×

الكتاب: الطائفيون والحكماء السبعة

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1437 هـ

عدد الصفحات: 128.

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-3-330-80440-1

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

هذه الرواية موجهة بالدرجة الأولى لأولئك الإسلاميين ـ حركيين كانوا أو سلفيين ـ الذين تركوا الدعوة للإسلام ـ الذي أردوا احتكاره دون سائر الناس ـ وراحوا يتدنسون بعار الطائفية والحزبية والفرقة.

فصار دورهم الوحيد نشر البغضاء والأحقاد في القلوب، ونشر التفكك والقطيعة في المجتمعات، ونشر الدمار والخراب في الأوطان.

وهي تحاول أن تعيدهم إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وهدي الأئمة الطاهرين الذين جعلهم الله ممثلين لدينه، وورثة لنبيه.

وقد وضعتها بشكل رمزي بسيط، ليسهل الاستفادة منها على العامة والخاصة.

الطائفيون والحكماء السبعة (4)

المقدمة

هذه الرواية البسيطة كتبتها قبل أن يحصل ما يحصل الآن من مؤامرة على العالم الإسلامي.. كنت أرى حينها الإسلاميين ـ حركيين كانوا أو سلفيين ـ وهم يتركون الدعوة للإسلام ـ الذي أردوا احتكاره دون سائر الناس ـ ليتلطخوا بعار الطائفية والحزبية والفرقة، فيصير دورهم الوحيد نشر البغضاء والأحقاد في القلوب، ونشر التفكك والقطيعة في المجتمعات، ونشر الدمار والخراب في الأوطان.

وهي تحاول أن تعيدهم إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وهدي الأئمة الطاهرين الذين جعلهم الله ممثلين لدينه، وورثة لنبيه.

وقد وضعتها بشكل رمزي بسيط، ليسهل الاستفادة منها على العامة والخاصة.

وقد استلهمتها من خلال الرواية الواردة في كتب التاريخ عن مناظرة ابن عباس للخوارج، ومحاروته لهم، وكيفية رجوع الكثير منهم بعد ذلك.

وتختصر أحداث الرواية في قيام حرب بين طائفتين من المسلمين، وقبل أن تبدأ يخرج حكيم من الحكماء بين الجيشين، ويرفع صوته قائلا لهم: يا إخواننا.. لا نشك في غيرتكم وإخلاصكم.. ولا نشك في إيمانكم بربكم وتعظيمكم له.. ولهذا نناشدكم الله أن تسمعونا.. لا نقول لكم: ارموا سلاحكم، فنحن نعلم ما له من قيمة عندكم.. ولكنا نطلب منكم أن تسمعوا كلمة من كل واحد منا.. فقد التجأنا إلى الله في كل تلك السنوات الطويلة أن يعيد لهذه الأمة وحدتها وقوتها، فعلم كل واحد منا كلمة من كلمات الوحدة، وسرا من أسرار الاجتماع.. فاسمعوا منا جميعا.. ثم افعلوا بعد ذلك ما بدا لكم.

وبعد أن يقول هذا، ويوافق كلا الجيشين على الاستماع يبدأ كل حكيم في محاورتهم، ومناقشة الشبهات التي جعلتهم يحارب بعضهم بعضا..

الطائفيون والحكماء السبعة (5)

وقد كان أهم مصادرنا في تلك الحوارات والمناظرات المصادر المقدسة المعصومة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي محل اتفاق بين الأمة جميعا..

كما أننا ذكرنا فيها عند بيان توبة التائبين الذين ألقوا أسلحتهم بعض الأسباب التي جعلتهم يحملون السلاح، وكيف ينحرفون عن المعاني والقيم القرآنية والنبوية.

وهذه الرواية من سلسلة كتب تهدف إلى الدعوة للوحدة الإسلامية، وإصلاح ذات بين المسلمين.. وهي بذلك جزء من مشروع، وليست المشروع جميعا.. ولذلك فإن ما قد يبدو فيها من القصور يكمل في سائر السلسلة.

الطائفيون والحكماء السبعة (6)

البداية

أذكر جيدا أنني كنت حينها متألما غاية الألم بسبب ما أراه حولي من ضجيج وصخب ولغو يستعمل الدين مطية ليفرق القلوب والأجساد، وينشر الفتنة، ويملأ الأرض خرابا ودمارا.. كان الكل كالمجانين الذي أعمتهم الأحقاد، فصاروا لا يرون ما يحل بهم، وما يخطط لهم، وما يكادون به.

ومما زاد في ألمي علمي بأن الأمة التي أنتمي إليها.. والتي تمتلئ بالضعفاء حتى إنها تكاد تمثلهم.. فيها من الصالحين والأولياء والمقربين ما لم تظفر أمة من الأمم بعشر عشيره.. ولكن العدو مع ذلك تسلل إليها في كل مرحلة من مراحل تاريخها عبر أهواء ينشرها، ثم ينشر خلفها أوتاد التعصب.. لتنقلب بعد ذلك رماحا نقاتل بها بعضنا بعضا، وننسى عدونا الذي بنظر إلينا بشماتة متربصا لحظة انطفاء النيران بيننا ليزيد من وهجها بحطب جديد ووقود جديد..

تذكرت الخلافات التي تؤرخ لها كتب الملل والنحل.. والتي لا ترضى إلا أن تكون حطبا ووقودا يزيد نار الخلاف وهجا واتقادا.. وهي تبشر بفرقة الأمة، وتأبى إلا أن تجعلها سبعين طائفة، وفي كل طائفة سبعين.. ثم لا ينجو من هذا الفتات المتناثر إلا طائفة واحدة منصورة، ويرمى غيرها في أطباق جهنم..

وزاد من ألمي ما تسطره الأخبار كل يوم عن التفجيرات التي تقوم بين الحين والحين في مساجد هذه الطائفة أو تلك الطائفة.. وكل يزعم أنه ممثل الدين والنائب عن رب العالمين.. ولا يرى له من تمثيل غير الإبادة.. إبادة إخوانه ليغرس على جثثهم بذور الدين الذي لا يرى دينا غيره.

لقد عرفت صدق نبوءته صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (إن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها

الطائفيون والحكماء السبعة (7)

ومغاربها، وإن مُلْك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي، عَزَّ وجل، ألا يهلك أمتي بسنَة بعامة وألا يسلط عليهم عدوّا فيهلكهم بعامة، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض. فقال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكتهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا) (1)

دب إلى نفسي غول الألم من جديد، وأنا أتذكر هذا الحديث، وأقول لنفسي: لا مناص لنا من هذا.. فهذا قدر مقدور كتب في جبين هذه الأمة.. وسيبقى بأسها بينها شئنا أم أبينا..

ما وصل بي الخاطر إلى هذا المحل حتى شعرت بيد تربت على كتفي، ولست أدري هل كنت حينها نائما أم مستيقظا أم بين النوم واليقظة..

التفت فإذا بي أرى رجلا ممتلئا أنوارا، يقول لي، وهو يبتسم: أنت تبحث عن سر الوحدة.. فهلم لتنهل من معارفها ما يملؤك بالقوة والأمل..

قلت: أي قوة؟.. وأي أمل؟.. وأي وحدة؟.. لقد سطرت آلام الفرقة في جسدنا.. ولا مفر لنا منها، ولا مخرج.

قال: ألم تتعلم من القرآن الصامت والناطق مزاحمة الأقدار بالأقدار؟

قلت: بلى.. ولكن تلك أجسادنا التي لم تتوزع شتاتا كما توزعت طوائف الأمة.

قال: ولكن الأمة جسد واحد كذلك.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (2)

__________

(1) رواه أحمد.

(2) رواه مسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (8)

قلت: ولكن الذي قال هذا هو الذي أخبر بما أخبر به من فرقة الأمة.

قال: أخبرنا بذلك لنحذر ونهيئ أنفسنا لمواجهة أخطار الفرقة التي يمكن أن نتعرض لها.. ولم يخبرنا بذلك لنبرر لأنفسنا ما نقع فيه من اختلاف وفرقة.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينشر فينا الإحباط، بل ينشر فينا الحذر.

قلت: وما جدوى الحذر؟

قال: سأضرب لك مثالا يبين جدواه.. وتفهم من خلاله النصوص كما يجب أن يفهمها المؤمن السامع من الله.. أتعرف الصبغيات التي تتشكل من أنواعها خريطة الإنسان المكانية والزمانية؟

قلت: أجل.. وقد أصبت في ربط الصبغيات بالزمان.. فللجسم ساعة بيولوجية تجعله يتغير بتغير الدقائق والثواني.

قال: فالصبغيات إذن عبارة عن حروف لأقدار مكتوبة لا بد أن تصيب صاحبها لا محالة.

قلت: أصبت وأخطأت.. أصبت في كونها حروفا لأقدار مكتوبة، وأخطأت في إصابتها لصاحبها لا محالة.. فقد توصل العلم الحديث إلى إمكانية الابتعاد عن تلك الحروف التي تحمل أقدارا تجلب لنا بعض الضرر.

قال: وضح لي مرادك.

قلت: قد يعرف الأطباء المختصون أن فردا من الناس يحمل جينا مسؤولا عن مرض معين.. فينصحونه بمحاولة تفاديه.

قال: وكيف يتفاداه وقد رسم في جيناته؟

قلت: لكل مرض سببان: أصلي، وهو ما رسم في جيناته من حروف العلة، واستفزازي، وهو ما يوفر للمرض دواعي الظهور.

الطائفيون والحكماء السبعة (9)

قال: وهل يمكن أن يحلم حامل المرض الوراثي أن لا يظهر عليه المرض المسطر في جيناته؟

قلت: أجل.. إذا عرف كيف يترك علته في طور الكمون بأن لا يوفر لها دواعي الظهور.

قال: فقد فهمت إذن سر إخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن إمكانية تعرض الأمة للفتن فيما بينها.

قلت: لم أفهم.. لقد كنا نتحدث عن جسد الأفراد، لا عن جسد الأمة.

قال: خالق الجسدين واحد.. وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المؤمنين كالجسد.. فاعبر من جسد الفرد إلى جسد الأمة.

قلت: لا طاقة لي بالعبور.

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الأمة تحمل جينات قد تسبب تفرقها واختلافها.. وهو ما قد يجر إلى أن يكوون بأسها بينها شديدا.

قلت: وهذا هو المقدور.

قال: لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث ينبئنا عن المقدور فقط، بل كان ينبئنا عما يجب أن نفعله لنتفادى هذا الذي سطر في جينات الأمة.

قلت: كيف نتفاداه وهو مقدور؟

قال: كما يتفادى العليل علله الوراثية بأصناف التحصينات التي تمنع استفزاز علله.

قلت: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينصحنا إذن.

قال: كل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصائح لا يستطيع أي شيء في الدنيا أن يعوضها.. ولكنكم تحولونها إلى أشواك تزرع اليأس وتجني الإحباط.

قلت: ولكن كيف لا نحبط.. وقد خصت هذه الأمة بهذه الجينات الخطيرة.. ألا يصاب المريض بالحزن إن علم أن بعض جيناته تختزن السم الزعاف؟

الطائفيون والحكماء السبعة (10)

قال: هذا الجين الذي أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم دليل على كمال الأمة، وبشارة بانتشارها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: كل كمال لا بد أن يحمل بذور التعدد.. وبذور التعدد هي التي قد تنشئ الاختلاف.. وهو الذي قد ينشئ العداوة.

قلت: فقد انتهى الأمر إلى العداوة.

قال: وقد ينتهي إلى تعدد الكمال..

قلت: لا أفهم هذا.

قال: هذه الأمة تضم الأجناس والألوان المختلفة.. وهي تضم معهم ألسنة متشعبة، وأعرافا متباينة، ومشارب تختلف أذواقها.. وكل هذا الاتساع والانتشار في الطبيعة ينشئ اتساعا وانتشارا في الفكر والفهم والسماع.. وهذا كله موصل للكمال.

قلت: لا أزال قاصرا عن إدراك سر علاقة الكمال بهذا.

قال: أرأيت لو أن تلميذا من الله عليه، فتتلمذ على مشايخ تتعدد مشاربهم ولغاتهم.. فكل يعبر له عن المعلومة بأسلوبه ولغته.. أيهما أكمل: أهو، أم ذلك الذي لم يغادر بلده، ولم يتلق من غير معلم قريته؟

قلت: لا شك أن الأول يكون أكثر نضجا وعمقا، وأقرب إلى الكمال من الثاني.

قال: فكذلك هذه الأمة.. لقد خصها الله بميزتين استدعت ظهور الاختلاف: أما أولهما، فهو أنها عامة للبشر جميعا بطبائعهم المختلفة، وأما الثاني، فهو أنها الرسالة الخاتمة التي هيمنت على الكل، ولم يبق بعدها أي رسالة تنسخها.

قلت: فهمت سر الكمال المؤدي إلى الاختلاف في الأول، ولم أفهمه في الثاني.

قال: إن كونها الرسالة الخاتمة يستدعي ضمها لكل الاحتياجات، ويستدعي كذلك تقبلها لكل المشارب.. وهذا مما ينشئ الخلاف.

الطائفيون والحكماء السبعة (11)

قلت: كيف ينشئ الخلاف؟

قال: ينشأ الخلاف عندما ينشأ المتعصبون الذي يتصورون الدين قاصرا على ما فهموه منه.

قلت: فكيف نتفاداه؟

قال: بعلوم وأخلاق من تعلمها وتخلق بها حفظ من آثار هذا لجين الفاتك، فلم يمد سيفه على أخيه، ولم يسلط جيوش لسانه عليه.

قلت: فأين أتعلم هذه العلوم.. وأتدرب على هذه الأخلاق؟

قال: هنا في حصن الوحدة.. فهو الحصن الذي يدرب المستضعفين على ضم القلوب والأرواح لتتوحد في عبوديتها لله.. فعبودية الله تجمع ولا تفرق.

قلت: أرى أجنحة كثيرة في هذه الحصن.. وأرى فيها أمورا لم أرها من قبل.

قال: لهذا الحصن قصة.. ولن تعرف في هذا الحصن من هذا الحصن إلا هذه القصة، وأحسب أنها تكفيك.

قلت: فمن يقصها علي؟

قال: سأفصها عليك أنا..

قلت: أنت!؟

قال: أجل.. لأنها حدثت بين قومي.. وقد تعلمت منها ما رضي قادة هذا الحصن أن يجعلوه برنامجا تدريبيا للمستضعفين فيه.

-\--\-

كانت هناك نخلة قريبة منا تمتلئ بأعذاق التمر الطيب.. فطلبت من صاحبي أن نجلس تحتها لنسمع قصة مدينته التي صارت مدرسة للوحدة في هذا الحصن.

سكت صاحبي برهة، وكأنه يسترجع ذكرياته.. ثم قال: في تلك السنين كنا أهون

الطائفيون والحكماء السبعة (12)

المستضعفين.. لقد وفر أعداؤنا على أنفسهم شراء السلاح، واكتفوا بأن يبيعوا السلاح لنا لنقدم لهم أجسادنا وفوقها أموالنا.

قلت: أي جنون أصاب قومك يا هذا؟

قال: هو نفس الجنون الذي يصيب قومك.. ألا تراهم بارعون في قتال بعضهم بعضا؟.. ألا ترى أنهم انشغلوا عن التحذير من الشيطان وأولياء الشيطان بالتحذير من تلك الطائفة وتلك الطائفة؟.. ألا ترى أنهم يعبدون أنفسهم وأهواءهم وأعراقهم ومذاهبهم، وهم يحسبون أنهم يعبدون الله.

قلت: صدقت في هذا.. أكمل حديثك عن قومك..

قال: قومي كقومك.. كانوا لا يعرفون من الدين إلا مواطن الخلاف، يحفظونها وينشرونها ويربون أبناءهم عليها.. حتى إذا كبر أبناؤهم حملوا السلاح ليضرب به بعضهم بعضا..

قلت: عرفت كل هذا من قومي.. فحدثني كيف صار هؤلاء المتنافرون مدرسة من مدارس الوحدة.

قال: لقد ولد فينا شباب طيبون اعتزلوا كفتية أهل الكهف لا نراهم ولا نسمع أخبارهم حتى نزلوا علينا ذات يوم، ونحن نشهر أسلحتنا للمعركة الفاصلة بيننا وبين أعدائنا من إخواننا.

قلت: فماذا فعلوا؟

قال: لقد كان في وجوههم من نور الإيمان وسلامة اليقين وأدب الحديث ما جعل الكل يلتفت إليهم، ليسمع منهم.

قلت: أهم من طائفتك أم من غيرهم؟

قال: هم من طائفتنا ومن غيرهم، ولكن النور الذي ينتشر على وجوهم جعل منهم

الطائفيون والحكماء السبعة (13)

طائفة خاصة لا تماثلها أي الطوائف.

قلت: كم كانوا؟

قال: سبعة رجال.. كل واحد منهم جبل من جبال الحكمة.. لقد وقفوا بشجاعة بين الصفين، وطلبوا من كلا الفريقين أن يسمعوا منهم.

قلت: فهل أجابوا؟

قال: لم يملكوا إلا أن يجيبوا.. ولكنهم ظلوا مشهري أسلحتم، وأبوا تركها.

قلت: فماذا فعل حكماؤكم السبعة؟

قال: تقدم أحدهم ورفع صوته الذي امتلأ إيمانا صائحا في الجموع: يا إخواننا.. لا نشك في غيرتكم وإخلاصكم.. ولا نشك في إيمانكم بربكم وتعظيمكم له.. ولهذا نناشدكم الله أن تسمعونا.. لا نقول لكم: ارموا سلاحكم، فنحن نعلم ما له من قيمة عندكم.. ولكنا نطلب منكم أن تسمعوا كلمة من كل واحد منا..

لقد التجأنا إلى الله في كل تلك السنوات الطويلة أن يعيد لهذه الأمة وحدتها وقوتها، فعلم كل واحد منا كلمة من كلمات الوحدة، وسرا من أسرار الاجتماع.. فاسمعوا منا جميعا.. ثم افعلوا بعد ذلك ما بدا لكم.

قلت: فهل سمعوا منه؟

قال: لم يملكوا إلا أن يسمعوا.. فقد كان لكلماته من الإخلاص ما جعلها بلسما لا تملك القلوب إلا أن تذعن له.

قلت: فهل ستحدثني عن خبر هؤلاء الحكماء مع قومك؟

قال: أجل.. فعلوم هؤلاء الحكماء هي التي يلقنها أهل هذا الحصن للمستضعفين المتشتتين.

قلت: فحدثني حديثهم.. فقد اشتقت إليه.

بدأ صاحبي يتحدث.. وسرح خيالي معه يرسم الأحداث ويعيشها.

الطائفيون والحكماء السبعة (14)

أولا ـ العبودية

تقدم الحكيم الأول بين الصفين، وقال: أول كلمة تجعل قلوبكم على قلب رجل واحد هي العبودية لله.. فأساس كل خلاف تقعون فيه هو عبوديتكم لأهوائكم ونفوسكم وجذوركم..

قالوا: أين الدليل على هذا.. فقد قرأنا الوحيين جميعا فلم نجد فيه ما ذكرت؟

قال: لقد قال الله تعالى مشيرا إلى هذا الأصل العظيم الذي يقوم عليه بنيان التوحيد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:92)

قام أحدهم، وقال: هذه الآية تخبر عن أمرين، أما أولهما، فهو الدلالة على وحدة هذه الأمة، والثاني إخبار من الله تعالى لعباده بربوبيته، وأمر لهم بمراعاتها بعبادته.. فأين وجه استدلالك؟

قال الحكيم: من اقتران كلا المعنيين يتولد أصل ابتناء الوحدة على العبودية.. فكأن الله تعالى يذكر لنا وصفة لتحقيق الوحدة والحفاظ عليها.. وهي عبادة الله، والاستغراق في عبادته.

قال الرجل: ولكن القرآن الكريم لم يذكر هذا الارتباط الذي تتوهمه.

قال الحكيم: من تتبع القرآن الكريم وعرف أسرار الارتباط فيه استنبط منه من أنواع العلاج ما لا يستطيع العقل المجرد التعرف عليه..

قام رجل مشهرا سيفه، وهو يقول: لا نريد ان نناقشك في وجه استدلالك.. ولكنا لا نراه في الواقع.. فنحن نقوم الليل، ونصوم النهار ونقرأ القرآن، وأولئك الذين نشهر سيوفنا في وجوههم لا يقلون عنا نشاطا وعبادة.. ثم نحن بعد ذلك ـ كما ترانا ـ لاننتهي من حرب حتى ندخل في غيرها.. فكيف تزعم أن العبودية هي أصل الوحدة؟

الطائفيون والحكماء السبعة (15)

قال الحكيم: هذا من العبودية.. وليس هو العبودية.. لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن أقوام ذوي صلاة وصيام وقراءة.. وأخبر أنهم لا يجاوزون بقراءته حناجرهم، فقال: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (1) وفي رواية: (لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)، وفي رواية: (شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه)

اشرأب أحدهم بسيفه وصاح: أراك تدعونا لما تنهانا عنه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بقتلهم.. فكيف تنهانا عنه؟

التفت إليه الحكيم بهدوء، وقال: فأنت تضع نفسك موضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فتزعم بأن غيرك من الفئة المارقة، وأنك أنت من الفئة المنصورة.

قال: فكيف تريدني أن أرى نفسي؟.. أتريدني أن أراها مارقة، فأقتلها؟

قال الحكيم: إذا رأيتها مارقة، فاقتلها بأسياف الرياضة لتعود إلى عبودية ربها.. فإن طغيانها هو الذي صور لها أحقيتها وضلال غيرها..

قال الرجل: ولكني أعين خصومي بذلك على نفسي.. فهم يعتبرونني من المارقين، ويسلون سيوفهم علي لأجل ذلك.. أفأعين على نفسي؟

قال الحكيم: بئس من لم يعن غيره على نفسي.. واسمع مني.. واسمعوا مني كلكم.. لو أن كل واحد منكم نظر إلى نفسه بهذا المنظار، فراح يصحح عبوديته لله.. وراح يتهم نفسه بتجاوزها لحدها وتدخلها فيما لا يعنيها.. ثم راح يسل سيفه على نفسه التي سولت له مزاحمة الربوبية ليعيدها إلى عبوديتها.. حينذاك فقط تتوحد قلوبكم على عبودية الله.

نادى رجل من بعيد: أتريدنا أن نفعل ما أمر به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم، كما قال

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (16)

تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54).. ألا تعلم أنا من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا من بني إسرائيل؟

قال الحكيم: وهل لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلهها الخاص بها.. ولبني إسرائيل إلههم الخاص بهم.. أليس الرب واحدا؟

قال الرجل: ولكنهم أمروا بقتل أنفسهم، ولم نؤمر بذلك.

قال الحكيم: فما دمتم لم تؤمروا بذلك فلم تفعلونه؟

قال الرجل: وهل ترانا نفعل ذلك؟

قال الحكيم: لا أراكم تفعلون إلا ذلك.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (الحجرات: 11

قال الرجل: بلى.. وهي في سورة الحجرات.. وهي تنهى عن اللمز.

قال الحكيم: فهل رأيت رجلا يلمز نفسه؟

قال الرجل: الناس يلمز بعضهم بعضا، ولا يلمزون أنفسهم.

قال الحكيم: ولكن الله تعالى ذكر لمز النفس، ولم يذكر لمز الغير.

