
(3) مسند أحمد ج 4، ص 486، صحيح مسلم، ج 1، ص 327.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (105)
بالليل) (1)
وهو من الأصول الكبرى التي اعتبرها أصحاب هذا المنهج، وخصوصا المالكية منهم (2)، وقد عرفه ابن عرفة بأنه (إعمال دليل في لازم مدلول الذي أعمل في نقيضه دليل آخر) (3)
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في الموطأ في (مسألة في افتتاح الصلاة)، حيث ورد فيه: سئل مالك عن رجل دخل مع الإمام، فنسي تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الركوع، حتى صلى ركعة، ثم ذكر أنه لم يكن كبر تكبيرة الافتتاح، ولا عند الركوع، وكبر في الركعة الثانية، فقال: يبتدئ صلاته أحب إلي، ولو نسيها مع الإمام عند تكبيرة الافتتاح وكبر في الركوع الأول، رأيت ذلك مجزيا عنه، إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح) (4)
ومن الأمثلة على ذلك إعمال المالكية دليل المخالفين لهم القائل بعدم فسخ نكاح
__________
(1) نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، مصر، ط 1، 1413 هـ - 1993 م، ج 3، ص 157.
(2) هناك خلاف في اعتبار المالكية لهذا الأصل، قال الونشريسي: (إن مراعاة الخلاف قد عابه جماعة من الفقهاء منهم اللخمي وعياض وغيرهما من المحققين، حتى قال عياض: (القول بمراعاة الخلاف لا يعضده القياس، وكيف يترك العالم مذهبه الصحيح عنده ويفتي بمذهب غيره المخالف لمذهب هذا لا يسوغ إلا عند الترجيح وفوت فوات النازلة فيسوغ له التقليد ويسقط عنه التكليف في تلك الحادثة) (إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، أبو العباس الونشريسي، تحقيق: الصادق الغرياني، دار ابن حزم، 1427 هـ، ص: 160.
(3) شرح حدود ابن عرفة، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1993 م، ج 1، ص 263.
(4) موطأ مالك، ج 2، ص 105.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (106)
الشغار في لازم مدلوله الذي هو ثبوت الإرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار فيما إذا مات أحدهما. فالمدلول هو عدم الفسخ وأعمل مالك في نقيضه وهو الفسخ دليل آخر فمذهب مالك وجوب الفسخ وثبوت الإرث إذا مات أحدهما (1).
وقد أخذ بهذا الأصل أيضا أصحاب هذا المنهج من أتباع المذاهب الأخرى، وخصوصا المذهب الشافعي، كالشعراني والسيوطي وغيرهما، كما عرفنا سابقا.
وقد ذكر العز بن عبد السلام تقسيما جيدا لكيفية مراعاة الخلاف في المسائل المختلفة، قدم له بقوله: (وقد أطلق بعض أكابر أصحاب الشافعي - رحمه الله - أن الخروج من الخلاف حيث وقع أفضل من التورط فيه وليس كما أطلق، بل الخلاف على أقسام) (2)
ثم ذكر هذه الأقسام، ونذكرها هنا باختصار:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب أو الإيجاب، فالفعل أفضل.
القسم الثالث: أن يكون الخلاف في الشرعية، كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند مالك، واجبة عند الشافعي، فالفعل أفضل،، وكذلك رفع اليدين في التكبيرات فإن أبا حنيفة لا يراه من السنن، وكذلك مالك في إحدى الروايتين عنه، وهو عند الشافعي سنة للاتفاق على صحة الأحاديث وكثرتها فيه، وصلاة الكسوف على الهيئة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها سنة عند الشافعي، وأبو حنيفة لا يراها، والسنة أن يفعل ما خالف فيه أبو حنيفة وغيره من ذلك وأمثاله.
__________
(1) الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، حسن مشاط، دراسة وتحقيق د عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان. دار الغرب الإسلامي، ط 1، ص: 235.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج 1، ص 253.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (107)
ثم ذكر الضابط لهذا، فقال: (والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب فلا نظر إليه.. ولا سيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه، حذرا من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات) (1)
وذكر زكريا بن غلام قادر الباكستاني أن مراعاة الخلاف معتبر عند أهل الحديث، فقد ذكر تحت عنوان (القاعدة السادسة: الخروج من الخلاف مستحب): (الأدلة متكاثرة في الاعتصام وعدم التفرق والاتفاق على كلمة واحدة فهي دالة على استحباب الخروج من الخلاف) (2)
لكنه قيد ذلك بشرطين:
الشرط الأول: أن لا يكون في ذلك طرح لدليل من الأدلة.
الشرط الثاني: أن لا يوقع الخروج من ذلك الخلاف في الوقوع في خلاف آخر) (3)
ويدل لهذا قول ابن تيمية في (شرح عمدة الفقه): (أما الخروج من اختلاف العلماء، فإنما يفعل احتياطا إذا لم تعرف السنة ولم يتبين الحق، لأن من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، فإذا زالت الشبهة وتبينت السنة، فلا معنى لمطلب الخروج من الخلاف، ولهذا كان الإيتار بثلاث مفصولة أولى من الموصولة، مع الخلاف في جوازهما من غير عكس، والعقيقة
__________
(1) المرجع السابق، ج 1، ص 253.
(2) من أصول الفقه على منهج أهل الحديث، زكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار الخراز، الطبعة الاولى 1423 هـ-2002 م، ص 182.
(3) المرجع السابق، ص 182..
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (108)
مستحبة أو واجبة مع الخلاف في كراهتها، وإشعار الهدي سنة مع الخلاف في كراهته، والإجماع على جواز تركه، وفسخ الحج إلى العمرة لمن يريد التمتع أولى من البقاء عليه اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الخلاف الشائع في جواز ذلك) (1)
لا يمكن استيعاب أدلة القائلين بهذا هنا، ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع التالية:
ما ورد من النصوص الدالة على وجوب الاحتياط والورع، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله فى أرضه محارمه، ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهى القلب) (2)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة) (3)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يَدَع ما لا بأس به حذراً لما به
__________
(1) شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج)، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: د. سعود صالح العطيشان، مكتبة العبيكان – الرياض، ط 1، 1413، ج 1، ص 417.
(2) صحيح البخاري، ج 3، ص 53، وصحيح مسلم، ج 3، ص 1221.
(3) سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق وتعليق: إبراهيم عطوة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ط 2، 1395 هـ - 1975 م، ج 4، ص 668.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (109)
بأس) (1)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) (2)
وقد استخرج العلماء من هذه النصوص وغيرها الكثير من القواعد الفقهية، ومنها:
- درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
- الخروج من الخلاف مستحب.
