الكتاب: كلكم كفرة
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1437 هـ
عدد الصفحات: 418
ISBN: 978-3-330-96938-4
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب ـ من خلال الأدلة والوثائق الكثيرة ـ إثبات المدى الذي وصل إليه التكفير السلفي بحق الأمة جميعا بمدارسها العقدية والفقهية والصوفية والحركية.. بالإضافة لطوائفها المتعددة من أهل سنة وشيعة وإباضية وغيرهم.
والنتيجة التي وصل إليها هي أن التكفير السلفي ـ سواء المطلق منه أو المعين ـ يشمل الأمة جميعا، ولا يستثنى منه أحد من الناس، حتى السلفية أنفسهم، وفيما بينهم نجد هذه الظاهرة، حيث نرى كل مدرسة تطبق مناهجها التكفيرية على غيرها من المدارس.
وهو يكشف تلك الحيل والخدع التي يمارسها المدافعون عن السلفية حين يحاولون رفع هذه التهمة عنهم من خلال عرض مقولاتهم المختلفة والمتناقضة والمرتبطة بالأحوال المختلفة.
كلكم كفرة (7)
من التهم التي طالت السلفية في عصورها المختلفة من لدن الكثير من العلماء المعتبرين تهمة [التكفير]، ولهذا نجدهم أحرص الناس على رميها عن أنفسهم، والاحتيال لذلك بكل صنوف الحيل والدهاء التي تعلموها من أساتذتهم من السلف الأول والآخر.
وأول تلك الحيل هي الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وذلك بتأويل كل ما ورد في النصوص من تحذيراته صلى الله عليه وآله وسلم من وجود طائفة من الأمة، تتقن التكفير كما تتقن الرياء والخداع، كما تتقن احتكار الدين ومصادره وتشريعاته، كما تتقن فن الإرهاب والعنف بكل أنواعه (1).. إلى طائفة قد ذهب بها التاريخ في غابر الزمان، ولم تمكث إلا فترة محدودة جدا لا تكاد تعتبر.. وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أولى تلك الطائفة كل تلك الأهمية غفل عن طائفة أخطر، وأكثر تضليلا وتكفيرا، وأكثر إرهابا وعنفا، وأطول مدة وزمنا.
وثاني تلك الحيل هو ما تعلموه في فن الجرح والتعديل من الجمع بين توثيق الراوي الواحد وتضعيفه، حتى إذا ما أعجبهم حديثه غلبوا التوثيق على التضعيف، وإذا لم يعجبهم حديثه غلبوا التضعيف على التوثيق.
وهكذا فعلوا مع التكفير.. وهكذوا غرروا بالكثير من الطيبين الذين لا يعرفون حيلهم ومكرهم، فأغروهم ببعض الكلمات المعسولة التي وردت عن سلفهم وخلفهم في أنهم طيبون، وأنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، وأن التكفير شأن الخوارج، وأن فلانا من الناس قال كذا يوم كذا.. وهكذا.
فإذا قيل لهم: كيف تقولون هذا، وقد أجمع سلفكم الأولون والآخرون على تكفير
__________
(1) أشير بذلك إلى قوله (: (سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة)، رواه البخاري 9/ 86.
كلكم كفرة (8)
كل منكر للجهة، وأن من لم يقل بأن الله في السماء، فهو كافر زنديق، وجهمي معطل.. ولو طبقنا هذه المقولة وحدها على جميع مدارس الأمة وعلمائها من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وأتباع المذاهب الفقهية والصوفية والشيعة والزيدية والإباضية وغيرهم، لوجدناها تنطبق عليهم جميعا، لأنهم جميعا لا يقولون بالجهة، وينزهون الله عن المكان.
وهكذا لو طبقنا مقولات السلف الأول والآخر على أن الحروف القرآنية مخلوقة، فإن ذلك سيخرج الأمة جميعا من الملة.
وهكذا لو طبقنا مقولات السلف الأول والآخر على أن رؤية الله تتعلق بالقلب، ولا علاقة لها بالحس، وأن الله لا يرى كما ترى الأشياء، لأنه ليس كالأشياء..
وهكذا لو طبقنا الكثير من مقولاتهم التكفيرية التي تمتلئ بها كتب عقائدهم وفقههم وحديثهم وتفسيرهم.. فكلها مشحونة بأصناف التكفير..
لكنهم، ولدهائهم وحيلتهم بدل أن يتبرؤوا من تلك المقولات، ويستغفروا الله منها، يقومون بأنواع كثيرة من التقية، تجعلهم يحافظون على عصمة سلفهم في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على سمعتهم، وأنهم ليسوا تكفيريين كالخوارج.
قد يقول البعض بأن هذه تقية، وأن الذي شرعها ووقع فيها هم الشيعة، وليسوا السلفية.. وهذا أيضا من أنواع الاحتيال التي مارسها السلفية مع خصومهم، فهم يطبقون جيدا تلك المقولة العربية المشهورة [رمتني بدائها وانسلت]، لأنهم يعمدون إلى معنى نبيل قام به قوم مضطهدون على مدار التاريخ، ليحموا أنفسهم من تلك المحاكم التفتيشية التي كانت تعقد لهم كل حين.. إلى تقية أخرى مملوءة بالكذب والدجل على الدين وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأمة نفسها.
فالسلفية بمدارسهم المختلفة يطبقون ما قاله الشيخ ربيع المدخلي عن مدرسة من مدارس السلفية ينبزونها بـ (الحدادية)، فيذكر من مواصفات أصحابها: (التقية الشديدة،
كلكم كفرة (9)
فالرافضي يعترف لك بأنه جعفري، ويعترف ببعض أصوله، وعقائده الفاسدة، وهؤلاء لا يعترفون بأنهم حدادية، ولا يعترفون بشيء من أصولهم، وما ينطوون عليه) (1)
وهكذا نجد الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق يشهد على الشيخ ربيع المدخلي أنه يستعمل التقية إذا ما احتاج إليها، أو كما عبر عن ذلك بقوله: (ولما وقع الشيخ ربيع فيما وقع فيه من وضع هذه الأصول الفاسدة أوقعه هذا في التناقض المشين، فبدأ يكيل بمكيالين! ويقول الشيء ونقيضه، وينقلب من الضد إلى الضد، وينزل أقوال السلف في غير منازلها، بل ويضع القرآن والحديث في غير مواضعه... وأصبح يرى أن العدل مع الدعاة والمصلحين من أصول أهل البدع، وإهدار الحسنات، والمؤاخذة بالزلات من أصول السنة، وأصبح يرى نفسه مضطراً إلى التقية والتدليس) (2)
بل إنه يشهد على أن هذه التقية مسلك سلفي يمارسه الكثير من الدعاة، فيقول: (لقد أوقع هذا المنهج الباطل أتباعه في التناقض والكيل بمكيالين، والحكم في المسألة الواحدة بقولين متناقضين، ولذلك أصبح كثير منهم من أهل التقية والكذب، فلهم أقوال في السر يبدعون بها سادات الناس لا يستطيعون قولها في العلن) (3)
بل إنهم شرعوا ذلك، واعتبروا الكذب فيه وفي غيره جائزا، لأنهم في حرب مع الأمة جميعا، والحرب خدعة، وقد قال الشيخ علي الخضير في بعض فتواه: (وإنما جازت المخادعة في الحرب مع ما فيها من الإيهام وإظهار خلاف الحقيقة لأن كون كل من المسلم والكافر قد نصب الحرب لصاحبه يدل دلالة صريحة على أنه يتربص به ويسعى للفتك به؛ بل يندب إليها كما يدل على ذلك صريح الحديث، واتفاق العلماء؛ ومفهوم الحرب في هذه الأحاديث
__________
(1) كشف أكاذيب وتحريفات وخيانات فوزي البحريني،37.
(2) الرد الوجيز، ص 7.
(3) الرد الوجيز، ص: 38.
كلكم كفرة (10)
أعم من أن يقصر على نصب القتال والتقاء الصفين وتقابل الزحفين.. ومن الحرب حرب الأفكار، وهي أشد من حرب القتال، فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيها لإظهار أهل البدع والشركيات وأهل الفرق الباطلة من روافض وزنادق وأهل علمنة وحداثة وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي لايغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم اللائق بهم.. ولهذا فإنه يجوز لك الكذب والشهادة وتغليظ اليمين لنصرة الدين الإسلامي ونهجه القويم ونصرة أخيك المسلم الصالح ممن يريدون به كيداً؛ وإذلال أهل البدع والضلالات والفرق الفاسدة) (1)
وما ذكره الشيخ الخضير هو ما يمارسه السلفية مع خصومهم من الأمة جميعا، فهم يكذبون عليهم، ويقولونهم ما لم يقولوا، ويكفرونهم بكل أنواع التكفير، لكنهم ـ وحرصا على سمعتهم وعلى منهجهم القويم كما يذكر الشيخ الخضير ـ ينكرون كل ذلك إذا ما كان المقام لا يسمح لذلك.
وقد أشار الشيخ الفوازان إلى هذا، فقد سئل هذا السؤال: (انتشر اليوم بين الشباب أنه يلزم الموازنة في النقد فيقولون: إذا انتقدت فلانا من الناس في بدعته وبينت أخطاءه يلزمك أن تذكر محاسنه، وهذا من باب الانصاف والموازنة، فهل هذا المنهج في النقد صحيح؟ وهل يلزمني ذكر المحاسن في حالة النقد؟)
فأجاب: (إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في الامور التي لاتخل بالعقيدة، فنعم، هذا تذكر ميزاته وحسناته، تُغمر زلاّته في نصرته للسنة. أما إذا كان المنتقد من أهل الضلال ومن أهل الانحراف ومن أهل المبادئ الهدامة والمشبوهة، فهذا لايجوز لنا أن نذكر حسناته - اذا كان له حسنات - لأننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع أو هذا الخرافي أو الحزبي، فيقبلون أفكار هذا الضال أو هذا
__________
(1) نقلا عن مقال بعنوان: متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية - شبكة المنطقة.
كلكم كفرة (11)
المبتدع أو ذاك المتحزب. والله جل وعلا ردّ على الكفرة والمجرمين والمنافقين ولم يذكر شيئا من حسناتهم، وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضلال ولايذكرون شيئا من حسناتهم. لأن حسناتهم مرجوحة بالضلال والكفر والالحاد والنفاق. فلا يناسب انك ترد على ضال، مبتدع، منحرف، وتذكر حسناته وتقول هو رجل طيب عنده حسنات وعنده كذا، لكنه غلط.. نقول لك: ثناؤك عليه أشد من ضلاله، لأن الناس يثقون بثنائك عليه، فإذا روجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فقد غررت بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين) (1)
وهكذا نرى السلفية يمارسون كل أنواع الحيل والأكاذيب والخدع مع خصومهم، ويعتبرون ذلك مشروعا، لأن قيام المنهج السلفي عندهم، وسيطرته على مفاصل الأمة هو الهدف الذي تسترخص في سبيله كل وسيلة.
وهكذا أيضا يخادعون حين يجادلون عن أنفسهم بأنهم لا يكفرون، مع أن كل دواوينهم التي يقدسونها تمتلئ بالتكفير، بل هي أكبر مخزن للتكفير في العالم أجمع.
وكمثال على ذلك الاحتيال والخداع السلفي الموقف من الأشاعرة، والذين يشكلون أكبر طائفة في الأمة على مدار التاريخ، حيث تبنى مذهبهم العقدي أكثر الشافعية والمالكية والحنابلة، فإننا لو طبقنا مقولات سلف السلفية في الرمي بالتجهم والتعطيل كل من أنكر العلو، أو عطل الصفات ـ كما يفهمها السلفية ـ فإن الحكم المرتبط بهم هو التكفير، لكنهم وبحكم كثرة الأشاعرة، وكون السلطة الزمنية كانت للحكام الذين يوالونهم في فترات مختلفة من التاريخ تذبذت مواقف السلفية التصريحية لا الحقيقية، فلهذا إن ووجهوا بأنهم يكفرون الأشاعرة أخرجوا بعض الفتاوى التي تبرئهم من ذلك، من أمثال قول ابن باز: (الأشاعرة من أهل السنة في غالب الأمور، ولكنهم ليسوا منهم في تأويل الصفات، وليسوا
__________
(1) الأجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة، 1/ 24.
كلكم كفرة (12)
بكفار، بل فيهم الأئمة والعلماء والأخيار، ولكنهم غلطوا في تأويل بعض الصفات، فهم خالفوا أهل السنة في مسائل؛ منها تأويل غالب الصفات، وقد أخطأوا في تأويلها، والذي عليه أهل السنة والجماعة إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه) (1)
لكنهم يخفون فتاوى كثيرة لابن باز نفسه تكفر كل من يقول بقول الأشاعرة في الجهة وغيرها، ومن أمثلة ذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية برئاسة الشيخ ابن باز نفسه عن سؤال قال صاحبه: (في هذه القرية مسجد مبسط ويجتمع فيه حوالى خمسمائه من المسلمين، ولكن للأسف فإن إمام هذا المسجد يعتقد عقيدة فاسدة وحلولية، يعتقد أن الله في كل مكان. وهناك كثير من الخرافات والبدع تقام بهذا المسجد غلبتني نفسي حتى تناقشت مع إمام هذا المسجد وطرحت عليه الأدلة والبراهين بأن الله في السماء مستو على عرشه وفي هذا إذ لانكيف ولانمثل.. وكذلك ذكرت له ليلة الإسراء والمعراج وذكرت له حديث الجارية، وكذلك {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ولم يقتنع بل ظل في عتوه وعقيدته هذه وبالعلم أن هناك مسجد آخر في هذه القرية ويحمل نفس الخرافات والبدع، حتى الآن لم أطرح سؤالي، وسؤالي هو، هل يجوز لي أن أصلي خلف هذا الإمام أم لا ومع أني أحب أن أصلي صلاة الجماعة؟)
فمع كون هذه العقيدة هي عقيدة كل المسلمين ـ بمن فيهم الأشاعرة ـ ما عدا السلفية، إلا أن أكبر هيئة سلفية للفتوى، وتحت رئاسة الشيخ ابن باز نفسه، أجابت عن ذلك بقولها: (إنهم كفار، ولا تجوز الصلاة خلفهم ولا تصح) (2)
وهنا نتساءل أيهما نقبل: هل تلك الفتوى الدبلوماسية التي ذكرها ابن باز أو ابن
__________
(1) مجموع فتاوى ابن باز، (28/ 256)
(2) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 365)
كلكم كفرة (13)
عثيمين أو الفوزان، أو غيرهما، حتى ينفوا عن أنفسهم ما يصفهم به خصومهم من التكفير، أم مثل هذه الفتاوى التي تصرح بتكفيرهم، بل تجعل الصلاة خلفهم باطلة، مع أنهم يجوزون الصلاة خلف كل بر وفاجر.
ومن الحيل التي يستعملها السلفية في هذا الباب ما يسمونه عدم تكفير المعين.. ويقصدون بذلك أنهم لا يطلقون على أحد لقب الكفر، ولكن يصفون أعماله أو مواقفه بالكفر، فيقولون مثلا: نحن لا نكفر الأشاعرة ولا الماتريدية.. ولكن نكفر من ينكر الجهة، أو يقول بأن الحرف والصوت في القرآن الكريم مخلوق، أو يقول بتأويل الصفات.. وهم يعلمون كما يعلم الناس جميعا أن هذه المقولات هي مقولات الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم، بل كل الأمة، وهم يكفرونهم بذلك، لكن مع عدم ذكر الاسم فقط.. وهي لا تغني في منطق العقل شيئا، لأن المهم هو المسمى لا الاسم..
وهكذا نجدهم يذكرون في بعض المحال ما يسمونه العذر بالجهل.. مع أنهم لا يؤمنون بذلك، بل يذكرونه فقط من باب رفع العتب عنهم عندما يوصمون بالتكفير، وهم يرفعون هذا العذر عن كل جهة يريدون إعلان الحرب عليها، والحرب تبدأ عندهم بالتكفير.
ولهذا عندما احتاج الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذريته وأتباعه إلى إعلان الحرب على عامة المسلمين، رد على هذه الشبهة، واستعمل التكفير المطلق، وحكم على عامة المسلمين بالشرك، وقد ذكر الشيخ علي بن خضير الخضير في كتابه [المُتَمِمَة لكلام أئمة الدعوة في مسألة الجهل في الشرك الأكبر] الكتابات الكثيرة التي ألفها أئمة الدعوة النجدية في الرد على تلك الشبهة، وإثبات أن كل من وقع ـ في نظرهم ـ في الشرك الأكبر مشرك عاميا كان أو عالما، فقال: (لم تظهر هذه الشبهة قبل عصر ابن تيمية، لأن كل من ادعى العذر فإن أقدم ما يستدل به من الأقوال كلام ابن تيمية أنه يعذر، ثم ظهرت هذه الشبهة في عصر
كلكم كفرة (14)
الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وظهرت هذه الشبهة في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب على محورين: 1 ـ أناس ضلال أثاروها فرد عليهم في مفيد المستفيد، 2 ـ أخف لأنها ظهرت في أناس من باب الاشتباه وكانوا يطلبون الحق، أمثال بعض طلابه في الدرعية، وفي الاحساء ثم خمدت فيما بعد، ثم ظهرت في الجيل الثاني في زمن الحفيد عبد الرحمن بن حسن، تبناها داود بن جرجيس وعثمان بن منصور فتصدى لها الشيخ عبد الرحمن وساعده ابنه عبد اللطيف في مصنفات معروفة، وساعدهم أيضا الشيخ ابابطين، ثم ظهرت في الجيل الثالث فتصدى لها الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن والشيخ ابن سحمان في مصنفات وفتاوى وساعد على ذلك أبناء الشيخ عبد اللطيف وهما عبد الله وإبراهيم، ولازالت موجودة وتتجدد كل عصر، وهناك في العصر الحاضر من أظهر أن مسألة العذر بالجهل في الشرك الاكبر فيها خلاف، ثم يحكي الخلاف على قولين، وهذا موجود في بعض الكتب والمذكرات المعاصرة، مع أنه إذا ذكر الخلاف لاينسبه إلى أحد، وإنما ينسبه نسبة مطلقة، ومنشأ هذا الفهم هو ظنهم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب له قولان في المسألة حيث نظروا إلى بعض نصوص الشيخ محمد ففهموا منها العذر بالجهل، وهومبني على توهم وظن وفهم خاطئ، وهذا سوف نتكلم عليه إن شاء الله في فصول لاحقة ونجيب فيها عمن فهم هذه النصوص على غير المراد ونذكر الفهم الصحيح لذلك) (1)
وشبه الشيخ علي بن خضير الخضير هذه المسألة بمسألة تكفير الجهمية. وهم يقصدون به كما ذكرنا في محال مختلفة جميع منزهة الأمة من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم ـ فقال: (وهذه مثل مسألة من قال إن تكفير الجهمية فيه خلاف على قولين ثم يحكي الخلاف ولا ينسبه إلى أحد إنما هو ظن خاطئ مبني على فهم خاطئ لبعض كلام ابن تيمية.. وهذا القائل لم يفرق بين استخدامات ابن تيمية لمسمى الجهمية، فإنه يختلف حسب السياق،
__________
(1) المُتَمِمَة لكلام أئمة الدعوة، ص 3.
كلكم كفرة (15)
وهذه ظهرت في عصر الشيخ سليمان بن سحمان فرد عليهم أن المسالة وفاقية في تكفير الجهمية وليس فيها خلاف كما في كتابه رفع الالتباس وكتاب كشف الشبهتين) (1)
بناء على هذا نرى السلفية في مواقفهم من غيرهم يستعملون أسلوبين:
الأول: وضع قوانين التكفير، أو ما يسمونه نواقض الإيمان، ويعتبرون كل من اتصف بها كافرا أو مشركا أو مرتدا، ثم يرتبون على ذلك الأحكام العملية المختلفة ابتداء من حرمة الصلاة خلفه إلى قتله، وهذا ما نسميه في كتابنا هذا بـ[التكفير المطلق]، وهم يتفقون في هذا سلفهم وخلفهم، بل يعتبرون منكر التكفير كافرا.
الثاني: تطبيق تلك القوانين والنواقض على آحاد الفرق والمذاهب، أو ما يسمونه [تكفير المعين]، وهنا يقع الخلاف بينهم على مدرستين أو منهجين، منهج يرى وجوب تسمية الأشياء بأسمائها، ومنهج يرى الأخذ بالتقية، مراعاة للأحوال المختلفة، فلذلك يطبق قوانين التكفير في كل مرحلة بحسب ما تدعو إليه الحاجة، حتى لا تجتمع السلفية على حرب الأمة جميعا في وقت واحد، فلهذا يعلنون الحرب مرة على الصوفية، ومرة على الحركات الإسلامية، ومرة على الشيعة وهكذا.
وهم في كل مرة يخرجون من خزائن سلفهم التكفيرية، ما يطبقونه على حسب كل حالة، ولهذا نراهم في الفترة الأخيرة يعلنون حربهم على الشيعة، وفي فترة سابقة أعلنوها على الصوفية.. ولو أن مشكلة حصلت بينهم أو بين أولياء أمورهم، والإباضية، فإنهم سيتوجهون جميعا وبكل قواهم لإعلان الحرب عليهم، واعتبارهم شرا من اليهود والنصارى.
ولأهمية بيان هذه المناهج لفهم الخدع السلفية في هذا الباب، فسنشرح ذلك باختصار، ليتضح ما سنذكره عن كل مدرسة وتكفير السلفية لها:
__________
(1) المُتَمِمَة لكلام أئمة الدعوة، ص 4.
كلكم كفرة (16)
وهو يعتمد على التصريح المباشر بالتكفير، وعلى تسمة الأشياء بأسمائها، وأول من مثل هذا المنهج سلف السلفية الأوائل، ومن تبعهم من أصحاب المصنفات الأولى، والتي تمثل عند السلفية المصدر الأول لما يسمونه [الإسلام العتيق]، والذي لا يكون سلفيا حقيقيا إلا من سلم له وآمن به، واعتقد بما فيه.. والذي نقله بعد ذلك ابن تيمية في كتبه ونظر له.. ونقله في مرحلة تالية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، وعلى أساسه قاموا بحروبهم على الأمة بجميع مذاهبها.
ويمثل هذا المنهج في كل عصر من العصور جماعة متشددة من السلفية تتفق في كل شيء مع الجماعات الأخرى إلا أنها تختلف عنها فقط في عدم مراعاتها للتقية، وهذا ما جعلها تسبب حرجا كبيرا للجماعات السلفية التي تتقن التقية.
وهي التي تمارس التكفير على ضوء الحاجة التي يتطلبها الواقع، لا على ما تنص عليه المعتقدات نفسها، فهي تتفق مع المنهج الأول في كل شيء، وتختلف عنه فقط في استعمال التكفير أو الإعلان به..
فلهذا إن بدا لها أن تعلن الحرب على الصوفية أخرجت ميراثها الكثير من فتاوى السلف والخلف في تكفير الصوفية بطرقها جميعا، وتضليلهم واعتبارهم أكفر من اليهود والنصارى.. لكن إن رأت المصلحة أو كان الواقع السياسي لا يسمح بذلك، فإنها تكف عنهم شرها، بل تعتبرهم من أهل السنة قصد المكاثرة على الأعداء.
وكمثال بسيط على ذلك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي هو مرجع السلفية الحديثة، يصرح في كل كتبه كما يصرح جميع تلاميذه بتكفير الصوفية وعوام المسلمين
كلكم كفرة (17)
والحكم بكونهم مشركين شركا جليا، لكنهم في الوقت الحالي، وبسبب انشغالهم بالحرب مع الشيعة، نجدهم يوقفون كل تلك الحملة، التي تفرغ لها سلفهم، وقتلوا بها آلاف الناس، ليعتبروا العدو الأكبر هم الرافضة، وأن قضية الصحابة هي أكبر قضية في الدين.. مع أنهم لم يكونوا يهتمون بذلك كثيرا في الوقت الذي كانت علاقتهم فيه بمن يسمونهم الرافضة علاقة طيبة.
وهكذا نجد أصحاب هذا المنهج يمارسون كل أنواع الحيلة والخداع في إظهار التكفير أو الإسرار به، فإذا ما دعت الحاجة إلى ذلك أخرجوه، وإذا ما دعت إلى ضده كتموه..
ويمثل هذا المنهج ابن تيمية باعتبار الظروف الشديدة التي عاشها، والتي جعلته يضطر لممارسة أنواع من التقية في التكفير، والتي أقر أصحابه أنفسهم أن ابن تيمية لم يمارس ذلك التمييع مع المبتدعة أو الإرجاء إلا بسببها.
ويمثل هذا المنهج خصوصا كل من له علاقة بالدولة كهيئة كبار العلماء، ونحوهم، والتي تصدر البيانات، أو الفتاوى بحسب ما تتطلبه حاجة السلطان، فإن قضى أمر السلطان باعتبار القاعدة خوارج وكلاب أهل النار.. سموهم كذلك.. وأصدروا الفتاوى التحذرية منهم.. وإن رأى الحاكم أن من مصلحتهم استخدام هؤلاء المسلحين، أصدرت تلك الهيئات الفتاوى باعتبارهم مجاهدين، بل دعت إلى النفير العام الذي تزود به تلك الجماعات، لأنها أصلا لم تولد إلا من رحم تلك الفتاوى.
وقد ذكر الشيخ حسن بن فرحان المالكي العوامل السياسية، وتأثيرها في هذا المنهج، فقال: (العلماء من أواخر عهد ابن باز.. بدأت مرحلة جديدة فيه ملامح مذهب جديد في العقيدة، يقوم هذا المذهب على التلفيق بين أمرين.. الأول: العقائد الوهابية والتيمية من جهة الوصية بمصادرها والتشدد من نقدها.. الثاني: التسامح والاعتدال في المسائل السياسية فقط!... كالإمساك عن تكفير الدول الإسلامية وعن تكفير الحاكم بالقوانين
كلكم كفرة (18)
الوضعية وفي جواز الصلح مع اليهود... والتنصل من تأييد الحركات الإسلامية المحلية خاصة مع أنها ترجمة للعقائد الوهابية) (1)
بناء على هذا نرى أصحاب المنهج التكفيري الصريح يتشددون على أصحاب هذا المنهج، ويذكرون جهلهم بالمنهج السلفي، وبأقوال السلف، وبممارستهم التقية حفاظا على مصالحهم.
ومن الأمثلة على ذلك قول خالد بن علي المرضي الغامدي في رسالته في تكفير الأشاعرة: (سينكر علينا بعض الجهال بحقيقة الدين ومناطات التكفير من الذين اتبعوا الهوى، فأسلموا عقولهم للتقليد وتقديس الرجال وتقديم أقوالهم على الأدلة تكفيرنا للأشاعرة، وسيظنون أنه اجتهاد منا، مع أن السلف لم يخالف منهم أحد في تكفير منكر العلو بعينه والذي تتبجح به الأشاعرة، ومن زعم وجود خلاف فليأت بنقل واحد من كلام السلف يخالف ما قررناه، وإذا كان السيوطي الذي جمع بين التجهم ونفي علو الله تعالى وبين الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاء الأموات ونسبة التصرف في الكون للأبدال والأولياء أنكروا علينا تكفيره فلا تعجب يا أخا التوحيد أن ينكروا علينا تكفير الأشعرية فلقد أنكروا علينا قبله تكفير الرافضة) (2)
ثم ذكر بعض هؤلاء، وبين أن عذرهم في ذلك هو عدم قراءتهم للتراث السلفي أو عدم فهمهم له، أو حرصهم على مناصبهم، وعلى عدم اتهامهم بالتكفير، فقال: (وإن من هؤلاء المنكرين عبد العزيز آل عبد اللطيف، وإني لأعجب منه ومن أمثاله الذين اتخذوا التوحيد والدعوة الوهابية ستارا وشعارا، فتراهم يقرؤون في كتب التوحيد لكن دون فهمها والاستفادة منها، وعلمهم بها لا يتعدى حدود أسطر وصفحات الكتب دون الخروج به
__________
(1) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 33.
(2) تكفير الأشاعرة، ص 12.