قال الرجل: لقد قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان في تفسيرها: (لا يطعن بعضكم على بعض)، فالنفس هنا يراد بها الغير.

قال الحكيم: فقتلكم لبعضكم بعضا إذن قتل لأنفسكم؟

سكت الجميع، فقال: لقد ذكر القرآن الكريم ذلك صراحة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29)، فقتل النفس هنا ـ كما يشير إلى قتل النفس ـ يشير إلى قتل الغير.

الطائفيون والحكماء السبعة (17)

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر حب الغير، واعتبارهم كالنفس من علامات الإيمان، فقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره شره) (1)

قال رجل منهم: نحن نسلم لما تقول.. بل نسلم لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا يحل لامرئ أن يقدم رأيه على كلام الله أو كلام رسوله.. ولكنا مع ذلك نرى رأيا لا نشك في موافقتك لنا عليه.

قال الحكيم: وما ترون؟

قال الرجل: أرأيت لو أن عضوا من أعضائك ـ لا قدر الله ـ لم يعد صالحا إلا للبتر، أكنت تتركه ليملأ نفسك ألما، وجسمك سقما.

قال الحكيم: معاذ الله أن أتركه.. ومعاذ الله أن أتسرع في قطعه.

قال الرجل: ولم لا تتسرع بإزالة الداء؟

قال الحكيم: أرأيت لو أصاب الألم رأسك أكنت تذهب للجزار ليقطعه لك؟

قال الرجل: لا.. بل أسرع إلى المسكنات والمهدئات.. ولعلي أظفر بالترياق الذي يسد منافذ الخلل، ويعيد الصحة، وينفي العلل.

قال الحكيم: فافعلوا ذلك مع إخوانكم..

قال الرجل: للرأس حكمه الخاص.. وللرجل أحكامها الخاصة.. فالرجل يمكن أن أتسرع فيها، بخلاف الرأس.

قال الحكيم: ولماذا تعتبر إخوانك أقداما يمكنك أن تبترها، ولا تراها رؤوسا محترمة يعز عليك قطعها.

سكت الجميع، فقال: هذا يعود بنا إلى العبودية.. فالعبودية تجعلك تنظر إلى الخلق،

__________

(1) رواه ابن عساكر.

الطائفيون والحكماء السبعة (18)

وأنت عبد بسيط متواضع لا تملك إلا ما أعطاك الله، فلا تتكبر على أحد من خلق الله، ولا تفخر عليه لأنه أعطاك ما لم يعطه.

قالوا: أنحن نفعل هذا؟

قال: أجل.. وتتشبهون بالشيطان في فعله.. ألم يتكبر إبليس على آدم، بل على أمر الله، لأنه ظن نفسه أعز وأكرم من أن ينحني بهامته لذلك الطين.

قال أحدهم: ما أبعد البون بيننا وبين إبليس، هو تكبر بنفسه وبناره..

قاطعه الحكيم قائلا: وأنتم تتكبرون بآرائكم وطوائفكم ومذاهبكم.. كل يزعم لنفسه احتكار الحق.. بل كل يزعم أنه الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وأنه يوم القيامة سيكون الفائز الوحيد بالشرب من يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أما سائر الناس، فيساقون إلى جهنم ليسقيهم إبليس من شرابه.

قال رجل منهم: ولكن الحق معنا.. ولنا من الروايات ما يعضده.

قال الحكيم: ولغيركم من الروايات ما يعضد الحق الذي يؤمن به.

قال الرجل: ولكن الحق لا يخفى.. ونور حقنا يطغى على ظلمة باطلهم.

قال الحكيم: فلماذا استعنتم بالسيوف إذن؟.. هل ترون الشمس تبسط أشعتها تحت أسنة الرماح.. دعوا أنوار الحقائق تشهر نفسها بنفسها.. ودعوا ظلمات الباطل تنكمش بنور الحق.

قال رجل منهم: أنت تريد أن تصدنا عن غضبة غضبناها لله.. نصرة لدين الله.. وحفاظا على صفائه.

قال الحكيم: فهل معكم توكيل من الله لتنصروه بهذا الأسلوب؟

قال الرجل: لا نحتاج إلى هذا التوكيل، فما بثه الحق فينا من قوة جعلنا نستشعر الفرق بين أهل الجنة وأهل النار.. المغفور لهم من أهل الإيمان، والذين حبطت أعمالهم من أهل

الطائفيون والحكماء السبعة (19)

البدع والزندقة.

قال الحكيم: فأنت لا تختلف عن ذلك الذي أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه اعتقد نفسه موكلا بخزائن الرحمة والمغفرة يصرفها لمن يشاء، ويحرم منها من يشاء.

لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك) (1)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: (ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله) (2)

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال رجل لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله إلى نبي من الانبياء أنها خطيئة، فليستقبل العمل) (3)

وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبدا، فقال الله عزوجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فاني قد غفرت له) (4)

وقد سمى صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين) (5

__________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.

(3) رواه الطبراني في الكبير.

(4) رواه الطبراني في الكبير.

(5) معنى يتألى: يحلف والالية اليمين.

الطائفيون والحكماء السبعة (20)

فقال: (ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار) (1)

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال: (إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم) (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم) (3)

قال الرجل: ولكنا لا نقول ذلك.

قال الحكيم: بل تقولونه، وتصرون عليه.. أليس كل منكم يزعم أنه الفرقة الناجية.

سكت الجميع، فقال: وذلك لا يفهم إلا على معنى واحد، وهو أن غيره هالك.. لقد قيل لكم لا تقولوا لغيركم: (هالك)، فتلاعبتم كما تلاعب أهل السبت، فقلتم: (ليس ناج)، وأنتم تعلمون أن عدم نجاته لا يعني إلا هلاكه.

قال الرجل: ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن نجاة الواحدة.. أفتلغي كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الحكيم: وهل عندك صك بأنك منها.

قال الرجل: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن أوصافها، فذكر أنها ما عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.

قال الحكيم: وهل تطيق أن تنسب لنفسك هذا.. إن الذين كانوا معه صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أعظم تواضعا من أن ينسبوا لأنفسهم ما تنسبونه لأنفسكم.. بل كانوا يتخوفون على أنفسهم من النفاق.. ألم تسمع ما ورد عن سلفكم في ذلك؟

قال أحدهم: بلى.. وأروي من ذلك الكثير، ومن ذلك قول ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين ومائة - وفي رواية خمسين ومائة - من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يخافون النفاق)

وقيل للحسن: إن قوماً ما يقولون إنا لا نخاف النفاق، فقال: (والله لأن أكون أعلم

__________

(1) رواه البخاري في التاريخ.

(2) رواه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود.

(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

الطائفيون والحكماء السبعة (21)

أني بريء من النفاق أحب إلي من تلاع الأرض ذهباً)، وكان يقول: (إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب، والسر والعلانية، والمدخل والمخرج)

قال آخر: وقد كانوا يستدلون بالخوف من النفاق على الإيمان، وقد روي أن رجلا قال لحذيفة: (إني أخاف أن أكون منافقاً)، فقال: (لو كنت منافقاً ما خفت النفاق إن المنافق من أمن النفاق)

قال آخر: وكانوا يرون كل المظاهر التي حادت بالمسلمين عن الجادة من النفاق، حتى قال حذيفة: المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه).. وقيل للحسن البصري: (يقولون: أن لا نفاق اليوم)، فقال: (يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق).. وقال هو أو غيره: (لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على الأرض بأقدامنا)

قال الحكيم: فهل منكم من يرى نفسه بهذه الرؤية؟.. أم أنكم تكتفون بأن تجعلوا من أنفسكم قضاة محصنين بالصكوك التي تحميكم، ولا تحمي سواكم.

سقط سيف أحدهم، وقال: صدقت ـ سيدنا الحكيم ـ.. لقد أنطقك الله بالحكمة.. لقد كنت إلى هذه اللحظة أعتبر نفسي على الحق الذي لا يخالفني فيه إلا مبطل..

لقد كتبت رسالة في العقيدة، قلت في خاتمتها بكل كبرياء: (فمن أقر بما في هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما ولم يشك في حرف منه، ولم يجحد حرفا منه فهو صاحب سنة وجماعة كامل قد كملت فيه الجماعة ومن جحد حرفا مما في هذا الكتاب أوشك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهو صاحب هوى) (1)

ناداه صاحبه: ويلك يا هذا أتترك دينك لهوى نطق به من زعم لنفسه الحكمة؟

رد عليه: ابتعد عني.. فوالله ما شجعني على تلك المقولة وغيرها غيركم.. أنتم الذين

__________

(1) شرح السنة: 58.

الطائفيون والحكماء السبعة (22)

نفختم في أهواء الكبرياء.. فرحت أتكبر على طوائف الأمة ومذاهبها أوزع الضلال.. وأرمي بالبدعة.. كل من لم يبلغ عقلي مبلغ علمه.

أذكر مرات كثيرة أني كنت أطلب من يخالفني أو من يريد أن يحاورني بالمباهلة..

وإذا ذهبت إليها صببت عليه اللعنات والدعوات، وأنا أستشعر بأني إله يطرد من يشاء، ويقبل من يشاء.

وأذكر مرة أن بعضهم أجلسني بجانب بعض هؤلاء، فامتلأت نفسي غيظا أن أجلس بجانبه..

لقد نسيت كل ما ورد في النصوص الكثيرة من الكبر الذي سماه الشيطان لي عزة بالحق.. نسيت ما روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا في جماعة من أصحابه فذكروا رجلا فأكثروا من الثناء عليه ـ كما يثني علي أصحابي ـ فبينما هم كذلك إذ طلع رجل عليهم ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء، وقد علق نعله بين يديه وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هو هذا الرجل الذي وصفناه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أرى على وجهه سفعة من الشيطان) فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك؟) فقال: (اللهم نعم) (1)

قام أحدهم، وقال: نسلم لكل هذا.. ولكن أليس من شروط الإيمان الجزم.. ولا يصح إيمان الشاك الذي يشك في كونه على الحق أو الباطل.

قال الحكيم: أنا لم أقل لكم شكوا في الحق الذي أنتم عليه.. ولكني قلت لكم: اعبدوا الله وأنتم تتناولون الحق من الله.

قال الرجل: أبالصلاة، أم بالصيام؟

قال الحكيم: بالصلاة والصيام، ألم يقل الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا

__________

(1) رواه أحمد والبزار والدارقطني.

الطائفيون والحكماء السبعة (23)

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)

قال الرجل: فنحن نعبده بهما.

قال الحكيم: الصلاة تصلك بالله.. فترى الحق الذي عندك هبة من الله.. ولولا أن الله هداك إليه ما اهتديت.

قال الرجل: فإلام تؤديني هذه المعرفة؟

قال: إلى بحر التواضع والتسليم لله.. فترى من عين العبودية أن الله يمكن أن يحول من السحرة أولياء.. ومن الأولياء أشقياء.. ألم تسمع خبر سحرة موسى عليه السلام.

قال الرجل: بلى.. فقد أصبحوا أشقياء.. وأمسوا أولياء.. وباتوا شهداء.

قال الحكيم: وخبر بلعم بن باعوراء؟

قال الرجل: ذاك الشقي الذي آتاه الله العلم، فانسلخ منه إلى الهوى، فصار أدنى منزلة من الكلاب.

قال الحكيم: فعبوديتك لله تجعلك ترى كل من تعتبره صاحب هوى كسحرة موسى يمكن أن يسبقوك في أي لحظة.. ويجعلك ترى من نفسك.. أو في زاوية من زاوية نفسك شقيا يمكن أن ينقض على حقائقك كل لحظة، فيحولها دعاوى، ويحولك دعيا.

قال الرجل: صدقت.. ولهذا يستشعر الصالحون أن الهداية التي ينعمون بها هدية إلهية، لا جهدا اجتهدوه يحق لهم أن يفخروا به على غيرهم..

قال آخر: صدقت.. فالله تعالى يذكر عن الصالحين أقوالا تنبئ عن هذه العبودية الخالصة، فالله تعالى يقول: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأنعام: 71)، وهو يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (لأعراف:43)، ويقول على ألسنتهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ

الطائفيون والحكماء السبعة (24)

هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (ابراهيم:12)، ويقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران:8)

قال آخر: وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم عين البراءة من نسبة الأشياء إليه، وقد كان يرتجز مع أصحابه:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا... وثبت الاقدام إن لاقينا

قال الحكيم: تلك الصلاة.. وهي تهديك إلى الصيام الذي يطهر يدك من قتل أخيك.. ويطهر لسانك من اللمز والنبز.. ويطهر قلبك من الحقد والحسد.. فلا تكمل صلاة من امتلأ قلبه أحقادا وعللا.

قام رجل مشهرا سيفه، وهو يقول: نحن لا تمتلئ قلوبنا أحقادا.. بل تمتلئ بغضا في الله.. فنحن الذين هدانا الله إلى الإيمان الحق نغضب أن يمس صفاء الإيمان أو يحرف.. ألا ترى أنك تغضب إن أصيبت الهدية التي تهدى إليك من محبوبك بأي أذى؟

قال الحكيم: نعم، إن الإيمان هدية من الله.. ولكن من قال لك أو لغيرك أنك ظفرت بذلك الإيمان الحق الذي يخول لك أن تحمل غيرك عليه بالسيف.

قال الرجل: هذا من البداهة.. فنحن نستشعر الحق الذي وهبناه ونتذوقه..

قال الحكيم: لقد كان السلف الذين أراكم جميعا تعتبرونهم مصادركم المعرفية والسلوكية على غير هذا المنهاج.. لقد كان سفيان الثوري يقول: (من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين، ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة)، قيل له: فماذا تقول؟ قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (البقرة: 136)..

وكان يقول: (نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله

الطائفيون والحكماء السبعة (25)

تعالى؟)

وقيل للحسن: أمؤمن أنت؟ فقال إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم، فيقول الله سبحانه: (كذبت يا حسن) فتحق علي الكلمة.

وكان يقول: (ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني، وقال اذهب لا قبلت لك عملاً؛ فأنا أعمل في غير معمل)

وقال إبراهيم بن أدهم: (إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله)، وقال مرة: (قل أنا لا أشك في الإيمان، وسؤالك إياي بدعة)

وقيل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله.

نادى رجل من القوم: أراك تريد إقناعنا بالتخلي عن أصل من الأصول التي لا يكون الإيمان إيمانا إلا بتوفرها.

قال الحكيم: تقصد الجزم وترك الارتياب..

قال الرجل: أجل.. فما وجه ما ذكرت من الاستثناء مع أن المؤمن ينبغي أن يجزم إيمانه، بل لا يصح إيمانه إلا بذلك، ألم تسمع الآيات الكثيرة التي تصف المؤمين ببرد اليقين، يبنما تصف الجاحدين والكافرين بالشك والريبة، فالله تعالى يذكر الكفار فيقول: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} (النمل:66)، ويقول: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} (سبأ:54)، ويقول: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (صّ:8)، ويقول: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} (الدخان:9)

بينما يصف المؤمنين باليقين وزيادة الإيمان وترك الشك، فيقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ

الطائفيون والحكماء السبعة (26)

الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15)، ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (لأنفال:2)، ويقول: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة:124)

بل فوق ذلك يصفهم بخلاف ما ذكرت من الإعلان بالإيمان والفخر به، فالله تعالى يقول عن المؤمنين: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة:83)، ويقول: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة:111)، ويقول: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون:109)، ويقول: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (القصص:53)، ويقول على لسان الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} (الجن:13)

قال الحكيم: صدق الله العظيم.. ولا يصح إيمان بلا جزم ويقين وثبات.. وأنا لا أتحدث عن هذا، إنما أتحدث عما يتنافى مع العبودية من ادعاء الإيمان.. ففرق بين الإيمان وادعاء الإيمان.. ألم تسمع الله تعالى ينفي الإيمان عن أقوام كثيرين ادعوه؟

قال الرجل: بلى.. فالله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة:8)، ويقول عن بعض الأعراب: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14)، ويقول عن غيرهم من المنافقين وأهل الكتاب: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (المائدة: 41)، ويقول: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} (المائدة:61)

الطائفيون والحكماء السبعة (27)

قال الحكيم: ولهذا وقف الصالحون العارفون بالله مع هذه النصوص، فراحوا يتهمون أنفسهم وقصورهم..

ثم التفت للرجل، وقال: أجبني.. هل يمكن أن تصف نفسك بأنك من الخاشعين أو المقربين أو الصديقين؟

قال الرجل: لا.. وأنا عند نفسي أقل من ذلك بكثير.. ثم إني سمعت الله تعالى وهو ينهانا أن نزكي أنفسنا، فيقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32)، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (النساء:49)

قال الحكيم: ومثل ذلك الإيمان.. بل الإيمان هو الأساس لكل أوصاف الكمال.. فلا يكون الشخص مقربا ولا صديقا ولا خاشعا بدون إيمان.. ولهذا خشي الصالحون أن يدعوا ما هم مقصرون فيه.

قال الرجل: ولكن الشك محرم.

قال الحكيم: شك الصالحين ليس شكا في إيمانهم، وإنما هو شك في قبول ذلك منهم، ألم تسمع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون:60)

قال الرجل: بلى.. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن تفسيرها، وهل هي في الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل) (1)

قال الحكيم: فهذا يدل على ذلك ويؤكده.. بل ورد هذا النص القرآني في سياق يبين الحال التي يكون عليها المؤمن من الخشية والعبودية والتواضع، فالله تعالى يصف عباده

__________

(1) رواه أحمد الترمذي وابن أبي حاتم.

الطائفيون والحكماء السبعة (28)

المؤمنين بالخشية المؤدية للتواضع قبل وصفهم بالإيمان، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (المؤمنون:56 ـ 57)، أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح، مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من مكره بهم.

قال الرجل: بورك فيك.. وقد ذكرتني بقول الحسن البصري: (إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا)

قال الحكيم: فقارن بين هذا وبين من يستعلي بإيمانه، ويتسلط به، ويقاضي الخلق على أساسه، ثم لا يرضى إلا أن يرميهم بالكفر أو البدعة أو الزندقة.

نهض رجل آخر، وقال: نحن نسلم بهذا.. وهذا قد يصح مع الأعمال لا مع أصل الإيمان.. أرأيت لو أنك أخبرت عن نفسك بأنك رأيت شيئا قد رأيته حقيقة.. أليس ذلك شيئا طبيعيا لا حرج عليك في ذكره: ولا تعتبر بأنك زكيت نفسك بذلك؟

قال الحكيم: ولكن الإيمان أخطر من ذلك بكثير.. إن الإيمان غيب.. وهو إيمان بالغيب.. بخلاف ما ذكرت من الشهادة..

قال الرجل: ولكن هذا الغيب له ما يدل عليه في الشهادة.

قال الحكيم: وهذا هو الذي يمنعك من التعالي بالإيمان.. ألم تسمع الله يقصر وصف الإيمان على أناس مخصوصين بلغوا القمم العالية من العمل الصالح؟

قال الرجل: بلى.. فالله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (لأنفال:74)

ويعبر القرآن الكريم بصيغة الحصر التي تقصر الإيمان على من اتصفوا بأوصاف معينة، فيقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (لأنفال:2)، ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

الطائفيون والحكماء السبعة (29)

(الحجرات:15)

ويصف الصادقين بأوصاف كثيرة، فيقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)، فشرط عشرين وصفاً كالوفاء بالعهد والصبر على الشدائد.

ومثل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق) (1)

قال الحكيم: فبمثل هذا تصنف درجات المؤمنين..

قال الرجل: وهل ترانا نصنف الناس بغير ذلك؟

قال الحكيم: أجل.. أنتم تصنفون المؤمنين بحسب مواقفهم من بعض فروع العقائد.. فترفعون الفاسق غليظ القلب الذي يعتقد ما تعتقدونه إلى أعلى درجات الإيمان.. بل وتفضلونه على الصائم القائم الخاشع القانت إذا كان يخالفكم في تلك الفروع التي قسمتم الخلق على أساسها.

قال الرجل: ولكن البدعة أخطر من الفسق.. ألم تسمع قول ابن تيمية يحكي حكاية حصلت له مع بعض المبتدعة، فقال: (كان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه ويرجون رحمة الله ويتوبون إليه أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (30)

الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي) (1)

قال الحكيم: كلا من البدعة والفسوق انحراف عن الطريق الصحيح الذي يقتضيه الإيمان.. ولكن هناك فرقا بينهما لم تلاحظوه.

قال الرجل: وما هو؟

قال الحكيم: إن الفسق لا شك فيه من ناحية تحريم الشرع له، وتأثيره على الذات والمجتمع.. ولكن البدعة محل شك.. لأن كل فرقة تعتقد بدعية من خالفها.. وهي تتوهم أفضليتها بحسب ذلك.

بل ليس الأمر قاصرا على ذلك، فبعضهم يرمي بالبدعة أبسط التصرفات مع أن الشرع وسع فيها.. وستسمعون من إخواني من الحكماء من يوضح لكم هذا.

نهض رجل آخر، وقال: فنحن بحمد الله قد جمعنا من أوصاف المؤمنين ما ورد في النصوص.. ونحن لا نتحدث عن ذلك تزكية.. وإنما تحدثا بنعمة الله.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)

قال الحكيم: فرق بين أن تتحدث بنعمة الله عليك، وبين أن تتباهى بها، وتلعن مخالفيك لأجلها.. ثم من يضمن لك بأن هذه النعمة ستسمر لك.. أين الأمن من مكر الله؟

قال الرجل: وأين حسن الظن بالله؟

قال الحكيم: حسن الظن بالله يدعوك للتواضع لله ولعباد الله، فلا تحكم على أحدهم بالشقاء ما دامت فيه عين تطرف، فقد يتوب الله عليه في أي لحظة، ولا تحكم لنفسك بالسعادة، فقد يأتيك الشقاء من حيث لا تعلم.. ألم تسمع الصالحين، وهم يتخوفون من سوء الخاتمة؟

__________

(1) جامع الرسائل: 1/ 72.

الطائفيون والحكماء السبعة (31)

قال الرجل: بلى.. وقد كان أبو الدرداء يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه.. وقد قال بعض العارفين: (لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار؟)

قال الحكيم: أتدري ما مثل ذلك؟

قال الرجل: ما مثله؟

قال الحكيم: مثله مثل رجل صائم.. فإن صومه متعلق باستمراره على صومه إلى أن تغرب الشمس، فلو لم يبق بينه وبين المغرب غير لقمة واحدة، فأكلها بطل صومه جميعا.

فلذلك انشغل الأذكياء بمراعاة خواطرهم حتى لا تفسدها الوساوس والأوهام، وانشغل المغفلون بالبحث في سرائر الناس لا ليصلحوهم، وإنما ليتيهوا عليهم.. ويلمزوهم، وينبزوهم، ويقاتلوهم، ويقتلوهم.

ما وصل الحكيم من حديثه إلى هذه الموضع حتى انحنت كثير من السيوف، وسقط بعضها.. وهرع رجال يقبلون إخوانهم ممن كانوا يهمون بقتالهم، ويعانقوهم، ويذرفون الدمعات بين ذلك.

الطائفيون والحكماء السبعة (32)

ثانيا ـ الإسلام

قام الحكيم الثاني بين الصفين، وقال: لقد حدثكم صاحبي عن العبودية، وأنا سأحدثكم عن الإسلام.. فالإسلام هو الطريق إلى الوحدة.. ولن تتوحدوا إلا إذا استشعرتم الإسلام، وغلبتموه على كل المشاعر.