- إذ اجتمع المانع والمقتضي غُلب المانع.
- الأخذ بأقل ما قيل.
- الشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يُبني على الاحتياط.
ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردًا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتقض موجب الرخصة، ومن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (3)، فهذا مظنة التخفيف، فأقاموا على الصبر والرجوع إلى الله، فأثنى عليهم بقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (4)
ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
__________
(1) سنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد - محمَّد كامل قره بللي - عَبد اللّطيف حرز الله، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م، ج 5، ص 298.
(2) مسند أحمد، ج 29، ص 528.
(3) سورة آل عمران: 173.
(4) سورة آل عمران: 173.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (110)
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (1)، وبعد أن ذكر المشهد كاملاً مدح الصابرين على هذا كله بقوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (2)
وقد علق الشاطبي على هذه الآيات بقوله: (فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر، وقد عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار المدينة؛ لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر؛ فأبوا من ذلك، وتعززوا بالله وبالإسلام؛ فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم) (3)
وضرب الأمثلة الكثيرة على ذلك من فعل الصحابة، ومن ذلك تطبيق الصحابة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، فيعطيه أو يمنعه) (4)
وقد علق الشاطبي على هذا الحديث بقوله: (فحمله الصحابة -- على عمومه، ولا بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة، ولم يأخذوه إلا على عمومه) (5)
بناء على ما سبق، فإن المنهج المتبع للفتوى لدى هذا الفريق يعتمد على ما يلي:
أولا – مراعاة الخلاف الفقهي: ولهذا فإنه يمكن اعتبارهم من هذه الناحية من المذاهبيين، أي أنهم لا يلتزمون مذهبا بعينه، بل يتخيرون من أقوال الفقهاء أشدها، وأكثرها
__________
(1) سورة الأحزاب: 10.
(2) سورة الأحزاب: 23.
(3) الموافقات، ج 1، ص 499.
(4) صحيح البخاري، ج 3، ص 57.
(5) الموافقات، ج 1، ص 501.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (111)
احتياطا، وقد بنى الشيخ عبد الوهاب الشعراني كتابه الميزان على هذا المبدأ الذي عبر عنه بقوله: (إن الشريعة المطهرة قد جاءت من حيث الامر والنهي: علي مرتبتين: تخفيف وتشديد، لا علي مرتبة واحدة، كما يظنه غالب الناس. ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرتهم للتكاليف، فمن قوي منهم خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشريعة صريحا، او المستنبط منها في مذهبه او غيره، ومن ضغف منهم: خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشريعة صريحا او مستنبطا منها في مذهبه او غيره. فلا يؤمر القوي بالنزول الي مرتبة الرخصة، مع قدرته علي فعل العزيمة. ولا يكلف الضعيف بالصعود الي مرتبة العزيمة، مع عجزه عنها. فالمرتبتان علي الترتيب الوجودي، لا علي التخيير) (1)
ثانيا ـ مراعاة سد الذريعة، فلهذا نرى أصحاب هذا المنهج لا يكتفون بما ورد من النصوص أو أقوال الفقهاء، بل ينظرون أيضا في إمكانية تحايل المكلفين على الأحكام الشرعية، فلهذا يعتبرون نياتهم ويسدونها على خلاف المنهج السابق.
وقد ذكر الشَّاطبيّ أن قاعدة سدّ الذَّرائع على قصد الشَّارع إلى النَّظر في مآلات الأفعال سواء أكانت موافقة أو مخالفة؛ لأنَّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصَّادرة عن المكلّفين بالإقدام أو الإحجام إلاَّ بعد النَّظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه. وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإنْ أُطلق القول في الأوَّل بالمشروعيّة فربما أدَّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعيّة، وكذلك إذا أطلق القول في الثَّاني بعدم المشروعيّة وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلاَّ أنَّه عذب المذاق،
__________
(1) كتاب الميزان للشعراني، ص 8.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (112)
محمود الغيب، جارٍ على مقاصد الشَّريعة (1).
__________
(1) الموافقات، ج 4، ص 195.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (113)
وهو المنهج الذي يعتمد ما يفهمه من مقاصد الشارع في الأحكام التفصيلية، باعتبار أن الأحكام الشرعية ليست تعبدية محضة، بل هي مفهومة المعنى، يقول الشيخ محَمَّد الطاهر ابن عاشور: (مقاصد التشريع العَامَّة هي: المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصُّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصٍّ من أحكام الشريعة.. فيدخل في هَذَا أوصافُ الشريعة وغايتها العَامَّة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويدخل في هَذَا أَيضًا معانٍ من الحِكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام وَلَكِنَّهَا ملحوظة في أنواع كثيرة منها) (1)
وقد عرفها بعض المحدثين، فقال: (هي القيم العليا التي تكمن وراء الصيغ والنصوص يستهدفها التشريع كليات وجزئيات) (2)
بناء على هذا التعريف سنعرض هنا – باختصار شديد – لمثل ما عرضنا إليه في المباحث السابقة من أعلام هذا المنهج الذين يمثلونه وأدلتهم والمنهج أو الآليات التنفيذية التي يعتمدون عليها في الفتوى.
يتفق جميع أعلام الأمة – من الناحية النظرية - على أن الشريعة الإسلامية مبنية على
__________
(1) مقاصد الشريعة الإِسلاَمِيَّة، محَمَّد الطاهر ابن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط 1، ص 51.
(2) هو الدكتور فتحي الدريني. في كتابه خصائص التشريع الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1434 هـ - 2013 م، ص 194.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (114)
مقاصد واضحة لابد على الفقيه والمفتي أن يلاحظها في فتاواه.
يقول ابن القيم: (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضررها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فهي ليست من الشريعة) (1)
ولهذا فإن الشاطبي – بناء على أهمية المقاصد- لا يرى حصول درجة الاجتهاد إلا (لمن اتصف بوصفين: الوصف الأول: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. لأن الإنسان إذا بلغ مبلغاً فهم عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها؛ فقد حصل له وصف ينَزّله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعليم والفُتيا والحكم بما أراه الله.. والوصف الثاني: التمكّن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها، بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً، وفي استنباط الأحكام ثانياً) (2)
ويرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أنَّ المجتهد محتاجٌ إلى معرفة المقاصد وفهمها في كل الأنحاء التي يقع بها تصرفهم في الشريعة، سواءٌ في فهم أقوال الشريعة واستفادة مدلولات تلك الأقوال بحسب الوضع اللُّغوي والاستعمال الشرعي، أو في البحث عمّا يعارض الأدلة فيما يلوح للمجتهد وقد استكمل نظره في استفادة مدلولاتها ليستيقن سلامة تلك الأدلة مما يبطل دلالتها، أو عند قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه على ضوء العلل، أو عند تلقّي الأحكام التعبُّدية التي لا يعرف عللها ولا حكمة الشارع فيها متهماً نفسه بالقصور عن إدراك الحكمة فيها، وغير ذلك مما يتصرّف
__________
(1) إعلام الموقعين، ج 3، ص 3.