كلكم كفرة (19)
عملا في واقع حياتهم، فشروط التوحيد والكفر بالطاغوت ونواقض الإسلام قد يحفظونها لكن لا يعملون بمعانيها ومقتضاها ولا يطبقونها في واقع حياتهم خوفا من أن تصيبهم دائرة وطلبا للعزة والشهرة والمال والمنصب والشرف عند أعداء الله، فهذا الرجل ـ أعني ابن عبد اللطيف ـ أخرج كتابا عن دعاوى المناؤين لدعوة التوحيد لكن هو من المناؤين لها في الحقيقة، وكأنه لا يعلم أن من دعا إلى الشرك أنه يكفر كائنا من كان) (1)
بناء على هذا، فسنحاول في كتابنا هذا أن نذكر تكفير السلفية للأمة جميعا، إما تكفيرا مطلقا، أو تكفيرا معينا، وقد قسمنا هذه الدارسة إلى سبعة فصول، هي:
1. السلفية.. وتكفير المدارس العقدية
2. السلفية.. وتكفير المدارس الفقهية
3. السلفية.. وتكفير المدارس الصوفية
4. السلفية.. وتكفير المدارس الحركية
5. السلفية.. وتكفير المدارس الشيعية
6. السلفية.. وتكفير المدرسة الإباضية
7. السلفية.. وتكفير المدارس السلفية
ونحب أن ننبه هنا ـ كما نبهنا مرات كثيرة في هذه السلسلة وغيرها ـ أننا لا نكفر هؤلاء المكفرة، ولا نتعامل معهم بمثل ما يتعاملون به مع غيرهم، بل نكل أمرهم إلى الله تعالى، فمسؤولية المؤمن هو النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الحكم على الناس، فهذا لله تعالى أولا وآخرا، وإن كنا نعلم أن جرائمهم في حق هذه الأمة، بل في حق الإنسانية جميعا أضعاف جريمة الكفر.. فالكفر والإيمان مسألة شخصية.. لكن تشويه الدين، وتكفير الناس، وقتلهم جريمة متعدية.
__________
(1) تكفير الأشاعرة، ص 12.
كلكم كفرة (20)
السلفية.. وتكفير المدارس العقدية
لا ينظر السلفية إلى العقيدة الإسلامية باعتبارها المجال الذي من خلاله تتم معرفة حقائق الوجود كما هي في الواقع فقط، وإنما ينظرون إليها قبل ذلك وبعده كأهم وسيلة ترضي نزوة العداء التي تمتلئ بها نفوسهم، أو انتقلت لهم من أسلافهم.
ولذلك نجدهم في كتبهم المسندة التي تأسست علىها عقيدتهم، لا يذكرون قضية من القضايا العقدية، حتى لو كانت بسيطة جدا، بل حتى لو كانت مجرد اجتهاد اجتهده بعض سلفهم المعصومين، إلا ويعقبون عليها بأن منكر هذه العقيدة جهمي معطل زنديق كافر.
وبناء على هذا وضع خلفهم ومتأخروهم ما يسمونه نواقض الإيمان، والتي تشمل الكثير من الأصول والفروع التي خالفهم فيها سائر المسلمين، والتي لو طبقت فإنها ستشمل الأمة جميعا.
ومع كون تلك النواقض من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى فتاوى عينية تتعلق بكل طائفة أو مدرسة على حدة، إلا أننا مع ذلك نجد الفتاوى والكتب الكثيرة التي تكفر كل طائفة على حدة، وهو ما يسمونه التكفير العيني.
وبناء على هذا سنحاول في هذا الفصل أن نذكر كلا التكفيرين، وشمولهما لجميع المدارس العقدية، ما عدا المدرسة السلفية، أو المدارس التي لم يبق لها وجود بسبب انصهارها في السلفية كالكرامية والمقاتلية وغيرها من الفرق المشبهة والمجسمة.
وإن كنا من باب المنطق العلمي لا نحتاج إلى ذكر التكفير العيني لأي مدرسة، ما دام يشملها التكفير المطلق، ذلك أن من قال: [كل منتم للجامعة طالبا كان أو أستاذا يحق له الاستفادة من مكتبة الجامعة]، فإن ذلك لا يحتاج إلى تعليق إعلانات أخرى تخص كل
كلكم كفرة (21)
كلية أو قسم أو شخص على حدة.
وهكذا يفعل السلفية في التكفير المطلق، فهم يضعون مقدمة كلية عامة تنص على أن كل من قال بأن الله ليس في جهة، أوذكر بأنه لم يتكلم بحرف وصوت، أو اعتقد أنه ليس له يدان وساق، كافر معطل جهمي.. وعند تطبيق هذه المقولة على المدارس الإسلامية نجدهم جميعا ينصون عليها.. فهم ينزهون الله عن الجهة والحرف والصوت والأعضاء وغير ذلك مما يعتبره السلفية صفات الله تعالى.
والنتيجة الطبيعية لهاتين المقدمتين: هو أن كل مدرسة تقول بذلك كافرة ومعطلة بناء على المعتقدات السلفية.. لأن ذلك يشبه تماما ذلك المثال المنطقي المعروف: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان.
لكن السلفية نتيجة بغضهم للمنطق، ونقضهم له كما يتصورون، يقعون ـ عمدا أو جهلا ـ في الكذب على أنفسهم، والكذب على الناس، فإذا قيل لهم: أنتم تكفرون الأشاعرة مثلا.. يقولون: نحن لا نكفرهم.. فيقال لهم: فأنتم تكفرون كل من ينكر الجهة؟.. فيقولون: أجل.. فيقال لهم: وهل الأشاعرة يقولون بالجهة؟.. فيقولون: لا.. فيقال لهم: فهم كفار إذن بحسب مقدمتكم الكبرى.. فيقولون: لا.. نحن لم نقل ذلك.
وللأسف فإن هذه المغالطات التي يضحك بها السلفيون على عقولهم وعقول البسطاء من أمثالهم جعلتنا لا نكتفي بذكر تكفيراتهم المطلقة، وإنما نضيف إليها تكفيراهم العينية التي شملت مدارس الأمة جميعا، لنلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.
يضع السلفية ـ كما ذكرنا ـ الكثير من نواقض الإيمان التي تجعل من يقع فيها كافرا أو مشركا أو جهميا أو معطلا، وغيرها من التسميات التي يراد منها الكفر الجلي المخرج من
كلكم كفرة (22)
الملة، وهم يركزون كل جهودهم التكفيرية على المسائل الخلافية، فلم أر مع كثرة مطالعتي لمصادرهم أي كلام تكفيري يرتبط بأسماء الله الحسنى، أو الحقائق العقدية الضرورية، باعتبار كل المدارس الإسلامية تؤمن بذلك، وهم لا يهتمون بإيمان الأمة، وإنما يهتمون بإيمان الطائفة.. ولذلك احتقروا وتساهلوا فيما يسمونه توحيد الربوبية، وعظموا ما يسمونه توحيد الألوهية والأسماء والصفات، باعتبارها المداخل الكبرى للحكم على الأمة بالشرك والكفر.
بناء على هذا فسأكتفي هنا بثلاث قضايا كبرى تم بموجبها تكفير كل المدارس العقدية التنزيهية للأمة: أولها، ما يسميه السلفية العلو، أو الجهة، أو المكان، والثاني: تعطيل الصفات، والثالث: القول بخلق القرآن.
فكتب السلفية جميعا التي يعتبرونها مصادرهم العقدية، تمتلئ بتكفير كل من يخالفهم في هذه المسائل الثلاث، كما سنرى.
وقد أشار ابن تيمية إلى هذا عندما ذكر موضع النزاع بين أهل الحديث، وبين سائر المتكلمين، فقال: (.. إن أمهاتِ المسائل التى خالف فيها متأخرو المتكلمين ممن ينتحل مذهب مذهب الأشعرى لأهل الحديث ثلاثُ مسائل: وصفُ الله بالعلو على العرش، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات) (1)
وسنتحدث هنا عن هذه القضايا بحسب الترتيب الذي ذكره ابن تيمية.
يعتبر السلفية تحديد [جهة الله] من أعظم المسائل العقدية، ولهذا يقومون بامتحان الناس على أساسها، فمن أثبت الجهة اعتبروه مؤمنا وموحدا وسنيا وسلفيا، ومن خالفهم فيها اعتبروه جهميا ومعطلا وكافرا وملحدا.
__________
(1) مجموع الفتاوى، 6/ 354.
كلكم كفرة (23)
بل قد نقلوا إجماع الأمة على ذلك، وهو يدل على أنهم لا يعتبرون الأمة غيرهم.. فمن عداهم من الأمة من المتكلمين والصوفية وغيرهم من المنزهة لا يعتبرونهم ـ بسبب عدم قولهم بالجهة ـ من هذه الأمة، فضلا عن اعتبارهم من أهل السنة.
يقول أحد متقدميهم، وهو قتيبة بن سعيد (150 - 240 هـ): (هذا قول الائمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال جل جلاله: الرحمن على العرش استوى)، وقد علق عليه الذهبي بقوله: (فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على المسألة، وقد لقي مالكا والليث وحماد بن زيد، والكبار وعمر دهرا وازدحم الحفاظ على بابه) (1)
وقال ابن بطة العكبري (304 - 387 هـ) في كتابه المشهور [الإبانة عن شريعة الفرقة والناجية]: (باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه: أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وعلمه محيط بجميع خلقه، ولا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية وهم قوم زاغت قلوبهم واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان) (2)
وهكذا فإنهم يعتبرون كل من يخالفهم في هذا حلوليا زائغا مارقا من الدين، حتى لو كان يستند في هذا إلى ما نص عليه القرآن الكريم من استحالة الجهة والمكان لله كما قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ
__________
(1) مختصر العلو، ص 187.
(2) الإبانة، 3/ 136.
كلكم كفرة (24)
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وغيرها من الآيات الكريمة.
وقد ذكر ابن عبد البر (ت 463 هـ) وهو من أئمة السلفية المعتبرين في العقائد مخالفة الأمة جميعا لهم في هذا، فقال ـ بعد ذكر حديث النزول: (وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على عرشه من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش) (1)، وقال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا انهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله) (2)
وهم لا يكتفون بنقل الإجماع على المسألة، وعدم اعتبار من ورد عنه خلافها، وهم أكثر الأمة، بل يضيفون إلى ذلك ما شاءت لهم عدوانيتهم من التصريحات التكفيرية التي لا تحتمل أي مجال للتأويل.
ومن أمثلتها قول ابن خزيمة (ت 311 هـ): (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا) (3)
وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل
__________
(1) فتح البر بترتيب التمهيد، 2/ 7.
(2) فتح البر بترتيب التمهيد، 2/ 48.
(3) انظر: درء تعارض العقل والنقل 6/ 264.
كلكم كفرة (25)
والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين) (1)
وقال في (مجموع الفتاوى) كعادته في نقل إجماع أهل الملل والنحل: (وقد اجتمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله تعالى على العرش، وقالوا هم ليس على العرش شئ وقال محمد بن اسحاق بن خزيمة امام الأئمة من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه ثم ألقى على مزبلة لئلا يتأذى به اهل القبلة ولا أهل الذمة...) (2)
وهكذا نجد المتأخرين من السلفية يعتبرون إنكار الجهة كفرا وحلولا مع علمهم أن كل المدارس الإسلامية العقدية تقول بذلك، قال الشيخ سليمان بن سحمان في (كشف الشبهتين): (وإذا كان أعداء الله الجهمية، وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، منذ أعصار متطاولة، لا ينكر هذا إلا مكابر، فكيف يزعم هؤلاء الجهلة أنه لا يقال لأحدهم: يا كافر، ويا مشرك، ويا فاسق، ويا متعور، ويا جهمي، ويا مبتدع وقد قام به الوصف الذي صار به كافراً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً وقد بلغته الحجة، وقامت عليه، مع أن الذي صدر من القبورية الجهمية هؤلاء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على الإنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم، لكن قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن من جحد علوا الله على خلقه، وأنكر صفاته ونعوت جلاله أنه كافر معطل لا يشك في ذلك مسلم، فكيف يظن بالإخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني: يا جهمي، وليس كذلك، أو يا
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، (7/ 27)
(2) مجموع الفتاوى، (5/ 138)
كلكم كفرة (26)
كافر أو يا مبتدع) (1)
وقال: (وإذا أنكر هذا الصنف علو الله على خلقه فهم كفار، لأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، ومن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو القدرة على الأشياء كما تقوله الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه، لأن الله مستول على الأشياء كلها وقادر عليها فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء مستول عليه، وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقولوا إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها وقد كان من المعلوم بالضرورة أن الاستواء هو العلو والارتفاع على العرش وعلى جميع المخلوقات فمن زعم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو غير ذلك من تفاسير الجهمية فقد جحد علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ولا ينفعه الإقرار بلفظ الاستواء على العرش مع جحود معناه وصرفه عن ظاهره وما يليق به إلى ما لا يليق به، فإذا تبين لك هذا علمت أن هذا الصنف هم جهال المقلدين للجهمية وأنه لا خلاف في تكفيرهم) (2)
وقال: (إذا عرفت هذا فمسألة علو الله على خلقه من المسائل الجلية الظاهرة ومما علم بالضرورة فإن الله قد وضحها في كتابه وعلى لسان رسوله وهي مما فطر الله عليها جميع خلقه إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته واتبع هواه وأخلد إلى الأرض وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه وعرف أصوله فإنه قد صرح في غير موضع أن
__________
(1) كشف الشبهتين ص: 31.
(2) تمييز الحق والمين، ص 139 وما بعدها.
كلكم كفرة (27)
الخطأ والجهل قد يغفرا لمن لم يبلغه الشرع ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة إذ اتقى الله ما استطاع واجتهد بحسب طاقته وأين التقوى وأين الاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى والغائبين والمعطلون للصانع عن علوه على خلقه واستواءه على عرشه ونفى أسماءه وصفات كماله ونعوت جلاله والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت) (1)
وهذه النصوص وحدها كافية في الدلالة على تكفير السلفية لمخالفيهم من جميع الأمة الإسلامية من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة فضلا عن الشيعة والإباضية وغيرهم.. لأن هؤلاء جميعا يقولون بنفي الجهة عن الله تعالى.
يعتبر السلفية القول بخلق القرآن من أخطر المسائل العقدية، ولهذا يوظفونه توظيفا خطيرا في تكفير من عداهم من الأمة، حتى المتوقفون منهم الذي يكتفون باعتبار القرآن الكريم كلام الله من غير إضافة الخلق أو عدمه.
بل إن السلفية يشترطون في الإيمان أن يعتقد المؤمن عندهم أن القرآن كلام الله تكلم به بفمه الذي هو صفة ذاته.. كما قال قال أبو يعلى: (اعلم أنه غير ممتنع إطلاق الفي عليه سبحانه، كما لم يمتنع إطلاق اليد والوجه والعين، وقد نص أحمد على ذلك في رسالة أبي العباس أحمد بن جعفر الفارسي: فقال: كلم الله موسى تكليما من فيه) (2).. ورووا عن بعض سلفهم في ذلك أنه سئل: (كيف كلم الله عز وجل موسى عليه السلام؟ قال: مشافهة) (3)، ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كأن الخلق لم يسمعوا القرآن حين سمعوه من فيه يوم
__________
(1) تمييز الحق والمين، ص 144.
(2) إبطال التأويلات، ص: 387.
(3) الطبري في التفسير، 6/ 29.
كلكم كفرة (28)
القيامة) (1)
وروى الإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة) في [باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى] من حديث الزهري قوله: (لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، إنما كلمتك بقوة عشر آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت.. قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك؟ قال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم. قالوا: فشبِّهه؟ قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله) (2)
وقال أبو الفضل التميمي في اعتقاد الإمام أحمد –وهو الذي يعتمد عليه الأشعريان في نقل معتقده-: (وكان يقول: إن القرآن كيف تصرف غير مخلوق، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف) (3)
وبناء على هذا، فقد وضعوا الشروط الكثيرة المرتبطة باعتبار القرآن الكريم كلام الله، وهي كلها ترجع إلى تشبيه قراءتنا للقرآن الكريم بتكلم الله به.. وكأن مخارج حروفنا والهواء الذي يصدر من أجهزتنا عندما نتكلم، والذي يحصل بسببه الكلام هو نفسه يقع لله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا عظيما.
ولهذا نراهم يبالغون فيما يسمونه محنة خلق القرآن الكريم مبالغة عظيمة، وكأن الإسلام كاد ينهد لولا وقوف سلف السلفية كالجدار المنيع دون تلك الفتنة التي كادت تقضي على القرآن الكريم.
__________
(1) إبطال التأويلات (ص: 387)
(2) الرد على الجهمية والزنادقة (ص 132)
(3) طبقات الحنابلة (2/ 296)
كلكم كفرة (29)
أو كما عبر على ذلك بعضهم، فقال: (لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام) (1)
أو كما يروون عن علي بن المديني قوله: (أيد اللَّه هذا الدين برجلين لا ثالث لهما أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل فِي يوم المحنة) (2)
ويروون أنه قيل لبشر بن الحارث يوم ضرب أحمد: قد وجب عليك أن تتكلم، فقال: (تريدون مني مقام الأنبياء ليس هذا عندي.. حفظ اللَّه أحمد بن حنبل من بين يديه ومن خلفه) ثم قَالَ بعد ما ضرب أحمد لقد أدخل الكير فخرج ذهبة حمراء (3).
ويروون عن الربيع بن سليمان أن الشافعي قال: (من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر) فقيل له: تطلق عليه اسم الكفر، فقال: (نعم من أبغض أحمد بن حنبل عاند السنة، ومن عاند السنة قصد الصحابة، ومن قصد الصحابة أبغض النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن أبغض النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم كفر بالله العظيم) (4)
وهكذا أصبح أحمد بن حنبل عند السلفية بسبب هذه المسألة نبيا، يمتحن على أساسه إيمان المؤمنين، فمن أحبه كان مؤمنا، ومن أبغضه كان كافرا.
وبناء على هذا ينطلق السلفية من إمامهم أحمد بن حنبل في تكفير من يقول بخلق القرآن، أو من يتوقف في ذلك، أو من يقول بأن الحروف والأصوات مخلوقة، وهذه جميعا أقوال أصحاب المدارس الإسلامية الكبرى، كما سنرى في المبحث الثاني.
ومن الأقوال التي يروونها عن الإمام أحمد في ذلك ما رواه ابنه عبد الله قال: (سألت أبي رحمه الله عن قوم، يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى
__________
(1) طبقات الحنابلة (1/ 13)
(2) طبقات الحنابلة (1/ 13)
(3) طبقات الحنابلة (1/ 13)
(4) طبقات الحنابلة (1/ 13)
كلكم كفرة (30)
إن ربك عز وجل تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت).. وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود: إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان، قال أبي: وهذا الجهمية تنكره.. وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، ألا إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت) (1)
وروى أبو بكر الخلال عن المروذي قال: (سمعت أبا عبد الله وقيل له: أن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال عافاه الله) (2)
وبناء على هذا نص كل سلف السلفية وخلفهم على كفر من يقول بخلق القرآن، يقول إمام السلفية في عصره أبو محمد الحسن بن علي البربهاري (329 هـ): (والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الذي كلم موسى بن عمران يوم الطور، وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره، فمن قال غير هذا، فقد كفر بالله العظيم) (3)
وقال حافظ بن أحمد الحكمي: (القرآن (ليس بمخلوق) كما يقول الزنادقة من الحلولية والاتحادية والجهمية والمعتزلة وغيرهم تعالى الله عن أن يكون شيء من صفاته مخلوقاً.. وقد انعقد إجماع سلف الأمة الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون على تكفير من قال بخلق القرآن وذلك لأنه لا يخلو قوله من إحدى ثلاث: إما أن يقول إنه خلقه في ذاته أو في غيره أو منفصلا مستقلا وكل الثلاث كفر صريح، لأنه إن قال خلقه في ذاته فقد جعل ذاته محلا للمخلوقات، وإن قال إنه خلقه في غيره فهو كلام ذلك الغير فيكون القرآن على
__________
(1) رواه عبد الله في السنة (1/ 280 - 281)
(2) نقله ابن تيمية في شرح الأصفهانية (64) وفي درء تعارض العقل والنقل (2/ 39) وفي الفتاوى الكبرى (5/ 165)
(3) شرح السنة (ص 90)
كلكم كفرة (31)
هذا كلام تالٍ له.. وإن قال إنه خلقه منفصلا مستقلا فهذا جحود لوجوده مطلقا إذ لا يعقل ولا يتصور كلام يقوم بدون متكلم كما لا يعقل سمع بدون سميع ولا بصر بدون بصير ولا علم بدون عالم ولا إرادة بدون مريد ولا حياة بدون حي إلى غير ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فهذه الثلاث لا خروج لزنديق منها ولا جواب له عنها فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) (1)
بل إن سلف السلفية وخلفهم لم يكتفوا بتكفير من يقول بخلق القرآن، بل ذهبوا إلى تكفير من توقف في تكفيره..
حيث يروون عن يحيى بن خلف المقرئ قوله: (أتيت الكوفة فلقيت أبا بكر بن عياش؛ فسألته: ما تقول في من قال: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر، وكل من لم يقل: إنه كافر؛ فهو كافر. ثم قال: أيُشك في اليهودي والنصراني؛ أنهما كافران؟ فمن شك في هؤلاء أنهم كفار؛ فهو كافر، والذي يقول: القرآن مخلوق. مثلهما) (2)
ويروون عن يزيد بن هارون قوله: (من قال: القرآن مخلوق. فهو كافر، ومن لم يكفره؛ فهو كافر، ومن شك في كفره؛ فهو كافر) (3)
ويروون عن سفيان بن عيينة قوله: (القرآن كلام الله عز وجل؛ من قال: مخلوق. فهو كافر، ومن شك في كفره؛ فهو كافر) (4)
ويروون عن أحمد بن حنبل قوله: (من قال: القرآن مخلوق. فهو كافر، ومن شك في
__________
(1) معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ بن أحمد الحكمي، 1/ 337.
(2) السنة لحرب الكرماني، 375.
(3) الإبانة، 257.
(4) السنة لعبدالله بن أحمد 25.
كلكم كفرة (32)
كفره؛ فهو كافر) (1)
وبناء على هذا كله ينقلون الإجماع على ذلك، قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة؛ عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؛ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً؛ فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته.. ومن زعم أن القرآن مخلوق؛ فهو كافر بالله العظيم كفراً ينقل عن الملة. ومن شك في كفره - ممن يفهم ولا يجهل - فهو كافر) (2)
وقال حرب الكرماني (توفي 280 هـ): (هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم، عليها؛ فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق.. فكان من قولهم.. والقرآن كلام الله؛ تكلم به؛ ليس بمخلوق؛ فمن زعم أن القرآن مخلوق؛ فهو جهمي كافر. ومن زعم أن القرآن كلام الله، ووقف، ولم يقل: ليس بمخلوق. فهو أكفر من الأول، وأخبث قولاً. ومن زعم أن ألفاظنا بالقرآن، وتلاوتنا له؛ مخلوقة، والقرآن كلام الله؛ فهو جهمي خبيث مبتدع. ومن لم يكفر هؤلاء القوم، والجهمية كلهم؛ فهو مثلهم) (3)
وهكذا قال ابن بطة: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة، ووصفها، مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام، وسائر الأمة، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، إلى وقتنا هذا.. من قال:
__________
(1) طبقات الحنابلة 1/ 173.
(2) شرح أصول الاعتقاد 321.
(3) السنة 66 - 67 - 68 – 69.
كلكم كفرة (33)
مخلوق، أو قال: كلام الله، ووقف، أو شك، أو قال بلسانه، وأضمره في نفسه، فهو كافر بالله حلال الدم، بريء من الله، والله منه بريء، ومن شك في كفره، ووقف عن تكفيره، فهو كافر) (1)
وهذه الكلمات الممتلئة بالتكفير كافية وحدها لاعتبار السلفية أكبر مدرسة تكفيرية في الأمة، لأن هذه المقولات تنطبق على جميع المدارس الإسلامية من دون حاجة لأي تعيين أو تسمية.
فالتعيين الذي يفر به بعض من يمارس التقية لا يقصد به العلماء ولا طلبة العلم، وإنما يقصد به عوام الناس وبسطاؤهم فقط، كما قال أحمد بن منيع البغوي: (من زعم أنه مخلوق؛ فهو جهمي، ومن وقف فيه؛ فإن كان ممن لا يعقل؛ مثل البقالين، والنساء، والصبيان؛ سُكت عنه، وعُلم، وإن كان ممن يفهم؛ فأجره في وادي الجهمية) (2)
ذكرنا في كتابنا [السلفية والوثنية المقدسة] أن المقصود بالصفات عند السلفية هو الأعضاء، ولذلك يردون بشدة على ما يسميه المنزهة بنفي الكم المتصل عن الله، أو نفي التركيب عنه، بل يرون أن الله مركب من الساق واليد والوجه والحقو والضرس وغيرها، ويتعاملون مع هذه الأعضاء جميعا، باعتبارها صفات ذاتية لله، وأن منكر كل واحدة منها كافر معطل جهمي.
ومثله من أول أي كلمة منها على مقتضى كلام العرب، أو متوقف في شأنها.. فالجميع عندهم معطل، وسواء في الضلالة.
وهكذا ما يسمونه صفات أفعال، كالجري والمشي والهرولة والقعود والنزول
__________
(1) الشرح والإبانة 251.
(2) الحجة في بيان المحجة 1/ 424.
كلكم كفرة (34)
والضحك وغيرها.. فهم يعقبون كل وصف من هذه الأوصاف برمي المنكر لها بالتجهم والتعطيل والكفر والضلال.
وهم يستندون ـ بزعمهم ـ في هذا إلى الآيات القرآنية الكريمة التي نزلت وفق مقتضى كلام العرب من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها، لكنهم حملوها على ظواهرها، وأولوا من أجلها كل الآيات المحكمة.
وكمثال على ذلك أن الدارمي ـ الذي يعتبر مصدرا أساسيا في العقيدة السلفية ـ ساق بعض تلك النصوص في كتابه [الرد على الجهمية]، ثم قال بنبرة غاضبة مخاطبا المدرسة التنزيهية بالشدة السلفية المعهودة: (فهذا الناطق من قول الله - عز وجل -، وذاك المحفوظ من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار ليس عليها غبار، فإن كنتم من عباد الله المؤمنين؛ لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فصرحوا بما تضمرون، ودعوا هذه الأغلوطات التي تلوون بها ألسنتكم، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم، إن أهل العلم من أمركم لعلى يقين، فإن قال قائل منهم: معنى إتيانه في ظلل من الغمام، ومجيئه والملك صفا صفا، كمعنى كذا وكذا، قلت: هذا التكذيب بالآية صراحا، تلك معناها بين للأمة لا اختلاف بيننا وبينكم وبين المسلمين في معناها المفهوم المعقول عند جميع المسلمين، فأما مجيئه يوم القيامة وإتيانه في ظلل من الغمام والملائكة، فلا اختلاف بين الأمة أنه إنما يأتيهم يومئذ كذلك لمحاسبتهم، وليصدع بين خلقه، ويقررهم بأعمالهم، ويجزيهم بها، ولينصف المظلوم منهم من الظالم، لا يتولى ذلك أحد غيره، تبارك اسمه وتعالى جده، فمن لم يؤمن بذلك؛ لم يؤمن بيوم الحساب) (1)
وهكذا يعطي السلفية لهذا الموقف التجسيمي هذا الحكم الخطير، وهو أنه من لم يؤمن بنزول الله على الغمام، لا يؤمن أصلا بيوم الحساب..
__________
(1) الرد على الجهمية (ص: 91)
كلكم كفرة (35)
وهكذا نراهم يتعاملون مع كل عضو من الأعضاء أو فعل من الأفعال، والتي يسمونها جميعا صفات.. فمن أنكر أي واحدة منها، حتى لو قبل بالجميع، فإنه يعتبر جهميا معطلا.
والنهاية الطبيعية التي تنتهي عندها هذه العقيدة عندهم هي أنه لا يتخلص أحد من وصف الجهمية وما يرتبط بها من تكفير حتى يشبه الله بالإنسان، فمن لم يؤمن عندهم بأن صورة الله هي نفس صورة الإنسان ـ مع اختلاف الكيف الذي لا ندري معناه ـ فإنه جهمي.