قال بعضهم: كيف تقول ذلك.. ونحن مع كوننا مسلمين، لم يصرفنا ذلك عن قتال بعضنا بعضا.. فكيف يكون الإسلام أصلا من أصول الوحدة؟

قال الحكيم: أجيبوني.. ما التسمية التي ارتضاها الله لكم، وخصكم بها من دون سائر الملل والنحل؟

نهض أحدهم، فقال: لا شك أنها الإسلام، فالله تعالى يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج: 78)

قال الحكيم: وهل هذا الاسم الذي ارتضاه الله لكم اسم شريف يستحق أن يفخر به صاحبه المتصف به، أم أنه اسم ينفر منه، وتحن نفسه لأن ينادى بغيره.

قال الرجل: اتق الله يا رجل.. لقد حسبناك حكيما.. كيف تقول هذا؟.. والله لولا أنكم ناشدتمونا الله لفصلت رأسك عن جسدك.

قال الحكيم: ولم؟

قال الرجل: لأن سؤالك يحمل تحقيرا لاسم الإسلام العظيم الذي ارتضاه الله لنا.

قال الحكيم: بورك فيك، وفي إخلاصك وصدقك.. وأنا والله لا أود لرأس يحمل أي احتقار للإسلام أن يبقى على جسدي.. ولكني أسألك: هل هناك من بين الملل من رغبوا عن تسمية الله لهم بالمسلمين، فسموا أنفسهم بما ارتضته لهم أهواؤهم؟

قال الرجل: أجل.. وهم كثير، وقد ضرب الله لنا المثل عنهم بالفريقين من أهل

الطائفيون والحكماء السبعة (33)

الكتاب من اليهود والنصارى.. فمع أن أصول ملتهم إبراهيمية حنيفية مسلمة إلا أنهم رغبوا عنها كما قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة:135)

بل إنهم اشتدوا في انصرافهم عن الإسلام الذي ارتضاه الله لهم، فراحوا يزعمون أن الجنة خاصة بمن انتحل نحلتهم، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:111)

ولم يكتفوا بذلك.. بل راحوا يزعمون أن إبراهيم عليه السلام الذي اختار اسم الإسلام وملة الإسلام كان مثلهم يهوديا أو نصرانيا، وقد رد الله عليهم ذلك أبلغ رد، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:65 ـ 68)

بل لم يكتفوا بإبراهيم عليه السلام.. فقد راحوا ينسبون كل أنبيائهم إلى اليهودية أو النصرانية، كما قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:140)

وقد أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أن أديان كل الأنبياء كانت الإسلام.. وقد ذكر الله وصية يعقوب عليه السلام لأبنائه، فقال: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:133)

الطائفيون والحكماء السبعة (34)

بل أخبر الله عن فرعون أنه عندما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس:90) وفي هذا دليل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى الإسلام، ولم يدعه إلى دين غيره.

قال الحكيم: بورك فيك.. فقد آتاك الله علما بكتابه.. فأجبني: هل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من قبلها.

قال الرجل: أجل.. وقد ورد ذلك في نصوص كثيرة، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتفق على صحته: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) (1)

وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع)، قالوا: فارس والروم؟ قال: (فمن الناس إلا أولئك؟) (2)

قال الحكيم: ألم يخبر الله تعالى عن اليهود والنصار أنهم اختلفوا، وعوقبوا باختلافهم، حيث ألقيت بينهم العداوة والبغضاء؟

قال الرجل: أجل.. وقد ورد ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى في حق النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]، ومنها قوله في حق اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري.

الطائفيون والحكماء السبعة (35)

قال الحكيم: وهل أخبر الله تعالى عن سبب ذلك؟

قال الرجل: أجل.. لقد كان سبب ذلك تضييعهم للمواثيق التي عاهدوا الله عليها.

قال الحكيم: فهل نص الله تعالى على تلك المواثيق؟

قال الرجل: أجل.. وذلك في مواضع من القرآن الكريم.. منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83]

قال الحكيم: ومن أهم تلك المواثيق ما نص عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]

قال الرجل: أجل.. فهذه الآية تنص على بعض تلك المواثيق.

قال الحكيم: فهل أخذ على هذه الأمة من المواثيق ما أخذ على اليهود والنصارى؟

قال الرجل: أجل.. فكل ما ورد في القرآن الكريم من وصايا هي مواثيق الله التي أخذها على هذه الأمة.

قال الحكيم: أليس منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) (1

قال الرجل: بلى.. ذلك صحيح، فتلك من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة؟

قال الحكيم: ألا ترون أنكم تخالفون هذه الوصية، وتقعون فيما وقعت فيه الأمم من قبلكم من حرب بعضها لبعض؟

قال الرجل: لكن حروبهم لم تكن مشروعة.. وحربنا مشروعة، لأننا نحارب من

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (36)

ابتدع في الدين، وراح يحرفه.

قال الحكيم: لكني رأيت جميعكم أنتم وهم تصلون وتصومون وتزكون وتحجون.. وجميعكم تشهدون أن لا إله إلا إلله وأن محمدا رسول الله.. وجميعكم تقرون بالقيم العظيمة التي جاء القرآن الكريم بالدعوة إليها.. ألا يكفي هذا كله لوحدتكم؟

قال الرجل: لا.. لا يكفي هذا كله.. فقد وضع سلفنا الصالح الكثير من نواقض الإيمان، والتي قد يقع فيها من ذكرت من الناس.. بل لا يقع فيها في العادة إلا من كثرت عبادته.

قال الحكيم: أترغبون عن نواقض الإيمان التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نواقض الإيمان التي وضعها مشايخكم؟

قال الرجل: وهل وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نواقض للإيمان؟

قال الحكيم: وهل يمكن أن يكمل دين قبل أن تسيج بالسياج الذي يحميه.

قال الرجل: فهلا ذكرت لي ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحكيم: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي تصححونه، وتتفقون على تصحيحه: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته) (1)

وفي حديث آخر أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل نجد، ثائر الرَّأس، يُسمع دويُّ صوتِه، ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يَسألُ عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمسُ صلواتٍ في اليوم واللَّيلة)، فقال هل عليَّ غيرها؟ قال: (لا، إلاَّ أن تَطوَّع)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وصيام رمضان)، قال هل عليَّ غيرُه؟ قال: (لا، إلاَّ أن تَطوَّع)، قال: وذَكَر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة، قال هل عليَّ غيرها؟ قال: (لا، إلاَّ أن تَطوَّع)، قال: فأدبر الرجل وهو

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (37)

يقول: والله لا أَزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أَفْلحَ إنْ صَدَق) (1)

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس صلوات كتبهنَّ الله على العباد، مَن أتى بهنَّ لم يُضيِّع منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقهنَّ، كان له عند الله - تبارك وتعالى - عهد أن يُدخلَه الجنة، ومَن لم يأتِ بهن، فليس له عندَ الله عهد، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له) (2)

قال الرجل: لكن هذا الحديث كما نص مشايخنا مخصص عمومه، ومقيد مطلقه.. ولذلك يمكن أن يقع في الكفر والبدعة والشرك من فعل كل هذه الأمور.. وقد كتب بعض مشايخنا في ذلك رسائل كثيرة تبين أن تلك الطائفة التي نحاربها قد وقعت في الشرك.. ولا ينفع مع الشرك طاعة.

قال الحكيم: لكني سمعتهم يشهدون أن لا إله إلا الله.. فكيف يكون مشركا من يقولها؟

قال الرجل: من وقع في نواقضها وقع في الشرك، وأصبح مرتدا.. وحل دمه بذلك.

قال الحكيم: لكنه إن تأول ذلك.. أو اعتقد أن ما هو فيه ليس شركا.. وكان له برهان على ذلك.. وكان له من العلماء من يسانده.. ألا ينفعه كل ذلك لتعذروه؟

قال الرجل: لا.. لا ينفعه كل ذلك.. بل هو مشرك.. بل هو أشد كفرا من اليهود والنصاري كما نص على ذلك علماؤنا.

قال الحكيم: فهل تعرف حديث الذي طلب من أهله أن يحرقوه إن هو مات؟

قال الرجل: أجل.. وكيف لا أحفظه وهو في صحيح البخاري ومسلم اللذين أجمعت الأمة على صحتهما.. ولا يرد أحاديثهما إلا زنديق.

قال الحكيم: فهلا رويته لي.

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.

الطائفيون والحكماء السبعة (38)

قال الرجل: أجل.. ولدي سند طويل به، وأجازني في روايته مشايخي الكبار.. ونصه هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا متّ، فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. فلما مات فُعِل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم. فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك. فغفر له) (1)

قال الحكيم: بورك فيك وفي حفظك.. أخبرني وكن صادقا.. لو أن هذا الرجل وقع بين أيديكم، فبم تحكمون عليه؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: لا شك أنكم ستحكمون عليه بالكفر، لأنه أنكر قدرة الله، أو تصور الله عاجزا عن أن يجمع ذراته.

قال الرجل: أجل.. ولكن لجهله عذره الله سبحانه وتعالى.

قال الحكيم: فلم لا تعذرون خلق الله.. فالله هو الذي يعلمهم وهو الذي يربيهم.. وهو الذي ينقلهم من حال إلى حال إلى أن يرتقوا في سلم الكمال الذي كتبه الله لهم.

قال الرجل: إذا فعلنا ذلك.. فستغرق هذه الأمة في متاهات الضلالة، ولن تبقى فيها أي فرقة ناجية.

قال الحكيم: ألم يعطنا الله تعالى صفات الفرقة الناجية، بل الفالحة، بل الفائزة بعز الأبد؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: بلى.. وقد نص على ذلك في مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (39)

فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]

انظر كيف أخبر الله تعالى أن أولئك الذين اتصفوا بتلك السعادة لم ينجوا فقط، وإنما نالوا الفردوس الأعلى.

قال الرجل: ذلك صحيح.. والآيات الكريمة صريحة في ذلك.

قال الحكيم: فهل تراكم أنتم وهؤلاء الذين تحاربونهم تختلفون في تلك المعاني التي وردت بها تلك الآيات؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: أنا أعرفكم جميعا، وقد خالطتكم جميعا، ولا أحد منكم ولا منهم ينكر معنى من تلك المعاني.. فكلهم يؤمنون بالصلاة والزكاة والأمانة..

رمى رجل من القوم سيفه، وقال: صدقت.. لقد تذكرت الآن الكثير من الأحاديث التي كان يجتهد مشايخ السوء الذين ملأوا قلوبنا بالأحقاد كي ننساها، حيث كانوا يؤولونها تأويلا عجيبا، فلا نخرج منها بشيء..

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من قال: لا إله إلا الله) (1) وأتذكر ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لبعض مشايخي، وحدثته بهذا الحديث، وأنا في غاية السرور، لكنه انتهرني.. ثم أخذ يسرد علي فتاوى العلماء التي تحرم الصلاة وراء جميع المخالفين لنا، بل تجعل صلاتنا خلفهم باطلة (2).

ومن تلك الفتاوى ما أفتى به بعضهم، قال: (الصلاة خلف المبتدع فيها تفصيل، فإذا كان مبتدعاً بدعة مكفرة كالجهمية؛ فهذا لا يُصلى خلفه، والمعتزلي الذي يؤول صفات الله

__________

(1) تاريخ بغداد: 6/ 403

(2) انظر تلك الفتاوى في كتابنا [التراث السلفي تحت المجهر] من هذه السلسلة.

الطائفيون والحكماء السبعة (40)

والخوارج لا يُصلى خلفهم، أمَّا إذا كانت بدعته خفيفة لا تفضي إلى الشرك فالأمر في هذا سهل، ولكن إذا تيسر إزالته والتماس إمام من أهل السنة؛ فهذا أمر واجب، ولكن إذا دعت الضرورة أن يُصلى خلفه، كالتي بدعته لا تكفره كالعاصي فهذا يصلى خلفه ما دام مسلماً) (1)

ثم بين لي أن هذه الفتوى تستدعي ألا أصلي خلف أحد من الناس سوى أصحابنا، لأن الأمة جميعا أصبحت جهمية.. لأنها جميعا لا تقول بإثبات اليدين والعينين والرجلين والحقو والضرس لله..

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكما.. لقد ذكرتماني بحديث أنستنيه الأيام ومشايخ السوء، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه) (2)، وفي رواية أخرى: (كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن أكفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب) (3)

فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضابطا واحدا لإدخال المؤمن في الدين، وحماية عرضه من التكفير، وهو قول لا إله إلا الله.. أو هو التوجه للقبلة في الصلاة.. وهي محل اتفاق بين المسملين جميعا.

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بحديث خطير لكأنه يحكي واقعنا تماما.. كان مشايخ السوء يكتمونه بكل ما أوتوا من صنوف الحيل.. فإذا ما عجزوا راحوا يحرفونه عن معناه.. وهو ما رواه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك)،

__________

(1) الفتوى للشيخ ابن باز، انظر: نور على الدرب 364 ب د 25.

(2) ابن أبي الدنيا في الصمت.

(3) رواه الطبرانى.

الطائفيون والحكماء السبعة (41)

قال حذيفة: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟، قال: (بل الرامي) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بأحاديث كثيرة للسلف الذين ندعي انتسابنا إليهم.. منها أن رجلا سأل جابرا: هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله، ففزع لذلك، قال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا (2).

وعن يزيد الرقاشي أنه قال لأنس بن مالك: يا أبا حمزة! إن أناسا يشهدون علينا بالكفر والشرك، قال: أولئك شر الخلق والخليقة (3).

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بعمرو بن مرة الجملي، فقد ذكره مسعر بن كدام، فقال: (ما أدركت من الناس من له عقل كعقل ابن مرة، جاءه رجل فقال: ـ عافاك الله ـ جئت مسترشداً، إنني رجل دخلت في جميع هذه الأهواء فما أدخل في هوى منها إلا القرآن أدخلني فيه ولم أخرج من هوى إلا القرآن أخرجني منه حتى بقيت ليس في يدي شيء، فقال له عمرو بن مرة: الله الذي لا إله إلا هو جئت مسترشداً؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد جئت مسترشداً. قال: نعم أرأيت هل اختلفوا في أن محمداً رسول الله وأن ما أتى به من الله حق؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في القرآن أنه كتاب الله؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في دين الله أنه الإسلام؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنها قبلة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنها خمس؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في رمضان أنه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الحج أنه بيت الله الذي يحجونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الغسل من الجنابة أنه واجب؟ قال: لا. قال مسعر: فذكر هذا وأشباهه، ثم قرأ: {هُوَ

__________

(1) رواه بن حبان في صحيحه: 1/ 282. ورواه البخاري في التاريخ الكبير (2907)، والبزار (2793)، قال ابن كثير: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وحسنه الألباني في الصحيحة (3201)

(2) رواه أبو يعلى والطبراني في (الكبير).

(3) رواه أبو يعلى.

الطائفيون والحكماء السبعة (42)

الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فهل تدري ما المحكم؟ قال: لا، قال: فالمحكم ما اجتمعوا عليه والمتشابه ما اختلفوا فيه شد نيتك في المحكم وإياك والخوض في المتشابه. فقال الرجل: الحمد لله الذي أرشدني على يديك فوالله لقد قمت من عندك وإني لحسن الحال. قال: فدعا له وأثنى عليه (1).

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتوى للشوكاني يقول فيها: (اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن (من قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما)... ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير) (2)

وبفتوى للباقلاني يقول فيها: (ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون على أنه لايوجد إلا من كافر، ويقوم دليل على ذلك، فيكفر) (3)

وبفتوى لابن الوزير يقول فيها: (في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط.. أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، نعوذ بالله من الخطأ في الجميع، ونسأله الإصابة والسلامة والتوفيق والهداية) (4)

ويقول: (وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين، وجماهير العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية، وتكثير العدد بهم، وبين إدخالهم في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهله، وتقوية أمره، فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارَضة

__________

(1) أحسن التقاسيم ص 366.

(2) السيل الجرار (4/ 578).

(3) فتاوى السبكي (2/ 578).

(4) إيثار الحق على الخلق (405).

الطائفيون والحكماء السبعة (43)

بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة، ويقوي الإسلام، ويحقن الدماء، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق، وتجتمع عليه الكلمة، وتحقق إليه الضرورة) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتوى للغزالي يقول فيها: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأِ في سفك محجمة من دم مسلم) (2)

ويقول: (الوصية: أن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، غير مناقضين لها... فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه) (3)

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتاوى كثيرة لإخواننا من الإمامية يجمعون فيها على عدم تكفير المسلمين، وبيان حرمتهم، وحرمة دمائهم وأعراضهم.

ومنها فتوى السيّد علي الخامنئي التي يقول فيها: (الفرق الإسلامية بأسرها تعتبر جزءاً من الأمة الإسلامية، وتتمتع بالامتيازات الإسلامية، وإيجاد الفرقة في ما بين الطوائف الإسلامية يعد خلافاً لتعاليم القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يؤدي إلى إضعاف المسلمين وإعطاء الذريعة بأيدي أعداء الإسلام، ولذلك لا يجوز هذا الأمر قط)

ومنها فتوى السيد علي السيستاني التي يقول فيها: (كلّ من يشهد الشهادتين، ولم

__________

(1) إيثار الحق على الخلق (402).

(2) الاقتصاد في الاعتقاد (223 - 224).

(3) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (128).

الطائفيون والحكماء السبعة (44)

يظهر منه ما ينافي ذلك، ولم ينصب العداء لأهل البيت، فهو مسلم)

ومنها فتى السيّد محمد سعيد الحكيم التي يقول فيها: (يكفي في انطباق عنوان الإسلام على الإنسان الإقرار بالشهادتين والفرائض الضرورية في الدين، كالصلاة وغيرها، وبذلك تترتب عليه أحكام الإسلام من حرمة المال والدم وغيرها)

ومنها فتوى السيّد حسين إسماعيل الصدر التي يقول فيها: (إنّ المذاهب واقع إسلامي لا بدّ أن ينظر إليها بكل احترام وتقدير، ولا بدّ لأتباعها الاقتداء بها؛ وفقاً لقاعدة الإلزام).

ومنها فتوى الشيخ بشير النجفي التي يقول فيها: (كلّ من يقرّ بالتوحيد، ويعتقد بنبوة محمد بن عبد الله، وأنّ رسالته خاتمة النبوات والرسالات الإلهية، وبالمعاد، ولا يرفض شيئاً مما علم وثبت أنّه من الإسلام، فهو مسلم، تشمله الأحكام الإسلامية، وهو محقون الدم والعرض والمال، ويجب على المسلمين جميعاً الدفاع عنه وعن ماله وعرضه، والله العالم)

وكل هؤلاء مراجع معتبرون عند إخواننا الإمامية.. وكل كتبهم تنص على ذلك، وتدعو إليه.

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بفتاوى المتنورين من علماء الأمة المعاصرين، من أمثال شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي قال في فتوى من فتاواه المهمة التي كان مشايخ السوء يجتهدون في الرد عليها: (إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتبّاع مذهب معين، بل نقول: إن ّ لكل مسلم الحقّ في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدونّة أحكامها في كتبها الخاصّة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ـ أيّ مذهب كان ـ، ولا حرج عليه في شيء من ذلك. فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخصلوا من العصبية لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كنت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون ومقبولون

الطائفيون والحكماء السبعة (45)

عند الله تعالى، يجوز لمن هو أهلٌ للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقهم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات)

ومنها فتوى الشيخ أحمد كفتارو التي يقول فيها: (لا يجوز تكفير أحد من أهل القبلة متى نطق بالشهادتين؛ فإنّ ذلك يعصم ماله ودمه)

الطائفيون والحكماء السبعة (46)

ثالثا ـ التسليم

قام الحكيم الثالث بين الصفين، وقال: أجيبوني يا من لا تزالون تحملون سيوفكم.. هل يمكن أن تقوم العبودية.. وكل القيم الإيمانية والروحانية والإنسانية من غير اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قالوا جميعا بصوت واحد: ذاك مستحيل..

قال أحدهم: يستحيل أن يخطو أحد خطوة واحدة في الطريق المستقيم، وهو يخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: لقد ذكر لله تعالى ذلك، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]

قال آخر: وذكر تعالى ذلك في الآية التي تليها، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]، فقد قرن طاعة لله بطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. واعتبر التولي عنهما كفرا.

قال آخر: وذكر تعالى ذلك، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فالله تعالى يقسم في هذه الآية على أن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إلى الرسول، ومن ماثلهم من المنافقين، لا يؤمنون إيمانا حقا إلا إذا كملت لهم ثلاث خصال: أن يحكموا الرسول في القضايا الني يختصمون فيها، ولا يبين لهم فيها وجه الحق.. وألا يجدوا ضيقا وحرجا مما يحكم به، وأن تذعن نفوسهم لقضائه إذعانا تاما دون امتعاض من قبوله والعمل به، لأنه الحق وفيه الخير.. وأن ينقادوا ويسلموا لذلك الحكم، موقنين بصدق الرسول في حكمه، وبعصمته عن الخطأ.

الطائفيون والحكماء السبعة (47)

قال الحكيم: شكرا لكم.. فأنتم معي إذن في أنه لا يمكن لأحد أن يشرب من نهر الحقيقة إلا إذا سقاه منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قالوا: أجل..

قال الحكيم: أجيبوني بعد هذا.. ما وجه علاقة المؤمن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. هل هي علاقة ند بند.. أم علاقة تابع بمتبوع؟

قال رجل من الحاضرين: بل هي علاقة تابع بمتبوع.. فمن ذا يمكنه أن يصل إلى ذلك المقام المحمود والدرجة الرفيعة التي أعطاها لله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال آخر: إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو (خاتم الأنبياء.. وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر في إتيان الرب لفصل القضاء، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه، فيكون هو المخصوص به) (1)

قال آخر: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، فالله تعالى يخبر في هذه الآية (أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم، عليه السلام، إلى عيسى، عليه السلام، لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته) (2)

__________

(1) تفسير ابن كثير (2/ 68)

(2) تفسير ابن كثير (2/ 67)

الطائفيون والحكماء السبعة (48)

قال آخر: وقد ورد في الحديث ما يؤكد ذلك، فقد روي أن بعض الصحابة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إنى مررت بأخ لى من بنى قريظة، فكتب لى جوامع من التوراة. ألا أعرضها عليك؟ فقال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً. قال: فسرى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (والذى نفس محمد بيده، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتمونى لضللتم، أنتم حظى من الأمم، وأنا حظكم من النبيين) (1)

قال آخر: وورد في حديث آخر: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله، لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني) (2)

قال الحكيم: فأنتم متفقون على هذا إذن؟

سكتوا جميعا، فقال: أجيبوني بعد هذا.. ما تقولون في شخص يقر بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسوله ونبيه.. ولكنه في نفس الوقت يزعم أن لله تعالى أعطاه من الصلاحيات ما لم يعط رسوله؟

نهض أحدهم، وشهر سيفه، وقال: دلني عليه.. فوالله لأطعننه بسيفي هذا؟

قال الحكيم: هل توافقونه على هذا؟

قالوا جميعا: أجل.. فليس لمثل هذا إلا القتل.

قال الحكيم: ألا يدعوكم هذا إلى البحث في صلاحيات ووظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا تتجاوزونها؟

قالوا جميعا: بلى.. ونحن نفعل ذلك.