(2) الموافقات، ج 5، ص 41.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (115)
المجتهد بفقهه في الشريعة (1).
ويبين عبد الوهاب خلاف ضرورة التعرف على المقاصد ودورها في حل الإشكالات التي قد يقع فيها المجتهد، فيقول: (ومعرفة المقصد العام من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه، لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحداً من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، لأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها، والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع. لأن كثيراً من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية بنصوصه وروحه ومعقوله. وكذلك نصوص الأحكام التشريعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام، وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو وردت السنة القولية أو الفعلية) (2)
ولكنهم – من الناحية التطبيقية – يختلفون اختلافا شديدا، وبناء على هذا، فإنا نريد بأتباع هذا المنهج هنا ليس من يصرح فقط بكونه يقبل بأن للشريعة مقاصد وغايات، وإنما من يعتبرها في الفتوى، وخاصة في المتغيرات الحادثة في الواقع.
وبناء على هذا يمكننا أن نتتبع الفتاوى لنجد من يراعي هذا، ومن يقصر فيه، ولا يهمنا تنظيره للمقاصد أو اعتقاده بها، لأن كل مسلم يعتقد بأن الشريعة – كما يذكر ابن القيم – (عدل كلها، ورحمة كلها، وحِكمة كلها) (3)
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، ص 15– 17.
(2) علم أصول الفقه، ص 197.
(3) (()) إعلام الموقعين، ج 3، ص 3.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (116)
وبناء على هذا، ومن خلال النظر في واقع الفتوى نجد صنفين ممن يمكن اعتبارهم من أعلام هذا المنهج:
ويمثلهم الكثير من الفقهاء من المدارس السابقة، حتى المدارس التي تؤمن بالتمذهب، حيث نجد لها في فقه النوازل أحيانا ما تراعى فيه مقاصد الشريعة.
ومن الأمثلة على ذلك:
المثال الأول: استفتي الشاطبي عن (بيع الأشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره، لكون أهل الأندلس محتاجين إلى النصارى في أشياء أخرى كالأكل واللباس وغيرها... وسؤاله عن الشمع، وهل يتنزّل منزلة ما ذُكِر سابقا في بيعه...؟ وهل هناك فرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام في بيع مثل هذه الأشياء؟) (1)
فأجاب بالمنع ولم يلتفت إلى الضرورة التي تعلّل بها المستفتي؛ لأنه رأى أن حماية المسلمين من العدو وما تقتضيه تلك الحماية من عدم تمكينه بما يعينه على أمر أهل الأندلس، وهذا أولى من حاجة بعض الناس إلى الطعام.. وبيع السلاح والطعام إلى أهل الحرب داخل فيما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا، ورأى أنه ليس هناك موجب لتسويغ البيع منهم مستدلا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2)، (فالآية نبّهت على أنّ الحاجة إليهم في جلب الطعام إلى مكة لا ترخّص لهم في
__________
(1) الفتاوى، الشاطبي، تحقيق: محمد أبو الأجفان، مطبعة الاتحاد العام التونسي، تونس، ط 1، 1984.ص 144، 145.
(2) سورة التوبة: 28.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (117)
انتهاك حرمة الحرم، فكذلك الأمر هنا: لا ترخُص في استباحة الإضرار بالمسلمين) (1)
وبين أنه سار في هذا على خطى سلفه الفقيه المازري المالكي الذي منع بيع كل ما يكون لأهل الحرب به قوة على المسلمين كالطعام والسلاح وحتى الشمع؛ لأنهم – كما بيّن الشاطبي – يستعينون به في الإضرار بالمسلمين.
قال الشاطبي: (و أما صنع الشمع للنصارى فإن كان لأنهم يستعينون به علينا فيُمنع كما ذُكر في بيعه من النصارى، وأما ما يعلم أنهم يصنعونه لآلهتهم فينبغي ألا يصنع لهم، ولا يباع منهم نظير ما قاله ابن القاسم في بيع الشاة منهم مع العلم بأنهم يذبحونها لأعيادهم، فإنه يُكرِّهه كراهية تنزيه وأن البيع إن وقع لم يفسخ وهو في العتبية) (2)
المثال الثاني: ذكر الشيخ ابن عاشور أمثلة كثيرة عن رعاية المفتين في النوازل خصوصا لمقاصد الشريعة، ولو بمخالفة مذاهبهم التي يقلدونها، وذلك عند ذكره للضرورة العامة المؤقتة، كأن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها يستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سلامة الأمة أو إبقاء قوتها أو نحو ذلك.
ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة (3) وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. ومن الأمثلة التي ذكرها لهذا:
الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع: لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة، ووفرة المصاريف لطول تبويرها؛ وزهدوا في كرائها للغرس والبناء، لقصر
__________
(1) الفتاوى، ص 145.
(2) الفتاوى، ص 146.
(3) مقاصد الشريعة: ص 133.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (118)
المدة التي تكترى أرض الوقف لها، ولامتناع الغارس أو الباني من أن يغرس أو يبني لمدة قصيرة ثم يجبر على أن يقلع ما أحدثه في الأرض.
في مثل هذه الحالة جرت فتوى لابن السراج وابن منظور من علماء الأندلس في أواخر القرن التاسع بجواز الكراء على التأبيد، واعتبروا هذا الكراء المؤبد لا غرر فيه، لأن الأرض باقية غير زائلة، ولأن طول المدة من شأنه أن يحقق مصلحة عامة منجرة من وفرة إنتاجها، وهي راجحة على ما يمكن أن يخالط الآماد الطويلة من خطر (1). وكراء أرض الحبس على التأبيد قد أجازه التسولي إلى ما شاء الله من السنين. وقد جرى العمل بكراء أرض الحبس على التأبيد في المغرب ومصر والبلاد التونسية، وهو المعروف بالإنزال في تونس في اصطلاح المالكية، والكردار في اصطلاح الحنفية.
الترخيص في تغيير الحبس الذي تعطلت منفعته تحصيلاً للمنفعة من وجه آخر، وقد ذكره الونشريسي في المعيار (2) فقال: أما مسألة دار الوضوء، فإن بطلت منفعتها، وتعذر إصلاحها، ولم ترج عودتها في المستقبل، وجاز أن تتخذ فندقًا. ولذلك جاز للناظر أن يستغلها في أي شأن يعود على المسجد الجامع بالنفع البين.