ولهذا ألف الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري كتابا سماه [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، وهو الكتاب الذي اعتنى به السلفية المعاصرون، بل قدم له شيخهم الكبير عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، وقال في تقديمه له: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن.. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وشيخ الإسلام ابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة رحمه الله في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى) (1)
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (7)
كلكم كفرة (36)
وقد ذكر التويجري في مقدمة هذا الكتاب أن منكر الصورة جهمي ـ والجهمي كافر عندهم بالإجماع ـ فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به) (1)
وهو يقصد بالجهمة هنا كل منزهة الأمة، لأنهم جميعا، حتى مع تصحيح الحديث لا يقولون بمقتضاه الظاهر، بل يؤولونه بمختلف صنوف التأويلات.
وبذلك فإن منكر كون الله له صورة كصورة الإنسان ـ عند السلفية ـ جهمي.. والجهمي عندهم معطل وكافر.. ومن شاء أن يعرف حكم الجهمي عندهم، فليقرأ ما كتبه ابن تيمية وغيره عنه.
وبناء على هذا جاءت تعبيراتهم الكثيرة في الحكم بالكفر على من أنكر أي صفة من تلك الصفات، وقد نقل الذهبي عن معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني (توفي 418 هـ) بعد سرده لبعض ما أجمع عليه أهل الحديث والأثر من أن (.. الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وأنه بائن من خلقه والخلق بائنون منه فلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وأنه سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويعجب ويضحك ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا بلا كيف ولا تأويل كيف شاء فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال) (2)
وقد عقد الدارمي بابا خاصا بهذا في كتابه [الرد على الجهمية] بعنوان [باب
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (6)
(2) العلو للعلي الغفار (ص: 244)
كلكم كفرة (37)
الاحتجاج في إكفار الجهمية] (1) قال في مقدمته: (ناظرني رجل ببغداد، منافحا عن هؤلاء الجهمية فقال لي: بأية حجة تكفرون هؤلاء الجهمية، وقد نهى عن إكفار أهل القبلة؟ بكتاب ناطق تكفرونهم؟ أم بأثر، أم بإجماع؟ فقلت: ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، وما نكفرهم إلا بكتاب مسطور، وأثر مأثور، وكفر مشهور. أما الكتاب؛ فما أخبر الله - عز وجل - عن مشركي قريش، من تكذيبهم بالقرآن، فكان من أشد ما أخبر عنهم من التكذيب؛ أنهم قالوا: هو مخلوق، كما قالت الجهمية سواء) (2)
وهكذا راح يستعرض الآيات القرآنية التي وردت في تكذيب المشركين للقرآن الكريم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليطبقها على المسلمين الذين نزهوا الله عن الحرف والصوت، ليحكم عليهم جميعا حكما واحدا بالكفر، ثم قال: (ونكفرهم أيضا بكفر مشهور؛ وهو تكذيبهم بنص الكتاب، أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما، وقال هؤلاء لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم؛ دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] فقال له موسى -في دعواهم-: صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه أن يجيب إلى ربوبية مخلوق، كما أجاب موسى-في دعواهم- فما فرق بين موسى وفرعون في مذهبهم في الكفر؟ إذا فأي كفر بأوضح من هذا؟! وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط قولا وكلاما كن فكان، ولا يقوله أبدا، ولم يخرج منه كلام قط، ولا يخرج، ولا هو يقدر على الكلام -في دعواهم- فالصنم -في دعواهم- والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام، فأي كفر بأوضح من هذا؟!.. وقال الله تبارك وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ
__________
(1) الرد على الجهمية (ص: 179)
(2) الرد على الجهمية (ص: 179)
كلكم كفرة (38)
مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] و{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] و{بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، قال هؤلاء: ليس لله يد، وما خلق آدم بيديه، إنما يداه نعمتاه ورزقاه، فادعوا في يدي الله أوحش مما ادعته اليهود {قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وقالت الجهمية: يد الله مخلوقة؛ لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها، وذاك محال في كلام العرب، فضلا أن يكون كفرا) (1)
وهكذا راح يكفرهم لإنكارهم كل مستلزمات التجسيم، يقول: (ونكفرهم أيضا بالمشهور من كفرهم، أنهم لا يثبتون لله تبارك وتعالى وجها ولا سمعا ولا بصرا ولا علما ولا كلاما ولا صفة، إلا بتأويل ضلال افتضحوا وتبينت عوراتهم، يقولون: سمعه، وبصره، وعلمه، وكلامه؛ بمعنى واحد، وهو بنفسه في كل مكان، وفي كل بيت مغلق، وصندوق مقفل، قد أحاطت به -في دعواهم- حيطانها وأغلاقها وأقفالها، فإلى الله نبرأ من إله هذه صفته، وهذا أيضا مذهب واضح في إكفارهم.. ونكفرهم أيضا؛ أنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بأين الله، والله قد وصف نفسه بأين، ووصفه به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
وكما لم يرحم السلفية المتوقفة في خلق القرآن، أو القائلين بأن القرآن الكريم كلام الله من غير تفصيل، فكذلك لم يرحموا المفوضة فيما يسمونه باب الصفات، وهم الذين يكلون علم المتشابه الوارد فيها إلى الله تعالى، وهو ما يعزوه المتكلمون، وخاصة الأشاعرة منهم إلى السلف الأول.
ولهذا نجد ابن تيمية يعتبرهم من شر المبتدعة والملاحدة، فيقول: (.. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع
__________
(1) الرد على الجهمية (ص: 180)
(2) الرد على الجهمية (ص: 182)
كلكم كفرة (39)
والإلحاد) (1)
بل إنه ـ كعاته في التنابز بالألقاب ـ سماهم بدل [أهل التفويض] بـ[أهل التجهيل]، فقال عنهم: (.. أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول لم يعرف معانيَ ما أنزل الله إليه من آيات الصفات.. ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك) (2)
وهذا من تحريف السلفية لحكاية الأقوال، فالمفوضة تركوا علم ما تشابه من النصوص على عقولهم لله تعالى، ولم يزعموا أبدا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعلم ذلك، معاذ الله وهو سيد الراسخين في العلم.
وهكذا يكتب الكثير من الردود الشديدة عليهم في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) وفي (الفتوى الحموية)، ومثله ابن القيم في (الصواعق المرسلة)، وغيرها.
وهكذا نرى المتأخرين ينهجون منهج المتقدمين في تكفير المفوضة، حيث نرى ابن عثيمين يقول عنهم: (التفويض من شر أقوال أهل البدع.. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول) (3)
وبهذا لا يبقى حل لمن يريد أن يسلم من التكفير السلفي سوى أن يقع في التجسيم والتشبيه بكل ألوانه وأنواعه، وإلا فلن يرحمه سيف التكفير السلفي لو توقف ولو عند مفردات من مفردات عقائدهم التجسيمية.
وبناء على هذا فإن السلفية أنفسهم يكفر بعضهم بعضا بسبب مواقفهم من بعض ما ورد في بعض الأحاديث.. ومن ذلك الموقف من المسألة التي أولاها السلفية اهتماما كبيرا،
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل، 1/ 205.
(2) مجموع الفتاوى، 5/ 34.
(3) المحاضرات السنية، 1/ 67.
كلكم كفرة (40)
والتي عنونوها بـ[إقعاد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على العرش]
فالسلفية المثبتون لهذا يكفرون من يخالف ذلك، باعتبار ثبوت هذا النوع من القرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل متقدميهم الذين يحتجون بهم في العادة على مخالفيهم (1) ومنهم أحمد بن حنبل، وهارون بن معروف، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام وعبد الوهاب الوراق، وأبو داود السجستاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر المروذي وأبو بكر الخلال،، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر الآجري، وأبو عبد الله ابن بطة، وغيرهم كثير.
بل قال إبراهيم الأصبهاني في الحديث: (هذا الحديث صحيح ثبت، حدث به العلماء منذ ستين ومائة سنة)
وقال أبو بكر المروذي: قال أبو بكر بن حماد المقرئ: (من ذكرت عنده هذه الأحاديث فسكت فهو متهم على الإسلام! فكيف من طعن فيها؟!)
و قال أبو بكر بن صدقة: (ما حكمه عندي إلا القتل)
وقال أبو بكر بن أبي طالب: (من رده فقد رد على الله عز وجل، ومن كذب بفضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر بالله العظيم).
وقال محمد بن إسماعيل السلمي: (من توهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل ما قال مجاهد فهو كافر بالله العظيم)
وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب: (لا علمت أحدا رد حديث مجاهد يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على العرش)
وقال أبو قلابة: (لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية)
__________
(1) انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 187)، فما بعدها، والرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 10، فما بعدها، فقد ذكر فيه الأقوال الكثيرة لأعلام السلف في هذا، ومنه أخذنا هذه الأقوال.
كلكم كفرة (41)
وقال الحسن بن الفضل: (من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال ما أدركنا أحدا يرده إلا من في قلبه بلية، يهجر ولا يكلم)
وقال ابن بطة: سمعت أخي القاسم - نضر الله وجهه - يقول: (لم يكن البربهاري يجلس مجلسا إلا ويذكر فيه أن الله عز وجل يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش).
و قال محمد بن إسماعيل السلمي: (كل من ظن أو توهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل هذه المنزلة في حديث مجاهد فهو عندنا جهمي، وإن هذه المصيبة على أهل الإسلام أن يذكر أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقدموا عليه بأجمعهم!)
بل إن المتأخرين أيضا ممن لا يمارسون التقية قالوا بذلك، من أمثال الشيخ ابن فوزان فقد قال في شرحه على النونية عن أثر مجاهد: (هذا حديث صحيح وإن كان يشوش على ضعاف الإدراك فلا عبرة بهم لأنه لا يمكن أن يقال هذا الكلام من جهة الاجتهاد أو الرأي بل له حكم الرفع) (1)
وبذلك يقع الكثير من أعلام السلفية المعاصرين في الفخ الذي نصبوه للأمة، وكفروها على أساسه، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
ومن أول هؤلاء الألباني الذي أنكر على الذهبي إيراده لخبر مجاهد في [مختصر العلو]، فقال: (لو أن المؤلف رحمه الله وقف عند ما ذكرنا لأحسن، ولكنه لم يقنع بذلك، بل سود أكثر من صفحة كبيرة في نقل أقوال من أفتى بالتسليم بأثر مجاهد في تفسير قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: يجلسه أو يقعده على العرش. بل قال بعضهم: أنا منكر على كل من رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوء متهم.. بل ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: هذا تلقته العلماء بقبول إلى غير ذلك من الأقوال التي تراها في الأصل ولا حاجة بنا إلى استيعابها في هذه المقدمة. وذكر في مختصره المسمى بـ[الذهبية] أسماء جمع آخرين من
__________
(1) شرحه على النونية (2 - 453)
كلكم كفرة (42)
المحدثين سلموا بهذا الأثر ولم يتعقبهم بشيء هناك) (1)
ومنهم إمام التجريح في هذا العصر ربيع بن هادي المدخلي، الذي قال في شرحه على شرح السنة للبربهاري: (لايصح هذا من كلام مجاهد وهو لايثبت وليس من كلام الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.. أما قول مجاهد غفر الله له فممكن أن يأخذه من الإسرائليات) (2)
وردا على أمثال هذه المقولات المعاصرة ألف بعض السلفية رسالة في رمي أصحابه الذين أنكروا هذا بالتجهم، وقد سمى رسالته (الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد) (3)، وقد قدم لها بقول محمد بن إسماعيل السلمي: (لولا أن أبا بكر المروذي رحمه الله اجتهد في هذا –أي في الرد على من أنكر أثر مجاهد- لخفت أن ينزل بنا وبمن يقصر عن هذا الضال المضل عقوبة، فإنه من شر الجهمية ما يبالي ما تكلم به) (4)
بناء على أن أهم المدارس العقدية الموجودة في الواقع الإسلامي الحالي، وفي أكثر فترات التاريخ هي: الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، فسنتحدث عن موقف السلفية منهم هنا، أما ما عداهم من المدارس كالشيعة والإباضية والصوفية، فقد عقدنا فصلا خاصا بكل واحد منها، باعتبار الخلاف بينها وبين السلفية لا يقتصر على العقائد.
تعتبر مدرسة الأشاعرة من أكثر المدارس الإسلامية أتباعا، ذلك أن أكثر العلماء
__________
(1) مختصر العلو للعلي العظيم (ص: 15)
(2) شرح السنة للبربهاري، 1/ 453.
(3) ألفها إبراهيم بن رجا بن شقاحي الشمري، وهي في موقعه على النت.
(4) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 3.
كلكم كفرة (43)
المتأخرين من المالكية والشافعية والحنابلة والصوفية وغيرهم قد اختاروا منهجهم العقدي، فقرروه في مدارسهم وزواياهم، بالإضافة إلى العوامل السياسية الكثيرة التي ساعدت على ذلك.
وهذا ما جعل السلفية في حرج كبير من أمرهم، لأنهم إن صرحوا بتكفيرهم، فسيضر ذلك بسمعتهم، ويجعل كل الأوصاف التي رموا بها من يسمونهم الخوارج تنطبق عليهم بالدرجة الأولى، فلذلك استعملوا أمرين: التكفير الخفي، والتكفير الصريح.
وقد مارسه أصحاب التقية من السلفية سواء كانوا من الذين يجمعون بين السلفية والسياسة من أمثال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وغيره، أو من الذين وكلت لهم بعض المناصب الحساسة في الدولة والتي تتطلب بعض الحكمة والمرونة، كالإفتاء وغيره، أو من الذين عاشوا في مجتمعات ممتلئة بالأشاعرة، ولم يمكنهم التصريح بكفرهم، فعدلوا إلى التلميح، مثل ابن تيمية.
وهؤلاء يستعملون في التكفير التلميح لا التصريح، أو ذكر المكفرات، دون ذكر انطباقها على من يكفرونهم.
ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا سابقا عن ابن باز من اعتباره عدم القول بالجهة والمكان كفر، وأن من قال ذلك كافر، لكنه عندما سئل عن الأشاعرة، ذكر أنهم من المسلمين، مع العلم أن مقولته بتكفير من ينكر الجهة تنطبق عليهم كما تنطبق على الجهمية والمعتزلة والماتريدية وغيرهم.
ومن أمثلة ذلك فتواه المتعلقة بعبد الله الحبشي الأشعري، فقد جاء فيها: (وأفيدك أن هذه الطائفة معروفة لدينا فهي طائفة ضالة ورئيسهم المدعو عبد الله الحبشي معروف بانحرافه وضلاله فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن
كلكم كفرة (44)
الاستماع لهم أو قبول ما يقولون، ولا شك أن من أنكر أن الله في السماء فهو جهمي ضال كافر مكذب لقول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}) (1)
وهذا تصريح ليس بعده تصريح في تكفير ابن باز للأشاعرة، أولا لأن عبد الله الحبشي منهم، وثانيا، لأنه كفره بسبب إنكاره للجهة والمكان، وهو قول الأشاعرة.
وهكذا قال الفوزان الذي يتعلق به من يمارس التقية من السلفية، فقد قال: (وهذا الذي ينفي كون الله في السماء يكذب القرآن ويكذب السنة ويكذب إجماع المسلمين فإن كان عالما بذلك، فإنه يكفر بذلك، أما إذا كان جاهلا فإنه يبين له فإن أصر بعد البيان فإنه كافر والعياذ بالله) (2)
بل هكذا أفتت اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية، فقد جاء في بعض فتاواها: (من قال: لا نقول إن الله فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال فهو بهذا مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون من عهد الصحابة من أهل العلم والإيمان فيجب أن يُبين له الحق فإن أصر فهو كافر مرتد عن الإسلام لا تصح الصلاة خلفه) (3)
ومن أمثلة ذلك أيضا ترديدهم لكون الأشاعرة يقولون بخلق القرآن مع علمهم أن كتبهم السلفية لا ترحم أبدا من يقول بذلك.
ومن ذلك أن الشيخ العثيمين عندما تحدث عن الفرق بين الأشاعرة والمعتزلة في صفة الكلام، قال: (وقالت الأشعرية الذين تذبذبوا بين أهل السنة والمعتزلة قالوا: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم في نفسه، وما يُسمع فإنه مخلوق خلقه الله تعالى ليعبر عما في نفسه. فما الفرق إذن بين المعتزلة والأشعرية؟ الفرق: أن المعتزلة يقولون: لا ننسب الكلام إليه
__________
(1) مجموع فتاوى ابن باز، (9/ 315)
(2) الموقع الرسمي لصالح الفوزان تحت عنوان: إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى.
(3) صدرت هذه الفتوى تحت توقيع كل من: العضو: عبد الله بن قعود... العضو: عبد الله بن غديان... نائب رئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي... الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز. انظر: فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (1/ 515)
كلكم كفرة (45)
وصفا، بل فعلا وخلقا. والأشاعرة يقولون: ننسب الكلام إليه وصفا لا باعتبار أنه شيء مسموع، وأنه بحروف، بل باعتبار أنه شيء قائم بنفسه، وما يسمع أو يكتب فهو مخلوق؛ فعلى هذا يتفق الأشاعرة والمعتزلة في أن ما يُسمع أو يكتب مخلوق، فالأشاعرة يقولون: القرآن مخلوق، والمعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، لكن المعتزلة يقولون: إنه كلامه حقيقة، كما أن السموات خلقه حقيقة، وقالت الأشاعرة: ليس هو كلام الله تعالى حقيقة، بل هو عبارة عن كلام الله!!، فصار الأشاعرة من هذا الوجه أبعد عن الحق من المعتزلة، وكلتا الطائفتين ظالم، لأن الكلام ليس شيئا يقوم بنفسه، والكلام صفة المتكلم، فإذا كان الكلام صفة المتكلم، كان كلام الله صفة، وصفات الله تعالى غير مخلوقة، إذ إن الصفات تابعة للذات، فكما أن ذات الرب عز وجل غير مخلوقة، فكذلك صفاته غير مخلوقة، وهذا دليل عقلي واضح) (1)
وهكذا قال الشيخ محمد أمان الجامي: (ما الفرق إذن بين الأشاعرة وبين المعتزلة في صفة الكلام؟ خلاف لفظي غير حقيقي كلهم يتفقون على أن هذا القرآن الذي نقرأه ونحفظه ونكتبه مخلوق وليس بكلام الله، تتفق الأشاعرة مع المعتزلة على هذا بل موقف الأشاعرة أخطر لأن موقف المعتزلة واضح) (2)
وهكذا نجد ابن تيمية ـ الذي يسوق السلفية بعض كلماته في عدم التكفير ـ يملح في كثير من كتبه إلى تكفير الأشاعرة، ومن ذلك قوله في: (كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا اذا سعى الى الجمعة من قطعية الكرج الى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل
__________
(1) الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح كتابه عقيدة أهل السنة والجماعة: الفائدة 8.
(2) محمد أمان الجامي في محاضرة مفرغه بعنوان [الرد على الأشاعرة والمعتزلة].
كلكم كفرة (46)
لا كما يقوله الباقلاني وتكرر ذلك منه جمعات) (1)
وهو يشير بهذا إلى أن الباقلاني ـ وهو إمام من أئمة الأشاعرة الكبار ـ يقول بخلق القرآن.. وهو ينقل مع هذا القول ما يدعيه من إجماعات في تكفير من يقول بخلق القرآن.
وهكذا نراه في [مجموع الفتاوى] يقول: (فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين ابن الوكيل: قد قلت فى ذلك المجلس للشيخ تقى الدين أنه من قال إن حرفا من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مرارا، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضبا شديدا ورفع صوته، وقال هذا يكفر أصحابنا المتكلمين الأشعرية الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة مثل امام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا) (2)
وهكذا نراه في مسألة الرؤية، والتي اتفق السلفية على تكفير جاحدها، فقد قال ابن تيمية: (أئمة أصحاب الأشعري لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها الجهمية وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية) (3)
وهكذا نراه فيما يسمونه تعطيل الصفات يقول عنهم ببذاءته المعهودة: (.. ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصراً نافذاً وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء علم قطعاً أنهم يلحدون فى أسمائه وآياته وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله. ولهذا كانوا يقولون إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه ويقولون إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة والأشعرية مخانيث المعتزلة. وكان يحيى بن عمار يقول المعتزلة الجهمية الذكور والأشعرية الجهمية الإناث ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية. وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعرى فى آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (2/ 96)
(2) مجموع الفتاوى (3/ 173)
(3) بيان تلبيس الجهمية 2/ 434.
كلكم كفرة (47)
من أهل السنة لكن مجرد الانتساب إلى الاشعرى بدعة. لا سيما وأنه بذلك يوهم حسناً بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر) (1)
والكتاب الذي يشير إليه طبعا، وهو [الإبانة] لا يقول به أحد من الأشاعرة على مدار التاريخ، لأنه كتاب سلفي محض، لا يختلف عن سائر كتبهم التجسيمية، ولكنهم يتلاعبون بالألفاظ، ليوهموا البسطاء أن هناك أشاعرة مثبتة وأشاعرة معطلة.
وهكذا نرى ابن القيم يصرح بما لم يتجرأ ابن تيمية على التصريح به، فيقول عن الأشاعرة (2):
ليسوا مخانيث الوجود فلا إلى... الكفران ينحازوا ولا الإيمان
ويقول بلغة تكفيرية بذيئة (3):
أهون بذا الطاغوت لا عز اسمه... طاغوت ذي التعطيل والكفران
كم من أسير بل جريح بل قتيل... تحت ذا الطاغوت في الأزمان
وترى الجبان يكاد يخلع قلبه... من لفظه تبا لكل جبان
وترى المخنث حين يقرع سمعه... تبدو عليه شمائل النسوان
ويظل منكوحاً لكل معطل... ولكل زنديق أخي كفران
بل يعتبر أن هناك طائفتان وحيدتان في الأمة في باب الصفات: أحدهما أهل الإثبات، وهم أهل الحديث وحدهم، والثانية من عداهم، وهم الذين كنى عنهم بالجهمية، والمراد به كل من لم يوافق السلفية في التجسيم، فيقول: (.. بل الذي بين أهل الحديث والجهمية من الحرب أعظم مما بين عسكر الكفر وعسكر الإسلام) (4)
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية، 6/ 359.
(2) شرح قصيدة ابن القيم 2/ 203.
(3) شرح قصيدة ابن القيم 2/ 320.
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية 154، وانظر الصواعق المرسلة 4/ 1333.
كلكم كفرة (48)
وقال في النونية مبينا اتفاق الأشاعرة مع المعتزلة في الرؤية:
ولذاك قال محقق منكم لأهل الاعتزال مقالة بأمان
ما بيننا خُلف وبينكم لدى التحقيق في معنىً فيا إخواني
وقال ـ وهو يتحدث عن الأشاعرة ـ: (فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل) (1)
وهكذا يقول أبو محمد عبد الله بن محمد القحطاني الأندلسي (387 هـ) في نونيته التي لا زال السلفية يحفظونها، ويرددون ما فيها، ومنها هذه الأبيات التكفيرية (2):
والآن أهجو الأشعري وحزبه... وأذيع ما كتموا من البهتان
عطلتم السبع السموات العلا... والعرشَ أخليتم من الرحمن
لأقطعن بمعولي أعراضكم... ما دام يصحب مهجتي جثماني
ولأكتبن إلى البلاد بسبكم... فيسير سير البزل بالركبان
يا أشعرية يا أسافلة الورى... يا عمي يا صم بلا آذان
إني لأبغضكم وأبغض حزبكم... بغضاً أقل قليله أضغاني
لو كنت أعمى المقلتين لسرني... كيلا يرى إنسانكم إنساني
قد عشت مسروراً ومت مخفراً... ولقيت ربي سرني ورعاني
لم أدخر عملاً لربي صالحاً... لكن بإسخاطي لكم أرضاني
وهكذا قال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى: 620 هـ)، وهو يلمح إلى الأشاعرة: (وهذا حال هؤلاء القوم لا محالة فهم زنادقة بغير شك، فإنه لا شك في أنهم يظهرون تعظيم المصاحف إيهاما أن فيها القرآن، ويعتقدون
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة (4/ 1382)
(2) انظر نونية القحطاني، 50.
كلكم كفرة (49)
في الباطن أنه ليس فيها إلا الورق والمداد، ويظهرون تعظيم القرآن ويجتمعون لقراءته في المحافل والأعرية، ويعتقدون أنه من تأليف جبريل وعبارته، ويظهرون أن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت) (1)
ومثل هؤلاء جميعا الشيخ عبيد الله بن سعيد بن حاتم السجزيّ (المتوفى: 444 هـ) الذي ألف رسالة في تكفير من أنكر الحرف والصوت، ويقصد بهم الأشاعرة بالدرجة الأولى، فقد قال ناقلا لقولهم في المسألة: (وقال أبو محمّد بن كلاب ومن وافقه، والأشعري وغيرهم (2): (القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه كافر إلا أن الله لا يتكلم بالعربية، ولا بغيرها من اللغات ولا يدخل كلامه النظم، والتأليف، والتعاقب، ولا يكون حرفاً ولا صوتاً) (3)
ثم عقب عليه بقوله: (ومنكر القرآن العربي وأنه كلام الله كافر بإجماع الفقهاء ومثبت قرآن لا أوّل له ولا آخر كافر بإجماعهم، ومدعي قرآن لا لغة فيه جاهل غبي عند العرب) (4)
وهو بهذا ـ كسائر السلفية ـ يكفرون كل من يقول بالكلام النفسي، لأن من مقتضياته أن الله تعالى لم يتكلم بالحروف والأصوات التي ننطق بها عند قراءتنا للقرآن الكريم، وهذا هو قول الأشاعرة كلهم متقدمهم ومتأخرهم.
وهكذا قال بعده الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي (المتوفى: 481 هـ) في كتابه في [ذم الكلام وأهله]، وهو كتاب مشحون بتكفير الأشاعرة، وقد نقل ابن تيمية الكثير منه مستحسنا له، ومن ذلك قوله في [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية]: (وقال شيخ الاسلام أبو اسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري
__________
(1) المناظرة على القرآن، ص 50.
(2) انظر الأشعري في المقالات 2/ 257، وقد ذكر الشهرستاني عن الأشعري أنه يقول ببعض ما ذكر. انظر: الملل 1/ 96..
(3) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 154)
(4) رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 154)
كلكم كفرة (50)
في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد بابا في ذكر هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال: باب في ذكر كلام الأشعري: (ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم يقع منهم الا على التعطيل البحت، وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم، والفلك دوار والسماء خالية، وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الإثبات وذهابا عن التحقيق.. وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام، ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به، ثم يقولون ليس هو في مكان، ثم قالوا ليس له صوت ولا حروف، وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد النفس وأريد به التفسير، وهذا صوت القاري إما يرى حسن وغير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازا به حتى قال رأس من رؤوسهم: أو يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب، فراوغوا، فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك، ثم قالوا غير مخلوق، ومن قال مخلوق كافر، وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الإناث بعشر مرات) (1)
وقد أقر ابن تيمية كلام الهروي، وأن الأشاعرة جهمية في باب صفة الكلام، وأنهم بذلك وقعوا في هذه البدعة المكفرة بإجماعهم.
وقد ذكر الشيخ الهروي سلفه في هذا، فقال: (ورأيت يحيى بن عمار ما لا أحصي من مرة على منبره يكفرهم ويلعنهم، ويشهد على أبي الحسن الأشعري بالزندقة، وكذلك رأيت عمر بن إبراهيم ومشائخنا) (2)
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (4/ 405)
(2) ذم الكلام 1315.