__________

(1) روه أحمد: 4/ 265.

(2) أحمد 3/ 338.

الطائفيون والحكماء السبعة (49)

قال الحكيم: أرجو أن تكون الدعاوى مطابقة للأفعال.. هلم بنا نبحث فيما نص عليه القرآن الكريم من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنرى هل أنتم ونحن نتبعه فيها.. أم أننا نضيف لأنفسنا من الوظائف ما لم يضفه لله لببيه صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال أحدهم: كلامك صحيح.. ولكن هناك شيء ربما غاب عنك.. أو تعمدت إخفاءه.. وهوأن ذكر بعض الوظائف لا يعني التحديد أو التقييد.. فإذا وصفت شخصا ما بكونه معلما لا يعني هذا كونه معلما فقط.

قال الحكيم: صدقت.. ولهذا أحتاج إلى دليلين: الأول: هو بيان وظائف رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم التي نص عليها القرآن الكيم.. وبيان الوظائف التي لم يكلف بها رسول لله.. فهل ترون هذا كافيا؟

قالوا: بلى..

قال الحكيم: إذن.. هيا ضعوا سيوفكم.. وافتحوا مصاحفكم، وانظروا فيما أقرؤه عليكم من القرآن لتروا وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتستنوا به في اتباعها.

قال رجل منهم: مصاحفنا في صدورنا.. أما سيوفنا فلن نضعها حتى نغمدها في صدور أعداء الله ورسوله.

قال الحكيم: ما دمتم تحفظون القرآن، فأجيبوني.. هل هناك آيات من القرآن الكريم تحدد وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإخوانه من الرسل؟

قال رجل منهم: الآيات في ذلك كثيرة، ولي بحث مفصل فيها، ومنهاقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، وقد أكد ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]

الطائفيون والحكماء السبعة (50)

قال الحكيم: فما الوظائف الني تنص عليها هاتين الآيتين الكريمتين؟

قال الرجل: أولها التزكية.. وهي تطهير نفوس الناس من كل الانحرفات العقدية والسلوكية.. وتظهير المجتمع من كل الموبقا ت والرذائل..

قال آخر: وثانيها تعليم الكتاب والحكمة، ليدركوا حقائق الأمور.. ويسيروا وفق ما تقتضيه..

قال الحكيم: فهل مارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوظائف؟

قال رجل من القوم: أجل.. وكيف لم يمارسها، وقد سخر حياته كلها لتحقيقها.. وقد ورد في الحديث عن جعفر بن أبي طالب لما سأله نجاشي الحبشة عن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا رسولا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كان يعبده آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة وأن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام) (1)

قال الحكيم: فهل حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوطا أو عصا أو سيفا ليلزم الناس بما أمره الله به؟

قال رجل من القوم: كلا.. فرسول لله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يفعل ذلك..

قال الحكيم: فهل كان له أن يفعل ذلك، وتركه.. أم أن الله نهاه عن ذلك؟

قال زجل من القوم: إن شئت الصدق.. فإن الله تعالى هو الذي نهاه عن ذلك..

__________

(1) أحمد 1/ 201 (1740).

الطائفيون والحكماء السبعة (51)

وأخبره أنه ليس عليه إلا البلاغ.

قال الحكيم: وقد ورد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم مكيه ومدنيه حتى لا يزعم أحد أنه من الآيات المنسوخة.. قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]

وقال تعالى في سور المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم، وقدكان للسلمين قوة وشوكة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]

وقبل ذلك قال تعالى في سور النحل المكية: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 82]

رمى رجل من القوم سيفه، وقال: صدقت.. وقد قال تعالى في سورة الرعد يحدد وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدقة: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]

إن هذه الآية الكريمة كافية في الدعوة إلى رفع الوصاية على الخلق في مسائل الإيمان والعبادة.. فالله تعالى أخبر أشرف خلقه وأكرمهم عليه أنه ليس عليه إلا البلاغ.. أما الحساب، فيتولاه الله تعالى.

لكنا نحن.. ولتعدينا حدودنا.. خالفنا أوامر الله فادعينا أننا نبلغ ونحاسب ونعاقب ونعذب ونذبح ونفعل كل الموبقات..

لقد نفخ فينا المشايخ الذين ابتعدوا عن هدي القرآن الكريم هذا المعنى حين كانوا يرددون بيننا كل حين فتاوى القتل والذبح التي مارسها الطغاة باسم الإسلام..

أذكر جيدا أن بعضهم حكى لنا ما فعله الظالم المستبد خالد القسري الذي كان واليا

الطائفيون والحكماء السبعة (52)

علي العراق لهشام بن عبدالملك، الذي ذبح الجعد بن درهم بعد أن خرج به إلي مصلي العيد بوثاقه ثم خطب الناس وقال: (أيها الناس! ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسي تكليما) (1)، ثم نزل وذبحه.

ثم أثنى على سلوكه هذا فقال معقبا على ثناء ابن تيمية عليه: (جزاه الله خيرا، فالناس يضحون بالغنم والشاة والمعز والبعير والبقر.. وهذا ضحي بشر منها، فإنه شر من الإبل والغنم والحمير والخنازير، لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، ويقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وإني أسأل الآن: البعير عن سبع، والبقر عن سبع، وهذا الرجل عن كم.. عن آلاف آلاف وقي الله شرا كبيرا، لكن بعض الناس _ والعياذ بالله_ يقولون إن هذا العمل من خالد بن عبد الله القسري ليس دينا، ولكنه سياسي، ونقول لهم هذا كذب، لأن الرجل صرح أمام الناس أنه قتله من أجل هذه البدعة) (2)

رمى آخر سيفه، وقال: صدقت يا أخي، وأعتذر لكل من رفعت سيفي في وجوههم.. لقد سمعت لتوي قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 21 - 26]، فالله تعالى في هذه الآيات الكريمة يحدد وظائف رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم بدقة.. وأن أمر عباد الله بيد الله، لا بيد أحد من خلقه.

رمى آخر سيفه، وقال: أليس هذا هو الشرك الذي كانوا يحذروننا منه كل حين.. إنهم يريدون منا أن نتولى أمرا هو لله، وليس لنا.. فالهداية من الله، والجزاء لله، قال تعالى:

__________

(1) البخاري في (خلق أفعال العباد) ص 69.

(2) هذا الكلام للشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح العقيدة الواسطية.

الطائفيون والحكماء السبعة (53)

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، فالله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية: (إنك لا تستطيع هداية من أحببت أنت هدايته، وليس ذلك إليك، وإنما أنت رسول عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، والله أعلم بمن اهتدى، وبمن ضل سواء السبيل).. لكنا نحن تصورنا أننا بسيوفنا ورماحنا نستطيع أن نغرس الهداية في قلوب الناس.

رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. وبورك فيكم جميعا.. لقد ذكرتموني بآيات كثيرة يخبرنا الله تعالى فيها أنه وحده من يحكم بين عباده فيما اختلفوا فيه، وأن ذلك مؤجل إلى الآخر.. كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113]

الطائفيون والحكماء السبعة (54)

رابعا ـ التقوى

قام الحكيم الرابع بين الصفين، وقال: لقد حدثكم أصحابي عن العبودية والإسلام والتسليم.. وأنا سأحدثكم عن قيمة من القيم العظيمة التي لا يمكن تذوق الإيمان، ولا تحققه من دونها.. لا شك أنكم تعرفونها.. إنها تلك التي علق الله الانتفاع بالقرآن الكريم، والفوز بهدايته عليها.

قال رجل من القوم: لا شك أنك تقصد التقوى، فهي التي قال الله تعالى في شأنها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1]

قال الحكيم: أجل.. وقد ربط الله تعالى معيته بأهلها، فقال: {وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] وقال: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128]..

وهي التي أعد الله المكانة الرفيعة لأهلها، فقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، قال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران:15]، وقال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]..

وهي التي وعد الله أهلها بأن يكشف لهم من أنوار الحقائق ما يزيل به عن عيونهم عمش الضلالة، فقال: {وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]

قام رجل من القوم، وقال: أراك تريد أن تخطب علينا خطبة عن التقوى.. فوفر عن نفسك عناء ذلك.. فنحن نحفظ كل ما ورد حولها في القرآن الكريم والسنة المطهرة.. ونضم إلى ذلك ما قاله أعلامنا الأعلام ممن لم تسمع به أنت ولا أمثالك.

فنحن نعلم أن الجنة تسعى وتتقرب للمتقين، كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ

الطائفيون والحكماء السبعة (55)

لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90]، وقال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]

ونعلم أن المتقين لهم في الجنة غرف مبنية من فوقها غرف، يُرى ظاهِرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، كما وعد الله تعالى بذلك، فقال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله الْمِيعَادَ} [الزمر:20] وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]

ونعلم أن المتقين لا يمسّهم العذاب، قال تعالى: {وَيُنَجِّي الله الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61]

ونعلم فوق ذلك كله أن أشرف جائزة ينالها المتقون هي محبة الله لهم، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76]

قال الحكيم: بورك فيك.. وفي حفظك للقرآن الكريم، وفهمك له.. فهلم أجبني عن حقيقة التقوى.. وكيف نسير بها في حياتنا لننال كل تلك الأجور المعدة لأهلها؟

قال الرجل: ذلك من أوضح الواضحات.. فقد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة التقوى، ومنهج التحقق بها، فقال: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينها أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا ولكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) (1)

فهذا الحديث الشريف يبين حقيقة التقوى، وهي توقي الحرام والشبهات وكل ما يؤدي إليهما.. ويبين أن التحقق بذلك كله متوقف على صلاح القلب.

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (56)

قال الحكيم: بورك فيك.. وفي فهمك عن نبيك.. فحدثني عن كيفية تحقيق ذلك في الواقع.. وهل يمكننا أن نقدم على أمر دون أن نعلم حكم الله فيه؟

قال الرجل: تلك هي الضلالة بعينها، فالتقوى تستدعي تقديم الله ورسوله.. وألا نفعل شيئا قبل أن نعلم حكم الله فيه.. كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]

قال الحكيم: فهيا بنا نطبق ذلك على ما أنتم فيه.. فهل ترون أن التقوى تدعوكم لقتل بعضكم بعضا؟

قام رجل، وسل سيفه، وهو يقول: أجل.. فلولا التقوى ما خرجنا من ديارنا، فقد سمعنا أن هؤلاء حرفوا ديننا، وابتدعوا فيه بدعا عظيمة.. ونحن ما خرجنا إلا لقتالهم لنقتل معهم بدعهم وضلالاتهم.

قال الحكيم: فهل عرضتم هذا على الله ورسوله قبل أن تقدموا عليه؟

قال الرجل: أجل.. لقد عرضناه.. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال الحكيم: لكن هذا الحديث يتوعد صاحب البدعة بالنار.. ولم يتوعده بالقتل.. فكيف تريد أن تجمع له العقوبتين؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: أخبروني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل قتل المبتدعة الذين عاشوا في زمانه.

قال الرجل: لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبتدعة.. ولذلك ترك الحكم في حقهم للاجتهاد.. وقد نص علماؤنا الثقاة على قتل المبتدعة، بل دعونا إلى جز رؤوسهم ورميها في

الطائفيون والحكماء السبعة (57)

المزابل.

قال الحكيم: ألم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منافقين؟

قال الرجل: بلى.. لقد كان هناك منافقون، وقد حدثنا القرآن الكريم عن أخبارهم.

قال الحكيم: فهل كان هؤلاء المنافقون معروفين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أم كانوا متسترين مجهولين؟

قال الرجل: بل كانوا معروفين.. وكان أكثرهم يجهر بنفاقه، ولا يسر به كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 5 - 8]

قال الحكيم: فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من جهر بهذا، وراح يثير بين المسلمين الفتنة بسببه.. هل استتابهم، أو قتلهم؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: ألم تكن أقوالهم تلك أخطر من كل بدعة وضلالة وقع فيها من تحاربونهم؟

قال الرجل: لا.. هؤلاء أشد خطرا.

قال الحكيم: فهم إذن سينزلون يوم القيامة أسفل من درك المنافقين.

قال الرجل: ويلك.. أتريد أن تكذب كتاب الله.. لقد أخبر الله تعالى أن درك المنافقين هو أسفل الدركات.. وليس دونه أي درك آخر.. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]

الطائفيون والحكماء السبعة (58)

قال الحكيم: بورك فيك.. لكني تمنيت لو قرأت الآيات التي تليها.. أم أنك لا تحفظها؟

قال الرجل: بلى أحفظها عن ظهر قلب، وبالقراءات العشر.. فقد قال تعالى بعد تلك الآية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146]

قال الحكيم: فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزلت عليه هذه الآيات يجمعهم ليستتيبهم.. أم يترك ذلك لهم؟

قال الرجل: ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه استتاب أحدا من المنافقين..

قال الحكيم: وهل يمكن لشخص أن يتوب تحت الضغط.. إنه سيمارس نفاقا جديدا يغطي به النفاق القديم؟

رمى بعض القوم سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه ابن هشام فى تأريخه لغزوة (أحد)، فقد ذكر أن جيش المسلمين اجتاز حديقة لأحد المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثى التراب فى وجوه المسلمين، ويقول للنبى صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى (أى بستانى)، وأخذ حفنة من تراب فى يده، وقال: (والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك)، فابتدره القوم، فقال لهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتلوه.. ويشهد الله أن الذين نحاربهم ما قالوا مثل هذا، ولا دونه.. بل إنهم يعظمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجلونه ويفدونه بأرواحهم وأنفسهم.. فكيف تجرأنا على سل سيوفنا عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلمعن سلف السيف على من سبه وآذاه.. أفنحن أتقى لله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع عبد الله بن أبى بن أبى سلول زعيم المنافقين، مع أنه قال تهديدا لرسول

الطائفيون والحكماء السبعة (59)

الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وقال غير ذلك كثير.. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتله.. ولم يعاقبه.. بل كان يقول مخاطبا من يريد قتله: (كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟)

وفوق ذلك كله، ورغم تاريخه الطويل في النفاق إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزوره كل حين في مرض موته رجاء أن يسلم.. وقد روي أنه دخل عليه، فقال له: (قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ)، فقال عبد الله بن أُبي معاندا إلى آخر لحظة: (قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فما نفعه؟)

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم عندما مات صلى عليه، وكان يصلي على المنافقين حتى نزل قوله تعالى ينهاه عن ذلك: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلب منه عدم الصلاة عليه: (إنى قد خُيرت فاخترت، قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم. فلو أعلم أنى زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلى عليه النبى ومشى فى جنازته حتى قام على قبره، فنزل قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}.. فما صلى بعدها على منافق.

رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه ابن هشام من أن بعض المنافقين استهزأ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج بالجيش لمواجهة الروم فى غزوة تبوك وتوقعوا أن يأسر الروم الرسول والمسلمين وعرف النبى صلى الله عليه وآله وسلم بمقالتهم، فجاءوا إليه يعتذرون، ويقولون: يا رسول الله كنا نخوض ونلعب، فنزل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]، ولم يتعرض لهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (60)

رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه المؤلفون في أسباب النزول من أن نفرا من المنافقين اجتمعوا، وأخذوا يسبون النبى صلى الله عليه وآله وسلم وعندهم غلام من الأنصار اسمه عامر بن قيس، فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن أشر من الحمير، فأتى عامر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فاستدعاهم وسألهم فحلفوا له أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كاذبون وقال: (اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق من كذب الكاذب)، فنزل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61]، ومع ذلك.. ومع عظم مقولتهم إلا أنه لم يفعل لهم شيئا.. بل تركهم بين قومهم يسرحون ويمرحون.

رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما روي أنه خرج بعض المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك فكانوا إذا خلوا إلى بعضهم سبوا الرسول وطعنوا فى الدين، فنقل ما قاله حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم النبى صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئاً.. فنزل قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 74]

بل روى النيسابورى في قوله تعالى: {وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} أن بعضهم تآمر على قتل النبى صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة.. ومع ذلك كله لم يفعل لهم شيئا.

رمى آخر سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي ما رواه النيسابورى من روايات فى سبب نزول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ

الطائفيون والحكماء السبعة (61)

اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]، ومنها أنها نزلت فى معركة انهزم فيها المشركون، وهرب منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين، فلما غشيه بالسلاح قال الهارب: إنى مسلم إنى مسلم، فكذبه وقتله وأخذ متاعه فقال له النبى صلى الله عليه وآله وسلم: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل، فقال له الرسول: (فهلا شققت عن قلبه، فتنظر أصادق هو أم كاذب؟!) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بحدث عظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أراه منطبقا على أحد من الناس كانطباقه علينا.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) (2)

ثم أخذ يبكي بشدة، ويقول: ويلي.. ويل نفسي.. ماذا فعلت بها.. إن كان هذا الرجل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شتم شخصا واحدا.. أو أشخاصا معدودين، فأنا شتمت ملايير الأشخاص.. وإن كان قد سفك دم واحد.. فأنا كنت أفتي بسفك دم ملايير البشر.. ويلي ماذا أفعل لهم.. وما هي الحسنات التي تكفيهم إن خاصموني عند ربهم.. وويل لي من سيئاتهم إن صبت علي.

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد ذكرتموني بحديث خطير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه مخاطبا أصحابه:: (أتدرون ما الغيبة؟) قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته.

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (62)

وإن لم يكن فيه فقد بهتّه) (1)

وأنا وأصحابي لم نقع في الغيبة فقط، بل كنا نمارس البهتان وشهادة الزور بكل ألوانها.. لقد كان مشايخ السوء يلقنوننا كل حين جواز الكذب على المخالفين لتفير الناس عنهم.. وقد قال لنا بعضهم: مما اتفق عليه جميع أعلامنا الكبار، وأصدروا فيه الفتاوى الكثيرة، جواز استعمال جميع ألوان الحيل والخدعة مع المخالفين، ذلك أن الحرب خدعة.. وقد جرى على هذا المنهج كبار علمائنا كشيخ الإسلام ابن تيمية الذي استعمل هذا مع جميع المبتدعة المخالفين، حتى أنه كان يضعف الحديث الصحيح إذا رأى المبتدعة يستعملونه لحرب السنة..

وأذكر أنني كنت ذات يوم مع بعض مشايخنا، وكان اسمه الشيخ على الخضير، وقد سألته هذا السؤال: (هل يجوز لي أن أقول سوءاً عن شخص مما هو وأمثاله فيه وأنا أعرف أنه فاسق أو عدو للدين؟ وهل يجوز لي أن أقول خيراً عن رجل صالح من أهل الدين والتقوى والجهاد لتخليصه من مشكلة تضره بذاته أو بسمعة الصحوة الإسلامية؟)

فأجابني الشيخ بقوله: (المؤمن أخو المؤمن، ولابد أن ينصره حال طلب النجدة أو عند العلم بحاجته، ومن النصرة مؤازرته ودفع الضرر عنه. ومن ذلك الكذب؛ فالكذب يجوز لنصرة المسلم ولدفع الكافر أو العدو. فقد صح فى الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة ومن المصلحة رفعة المسلم وذلة سواه.. كما تجوز المخادعة للعدو في حال الحرب أو لأجل الحرب فهذا لا خلاف في جوازه، وذلك لحديث الصحيحين، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرب خدعة).. ومعنى المخادعة في الحرب إظهار المكيدة، وحسن التدبير والرأي والتعريض ليظهر للعدو خلاف ما يعده له المسلمون من الكمائن والمكائد.. والخداع هو عمدة الحروب وأساسها وعليه يكون مدار الانتصار، وهو أحد الأسباب الشرعية التي

__________

(1) رواه مسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (63)

ينبغي الأخذ والاعتناء بها.. ومفهوم الحرب في هذه الأحاديث أعم من أن يقصر على نصب القتال والتقاء الصفين وتقابل الزحفين، وإنما يدخل في ذلك أيضا السعي للفتك برأس من رؤوس الكفر والإلحاد والعلمنة والفسق المحادين لله ورسوله.. ومن الحرب حرب الأفكار، وهي أشد من حرب القتال، فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيها لإظهار أهل البدع والشركيات وأهل الفرق الباطلة من روافض وزنادق وأهل علمنة وحداثة وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي لايغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم اللائق بهم.. ولهذا فإنه يجوز لك الكذب والشهادة وتغليظ اليمين لنصرة الدين الإسلامي ونهجه القويم ونصرة أخيك المسلم الصالح ممن يريدون به كيداً؛ وإذلال أهل البدع والضلالات والفرق الفاسدة) (1)

بعد أن سمعت الفتوى، ودهشت لما فيها، قلت: هذه فتوى خطيرة.. فقال لي يطمئنني: هكذا لقننا جميع مشايخنا، وقد كان من مشايخي رجل يقال الفوازان، وقد سألته حينها هذا السؤال: (انتشر اليوم بين الشباب أنه يلزم الموازنة في النقد فيقولون: إذا انتقدت فلانا من الناس في بدعته وبينت أخطاءه يلزمك أن تذكر محاسنه، وهذا من باب الانصاف والموازنة، فهل هذا المنهج في النقد صحيح؟ وهل يلزمني ذكر المحاسن في حالة النقد؟)

فأجابني بقوله: (إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في الامور التي لاتخل بالعقيدة، فنعم، هذا تذكر ميزاته وحسناته، تُغمر زلاّته في نصرته للسنة. أما إذا كان المنتقد من أهل الضلال ومن أهل الانحراف ومن أهل المبادئ الهدامة والمشبوهة، فهذا لايجوز لنا أن نذكر حسناته - اذا كان له حسنات - لأننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع أو هذا الخرافي أو الحزبي، فيقبلون أفكار هذا الضال أو هذا المبتدع أو ذاك المتحزب. والله جل وعلا ردّ على الكفرة والمجرمين والمنافقين

__________

(1) نقلا عن مقال بعنوان: متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية - شبكة المنطقة.

الطائفيون والحكماء السبعة (64)

ولم يذكر شيئا من حسناتهم، وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضلال ولايذكرون شيئا من حسناتهم. لأن حسناتهم مرجوحة بالضلال والكفر والالحاد والنفاق. فلا يناسب انك ترد على ضال، مبتدع، منحرف، وتذكر حسناته وتقول هو رجل طيب عنده حسنات وعنده كذا، لكنه غلط.. نقول لك: ثناؤك عليه أشد من ضلاله، لأن الناس يثقون بثنائك عليه، فإذا روجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فقد غررت بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين) (1)

وانطلاقا من تلك الفتاوى كنت أكذب على طوائف الأمة خلاف طائفتي وأرميهم بالطامات.. ولم أكن أنال على ذلك الكذب والتزوير إلا التشريف والقدير.. فمشايخ السوء لا يحبون ولا يقدرون إلا المزورين والكاذبين.

__________

(1) الأجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة، 1/ 24.