وكذلك أجازوا أن يستغل ناظر الوقف غلات الحبس الذي يتعطل عمله فيحقق بها مصلحة أخرى مشابهة. ويعتبر هذا العمل من الإقدام على الفعل الممنوع ضرورة، لتحقيق مقصد شرعي فيه سلامة الأمة.
وكذلك أجازوا للناظر أن يصرف من أموال الأحباس على المساجد، إذا كانت زائدة على الحاجة، في بعض وجوه البر كالتدريس، وإعانة طلبة العلم، وتحفيظ القرآن العظيم، لنفس الرخصة المتقدمة، ولنفس الضرورة.
__________
(1) المرجع السابق، ص 134.
(2) المعيار المعرب، الونشريسي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ج 5، ص 149.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (119)
وأجازوا أيضا بيع العقار الحبس وتعويضه بآخر. وجاء في المعيار للونشريسي: وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس، إلا دارًا جوار مسجد ليوسع بها، ويشترى بثمنها دارا مثلها تكون حبسًا. وقد أدخل في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم دورًا كانت محبسة) (1)
ويمثلهم بعض من المحدثين ممن تشربوا الثقافة الغربية، أو تأثروا بها، ولم يدرسوا الشريعة أو يتفقهوا فيها، وتصوروا أنهم بما لديهم من أفكار حديثة يستطيعون أن يحددوا مقاصد الشارع، ويستطيعوا من خلالها أن يفتوا على أساسها.
ومع أنه لا يمكن اعتبار هؤلاء من الفقهاء، ولكن مع ذلك نجد أن هناك من يقوم بنشر آرائهم وأفكارهم تحت شعارات التجديد والإصلاح ونحو ذلك.
وربما يكون نجم الدين سليمان بن عبد القويِّ الطوفيُّ (ت: 716 هـ) مثالا لهم في فقهائنا القدامى (2)، فقد بالغ في مراعاة المصلحة، إذ اعتبرها دَلِيلاً شرعيًّا مستقلاًّ عن النصوص، بل اعتبرها أقوى أَدِلَّة الشرع، وقدَّمها عَلَى النصِّ والإجماع من باب التخصيص والبيان (3)، لا من باب الإبطال لهما وعدم اعتبارهما.
__________
(1) المرجع السابق، ج 1، ص 245.
(2) نسبت له رسالة في شرح الأربعين النووية تكلم في أثنائها على حديث: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال فيها بتقديم المصلحة على النص بطريق التخصيص والبيان بشرط أن يكون الحكم من أحكام المعاملات أو العادات أو السياسات الدنيوية أو شبهها، لا أن يكون من أحكام العبادات أو المقدرات ونحوها، لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته فيأتي به العبد بما رسم له، فأحكام العبادات والمقدرات لا مجال للعقل في فهم معانيها على التفصيل (انظر: رسالة في رعاية المصلحة، نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، الدار المصرية اللبنانية، ط 1، 1413 هـ / 1993 م)
(3) وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى خلاف هذا، فحمل كلام الطوفي على جادة عموم الأصوليين في الموضوع كالباحث أيمن جبريل الأيوبي في رسالته القيمة (مقاصد الشريعة في تخصيص النص بالمصلحة)؛ حيث جمع كلام الطوفي بعضَه إلى بعض فجعله لا يخرج عن المنهجية الأصولية، غير أنه في تقرير الطوفي من العبارات المشتبهة والمجملة والملتبسة ما دفع بأكثرية المعاصرين إلى مخالفة هذا الرأي وحمل كلامه على تقديم المصلحة العقلية على النص أو تقديمها على النص القطعي أو نحو هذا مما يعد فيه الطوفي شاذاً عن الطريق الأصولي، ومن هؤلاء - على سبيل المثال - مصطفى زيد في المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، ومحمد سعيد رمضان البوطي في ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية، وأحمد الريسوني في نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي، حسين حامد حسان في نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، وغيرهم كثير. (انظر: مع نظرية المصلحة عند نجم الدين الطوفي، د. فهد بن صالح العجلان، مجلة البيان، العدد: 290)
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (120)
وقد رد ابن تيمية على هذا المنهج في مواضع كثيرة من كتبه، منها قوله في معرض رده على من أجاز نكاح التحليل بحجّة أن رجوع الزوجين لبعضهما عمل صالح يُثاب عليه المحلل: (وقولهم إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه من المنفعة، قلنا هذه مناسبة شهد الشارع لها بالإلغاء والإهدار، ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال، والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا اعتبرت فهي مراغمة بَيّنة للشرع مصدرها عدم ملاحظة حكمة التحريم، وموردها عدم مقابلته بالرضا والتسليم، وهي في الحقيقة لا تكون مصالح وإن ظنّها الناس مصالح، ولا تكون مناسبة للحكم وإن اعتقدها معتقد مناسبة، بل قد علم الله ورسوله ومن شاء من خلقه خلاف ما رآه هذا القاصد في نظره؛ ولهذا كان الواجب على كل مؤمن طاعة الله ورسوله فيما ظهر له حسنه وما لم يظهر، وتحكيم علم الله وحكمه على علمه وحكمه؛ فإن خير الدنيا والآخرة وصلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله) (1)
__________
(1) بيان الدليل على بطلان التحليل، ابن تيمية، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي، 1418 - 1998، ص 250.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (121)
وقال في موضع آخر: (القول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا حدثنا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا وليس كذلك فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب) (2)
ومثله قال الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي – بعد أن عرف المصلحة ثم ذكر أقسامها وحصر الخلاف في المصلحة المرسلة - (والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء الأحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط، بل لا بد أن يكون الشارع اعتبر جنس هذه المصالح فلا يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم لا يستطيعون ذلك استقلالا دون سند من شرع الله، ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد ثم يبنون عليها الأحكام وتكون تشريعا في حقهم لأجزنا لهم وضع التشريعات، ثم إن القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت الأدلة القاطعة على إكمال الله للدين، وحفظه من التغيير والتبديل، وعليه فإذا كان جنس المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها، ولا يجوز للمسلم أن يتصرف في
__________
(1) سورة البقرة: 219.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة، ج 11، ص 342.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (122)
تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق، وكثير من الأمور المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والولايات العامة والخاصة والأنظمة كل هذه قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات التصرف) (1)
لا يمكن استيعاب أدلة القائلين بهذا هنا، ولكن يمكن أن نجمعها في المجامع التالية:
ما جاء في الشريعة من النصوص الكثيرة الدالة على أن أحكام الشريعة الإسلامية – في جملتها – معلله كما ذكرنا بعض الأمثلة على ذلك سابقا.