كلكم كفرة (51)
وإلى هذا أيضا ذهب أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي (المتوفى: 418 هـ) وهو من مشايخهم الكبار المعتمدين، فقد قال في [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]: (سياق ما دل من الآيات من كتاب الله تعالى وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره أن يتحدى به، وأن يدعو الناس إليه، وأنه القرآن على الحقيقة. متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن، وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول ومربوب، بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلما، ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذاهب السنة والجماعة) (1)
ثم عقد فصلا آخر خصصه للأشاعرة، فقال: (سياق ما روي في تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق) (2)
ثم ذكر الأئمة الذين ذهبوا إلى هذا المذهب، فقال: (روي ذلك عن الأئمة. عن محمد بن إدريس الشافعي، وأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وسويد بن سعيد، وأبي همام الوليد بن شجاع، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، وهارون بن موسى الفروي، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، والحسن بن الصباح البزار، وهارون بن عبد الله الحمال، وعبد الوهاب بن الحكم الوراق، ومحمد بن منصور الطوسي، وإسحاق بن إبراهيم البغوي، وأبي نشيط محمد بن هارون، وعباس بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن أبي الثلج، وسليمان بن توبة النهرواني، وأبي الوليد الجارودي، ومحمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وأبي يونس محمد بن أحمد بن يزيد الجمحي والحسن بن إبراهيم
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 364)
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 385)
كلكم كفرة (52)
البياضي، ومحمد بن إسحاق بن يزيد أبي عبد الله الصيني..) (1) وغيرهم كثير.
وهكذا نجد كبار أئمة السلفية من المتقدمين والمتأخرين يصرحون بتكفير الأشاعرة بطرق لا تخفى على أي عاقل، لكنهم مع ذلك يظلون يجادلون، لا بالإنكار على أئمتهم الذين اعتبروا أمثال تلك المقولات مكفرة، ولكن بنفي التكفير عنهم.
ولست أدري أي منطق يعتمدون عليه في ذلك: هل المنطق الذي يقول: كل إنسان فان، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان.. وهو المنطق الذي اتفقت البشرية جميعا عليه، وقياسا عليه: فإن كل من قال ـ بحسب الرؤية السلفية ـ بأن الحرف في الصوت والقرآن مخلوق كافر.. والأشاعرة قالوا بهذا.. إذن هم كفار.
لكنهم يأبون هذا من باب الخداع والحيلة.. لا من باب الصدق والحقيقة، ولهذا نحتاج إلى الحديث عن أهل الجرأة فيهم، والذين لم يكتفوا بالتلميح، وعدلوا إلى التصريح.
بناء على تلك المقولات والفتاوى الكثيرة التي يزدحم بها التراث السلفي، والتي لا يملك أي سلفي صادق إلا أن يذعن لها، لأنه إن لم يذعن لها، فسيقع في تكفير سلفه الصالح له، ظهرت الكثير من الرسائل والكتب التي لا تكتفي بالتكفير الخفي، بل تضم إليه التكفير الصريح.
ومن أوائل هؤلاء المصرحين أئمة الدعوة النجدية من أبناء وتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والذين يعتبرهم السلفية المعاصرون من كبار مراجعهم الفكرية بعد سلفهم الأول، فقد ورد في [مجموعة الرسائل والمسائل النجدية] في عد رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (1225 - 1293 هـ) وهو من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذه الرسالة [تكفير من أنكر الاستواء على العرش]
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 386)
كلكم كفرة (53)
وقد قدموا لها بهذا التقديم: (وله أيضا –يقصد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رسالة إلى عبد الله بن عمير صاحب الأحساء، لما بلغه مسبة مشائخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، من القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الأحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية من تلامذة الجهمية الجاحدين لعلوه -سبحانه- على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرْضِية والطريقة السلفية. وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن في عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه) (1)
وهذه مقتطفات من هذه الرسالة من هذا المرجع الكبير من مراجع السلفية: (.. بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك، من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا علوه -تعالى- على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم، الذي نزل به جبرائيل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت، وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 3/ 219.
كلكم كفرة (54)
الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين، وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام وأصول الإيمان، فدمه هدر وقتله حتم. وقد حكى ابن القيم عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام، ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي -رحمه الله-، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة) (1)
ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد الشيخ محمد عبد الوهاب الذي كفر الأشاعرة صراحة، فقال: (وهذه الطائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماد؛ فلقد أعظموا الفرية على الله، وخالفوا أهل الحق من السلف والأئمة وأتباعهم؛ وخالفوا من ينتسبون إليه، فإن أبا الحسن الأشعري، صرح في كتابه الإبانة، والمقالات، بإثبات الصفات؛ فهذه الطائفة المنحرفة عن الحق قد تجردت شياطينهم لصد الناس عن سبيل الله، فجحدوا توحيد الله في الإلهية، وأجازوا الشرك الذي لا يغفره الله، فجوزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتعطيل) (2)
ومنهم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الملقب بـ[أبابطين] (توفي 1282 هـ)، وقد تولي عدة مناصب حساسة في السعودية في أطوارها المختلفة، ففي ولاية عبد الله بن سعود
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 3/ 220.
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3/ 210)
كلكم كفرة (55)
صار قضيا على عمان، ثم لما جاء عهد الحكومة السعودية الثانية صار قاضيا على مقاطعة الوشم، وقضاء سدير.. وهذا يبين نوع القضاة الذين يختارهم آل سعود وآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
فعند مطالعة رسالة هذا الشيخ القاضي الذي أولاه الوهابيون كل تلك الثقة نرى شخصية ممتلئة بالحقد والتكفير لكل المسلمين، بمن فيهم الأشاعرة، ومن أمثلة ذلك الفصل الذي عنونه بـ[تقارب الأشعرية من المعتزلة والجهمية في بعض الصفات]، فمما جاء فيه قوله: (ومذهب السلف قاطبة: أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله -تعالى- تكلم بالقرآن، حروفه ومعانيه، وأن الله -سبحانه وتعالى- يتكلم بصوت يسمعه من يشاء. والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواءه على عرشه ويسمون من أثبت صفة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون صفة العلو، والاستواء، كما أخبر الله -سبحانه- بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، من غير تكييف ولا تعطيل. وصرح كثير من السلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء. والأشاعرة وافقوا الجهمية في نفي هذه الصفة، لكن الجهمية يقولون: أنه -سبحانه وتعالى- في كل مكان، ويسمون الحلولية، والأشعرية يقولون: كان ولا مكان، فهو على ما كان قبل أن يخلق المكان. والأشعرية يوافقون أهل السنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: إن معنى الرؤية إنما هو زيادة علم، يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا. فهم بذلك نافون للرؤية التي دل عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومذهب الأشاعرة: أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح. قالوا: وإن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان. فإذا تحققت ما ذكرنا عن مذهب
كلكم كفرة (56)
الأشاعرة من نفي صفات الله -سبحانه وتعالى- غير السبع التي ذكرنا، ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف، ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرب -سبحانه وتعالى- معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل، لكن إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، ولا يثبتون رؤية أهل الجنة ربهم بأبصارهم، إذا عرفت ذلك عرفت خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة، كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه أدخلهم في أهل السنة مدارة لهم لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم) (1)
وهذا تصرح من هذا الشيخ السلفي بأن التقية هي التي دعت بعض السلفيين إلى التساهل مع الأشاعرة، لأنه لا فرق بينهم وبين المعتزلة والجهمة، وما داموا قد كفروهما، فلم لا يكفرون من يقول بنفس قولهما.
وبناء على هذا نجد الكثير من الرسائل والكتب المعاصرة، والتي تنتشر بكثرة على النت، وفي المواقع المختلفة، وهي تصرح جميعا بأن الأشاعرة جهمية معطلة كفار، وتستند في ذلك لكل التراث السلفي المشحون بتكفير من يقول بقولهم.
وسأذكر هنا من باب المثال نموذجين عن تكفير الأشاعرة من خلال الكتابات السلفية المعاصرة:
وهو لرسالة بعنوان [تكفير الأشاعرة] لصاحبها الشيخ خالد بن علي المرضي الغامدي، وهو كما في ترجمته قد تتلمذ على كبار مشايخ السلفية المعاصرين، كالشيخ (عبد العزيز بن باز) الذي أخذ عنه الحديث والتوحيد والفقه والمصطلح، والشيخ (عبد الله بن حبرين) الذي درس على يديه الفقه والعقيدة والنحو، والشيخ (محمد بن عثيمين) ودرس
__________
(1) رسائل وفتاوى أبا بطين (ص: 177)
كلكم كفرة (57)
على يديه الفقه والنحو والعقيدة والحديث، بالإضافة لتتلمذه على الشيخ (عبد الله بن قعود) والشيخ (محمود التو يجري) وغيرهم.
وله كتابات كثيرة تمتلئ بالتكفير، وتحيي سنة سلفه الصالح في ذلك، ومنها (التوحيد وحقيقة الشرك) و(شرح نواقض الإسلام) و(شرح شروط لا اله إلا الله) و(الميثاق) و(نقض عقائد الأشاعرة) و(قواعد في البراء والولاء)
وقد قدم لرسالته هذه بقوله: (هذا كتاب في تكفير الأشاعرة الجهمية، وبيان قول أهل العلم فيهم، وتحقيق إجماع السلف على كفرهم، والرد على من زعم خلاف ذلك، كما وفيه بيان أن من أنكر صفات الله العقلية التي لا تقوم ربوبيته ولا تصح ألوهيته إلا بها كالعلم والقدرة والعلو والكلام والسمع والبصر ونحوها كافر لا يعذر بجهل أو تأويل، وعليه فمن علم منه عبادة غير الله كدعاء الأموات والحكم بغير ما أنزل الله أو إنكار ربوبية الله أو صفاته التي لا يكون الله تعالى ربا إلا بها والتي هي من لوازم ألوهيته وربوبيته فإنه يحكم بكفره ولا يعذر بجهله وتأوله ومن مات على هذه العقيدة فهو مشرك لا يترحم عليه) (1)
ثم صرح بأن البحث العلمي في التراث السلفي هو الذي دفعه إلى هذا القول دفعا، فقال: (هذا وإني كنت سابقاً لا أقول بتكفير الأشاعرة والماتريدية كما في كتابي نقض عقائد الأشاعرة تبعا لما رأيته من الكلام المنسوب للإمام ابن تيمية، وكنت أقول قديماً أن العذر بالجهل والتأويل في الشرك وإنكار الصفات خالف فيه بعض أهل السنة وكنت أخطئهم وذلك على أن المسألة خلافية وليس الأمر كذلك، فلما تأملت في الأدلة وكلام السلف رجعت من هذا القول وتبرأت منه ولا أحل أحدا أن ينقله عني أو ينسبه لي) (2)
__________
(1) تكفير الأشاعرة، ص 3.
(2) تكفير الأشاعرة، ص 3.
كلكم كفرة (58)
ثم ذكر قدوته وسلفه في ذلك، فقال: (ولي في ذلك أسوة وهو الإمام أحمد حين قال عن الجهمية: (كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القران) (1).. وأدعو من يخالف في المسألة إلى التبصر في الأدلة والاقتداء بمنهج السلف في تكفيرهم وعد إعذارهم، قال البخاري: (وإني لأستجهل من لا يكفر الجهمية إلا من لا يعرف كفرهم) وقال أحمد: (الجهمية كفار) وقال البربهاري: (الجهمي كافر ليس من أهل القبلة) وقال الدارمي: (وأي فرق بين الجهمية وبين المشركين حتى نجبن عن قتلهم وإكفارهم) (2)
ثم ذكر النتيجية التي وصل إليها، فقال: (فالحق الذي لا مرية فيه أن الأشاعرة جهمية، والجهمية كفار غير مسلمين، وأن المشرك الجاهل بالتوحيد منكر صفات الربوبية والألوهية لا يسمى مسلما ولو كان جاهلا او متأولاً، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة، ومن خالف في هذه المسألة فلا اعتبار بخلافه لأنه يعد ناقضا للإجماع، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) (3)
وبناء على أهمية ما ذكره في هذه الرسالة، ودلالتها على أنه يستحيل على أي سلفي صادق في سلفيته أن يتوقف عن التكفير، أو يتوقف فيه، فسأذكر بعض ما ذكره هنا للدلالة على أن التراث السلفي أعظم خزان للتكفير.
فقد مهد بعد المقدمة بتمهيد عنونه بـ[تمهيد بوجوب تكفير الأشعرية]، قال فيه: (اعلم أن مدار الرسالة يقف على أمرين: الأول: أن الأشاعرة وقعوا في مكفرات عديدة لم يختلف أحد من أهل السنة في تكفير فاعلها وقائلها ومعتقدها، وسنأتي بها على وجه التفصيل مع كلام أهل العلم.. الثاني: وجوب تكفير من كفره الله من الواقعين في فعل
__________
(1) طبقات الحنابلة 2/ 553.
(2) تكفير الأشاعرة، ص 3.
(3) تكفير الأشاعرة، ص 4.
كلكم كفرة (59)
ينقض إيمانهم، ومنهم الجهمية وأتباعهم الأشاعرة الذين أجمع السلف على وجوب تكفيرهم بأعيانهم وكفروا من لم يكفرهم) (1)
فهاتان مقدمتان منطقيتان، وكلاهما مما يمتلئ التراث السلفي بالدلالة عليهما.. وقد ساق الكاتب الكثير من النصوص الدالة على وجوب التكفير، وحرمة التوقف عنه أو فيه، ومما نقله من ذلك قول البربهاري فيمن وقع في نواقض الإسلام كإنكار علو الله: (وإذا فعل شيئاً من ذلك وجب عليك أن تخرجه من الإسلام) (2)
ونقل عن جماعة من العلماء من أصحاب الدعوة النجدية: (.. وأجاب الشيخ عبد الله والشيخ إبراهيم: ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية والقبوريين أو يشك في كفرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذكروا نحواً مما تقدم من كلام الشيخ عبد اللطيف، ثم قالوا: وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم من شم رائحة الإيمان؛ وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، رحمهما الله، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات قوليها وفعليها، فيما يخفى دليله ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النّزاع بين الأمة.) (3)
ونقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قوله: (لو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع إدعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام... وهل قال واحد من العلماء في هذه المكفرات وأسباب الردة إن هؤلاء يكفر أنواعهم ولا يكفر أعيانهم) (4)
ونقل عن عبدالله با بطين قوله: (وما سألت عنه من حكم تعيين إنسان بعينه بالكفر
__________
(1) تكفير الأشاعرة، ص 5.
(2) شرح السنة، 73.
(3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 409)
(4) الدرر السنية 10/ 63.
كلكم كفرة (60)
إذا ارتكب شيئا من المكفرات؟ فإن من ارتكب شيئا من هذا النوع فهذا لا شك في كفره ولا بأس بمن تحققت منه أشياء من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل) (1)
ثم نقل جملة من (كلام أهل العلم في كفر الممتنع عن تكفير من وقع في الكفر والردة)، ومنها قول ابن بطة: (من قال كلام الله مخلوق فهو كافر حلال الدم ومن شك في كفره ووقف في تكفيره فهو كافر) (2)
ومنها قول الإمام الملطي (توفي 377 هـ) في الشاك في كفر الكافر: (وجميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم: أن من شك في كافر فهو كافر، لأن الشاك في الكفر لا إيمان له، لأنه لا يعرف كفرا من إيمان) (3)
ومنها قول بعض أئمة الدعوة النجدية: (فمن لم يكفر المشركين... فهو كافر مثلهم وإن كان يكره دينهم ويحب الإسلام فإن الذي لا يكفر المشركين غير مصدق بالقرآن) (4)
ومنها قول الشيخ سليمان بن عبد الله: (من كان شاكا في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكافر فهو كافر) (5)
وبناء على هذه النقول وغيرها قال: (وبعد هذا الكلام ستعلم الفائدة من دعوتنا لتكفير الأشاعرة وأهميته، وأنه من الدين والكفر بالطاغوت، وتارك التكفير بالكلية امتناعا يكفر، لأن الامتناع عن تكفير المشركين يعد أحد نواقض الإسلام، والسلف كفروا الجهمية وأصحاب عقيدة نفاة صفات الكمال والعلو وكفروا من لم يكفر أصحابها، فتنبه فإني لك
__________
(1) الرسائل 1/ 657.
(2) الإبانة، 129..
(3) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص:54.
(4) الدرر السنية 9/ 291.
(5) الدرر السنية 8/ 160..
كلكم كفرة (61)
ناصح والأمر جد خطير، كما أن في تكفير العلماء للواقع في الكفر تحذيرا للمرتدين لعلهم يرجعون، وقد بينت هذه المسألة في شرح نواقض الإسلام) (1)
ثم عقد فصولا يعدد فيها وجوه كون الأشاعرة فرقة من الجهمية، مثلهم مثل (المعتزلة والمريسية والكلابية والماتريدية والإباضية الخوارج والزيدية وغيرهم.. وتكفير السلف يشملهم جميعا لأن جميعهم منكرة للعلو) (2)
ومن تلك الوجوه: (قولهم بقول الجهم بن صفوان في الصفات والقدر والإيمان، واتباعهم لمذهبه فهم اليوم على معتقد الجهمية حذو القذة.. بل إن الأشعرية زادوا في الغلو، فأنكروا كثيرا من الصفات التي كان الأشعري يثبتها، وهذا من غير القول برجوع الأشعري عن مذهبه إن صح مع بقائهم على منهج الجهمية بعده، فكيف ينسبون له وقد تاب من عقيدته إن ثبت رجوعه. هذا واعلم أن كثيرا من أهل العلم لا يسمون الأشاعرة إلا بالجهمية، كالهروي وابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية وابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش في غزو الجهمية والصواعق المرسلة على الجهمية وكذلك كثير من أئمة الدعوة وقصدوا بالجهمية الأشاعرة) (3)
ومن تلك الوجوه (إجماع الأمة على تكفير الجهمية)، وبما أن الأشاعرة جهمية أو فرق من فرق الجهمية كما ينص كل أعلام السلف، فإن هذا الإجماع يشملهم، قال الغامدي: (أجمع أئمة السلف على كفر الجهمية وصرحوا بتكفير أعيانهم وعدم صحة الصلاة خلفهم ولا أكل ذبائحهم ولا مناكحتهم)
ثم أخذ يعدد الأقوال التي كفرت الجهمية بها، والتي شاركم فيها الأشاعرة، فقال:
__________
(1) تكفير الأشاعرة، ص 12.
(2) تكفير الأشاعرة، ص 23.
(3) تكفير الأشاعرة، ص 23.
كلكم كفرة (62)
(اعلم أن الأقوال التي من أجلها كفر السلف الجهمية تقول بها الأشاعرة، ومنها: الأول: إنكار علو الله تعالى وهو أشنعها: والسلف أجمعوا على تكفير من أنكر علو الله تعالى، والأشاعرة تقول به تبعاً للجهمية.. قال ابن تيمية عن علو الله: (ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالإضطرار من الدين) (1).. بل لابد أن تعلم أن جميع الأشاعرة صرحوا بما لم يصرح به الجهمية، فالجهمية لم يتجرؤوا على إظهار إنكار العلو، بينما الأشاعرة يجاهرون بإنكاره) (2)
ثم نقل عن ابن تيمية قوله: (الجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وإنما كان العلماء يعرفون هذا منهم بالاستدلال.. وهذا كما قال حماد بن زيد: (وما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله)، وقال عبدالرحمن بن مهدي: (ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء) ومثل هذا كثير في كلام السلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية وخلق القرآن ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك: أن الله ليس على العرش، ويجعلون هذا منتهى قولهم، وأن ذلك تعطيل للصانع وجحود للخالق) (3)
وعلق عليه بقوله: (فلا تعجب بعد ذلك إن قلت لك إن ما لم يتجرأ على إظهاره الجهمية وهو نفي العلو تجاهر الأشاعرة بإظهاره فأوجبوا إنكار العلو بل وكفروا من يثبت لله العلو لأن هذا عندهم من التجسيم) (4)
ثم نقل بعض أقوال المتقدمين منهم، وعقب عليها بقوله: (ومن عرف عنه هذا القول
__________
(1) درء تعارض النقل والعقل 7/ 26..
(2) تكفير الأشاعرة، ص 23.
(3) بيان تلبيس الجهمية 3/ 522.
(4) تكفير الأشاعرة، ص 23.
كلكم كفرة (63)
كالنووي وابن حجر والهيتمي والقرطبي وغيرهم من الأشاعرة فلا يجوز أن يترحم عليه إلا أن يثبت رجوعه، بل يجب أن يحكم بكفره ونفي الإسلام عنه إن مات على هذه العقيدة الجهمية الكافرة التي لم يختلف السلف على كفر أصحابها) (1)
وبهذا فإن تطبيق أقوال سلف السلفية على أكثر علماء الأمة يجعلهم جهمية وكفارا لا يستثنى أحد منهم حتى لو كان في مرتبة النووي وابن حجر وغيرهما..
هذا هو النموذج الأول، وهو نموذج صادق في التعامل مع التراث السلفي لأنه من الغريب أن تقول فرقتان هما الجهمية والأشاعرة قولا واحدا، ثم تكفر إحداهما بسببه تكفيرا غليظا، ثم تعذر الأخرى.. لأن المنطق السليم ينص إما على اعتبار الجميع معذورين، أو اعتبارهم جميعا مدانين.
وهو لكتاب بعنوان [تأكيد المسلمات السلفية في نقض الفتوى الجماعية بأن الأشاعرة من الفرقة المرضية]، وهو لعلم سلفي معروف لدى السلفية المعاصرين هو عبد العزيز بن ريس الريس، بالإضافة إلى أنه قدم له وقرظ وأثني عليه من طرف كبار أعلام السلفية المعاصرين من أمثال: الشيخ المحدث أحمد النجمي، والشيخ عبيد الجابري، بالإضافة لمراجعة كل من الشيخ صالح الفوزان والشيخ المحدث عبدالمحسن العباد، والكتاب منتشر على النت بكثرة، وهو يمثل وجهة نظرة سلفية كبيرة.
وهو في أصله رد علمي وبالأدلة الكثيرة على فتوى من بعض أصحاب المنهج التكفيري الخفي من السلفية، والذين رأوا أن المصلحة في الوقت الحالي تستدعي تخفيف الحرب على الأشاعرة، لتفرغهم لمن يسمونهم الروافض.
وأصحاب الفتوى ـ وهم الشيخ عبدالله الغنيمان والشيخ محمد السحيباني والشيخ
__________
(1) تكفير الأشاعرة، ص 23.
كلكم كفرة (64)
عبد العزيز القاري ـ ليس لهم شأن كبير لدى السلفية، لا في علمهم، ولا في مكانتهم، ولكنهم مع ذلك لقوا ردود فعل شديدة من أعلام السلفية الكبار، لانحرافهم عن المنهج السلفي الأصيل.
ونص الفتوى التي اجتهد الكاتب في نقضها هي: (الأشاعرة والماتريدية قد خالفوا الصواب حين أولوا بعض صفات الله سبحانه. لكنهم من أهل السنة والجماعة، وليسوا من الفرق الضالة الاثنتين والسبعين إلا من غلا منهم في التعطيل، ووافق الجهمية فحكمه حكم الجهمية [وهذا ينطبق على كل الأشاعرة، لأنهم جميعا متفقون على نفي الجهة ونفي الحرف والصوت وتعطيل كل ما يذكره السلفية من صفات اليد والوجه والساق وغيرها] (1) أما سائر الأشاعرة والماتريدية فليسوا كذلك [لأنه لا يوجد أشعري أو ماتريدي بالوصف الذي ذكره] (2)، وهم معذورون في اجتهادهم وإن أخطأوا الحق. ويجوز التعامل والتعاون معهم على البر والإحسان والتقوى، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية قد تتلمذ على كثير من العلماء الأشاعرة، بل قد قاتل تحت راية أمراء المماليك حكام ذلك الزمان وعامتهم أشاعرة، بل كان القائد المجاهد البطل نور الدين زنكي الشهيد، وكذا صلاح الدين الأيوبي من الأشاعرة كما نص عليه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وغيرهما كثير من العلماء والقواد والمصلحين، بل إن كثيراً من علماء المسلمين وأئمتهم أشاعرة وماتريدية، كأمثال البيهقي والنووي وابن الصلاح والمزي وابن حجر العسقلاني والعراقي والسخاوي والزيلعي
__________
(1) التعليق مني.
(2) التعليق مني.
كلكم كفرة (65)
والسيوطي، بل جميع شراح البخاري هم أشاعرة وغيرهم كثير) (1)
وبعد أن أورد الكاتب نص الفتوى بدأ بنقضها، وأول ما فعله لذلك هو تقديمه لتقريظات وتزكيات من هم أوثق وأعلم لدى السلفية من أصحاب الفتوى، وفي مقدمتهم الشيخ المحدث أحمد النجيمي الذي في تقريظه للكتاب: (اطلعت على رسالة كتبها الشيخ عبدالعزيز بن ريس الريس - جزاه الله خيراً، وبارك فيه -؛ رد بها على فتوى كتبها مجموعة من المشائخ زعموا فيها أن الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة؛ كبرت كلمة تخرج من أفواههم، والحق الذي لا مرية فيه، أن الأشاعرة، والماتريدية؛ من طوائف أهل البدع، ولا يجوز لأحد أن يقول إنهم من أهل السنة، ومن زعم أن هاتين الطائفتين من أهل السنة والجماعة، فإنه قد أقحم نفسه في خطأ فادح، وخطر فاضح، وسيسأل يوم القيامة عن قيله قبل أن يُفرَج له عن سبيله) (2)
وقد يتصور البعض أن السلفية في هذا النص لم يفعلوا سوى أن أخرجوهم من أهل السنة والجماعة لا من الإسلام، وهذا لا يقوله إلا من لا يعرف السلفية، لأن الإسلام عندهم هو أهل السنة والجماعة، ومن عداها فضالون كافرون..
وقد رفع النجيمي نفسه اللبس عن ذلك حينما قال في تقريظه للكتاب بحماسة وغضب: (كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يحكم العقل في القضايا الإيمانية الثابتة بالكتاب والسنة، فما قبله منها قبل، وما ردّه منها ردَّ، ولذلك فإنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبع صفات، وما عداها فإنه يكون مصيرها التأويل؛ الذي يؤدي إلى التعطيل؛ كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يؤول قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} باستولى، فيكون كأنَّه مستولٍ عليه غيره، ثم استولى عليه بعد ذلك؛
__________
(1) تأكيد المسلمات السلفية، ص 8.
(2) تأكيد المسلمات السلفية، ص 3.
كلكم كفرة (66)
كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يتأول حديث نزول الربِّ في الثلث الأخير من الليل.. فيقول المؤول: ينزل أمره مع أن أمر الله عز وجل هو نازل في كل وقت وحين؛ كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يتأول اليدين بالنعمتين مع أن الله سبحانه وتعالى قد قرن ذلك بما يكون من خصائص اليد، وهو الإنفاق.. كيف يكون من أهل السنة والجماعة من يتأول حديث (لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء)، وما في معناه؛ يتأول النظر في هذا الحديث بأن النظر هنا مجازٌ عن الرحمة بأنه لا يرحمهم؛ إلى غير ذلك من التأويلات المتعسفة، والتي يحيلون بها النصوص الواردة من الله عزّ وجل في كتابه أو على لسان رسوله مما يتضمن المعاني السامية التي تليق بالله عز وجل يتأولونها بتأويلات باطلة. وإذا فكرنا ما هو الذي أوجب لهم ذلك نجد أنهم زعموا إحالة العقول بأن يوصف الله بتلك الصفات؛ لأنهم جعلوا تأصيلات أهل الكلام هي الأساس، وحكموا بها على النصوص الشرعية؛ التي جاءت في كتاب الله، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تثبت لله عز وجل أسماءً، وصفات تليق بجلاله، فجعل الأشاعرة والماتريدية تلك التأصيلات الكلامية؛ التي هي مأخوذة عن الفلاسفة، وأهل المنطق ممن استغرقوا في علم الكلام، وأمضوا فيه أوقاتهم، وأفنوا فيه أعمارهم) (1)
فقوله كل حين (كيف يكون من أهل السنة والجماعة) نوع من التلبيس على القراء، لأن الصحيح عندهم هو (كيف يكون من المسلمين)، لأن كل ما ذكره من تأويلات هي ما يتفق السلفية جميعا على تكفير من يقول بها، ويسمونه جهميا، إما حقيقة ـ كما هو الحال بالنسبة للسلف الأول ـ أو تقية كما هو الحال بالنسبة للسلف
__________
(1) تأكيد المسلمات السلفية، ص 5.