الطائفيون والحكماء السبعة (65)

خامسا ـ العدل

قام الحكيم الخامس بين الصفين، وقال: أجيبوني يا من لا تزالون تحملون سيوفكم.. أليس العدل من الأسس التي يقوم عليها هذا الدين؟

قال أحدهم: بلى.. وهل في ذلك شك؟.. فقد أمرنا الله تعالى بالعدل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]

قال آخر: بل إن الله تعالى أمرنا ألا نراعي في تحقيق العدالة أحدا مهما كان، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]

قال آخر: بل إن الله تعالى اعتبر العدل من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه واجب عليه العمل به، مثلما هو واجب علينا، قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:15]

قال آخر: وقد اعتبر الله تعالى العدل من القيم الكبرى التي يفرق بها بين السائرين على الصراط المستقيم وغيرهم من الضالين والمنحرفين عنه، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76]

قال الحكيم: بورك في حفظكم للقرآن الكريم.. فأخبروني بعد هذا.. ألم يكن ما فعلته قريش من حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإخراجهم من ديارهم ظلما وجورا؟

الطائفيون والحكماء السبعة (66)

قال رجل من القوم: وهل في ذلك شك؟.. لقد مارست قريش كل أنواع الأذى والظلم والجور مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.. وقد أخبر الله تعالى عن ذلك، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]

قال الحكيم: أخبروني بعد هذا.. ألم تكن قريش تعتقد أنها على الدين الحق.. وأن دينها هو دين إبراهيم عليه السلام.. وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذين انحرف عنهم؟

قالوا: بلى.. ذلك صحيح.. ولكن ذلك لم يكن يغني عنها شيئا.. فهي على الدين الباطل.. وليس على الدين الحق.. أم أنك تريد أن تقنعنا أنها على الدين الحق؟

قال الحكيم: معاذ الله أن أقول ذلك.. فأنا مسلم مثلكم.. ولكني باحث عن العدل.. وأتساءل بيني وبين نفسي: إذا كانت قريش تؤمن بدين، وتقتنع به اقتناعا تاما، ثم رأت أن من بينها من خرج عن هذا الدين وارتد عنه.. ألا يحق لها، وهي تدعي أنها على ملة إبراهيم عليه السلام، أن تقيم عليه حكم الردة الذي يقيمه بعضكم على بعض؟

سل الكثير من الرجال سيوفهم غاضبين، وقالوا: ما تقول؟

قال الحكيم: اسمعوني جيدا.. لقد أخبر الله تعالى أن قريشا ظلمت المؤمنين بإخراجهم من ديارهم واستعمال كل الوسائل لإذيتهم.. فلم اعتبرهم ظالمين.. هل لكونهم كفرة، أم لكونهم منعوا المؤمنين من حرية التدين بأي دين شاءوا؟

قال رجل من القوم: بل اعتبرهم ظالمين لكونهم منعوا المؤمنين من حرية التدين بأي دين شاءوا.

قال الحكيم: فأنتم مثلهم في هذا إذن.. بل أنتم أبشع منهم لأنكم جميعا على دين واحد، وإنما اختلفتم في بعض القضايا فقط.. ومع ذلك لم يستطع بعضكم تحمل بعض.

قال رجل من القوم: ولكن ما تقول في الآيات الني وردت في المرتدين؟

الطائفيون والحكماء السبعة (67)

قال الحكيم: اقرأها بعقلك وسمعك.. وأخبرني هل تجد فيها سيوفا أو رماحا؟

قال الرجل: ولكن الله تعالى أخبر عن العقوبات المشددة على المرتدين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 90، 91]

ابتسم الحكيم، وقال: فهل طبقتم ما ورد في هذه الآية الكريمة من عقوبات بخصوص من تختلفون معهم، وتحكمون بردتهم؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: ما لك سكت؟.. أم أنك ترى أن العقوبة المذكورة أعظم من أن يستطيع أحد من الناس تطبيقها..

ثم التفت للجميع، وقال: أنا أتحدى الآن أي شخص فيكم يحمل السلاح أو لا يحمله أن يأتيني بآية قرآنية واحدة تحض على قتال من نختلف معهم في شؤون الدين والعقائد.

إن كل الآيات الكريمة التي وردت في الردة تحصر العقوبة في الآخرة، وليس في الدنيا.

قام رجل من القوم، وقال: فما تقول في الآيات الني تأمر بالقتال والجهاد.. أم أنها منسوخة عندك؟

قال الحكيم: كل القرآن محكم.. ويستحيل أن يأمرنا الله بأن نعبده بما ينهانا عن تنفيذه.. فإن شئت فاقرأ لي منها ما تراه لأخضع له (1)..

قال الرجل: فقد قال تعالى في سور البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ

__________

(1) انظر هذه الآيات وغيرها كثير مع توجيهها كتاب (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية للثيخ حسن بن فرحان المالكي)

الطائفيون والحكماء السبعة (68)

وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} [البقرة: 190 - 194]

قال الحكيم: الآيات واضحة جدا.. وهي صريحة بأنه لا يجوز قتال المشرك لشركه، ولا الكافر لكفره، وإنما يقاتل المشرك والكافر لعداوته ومحاربته المسلمين، كما يشرع قتال الكافر إذا اضطهد المسلمين وأراد فتنتهم عن دينهم..

قال الرجل: فقد قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 216 - 218]

قال الحكيم: الآيات واضحة في دلالتها.. وهي إخبار بسبب مشروعية الجهاد، وهو وجود كفار معتدين أخرجوا المسلمين من ديارهم.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ

الطائفيون والحكماء السبعة (69)

سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 38 - 40]

قال الحكيم: هذه الآيات آيا ت سلام لا حرب، فهي تأمر بقتال المشركين الذين يضطهدون من أسلم منهم ليردوهم عن دينهم عن طريق الإكراه، والأحاديث والسير متواترة في الدلالة على هذا المعنى.

قال الرجل: فلم عبرت عنهم بكونهم كفارا، ولم تعير عنهم بكونهم معتدين؟

قال الحكيم: لتبين أن كفرهم وعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر هو السبب في ذلك الطغيان والعدوان الذي يمارسونه على المستضعفين.. وهناك آيا ت كثيرة تدل على هذا.. والقرآن يفسر بعضه بعضا.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} [الأنفال: 55 - 61]

قال الحكيم: هذه الآيات الكريمة واضحة في الدلالة على أن الجهاد لا يشرع إلا في حق أولئك المعتدين من الكفار الذين ينقضون عهودهم، وليس بعد النقض إلا القتال.. وما تواتر من السيرة يدل على ذلك.

الطائفيون والحكماء السبعة (70)

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة: 1 - 3]

قال الحكيم: هذه الآيات الكريمة ذكرت الأسباب الموجبة لقتال الكفار، وهي محاربة من أراد إخراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من ديارهم، ومن استعدادهم لقتال المسلمين إذا ثقفوهم في أي مكان، فهم أعداء صرحاء، ومحاربون أصليون، وقتالهم ليس من ياب القتال على الدين والعقيدة، وإنما لمحاربتهم.

قال الرجل: فما تقول في قؤله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 8، 9]

قال الحكيم: هذه الآيات من أصرح الآيات الني تذكر أسباب مشروعية الجهاد، وأنه فقط في حق الذين يقاتلون المسلمين على دينهم ليردوهم عنه، ويخرجونهم من دارهم، أو في حق الذين يظاهرون المشركين ويساعدونهم على هذه الأمور.. بل الآيات تأمر بالبر والإحسان للمشركين والكفار الذين لم يظاهروا عليهم عدوا ولم يحاربوهم ولم يخرجوهم من ديارهم.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ

الطائفيون والحكماء السبعة (71)

الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 74 - 75]

قال الحكيم: هذه الآيات واضحة في الدلالة على أن من أسباب تشريع الجهاد محاربة الاضطهاد الديني.. فكفار قريش أو غيرهم إذا اضطهدوا المسلمين دينيا، فالواجب نصرة المستضعفين الذين يجدون أقسى أنواع العذاب لأنهم اختاروا الإيمان يالإسلام ديناً.. وهناك آيات قرآنية أخرى تبين أن الجهاد يجب أن يكون ضد كل مضطهد حق الذين يضطهدون اليهود والنصاى.

قال الرجل: فما تقول في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]، فهذه الآية واضحة في الدلالة على مشروعية الإكراه الديني، ومبادأة الآخرين بالقتال لإدخالهم في الإسلام.

قال الحكيم: لا.. ليس كما فهمت.. فالقرآن لا يضرب بعضه بعضا.. فلا يجوز أن تتناقض هذه الآية مع الآيات الكثيرة الأخرى التي تنهى عن الإكراه في الدين، أو تلك الآيات التي تعلل الجهاد بعلل وجود المحاربين أو المضطهدين غيرهم دينيا.

قال الرجل: فما تقول في تعليل غاية الجهاد بالإسلام، فقد قال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16

قال الحكيم: ليس كما فهمت.. وإلا تناقض القرآن بعضه مع بعض.. وإنما المرد بالإسلام هنا ـ كما هو معهود في اللغة العربية ـ (الإنقياد).. أي: أو ينقادون.

وهذه الآية تشبه الآية التي تتحدث عن الأعراب {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا

الطائفيون والحكماء السبعة (72)

وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]، أي: استسلمنا وانقدنا إلى نظام الدولة العادلة، فإن الإيمان يعني القناعة الداخلية، أما الإسلام فكل من دخل تحت نظام الدولة العادلة، والتزم نظامها فيدخل في مسمى الإسلام بالمعنى العام الذي هو (الانقياد)

قال الرجل: فما تقول في آية السيف، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، وهي الآية الني ذكر سلفنا أنها نسخت كل آيات الرحمة والحكمة والإحسان في القرآن الكريم.

قال الحكيم: اقرأ الآيات من بداية سورة التوبة، وتدبر فيها وستراها منسجمة مع القرآن جميعا.. فالآيات تتحدث عن نوع خاص من المشركين كانوا محاربين، ثم ناكثي عهود، ثم منافقين يتربصون الفرص، ويظاهرون على المؤمنين.

قال الرجل: ها أنت تفسر القرآن بحوادث تاريخية تحصرها فيها.. فما الفرق بين هذا وبين ما يفعله النسخ؟

قال الحكيم: لا. أنا استعنت بالتاريخ.. ولم أفسر القرآن به.. فالقرآن كلام الله.. وحقائقه تدل على سنن الله في خلقه.. وهي تنطبق على المجتمعات جميعا.

قال الرجل: فكيف توجه ما ذكرت من تخصيصات؟

قال الحكيم: هي لا تحتاج لي لأوجهها.. فالقرآن غني بنفسه.. والتخصيص الذي ذكرته موجود في ا لآيات نفسها، فالله تعالى يقول في بداية السورة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1].. فالآيات تتحدث عن نوع خاص، وليست من الآيات الني تسن قانونا عاما كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]

الطائفيون والحكماء السبعة (73)

بالإضافة إلى هذا فإن السياق الذي وردت فيه ما تسميها بآية السيف تدل على الأمر بإجارة المستجيرين من المشركين المحاربين حتى يسمعوا كلام لله، ثم يتم إيصالهم إلى مأمنهم، بمعنى أن يصلوا إلى قومهم المشركين المحاربين، وهذا ظاهر أنه لا دلالة فيه على الإكراه في الدين، وإنما كان سبب القتال هو المحاربة والعداوة من أنوع خاصة من المشركين، وليس الموضوع مسألة إكرإه على الدين، وإلا فكيف يجار المشرك، ثم تتم حمايته إلى أن يبلغ مأمنه، فلو كان الكفر سبب القتال لما كانت هذه الإجار والحماية.

بالإضافة إلى هذا فإن في الآيات استثناء للذين عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام، فأمر الله عز وجل بالاستقامة لهم على العهود وتحريم نقضها، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في محاربين وناقضي عهود ومتآمرين على الدولة النبوية..

ألقى رجل من المحاربين سيفه، وقال: الحمد لله لقد فتح الله علي بسبب قولك هذا ما كان محجوبا عني من سماحة الإسلام وسلامه ورحمته.. لقدكنت أتصور أن القرآن جميعا نسخ بتلك الآية.. ولكني الآن أراها بمنظار آخر.

واسمحوا لي إخواني ممن حملت عليكم سيفي، أو حملتم سيوفكم علي أن أشرح لكم بمثال ما فتح الله علي من فهمها.

إن مثل ذلك مثل مدير مدرسة جمع المشاغبين من الطلاب في المرحلة المتوسطة، والمشاغبين في المرحلة الثانوية، ثم أمر المدير أحد المعلمين أن يستدعي أولياء أمور (طلاب المرحلة المتوسطة)، وأن يخصم الدرجات على (طلاب المرحلة الثانوية)، فإن المراد هنا هو خصم درجات طلاب المرحلة الثانوية (المشاغبين) واستدعاء أولياء الطلاب المشاغبين من المرحلة المتوسطة، وليس خصم درجات كل طلاب الثانوية ولا استدعاء كل أولياء أمور طلاب المتوسطة، فكيف إذا أضاف المدير بالتنصيص على أن من لم يشاغب من طلاب المرحلتين لا يناله خصم درجة ولا استدعاء ولي أمر، وفي سورة التوبة قد أتى الاستثناء

الطائفيون والحكماء السبعة (74)

واضحا، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]

قال رجل من القوم: فما تقول في قوله تعالى في نفس السياق: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، فالآية تشير إلى أن إخلاء سبيل المشركين والكف عنهم لن يتم إلا بالتوبة وإقامة الصلاة إيتاء الزكاة.. أليس في ذلك إكراها؟

قال الحكيم: لا.. وإلا ضرب القرآن بعضه بعضا.. مرد الآية الكريمة هو وصف لمآل هؤلاء بأن من ترك محاربة المسلمين وامتنع عن معاداتهم سيصبح في آخر الأمر مقيماً للصلاة ومؤدياً للزكاة وأخاً لبقية المسلمين، كما قال تعالى في آية أخرى في سورة الممتحنة: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]

فهذه المودة لن تكون إلا بعد توبتهم بإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة وهذا ما حصل لأكثر القبائل حول مكة والمدينة إذ أصبحوا أخوة للمسلمين الأوائل.

قام رجل من القوم، وقال: أرك تستدل بالقرآن.. وتنسى الحديث.. ألا تعرف بأن السنة تفسر القرآن؟

قال الحكيم: بلى.. السنة تبين القرن.. ولا تتناقض معه.

قال الرجل: وأحاديث الردة.. أنسيتها.. أم أنك من القرآنيين النين لا يؤمنؤن بالسنة؟

قال الحكيم: أنا من الذين ينسجمون مع القرآن والسنة.. ولا يضربون القرآن بالسنة.. وعلى هذا الميزان رحت أبحث عن كل ا لأحاديث الواردة في الموضوع، فوجدتها على صنفين: صنف يتفق مع المراد القرآني. وهذا على العين والرأس.. لأنه يطبق ما ورد في

الطائفيون والحكماء السبعة (75)

القرآن الكريم من معان.. وصنف يتناقض مع القرآن.. وقد رميت به عرض الحائط..

أشهر رجل سيفه، وصاح: من أنت حتى ترمي بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غرض الحائط؟

قال الحكيم: فهات الحديث الذي تعتمدون عليه في قتال من يخالفكم.

قال الرجل: الحديث الذي هو أشهر من نار على علم.. والذي نحفظه كما نحفظ القرآن، وهو (من بدل دينه فاقتلوه)

قال الحكيم: أليس من رواة هذا الحديث عكرمة مولى ابن عباس؟

قال الرجل: أجل.. وهو من ثقاة المحدثين.

قال الحكيم: فهل انفرد به دون تلاميذ ابن عباس جميعا؟

قال الرجل: أجل.. وليس هناك من ضرر في ذلك.

قال الحكيم: بلى.. فيه ضرر.. فانفراد عكرمة بهذا الحديث عن ابن عباس دون بقية تلاميذه الأكثر اختصاصاً به كسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وغيرهم من دواعي التوقف في قبول هذا الحديث.. بالإضافة إلى ذلك فإن تلاميذ ابن عباس المتفق على ثقتهم يعدون بالعشرات ولم يرووه عنه رغم أهمية الحديث واختصاره وسهولة حفظه، ورغم ارتباطه بحد من الحدود الخطيرة.. فكيف يجهل عشرات الرواة عن ابن عباس هذا الحديث، ويجهل هذا الحديث الصحابة والتابعون، ويعلمها تابعي واحد هو نفسه محل إشكال واختلاف؟

قال الرجل: لا أسلم لك في هذا.. فالثقة مهما روى فهو صادق.. ولا يهم أن يروي الآخرون ما روى، أو يتكاسلوا عن روايته.

قال الحكيم: لا بأس.. فحدثني عن عكرمة.. أليس هو من الخوارج الذين حاربوا الإمام عليا.. وهذا الحديث فيه تجريح خطير للإمام علي.

قال الرجل: حتى لو كان من الخوارج، فالعبرة بصدقه، لا بكونه خارجيا أو مبتدعا.

الطائفيون والحكماء السبعة (76)

قال الحكيم: لا بأس.. فهل اتفق كل علمائكم على توثيقه؟

لم يجد الرجل ما يجيب به، فقال الحكيم: لا بأس.. أظن أن ذاكرتك خانتك حول كلام المحدثين عنه.. أو أن حرصك على صحة الحديث جعلك لا تنقب عن رواته وتدقق فيهم.

رمى الرجل بسيفه، وقال: صدقت.. لقد كنت أعرف جيدا ما قيل في عكرمة.. ولكن لحرصي على صحة الحديث لم أكن أهتم بذلك.. لقد رويت بسندي عن ابن عمر أنه قال لنافع: لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس..

وفي ذلك أكبر تجريح له.. فالذي جرحه ليس البخاري ولا يحي بن معين، بل هو ابن عمر نفسه.. وهو من الصحابة.. وهو يعرفه.. وهو أدرى الناس به.. ولكن لحبنا للحديث غفلنا عن ذلك كله وتغافلنا عنه.

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد رويت بسندي عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد، قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي (1).

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقتما.. وقد قال ابن حجر عنه: (وفد عكرمة على نجدة الحروري فأقام عنده تسعة أشهر، ثم رجع إلى ابن عباس فسلم عليه، فقال: قد جاء الخبيث قال: فكان يحدث برأي نجدة، وكان يعني نجدة أول من أحدث رأي الصفرية وقال الجوزجاني قلت لأحمد بن حنبل أكان عكرمة إباضيا فقال: يقال: إنه كان صفرياً، وقال أبو طالب عن أحمد كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وقال يحيى بن معين كان ينتحل مذهب الصفرية ولأجل هذا تركه مالك، وقال مصعب الزبيري كان يرى رأي الخوارج) (2)

__________

(1) انظر: وفيات الأعيان 1: 320، وتهذيب التهذيب 7: 238 وسير أعلام النبلاء للذهبي 5: 22.

(2) مقدمة فتح الباري 425.

الطائفيون والحكماء السبعة (77)

قال رجل من القوم: لا بأس.. فلنسلم لك بأن هذا الحديث قد يكون ضعيفا أو حتى مكذوبا وموضوعا.. لكن ما تقول في الحديث الآخر: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث..)، فقد ذكر من تلك الثلاث: (التارك لدينه المفارق للجماعة) (1)

قال الحكيم: أليس من العجيب أن يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديث يتضمن هذه الحدود الخطيرة.. أو هذه القوانين الجنائية الكثيرة.. ثم لا يرويه إلا الآحاد من الناس عن الآحاد منهم.

قال الرجل: أتقصد رد حديث الآحاد؟

قال الحكيم: أنا لا أقصد رده مطلقا.. ولكن أستغرب أن تسن الدولة قانونا خطيرا، ثم لا يسمع به إلا محام واحد، أو قاض واحدا.. أليس هذا عجيبا؟

قال الرجل: وضح قصدك.. فنحن لا نفهمك.. ونخاف أن تكون من الذين ينكرون السنة.

قال الحكيم: معاذ الله أن أنكر السنة، أو أتجرأ على ذلك.. ومعاذ الله أن أقبل أي كذبة تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسم السنة..

قال الرجل: فما تقصد بقولك ذلك؟

قال الحكيم: ألستم تزعمون أن السلف كانوا أكثر الناس حرصا على أحكام الدين وتبليغها؟

قال الرجل: بلى.. وكل تراثهم يشهد بذلك.

قال الحكيم: أفلا يصيبك العجب أن ترى أحاديث تتعلق بفروع بسيطة من أمور العبادات التي لا دماء فيها ولا أموال، ومع ذلك تروى بالروايات الكثيرة المتواترة، ثم نجد مثل هذه الرواية يرويها الآحاد.. فلا يرويها من الصحابة إلا ابن مسعود.. ثم تتوقف من

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (78)

بعده على راو واحد هو سليمان بن مهران الأعمش.

قال الرجل: أراك تومئ للطعن في الصحابة.. وفي ابن مسعود.

قال الحكيم: معاذ الله أن أفعل ذلك.. فابن مسعود من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا أتهم صدقه، ولا عدالته.. ولكني أتهم ذلك الذي يتوقف الحديث عليه.. أليس هو متهم عندكم، وعند محدثيكم؟

قال الرجل: أتقصد سليمان بن مهران الأعمش؟

قال الحكيم: أجل.. ألم يتهمه حفاظكم بالتدليس.. ألم يقل فيه الحافظ العلائي: (مشهورٌ بالتدليس، مكثرٌ منه) (1).. والمشكلة الكبرى في تدليسه أنه كان يدلس عن الضعفاء، وقد يدلّس تدليس تسوية.. وقد قال فيه ابن المبارك: (إنما أفسد حديث أهل الكوفة أبو إسحاق والأعمش لكم).. وقال المغيرة: (أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وأعيمشكم هذا).. وقال أحمد بن حنبل: (منصور أثبت أهل الكوفة، ففي حديث الأعمش اضطراب كثير).. وقال ابن المديني: (الأعمش كان كثير الوهم في أحاديث هؤلاء الضعفاء).. وقال سليمان الشاذكوني: (من أراد التديّن بالحديث، فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة، إلا ما قالا: سمعناه) (2)

رمى الرجل سيفه، وقال: بورك فيك.. وأضيف إلى ما ذكرت بأن سائر الرواة الذين رووا الحديث كلهم متكلم فيهم، ومتهمون.. فأبو بكر بن أبى شبية قال عنه الحاكم: ليس بالمتين، وقال عنه أبو بكر بن أبى داود: ضعيف، وقال عنه ابن حيان: ربما أخطأ.

وأبو عمر النخعى كان قاضياً للدولة العباسية، ومن الفقهاء المتعاونين معها، وقد قال عنه أبو زرعه: (ساء حفظه بعد ما استقضى، أى بعد أن تولى القضاء)، أي أنه فقد الثقة

__________

(1) جامع التحصيل (1\ 188).

(2) الخطيب، الكفاية (ص 364)، ميزان الاعتدال (3\ 316)

الطائفيون والحكماء السبعة (79)

فيه بعد أن اختارته الدولة قاضياً.. وقال عنه داود بن رشيد: حفص بن غيث كثير الغلط.. وقال عنه ابن عماد: كان عسراً فى الحديث جداً، وقال عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال عنه أبى: أنه أخطأ.. وقال ابن حيان عن أحد مروياته فى الحديث: لم يحدث بهذا الحديث أحد إلا حفص بن غياث كأنه وهم فيه.. أى انفرد بحديث لم يقله أحد غيره، ولأنه غير ثقة فقد اتهمه ابن حيان بالوهم.

أما أبو معاوية الضرير، فقد قال عنه الحاكم أنه احتج به الشيخان أى مسلم والبخارى وقد اشتهر عنه الغلو.. وقال عنه ابن معين: أبو معاوية أحاديث مناكير، وقال عنه العجلى: أنه ثقة ويرى الإرجاء، أى مدحه بأنه ثقة ولكن اتهمه أنه من المرجئة، وتلك تهمه تعيب الراوى وقال عنه يعقوب بن شيبة: أنه ثقة وربما دلس، وكان يرى الإرجاء.. أى أنه مدحه ثم اتهمه بالتدليس وبأنه من المرجئة.. وقال عنه أبو داود: كان مرجئاً. وقال عنه أبو معاوية البجلى: فيه جهالة.