بالإضافة إلى أن أن خلو الشريعة من المقاصد يثير شبهة العبث الذي تنزه عنه البارئ سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم: (إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا، وهذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها) (2)
وقال ابن تيمية: (إن العقل الصريح يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهو أَولى بالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها
__________
(1) أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 1410 هـ، ص 469، وما بعدها.
(2) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1398 هـ/1978 م، ص 190.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (123)
فيه. فكيف يجوز أن يقال فعله لحِكْمة تستلزم النقص وفعله لا لحكمة لا نقص فيه) (1)
أنه لا يمكن للفقيه أن ينزل أحكام الشريعة للواقع والمتغيرات الحاصلة فيه إلا من خلال فهمه لمقاصد الشريعة، وإلا تخلفت الشريعة عن الواقع، ولأجل هذا يرى أصحاب هذا المنهج أنه لا تحصل درجة الاجتهاد إلا لمن اتصف بوصفين (2):
الأول: فهم مقاصد الشريعة على كمالها لأن الإنسان إذا بلغ مبلغاً فهم عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها؛ فقد حصل له وصف ينَزّله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعليم والفُتيا والحكم بما أراه الله.
والثاني: التمكّن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها، بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً، وفي استنباط الأحكام ثانياً.
بناء على التصنيف السابق لأعلام هذا المنهج، فإنه يمكن أن نرى منهجين للفتوى قد يتفقان في بعض الغايات، ولكن يختلفان اختلافا شديدا في آليات التنفيذ:
وهو يعتمد على اعتبار الدليل الشرعي هو الأساس في التعرف على مقاصد الشريعة – أولا - ثم يطبق هذا المبدأ على الفروع المختلفة، مع مراعاة ما ورد فيها من النصوص الخاصة.
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، تحقيق: محمد بن رياض الأحمد، المكتبة العصرية – بيروت، ط 1، 1425 هـ، ص 362.
(2) الموافقات، ج 5، ص 41.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (124)
ولهذا، فإن أول ما ينطلق منه أصحاب هذا المنهج لتحديد المقاصد الشرعية والوسائل المحققة لها هي المصادر الأصلية من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
يقول الشاطبي: (نصوص الشارع مفهمة لمقاصده بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية) (1)
ويقول الدكتور محمد سعد اليوبي: (إذا كان من المعلوم أن القرآن هو أساس الشريعة الإسلامية وأصلها، فإنه من الضروري للباحث عن مقاصدها، الطالب لأهدافها أن يبحث عن المقاصد التي اشتمل عليها أصلها، وتضمنها ينبوعها ألا وهو كتاب الله) (2)
وقد ذكر في كتابه (مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية) بعض الأمثلة على المقاصد الواردة في القرآن الكريم نذكر بعضها هنا (3) من باب المثال:
فقد ذكر الله تعالى مقاصد الصلاة، فقال:: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (4)
وذكر مقاصد الزكاة، فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (5)
وذكر مقاصد الحج، فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم
__________
(1) الموافقات، ج 3، ص 125.
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد سعد بن أحمد بن مسعود اليوبي، دار الهجرة، ط 1، 1418 – 1998، ص 417.
(3) المرجع السابق، ص 424.
(4) سورة العنكبوت: 45.
(5) سورة التوبة: 103.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (125)
مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (1)
وذكر مقاصد الصيام، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)
وذكر مقاصد الوضوء، فقال: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3)
وذكر مقاصد القصاص، فقال:: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4)
وذكر مقاصد حد السرقة، فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5)
وهكذا وضحت السنة المطهرة مقاصد الشريعة الإسلامية، كما قال الشاطبي: (وإذا نظرنا إلى السنّة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولاً يرجع إليها، والسنّة أتت بها تفريعاً على الكتاب وبياناً لما فيه منها فلا تجد في السنّة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام فالضروريات الخمس كما تأصّلت في الكتاب تفصّلت في السنّة) (6)
وهو يعتمد على ما يتصوره أو يتوهمه من المصالح، ثم يحاول أن يفسر الشريعة على
__________
(1) سورة الحج: 27، 28.
(2) سورة البقرة: 183.
(3) سورة المائدة: 6.
(4) سورة البقرة: 179.
(5) سورة المائدة: 38.
(6) الموافقات، ج 4، ص 346.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (126)
أساسها، فيقدم المصلحة المتوهمة على النص القطعي.
بل إن بعض الفقهاء تصوروا أن لهم مطلق الحرية في ابتداع الوسائل التي تحقق المقاصد التي يرون شرعيتها، حتى لو خالفت الظاهر من النصوص.
ومن الأمثلة المشهورة على ذلك ما فعله يحيى بن يحيى الليثي عميد الفقهاء المالكية بالأندلس، الذي أفتى الأمير عبد الرحمن بن الحكم بما يخالف النص، بل بما يخالف مذهبه أيضا (1).
وقد ذكر المقري وقائع النازلة قائلاً: (جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في عصره، وكان وقع على جارية يحبها في رمضان، ثم ندم أشد الندم، فسألهم عن التوبة والكفارة، فقال يحيى: تكفِّر بصوم شهرين متتابعين، فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا، قال بعضهم له: لِمَ لم تفت بمذهب مالك بالتخيير؟، فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود) (2)
فقد رأي يحيى إلزام الأمير عبد الرحمن بصيام شهرين متتابعين، فخالف مالكا في التخيير، وآثر تقديم ما توهمه من مصلحة الزجر والردع، إلا أن المصلحة التي تركها، والتي دل عليها النص أولى بالاعتبار والنظر؛ ذلك أن المصلحة المترتبة إذا ما أفطر الأمير وأعتق
__________
(1) مذهب مالك في كفارة من أفطر متعمدا في رمضان على التخيير بين العتق وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً، واستحب مالك الإطعام (الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 2، 1400 هـ/1980 م، ج 1، ص 342.)
(2) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر- بيروت – لبنان، ج 2، ص 11.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (127)
كل يوم رقبة، أعظم من صومه بكثير، فمن مقاصد الشريعة العناية بالحرية، وقد جعل لذلك العتق أحد الوسائل لتحقيقها، ومثله اعتنى بإطعام المساكين، ولو بشق تمرة، فإطعام ستين مسكيناً مصلحة أعظم في ميزان الشرع من صومه.. هذا إن صامه.