كلكم كفرة (67)
الآخر، لأنه لم يبق أحد يتحدث في مثل هذه المسائل بهذا المنهج إلا الأشاعرة أو إخوانهم من الماتريدية أو المعتزلة أو إخوانهم من الشيعة والإباضية.
وبما أن سند السلفية الأول هو الرجال ومواقفهم، فقد وضع الكاتب فصلا لأعلام السلفية ومواقفهم من الأشاعرة، وأولهم هو رجل السلفية الأول، وعمدتهم الأكبر الإمام أحمد الذي بدع الكلابية الذين يعتبرهم السلفية سلف الأشاعرة الأوائل، كما قال ابن تيمية: (والكلابية هم مشايخ الأشعرية فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمنا وطريقة، وقد جمع أبو بكر بن فورك شيخ القشيري كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول ولكن لم يكن كلام أبي عبد الرحمن السلمي قد انتشر بعد فإنه انتشر في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت كتب القاضي أبي بكر بن الباقلانى ونحوه) (1)
وقد أورد عبدالعزيز الريس مقالة أبي بكر بن خزيمة لما قال له أبو علي الثقفي: (ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ فقال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره) (2)
وعلق عليها بقوله: (فكيف لو أدرك من جاء بعدهم من الأشاعرة الذين ازدادوا سوءاً إلى أشاعرة زماننا الذين تميع فيهم هؤلاء المفتون وطار بفتواهم إذاعة ونشراً موقع الإسلام اليوم تحت نظر ورعاية من مشرفه سلمان العودة، فإن الأشاعرة كلما تأخروا زادوا بعداً عن السنة قال ابن تيمية: (فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله
__________
(1) الاستقامة (1/ 105)
(2) سير أعلام النبلاء (14/ 380)
كلكم كفرة (68)
إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة) (1)، وقال: (وهذا الكلام في الأصل-أي تقديم العقل على النقل- هو من قول الجهمية المعتزلة وأمثالهم وليس من قول الأشعري وأئمة أصحابه وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع بل ما جعله معاضداً له وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل) (2)
ثم ذكر بعده الشيخ أبو نصر السجزي (توفي 444 هـ) الذي وصف الأشاعرة بأنهم متكلمون وفرقة محدثة وأنهم أشد ضرراً من المعتزلة فقال: (فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، عُلم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو يناظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي.. ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمى محدثاً بل يسمى سنياً متبعاً، وأن من قال في نفسه قولاً وزعم أنه مقتضى عقله، وأن الحديث المخالف له لا ينبغي أن يلتفت إليه، لكونه من أخبار الآحاد، وهي لا توجب علماً، وعقله موجب للعلم يستحق أن يسمى محدثاً مبتدعاً، مخالفاً، ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا بتأمل هذا الفصل في أول وهلة، ويعلم
__________
(1) شرح الأصفهانية (ص 107 - 108)
(2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 97)، وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية ص 207.
كلكم كفرة (69)
أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا) (1)
ثم قال: (ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء؛ بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري.. وفي وقتنا أبو بكر الباقلاني ببغداد وأبو إسحاق الإسفرائني وأبوبكر بن فورك بخراسان فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة.. وكلّهم أئمّةُ ضَلالة يدعونَ النّاسَ إلى مخالفةِ السّنةِ وتركِ الحديث) (2)
ثم ذكر ما ذكره ابن تيمية والعثيمين وغيرهما من كون الأشاعرة أشد خطرا من المعتزلة فقال: (لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف ولم تُمَوِّه. بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وإنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا قوة... فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه) (3)
ومن الأعلام الذين ذكرهم لاعتبار الأشاعرة من أهل البدع والأهواء المكفرة محمد بن أحمد بن خويز منداد، فقد روى عنه ابن عبد البرأنه قال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك: (لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء) قال: (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها) (4)
ومنهم ابن قدامة الذي نص على أنهم مبتدعة، فقال: (ولا نعرف في أهل البدع طائفة
__________
(1) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 100 - 101)
(2) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 222 - 223)
(3) انظر: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 177 - 178)
(4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 96)
كلكم كفرة (70)
يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها إلا الزنادقة والأشعرية) (1)
ومنهم أبو حامد الإسفرائني، الذي قال عنه ابن تيمية: (قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام، قال ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن على الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني وتكرر ذلك منه جمعات فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه ـ يعني الأشعرية ـ وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم منى تعلموه قبله، وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البلاقلاني وعقيدته) (2)
وقد ذكر ابن تيمية مستحسنا المعاناة الشديدة التي كان يعانيها الباقلاني من طرف الإسفرايني وتلاميذه من السلفية، فقال: (.. قال الشيخ أبو الحسن وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا: كان أبو بكر الباقلانى يخرج إلى الحمام متبرقعاً خوفاً من
__________
(1) المناظرة في القرآن ص 35.
(2) درء تعارض العقل والنقل (2/ 96)
كلكم كفرة (71)
الشيخ أبي حامد الإسفرايني) (1)
ومن الأعلام الذين ذكرهم، واستند إليهم في تكفير الأشاعرة أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، الذي قال عنه ابن تيمية: (كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب ذم الكلام فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات وله كتاب تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث وربما كان يلعنهم وقد قال له بعض الناس: بحضرة نظام الملك أتلعن الأشعرية؟ فقال: ألعن من يقول ليس في السموات إله ولا في المصحف قرآن ولا في القبر نبي وقام من عنده مغضباً) (2)
وقد نبه الشيخ عبد العزيز الريس إلى أن ما ذكره ابن تيمية في أكثر من موضع من أن الأشاعرة أقرب إلى أهل السنة لا يفهم منه ظاهره، فـ (ليس معنى هذا تزكيتهم وأنهم من أهل السنة، بل معناه أنهم خير من الجهمية والمعتزلة على سوئهم الشديد كالقول إن النصارى أقرب إلى الإسلام من اليهود، فليس معنى هذا أن النصارى مسلمون فالله الذي قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] قد نص على أن النصارى كفار كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]) (3)
ورد كذلك على ما (شاع في هذا الزمن عند كثيرين إدخال الأشاعرة في أهل السنة معتمدين في هذا على كلام لابن تيمية وهو أن لأهل السنة اطلاقين: إطلاقاً عاماً وهو ما يقابل الرافضة، وإطلاقاً خاصاً والمراد بهم أهل الحديث، فعلى الإطلاق الأول تكون الأشاعرة من أهل السنة، وإذا أرادوا تعليل إدخال الأشاعرة في أهل السنة قالوا: هم أهل
__________
(1) الإصفهانية، 58.
(2) مجموع الفتاوى (14/ 354)
(3) تأكيد المسلمات السلفية، ص 19.
كلكم كفرة (72)
السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة) (1)
وبين أن من فعل هذا من أصحاب المنهج التكفيري الخفي وقع في خطئين (2):
الأول: في فهم كلام ابن تيمية فإنه لما ذكره أراد في استعمال عامة الناس، لا في استعمال الشرع، (وكلام العامة لاينبني عليه شرع، وإنما يذكر من باب الإخبار ببغض الناس للرافضة، ثم على فهم هؤلاء لكلام ابن تيمية تكون المعتزلة من أهل السنة)
الثاني: أنه يلزم على تعليلهم إدخال الرافضة في أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة، وقد أورد للدلالة على هذا نصوصا من كلام ابن تيمية يوضح بها مراده، منها قوله: (فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف بين أهل السنة والجماعة العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض، والسنى في اصطلاحهم من لا يكون رافضيا، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن وأكثر قدحا في سلف الأمة وأئمتها وطعنا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة) (3)
وقال في موضع آخر: (فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول إن القرآن غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة. وهذا الرافضي ـ يعنى المصنف ـ جعل أهل السنة بالإصطلاح الأول، وهو اصطلاح العامة كل من ليس برافضي قالوا هو من أهل السنة، ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم
__________
(1) تأكيد المسلمات السلفية، ص 20.
(2) تأكيد المسلمات السلفية، ص 20.
(3) مجموع الفتاوى (4/ 155)
كلكم كفرة (73)
مع تحريفه لها فكان في نقله من الكذب والإضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب وإذا عرف أن مراده بأهل السنة السنة العامة) (1)
وهذا رد قوي من ابن تيمية على الذين ينقلون من كلامه ما يخدم التقية التي يمارسونها، ويقتدون بابن تيمية في ممارستها.
ثم عقد فصلا بعد هذا عنونه بـ[مختصر في معتقد الأشاعرة وسبب إخراجهم من الفرقة الناجية]، بين فيه أن معتقدات الأشاعرة لا تخرج عن معتقدات الجهمية التي اتفق سلف السلفية وخلفهم على تكفيرهم بسببها.
فمن المعتقدات التي اتفق سلف السلفية وخلفهم على تكفير معتقدها (2) (أنهم لا يثبتون شيئاً من الصفات الفعلية (3)).. ويقصدون بها المجيء والإتيان والنزول والهرولة وغيرها، وكلها مما ذكر سلف السلفية كفر من لا يعتقدها.. ومنها أن (الأشاعرة الذين هم من بعد أبي المعالي الجويني أنكروا علو الله على خلقه بذاته)، وهي أيضا مما لا يخالف أحد من السلفية في تكفير منكرها، بل في تكفير من لا يكفر منكرها.. ومنها أن (مآل قولهم في كلام الله أن القرآن مخلوق كما أفاده أحد أئمة الأشاعرة المتأخرين الرازي).. وهي أيضا من المكفرات الكبرى عند أعلام السلفية جميعا.
وغيرها من المعتقدات الكثيرة التي يكفي الواحد منها في وضعهم مع الجهمية في سلة واحدة، ذلك أنه ـ كما يقول الريس ـ (تخرج الطائفة والفرقة من طائفة أهل السنة إلى أهل البدعة إذا خالفت أهل السنة في أمر كلي ولو واحدا) (4)
__________
(1) منهاج السنة (2/ 221)
(2) تأكيد المسلمات السلفية، ص 22.
(3) هذه الكتب التي استند إليها المؤلف في هذا: الفتاوى الكبرى (5/ 68) (5/ 239) وانظر من كتب الأشاعرة الإرشاد للجويني ص 156.
(4) تأكيد المسلمات السلفية، ص 22.
كلكم كفرة (74)
وقد نقل عن ابن بطة مما يؤيد هذا، فقد قال: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووصفها، وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمى بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه وحذر منه من أهل البدع والزيغ مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة منذ بعث نبيه الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا. ثم ذكر أمور الاعتقاد) (1)
ثم عقد فصلا في التحذير من المبتدعة وهجرهم واستعمال كل الوسائل لإذيتهم، كما هي عادة كل كتب السلفية العقدية، ومن النصوص التي ذكرها قول أبي عثمان الصابوني: (ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم.. واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. وأنا بفضل الله عز وجل ومنّه متبع لآثارهم مستضيء بأنوارهم، ناصح لإخواني وأصحابي أن لا يزلقوا عن منارهم، ولا يتبعوا غير أقوالهم، ولا يشتغلوا بهذه المحدثات من البدع التي اشتهرت فيما بين المسلمين، والمناكير من المسائل التي ظهرت وانتشرت، ولو جرت واحدة منها على لسان واحد في عصر أولئك الأئمة لهجروه وبدعوه، ولكذبوه وأصابوه بكل سوء ومكروه، ولا يغرّن إخواني حفظهم الله كثرة أهل البدع ووفور عددهم، فإن وفور أهل الباطل وقلة عدد أهل الحق من علامات اقتراب اليوم الحق، فإن ذلك من أمارات اقتراب الساعة، إذ الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من علامات الساعة واقترابها أن يقل العلم ويكثر الجهل والعلم هو السنة، والجهل هو البدعة) (2)
وقد ذكر هذا بناء على أن أصحاب تلك الفتوى أجازوا التعاون بين السلفيين
__________
(1) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، (175 - 176)
(2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 113.
كلكم كفرة (75)
وغيرهم من المسلمين الذين يعتقدون بمذهب الأشعري.
وقد ختم كتابه بذكر (عشرة أخطاء شرعية في هذه الفتوى الجماعية)، وهي (1):
1 - عدم جعلهم الأشاعرة من الثنتين والسبعين فرقة الضالة مع أن حالهم ما تقدم ذكره، فهذا إما أن يرجع إلى عدم معرفتهم بالأشاعرة والماتريدية أو عدم معرفتهم بتأصيل أهل العلم وضابطهم في إخراج الفرقة المخالفة من الناجية إلى عموم الاثنتين والشبعين فرقة وكلا الاحتمالين قبيح بأحدهم فكيف وهم مجتمعون.
2 - جوزوا التعاون مع أهل البدع على البر والتقوى، وهذا مخالف لهدي السلف مع أهل البدع، إذ الأصل العداء والبعد عنهم إلا لمصلحة شرعية وهو خلاف الأصل.
3 - خلطوا وقاسوا قياساً فاسداً وذلك أنهم قاسوا التعاون مع عموم الأشاعرة بالتعاون مع الحاكم وولي الأمر المبتدع كأن يكون أشعرياً، والشريعة فرقت بين ولاة الأمر وعامة الناس، ومعتقد أهل السنة كما في كتب الاعتقاد أن يقاتل ويصلى مع ولاة الأمر ولو كانوا فجاراً مبتدعة، وهذا ما لا يكون مع عامة الناس.
4 - أنهم جعلوا كثرة وجود الأشاعرة في العلماء دليلاً على أن الأشاعرة من أهل السنة، وهذا خطأ فإن مما يعرفه المبتدئون من طلاب العلم أن فعال وأقوال واعتقاد أهل العلم ليست حجة ما لم يجمعوا على ذلك فكيف جعلوا فعل الكثير حجة، وأنبه إلى أنه ليس معنى كونهم أشاعرة ألا يستفاد من علمهم فلا تعارض بين كونهم أشاعرة والاستفادة من علمهم عند الحاجة كما فصل ذلك علماء أهل السنة.
5 - جعْلُ المزي أشعرياً خطأ كبير بل هو من أئمة السنة كما يعرف ذلك من طالع كلام أئمة السنة في عصره.
6 -
7 -
__________
(1) تأكيد المسلمات السلفية، ص 28.
كلكم كفرة (76)
8 - جعلهم جميع شراح البخاري أشاعرة خطأ فاضح فإن مما يعلمه المبتدئون من طلاب العلم أن من شراح البخاري ابن كثير وابن رجب وهما من علماء السنة.
9 - القول بأنهم لم يعرفوا من أئمة السلف من أمر بإعادة الصلاة خلف المأمون قصور من قائله فقد روى عبدالله بن أحمد في كتاب السنة أن يحيى بن معين كان يعيد صلاة الجمعة مذ أظهر عبد الله بن هارون المأمون ما أظهر يعني القرآن مخلوق (1).
10 - قولهم: يجب التأدب بآداب السلف حق وها نحن ندعوهم من هذا المنطلق أن يتأدبوا بآداب السلف ويقوموا بواجب الله تجاه الأشاعرة وأن يتراجعوا عن فتواهم علانية.
11 - حصرُ خطأ الأشاعرة في تأويل بعض الصفات فحسب غلطٌ ظاهر يدل على عدم معرفتهم بحال الأشاعرة مما يبين أن حكمهم فيهم غير مقبول، فلا أدري هل العجب من حكمهم في الأشاعرة أم جهلهم بهم.
12 - الجزم بأن الأشاعرة كلهم معذورون في اجتهادهم ضرب من الغيب ومقتضاه ألا يكون بينهم من هو مفرط في طلب الحق أو من اجتهد وليس أهلاً لذلك أو معاند وهكذا... وهذا يكذبه الواقع الذي لا يخفى على كل عارف منصف.
تعتبر المدرسة الماتريدية هي المدرسة العقدية الثانية التي تتقاسم مع الأشعرية أكثر بلاد العالم الإسلامي، ذلك أنها تنتشر في كل المناطق التي يتنشر فيها المذهب الحنفي، باعتبار أن أبا منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي (توفي 333 هـ) كان حنفيا.
وهي تنتشر في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية: كالصين، وبنغلاديش، وباكستان، وأفغانستان، وتركيا، والكثير من المناطق في سوريا ولبنان ومصر، أي في جميع
__________
(1) كتاب السنة (1/ 130)
كلكم كفرة (77)
المناطق التي يوجد فيها الحنفية، أو كان لهم سلطان فيها.
وسبب انتشارهم وكثرهم يعود بالدرجة الأولى إلى المناصرة والتأييد من الملوك والسلاطين لعلماء المذهب، وبخاصة سلاطين الدولة العثمانية.. بالإضافة إلى المدارس الماتريدية الكثيرة التي كان لها دور كبير في نشر عقيدة هذه المدرسة، ومن أمثلتها: المدارس الديوبندية بالهند وباكستان وغيرها؛ حيث لا زال يدرس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة.. بالإضافة إلى كثرة علمائهم، وما تركوه من مصنفات.
وقد قال بعض الباحثين في بيان سبب انتشارها: (وعلى أية حال، فإن الماتريدية بلغت قمة قوتها وذروتها بتدعيم الدولة العثمانية لها وهي بالتحديد سنة (700 – 1300 هـ)، إذ كانت دولة حنفية الفروع، ماتريدية العقيدة، ومن تركيا انتشرت العقيدة الماتريدية شرقا وغربا، ويعد الهند من أهم مراكز المذهب الماتريدي، منذ أن حكمها الملوك السامانيون قديما، ثم قوي المذهب الماتريدي في العصر الحديث بعد أن اعتنقها الديوبندية. ولا يزال في الأزهر الشريف تدريس العقيدة الماتريدية وبخاصة تدريس كتاب (شرح العقائد النسفية) للتفتازاني، وهو شرح لكتاب [العقائد النسفية] لنجم الدين عمر النسفي) (1)
ويضم التاريخ الماتريدي الكثير من الأعلام الكبار من أمثال الشيخ أبو اليسر البزدوي (توفي 493 هـ)، وأبو المعين النسفي (توفي 508 هـ)، ونجم الدين عمر النسفي (توفي 537 هـ)، وحافظ الدين عبد الله النسفي (توفي 710 هـ)، وأبو محمد نور الدين أحمد بن محمد الصابوني (توفي 580 هـ).. وغيرهم كثير (2).
ولذلك فإن التكفير السلفي لهذه المدرسة تكفير لكل المسلمين الذين تتلمذوا على يدي أعلامها، أو أخذوا بمعتقداتها.
__________
(1) الماتريدية النشأة والمنهج للدكتور كمال الدين نور الدين مرجوني.
(2) انظر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني 1/ 262.
كلكم كفرة (78)
والسلفية ـ الذين تجرأوا فكفروا الأشاعرة بسبب معتقداتهم ـ لم تنقص جرأتهم في موقفهم من الماتريدية.. ذلك أن كليهما يعتبران من الجهمية عند السلفية.
بل إن موقف السلفية من الماتريدية أشد، ذلك أنهم أقرب إلى المعتزلة، وأكثر استخداما للعقل، والسلفية لا يشككون في كفر المعتزلة وضلالهم، وضلال كل من يقترب منهم.. بل إن الأشاعرة ما حكم عليهم بالضلال إلا بسبب قربهم من المعتزلة، ولذلك فإن درجة كفر الماتريدية ـ عند السلفية ـ أكبر بسبب ذلك القرب.
وقد وضح الشيخ محمد أبو زهرة ـ وهو من أعلام الماتريدية المعاصرين ـ درجة ذلك القرب، فقال: (إن منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أي شطط أو إسراف، والأشاعرة يتقيدون بالنقل ويؤيدونه بالعقل، حتى إنه يكاد الباحث يقرر أن الأشاعرة في خط بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث، والماتريدية في خط بين المعتزلة والأشاعرة، فإذا كان الميدان الذي تسير فيه هذه الفرق الإسلامية الأربع، والتي لا خلاف بين المسلمين في أنها جميعا من أهل الإيمان، إذا أقسام أربعة، فعلى طرف منه المعتزلة، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث، وفي الربع الذي يلي المعتزلة، الماتريدية، وفي الربع الذي يلي المحدثين، الأشاعرة) (1)
ومثله قال الشيخ محمد زاهد الكوثري ـ وهو من كبار أعلامهم الذين اتفق المعاصرون على تكفيرهم وتبديعهم واعتبارهم من الجهمية ـ: (الماتريدية هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلما يوجد بينهم متصوف، فالأشعري والماتريدي هما إماما أهل السنة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللفظي) (2)
__________
(1) تاريخ المذاهب الاسلامية: ج 1 ص 199.
(2) مقدمة تبيين كذب المفتري: ص 19.
كلكم كفرة (79)
وقد ذكر الامام البزدوي، وهو أحد مشايخ الماتريدية الكبار في القرن الخامس المسائل الكبرى للخلاف بين الأشاعرة والماتريدية، وأنها لا تعدو مسائل معدودة، فقال: (وأبو الحسن الأشعري وجميع توابعه يقولون إنهم من أهل السنة والجماعة، وعلى مذهب الأشعري عامة أصحاب الشافعي، وليس بيننا وبينهم خلاف إلا في مسائل معدودة) (1)
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بوجوب معرفة الله تعالى عقلا وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون الوجوب شرعيا لا عقليا، أو كما قال العضدي في المواقف: (النظر إلى معرفة الله واجب إجماعا، واختلف في طريق ثبوته، فهو عند أصحابنا السمع، وعند المعتزلة العقل) (2)
وعلى خلافهم الماتريدية التي عبر عن مذهبها في هذا البياضي بقوله: (ويجب بمجرد العقل في مدة الاستدلال، معرفة وجوده، ووحدته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحدوث العالم، ودلالة المعجزة على صدق الرسول، ويجب تصديقه، ويحرم الكفر، والتكذيب به، لا من البعثة وبلوغ الدعوة) (3)
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بالتحسين والتقبيح العقليين وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون التحسين والتقبيح يعرفان بالشرع لا بالعقل.
قال البياضي: (والحسن بمعنى استحقاق المدح والثواب، والقبح بمعنى استحقاق الذم والعقاب على التكذيب عنده (أي عند أبي منصور الماتريدي) إجمالا عقلي، أي يعلم به حكم الصانع في مدة الاستدلال في هذه العشرة ـ إشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلا ـ كما في التوضيح وغيره، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح،
__________
(1) اصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.
(2) المواقف: ص 28.
(3) اشارات المرام، ص 53..
كلكم كفرة (80)
ولا مطلقا كما زعمته المعتزلة، أما كيفية الثواب وكونه بالجنة، وكيفية العقاب وكونه بالنار، فشرعي، واختار ذلك الامام القفال الشاشي، والصيرفي، وأبو بكر الفارسي، والقاضي أبو حامد، وكثير من متقدميهم، كما في القواطع للامام أبي المظفر السمعاني الشافعي والكشف الكبير، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في (التبصرة البغدادية). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان، وحرمة الكفر واختاره المذكورون.. ويستحيل عقلا اتصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي، فلا يجوز تعذيب المطيع، ولا العفو عن الكفر، عقلا، لمنافاته للحكمة، فيجزم العقل بعدم جوازه، كما في التنزيهات) (1)
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بأن التكليف بما لا يطاق غير جائز وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون عكس ذلك.
يقول البياضي: (ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط، واختاره الاستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في (التبصرة) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور) (2)
ويقول أبو منصور الماتريدي: (إن تكليف من منع عن الطاقة فاسد في العقل، وأما من ضيع القوة فهو حق أن يكلف مثله، ولو كان لا يكلف مثله لكان لا يكلف إلا من يطيع) (3)
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بأن أفعال الله سبحانه معللة بالغايات وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يرون عكس ذلك، يقول البياضي: (أفعاله تعالى معللة بالمصالح والحكم تفضلا على العباد، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره
__________
(1) اشارات المرام، ص 54..
(2) اشارات المرام: ص 54.
(3) التوحيد: ص 266..
كلكم كفرة (81)
صاحب المقاصد) (1)
ومن تلك المسائل قول الماتريدية بأن صفاته تعالى عين ذاته وفاقا للمعتزلة، وخلافا للأشاعرة الذين يذكرون أنها قائمة بذاته، يقول النسفي: (ثم اعلم إن عبارة متكلمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إن الله تعالى عالم بعلم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازا عما توهم أن العلم آلة وأداة فيقولون: إن الله تعالى، عالم، وله علم، وكذا فيما وراء ذلك من الصفات. والشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله يقول: إن الله عالم بذاته، حي بذاته، قادر بذاته، ولا يريد منه نفي الصفات، لأنه أثبت الصفات في جميع مصنفاته، وأتى بالدلائل لإثباتها، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك، غير أنه أراد بذلك دفع وهم المغايرة، وأن ذاته يستحيل أن لايكون عالما) (2)
بناء على هذا سنذكر هنا مقولاتهم في القضايا الثلاث الكبرى التي كفر السلفية على أساسها الجهمية والأشاعرة، لنرى مدى انطباق التكفير السلفي عليهم.
يتفق الماتريدية مع الأشاعرة على نفي اتصاف الله تعالى بالجهة والمكان، يقول أبو منصور الماتريدي في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]ـ والتي يعتبرها السلفية ركنا من أركان التكفير ـ: (إن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة، وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن. جل عن التغير والزوال، والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم) (3)
__________
(1) اشارات المرام: ص 54.
(2) العقائد النسفية: ص 76.
(3) التوحيد: ص 69 و70..
كلكم كفرة (82)
ثم رد على أهل الحديث ـ سلف السلفية ـ القائلين بكونه تعالى على العرش، وأنه في جهة العلو، بأنه (ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأعراف: 54]، فدلك على تعظيم العرش) (1)
ثم ذكر ـ مثلما يذكر الأشاعرة عادة ـ مذهب التفويض، أي تفويض معنى الآية لله، لا تفويض الكيفية كما يقول السلفية، فقال: (وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فنفى عن نفسه، شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بأن الرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل. ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتمال غيره مما ذكرنا) (2)
وقد ذكرنا سابقا أن السلفية لم يرحموا أهل التفويض كما لم يرحموا أهل التأويل، بل إنهم يعتبرون التفويض أشد خطرا من التأويل.
وبناء على هذا ينص السلفية على كفر الماتريدية، أو كما عبر بعضهم، فقال: (المعتزلة والمريسية والكلابية والماتريدية والإباضية الخوارج والزيدية وغيرهم.. وتكفير السلف يشملهم جميعا لأن جميعهم منكرة للعلو) (3)
يتفق جميع المنزهة سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو معتزلة أو غيرهم على أن الله
__________
(1) التوحيد: ص 69 و70..
(2) التوحيد: ص 69 و74..
(3) تكفير الأشاعرة، ص 23.
كلكم كفرة (83)
تعالى منزه في كلامه عن الحرف والصوت، لارتباط ذلك كله بالحدوث والجارحة وغيرها، والله تعالى هو الغنى عن كل ذلك.
وقد ذكرنا سابقا النصوص الكثيرة الدالة على أن سلف السلفية وخلفهم يكفرون كل من يقول ذلك، وبناء عليه، سنذكر هنا ـ من باب التأكيد ـ ما يقوله الماتريدية، لنرى مدى انطباق تلك الأحكام عليهم.
يقول التفتازاني (792 هـ): (وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم - (أي المعتزلة) - يرجع إلى إثبات الكلام النفسي، ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف – ولا بعدم كونها مخلوقة - وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي) (1)
ويقول عبدالعزيز الفريهاري (كان حياً 1239 هـ) مبينا محال الاتفاق بين الماتريدية والمعتزلة في كلام الله: (وإن لم يختلف الفريقان في إثبات النفسي ونفيه فلا نزاع، فإنا إذا قلنا: القرآن غير مخلوق، أردنا النفسي. وإذا قلنا: القرآن مخلوق أردنا اللفظي. فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف. بل بحدوثه كما قالت المعتزلة. وهم لا يقولون بحدوث النفسي. بل ينكرون وجوده، ولو ثبت عندهم لقالوا بقدمه مثل ما قلنا. فصار محل البحث، هو أن النفسي ثابت أم لا؟) (2)
ويقول التفتازاني: (إن الكلام يطلق على الكلام النفسي فمعنى كونه كلام الله أنه صفته، ويطلق على اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات ومعنى إضافته إلى الله: أنه مخلوق لله ليس من تأليفات المخلوقين) (3)
وقال الفريهاري ـ في توجيه إضافة القرآن إلى الله تعالى ومعنى كونه كلام الله ـ: (أراد
__________
(1) شرح العقائد النسفية، (ص 58)
(2) النبراس، ص 223)
(3) شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص 61).