قام رجل من القوم يصيح: ما بالكم يا قوم ترفضون سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمثال هذه الخدع والحيل.. أهانت عليكم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الدرجة؟

قال الحكيم: نحن لم نستهن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما رحنا ندافع عنها، ونقدم المتواتر منها على الآحاد.. والصحيح على الضعيف..

قال الرجل: فهل هناك أحاديث متواترة تنسخ ذينك الحديثين؟

قال الحكيم: أجل.. وقد وردت في الصحاح، وهي متواترة، وأنت تعلم أن المتواتر مقدم على الآحاد.. وهي تدل على خلاف ما ذكرت.

قال الرجل: ما هي.. أنا قرأت كتب السنن جميعا.. ولم أرها.

قال الحكيم: منها (لا نكره أحداً على دين، فقد تبين الرشد من الغي..)، ومنها (لكم أيها الكفار دينكم ولنا ديننا لا نكرهكم على ديننا ولا تكرهوننا على دينكم..)، ومنها (لا

الطائفيون والحكماء السبعة (80)

يقتل رجل على دينه وإنما على حربه..)، ومنها (من بدل دينه فله نار جهنم خالداً فيها..)، ومنها (من ارتد على وجهه وترك دينه سيعاقبه الله بنار أعدها للكافرين..)، ومنها (من ترك دينه فسيغني الله عنه..)، ومنها (لا يحل لامريء يؤمن بالله أن يقعد مع من يستهزيء بآيات الله، فليجتنب مجلسهم..)

غضب الرجل غضبا شديدا وأشهر سيفه، وراح يقول: أنت كذاب وضاع حلال الدم.. فلا توجد أحاديث بهذه الألفاظ.

قال الحكيم: أنشدك بالله.. أريت لو أن هناك أحاديث متواترة بتلك الألفاظ أكنت ترجحها على حديث القتل؟

قال الرجل: أجل.. فالمتواتر مقدم على الآحاد.

قال الحكيم: فتلك الأحاديث هي نفس ما ورد في القرآن.. وهو متواتر.. ويستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخالف كلام ربه.

قال الرجل: هذه حجة ضعيفة.. نحن نريد أحاديث رواها الثقاة.

قال الحكيم: لا بأس.. لك ذلك.. لقد بحثت في ذلك.. فأنا أعلم أن بعضكم لا يقتنع بالقرآن الكريم إن خالف معتقده، لكنه يقتنع بحديث حسن الإسناد، أو صححه ابن حجر أو الألباني.. وقد جمعت في ذلك هذا المجموع، والذي سميته (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية) (1).. وتجدون فيه التفاصيل الكثيرة.

وقد وجدت أن ا لأحاديث المقررة لحرية الاعتقاد والمتفقة مع القرآن الكريم تنقسم إلى أربع مجموعات..

قالوا: فحدثنا عن المجموعة الأولى منها.

__________

(1) وهو للشيخ حسن بن فرحان المالكي، وهو من أهم ما كتب في الموضوع، وقد حاولنا أن نلخص الكثير من الفوائد والاستنباطات منه هنا.

الطائفيون والحكماء السبعة (81)

قال: هي تلك الأحاديث التي تذكر عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أرسله الله به على القبائل، فهي جميعا تؤكد على حرية الاعتقاد لجميع الناس سواء من كان منهم من أهل الكتاب أو من غيرهم.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأحاديث لم يكن يطلب منهم إلا النصرة لإبلاغ الرسالة وحمايته.. وهو طلب لمنع الاضطهاد الديني وإتاحة حرية الدعوة، ولو تحققت هذه الحرية في مكة لما طلب أحداً لحمايته من الاضطهاد والمنع من تبليغ ما أمره الله بتبليغه.

بل إن حوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع تلك القبائل ـ كما تنص الروايات الكثيرة ـ لا يلزمها بالإيمان بالرسالة، وإنما يدعوها إلى ذلك، فمن أبى لم يكرهه على الإيمان.

قام رجل من القوم، وقال: إن مثل تلك الأحاديث قد نجدها في كتب السيرة.. وهي مما لا يعني شيئا في الاستدلال الفقهي..

قال الحكيم: كلا، فهذه الأحاديث لها أهمية كبرى، لأن العرض على القبائل يعكس الصورة الأدق للسنة النبوية أكثر من الأحاديث الفردية، وكذلك المعاهدات والمواثيق، فهذه يشارك فيها كثير من الناس، وهي أولى بالتطبيق من أحاديث الآحاد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخلف وعداً ولا ينقض ميثاقاً، وهو عندما يعرض نفسه على القبائل كان يكرر أنه يريد إبلاغ رسالة الله فقط، دون إكراه لأحد على دين، ولو نصرته قبيلة ثم تبين لها اختلاف وعده لهم بألا يكره أحداً لكان هذا مدخلاً للشك في النبوة.

قال الرجل: ما دام الأمر كما ترى بهذا الوضوح، فلم لم يشتهر.. ولم خالفه المسلمون على مدار التاريخ؟

قرأ الحكيم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، ثم قال: أراكم تريدون أن تقدموا المسلمين على سيد المسلمين.. وتقدموا ما ورثتموه من آراء على ما وردكم عن نبيكم.

قال الرجل: معاذ الله أن نفعل ذلك.. وإنما أستفسر عن سر ذلك.

الطائفيون والحكماء السبعة (82)

قال الحكيم: أنتم تعلمون أن السلطان قد زاغ عن القرآن، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولم يكن من مصلحة الحكام أن تظهر أمثال تلك النصوص التي تعكر عليهم صفو حبهم للتوسع..

قال الرجل: ألا ترى أن ذلك كان مصلحة للإسلام والمسلمين.. فقد اتسعت أرضهم، ودخل الناس من بلاد كثيرة إلى الإسلام.

قال الحكيم: ولو أنهم نشروا ـ بدل ذلك ـ تعاليم السماحة والسلام، وانتشروا بالحكمة والموعظة الحسنة.. لدخل في الإسلام طواعية أكثر مما دخل فيه تحت الحروب الطاحنة، بل إن التاريخ يشهد أن عدد المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام عبر الدعوة والتجارة أكثر بكثير من عدد المسلمين الداخلين بالفتوح.

قام رجل آخر، وقال: إلى الآن نسمع جعجعة ولا نرى طحينا.. أين هذه الأحاديث التي تدعي وجودها.. أم أنك لفقتها من عندك لتتلاعب بعقولنا وعواطفنا، وتهز نيران الغيرة على الدين من قلوبنا.

قال الحكيم: من تلك الروايات ما حدث به عروة بن الزبير قال: لما أفسد الله عز وجل صحيفة مكرهم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فعاشوا وخالطوا الناس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه ويقول: (لا أكره منكم أحدا على شيء؛ من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أكرهه، إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء)، فلم يقبله أحد منهم، ولا أتى على أحد من تلك القبائل إلا قالوا: قوم الرجل أعلم به أفترى رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه؟) (1)

__________

(1) أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (ج 1 / ص 258)

الطائفيون والحكماء السبعة (83)

قال الرجل: وعينا هذا.. لكن ما وجه دلالتها على ما تدعونا إليه؟

قال الحكيم: إنها واضحة جدا في الدلالة على ما دعوتكم إليه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوجب على من ينصره الإسلام، ولم يشترط عليه الإيمان ولم يعزله عن الجماعة، ولم يفرض عليه جزية، ولم يخصه بمعاملة تنتقص منه، وإنما اشترط أن يكون تحت السقف العام في نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من أعدائه حتى يبلغ رسالة ربه، ولا يعقل أن نظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو وافقته قبيلة على ذلك، ثم أسلم الناس ولم تسلم تلك القبيلة أنه سيأمر باستئصالها، فهذا التصور المهين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقول به أو يتصوره أعداؤه ومحاربوه، فكيف يتصوره حملة سنته وناشرو سيرته وفضله وأخلاقه؟

رمى رجل من القوم سيفه، وقال: صدقت.. وقد حدثني من أثق به عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه في كل سنة على القبائل من العرب أن يؤووه إلى قومهم حتى يبلغ كلام الله عز وجل ورسالاته ولهم الجنة) (1)

رمى آخر سيفه، وقال: صدقت.. وقد حدثني من أثق به عن كعب بن مالك قال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنين من نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين يوافي الموسم يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل ولهم الجنة فلا يجد أحدا ينصره، حتى إنه يسأل عن القبائل ومنازلهم، قبيلة قبيلة، حتى انتهى إلى بني عامر بن صعصعة فلم يلق من أحد من الأذى قط ما لقي منهم حتى خرج من عندهم وإنهم ليرمونه من ورائه..) (2)

فهذا الحديث يقوى الحديثين السابقين.. وسنده قوي، ودلالته واضحة لا يمكن الجدال فيها.. لكن عقولنا المغلولة بأغلال الكبر جعلتنا لا نلتفت لذلك.

__________

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ج 1 / ص 254).

(2) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ج 1 / ص 255)

الطائفيون والحكماء السبعة (84)

رمى آخر سيفه، وقال: صدقت.. وقد حدثني من أثق به عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف يقول: ألا رجل يعرضني على قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي، قال: فأتاه رجل من همدان فقال: ممن أنت؟ قال: من همدان، قال: فعند قومك منعة؟ قال: نعم، فذهب الرجل ثم إنه خشي أن يخفره قومه فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أذهب فأعرض على قومي ثم آتيك فذهب وجاءت وفود الأنصار في رجب..) (1)

فهذا الحديث واضح الدلالة في أن مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقتصر على البلاغ، وحماية هذا البلاغ بقتال المحارب له والمعتدي على بيضة الدولة الناشئة بكل مواطنيها مسلمين ويهود ومنافقين وكفار.

رمى آخر سيفه، وقال: صدقت.. وقد حدثني من أثق به عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ ومنازلهم من منى، يقول: (من يؤويني، من ينصرني، حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة؟) فلا يجد أحدا ينصره ولا يؤويه) (2)

وهذا الحديث يبين أن سبب العرض هو أن قريشاً اضطهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعته من دعوة الناس، وهذا يدل على أن الهجرة كانت لهذا السبب، وليس التهيؤ للقتال، ولو لم تضطهد قريش المسلمين، ومنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عرض الإسلام لما هاجر.

قام رجل من القوم، وهو مسلط سيفه، وقال: قد علمنا هذا.. لكنه غير كاف لإقناعنا بما تقول.. فهات المجموعة الثانية من الأحاديث التي تزعم أنها تؤيدك.

قال الحكيم: هي الأحاديث التي رويت في بيعة العقبة مع الأنصار.. وهي بيعة على

__________

(1) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ج 1 / ص 253).

(2) المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج 10 / ص 34).

الطائفيون والحكماء السبعة (85)

أساسيات الدين، ومنها: أن نقول الحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من ارتد عن هذه البيعة ونكث فأمره إلى الله، وليس هناك أمر بقتله ولا إكراهه على الدين.

رمى رجل بسيفه، وقال: صدقت.. ولي إجازة بأسانيدها الكثيرة.. بل أجمع عليها أهل المغازي والسير وأهل الحديث، وكلها تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بايع الأنصار ثلاث بيعات، وكانت الأولى والثانية غير ملزمتين، وإنما هما بيعتان على الإسلام، كأي مجموعة تسلم وتتلقى أوامر الدين الجديد، أما البيعة الثالثة فهي ملزمة وهي تستوجب قتال المحاربين للدعوة الجديدة، وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد بحمايته.. وكانت هذه البيعة بمكة قبل الهجرة بسنة، وقد رويت من طرق عن كثير من الصحابة ممن شهدها منهم عبادة بن الصامت وجابر بن عبد الله، وغيرهم.. وليس في هذه الأحاديث جميعا دعوة لقتل المرتد، أو قتل الناس لأجل دينهم.

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. فكل ما في تلك البيعة هو الدعوة لتكوين جماعة تحمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغ رسالته إلى الناس، والتعاون بين أفراد تلك الجماعة على العدل ومحاربة الظلم إما بالسيف وإما الكلمة، وعلى التعاون والتكاتف فيما بينهم، ورضا الجميع مسبقاً بإيثار الوافدين الفقراء بشيء من الممتلكات الخاصة حتى يغني الله الجميع.

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد كان الصحابة يستدلون بتلك البيعة في شؤونهم جميعا، ومن ذلك ما روي أن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة، في العُسر واليُسر، والمنْشَط، والمكْرَه وعلى أثَرَةٍ علينا، وعلى ألا نُنازع الأمر أهْلَهُ، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنّا لا نخافُ في الله لَوْمَةَ لائم. وفي رواية بمعناه، وفيه (ولا نُنازع الأمر أهله)، قال: (إلا أن تَرَوْا كُفرًا بَواحًا، عندكم فيه من الله برهان) (1)

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (86)

قام رجل من القوم، وهو مسلط سيفه، وقال: قد علمنا هذا.. لكنه غير كاف لإقناعنا بما تقول.. فهات المجموعة الثالثة من الأحاديث التي تزعم أنها تؤيدك.

قال الحكيم: هي الأحاديث التي وثقت لأعظم وثيقة حقوقية بامتياز، وهي الوثيقة المسماة [وثيقة المدينة]، وليس فيها دعوة إلى الإسلام، ولا إكراه عليه، بل فيها أن المسلمين ومن تحالف معهم كاليهود أمة واحدة دون الناس.

رمى رجل بسيفه، وقال: صدقت.. فقد كانت تلك الوثيقة بمثابة دستور للمسلمين، وكان المسلمون فيها في منتهى قوتهم، ومع ذلك لم تتضمن أي عقوبة تتعلق بالمخالف، ولا المرتد.

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد رويتها بالأسانيد الكثيرة.. وهي تتشكل من نحو خمسين بنداً، وليس فيها أي بند يصادر حرية الاعتقاد.. بل ليس فيها سوى الدعوة إلى التكاتف والتحالف ضد كل ظالم ومحارب.. وهي تمتلئ بالدعوة إلى العدل والبر وذم الظلم ووجوب التعاون لاستئصاله.

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. فبنود الوثيقة كلها تدعو إلى نصرة العدل.. وليس نصرة دين على آخر ولا قوم على آخرين.. نعم فيها الترغيب في الإسلام والدعوة إليه، ولكن ليس فيها الإكراه عليه ولا اشتراطه للانضمام إلى الوثيقة.

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. فبنود الوثيقة أوثق من كل الأحاديث التي يروونها في منع التعددية داخل الصف الإسلامي ومحاربة حرية الفكر، فالوثيقة تستوعب اليهود وهم أكثر الناس عداوة للذين آمنوا، وكانوا في المدينة أقلية وكان في المستطاع أن يخرجهم المسلمون من أي اتفاقية، لكن لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدليل على استطاعة المسلمين فعل ذلك أنه عند خيانتهم أخرجهم بسهولة من المدينة وأجلاهم، فليسوا ممن يخاف جانبهم حتى يتنازل لهم المسلمون عن أمور لا تحق لهم.

الطائفيون والحكماء السبعة (87)

قام رجل من القوم، وهو مسلط سيفه، وقال: قد علمنا هذا.. لكنه غير كاف لإقناعنا بما تقول.. فهات المجموعة الرابعة من الأحاديث التي تزعم أنها تؤيدك.

قال الحكيم: هي أحاديث كثيرة عن مرتدين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومع ذلك لم يطبق عليهم الحد الذي ادعيتموه.. وذلك أكبر دليل على عدم صحة حديث عكرمة في قتل المرتد.

قال الرجل: هذه دعوى.. فما دليلها.

قال الحكيم: إن شئتم أوردتم لكم أربعة أدلة على ذلك.

قال الرجل: فهات الدليل الأول.

قال الحكيم: هو ما روي في الصحاح التي تعتمدونها عن جابر قال: جاء أعرابيّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما - وفي رواية: فأصاب الأعرابيَّ وَعَك بالمدينة - فقال: أقِلْني بيعتي، فأبى، ثم جاءه، فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابيُّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما المدينة كالكير، تنفي خَبَثَها ويَنصَع طَيِّبُها) (1)

فمع أن هذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرتد، وينقض بيعته التي كانت على الإسلام، ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقره على هذا، لكنه أيضاً لم يأمر أحداً بإرجاعه واستتابته وقتله إن لم يتب في نفس الوقت الذي نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر باللحوق بتلك المرأة التي تحمل كتاباً من حاطب بن أبي بلتعة، ويأمر باللحوق ببعض أصحاب الجنايات كالعرنيين.. وهذا يدل على أن الردة ليست جناية يتابع عليها المرتد ويستتاب، وإنما اكتفى بذم ذلك الرجل وهذا حق.

قال الرجل: وعيت هذا.. فهات الدليل الثاني.

قال الحكيم: هو ما روي في الصحاح التي تعتمدونها عن أنس قال: كان رجل

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (88)

نصرانيا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فعاد نصرانيا، فكان يقول: (ما يدري محمد إلا ما كتبت له)، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم) (1)

فهذا الحديث يفيد بأنه لم يعاقب، مع أنه ليس ذا شوكة، فليس هو من اليهود، ولا من الأنصار، ولا من قريش، بل هو رجل نصراني، ارتد بمحض إرادته ولم يستتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأمر بقتله، وإنما مات حتف أنفه، وهو يفيد أيضا بأن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتل ابن أبي السرح – الذي له قصة مماثلة- إنما كان الأمر بقتله على أمر زائد في المحاربة وهو اللحوق بالمشركين ومناصرتهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالقضية فيها خيانة عظمى، ومع ذلك فقد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة فيه ولم يقتله.

قال الرجل: وعيت هذا.. فهات الدليل الثالث.

قال الحكيم: هو ما روي في الحديث المتواتر عن ردة عبيد الله بن جحش، وكان من المهاجرين إلى الحبشة، وكان النجاشي قد أسلم، وهو ملك الحبشة، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستتابته، ولا قتله ولا أهدر دمه، علماً بأن النجاشي قد أرسل بعض مسلمي الحبشة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصل أوائلهم قبل الهجرة ومنهم ابن النجاشي نفسه.

قال الرجل: وعيت هذا.. فهات الدليل الرابع.

قال الحكيم: هو ما روي في الحديث عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث عليا مبعثا فقال له: امض ولا تلتفت - أي لا تدع شيئا مما آمرك به - قال: يا رسول الله كيف أصنع بهم؟ قال: (إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (89)

تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تريهم إياه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل، لهم: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقل لهم: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم الصدقة؟ فإن قالوا نعم فلا تبغ منهم غير ذلك، والله لأن يهدى الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت) (1)

وموضع الشاهد في الحديث واضح، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث السرايا لأمرين إما لمحاربة محاربين، أو للدعوة إلى الله، ولا يبعثها لقتال مشركين ابتداءً.

وهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن القتال في سرايا الدعوة حتى يقتل المشركون من المسلمين رجلاً، ثم بعد ذلك يتم عرض الإسلام عليهم، وإهدار ما اقترفوه من دم المسلم، فإن قبلوا يتم إهدار دمه، وإن أبوا قوتلوا على هذا الظلم والعدوان لا على إدخالهم للإسلام.

رمى رجل من القوم سيفه، وقال: صدقت.. فهذه الأحاديث صحيحة وصريحة، وكنت أقرؤها دائما، وأتعجب كيف سار تاريخ المسلمين على خلافها.

قال الحكيم: لا تتعجب، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن انحراف الأمة عن دينها بسبب تسلط الطواغيت عليها، وإعانة رجال الدين لهم..

قال الرجل: صدقت.. وقد تعجبت لكثرة ذكر الفقهاء لما يسمونه استتابة، مع أني لم أر في ذلك حديثا واحدا..

قال الحكيم: صدقت.. فـ (الاستتابة الإكراهية) لا وجود لها في الدين، والإكراه في الاستتابة اخترعها من اخترعها لتكون مقدمة للقتل، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكره أحداً على الاستتابة وقد سجل القرآن الكريم هذا، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ

__________

(1) السير الكبير للفقيه الحنفي الشيباني (189 هـ) (ج 1 / ص 78)، ومغازي الواقدي (ج 1 / ص 1079)

الطائفيون والحكماء السبعة (90)

آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء:60 - 65]

قال الرجل: صدقت.. فهذه الآيات الكريمة صريحة في أن التوبة كانت تعرض عليهم، وينصحون بها بعد نطقهم بالكفر، لكنهم يصدون ويأبون، فأين كلام الفقهاء الكثير جداً (يستتاب فإن تاب وإلا قتل)؟

رمى آخر سيفه، وقال: صدقت.. وقد كان المنافقون يجاهرون بنفاقهم ويعاندون في الرد على الله ورسوله إلا أنهم مع ذلك لم يفصلوا عن الجماعة، ولم تعلن عليهم الحرب، ولم تبح دماءهم..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 5 - 8]

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ

الطائفيون والحكماء السبعة (91)

يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]

رمى آخر سيفه، وقال: لقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى.. ومنها قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 67، 68]

فهاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى أن المنافقين وقفوا على شفا الخيانة العظمى، لكن لأنهم لم ينفذوا وعدهم لليهود لم يقاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واكتفى بفضح الله لهم ورده عليهم وكشف أسرارهم.. وهذه الآيات لو نزلت على فقهائنا لأبادوا نصف المسلمين بدعوى الردة، فكيف وحركة النفاق هذه استمرت إلى آخر النبوة، تتجدد مع الأيام، يتوب القليل ويستمر الأكثرون، وينضم إليهم من انضم، حتى ذكر ابن عباس وغيره أن النفاق في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أكثر من أوله، ولو كانت هناك استتابات وقتل لمن يتفوه بمثل الكلام الكفري السابق لما بقي من المنافقين من يجرؤ على مثل هذه الأقوال والأعمال.

رمى آخر سيفه، وقال: لقد ذكرني حديثكم هذا ببعض مشايخنا الذي كان يردد كل حين هذه العبارة [يستتاب، فإن تاب وإلا قتل]، وعندما سألناه عن سر ترديده لها بعد كل حكم شرعي، ذكر لنا أن شيخه فيها هو ابن تيمية.. ثم ذكر لنا أنه جمعها في مصنف خصها به، ثم راح يقرأ لنا منها أمثال هذه الفتاوى: (من قال لرجل: توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك.. يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. من اعتقد أن أحدا من أولياء الله يكون مع محمد كما كان الخضر مع موسى، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.. الرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. من لم يقل أن الله فوق سبع سمواته فهو كافر به حلال الدم

الطائفيون والحكماء السبعة (92)

يستتاب فإن تاب والا ضربت عنقه، وألقى على بعض المزابل.. من قال القرآن محدث فهو عندى جهمى يستتاب فإن تاب والا ضربت عنقه.. من قال إن أحدا من الصحابة أو التابعين أو تابعى التابعين قاتل مع الكفار فهذا ضال غاو بل كافر يجب ان يستتاب من ذلك فإن تاب وإلا قتل.. من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. من جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب والا قتل.. إن اضمر ذلك (يعني تحريم اللحم أو الخبز أو النكاح) كان زنديقا منافقا لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة إذا ظهر ذلك منه.. من لم يلتزم هذا الشرع أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. من ادعى ان له طريقا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التى بعث الله بها رسوله فإنه أيضا كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.. أكل الحيات والعقارب حرام باجماع المسلمين فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.. من قال القرآن مخلوق وانه يستتاب فإن تاب والا قتل.. من قال ان الله لم يكلم موسى تكليما يستتاب فإن تاب والا يقتل.. من ظن أن التكبير من القرآن فإنه يستتاب فإن تاب والا قتل.. من أخر الصلاة لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب.. من قال إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان وكلاهما ضلال مخالف لاجماع المسلمين يستتاب قائله فإن تاب وإلا قتل) (1)

هذه مجرد أمثلة عن فتاواه الكثيرة المملوءة بالحقد والكراهية، والبعيدة عن القيم القرآنية.. وللأسف فقد كانت هي زادنا الذي كان مشايخنا يزودوننا به، فلذلك امتلأنا بكل أصناف العداوة والبغضاء.