وقد وصف الحجوي فتوى يحيى بأنها شاذة؛ لأخذه بالمصلحة في مقابل النص، (وذلك لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى تغيير حدود الشريعة بتغير الأحوال، فتنحل رابطة الدين وتنفصم العرى في معناه من أفتى أميرًا مترفهًا سافر من المجاورة للبحر في سفينة أمينة بعدم قصر الصلاة لعدم المشقة، وليس بصحيح؛ لأن الشرع علَّق القصر على السفر، فيكفي أنه مظنة المشقة وهي غير منضبطة، ومثل ذلك السفر في السكة الحديدية والسيارة والمناطيد الجوية، فيسنُّ القصر في مسافته ولو قطعها في جزء يوم وأدركته الصلاة وهو في السفر) (1)
ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما نقله ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال: (جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول. فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة (2).
__________
(1) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن بن العربيّ الفاسي، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، ط 1، 1416 هـ- 1995 م، ج 1، ص 159.
(2) الطرق الحكمية، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، مكتبة دار البيان، ص 13.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (128)
ونرى أن هذا قد يفتح المجال واسعا نحو مضاهاة الشارع، ولهذا نحتاج إلى التشدد فيه، لأن هناك من صار يعمد إلى بعض المقاصد الشرعية المعتبرة، لكنه يخترع لها من الوسائل ما يناقض به مقاصد شرعية أخرى، وكمثال على ذلك مخالفة بعض الباحثين لما ورد في النصوص القطعية من ضرورة الوحدة الإسلامية، ويخالفون ما يظهر في الواقع من دور الأحزاب السياسية في تقطيعها، ونشر الفرقة، ليقولوا بشرعية التعددية السياسية في الإسلام تأثرا بما يرونه في الغرب، لا انفعالا لما ورد في النصوص الشرعية، وكمثال على ذلك يقول الدكتور صلاح الصاوي: (أصبح من الصعب التعرف على من يجب مشاورتهم، ومن هم أهل لذلك، ومتى وكيف تتم عملية مشاورتهم، كما أصبح من الصعب قيام معارضة منظمة وجادة وقادرة وهادفة، بدون تنظيمات سياسية لها من الإمكانيات والوسائل ما تقدر به على التعبير عن الرأي ونشره وحمايته والدفاع عنه، الأمر الذي لا يتوافر حديثاً إلا في صورة الأحزاب السياسية، المفيدة في أهدافها ومبادئها بأصول الشريعة الإسلامية المتفق عليها) (1)
__________
(1) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، ط 1، 1992، ص 653.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (129)
نختم هذه الدراسة بتلخيص لأهم النتائج التي وصلنا إليها، مع بعض التوصيات التي نرى الحاجة إلى تحقيقها في واقع الفتوى.
1. يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه الإسلامي، لدوره الكبير في بيان أحكام الشريعة الإسلامية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجالاتها، فدوره هو تنزيل أحكام الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها، ويجري عليه أحكامها.
2. من خلال استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل، رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج: المنهج الاستدلالي، والمنهج المذهبي، والمنهج المذاهبي، ومنهج التيسير، ومنهج التشديد، والمنهج المقاصدي.
3. المنهج الاستدلالي هو المنهج الذي يعتمد أصحابه في استنباط الأحكام الشرعية على المصادر الأصلية والتبعية من غير نظر أو اهتمام لما توصل إليه غيرهم من الفقهاء من أصحاب المذاهب أو غيرهم، وهم يرون أن التقيد بأقوال الفقهاء والالتزام بها من غير نظر في الأدلة بدعة حادثة في الملة لا يستحق صاحبها أن يوصف بالمجتهد ولا الفقيه، ولا يحق له بالتالي أن يتصدر لمنصب الإفتاء إلا على سبيل النقل لقول غيره.
4. المنهج المذهبي في الفتوى هو المنهج الذي يعتمد على ما أفرزه التقليد المذهبي للأئمة الأربعة خصوصا من تراث فقهي كبير مس جميع المجالات من كتب التفسير وشروح الحديث، إلى متون الفقه وشروحها وحواشيها، بالإضافة إلى ما كتب في خصوص الفتوى في المتغيرات الحادثة في كل عصر مما يسمى بفقه النوازل.
5. اقتصر المنهج المذهبي على أتباع المذاهب الأربعة، والتي سرى إليها الخلاف هي أيضا،
6.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (130)
7. فصار لكل مذهب فقهاؤه الكبار الذين توزعوا على المدارس الفقهية التقليدية في العالم الإسلامية قرونا طويلة، وقد اختلف أصحاب هذا المنهج في حكم الالتزام بهذه المذاهب بين متشدد ومتساهل.
8. المنهج المذاهبي هو المنهج الذي يتميز أصحابه بكونهم لا يرون ضرورة الالتزام بالمذهب الواحد، وكونهم يرون أن كل ما كتبه الفقهاء سواء كانوا من أتباع المذاهب الأربعة أو غيرهم، يمكن الاعتماد عليه والرجوع إليه، إما لاعتبارهم أن كل مجتهد في الفروع مصيب، أو أن المصيب واحد ولكن لا نستطيع أن نعينه، وبناء على هذا فإن المفتي على حسب هذا المنهج يبحث في كل التراث الفقهي عن المسألة التي سئل عنها، ويورد الأقوال فيها ليترك للمستفتي حرية الاختيار بينها.
9. منهج التيسير هو المنهج الذي يعتمد التيسير على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يراعي حاجته، وييسر عليه تنفيذ التكاليف، ولو بأدنى مراتبها.
10. وقعت بعض الانحرافات في منهج التيسير، وخاصة في أوساط العامة، لأنه أنشأ نوعا من التحرر من أحكام الشريعة، وذلك عبر بعض الظواهر التي تحدث عنها الفقهاء، واختلفوا في مواقفهم منها، وهي: ظاهرة التلفيق، وظاهرة تتبع الرخص، وظاهرة الحيل الشرعية.
11. منهج التشديد هو المنهج الذي يعتمد التشديد على المستفتي بأن يختار له من أقوال الفقهاء أو يستنبط له من النصوص مباشرة ما يشدد عليه تنفيذ التكاليف، أو يختار له أشدها وأكثرها احتياطا.
12. المنهج المقاصدي هو المنهج الذي يعتمد ما يفهمه من مقاصد الشارع في الأحكام التفصيلية، باعتبار أن الأحكام الشرعية ليست تعبدية محضة، بل هي مفهومة المعنى.
13.
14.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (131)
15. استغل بعض المحدثين ممن تشربوا الثقافة الغربية، أو تأثروا بها، ولم يدرسوا الشريعة أو يتفقهوا فيها المنهج المقاصدي، وتصوروا أنهم بما لديهم من أفكار حديثة يستطيعون أن يحددوا مقاصد الشارع، ويستطيعوا من خلالها أن يفتوا على أساسها، ومع أنه لا يمكن اعتبار هؤلاء من الفقهاء، ولكن مع ذلك نجد أن هناك من يقوم بنشر آرائهم وأفكارهم تحت شعارات التجديد والإصلاح ونحو ذلك.