كلكم كفرة (84)
- يعني التفتازاني- أنه - أي القرآن الكريم - مخلوقٌ لله تعالى، بلا توسط كاسب من المخلوقين إما بإيجاد الصوت حتى يسمعه الملك أو الرسول، وإما بإيجاد النقوش في اللوح، وإما بخلق إدراك الحروف في قلب الملك أو الرسول وإما بخلق الحروف في لسانه بلا اختياره) (1)
بل إن أبا المعين النسفي (508 هـ) يذكر بكل صراحة بأن الله تعالى خلق صوتاً وحروفاً فأسمع جبريل كلامه بذلك الصوت والحروف فحفظه جبرائيل ونقله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. معللا ذلك بأن كلام الله قديم لا بحرف ولا صوت (2).
وقال الكوثري: (والواقع أن القرآن في اللوح المحفوظ وفي لسان جبريل عليه السلام وفي لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألسنة سائر التالين وقلوبهم وألواحهم مخلوق) (3)
يتفق الماتريدية مع الأشاعرة في اعتبار التأويل والتفويض أصلان من الأصول المنهجية التي يقوم عليها التعامل مع ما يسميه السلفية [صفات الله]، فقد ذكر الماتريدي بأن النصوص لا تحمل على ظواهرها بل يجب أن تفهم على المعنى الذي ورد في كلام العرب، حيث قال في (التأويلات): (إن الخطاب قد لا يوجب المراد والفهم على ظاهر المخرج ولكن على مخرج الحكمة والمعنى) (4)
وقال أبو المعين النسفي: (إن هذه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة المروية التي يوهم ظاهرها التشبيه وكون الباري جسما متبعضا متجزيا كانت كلها محتملة لمعان وراء الظاهر والحجج المعقولة.. غير محتملة، والعقول من أسباب المعارف وهي حجة الله تعالى،
__________
(1) (شرح العقائد النسفية)) (ص 61)
(2) بحر الكلام، ص 29.
(3) بحر الكلام، ص 29.
(4) التأويلات، 1/ل 977.
كلكم كفرة (85)
وفي حمل هذه الآيات على ظواهرها.. إثبات المناقضة بين الكتاب والدلائل المعقولة وهي كلها حجج الله تعالى ومن تناقضت حججه فهو سفيه جاهل.. والله تعالى حكيم لا يجوز عليه السفه.. فحمل تلك الدلائل السمعية على ظواهرها كان محالا ممتنعا) (1)
وقال في موضع آخر: (إن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما يحتمله من التأويل يوجب تناقضا فاحشا في كتاب الله تعالى.. فلا يجوز أن يفهم مما أضيف من الألفاظ إلى الله تعالى ما يستحيل عليه ويجب صرفه إلى ما لا يستحيل عليه أو تفويض المراد إليه والإيمان بظاهر التنزيل مع صيانة العقيدة عما يوجب شيئا من أمارات الحدث فيه) (2)
وقد ذكر التفتازاني ـ وهو من أعلام الماتريدية المعتبرين ـ القانون الذي يتعاملون به مع ما يسميه السلفية (آيات الصفات)، فقال: (.. والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظاهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله مع اعتقاد حقيتها جرياً على الطريق الأسلم.. أو تؤول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفاسير، وشروح الأحاديث، سلوكاً للطريق الأحكم - يعني طريقة المتكلمين -) (3)
وهذان المنهجان [التفويض والتأويل] كلاهما منكران عند السلفية كما ذكرنا ذلك سابقا، بل يعتبرون التفويض أشد بدعة وضلالا من التأويل.
وبناء على هذا أول الماتريدية الاستواء، الذي يعتبر السلفية تأويله تعطيلا وتجهما، قال الماتريدي: (وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال ليس كمثله شيء، فنفى عن
__________
(1) تبصرة الأدلة، 77، 78.
(2) تبصرة الأدلة، ل 110، 111،113،)
(3) شرح المقاصد، 2/ 50.
كلكم كفرة (86)
نفسه شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بـ (الرحمن على العرش استوى) على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء، لاحتماله غيره مما ذكرنا، واحتماله أيضا ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق، ونؤمن بما أراد الله به، وكذلك في كل أمر ثبت التنزيل فيه، نحو الرؤية وغير ذلك، يجب نفي الشبه عنه، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء) (1)
ومثله قال الجرجاني: (.. ولا يجوز التعويل في إثباته - أي الاستواء- على الظاهر من الآيات والأحاديث مع قيام الاحتمال المذكور، هو أن المراد به الاستيلاء) (2)، وقال: (والحق أنها ـ أي الدلائل النقلية ـ قد تفيد اليقين في الشرعيات، نعم في إفادتها في العقليات نظر.. فلا جرم كانت إفادتها في العقليات محل نظر وتأمل) (3)
وهكذا أول البزدوي الكثير مما يسميه السلفية صفات أفعال، ويكفرون من أولها، ويسمونه معطلا، فقال في مسألة تحت عنوان (أن الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء): (فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنه يوصف بالاتيان قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم، وكذلك يوصف بأن له أيديا وأعينا، قال الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71].. وهذا من أمارات الأجسام) (4)
ثم أجاب على هذا بقوله: (الصحيح من مذهب السنة ـ يقصد به قول الماتريدية ـ فلا
__________
(1) التوحيد للماتريدي: ص 74.
(2) شرح المواقف، 8/ 110 – 111.
(3) شرح المواقف، 2/ 56 - 57.
(4) اصول الدين: ص 25 ـ 28..
كلكم كفرة (87)
بد من الوصف بما وصف الله نفسه به، ولكن هذه الصفات ليست من صفات الأجسام، فإن الاتيان يذكر ويراد منه الظهور. قال الله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26].. معناه ـ والله أعلم ـ ظهرت آثار سخطه في بنيانهم، وظهرت آثار قدرته وقهره فيهم.. وكذا الاستواء ليس من صفات الأجسام فإن الاستواء هو الاستيلاء على الشيء والقهر عليه. قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] معناه ـ والله أعلم ـ تقوى حاله بتمام البنية. واستوى أمر فلان: إذا تناهى، ومنه المستوي على الكرسي وهو القاعد عليه، عبارة عن الاستيلاء. فإنه (لا) يقال: استوى على الكرسي ما لم يجلس مستقرا عليه، فالمستقر على العرش مستو، فكان معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]ـ والله أعلم ـ أى استوى عليه بعد خلقه، والله تعالى مستول على جميع العالم، إلا أنه خص العرش بالذكر لأنه أعظم الأشياء وأشرفها، ثم ذكر تفسير سائر الصفات الخبرية من اليد والعين) (1)
وهكذا ذهب الماتريدية إلى نفس ما ذهب إليه المنزهة من نفي الرؤية الحسية لله، وهو من المسائل التي كفر بها السلفية مخالفوهم.
يقول الماتريدي عند حديثه عن رؤية الله تعالى: (فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف، إذ الكيفية تكون لذي صورة، بل يرى بلا وصف قيام وقعود، واتكاء وتعلق، واتصال وانفصال، ومقابلة ومدابرة، وقصير وطويل، ونور وظلمة، وساكن ومتحرك، ومماس ومباين، وخارج وداخل، ولا معنى يأخذه الوهم، أو يقدره العقل، لتعاليه عن ذلك) (2)
وما ذكره الماتريدي هو ما نص عليه جميع من المنزهة مما يسمونه الرؤية القلبية، خلافا
__________
(1) اصول الدين: ص 25 ـ 28..
(2) التوحيد للماتريدي: ص 85..
كلكم كفرة (88)
للرؤية التي يذهب إليها السلفية، والتي عبر عن رأيهم فيها مقارنة برأي غيرهم ابن عساكر، فقال: (قالت الحشوية المشبهة: إن الله سبحانه وتعالى يرى مكيفا محدودا كسائر المرئيات، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقا بينهما فقال: يرى من غير حلول، ولا حدود، ولا تكييف، كما يرانا هو سبحانه وتعالى، وهو غير محدود، ولا مكيف) (1)
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن منكر الرؤية الحسية، فأجاب بقوله: (رؤية الله تعالى في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة. من أنكرها كفر. يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة) (2)
لا نحتاج إلى بذل جهد كبير لإثبات تكفير السلفية للمعتزلة، لأنهم يصرحون بذلك في كل حين، بل يعتبرون الاعتزال والمعتزلة مؤامرة على الدين، لتخريبه من الداخل، ويقصون في ذلك القصص الطويلة.
لكن بسبب إطلاقهم أسماء أخرى لهذه المدرسة المحترمة من مدارس الأمة وقع بعض الناس في اللبس، ذلك أنه كان يطلق عليها عند السلف الأول لقب الجهمية، لاشتراكها مع الجهمية الأصلية في مسائل كثيرة، مثل نفي الرؤية، وما يسميه السلفية الصفات، والقول بخلق القرآن، ولذلك فإن ما كتبه أوائل السلف من كتب في الرد على الجهمية، مثل الإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية) والبخاري في الرد على الجهمية، كانوا يقصدون به المعتزلة.
وقد أشار ابن تيمية إلى هذا، فقال: (لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل
__________
(1) تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص 149 ـ 150..
(2) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ابن باز ص 16.
كلكم كفرة (89)
المئة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى... وطلبوا أهل السنة للمناظرة... لم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً؛ لأن جهماً أشد تعطيلاً لنفيه الأسماء والصفات) (1)
وقال في موضع آخر، وهو يتحدث عن العلاقة بين الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ـ ويدخل معهم طبعا الماتريدية ـ: (من رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرا نافذا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء علم قطعا أنهم يلحدون فى أسمائه وآياته وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله ولهذا كانوا يقولون ان البدع مشتقة من الكفر وآيلة اليه ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة والاشعرية مخانيث المعتزلة، وكان يحيى بن عمار يقول المعتزلة الجهمية الذكور والاشعرية الجهمية الاناث ومرادهم الاشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب الابانة الذى صنفه الاشعرى فى آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة لكن مجرد الانتساب الى الاشعرى بدعة) (2)
ويقول في موضع آخر: (فالمعتزلة فى الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات وكذلك الأشعرية ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصارى الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة ومن الناس من يقول المعتزلة مخانيث الفلاسفة لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم الى هذا الأصل أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه) (3)
وقد ذكر ابن تيمية أثناء ذمه للأشاعرة أن أمر المعتزلة واضح، وأن العلماء من سلفه
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 604)
(2) مجموع الفتاوى (6/ 359)
(3) مجموع الفتاوى (8/ 227)
كلكم كفرة (90)
كفوه شأنهم، فقال: (كما يقال الأشعرية مخانيث المعتزلة والمعتزلة مخانيث الفلاسفة لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة ونفرت القلوب عنهم صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات، وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد إما في الحكم وإما في الدليل أصول الدين وأنتم شاركتموهم في ذلك وقد علمتم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام بل علم من يعرف دين الإسلام وما بعث الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله وقد بسطنا الكلام على فساد هذه الأصول في غير هذا الموضع) (1)
ويطلق عليهم السلف كذلك لقب المعطلة، مثلما يطلقونه على الأشاعرة والماتريدية وكل المنزهة، ولهذا فإن مقصد ابن القيم من كتابه [الصواعق المرسلة في الرد على الجهميه والمعطلة] هو الرد على المعتزلة بالدرجة الأولى، باعتبارها ـ حسبما يصور السلفية ـ مصدرا لكل تعطيل حصل في الصفات.
وقد أضاف المعاصرون لقبا جديدا لمن يسمونهم [المعتزلة الجدد] وهو لقب العقلانيين أو العصرانيين أو غيرها من الألقاب، والتي سنتحدث عنها، وعن موقفهم منها في هذا المبحث.
وقد قسمنا الحديث فيه إلى قسمين: موقف المتقدمين، وموقف المتأخرين.
1 ـ تكفير متقدمي السلفية للمعتزلة
يذكر السلفية بفخر واعتزاز مواقف سلفهم الأول المتشددة من المعتزلة الأول، ابتداء من الحسن البصري إلى آخر المتقدمين في العصر السلفي الذهبي.
__________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 325)
كلكم كفرة (91)
ومن تلك المواقف موقف الحسن البصري من واصل بن عطاء، حيث طرده من حلقته (1) وبذلك سمي المعتزلة ـ في نظر السلفية ـ بهذا الاسم.
وقد رووا أن الإمام أحمد كان يفتي بأنه (لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة) (2)
ورووا أن الإمام مالك سئل عن تزويج القدري، فقرأ قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221]) (3)
ورووا أن عمر بن عبدالعزيز كان يقول في القدرية: (أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا، قال أبو سهيل: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي) (4)
ورووا أن رجلا قال للإمام عبدالله بن إدريس: يا أبا محمد إن قبلنا ناساً يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: من اليهود؟ قال: لا. قال: فمن النصارى؟ قال: لا. قال: فمن المجوس؟ قال: لا. فقال: فممن؟ قال: من الموحدين، قال: كذبوا هؤلاء ليسوا بموحدين، هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق، ومن زعم أن مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة، هؤلاء زنادقة) (5)
ورووا أن معاذ بن معاذ قال: صليت خلف رجل من بني سعد ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة، أو ثلاثين سنة) (6)
ورووا عن أبي عوانة قال: (ما رأيت عمرو ابن عبيد ولا جالسته قط إلا مرة واحدة، فتكلم وطول ثم قال حين فرغ: لو نزل من السماء ملك مازادكم على هذا، فقلت: غيري
__________
(1) سير أعلام النبلاء، 5/ 464.
(2) السنة لعبدالله بن أحمد، برقم 833.
(3) ابن أبي عاصم: (198)
(4) السنة لابن أبي عاصم برقم (199)
(5) السنة، لعبدالله برقم (29.
(6) السنة، لعبدالله برقم (839)
كلكم كفرة (92)
من عاد إليك) (1)
ورووا عن عبدالوهاب بن الخفاف قال: مررت بعمرو بن عبيد وحده، فقلت: مالك؟ تركوك؟ قال: نهى الناس عني ابن عون فانتهوا (2).
ورووا عن عدي بن الفضل قال: كلمت يونس بن عبيد في عبدالوارث، فقال: رأيته على باب عمرو بن عبيد جالساً لا تذكره لي (3).
ورووا عن قريش بن أنس قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: (يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله، فيقول لي: أنت قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلته، ثم أتلو هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] فقلت – وليس في البيت أصغر مني-: أرأيت إن قال لك: أنا قلت: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فما رد علي شيئاً) (4)
ورووا عن بعضهم، قال: كنت جالسا عند يونس بن عبيد، فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله، تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك قبيل؟ قال: ابني؟ قال: نعم، فلم أبرح حتى جالسه، فقال: يا بني، ألم تعرف رأيي في عمرو بن عبيد، ثم تدخل عليه؟ قال: كان عنده فلان، قال: فجعل يعتذر، فقال يونس: أنهاك عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو، وأصحاب عمرو (5).
بل إن سلف السلفية لم يرحموا المعتزلة حتى في منامهم، فقد رووا الكثير من الرؤى التي تصفهم بالضلال والبدعة، ويستدلون بذلك على ضلالاهم وبدعتهم، باعتبار عصمة
__________
(1) ابن حبان، المجروحين، 2/ 71.
(2) ميزان الاعتدال، 3/ 274.
(3) السنة، لعبدالله برقم (983)
(4) سير أعلام النبلاء، 3/ 273.
(5) الضعفاء، 3/ 285).
كلكم كفرة (93)
أحلام سلفهم..
ومن تلك الرؤى ما رواه عاصم الأحول قال: (.. فرأيت عمرو بن عبيد في المنام يحك آية من القرآن، قلت: ما تصنع؟ قال: إني أعيدها، قال: فحكها، قلت: أعدها! فقال: لا أستطيع) (1)
ورووا أن عمرو بن عبيد، وإسماعيل المكي جاءا إلى محمد بن سيرين فسألاه عن رجل رأى كأنه نصف رأسه مجزوزة، ونصف لحيته، فقال لهما: اتقيا الله، لا تظهروا أمراً، وتسرا خلافه، قال: فقال عمرو: والله، لا نأخذ عنه في اليقظة وكيف نأخذ عنه في المنام؟) (2)
ورووا عن محمد بن إدريس الرازي قال: سمعت الأنصاري يقول: (رأيت في النوم كأنا على باب عمرو بن عبيد، ننتظر خروجه، إذ خرج علينا قرد، قالوا: هذا عمرو بن عبيد) (3)
ولم يكتف سلف السلفية بهذا، بل كتبوا الردود الكثيرة المشحونة بكل صيغ التكفير، فمن كتبهم الأولى في ذلك (رسالة الرد على القدرية) ينسبونها لعمر بن عبدالعزيز (توفي 101 هـ) (4)
ومنها رسالة في (الرد على القدرية) لإسماعيل بن حماد (توفي 212 هـ)
ومنها رسالة (في أن القرآن غير مخلوق) لأبي إسحاق الحربي (ت 285 هـ)
ومنها رسالة في (الرؤية) لأبي بكر أحمد بن إسحاق الصبغي (ت 342 هـ)
ومنها رسالة (الرؤية) لأبي أحمد العسال (ت 349 هـ) (5)
__________
(1) العقيلي، الضعفاء، 3/ 281، 282.
(2) العقيلي، الضعفاء، 3/ 281، 282.
(3) ابن حبان، المجروحين، 2/ 71.
(4) أخرجها أبو نعيم في الحلية 5/ 346 - 353.
(5) ذكرها الذهبي في السير 16/ 11.
كلكم كفرة (94)
ومنها رسالة في (الرؤية) لعلي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ)
ومنها رسالة في (الرد على القدرية) لابن أبي زيد القيرواني (ت 386 هـ)
ومنها رسالة في (رؤية الله) لابن النحاس (ت 416 هـ)
ومنها رسالة في (الرد على القدرية) لأبي المظفر السمعاني (ت 489 هـ)
ومنها رسالة (الانتصار في الرد على القدرية الأشرار) ليحيى بن سالم العمراني (ت 558 هـ)
ومنها رسالة في (رؤية الباري) للذهبي (ت 748 هـ)
وقد ذكرنا سابقا الكثير من النصوص عن السلف في تكفير من ينفي الجهة أو يؤول الصفات أو يقول بخلق القرآن، وقصدهم من ذلك كله المعتزلة، لأن الأشاعرة والماتريدية لم يظهرا بعد، أوكان ظهورهما في ذلك الحين محتشما، بحيث لم يشكلا مدارس خاصة.
ولم يكتفوا بهذا، بل أضافوا إليه استخدام السلطة السياسية في قهر المعتزلة، والتنكيل بهم، حتى لو كانوا من أعلام الأمة الأجلاء، بل حتى لو كان الاعتزال مجرد تهمة لم تثبت عنهم.
ولذلك فإن ما فعلوه بالمعتزلة، وبغيرهم ممن يوافقهم في بعض الأفكار والمواقف لا يساوي شيئا أمام تلك الفتنة البسيطة التي قام بها المأمون، والتي لم يصب فيها الإمام أحمد مكروه كبير مقارنة بالمصائب والويلات التي ألحقوها بالمعتزلة.
ونحن هنا لا نقر المأمون، ولا غيره ممن يصادرون الأفكار، ولكنا في نفس الوقت لا نقبل أن يعتبر المأمون طاغية ومستبدا وظالما وكافرا، في نفس الوقت الذي يعتبر فيه المتوكل ـ وهو الذي وقف مع السلفية ضد المعتزلة ـ عادلا وطيبا وصالحا، بل وناصرا للسنة كما يزعم السلفية.
وبما أن جرائم المأمون في حق الفكر معروفة عند الجميع، فإني أحب هنا من باب
كلكم كفرة (95)
العدالة، والشهادة لله، أن أبين ما ذكره المحققون من المؤرخين في حق المتوكل الذي يعتبرونه من خلفاء الأمة العدول، بل هناك من يعتبره من الخلفاء الاثني عشر الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد ذكر ابن الجوزي في كتاب (مناقب الإمام أحمد) أنّ المتوكِّل (في سنة 234 هـ أشخص الفقهاء والمحدِّثين، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس وأن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة، وأن يحدِّثوا في الرّؤية، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور، ووضع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً) (1)
ومن هنا بدأ التطرف الشديد للسلفية بسبب ذلك الاستعلاء والكبرياء الذي أعانتهم عليه السلطة السياسية.. ولذلك راحوا يبالغون في التجسيم، وفي التكفير، ولأبسط المسائل، ومن يطالع ما كتب في تلك الفترة يرى هذا بوضوح.
وقد ذكرنا في محل سابق أن المتوكل كان يعتبر السلفية في ذلك الحين مرجعا له يستشيرهم في كل وظيفة يريد أن يقدم عليها، فقد رووا في ذلك عن أبي علي البلخي قوله: دخلت على أحمد ابن حنبل، فجاءه رسول الخليفة يسأله عن الاستعانة بأهل الأهواء ـ ويقصدون بهم كل المخالفين لهم ـ فقال أحمد: لا يستعان بهم، فقال: يستعان باليهود والنصارى ولا يستعان بهم، فقال: إن النصارى واليهود لا يدعون إلى أديانهم، وأصحاب الأهواء داعية (2).
وروى البيهقي في [مناقب أحمد] عن محمد بن أحمد بن منصور المروذي أنه استأذن على أحمد بن حنبل، فأذن له، فجاء أربعة رسل المتوكل يسألونه فقالوا: الجهمية ـ ويقصد
__________
(1) مناقب الامام أحمد: ص 375 ـ 385.
(2) الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 256)
كلكم كفرة (96)
بهم في ذلك الحين المعتزلة ـ يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها أولى أم اليهود والنصارى؟ ففقال أحمد: (أما الجهمية فلا يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها، وأما اليهود والنصارى فلا بأس أن يستعان بهم في بعض الأمور التي لا يسلطون فيها على المسلمين حتى لا يكونوا تحت أيديهم، قد استعان بهم السلف)، قال محمد بن أحمد المروذي: أيستعان باليهود والنصارى وهما مشركان، ولا يستعان بالجهمي؟ قال: (يا بني يغتر بهم المسلمون وأولئك لا يغتر بهم المسلمون) (1)
وقد قام المتوكل بنفس المضايقات التي كان يقوم بها المأمون، والتي يبالغ فيها السلفية، ويعظمونها تعظيما كبيرا، وبعتبرونها جناية في حق الإسلام نفسه، ولكنهم في نفس الوقت يثنون على تلك الجرائم التي قام بها المتوكل، ويعتبرونه ناصرا للسنة، لسبب بسيط، وهو أنهم كانوا شركاءه في تلك الجرائم.
يقول الطبري: (وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرّعاع إلى موضع تلك الخشبة وكثروا وتكلّموا، فبلغ ذلك المتوكّل، فوجّه إليهم نصربن اللّيث، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم وحبسهم، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً... فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى (بغداد) وغسل ودفن وضمّ رأسه إلى بدنه) (2)
وهكذا انتقم السلفية لما حصل للإمام أحمد وغيره بالتنكيل بكل علماء المعتزلة، يقول الطبري: (وفي سنة 237 هـ غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد وأمر بالتّوكيل على ضياع أحمد
__________
(1) نقلا عن الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 256)
(2) تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 368.
كلكم كفرة (97)
بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة) (1)
ولم يكتفوا بذلك التنكيل الحسي، بل راحوا يملأون المساجد بالتنكيل المعنوي من التكفير واستعمال كل أساليب الولاء والبراء التي ورثوها من أسلافهم، والتي عاملوا بها قبل ذلك واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، ومن ذلك أنه روي أنه سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق، فقال: كافر. قال: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم (2).
وقد لخص الشيخ حسن بن فرحان المالكي ما فعله المتوكل من جرائم، والتي لا تزال آثارها إلى الآن، فقال: (أتى المتوكل عام 232 هـ؛ ومال مع العامة ضد الأتراك والثقافة السابقة برمتها؛ فعظم أهل الحديث - وعلى رأسهم أحمد - وأضطهد المعتزلة والشيعة؛ وتعرض المعتزلة ومن شايعهم؛ من أهل الفلسفة والمنطق وعلوم اليونان؛ لاضطهاد أيضاً؛ أحرقت كبتهم؛ ولاحقتهم السلطات؛ وكان الأثر على العامة كبيراً؛ وما زال أثر المتوكل قائماً إلى اليوم؛ في التيار السلفي والأشعري معاً؛ فقد عظم المتوكل أهل الحديث؛ وأجزل لهم العطايا؛ وتشكلت العقائد من أيامه.. العقائد والتصورات اليوم، عن الدين والعقائد والمذاهب، هي من آثار عصر المتوكل. فقد كان جاهلاً ظالماً كالمتعصم والواثق، ولكن على الضد) (3)
وقد ذكر تغاضي السلفية عن جرائم المتوكل التي تشهد بها جميع كتب التاريخ، كما هي عادتهم مع كل من يساندهم، فقال: (المتوكل لم يكن رجلاً صالحاً؛ حتى بمقياس أهل
__________
(1) تاريخ الطبري: ج 7، حوادث سنة 237، ص 367.
(2) تاريخ بغداد: 3/ 285.
(3) من مقال بعنوان [لسان حال السلطة: اعطوهم من هذا الدين حتى يشبعوا وينسوكم: المتوكل ناصر السنة] موقع الشيخ حسن بن فرحان المالكي.
كلكم كفرة (98)
الحديث؛ فقد كان غارقاً في الشهوات، مبغضاً لعلي والحسين، قاتلاً ظالماً؛ إلا أنه نصر الإمام أحمد.. أهل الحديث - وسط ما يشعرون به من انتصار سياسي - نسوا مظالم المتوكل، وسموه (ناصر السنة)؛ ونشطوا في هذه المرحلة؛ وغلوا وتطرفوا ضد الجميع.. هذه المرحلة هي التي دونت تكفير أبي حنيفة؛ وكان فيها الظلم كله؛ ونبش قبر الحسين؛ وإعلان بغض الإمام علي؛ وأهل الحديث ساكتون لأنه نصر أحمد! وكنت أقول لبعض الفضلاء من أهل الحديث؛ هل سنة المتوكل؛ في نصر الإمام أحمد؛ تغطي على بدعته في بغض علي والحسين؟ وأنتم تعترفون أنه ناصبي.. فكيف؟ بعض المحققين؛ من أهل الحديث؛ يعرفون هذا؛ وكان من عرف منهم هذا، كان السؤال محرجاً له بالمرة؛ فالسنة لا تتجزأ ولا تتمذهب؛ وأحمد لا يبلغ علياً) (1)
وقد شبه الشيخ حسن المتوكل بما يفعله داعش وخليفهم في عصرنا هذا، فقال: (المتوكل العباسي مات سنة 247 هـ؛ بعد أن قام بأفعال لا تقوم بها داعش اليوم؛ ولكن؛ العمى عند أهل الحديث؛ وشدتهم في الخصومة؛ نسوا كل جرائمه وبدعه! فأفعاله القبيحة عندي؛ في الجانب الجنائي؛ أبشع من بغضه لأهل البيت) (2)
ومن تلك الجرائم الداعشية التي قام بها المتوكل، والتي أثنى عليه السلفية بسببها واعتبروه ناصرا للسنة، (سل لسان اللغوي الكبير يعقوب بن السكيت من قفاه؛ وقطعه فمات) (3)
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) ذكرت القصة النجوم الزاهرة لابن تغري بردى (2/ 285) - عن ابن السكيت - قال له (المتوكل) يوما: أيّما أحبّ إليك: ولداى المؤيد والمعتزّ أم الحسن والحسين أولاد علىّ؟ فقال ابن السكيت: والله إنّ قنبرا خادم علىّ خير منك ومن ولديك؛ فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات من ساعته.. وقد اعترف بهذا معظم المؤرخين؛ ومنهم الحنابلة المعتدلون - كابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (3/ 204)
كلكم كفرة (99)
وقد علق عليها حسن بن فرحان بقوله: (هذه لم تعملها داعش.. هذه القصة الشنيعة؛ عندي؛ هي المؤثرة في قبح سيرة المتوكل؛ أكثر من النصب. لكن؛ أهل الحديث؛ غفر الله لهم وهداهم؛ فقراء في الجانب الحقوقي؛ إلى اليوم؛ والسبب الذي من أجله استل المتوكل لسان ابن السكيت من قفاه - حفروا للسانه من القفا وأخرجوه من هناك وقطعوه - لأنه فضل الحسن والحسين على ابنيه.. فأهل الحديث تذكروا النصب وذموه عليه - أعني علماء أهل الحديث ومنصفيهم – ولكنهم؛ لم يذموه على هذا التفنن في المثلة بإمام العربية في وقته) (1)
ومن جرائمه التي يسكت عنها السلفية ـ وهي أكبر بكثير من جريمة المأمون في حق الإمام أحمد ـ أمره بجلد المحدث الكبير نصر بن علي ألفي سوط - وهو محدث مشهور من طبقة أحمد وابن معين – وسبب ذلك أنه روى حديثاً في فضل علي؛ وظن المتوكل أنه شيعي!