__________

(1) هذه نصوص لفتاوى في مواضع متفرقة من كتب ابن تيمية، وخصوصا مجموع الفتاوى.

الطائفيون والحكماء السبعة (93)

الطائفيون والحكماء السبعة (94)

سادسا ـ الإحسان

قام الحكيم السادس بين الصفين، وقال: أجيبوني يا من لا تزالون تحملون سيوفكم.. أليس الإحسان من القيم العظمى التي نادى بها القرآن الكريم، وأوجبها على المؤمنين؟

قال أحدهم: بلى.. وهل في ذلك شك؟.. إن صبياننا يعلمون هذا، وكيف لا يعلمونه، وهم يقرؤون قوله تعالى جامعا بين الدعوة للعدل والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]

قال الحكيم: فهل تعلمون الجزاء العظيم الذي أعده الله للمحسنين؟

قال الرجل: أجل.. وأوله وأعظمه معية الله للمحسنين، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]

قال آخر: وقبله وبعده ومعه حب الله للمحسنين، كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]

قال آخر: وبعد ذلك كله خير الدنيا والآخرة.. والذي عبرت عنه آيات كثيرة منها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، وقال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]

قال آخر: بل إن الله تعالى ذكر أنه أعد للمحسنين من الجزاء ما لم يعده لغيرهم.. فلهم الحسنى والزيادة.. قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]

قال الحكيم: بورك فيكم.. أتدرون سر كل هذا الجزاء العظيم المعد للمحسنين؟

الطائفيون والحكماء السبعة (95)

قال رجل منهم: أجل.. فالإحسان هو المرتبة العليا من الدين.. وقد قال تعالى يذكر ذلك: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (1)

قال الحكيم: ألا ترون أن مرتبة عظيمة مثل هذه استحق أصحابها أن ينالوا رضوان الله ومعيته ومحبته.. وينالوا فوق ذلك الجزاء العظيم في الدنيا والآخرة.. ألا ترون أننا بحاجة إلى التحقق بها، بل وضع كل همتنا في الرقي في درجاتها الرفيعة؟

قالوا: بلى.. ونحن نفعل ذلك بحمد الله.

قال الحكيم: من السهل أن ندعي لأنفسنا ما نشاء.. لكن الأمر خلاف ما نتوهم أو نتمنى لأن لله تعالى موازين لا يمكن تجاوزها، وقد قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]

قالوا: صدقت في هذا.. لكنا نشعر أننا مذ تحركت فينا همة الجهاد في سبيل الله نلنا أرقى المراتب، وتحققنا بأعلى درجات الإيمان.. وقد وعدنا مشايخنا بأننا بمجرد أن تسفك دماءنا في هذه الحرب المقدسة، ستستقبلنا الملائكة، ومعها كل ما نهواه من فضل ونعمة.

قال الحكيم: أجيبوني.. أليس الشيطان يتلاعب بالحقائق، ليخدع بها من يشاء؟

قال رجل منهم: أجل.. وقد قال أخبر تعالى عن وساوس الشيطان لآدم عليه السلام، وأنه وعدهما بالخلود إن أكلا من الشجرة: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21]

قال الحكيم: ألا ترون أن خدعة الشيطان التي انطلت على آدم عليه السلام مع ما

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (96)

علمه الله من الأسماء، وما رآه من العجائب، ومع التحذيرات الإلهية التي حذر بها.. يمكن أن تنطلي علينا أيضا، فنتصور الإساءة إحسانا، والجور عدلا؟

قال الرجل: بلى.. ذلك صحيح، فنحن لسنا معصومين.

قال الحكيم: ومشايخكم.. أهم معصومون فيما يدعونكم إليه.. أو يعدونكم به؟

قال الرجل: لا.. فهم لا يدعون لأنفسهم ذلك.. ونحن لا ندعي لهم ذلك.

قال الحكيم: ألا يمكن أن تكون الوعود التي وعدوكم بها مما أخطأوا فيه؟

قال الرجل: محال ذلك.. فهم قد اقتبسوها من المصادر المعصومة المقدسة.

قال الحكيم: فهل في هذه النصوص المقدسة ذكر لهذه الحرب، وما العمل فيها؟

قال الرجل: لا.. ليس فيها ذلك.. ولو كان فيها ذلك ما وقع الخلاف.

قال الحكيم: فهو فهموه إذن؟

قال الرجل: أجل.. وفهمهم محترم لأنه نابع من اجتهاد.

قال الحكيم: وهل كل محترم معصوم.. ألا يمكن أن يكون ذلك المحترم قد أخطأ في هذه المسألة دون غيرها؟

قال الرجل: ذلك ممكن.

قال الحكيم: ألم تعلموا أن خطأ واحدا من آدم عليه السلام، وهو أكله من الشجرة، تسبب في هبوطه من الجنة؟

قال الرجل: ذلك صحيح.

قال الحكيم: ولكن الخطأ الذي قد يقع فيه مشايخكم ربما يوردكم جهنم.

قال الرجل: لا.. نحن لا نخاف ذلك.. لأن كل مجتهد ينال أجراء أخطأ أو أصاب.. ونحن أيضا بما أننا مقلدون لهم، فسيتحملون عنا ما وقعوا فيه من اجتهاد خاطئ.

قال الحكيم: أراك مع حفظك الجيد للقرآن الكريم نسيت أن تحفظ قوله تعالى: {إِذْ

الطائفيون والحكماء السبعة (97)

تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167]

قال الرجل: بلى أحفظها.. وهي في سورة البقرة.

قال الحكيم: فهل تعلم التحذيرات العظيمة التي وردت فيها؟

قال الرجل: أجل.. فهي تخبر عن مشهد من مشاهد القيامة، حيث تبرأ فيه الأتباع من المتبوعين.. وحيث يصلون جميعا نيران العذاب.

قال الحكيم: فهل ينفع ذلك التبرؤ؟

قال الرجل: لا.. لا ينفعهم.. بل سيظلون يتحسرون.

قال الحكيم: ألا يمكن أن يكون هؤلاء التابعين الذين أوردهم متبوعوهم العذاب هو أنتم؟

قال الرجل: لا.. لا يمكن.. فمشايخنا يستحيل أن يكونوا كذلك.

قال الحكيم: فهل لكم دليل من الغيب على استحالة ذلك عليهم؟

لم يجد الرجل ما يقول، فقال الحكيم: ألا يدعوكم هذا بدل الرجوع إلى مشايخكم أن ترجعوا إلى مواقفكم الخطيرة هذه.. والتي يرتبط بها عز الأبد أو ذله.. أن تعرضوا أعمالكم هذه على معايير الإحسان كما وردت في المصادر المقدسة، بعيدا عن آراء الرجال، لتروا هل تنسجم معه أم لا؟

قالوا: بلى.. ذلك صحيح.

قال الحكيم: ألا يستدعي ذلك ـ أولا ـ الرجوع لتلك المصادر للتعرف على حقيقة الأحسان الذي أنيط به كل ذلك الجزاء العظيم.. حتى لا تصيبنا خدع الشيطان التي يلبس بها على العقول؟

الطائفيون والحكماء السبعة (98)

قالوا: بلى.. فالعلم مقدم على العمل.

قال الحكيم: فهل تدرون ما الإحسان؟

قال رجل منهم: أجل.. وكيف لا ندريه.. فالمحاسن ضدّ المساوئ، كما قال تعالى: {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد/ 22)، أي يدفعون بالكلام الحسن ما ورد عليهم من سيّء غيرهم.

قال الحكيم: فهل للإحسان علاقة بالنفس فقط.. أم له علاقة بالغير أيضا؟

قال الرجل: بل له علاقة بكليهما، وقد قال الفيروزاباديّ في تعريفه: (الإحسان يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير، تقول: أحسن إلى فلان، والثّاني إحسان في فعله. وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملا حسنا)

قال الحكيم: فالإحسان بهذا يدخل في كل الأعمال ما كان قاصرا، أو متعديا؟

قال الرجل: أجل.. وقد ورد في الحديث ما يدل على ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّا لله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة) (1)

قال الحكيم: أليس من الإحسان أن يهتم كل إنسان بعيوبه، لإصلاحها، وتصحيح علاقته بالله، وأن يقصر اهتمامه بغيره على النصيحة؟

قال الرجل: بلى.. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (2)

قال الحكيم: أهذا الحديث من الأحاديث التي لا علاقة لها بالعمل.. أم أنها تتطلب عملا وحركة ووجودا خارجيا؟

قال الرجل: كيف تقول ذلك.. وقد نص العلماء المعتبرين على أن هذا الحديث من

__________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه الترمذي وغيره.

الطائفيون والحكماء السبعة (99)

الأحاديث التي يعم تطبيقها جميع شؤون الحياة.. بل قد روينا بأسانيدنا عن المحدث الكبير أبي داود، قال كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب - يعني كتاب السنن - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه،) والثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه)، والرابع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحلال بين والحرام بين) (1)

وقد عبر بعضهم عن ذلك شعرا، فقال (2):

عمدة الدين عندنا كلمات... أربع من كلام خير البريه

اتق الشبهات وازهد ودع ما... ليس يعنيك واعملن بنيه

قال الحكيم: ألا ترون أنكم بتضييعكم لهذا الحديث وقعتم فيما وقعتم فيه؟

قال الرجل: كيف ذلك؟

قال الحكيم: أليس سبب الخلاف الذي حصل بينكم وبين إخوانكم هو فضول كل طرف منكم للتفتش على عقائد الآخر وأعماله.

قال الرجل: لابد من ذلك، وقد كان من سنة سلفنا الصالح امتحان الناس للتعرف على عقائدهم، ليعاملوهم على أساسها، وقد قال الذهبي: (قال هشام: لقيت شهابا وأنا شاب في سنة أربع وسبعين ومئة فقال لي: إن لم تكن قدريا ولا مرجئا، وحدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما في هذين شيء) (3)

وقال أبو مسهر: قدم ابو إسحاق الفزاري دمشق ن فاجتمع الناس ليسمعوا منه،

__________

(1) جامع العلوم والحكم (1/ 62)

(2) جامع العلوم والحكم (1/ 63).

(3) سير أعلام النبلاء: 8/ 286.

الطائفيون والحكماء السبعة (100)

فقال: اخرج إلى الناس، فقل لهم: من كان يرى القدر، فلا يحضر مجلسنا، ومن كان يرى رأي فلان، فلايحضر مجلسنا، فخرجت، فأخبرتهم (1).

وقال الحاكم: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر يقول: لما وقع من أمر الكلابية ما وقع بنيسابور كان أبو العباس السراج، يمتحن أولاد الناس، فلا يحدث أولاد الكلابية، فأقامني في المجلس مرة فقال: قل أنا ابرأ إلى الله تعالى من الكلابية، فقلت: إن قلت هذا لا يطعمني أبي الخبز، فضحك وقال: دعوا هذا (2).

قال الحكيم: ولم فعلوا هذا.. ألم يكن الكافرون والمنافقون يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينهر أحدا منهم عن الحضور، أم أن هؤلاء يتصورون أنفسهم أعظم وأشرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

رمى رجل منهم بسيفه، وقال: بورك فيك.. لكأني أول مرة أسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فلو أن كل مؤمن اكتفى بتطبيق ما كلف به من أوامر، وترك لغيره الحرية في أن يمارس ما اعتقده لما حصلت كل هذه الفتنة.

لقد صرح بذلك قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108]

رمى آخر بسيفه، وقال: أجل.. وقد ورد في الروايات الكثيرة أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بعضهم يصوم في السفر، وبعضهم يُفطِر، (فلا يُنكِر الصائم على المُفطِر ولا المُفطِر على الصائم) (3)

__________

(1) سير أعلام النبلاء: 8/ 541.

(2) سير أعلام النبلاء: 14/ 395.

(3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 161)

الطائفيون والحكماء السبعة (101)

وقد قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: (يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!)، وقد قال الذهبي معلقاً على هذه القصة: (هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد تذكرت لتوي مقولة ليحيى بن سعيد يقول فيها: (ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرّم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرّم هلك لتحريمه)، وقال آخر: (إذا رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه)

رمى آخر بسيفه، وقال: بورك فيكم.. لقد تذكرت لتوي ما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعت رجلاًً قرأ آية سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافها (2)، فأخذت بيده، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كلاكما محسن، ثم قال: (لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) (3).. فهذا الحديث يجيز الاختلاف ويعتبره، لكنه يحرم الخلاف.. فالخلاف شقاق، ويؤدي إلى الهلاك.

بل قد ورد في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، وقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي ولم يرد ذلك منا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يعنف واحدا منهم.. وهذا يدل على أن في الدين سعة.. وأن كل فهم للنص يمكنه أن يكون مقبولا ما دام لا يعارض أصول الدين ولا قواعده.

__________

(1) فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر (4/ 548)

(2) المراد منه الاختلاف في كيفية قراءتها.

(3) رواه البخاري.

الطائفيون والحكماء السبعة (102)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقتم جميعا.. لقد ملأ مشايخ السوء قلبي أحقادا، فقد كنت أنهض كل صباح لأشق عن قلوب المؤمنين، وأبحث عن عقائدهم، لأرميهم بعدها بالبدعة.. ثم أصليهم نار جهنم، ليرتاح قلبي، وتطمئن نفسي..

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت يا أخي.. لقد كان أولئك المشايخ يعرضون عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تنهانا عن الشق عن قلوب الناس لمعرفة عقائدهم.. ليعوضوها بحديث ينسبونه لسفيان الثوري يقول فيه: (امتحنوا أهل الموصل بالمعافى فمن ذكره – يعني بخير – قلت َهؤلاء أصحاب سنة وجماعة، ومن عابه قلتَ هؤلاء أصحاب بدع) (1)

وبحديث لأحمد بن حنبل يقول فيه: (إذا رأيت من يغمزه – يعني حماد بن سلمة – فاتهمه؛ فإنه كان شديداً على أهل البدع) (2)

وبحديث ليحيى بن معين يقول فيه: (إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وحماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام) (3)

وبحديث لابن حبان يقول فيه: (ولم يكن يثلبه في زمانه إلا معتزلي قدري أو مبتدع جهمي لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة) (4)

وبحديث لنعيم بن حماد يقول فيه: (إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد - يعني ابن حنبل - فاتهمه، وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق – يعني ابن راهويه - فاتهمه، وإذا رأيت البصري يتكلم في وهب بن جرير فاتهمه) (5)

وبحديث لأبي حاتم الرازي يقول فيه: (إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل

__________

(1) تهذيب الكمال 28/ 153.

(2) سير أعلام النبلاء: 7/ 452.

(3) تهذيب الكمال للمزي 7/ 263، وسير أعلام النبلاء 7/ 447.

(4) تهذيب الكمال 7/ 267

(5) سير أعلام النبلاء: 11/ 370

الطائفيون والحكماء السبعة (103)

فاعلموا أنه صاحب سنة) (1)

وبحديث لمحمد بن هارون المخرمي الغلاس يقول فيه: (إذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع) (2)

وبحديث أبي الحسن الطرخاباذي الهمَذاني الذي يقول فيه: (أحمد بن حنبل محنة يعرف بها المسلم من الزنديق) (3)

رمى آخر بسيفه، وقال: لقد غفل هؤلاء جميعا عن قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]، فالآية الكريمة تمنع المؤمنين من أن يخرجوا أحدا من الإيمان بمجرد إلقائه السلام (4) أو إظهاره لأي شريعة من شرائعه.. لكن أولئك المشايخ لم يكونوا يكتفون لا بالسلام، ولا بالشهادتين.. ولا بالصلاة.. ولا بالقرآن.. بل كانوا يشترطون للحكم على المؤمنين بالإيمان أن يذعنوا لهم ولمشايخهم إذعانا تاما، حتى يشهدوا لهم بالإيمان.

وقد ذكر الله تعالى أن سبب ذلك الإفراط في حب الدينا، فقال: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94].. فالدنيا ومناصبها وأموالها وحب التعزز فيها هو الذي دعا أولئك المشايخ إلى أن يعتبروا أنفسهم معايير للإسلام والزندقة.

رمى آخر بسيفه، وقال: لقد غفل أولئك المشايخ الذين حجبونا عن ربنا وملأوا قلوبنا أحقادا عن تلك الروايات الكثيرة التي تدعونا إلى الاهتمام بأنفسنا، وترك الخلق

__________

(1) تهذيب الكمال 1/ 456

(2) تهذيب الكمال 1/ 456

(3) تهذيب الكمال 1/ 457.

(4) من الروايات الواردة في سبب نزول الآية ما رواه أحمد عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي (وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي (، فنزلت الآية، تفسير ابن كثير (2/ 382)

الطائفيون والحكماء السبعة (104)

للخالق، فهو ربهم، وأعلم بهم، وبكيفية تربيته لهم.. لقد تذكرت لتوي ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة)، فدخل رجل، فقام إليه ناس، فأخبروه، وقالوا: أخبرنا بأوثق عملك في نفسك، قال: (إن عملي لضعيف، وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر، وتركي ما لا يعنيني) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: لقد غفل أولئك المشايخ عن تلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تدعونا إلى تحسين علاقاتنا بالناس مهما اختلفت مذاهبهم.. وراحوا يشحنون قلوبنا بالأحقاد التي تجعلنا أغلظ أكبادا من الإبل.

لقد غفلوا عما ورد في القرآن الكريم من شأن يوسف عليه السلام في السجن، وكيف تأثر به المساجين، مع كونهم كانوا مشركين، كما قالت تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]

ولو أن يوسف عليه السلام استعمل معهم قوانين الولاء والبراء التي ربانا عليها مشايخنا لما اعتبروه من المحسنين، ولما أقبلوا يسألونه.. وكيف يسألون من يعبس في وجوههم، ويهجرهم ويحتقرهم.

رمى آخر بسيفه، وقال: أتذكر جيدا ذلك اليوم المؤلم الذي ذهبت فيه إلى بعض مشايخنا، وأخبرته أن والدي قاما بزيارة لبعض الأضرحة، وأنهما طلبا مني اصطحابهما، فأخبرني أنهما مشركان، ثم أتبع ذلك بقوله ناقلا عن شيخه ابن تيمية: (فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه. وإذا كان مشركا جاز للولد قتله) (2)

__________

(1) جامع العلوم والحكم (1/ 294)

(2) مجموع الفتاوى (14/ 478).

الطائفيون والحكماء السبعة (105)

وقد جعلتني فتواه تلك أفكر مرات كثيرة في قتلهما، لولا أني قرأت قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14، 15]

وقرأت معها كيف تعامل إبراهيم عليه السلام مع قريبه المشرك، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)} [مريم: 41 - 48]

رمى آخر بسيفه، وقال: لقد حصل لي ما حصل لك، ولكن ليس مع أهلي، وإنما مع جيراني وأقاربي جميعا الذين أعلنت الحرب عليهم بسبب مخالفتهم لما أراه من آراء، أو لمن أواليهم من الناس.. وقد جعلني ذلك أمتلئ بكل أنواع الحقد والكراهية مع أنني قبل التزامي كنت مسالما، بل ومحبوبا من جميع الناس.

أذكر في ذلك اليوم أني ذهبت إلى شيخي، وحكيت له عن أصدقائي وجيراني، فسألني عن عقائدهم، فأخبرتهم عنها، فراح يحكي لي عن بعض مشايخه أنه قال: (من جلس مع صاحب بدعة فاحذره، ومن جلس مع صاحب البدعة لم يُعطَ الحكمة، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد، آكل مع اليهودي والنصراني أحب إليَّ من أن

الطائفيون والحكماء السبعة (106)

آكل مع صاحب البدعة) (1).

وحكى لي عن آخر قوله: (من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام، واحذروا الدخول على صاحب البدع فإنهم يصدون عن الحق) (2)

وحكى لي عن آخر قوله: (من أصغى بإذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إليها يعني إلى البدع) (3)

وحكى لي عن آخر قوله: (لأن يجاورني قردة وخنازير، أحب إليَّ من أن يجاورني أحد منهم يعني أصحاب الأهواء) (4)

وحكى لي عن آخر أنه (جعل إصبعيه في أذنيه لما سمع معتزليًا يتكلم) (5)

وحكى لي عن آخر قوله: أنه (امتنع من سماع إبراهيم بن أبي يحيى المعتزلي، وقال: لأن القلب ضعيف وإن الدين ليس لمن غلب) (6)

وحكى لي عن آخر قوله لرجل ممن سماهم أصحاب الأهواء: أسألك عن كلمة، فولى وهو يقول: ولا نصف كلمة، مرتين يشير بإصبعيه (7).

رمى آخر بسيفه، وقال: لقد غفل هؤلاء جميعا أن يحدثونا عن مقولة إمام المتقين الإمام علي في عهده لمالك الأشتر لما ولاه مصر، فقد قال له: (.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ

__________

(1) الحلية لأبي نعيم 8/ 103.

(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم 261.

(3) البربهاري في شرح السنة /60.

(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم 231.

(5) ابن بطة في الإبانة 1/ 40.

(6) ابن بطة في الإبانة 1/ 40.

(7) شرح أصول اعتقاد أهل السنة برقم 291.

الطائفيون والحكماء السبعة (107)

لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد غفلوا عن أولئك العلماء الصادقين الذين وقفوا في وجه هذه الفتنة، كالشيخ جمال الدين القاسمي (2)، فقد كان من دعاة الترفع على الأحقاد، والتعامل مع الناس بإنسانية، لا بما يقتضيه ولاؤهم وبراؤهم، فمن مقولاته في ذلك: (من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها، وكثر سوادها، لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى، وأعظم استجابة، لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل، فحاولت الاستئثار بالذكرى، والتفرد بالدعوى، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها، والإيقاع بسواها، حسب ما تسنح لها الفرص، وتساعدها الأقدار، إن كان بالسنان، أو اللسان) (3).

وقال مدافعا عن المتهمين بالبدعة: (ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: أنهم تعمدوا الانحراف عن الحق، ومكافحة الصواب عن سوء نية، وفساد طوية، وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم: إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا، وبهذا كان ينتقد على كثير من الأعلام سلفاً وخلفاً لأن الخطأ من شأن غير المعصوم، وقد قالوا: المجتهد يخطئ ويصيب: فلا

__________

(1) نهج البلاغة: 53.