1. من خلال الكثير من المشاكل الواقعية التي تحدثها بعض الفتاوى غير المسؤولة، والتي لا تستند إلى علم، ولا إلى حكمة، ندعو إلى حجر الفتوى في القضايا الخطيرة إلا على الجهات المكلفة بذلك، ووضع القوانين التي تحول بين غير المهيئين، وممارسة هذه الوظيفة الخطيرة.
2. ضرورة مراجعة الفتاوى الموجودة، والتي لها تأثير في الواقع الإسلامي، وبيان الحكم الشرعي الصحيح، حتى لا يقع العوام ضحية للفتاوى الخاطئة.
3. ضرورة تشجيع المجامع العلمية، واعتبارها الهيئات الوحيدة التي يحق لها الفتوى في النوازل المعاصرة.
4. ضرورة العودة إلى المصادر الأصلية باعتبارها هي أصل التشريع الإسلامي، ومحاولة تنزيل ما ورد فيها على الواقع، مع عدم إهمال ما ورد في التراث الفقهي الإسلامي، ولكن لا ينبغي أن نقدمه على المصادر الأصلية.
5. ضرورة مراعاة المقاصد الشرعية، ومحاولة تحقيقها في الواقع، وتوضيح المفتي لتلك المقاصد أثناء تبليغه للفتوى، ليراعي المكلف الحكم الشرعي مع مقاصده.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (132)
رتبت المراجع والمصادر التي اعتمدت عليها في هذا البحث ترتيبا ألفبائيا بحسب عنوان الكتاب:
القرآن الكريم
1. ابن تيمية، أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1991.
2. الفتاوى، النووي، تحقيق: عبد القادر أحمد عطاء، لبنان، مؤسسة الكتب الثقافية، ط 2.
3. المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا، دار الفكر، دمشق، ط 9، 1998.
4. تاريخ الفقه الإسلامي، عمر سليمان الأشقر، الجزائر، قصر الكتاب، 1990.
5. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت، ط 1،، 1420 هـ.
6. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، الطبعة الأولى (1986 م).
7. اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، د. فهد الرومي، طبع بإشراف إدارة البحوث العلمية، الرياض، الطبعة الأولى،1407.
8. الإحاطة في أخبار غرناطة، محمد بن عبد الله الغرناطي الأندلس، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1424 هـ.
9. أحكام القرآن، القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط 2،
10.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (133)
11. 1424 هـ - 2003 م.
12. الإحكام في أصول الأحكام، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم لأندلسي القرطبي الظاهري، تحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
13. أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه وكيفية الفتوى والاستفتاء، ابن الصلاح الشهر زوري، تحقيق: فوزي عبد المطلب، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط 1، 1992.
14. أسباب اختلاف الفقهاء، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، تقديم: حسن بن عبد الله آل الشيخ وعبد الرزاق عفيفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1431 هـ / 2010 م.
15. الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية – بيروت، ط 1، 1421 – 2000.
16. الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، الناصري احمد بن خالد، الدار البيضاء، دار الكتاب، ط 1، 1997.
17. أصول السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة – بيروت.
18. أصول الفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 1.
19. أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.
20. أصول الفقه، محمد بن مفلح، أبو عبد الله الصالحي الحنبلي، حققه وعلق عليه وقدم له: الدكتور فهد بن محمد السَّدَحَان، مكتبة العبيكان، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.
21.
22.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (134)
23. أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 1410 هـ.
24. الاعتصام، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، ط 1، 1412 هـ - 1992 م.
25. إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر أيوب ابن القيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل - بيروت، 1973.
26. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية.
27. أنوار البروق في أنواء الفروق، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي، عالم الكتب.
28. إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، أبو العباس الونشريسي، تحقيق: الصادق الغرياني، دار ابن حزم، 1427 هـ.
29. البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري، دار الكتاب الإسلامي، ط 2.
30. البحر المحيط في أصول الفقه، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، دار الكتبي، ط 1، 1414 هـ - 1994 م.
31. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، دار المعرفة – بيروت.
32. بكر أبو زيد، فقه النوازل، بيروت: مؤسسة الرسالة.
33. بلوغ السول في مدخل علم الأصول، محمد حسنين محلوف، مطبعة مصطفى
34.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (135)
35. الحلبي.
36. بيان الدليل على بطلان التحليل، ابن تيمية، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي.
37. بيان الدليل على بطلان التحليل، ابن تيمية، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي، 1418 – 1998.
38. تاج العروس، الزبيدي، دار الرشاد، الدار البيضاء.
39. تبصرة الحكام، ابن فرحون، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط 1، 1986.
40. التحدث بنعمة الله، السيوطي، تحقيق: إليزابيث ماري سارتين، المطبعة العربية الحديثة، مصر، 1972 م.
41. التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، ط 1، 1992.
42. التفسير والمفسرون، الدكتور محمد السيد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة.
43. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، 1387 هـ.
44. جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر يوسف عبد البر النمري القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1414 هـ - 1994 م.
45. جزيل المواهب فى اختلاف المذاهب، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، تحقيق: عبد القيوم محمد شفيع البستوي، دار الاعتصام.
46. الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، حسن مشاط، دراسة وتحقيق د عبد
47.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (136)
48. الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان. دار الغرب الإسلامي، ط 1.
49. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي، دار الكتب العلمية.
50. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي، حسن بن محمد بن محمود العطار الشافعي، دار الكتب العلمية – بيروت.
51. حجة الله البالغة، أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ (الشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: السيد سابق، دار الجيل، بيروت – لبنان، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.
52. خصائص التشريع الإسلامي، فتحي الدريني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1434 هـ - 2013 م.
53. الدارس في تاريخ المدارس، عبد القادر النعيمي، حققه جعفر الحسيني، دمشق، المجمع العلمي، 1951.
54. الدرر السنية في الأجوبة النجدية، علماء نجد الأعلام، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط 6، 1417 هـ/1996 م.
55. الرخصة الشرعية في الأصول والقواعد الفقهية، د. عمر عبد الله الكامل، دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1999 م.
56. رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
57. الرد على من أخلد إلى الارض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، السيوطي، تحقيق: خليل الميس، دار الكتب لعلمية 1403 هـ.
58. روضة الطالبين وعمدة المفتين، محيي الدين النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ
59.
60.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (137)
61. سبل الاستفادة من النوازل والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة، الدكتور عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه، مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ع 11.
62. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، دار المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ / 1992 م.
63. سنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد - محمَّد كامل قره بللي - عَبد اللّطيف حرز الله، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.
64. سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق وتعليق: إبراهيم عطوة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ط 2، 1395 هـ - 1975 م،.
65. سيّر أعلام النبلاء، الذهبي، حققه بشار عواد، بيروت، مؤسسة الرسالة.
66. شرح العقيدة الأصفهانية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، تحقيق: محمد بن رياض الأحمد، المكتبة العصرية – بيروت، ط 1، 1425 هـ.
67. شرح الكوكب المنير، تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد المعروف بابن النجار الحنبلي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، ط 2، 1418 هـ - 1997 م.
68. شرح النووي على صحيح مسلم، النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ.
69.
70.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (138)
71. شرح حدود ابن عرفة، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري. دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1993 م.
72. شرح عمدة الفقه (من كتاب الطهارة والحج)، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: د. سعود صالح العطيشان، مكتبة العبيكان – الرياض، ط 1، 1413.
73. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، تحقيق: دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1398 هـ/1978 م.
74. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: الأولى، 1422 هـ.
75. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
76. صفة صلاة النبي، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، السعودية، د ت.
77. الضوابط الشرعية لبحث القضايا المعاصرة في الرسائل العلمية، مجموعة من الباحثين، بحث مقدم لمؤتمر (الدراسات العليا ودورها في خدمة المجتمع)، والمنعقد بتاريخ 19/ 4/2011 في الجامعة الإسلامية – غزة، دت، دط.
78. طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، حققه محمد الطناجي، ط 2، الجيزة، دار هجر، 1992.
79. الطبقات الصُغرى، عبد الوهاب الشعراني، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، مكتبة القاهرة، مصر، 1970 م.
80.
81.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (139)
82. طبقات الفقهاء الشافعيين، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: د أحمد عمر هاشم، د محمد زينهم محمد عزب، مكتبة الثقافة الدينية، 1413 هـ.
83. الطرق الحكمية، محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، مكتبة دار البيان.
84. العبر، الذهبي، حققه صلاح الدين المنجد، الكويت، مطبعة حكومة الكويت، ط 2، 1984.
85. عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية - القاهرة.
86. علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع، عبد الوهاب خلاف، مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر.
87. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير، محمد بن إبراهيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 3، 1415 هـ - 1994 م.
88. الفتاوى الكبرى، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي، منشورات المكتبة الإسلامية، ج 3، ص 289.
89. الفتاوى الكبرى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، دار الكتب العلمية، ط 1، 1408 هـ - 1987 م.
90. الفتاوى، الشاطبي، تحقيق: محمد أبو الأجفان، مطبعة الاتحاد العام التونسي، تونس، ط 1، 1984.
91. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، محمد بن أحمد بن محمد عليش، أبو عبد الله المالكي، دار المعرفة.
92.
93.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (140)
94. فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر.
95. الفروق، القرافي، بيروت، عالم الكتب.
96. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن بن العربيّ الفاسي، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، ط 1، 1416 هـ- 1995 م.
97. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي، دار الفكر، دط، 1415 هـ - 1995 م.
98. فيض القدير، المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1356.
99. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة، 1414 هـ - 1991 م.
100. الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 2، 1400 هـ/1980 م.
101. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، حققه عبد الله القاضي، ط 2، بيروت، دار الكتب العلمية، 1995.
102. كتاب التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، ط 1، 1403 هـ -1983 م.
103. الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد – الرياض، ط 1، 1409.
104.
105.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (141)
106. كتاب الميزان، أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد الشعراني، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن عميره، عالم الكتب، ط 1، 1409 هـ - 1989 م.
107. الكشف عن مجاوزة هذهِ الأمة الألف، مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوي، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الفكر، بيروت.
108. لسان العرب، ابن منظور، دار صادر – بيروت.
109. المبسوط، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة – بيروت، 1414 هـ - 1993 م.
110. مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ/1995 م.
111. المجموع شرح المهذب (مع تكملة السبكي والمطيعي)، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار الفكر.
112. المستصفى في علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، تحقيق: محمد بن سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1417 هـ/1997 م.
113. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ - 2001 م.
114. مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، التميمي السمرقندي، تحقيق: نبيل هاشم الغمري، دار البشائر (بيروت)، ط 1، 1434 هـ - 2013 م.
115.
116.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (142)
117. معجم البلدان، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله لرومي الحموي، دار صادر، بيروت، ط 2، 1995 م.
118. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد، أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، ط 2.
119. معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1408 هـ.
120. من أصول الفقه على منهج أهل الحديث، زكريا بن غلام قادر الباكستاني، دار الخراز، الطبعة الاولى 1423 هـ-2002 م.
121. المنثور في القواعد الفقهية، أبو عبد الله بدر الدين الزركشي، وزارة الأوقاف الكويتية، ط 2، 1405 هـ - 1985 م.
122. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أحمد بن علي، تقي الدين المقريزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ.
123. الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، 1417 هـ/ 1997 م.
124. مواهب الجليل، الحطاب، دار الفكر، ط 3، 1992.
125. الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت، دارالسلاسل - الكويت، 1404 - 1427 هـ.
126. الموطأ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي – الإمارات، ط 1، 1425 هـ - 2004 م.
127.
128.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (143)
129. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر- بيروت – لبنان.
130. التخريج المذهبي أصوله ومناهجه، نوار بن الشلي، الرباط،1997
131. نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، مصر، ط 1، 1413 هـ - 1993 م.
132. سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة، الترمذي، أبو عيسى، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 2، 1395 هـ - 1975 م.
133. وفيات الأعيان، ابن خلكان، حققه إحسان عباس، دار الثقافة، 1968.
134. يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، التخريج عند الفقهاء والأصوليين، الرياض، مكتبة الرشاد،1414 هـ.
النوازل الفقهية ومناهج الفقهاء في التعامل معها (144)
يعتبر فقه النوازل من أهم فروع الفقه الإسلامي، لدوره الكبير في بيان أحكام الشريعة الإسلامية المرتبطة بواقع الحياة في جميع مجالاتها، فدوره هو تنزيل أحكام الشريعة على الواقع الحياتي ليصبغه بصبغتها، ويجري عليه أحكامها.
انطلاقا من هذا، حاولنا استقراء مناهج الفقهاء في الفتوى في النوازل، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى ستة مناهج:
1 ــ المنهج الاستدلالي.
2 ــ المنهج المذهبي.
3 ــ المنهج المذاهبي.
4 ــ منهج التيسير.
5 ــ منهج التشديد.
6 ــ المنهج المقاصدي.
وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نبين - باختصار- الخصائص التي يتميز بها كل منهج، مع الأعلام الذين تبنوه، والآليات التنفيذية المرتبطة بتحقيق المنهج في الواقع.