قال الخطيب البغدادي: (لما حدث (نصر بن علي) بهذا الحديث، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد؛ وجعل يقول له؛ هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه!) (2)
وقد علق الخطيب البغدادي على الحادثة ـ معتذار له ـ بقوله: (إنما أمر المتوكل بضربه لأنه ظنه رافضيا، فلما علم أنه من أهل السنة تركه)
ولم يكن عصر المتوكل هو الوحيد الذي ساهم في إعلان الحرب على المعتزلة، وإنما تلت ذلك عصور كثيرة كان للسلفية كل السطوة فيها، ولذلك استعملوا كل ما ورثوه من سلفهم من أحقاد لقمع المعارضين.
ومن تلك العصور عصر القادر بالله الخليفة العباسي، الذي قام في سنة (408 هـ)
__________
(1) لسان حال السلطة: اعطوهم من هذا الدين حتى يشبعوا وينسوكم.
(2) تاريخ بغداد (15/ 389)
كلكم كفرة (100)
بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول ابن كثير: (وفي سنة (408 هـ)، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع وتبرّأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلك وأنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام) (1)
ولم يكتف بذلك، بل راح ـ باسم سلطته السياسية يقوم بما قام به قسطنطين من قبله ـ من وضع قوانين للإيمان وللدين لا نزالي نعاني آثارها إلى الآن.. قال الخطيب البغدادي: (وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر النّاس سماعه) (2)
والسلفية يثنون كثيرا على هذا الكتاب المسمى بـ (بالبيان القادري)، والممتلئ بالتجسيم والتكفير، ويعتبرونه من فتوح الله لهم.
ولم يكتفوا بذلك، بل أضافوا إليه الكثير من ألوان الأذى للمعتزلة والفلاسفة وكل العلماء الذين يخالفونهم، يقول ابن الجزري في حوادث سنة (420 هـ): (ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الريّ.. نفى المعتزلة إلى خراسان وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال
__________
(1) البداية والنهاية: ج 12 ص 6..
(2) تاريخ بغداد: ج 4، ص 37 و38..
كلكم كفرة (101)
والنّجوم وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل) (1)
ويقول ابن كثير في حوادث سنة (456 هـ) ناقلاً عن ابن الجوزي: (وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع وتدريسه للنّاس بهذا المذهب وأهانوه وجرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة) (2)
وذكر في حوادث سنة (477 هـ): (إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها) (3)
وذكر في حوادث سنة (461 هـ): (وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال) (4)
ويقول في حوادث سنة (465 هـ): (وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال) (5)
2 ـ تكفير متأخري السلفية للمعتزلة
انطلاقا من تلك المواقف التي وقفها السلف الأول، وصنفوا فيها المصنفات الكثيرة، لم يجد السلفية المتأخرون بدا من سلوك سبيل سلفهم الأول خشية على أنفسهم من أن
__________
(1) الكامل: ج 7، حوادث سنة 420..
(2) البداية والنهاية: الجزء 12، ص 91.
(3) البداية والنهاية: الجزء 12، ص 98.
(4) البداية والنهاية: الجزء 12، ص 98.
(5) البداية والنهاية: الجزء 12، ص 98.
كلكم كفرة (102)
تطالهم سيوف التكفير التي تطال كل من يشكك في كفر الجهمية إناثهم وذكورهم.
والأمثلة على ذلك التكفير أكثر من أن تحصى، ومنها قول الشيخ ابن باز في بعض فتاواه: (ومن قال: إن الله في الأرض، إن الله في كل مكان كالجهمية والمعتزلة ونحوهم فهو كافر عند أهل السنة والجماعة؛ لأنه مكذب لله ولرسوله، في إخبارهما بأن الله سبحانه في السماء فوق العرش جل وعلا، فلا بد من الإيمان بالله، فوق العرش فوق جميع الخلق، وأنه في السماء في العلو معنى السماء يعني العلو) (1)
وسئل: (ماحكم الشرع في نظركم فيمن ينفي الصفات الكلية والأسماء، أسماء الله وصفاته بالكلية ويقول هذا هو المعتقد الصحيح؟)، فأجاب: (هذا دين المعتزلة والجهمية، الجهمية ينفون أسماء الله وصفاته، والمعتزلة نفاة القدر ينفون صفات الله، ويثبتون أسماء بدون صفات يقولون: عليم بلا علم، رحيم بلا رحمة، سميع بلا سمع، وهذا باطل، والعياذ بالله، هذا كفر ردة عن الإسلام، تكذيب لله ولرسوله، الله جل وعلا أخبر عن نفسه إنه عليم وسميع وبصير، فمن نفى ذلك عن الله، وقال إنه يعلم بلا علم، لاعلم له ولا رحمة له ولا سمع له فهو كافر، مكذب لله ولرسوله، فالجهمية عند أهل السنة، والمعتزلة عند أهل السنة كفار بهذا الاعتقاد الباطل) (2)
وقد ورد في بعض أشرطته الصوتية هذا الحوار المهم، الذي يمكنه لوحده، أن يجعل من ابن باز مكفرا لكل طوائف الأمة ـ ما عدا طائفته. وسننقله كما هو، ونريد من الذين يتشبثون ببعض فتاواه الدبلوماسية أن يضموا إليها هذه الفتوى أيضا، والتي يوجد أمثالها في كتبه وفتاواه:
قال ابن باز: هذا معروف، أهل السنة يكفرون من قال بخلق القرآن، لأن معناه الله
__________
(1) فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (1/ 129)
(2) الأسئلة اليامية عن العقيدة الإسماعيلية السؤال:17.
كلكم كفرة (103)
ما يتكلم، معناه أن القرءان ليس كلام الله، معناه وصف الله بأنه لا يتكلم، ساكت.
فقال أحد الحضور: ما لهم شبهة يل شيخ؟
فقال ابن باز: كفر... لا.. نخرجه من الملة.. الله عز وجل له كلامه، وصفوه بأنه أبكم ما يتكلم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي)
قال أحد الحضور: هل يكفر المعتزلة؟
قال ابن باز: ما في شك، من قال بخلق القرآن فهو كافر.
قال أحد الحضور: أحمد بن أبي دؤاد يكفر؟
فقال بن باز: كل من قال بخلق القرآن فهو كافر.
فقال أحد الحضور: عينا يا شيخ؟
فقال الإمام بن باز: عينا إذا ثبت عليه ذلك.
فقال أحد الحضور: الذهبي في السير يا شيخ ذكر أحمد بن دؤاد قال: هذا وليس الرجل بكافر، فهو يشهد أن لا إله إلا الله، ويومن بالله.
فقال بن باز: الذهبي ليس من أهل الفقه والبصيرة، الذهبي عالم من الوسط، يعتني بمصطلح الحديث.
فقال أحد الحضور: حمل المأمون الناس على القول بذلك أليس كفرا؟
فقال الإمام بن باز: كفر، المأمون وغير المأمون (1).
ولم يكتف السلفية المتأخرون جدا بالاقتصار على مسائل الجهة والصفات وخلق
__________
(1) من شريط الدمعة البازية، وانظر مقالا بعنوان: (الدمعة البازية صورةٌ من التجرد للحق والثبات عليه)، ويمكن تحميل الحوار والمحاضرة المرتبطة به من النت، وهي منتشرة بكثرة.
كلكم كفرة (104)
القرآن ونحوها.. بل أضافوا إليها الكثير من الإضافات، ليشملوا بتكفيرهم كل من يستعمل عقله، لأنهم رأوا أن سبب المشكلة التي وقع فيها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم هي استعمالهم لعقولهم، وعدم جلوسهم مع كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهما ليأخذو دينهم.
وكنموذج لهذا التكفير الجماعي للمفكرين والباحثين أحب أن أذكر هنا كتابا ينتشر بكثرة على النت يحمل عنوان [المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد] من تأليف فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب، وهو كتاب يبحث عن نواحي الشبه بين مقولات المعتزلة الأوائل ومقولات المفكرين المحدثين أمثال الغزالي ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم.. ليطبق عليهم جميعا سنة التجريح التي سنها سلفه، لأنه لكل عصر جهميته ومعتزليته.
وقد ذكر لذلك الكثير من المآخذ والمعايير التي على أساسها يكون الحكم على المفكر المعاصر بكونه معتزليا.. وطبعا يكفي وصمه بالاعتزال عند السلفية عن رميه بالكفر.. لأن مصطلح [المعتزلة] عندهم مساو تماما ومن كل الوجوه لمصطلح [الكفرة]
وسنقتصر على المآخذ الثلاثة التالية:
المأخذ الأول تقديس العقل وتقديمه على النقل
وأول تلك المآخذ ـ كما يرى الشلهوب ـ تقديس العقل وتقديمه على النقل (1).. ومن النصوص التي ذكرها عن سلفه، والتي اعتبرها معايير للحكم على المخالفين لها، قول ابن القيم: (فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصحيح، ورمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحطت حيث حطها الله وأصحابها) (2)، وقول عبد الرحمن الوكيل: (والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل
__________
(1) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 11.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 82 - 83.
كلكم كفرة (105)
وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل) (1)
وفي مقابل هذا الفكر السلفي النير ينقل الكاتب تلك الطامات التي وقع فيها المعتزلة القدامى والمعتزلة الجدد.
أما المعتزلة القدامى، فقد نقل عن الزمخشري قوله: (امش في دينك تحت راية السلطان [ويعني بالسلطان: العقل] ولا تقنع بالراوية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه. وما العنز الجرباء تحت الشمأل-[أي: الريح الباردة]- البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل، ومن تبع في أصول الدين تقليده، فقد ضيع وراء الباب المرتج إقليده [أقليده: المفتاح]) (2)
ومثله قول النظام: (إن المكلف – قبل ورود السمع – إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال) (3)
وقد سار على منوالهم كما يذكر الشلهوب المعتزلة الجدد من رجال المدرسة العقلية الحديثة، والذي عبر الشيخ محمد عبده على لسانهم، فقال: (ورفع القرآن من شأن العقل ووضعه في مكانه بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع) (4)
فقد اعتبر الشلهوب هذا النص الواضح والذي يدل على حقيقة وظيفة العقل إدانة كبرى للشيخ محمد عبده، واعتباره بذلك من المعتزلة.. وما أدراك ما المعتزلة في العقل السلفي.
ومثله قوله: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض
__________
(1) مقدمة كتاب: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/ 21)
(2) أطواق الذهب في المواعظ والخطب، مقالة 37 ص 28.
(3) الملل والنحل (1/ 60)
(4) رسالة التوحيد، ص 25.
كلكم كفرة (106)
العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل) (1)
وقد علق الشلهوب على هذا النص بقوله: (وفي حكاية هذا الاتفاق نظر، ولعله يقصد بأهل الملة الإسلامية: المعتزلة والأشاعرة ومن سلك طريقهم. وكثير من أئمة الدين المرضيين عند الموافق والمخالف لا يقدمون عقولهم على كلام نبيهم كأمثال الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وابن عيينة، والدارمي، وغيرهم كثير يصعب حصرهم. فبطل بذا الاتفاق المزعوم) (2)
بل إن الشلهوب لم يرحم الشيخ محمد رشيد رضا مع كونه من أهل الحديث، ويثني على السلفية، بل حتى الوهابية منها، لأنه تكلم بما يدل على قيمة العقل، فقد نقل قوله: (ذكرنا في المنار غير مرة أن الذي عليه المسلمون من أهل السنة وغيرهم من الفرق المعتد بإسلامهم أن الدليل العقلي القطعي إذا جاء في ظاهر الشرع ما يخالفه فالعمل بالدليل القطعي متعين، ولنا في النقل التأويل أو التفويض وهذه المسألة مذكورة في كتب العقائد التي تدرس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في كل الأقطار كقول الجوهرة:
وكل نص أوهم التشبيها... أوله أو فوض ورم تنزيها) (3)
وقد علق عليه الشلهوب بقوله: (ما ذكره رشيد رضا ليس هو الذي عليه أهل السنة عند التحقيق، ومراده بأهل السنة هنا الأشاعرة –بلا شك- ومن لف لفهم. وقوله: (من الفرق المعتد بإسلامهم) فيه مجازفة كبيرة، فعلى كلامه فالسلف الذين يقدمون الدليل السمعي على العقلي عند التعارض، هم من الذين لا يعتد بإسلامهم، وعند النظر نجد أنه لا تعارض بين دليل سمعي صحيح وبين عقل صريح، كما قرره المحققون من أهل
__________
(1) الإسلام والنصرانية، ص 56.
(2) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 13.
(3) شببهات النصارى وحجج الإسلام: محمد رشيد رضا ص 71 - 72.
كلكم كفرة (107)
العلم) (1)
وينقل عن فهمي هويدي ـ المعتزلي الجديد ـ قوله: (.. أن الوثنية ليست عبادة الأصنام فقط، ولكن وثنية هذا الزمان صارت تتمثل في عبادة القوالب والرموز، وفي عبادة النصوص والطقوس) (2)
ثم يعقب عليه بقوله: (متى كان الاعتصام بالكتاب والسنة وتقديمهما على آراء الرجال وثنية وعبادة أصنام؟!، أ فنقدم كلام هويدي على كلام نبينا صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
المأخذ الثاني تفسير القرآن مخالفاً لتفسير السلف.
ومن المآخذ الكبرى والخطيرة التي وصم بها الشلهوب المعتزلة القدامى والجدد ما سماه [تفسير القرآن مخالفاً لتفسير السلف] (4) وكأن القرآن الكريم أنزل ومعه جميع قيود السلف، فمن لم يتقيد بها لم يفهم القرآن الكريم.
ومن النصوص التي ذكرها عن سلفه، واعتبرها معايير للحكم على المخالفين لها ما نقله عن ابن تيمية ـ إمامهم المقدس ـ من قوله: (إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح.. وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد ابن جبر، فإنه كان آية في التفسير.. فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام) (5)
__________
(1) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 13.
(2) نقلاً من العصرانيون ص 178.
(3) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 13.
(4) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 14.
(5) فتاوى ابن تيمية (13/ 363 - 370)
كلكم كفرة (108)
ثم علق على هذا بقوله: (والعقلانيون القدماء، وأصحاب المدرسة الحديثة، والعقلانيون الجدد سلكوا في تفسير القرآن خلاف منهج السلف وطريقتهم، فقدموا عقولهم واعتقدوا أولاً، ثم ذهبوا يحرفون الكلم عن مواضعه تارة، ويلوون أعناق النصوص تارة أخرى حتى توافق ما اعتقدوه بعقولهم وآرائهم) (1)
ثم استند في هذا التعليق بهذا النص المقدس من كلام ابن تيمية في المعتزلة الأوائل: (والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة) (2)
ومن النماذج التي ضربها للتفسير المعتزلي الأول، والبعيد عن منهج السلف في تصوره ما فسر به المعتزلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] إلى أن النظر يكون بذلك إلى الثواب لا إلى الله عز وجل، (أي منتظرة ثواب ربها) (3) وهو مع كونه معنى صحيح في اللغة العربية، وقال به أئمة اللغة كالزمخشري، إلا أنه لمخالفته للسلف لم يقبله السلفية.
وهكذا نقل عن ابن تيمية تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقد قال: (وحرفوا كلام الله في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقالوا: استوى: أي استولى وملك وقهر) (4)
ومن النماذج التي ضربها للمعتزلة الجدد ما فسر به الشيخ محمد عبده قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر: 10]، فقد قال: (وفرعون هو حاكم مصر الذي كان في
__________
(1) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 14.
(2) الفتاوى (13/ 358)
(3) تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 662)
(4) فتاوى ابن تيمية (5/ 143)
كلكم كفرة (109)
عهد موسى عليه السلام، وللمفسرين في الأوتاد اختلاف كبير وأظهر أقوالهم ملاءمة للحقيقة أن الأوتاد المباني العظيمة الثابتة، وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض، بل إن شكل هياكلهم العظيمة في أقسامها شكل الأوتاد المقلوبة!، يبتديء القسم عريضاً وينتهي بأدق مما ابتدأ، وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين) (1)
ومع أن هذا التفسير مجرد رأي، ولم يسقه الشيخ محمد عبده على أنه تفسير نهائي، وهو في النهاية أفضل بكثير من تلك الخرافات التي فسر بها سلف السلفية القرآن الكريم.. إلا أن السلفية لم يعجبهم هذا.. ولو أن كعب الأحبار هو الذي قال هذا لهشوا له وبشوا، ونقلوه في كل تفاسيرهم.. ولكن المشكلة أن محمد عبده لم يكن هو ولا أبوه يهوديا حتى ينال تلك المرتبة العظيمة في الوثاقة بما يقول.
وقد علق الشلهوب على ذلك الرأي الذي قاله الشيخ محمد عبده بقوله: (لا شك أن القرآن تكلم عن بعض الظواهر الكونية، فهذه نثبتها لأن القرآن أشار لها وتكلم عنها؛ لكن أن نتكلف في ربط آيات القرآن بما نشاهده في عالمنا أو بما يستجد من مخترعات، فهذا خطأ شنيع يرتكب في حق تفسير كلام الله، وكون المرء يقول المراد بالأوتاد هي الأهرامات، كأنه يقول ربنا جل في علاه يقصد هذا ويريد هذا، فالكلام في التفسير دقيقٌ جداً وخطرٌ جداً. وقد جنح لمثل ذلك بعض المفسرين من المتأخرين فأصبحوا يتكلفون في ربط القرآن بالظواهر الكونية والطبيعية والمخترعات الحديثة، وفاتهم أن المقصود الأعظم من الكتاب العزيز أنه كتاب هداية، وتشريع، لا كتاب فلك) (2)
__________
(1) تفسير جزء عم: محمد عبده ص 84.
(2) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 15.
كلكم كفرة (110)
وما دمتم تؤمنون بهذا ـ يا معشر السلفية ـ فلم تملؤون تفاسيركم بتلك الأقوال الشنيعة من كلام سلفكم.. وهي لا تتناقض فقط مع جلالة القرآن، وإنما تتناقض أيضا مع كل العقول، وكل العلوم؟
المأخذ الثالث رد الأحاديث الصحيحة والطعن في الرواة.
ومن المآخذ الكبرى والخطيرة التي وصم بها الشلهوب المعتزلة القدامى والجدد ما سماه [رد الأحاديث الصحيحة والطعن في الرواة]، ذلك أن المستند الأكبر لكل البنيان السلفي هو أولئك الرجال الذين قدموهم على كل شيء.. على العقل والنقل وكل شيء.. وأعطوهم حصانة خاصة، فلذلك يشكل نقدهم أو التعرض لهم أكبر مهدد للبنيان السلفي.. ولهذا وقفوا بشدة مع كل من تسول له نفسه استعمال العقل والمنطق في تحليل أمثال تلك الشخصيات، أو وزنها بالموازين الشرعية، لأن الموازين الشرعية خاصة بالخلف لا بالسلف.
وقد ذكر الشلهوب أنواع التحريفات التي فعلها سلفه بالحديث وألصقها كما هي بمن يسميهم المعتزلة القدامى والجدد (1)، فقال: (وقف (أهل الأهواء) العقلانيون –قديماً وحديثاً- من السنة النبوية الصحيحة موقفاً مشيناً، وذلك لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة تقتلع أصولهم من جذورها، وتفسد عليهم منهجهم الذي أصلوه وبنوا عليه طريقتهم. ولذلك سلكوا في رد الأحاديث الصحيحة التي خالفتها عقولهم المريضة طرقاً مختلفة، فأول شيءٍ يؤولون الحديث بما يوافق أهوائهم وعقولهم، فإن أعياهم تأويل الحديث ولم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لجئوا إلى رد الحديث، فإن كان غير متواتر استراحوا وقالوا: هذا خبر آحاد ظني لا نقبله مطلقاً، وهؤلاء هم المعتزلة القدماء، والمعتزلة الحديثة والمعاصرة، قصروا قبول خبر الآحاد على الأحكام دون العقائد، وليس لديهم على هذا التفريق دليل
__________
(1) كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتابي [هكذا يفكر العقل السلفي]، و[التراث السلفي تحت المجهر]
كلكم كفرة (111)
صحيح، وهم مع ذلك تراهم لا يلتزمون بهذا التأصيل الذي أصلوه في خبر الآحاد، فحتى الأحكام يردون بعض الأحاديث الظنية! فعاد الأمر إلى الهوى وتحكم العقل، ولا يعنيهم بعد ذلك أن يكون في الصحيحين أو في غيرهما من كتب الحديث، وإن كان متواتراً بحثوا في سنده، فإن كان أحد رواته قد روى شيئاً من الإسرائيليات ردوا حديثه لأنه قد يكون مأخوذاً من التوراة، أو بحثوا في سيرة رواته علّهم يجدون قشة يتعلقون بها للطعن بهم حتى يردوا الحديث. وقد تطاول العقلانيون قديماً وحديثاً على الصحابة وخصوصاً رواة الأحاديث، ونالوا من عرضهم وكذبوهم، معرضين بذلك عن تزكية الله لهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم. وهم – أي العقلانيين- سلكوا هذا السبيل لكي يسهل عليهم رد الحديث، فإذا طُعن في الراوي في أمانته وصدقه وعدله، كان ذلك مدخلاً لرد مروياته) (1)
ومن العجيب أن كل هذه الممارسات التي ذكرها مارسها سلفه الصالح، فتلاعبوا بالحديث كما شاءوا.. لكن إن تدخل أحد من العقلاء، فأول حديثا أو رده قامت عليه القيامة.
لكنهم يتصورون أن ذلك حق لهم وحدهم دون سائر الناس، أو كما نقل الشلهوب عن ابن تيمية قوله: (ومن المعلوم: أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه. فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم كما قال بعض السلف: (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل)، فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان أو اليد والسنان. وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام. والمقصود: التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله: أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة
__________
(1) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 20.
كلكم كفرة (112)
والعلوم والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث فهو - إن كان من المؤمنين بالرسل - فهو جاهل فيه شعبة قوية من شعب النفاق وإلا فهو منافق خالص من الذين {إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]، وقد يكون من {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر: 35]، ومن {الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه - وإن كان ذلك ظاهرا بالفطرة لكل سليم الفطرة - فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق وأقومهم قولا وحالا: لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق) (1)
وهذا الكلام الخطير من ابن تيمية، والذي ادعى فيه احتكار أهل الحديث للسنة النبوية، بل اعتبرهم الفرقة الناجية الوحيدة، هو نص في تكفير كل المخالفين.. وقوله (أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل) وحده كاف في بيان تكفير ابن تيمية الجماعي للأمة جميعا ما عدا سلفه.
ومن النماذج التي ساقها الشلهوب للمعتزلة القدامى موقفهم من الحديث الذي يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها) (2)
فقد قال الزمخشري تعقيبا عليه: (وما يروى من الحديث ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها فالله أعلم
__________
(1) الفتاوى (4/ 140)
(2) البخاري (4/ 199)
كلكم كفرة (113)
بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما.. واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه.. وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه) (1)
فهذا الكلام العقلاني الجميل والممتلئ بالأدب لم يعجب السلفية، بل اعتبروا صاحبه طاعنا في السنة، لأنه يقضي على ذلك الدجل والشعوذة والخرافة التي فتحوا بها عياداتهم في الرقية التي يصفونها بالشرعية.
ومن النماذج التي ساقها للمعتزلة الجدد، إنكار الشيخ محمد عبده لحديث سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله: (وعلي أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل) (2)
فمع كون الشيخ محمد عبده عرض الحديث على القرآن، فرأى مخالفته له، فأنكره، لكون القرآن الكريم أقوى ثبوتا، وأوضح دلالة.. لكن السلفية لا يعجبهم هذا.. لأنهم مستعدون لضرب القرآن الكريم.. ولو بحديث واحد يرويه من كان، وكيف كان.
ولهذا، فقد عقب عليه بقوله: (رد الأحاديث والاقتصار على القرآن موافق لما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) (3)
وهكذا ينقل عن الشيخ محمد رشيد رضا ـ متهما إياه بالاعتزال والعقلانية ـ قوله:
__________
(1) تفسير الكشاف: (1/ 385 - 386)
(2) تفسير جزء عم: محمد عبده ص 186.
(3) رواه أبو داود: 4604.
كلكم كفرة (114)
(وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز، ليست من أصول الدين ولا فروعه.. وأنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري، مهما يكن موضوعه) (1)
وينقل موقفه من كعب الأحبار مجرما له، لكونه سماه: (بركان الخرافات)، وقال فيه: (كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه، بل لا أثق بإيمانه) (2)
وعقب على هذا بغضب قائلا: (قلت: كعب الأحبار أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في كتبهم، واتهامه بتعمد الكذب يطعن في نقل أئمة الحديث عنه.. فكيف يصح لنا بعد ذلك أن نأخذ عنهم وهم يروون عن كذابين يتعمدون الكذب، لا نظن بهم ذلك إلا أن يذكروا في رواية –حاشا مسلم- تكون للاعتضاد، فهذا قد تجده) (3)
وبسبب هذا الموقف اتهم الشيخ محمد الغزالي بالعصرانية، والعقلانية والاعتزال، ونقل عنه ليثبت ذلك قوله: (إن ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التي صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لا بسها، كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وقد كنت أزجر بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح، حتى يكشفوا الوهم عن معناه، إذا كان هذا الوهم موهماً، مثل حديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) إن طوائف من البطالين والفاشلين، وقفت عند ظاهره المرفوض) (4)
هذا مجرد نموذج عن القمع الفكري الذي يمارسه السلفية على كل باحث ومفكر وعاقل، وصدق نصر حامد أبو زيد حينما سمى كتابه [التفكير في زمن التكفير]، ذلك لأن
__________
(1) مجلة المنار: مجلد (29) ص 104.
(2) تفسير المنار مجلد (27) ص 697.
(3) المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد، ص 22.
(4) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص 119.
كلكم كفرة (115)
الموازين السلفية في التكفير تدعو المؤمن إلى إلغاء عقله وتفكيره وكل قدراته التحليلية ليحافظ على الإيمان، وإلا فإنه سيقع في التجهم والاعتزال والعقلانية والعصرانية.. وكل ذلك عندهم كفر وضلال.
كلكم كفرة (116)
السلفية.. وتكفير المدارس الفقهية
قد يعتقد الكثير أن التكفير السلفي يتوقف على المدارس العقدية، باعتبارها تبحث في المسائل العقدية.. وهذه المسائل تتعلق بأصل أصول الدين، ولذلك فإن التعامل معها يحتاج إلى الشدة والحزم، لتحفظ حقائق الدين من التحريف والتأويل والتعطيل.
لكن ذلك غير صحيح.. فطوفان التكفير السلفي الذي شمل الأمة جميعا، لم يتوقف عند متكلمي المعتزلة والأشاعرة والجهمية، بل راح يغرق كل فقهاء الأمة وتلاميذهم وأتباعهم على مدار التاريخ الإسلامي، ولم يستثن من ذلك إلا ثلة محدودة، قد لا تعدو أصحاب المذاهب وتلاميذهم الأوئل، بل إن منهم من تكلم فيه السلف وكفره وكفر كل من تبعه، وكفر كل من لم يكفره.