(2) وهو من علماء الحديث والتفسير، ومع ذلك ينكر عليه السلفية، ويتشددون في رفضه انظر أقوال الشيخ ربيع بن هادي في جمال الدين القاسمي في [بيان مافي نصيحة إبراهيم الرحيلي من الخلل والإخلال] ص (14-15)]

(3) الجرح والتعديل ـ ص 4.

الطائفيون والحكماء السبعة (108)

غضاضة ولا عار على المجتهد أن أخطأ في قول أو رأي، وإنما الملام على من ينحرف عن الجادة عامداً معتمداً، ولا يتصور ذلك في مجتهد ظهر فضله، وزخر علمه) (1).

وقال: (دع مخالفك ـ إن كنت تحب الحق ـ يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك وإما أن تقنعه ولا تعامله بالقسر فما انتشر فكر بالعنف أو تفاهم قوم بالطيش والرعونة. من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه لأن ذلك من طبع البشر مهما تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم. وبعد فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، وهو من أهم العوامل في رقي البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها في كل مجتمع. والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا العالمين، والمهوسين لا المعتدلين) (2)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد قال قبله صالح بن مهدي المقبلي: (فأقول اللهم إنه لا مذهب لي إلا دين الإسلام، فمن شمله فهو صاحبي وأخي، ومن كان قدوة فيه عرفت له حقه، وشكرت له صنعه، غير غالٍ فيه ولا مقصر، فإن استبان لي الدليل، واستنار لي السبيل، كنت غنياً عنهم في ذلك المطلب، وإن ألجأتني الضرورة إليهم وضعتهم موضع الإمارة على الحق، واقتفيت الأقرب في نفسي إلى الصواب بحسب الحادثة، بريئاً من الانتساب إلى إمام معين، يكفيني أني من المسلمين، فإن ألجأني إلى ذلك الله، ولم يبق لي من إجاباتهم بد، قلت: مسلم مؤمن، فإن مزقوا أديمي، وأكلوا لحمي، وبالغوا في الأذى، واستحلوا البذا، قلت: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، {لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50]، وأجعلك اللهم في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم،

__________

(1) الجرح والتعديل ـ ص 10.

(2) الجرح والتعديل ـ ص 38.

الطائفيون والحكماء السبعة (109)

رب نجني مما فعله المفرقون لدينك، وألحقني بخير القرون من حزب أمينك صلى الله عليه وآله وسلم) (1)

__________

(1) العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، المقبلي، صالح بن المهدي، ص 7 ـ 8،

الطائفيون والحكماء السبعة (110)

سابعا ـ الرحمة

قام الحكيم السابع بين الصفين، وقال: أخبروني يا من لا تزالون تحملون سيوفكم عن أول اسم من أسماء الله الحسنى تجدونه في القرآن الكريم.

قام رجل من القوم، وقال: ذاك مما يعرفه صغارنا.. إنه لا شك اسمه الرحمن المقترن باسم الرحيم.. فقد تكرر ذكرهما في سورة الفاتحة مرتين.. وتكرر ذكر رحمة الله في القرآن الكريم بما لا يعد ولا يحصى.. بل لم يذكر من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا مثلما ذكرت رحمة الله.

قال الحكيم: فهل رحمة الله خاصة بقوم دون قوم.. أو بخلق دون خلق.. أم أنها وسعت الخلق جميعا؟

قال الرجل: لاشك أنها وسعت الخلق جميعا، وقد قال تعالى:: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}

قال الحكيم: فهل يمكنها أن تسع المذنبين والغافلين والعاصين؟

قال الرجل: ويلك.. وهل أنت في شك من ذلك.. فرحمة الله وسعت كل شيء.. حتى المذنبين والغافلين والعاصين، وقد قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]

قال الحكيم: فهل تجدون في أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام من عمر طويلا وهو كافر مشرك.. لكن رحمة الله تداركته في آخر لحظة.. فآمن واتبع الرسل ومحيت عنه كل خطاياه.. بل عوض بدلها الدرجات الرفيعة من الجنة؟

الطائفيون والحكماء السبعة (111)

قال الرجل: أجل.. وهو كثير جدا.. وقد ذكر القرآن الكريم من أمثلته سحرة فرعون، فقد عاشوا حياتهم كلها في بلاطه يشركون بالله.. ويمارسون كل صنوف الانحراف، ولكن رحمة الله تداركتهم.. كما قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70 و{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه: 72 - 76]

قال الحكيم: فهل تراهم قد فازوا بالسعادة الأبدية بعد قولهم هذا؟

قال الرجل: لا شك في ذلك.. ومن شك في ذلك فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ورميت رأسه في المزابل.

قال الحكيم: أرأيتم لو أن رجلا من الغيورين أمثالكم راح لبعض هؤلاء السحرة، فقتلهم، كيف يكون مصيرهم؟

قال الرجل: لا شك أن مصيرهم حينها سيكون جهنم، وبئس المصير.

قال الحكيم: فكم سيمكثون فيها حينها؟

قال الرجل: سيخلدون فيها خلودا أبديا.

قال الحكيم: ألا يكون الذي قتلهم حينها قد جنى عليهم.. وقد حرمهم من السعادة الأبدية.. وأنزلهم دار الشقاوة الأبدية.

قال الرجل: أجل..

قال الحكيم: فهل تراه قاسيا بفعله ذلك، أم رحيما؟

الطائفيون والحكماء السبعة (112)

قال الرجل: بل أراه قاسيا لأن الله رحمهم بمد آجالهم حتى يروا من آيات الله ما تطمئن له قلوبهم، ويتخلصوا به من ضلالهم.

قال الحكيم: فلم لا تتركون الفرصة لمن ترونهم قد ابتدعوا أو ضلوا عسى هداية الله تملأ قلوبهم.. وعسى رحمة الله التي وسعت كل شيء تتداركهم؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: أخبروني عن خبر إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الملائكة الذين يريدون إنزال العقوبة على قوم لوط بعد أن قامت الحجة عليهم.. هل ترونه راح يشجعهم على ذلك، ويفرح بما عزموا عليه، أم ترونه راح يستعمل كل الوسائل لمنعهم، مع علمه بأنهم ملائكة الله؟

قام رجل آخر، فقال: لقد حكى القرآن الكريم عن ذلك.. فقد قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، لكن الله عاتبه على ذلك، فقال: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76]

قال الحكيم: فهل ترون الله تعالى مدح إبراهيم عليه السلام في موقفه ذلك أم لا؟

قال الرجل: بل مدحه.. فقد قال تعالى قبل ذكر عتابه له: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]

قال الحكيم: فهل كانت أفعال قوم لوط أفعالا شنيعة، وكان إبراهيم يعلم بها أم لا؟

قال الرجل: بل كانت أفعالا شنيعة.. وكان إبراهيم عليه السلام يعلم بها.

قال الحكيم: ومع ذلك.. فقد توسط لهم ورحمهم وأثنى الله عليه بذلك.

قال الرجل: ذلك صحيح.

قال الحكيم: ولم كان كذلك؟

قال الرجل: لأن الأنبياء عليهم السلام جبلوا على الرحمة.. وقد أخبر الله تعالى عن

الطائفيون والحكماء السبعة (113)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من فرط حزنه على قومه بسبب عدم إيمانهم يكاد يقتل نفسه.. قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]

قال الحكيم: ولم كان كذلك؟

قال الرجل: لحرصه على إيمانهم، وقد قال تعالى يبين ذلك: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

قال الحكيم: أرأيتم لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمكن حينها منهم، أكان يقيم عليهم جميعا حد الردة، فيقتلهم لشركهم، ولصدهم عن دين الله؟

قال الرجل: وأنى لنا أن نعرف ذلك.

قال الحكيم: بلى.. ألم ترووا في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاب من سأله: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟)، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا) (1)

قال الرجل: الحديث صحيح.. وقد رواه جمع كثير من الثقاة الذين لا نشك في نزاهتم وضبطهم وكفاءتهم في الرواية.

__________

(1) رواه البخاري.

الطائفيون والحكماء السبعة (114)

قال الحكيم: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في إمكانه عن طريق ملك الجبال أن يقيم عليهم أحكام الدين.. ويقضي عليهم دفعة واحدة، وتستريح الأرض من شركهم؟

قال الرجل: لقد طمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يكون من أولاد أولئك المشركين من يؤمن به.

قال الحكيم: فلم لا تطمعون في أولاد من تحاربونهم أن ينتهجوا الصراط الذي تنتهجونه.

قال الرجل: لقد كان ذلك في مكة.. لا في المدينة.. وكان قبل الهجرة لا بعدها.

قال الحكيم: فهل ترون رحمة الله ورحمة رسوله نسخت أم عطلت بعد الهجرة؟

قال الرجل: معاذ الله.. فرسول الله كما ذكره ربه رحمة للعالمين.. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]

قال الحكيم: ولكنكم تجعلونه رحمة خاصة بكم حين تسمحون لأنفسكم أن تقتل كل من يخالفكم بحجة أنه يخالف نبيكم.

سكت الرجل، فقال الحكيم: ألستم تذكرون في دواوينكم التي هي أهم عندكم من كل شيء أن كبار المشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتفننوا في حربه قد أسلموا، وحسن إسلامهم.. وأنهم صاروا صحابة أجلاء.. وأنهم اكتسبوا بعد كل تلك الحروب التي خاضوها ضد الإسلام من الحرمة والمنعة ما لم يكتسبه الذين ولدوا في الإسلام وعاشوا به، وماتوا عليه.

قال الرجل: تقصد هندا وأبا سفيان؟

قال الحكيم: وغيرهما كثير.. ألستم تجلونهم وتعظمونهم مع كل ما فعلوه؟

قال الرجل: لأن رحمة الله تداركتهم.. فتحولوا من أعداء أشقياء إلى صحابة أجلاء.

قال الحكيم: فلم لا تدعون رحمة الله تتدارك هؤلاء البسطاء الذين تقاتلونهم.. ولم لا

الطائفيون والحكماء السبعة (115)

تدعون رحمة الله تتنزل على أولادهم وأحفادهم إن لم تتنزل عليهم؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: أخبروني ماذا تفعلون برجل يحمل النجاسات.. ويضعها في المسجد؟

سل بعضهم سيفه، وقال: من رأيته يفعل ذلك لأغمدن سيفي في صدره.. أو لأجتزن رقبته وأرمي برأسه للكلاب والثعالب.

قال الحكيم: فهل لك دليل على ذلك من سنة نبيك الذي تزعم أنك تتبعه؟

قال الرجل: أجل.. فالمساجد من شعائر الله.. ومن حقرها فقد حقر شعائر الله.. وليس لذلك سوى القتل.

قال الحكيم: فهل أنت أكثر تعظيما لشعائر الله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال الرجل: معاذ الله.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أعلم الخلق بالله، وأعظمهم تعظيما لشعائره.

قال الحكيم: فما سنته فيمن فعل ذلك؟

قال الرجل: أنا لم أسمع بأي سنة في هذا الباب.

قال الحكيم: ألم تسمع بحديث الذي بال في المسجد؟

قال الرجل: بلى.. لقد أنستنيه الأيام مع أنني لدي إجازة من مشايخي بروايته.. فقد حدثني شيخي عن شيخه إلى أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مه مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)، فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه (1).

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (116)

قال الحكيم: بورك في حفظك للحديث.. لكنك لم تكمله.. فللحديث تتمة.

قال الرجل: أجل.. وقد رويتها بسندي عن أبي هريرة أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لقد تحجرت واسعاً. ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، صبوا عليه سجلا من ماء (1).

قال الحكيم: فهل ترى أن هذه الحادثة خاصة بزمنه صلى الله عليه وآله وسلم.. أم أنها عامة؟

قال الرجل: بل هي عامة.. فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث لصحابته هذه المقولة: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)

قال الحكيم: فهل ترون ما تقومون به من قتل بعضكم بعضا من أجل رأي أو قضية أو موقف داخل في التيسير أم التعسير؟

سكت الرجل، فقال الحكيم: بل هو داخل في التعسير.. وأنتم بمواقفكم هذه تخالفون سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم.. بل تحولون دين الرحمة إلى دين قسوة.. ودين اليسر إلى دين عسر.. أنتم تحرفون الدين تحريفا خطيرا.

رمى رجل سيفه، وقال: بورك فيك أيها الحكيم.. لقد تذكرت لتوي كيف فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تمكن من أعدائه الذين صبوا عليه وأصحابه جميع أنواع العذاب، وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)، قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)

لقد أنزل الله عليه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ

__________

(1) رواه أبو داود.

الطائفيون والحكماء السبعة (117)

لِلصَّابِرِينَ} (النحل:126)، فاختار أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم، وأن لا يعاقب فقال: (نصبر ولا نعاقب)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة فعلق سيفه، ونمنا نومة، فإذارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده فقال: من يمنعك مني؟) فقلت: الله ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس (1).

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث جابر الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا رسول الله أعدل، فقال: (ويحك، من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل) فقال عمر: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: (معاذ الله أن يتحدث أني أقتل أصحابي) (2)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناسا في القسمة ليؤلفهم، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله تعالى، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته، فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: (يرحم الله موسى عليه السلام، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) (3)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث عبد الله بن سلام: أن

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه أبو الشيخ، وابن حبان.

(3) رواه مسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (118)

زيد بن سعية ـ وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود ـ قال: إنه لم يبق من علامات النبوة شئ إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه، فابتعت منه تمرا معلوما إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيته، فأخذت بجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل، وقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى عمر في سكون، وتؤدة، وتبسم، ثم قال: (أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا، مكان ما رعته)، ففعل عمر، فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنتين لم أخبر هما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد خبرتهما، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا (1).

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث عائشة قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: (عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق، من تمر الذخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده) فقال: الأعرابي: واغدراه واغدراه، فوكزه الناس وقالوا: إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقول هذا؟ فقال: (دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا) فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: (اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك إن كان عندك وسق من تمر

__________

(1) رواه ابن حبان، والحاكم.

الطائفيون والحكماء السبعة (119)

الذخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى) فذهب إليها الرجل، ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل: (اذهب فأوفه الذي له) فذهب، فأوفاه الذي له، قال فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيت وأطيبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولئك خيار الناس الموفون المطيبون) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث أنس قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليْه بُرُدٌ نجرانىّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابىّ فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرتُ إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثَّر بها حاشية الرَّداء من شدَّة الجذبة، ثم قال: يا محمد مُرْ لى من مال الله الذى عندك، فالْتَفتَ إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء (2).

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث الرجل الذي أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: اعطوه شيئا مثل سنة)، فقالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أفضل من سنه، قال: (اعطوها، وخيركم أحسنكم قضاء) (3)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث اليهودية التي أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجئ بها، فقيل: ألا تقتلها فقال: (لا) (4)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لم أبعث لعانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا

__________

(1) رواه أحمد، وأبو الشيخ.

(2) رواه البخارى ومسلم.

(3) رواه البخاري ومسلم.

(4) رواه البخاري.

الطائفيون والحكماء السبعة (120)

يعلمون) (1)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي قول أنس: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث مالك بن الحويرث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما، رفيقا، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا عند أهلنا، فأخبرناه، فقال: (ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا عندهم) (3)

رمى آخر بسيفه، وقال: صدقت.. وقد تذكرت لتوي حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجدانه من بكائه) (4)

__________

(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان، مرسلا، ورواه موصولا عن سهل بن سعد مختصرا: (اللهم: اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)

(2) رواه مسلم.

(3) رواه البخاري ومسلم.

(4) رواه البخاري ومسلم.

الطائفيون والحكماء السبعة (121)

الخاتمة

بعد أن تحدث هؤلاء وغيرهم بهذا وغيره.. قامت ضجة كبيرة بين الجيشين، وارتفعت أصواتهم بالبكاء، وفجأة رأيت قائدي كلا الجيشين يرمي سلاحه، ثم ينزل من على فرسه، ويسير نحو أخيه يعانقه ويقبله، ويحاول كل منهما أن يقبل جبهة الآخر.

سرت روحانية عظيمة في ذلك الحين، لم تقطعها إلا أصوات بعض من لم يضعوا سيوفهم، فقد قال أحدهم، وكان ذات مرتبة كبيرة في أحد الجيشين، بل كان بمثابة مستشاره الإعلامي: ويلكم يا قوم.. أتستسلمون لبعض كلمات قالها هؤلاء الجهلة المبتدعة الممتلئين بالضلالة.. ويلكم كيف تلاقون ربكم، وقد وضعتم سيوفكم قبل أن تغمدوها في صدور أعداء الدين؟.. ويلكم هل نسيتم سلفكم الصالح، وغيرتهم على الدين، وشدتهم على المبتدعة؟

قام آخر من الجيش الآخر، وهو يقول: أبعدوا عنكم وساوس الشياطين، وهلموا احملوا سيوفكم لتغمدوها في صدور أعدائكم.. فلا ينبغي لمن حمل السلاح أن يضعه، ولا لمن ثار غيرة دين الله أن يسكت صوت غيرته قبل أن يعيد لدين الله حرمته.

بقي هذان وغيرهما من كل الجيشين يصرخان من غير أن يلتفت لهما أحد.. وفجأة سار كلا القائدين إلى ربوة مرتفعة ليراهم الجميع، ويسمعهم، وهناك جرى هذا الحديث.

قال الأول: أيها الإخوان الفضلاء ممن كانوا معي أو كانوا مع أخي.. لست أدري ما أقول لكم، وكيف أعتذر لأني أخرجتكم من بين أهليكم وأولادكم لأزج بكم في هذه الفتنة العمياء.. لقد غطى الران على قلبي بسبب بعض من استشرتهم من رجال الدين والدنيا.. فكلهم زينوا لي الجرائم التي حركتكم لها.. ودفعتكم إليها.. وأنا الآن تائب إلى الله تعالى.. وقد رميت سلاحي الذي كاد يصليني بالعذاب الأبدي والغضب الذي لا يطيقه أحد من

الطائفيون والحكماء السبعة (122)

الخلق.

وأنا أشكر هؤلاء الحكماء السبعة الذين جعلهم الله أنوارا نهتدي بها.. وشموسا تحرق كل ما في قلوبنا من غل وحقد وحسد.. وأنا الآن أشعر براحة عظيمة.. فكل الأثقال التي كانت تجثم على قلبي سقطت منذ سقط سيفي من يدي.

قال الثاني: بورك فيك يا أخي.. وأنا أعتذر لك.. ولكل من حملت في وجهه السلاح.. لقد كنت أسيرا للشيطان الرجيم.. وأسيرا لأولئك الذين يتاجرون بالدين في سبيل الدنيا، وفي سبيل أهوائهم.. وأنا الآن قد عزمت مع أخي على أن نجتث جذورهم، لا بالمشانق والسجون، وإنما بالعلم والحكمة والروحانية والتوجه الصادق إلى الله.

فلولا غفلتنا عن الله ما تسربت شياطين الإنس والجن لتكدر علينا صفونا، وتملأ حياتنا بالمآسي والآلام.. لو أننا عرفنا الله، وعرفنا عظمته ورحمته ولطفه بعباده لرأينا الكون أجمل بكثير وأعظم بكثير من تلك الصورة التي صورها لنا تجار الدين من أصحاب الأهواء.

ولو عرفنا أنبياءنا وورثتهم الطاهرين، وشربنا من بحارهم العذبة لتخلصنا من كل السموم التي اشتعلت في صدورنا.

قال الأول: لقد قررت أنا وأخي أن نجعل من الحكماء السبعة أئمة يهدوننا سواء السبيل، إليهم نرجع، وبهديهم نهتدي، وبسيرتهم نسير.. فهم الذين فهموا الدين، وفقهوا عن رب العالمين..

قال الثاني: وقد قررنا أن ننزل العقوبة على كل من يسعى للفتنة أو يشعلها بيننا.. وسنبدأ بهؤلاء الذين رفضوا أن يضعوا سيوفهم.. فالله تعالى أمرنا بالاجتماع على قتالهم، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ

الطائفيون والحكماء السبعة (123)

يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]

فهم مخيرون بين أمرين: إما الاستسلام لما تقتضيه العدالة، ونحن لن نفعل بهم إلا ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ألد أعدائه.. وإما أن يعلنوا الحرب علينا جميعا، وحينها سنقاتلهم، بعد أن نعتذر لهم بأن ذلك لم يكن إلا بسببهم.

فجأة سقطت كل السيوف التي لم تسقط من قبل.. وقد أجرى كلا القائدين تحقيقا في أسباب الفتنة، فوجدوا أن أولئك الذين رفضوا وضع سيوفهم هم أول من بدأها.. ووجدوا بعد اقتحام بيوتهم أن لهم علاقة بدول أجنبية كانت تريد أن تستأصل بلدتنا بأكملها لا تفرق في ذلك بين جهة وجهة..

وقد توصلت التحقيقات إلى أن كل القتلى الذين قتلوا، واتهم فيها طرف من الأطرف قصد إشعال الفتنة لم يكن سببها إلا أولئك الخونة..

وتوصلت التحقيقات إلى العلاقة الحميمة التي كانت تربط مثيري الفتن في كلا الجهتين.. بل كان كلاهما يجتمعان، ويخططان لما يقول كل طرف، وما يجيبه الطرف الآخر.

بعد أن اكتشفت بلدتنا بمعونة حكمائها كل ذلك أقيمت محكمة عادلة، وطبقت العدالة على أولئك الشياطين الذين كادوا يستأصلون الأخضر واليابس..

وقد حضر الجميع تطبيق أحكام العدالة.. وانصرفوا جميعا بعدها إلى حياتهم إخوة متحابين متصافين، وكأنه لم يحدث بينهم كل ما حدث من الفتن.

وقد بارك الله في أولادهم وأرزاقهم وحياتهم.. فكانت النعم تهب عليهم من كل جهة.. وقد سمع أعداؤهم بما وقع لهم فازدادوا هيبة في أعينهم.. ولم يفكر أحد في الاقتراب منهم أو غزوهم..

بل إنه بسبب ذلك الرخاء الذي تحقق في البلدة صار كبار التجار والعلماء من الدول المجاورة يزوروننا ويستثمرون أموالهم وعلومهم في بلدتنا.. وقد أكسبنا ذلك قوة على قوة..

الطائفيون والحكماء السبعة (124)

ولم يكن ذلك وحده ما بورك لنا فيه.. فقد كانت أعظم بركة هي تلك المشاعر الروحية التي كانت تجمع بين المؤمنين مع اختلاف مذاهبهم في المسجد الواحد.. وهم يصلون لله، ويتوجهون إليه بقلوب واحدة، وبألسن متعددة.. وبعدها يعودون إلى أعمالهم بقلوب صافية سليمة.

الطائفيون والحكماء السبعة (125)

هذا الكتاب

هذه الرواية موجهة بالدرجة الأولى لأولئك الإسلاميين ـ حركيين كانوا أو سلفيين ـ الذين تركوا الدعوة للإسلام ـ الذي أردوا احتكاره دون سائر الناس ـ وراحوا يتدنسون بعار الطائفية والحزبية والفرقة.

فصار دورهم الوحيد نشر البغضاء والأحقاد في القلوب، ونشر التفكك والقطيعة في المجتمعات، ونشر الدمار والخراب في الأوطان.

وهي تحاول أن تعيدهم إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وهدي الأئمة الطاهرين الذين جعلهم الله ممثلين لدينه، وورثة لنبيه.

وقد وضعتها بشكل رمزي بسيط، ليسهل الاستفادة منها على العامة والخاصة.