أما أسباب تكفير هؤلاء، فكثيرة جدا، لكنا سنقتصر في هذا الفصل على نوعين كبيرين منها، لنبين انطباقهما على جميع علماء الأمة ما عدا تلك الثلة القليلة التي نجت من سيف التكفير السلفي.
أما النوع الأول، فهو التكفير بسبب الوقوع في أخطاء أو انحرافات عقدية، مثل نفي الجهة عن الله تعالى، أو القول بخلق القرآن، أو ما يسميه السلفية تعطيل الصفات.. وجماهير علماء الأمة من المذاهب الأربعة وغيرها يقولون بهذا، ومنهم الفقهاء والمحدثون والمفسرون وغيرهم.. وسنرى النماذج الكثيرة عنهم، وعن تكفير السلفية لهم.
أما النوع الثاني، فهو التكفير بسبب الوقوع في بعض الأخطاء الفقهية، والتي يوليها السلفية شأنا كبيرا، بل يعتبرونها من مسائل العقائد، بل يعتبرونها من أهم ركن فيه عندهم، وهو توحيد الألوهية، وهذه المسائل كثيرة تشمل التوسل وزيارة قبور الصالحين والتبرك بها ونحو ذلك.. والسلفية يعتبرون كل هذا شركا جليا يكفر فاعله، سواء كان عالما أو
كلكم كفرة (117)
عاميا، ويتأكد التكفير إن كان عالما.
ولهذا نرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب يطلق الفتاوى الكثيرة على كفر علماء عصره من المذاهب الأربعة، ولا يكتفي بالتكفير المطلق، بل يضم إليه التكفير العيني، فيسمي الكثير من العلماء، ويعتبرهم كفرة.
وقد سار على دربه كل مشايخ السلفية المتأخرين، اللهم إلا تلك الثلة القليلة التي تستعمل التقية، فتصرح بالتكفير المطلق، وتصرح باحترامها لتكفير سلفها للعلماء، بل تعتبرهم مجددين، وأنه لولاهم لما حفظ الدين.. لكنها وحرصا على ألا توصم بالتكفير تغيره إلى ألفاظ قريبة لا تفيد عندهم إلا التكفير من أمثال [قبوريين]، وهي قد تتظاهر بالورع فتتوقف عن تكفير الأعيان، وإن كان واقعها لا يقول بذلك، ذلك أن من كفر واحدا من الناس لسبب من الأسباب، فقد شمل بتكفيره كل من وقع في ذلك السبب، لأنه لا محاباة في أمثال هذه المسائل.
ولذلك فإننا سننطلق من تلك المواقف التكفيرية الصريحة التي قام بها السلفية متقدموهم ومتأخروهم، ونبين انطباقها على سائر علماء الأمة.
وقد كان في إمكاننا في هذا الفصل أن نقتصر على مكفر واحد، كنفي الجهة، ونذكر النماذج عن كل العلماء الذين قالوا به، وكان ذلك وحده كافيا لتكفيرهم، لكنا لم نشأ ذلك، بل آثرنا أن نذكر النواقض المختلفة، حتى إذا جادلوا في أي ناقض منها، وجدوا أمامهم غيره، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]
كلكم كفرة (118)
يضع السلفية الكثير من القوانين التي على أساسها يكون التكفير، ويسمونها [نواقض الإيمان]، ويعتبرون كل من وقع فيها، أو في أي واحد منها كافرا أو مشركا شركا جليا حتى لو صام وصلى وتحلى بكل ما يتطلب الدين من قيم.
ولهذا نرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يطلقون التكفير على سائر الأمة، لاعتقادهم أنهم وحدهم أهل التوحيد، وأن من عداهم قد وقع إما في براثن المتكلمين، فصار ينفي الجهة ويعطل الصفات، أو وقع في براثن الصوفية فصار يتوسل ويتبرك.. وكل ذلك عندهم كفر وضلالة.
بناء على هذا، سنتحدث في هذا المبحث عن أهم سببين من أسباب التكفير، يمكن تطبيقهما على الأمة جميعا، ما عدا السلفية وإن كان لا ينجو جميعهم منها.. أولهما الوقوع في النواقض العقدية، كنفي الجهة والتعطيل والقول بخلق القرآن وهي جميعا مما اهتم به سلفهم الأول، وكفروا الأمة على أساسه.. وثانيهما الوقوع فيما يسمونه الشرك الجلي نتيجة القول بالتوسل أو الاستغاثة أو التبرك ونحوها، وهي مما وضع أسسه المتأخرون كابن تيمية، وطبقها من بعده محمد بن عبد الوهاب ومدرسته، وهي جميعا مسائل عملية فقهية أعطاها السلفية بعدا عقديا لإرضاء شهوة العدوانية والتكفير التي تربوا عليها من لدن سلفهم الصالح.
1 ـ التكفير بسبب الوقوع في نواقض الإيمان العقدية
ذكرنا في الفصل السابق النواقض العقدية الكثيرة التي اختص بها السلفية دون غيرهم من الفرق والمذاهب، والتي على أساسها شمل تكفيرهم كل المدارس العقدية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة بالإضافة للصوفية والإمامية والزيدية والإباضية، فكل هؤلاء جميعا ينزهون الله عن الجهة والمكان والتركيب والأعضاء ونحوها..
وبما أن المدارس الفقهية ارتبطت بالمدارس العقدية التي كفرها السلفية، فإن التكفير
كلكم كفرة (119)
صار يشملها أيضا، فلم يستثن من ذلك إلا المتقدمون من أصحاب المذاهب الذين وقع الخلاف في بعضهم.
يقول الحافظ تاج الدين السبكي في كتابه [معيد النعم ومبيد النقم] عن علاقة أكثر المذاهب الفقهية بالمدرسة الأشعرية: (وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الإعتزال ورعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبرّأ الله المالكية فلم نر مالكيا إلا أشعري عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعرية هي ما تضمّنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة) (1)
وكل مقولات هؤلاء ترجع للتنزيه المحض الذي يسميه السلفية تجهما وتعطيلا، كما قال ابن عساكر معبرا عنهم: (فإنهم – يعني الأشاعرة – بحمد الله ليسوا معتزلة، ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات، وبما وصفه به نبيّه ‘ في صحيح الروايات وينزهونه عن سمات النقص والآفات، فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من المجسمة والمشبهة، ولقوا من يصفه بصفات المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذ يسلكون طريق التأويل، ويثبتون تنزيهه تعالى بأوضح الدليل، ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفاً من وقوع من لا يعلم في ظُلم التشبيه، فإذا أمنوا من ذلك رأوا أن السكوت أسلم، وترك الخوض في التأويل إلا عند الحاجة أحزم، وما مثالهم في ذلك إلا مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي كلّ داء من الأدواء بالدواء الموافق، فإذا تحقق غلبة البرودة على المريض داواه بالأدوية الحارّة، ويعالجه بالأدوية الباردة عند تيقنه منه بغلبة الحرارة.. وما مثال المتأوّل
__________
(1) معيد النعم ومبيد النقم، ص 75.
كلكم كفرة (120)
بالدليل الواضح إلا مثال الرجل السابح، فإنه لا يحتاج إلى السباحة ما دام في البر، فإن اتفق له في بعض الأحايين ركوب البحر، وعاين هوله عند ارتجاجه وشاهد منه تلاطم أمواجه، وعصفت به الريح حتى انكسر الفُلك، وأحاط به إن لم يستعمل السباحة الهُلك، فحينئذ يسبح بجهده طلباً للنجاة، ولا يلحقه فيها تقصير حبّاً للحياة، فكذلك الموحّد ما دام سالكاً محجّة التنزيه، آمناً في عقده من ركوب لجّة التشبيه، فهو غير محتاج إلى الخوض في التأويل لسلامة عقيدته من التشبيه والأباطيل، فأما إذا تكدّر صفاء عقده بكدورة التكييف والتمثيل، فلا بدّ من تصفية قلبه من الكدر بمصفاة التأويل، وترويق ذهنه براووق الدليل، لتسلم عقيدته من التشبيه والتعطيل) (1)
وكلا المنهجين ـ كما رأينا في الفصل السابق مرفوض لدى السلفية ـ بل يكفر القائل به، وسأسوق هنا بعض أقوال أئمتهم التي يرجعون إليها من مصدر مصادرهم المعتبرة، وهو كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، لنطبق من خلاله تكفيرات السلفية على أعلام الأمة ومدارسها المختلفة.
فمن تلك النصوص الواضحة في التكفير، والتي لا تحتاج إلى أي شغب أو جدل، ما رواه عبد الله بن أحمد عن خارجة أنه قال: (الجهمية كفار بلغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 1 - 5] وهل يكون الاستواء إلا بجلوس) (2)
وهذا النص واضج جدا في تكفير كل المدارس الفقهية، لأنها جميعا تقف من الاستواء موقف التأويل أو التفويض.. وكلها تتفق على تنزيه الله عن الجلوس والمكان
__________
(1) تبيين كذب المفتري ص/ 388.
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 105)
كلكم كفرة (121)
والحيز.
وروى عن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سألت عبد الله بن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف، ربنا عز وجل؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض) (1)
وهذا الكلام واضح في تكفير كل المدارس، لأنها جميعا تتفق على تنزيه الله عن المكان.
أما الإمام أحمد، فقد روى عنه ابنه عبد الله الكثير من النصوص التي لو طبقت على جميع المذاهب الإسلامية لحكم عليها بالكفر، ومنها قوله: (من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل وفيه أسماء الله عز وجل) (2)، وكل المذاهب الإسلامية ـ ما عدا السلفية ـ تقول بخلق القرآن كما سبق وأن ذكرنا ذلك في الفصل السابق.
وروى عبد الله عن أبيه: (من قال ذلك القول لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها: إلا أنا لا ندع إتيانها فإن صلى رجل أعاد الصلاة، يعني خلف من قال: القرآن مخلوق)، وروى عنه: (إذا كان القاضي جهميا فلا تشهد عنده) (3)
وروى عن سفيان بن عيينة ـ أحد سلفهم المعتبرين ـ قوله: (القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر) (4)، وقوله: (من قال القرآن مخلوق كان محتاجا أن يصلب على ذباب يعني جبلا) (5)
وروى عن بعضهم أنه قال: (كنت عند عبد الله بن إدريس [وهو من أئمة السلفية المعتبرين]، فسأله بعض أصحاب الحديث ممن كان معنا فقال: ما تقول في الجهمية يصلى
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 111)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 102)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 103)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 112)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 112)
كلكم كفرة (122)
خلفهم؟ قال الفضل ثم اشتغلت أكلم إنسانا بشيء فلم أفهم ما رد عليه ابن إدريس فقلت للذي سأله: ما قال لك؟ فقال: قال لي: (أمسلمون هؤلاء لا، ولا كرامة، لا يصلى خلفهم) (1)
وروى عن آخر قال: حضرت عبد الله بن إدريس فقال له رجل: يا أبا محمد، إن قبلنا ناسا يقولون: إن القرآن مخلوق، فقال: (من اليهود؟) قال: لا، قال: (فمن النصارى؟) قال: لا، قال: (فمن المجوس؟) قال: لا، قال: (فممن؟) قال: من الموحدين، قال: (كذبوا ليس هؤلاء بموحدين هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق، ومن زعم أن الله تعالى مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة هؤلاء زنادقة) (2)
وروى عن وكيع بن الجراح قوله: (أما الجهمي فإني أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته) (3)، وقوله: (من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدث ومن زعم أنه محدث فقد كفر) (4)، وقوله: (من زعم أن القرآن، مخلوق فقد زعم أنه محدث يستتاب فإن تاب وإلا ضربت رقبته) (5) وروى أنه سئل عن ذبائح الجهمية، فقال: (لا تؤكل هم مرتدون) (6)
وروى عن بعضهم قال: سألت معتمر بن سليمان، فقلت: يا أبا محمد: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ فقال: (ينبغي أن تضرب عنقه)، قال فطر: وسألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل لنا إمام يقول: القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: (صل خلف مسلم أحب إلي) وسألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية: إمام لقوم يقول: القرآن مخلوق
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 113)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 113)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 114)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 115)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 115)
(6) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 117)
كلكم كفرة (123)
أصلي خلفه؟ قال: (لا ولا كرامة) (1)
وروى عن عبد الرحمن بن مهدي قوله: (من زعم أن الله تعالى لم يكلم موسى صلوات الله عليه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه) (2)، وقوله: (لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال: إنه مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء) (3)، وقوله: (الجهمية يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم) (4)
وهكذا روى عن يزيد بن هارون قوله ـ وقد ذكرت الجهمية عنده ـ: (هم والله زنادقة عليهم لعنة الله) (5)، وقوله: (والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من قال: القرآن مخلوق فهو زنديق) (6)، وقوله: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي) (7)
بل إن عبد الله بن أحمد يروي عن أبيه وغيره شمولية هذه الأحكام حتى لمن يقول بأن القرآن كلام الله، ولكن التلاوة والألفاظ مخلوقة، وهو قول أكثر الأمة بناء على تبعيتها للمدرسة الأشعرية، فقد روى عنه أنه سأله: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: (هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 118)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 119)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 120)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 121)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 121)
(6) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 122)
(7) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 123)
كلكم كفرة (124)
بمخلوق) (1)
وروى عنه قوله: (من قال شيء من الله عز وجل مخلوق علمه أو كلامه فهو زنديق كافر لا يصلى عليه، ولا يصلى خلفه ويجعل ماله كمال المرتد ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت المال)
وقال: سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: (هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم)، وسألته عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: قال الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]) (2)
بل إن هذه الأحكام المتشددة الممتلئة بالعنف لم تشمل المتكلمين في تلك العقائد فقط، بل شملت أيضا أولئك البسطاء الورعين الذين توقفوا أو فوضوا أو اعتبروا البحث في أمثال هذه المسائل نوعا من الترف الذي لم نطالب به، وقد روى عبد الله بن أحمد في هذا عن أبيه قال: (من كان من أصحاب الحديث أو من أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول: القرآن ليس بمخلوق فهو جهمي) (3)
وقال: سمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية، والواقفة فقال: (من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي، وقال مرة أخرى هم شر من الجهمية) (4)
وروى أنه ذكر ليحيى بن أيوب الشكاك الذين يقولون لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق فقال: كنت قلت لأبي شداد صديق لي: (من قال هذا فهو جهمي صغير)، قال
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 163)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 164)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 151)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 179)
كلكم كفرة (125)
يحيى: (وهو اليوم جهمي كبير) (1)
هذه أمثلة عن بعض أعلام السلف، ومواقفهم من بعض الفروع التنزيهية البسيطة التي أصبح القول بها بديهيا عند جميع المدارس الإسلامية.
ولو أن السلفية تابوا من هذه المقولات، وخطأوا سلفهم فيها، وتراجعوا عنها، وذكروا أن الخلاف فيها وفي أمثالها فرعي، لما وصمناهم بالتكفير.. ولكنهم لا يزالون يصرون عليها، بل يذكرونها كل حين، ويؤيدونها، ويطبعون الكتب التي تنشر مثل هذا الفكر التكفيري الخطير، فكيف لا نعتبرهم مكفرة بعد هذا كله؟
بل إنهم يعتبرون مجرد النقد لمثل هذه الطروحات الإرهابية الخطيرة الممتلئة بالعنف والعدوانية طعنا في السلف والأئمة.. ومن طعن في السلف والأئمة طعن في الدين نفسه.
بناء على هذا، سنذكر نموذجين هنا للتكفير السلفي لإمامين كبيرين من أئمة الدين، هما أبو حنيفة وابن حجر.. وسنذكر التطبيقات المفصلة على أعيان المذاهب في المبحث الثاني الخاص بالتكفير المعين.
النموذج الأول الموقف من أبي حنيفة
بناء على تلك الأقوال السابقة التي اعتبرها السلفية معايير في الحكم على الأمة وأعلامها الكبار، نحب أن نذكر هنا نموذجا بسيطا للموقف الذي اتخذه سلف السلفية من أبي حنيفة (المتوفى: 150 هـ) صاحب المذهب المعروف، والمنتشر في كثير من بلاد العالم الإسلامي في القديم والحديث.
وسنعتمد في ذلك على المرجع السابق، باعتباره يمثل وجهة نظر كبار أعلام السلف الأوائل من أحمد بن حنبل وغيره من أصحابه وممن سبقه أو لحقه، وقد عنون عبد الله بن أحمد لهذا التكفير والتطاول على أبي حنيفة بهذا العنوان [ما حفظت عن أبي وغيره من
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 179)
كلكم كفرة (126)
المشايخ في أبي حنيفة]
ومن تلك الروايات التي أوردها ما رواه عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال: إي والله (1).
وروى عن سعيد بن سلم، قال سألت أبا يوسف وهو بجرجان عن أبي حنيفة، فقال: (وما تصنع به مات جهميا) (2)، وقال: قلت لأبي يوسف أكان أبو حنيفة يقول بقول جهم؟ فقال: (نعم) (3)
وروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، يقول: (هو دينه ودين آبائه يعني القرآن مخلوق) (4)
وروى عن أبي يوسف، قال: (أول من قال: القرآن مخلوق أبو حنيفة) (5)
وروى عن حازم الطفاوي قال: وكان من أصحاب الحديث: (أبو حنيفة إنما كان يعمل بكتب جهم تأتيه من خراسان) (6)
وروى عن عمر بن حماد بن أبي حنيفة، قال: أخبرني أبي حماد بن أبي حنيفة، قال: أرسل ابن أبي ليلى إلى أبي فقال له: تب مما تقول في القرآن أنه مخلوق وإلا أقدمت عليك بما تكره، قال: فتابعه قلت: يا أبه كيف فعلت ذا؟ قال: (يا بني خفت أن يقدم علي فأعطيت تقية) (7)
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 180)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 181)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 181)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 182)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 183)
(6) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 183)
(7) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 183)
كلكم كفرة (127)
وروى عن سفيان الثوري قوله: قال لي حماد بن أبي سليمان: (اذهب إلى الكافر يعني أبا حنيفة فقل له: إن كنت تقول: إن القرآن مخلوق فلا تقربنا) (1)
وروى عن سفيان الثوري، قال: سمعت حمادا، يقول: (ألا تعجب من أبي حنيفة يقول: القرآن مخلوق، قل: له يا كافر يا زنديق) (2)
وروى عن عبدة بن عبد الرحيم، قال دخلنا على عبد العزيز بن أبي رزمة نعوده أنا وأحمد بن شبويه وعلي بن يونس فقال لي عبد العزيز: يا أبا سعيد، عندي سر كنت أطويه عنكم فأخبركم، وأخرج بيده عن فراشه فقال سمعت ابن المبارك يقول: سمعت الأوزاعي يقول: (احتملنا عن أبي حنيفة كذا وعقد بأصبعه، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثانية، واحتملنا عنه كذا وعقد بأصبعه الثالثة العيوب حتى جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما جاء السيف على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم نقدر أن نحتمله) (3)
وروى عن الأوزاعي، أنه ذكر أبا حنيفة فقال لا أعلمه إلا قال ينقض عرى الإسلام (4)
وروى عنه أيضا قوله: (أبو حنيفة ضيع الأصول وأقبل على القياس) (5)، وقوله: (ما ولد في الإسلام مولد أشر من أبي حنيفة وأبي مسلم وما أحب أنه وقع في نفسي أني خير من أحد منهما وأن لي الدنيا وما فيها) (6)، وقوله: (لو كان هذا الخطأ في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأوسعهم
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 184)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 184)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 185)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 186)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 186)
(6) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 187)
كلكم كفرة (128)
خطأ، ثم قال: ما ولد في الإسلام مولد أشأم عليهم من أبي حنيفة) (1)
وروى عن سلام بن أبي مطيع قوله: (كنت مع أيوب السختياني في المسجد الحرام فرآه أبو حنيفة فأقبل نحوه، فلما رآه أيوب قال لأصحابه: قوموا لا يعدنا بجربه، قوموا لا يعدنا بجربه) (2)
وروى عن أيوب قوله: (لقد ترك أبو حنيفة هذا الدين وهو أرق من ثوب سابري) (3)
وروى عن ابن عون قوله: (ما ولد في الإسلام مولود أشأم على أهل الإسلام من أبي حنيفة) (4)
وروى عن معرف قال: دخل أبو حنيفة على الأعمش يعوده فقال: يا أبا محمد لولا أن يثقل، عليك مجيئي لعدتك في كل يوم، فقال الأعمش: من هذا؟ قالوا: أبو حنيفة، فقال: (يا ابن النعمان أنت والله ثقيل في منزلك فكيف إذا جئتني) (5)
وروى عن سفيان بن سعيد قوله: (ما ابن يحطب بسيفه أقطع لعرى الإسلام من هذا برأيه يعني أبا حنيفة) (6)
وروى عن مالك أنه ذكر أبا حنيفة فذكره بكلام سوء وقال: (كاد الدين، وقال: من كاد الدين فليس من الدين) (7)، وقوله: (أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟) قلت: نعم، قال: (ما
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 187)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 188)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 189)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 189)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 190)
(6) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 198)
(7) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 199)
كلكم كفرة (129)
ينبغي لبلدكم أن يسكن) (1)، وقوله: (أبو حنيفة من الداء العضال.. أبو حنيفة ينقض السنن) (2)، وقوله: (ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة) (3)
وروى عن شريك بن عبد الله قوله: (لأن يكون في كل ربع من أرباع الكوفة خمار يبيع الخمر خير من أن يكون فيه من يقول بقول أبي حنيفة) (4)، وقوله: (أصحاب أبي حنيفة أشد على المسلمين من عدتهم من لصوص تاجر قمي) (5)
وروى عن أسود بن سالم قوله: (إذا جاء الأثر ألقينا رأي أبي حنيفة وأصحابه في الحش)، ثم قال لي أسود: (عليك بالأثر فالزمه أدركت أهل العلم يكرهون رأي أبي حنيفة ويعيبونه) (6)
وروى عن محمد بن جابر قوله: سمعت أبا حنيفة، يقول: (أخطأ عمر بن الخطاب، فأخذت كفا من حصى فضربت به وجهه) (7)
هذه مجرد نماذج عن مواقف سلف السلفية الأوائل من أبي حنيفة، وأحقادهم عليه، وهي تبين لنا بعض أسرار تلك العدوانية الموجودة في السلفية، وكيف لا يكونون كذلك، وهم يقدسون رجالا هذا شأنهم، وهذا أدبهم، وهذا تعاملهم مع قرين من أقرانهم، وزميل من زملائهم في العلم.
والسلفية الذين يمارسون التقية يغضون الطرف عن أمثال هذه النصوص،
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 199)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 199)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 200)
(4) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 203)
(5) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 203)
(6) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 224)
(7) السنة لعبد الله بن أحمد، (1/ 224)
كلكم كفرة (130)
ويكتمونها، ولا يتجرؤون أبدا على الإنكار عليها، لأنهم لو فعلوا فسيعتبرون من الطاعنين في أهل الحديث.. ولا يطعن فيهم إلا زنديق.
وقد ذكرنا هذا النموذج لنطبقه بعد ذلك على جميع أعلام الأمة من أصحاب المدارس المختلفة الذين يتفقون مع أبي حنيفة في كل ما طرحه من آراء ابتداء من القول بخلق القرآن.
النموذج الثاني الموقف من ابن حجر
وهو من النماذج التي أوقعت السلفيين في حيرة كبيرة، بل جعلتهم يكفر بعضهم بعضا بسببه، لأن ابن حجر يقول بما تقوله الأشاعرة، بل الجهمية، فيؤول كل ما اعتبروا تأويله، ولا يثبت الجهة لله، ولا يثبت المكان، ويعطل كل الصفات التي يتعلق بها السلفية في تكفير الجهمية والمدارس الكلامية.
وهو فوق ذلك من العلماء الذين لا يعذرون بجهلهم، بل هو مطلع على ما كتبه ابن تيمية، بل هو فوق ذلك يتعرض له، وينتقده بشدة..
ولكنه مع ذلك علم من الأعلام الذين لا يستطيعون الاستغناء عنهم، فهم يلجؤون إلى تحقيقاته كل حين، ويستفيدون منها، ويستدلون بها على خصومهم، وتكفيرهم له يشكل حرجا كبيرا بالنسبة لهم، وفرصة سانحة لأعدائهم.
لذلك وقفوا كله وقفوا منه موقفين متناقضين:
الموقف الأول الموقف السلفي الصريح
وهو يعتمد على ما ذكره السلف الأول، ومن بعدهم من ابن تيمية وغيره.. بل ما ذكره شيخهم ومجددهم الكبير في هذا العصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه.
وهو يستند إلى النصوص التي ذكرها ابن حجر في كتبه، وخاصة [فتح الباري]، ويرى أنه يطبق عليها كل ما طبقه سلف السلفية الأوائل على الجهمية والمدارس الكلامية.
كلكم كفرة (131)
ومن أمثلة هذا الموقف ما ذكره الشيخ إبراهيم بن رجا الشمري في كتابه [من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف] الذي ينتقد فيه بشدة المنهج السلفي الخفي، أو التمييعي كما يسميه، ومن تلك الانتقادات الموقف من ابن حجر، والكيل معه بمكاييل مختلفة عن المكاييل التي يكيلون بها لسائر الناس.
وقد قال في ذلك ـ بعد أن أورد نصوصا للسلف في تكفير منكر العلو ـ: (فقارن –يا طالب الحق- بين أقوال أهل العلم في منكري العلو وبين صنيع ابن باز لما علق على قول ابن حجر في فتحه: (فيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته) فقال: ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب على عرشه بذاته.. وكذلك لما وقف ابن باز على قول ابن حجر (لا يتوجه عليه –سبحانه- في وجوده أين وحيث) علق قائلا: (الصواب عند أهل السنة وصف لله بأنه في جهة العلو)، ولما بلغه تأويل ابن حجر لصفة اليد قال في مجموعه: (اطلعت على ما ذكرتم في الرسالة المرفقة من جهة كلام الحافظ ابن حجر على قول عبد الله بن مسعود؛ والذي نفسي بيده.. إلخ؛ وأن المراد باليد القدرة وفهمته. ولا شك أنه كلام ناقص مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. والصواب: أن ما ورد في هذا من الأحاديث والآثار يراد به إثبات اليد والقدرة جميعا..)، ولا يخفى على ابن باز أيضا أن تأويل صفة اليد ونحوها من الصفات أنه من مسالك أهل البدع والزيغ فقد قال كما في مجموعه: (لا يجوز تأويل الصفات، ولا صرفها عن ظاهرها اللائق بالله، ولا تفويضها، بل هذا كله من اعتقاد أهل البدع..)، وقال أيضا: (إنما المؤولون هم الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة في بعض الصفات، وأما أهل السنة والجماعة المعروفون بعقيدتهم النقية فإنهم لا يؤولون..)، وكذلك لما وقف على قول ابن حجر (لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب)، قال: (ليس الأمر كذلك بل إطلاق الصوت على كلام الله سبحانه قد ثبت..)، والحق أن من لم يثبت الصوت للباري فهو جهمي، كما قال عبد الرحمن بن حسن: قال الخلال: وحدثنا أبو
كلكم كفرة (132)
بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: (من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت، فهو جهمي، عدو لله، وعدو للإسلام) فتبسم أبو عبد الله، وقال: (ما أحسن ما قال! عافاه الله) (1)
وهكذا أخذ ينكر عليه، ويدله على ما كتبه في كتبه أو كتبه سلفه في تكفير من وقع في نفس ما وقع فيه ابن حجر، ويدعوه إلى رعاية العدل، وعدم الشفقة على أهل البدع، قال: (ولا يخفى على ابن باز أيضا حكم من لم يثبت الصوت للباري وقال بالكلام النفسي، فقد أحال في رسالته (العقيدة الصحيحة وما يضادها) إلى السنة لللالكائي، وقد تقدم قول اللالكائي –رحمه الله تعالى- فيمن قال بالحكاية، وابن باز قد اطلع أيضا على شرح ابن حجر الذي قال فيه: (قوله {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى)، وقد قال عبد الرحمن بن حسن عمن ينكر حقيقة الاستواء: (قوله: (فليس فوقك شيء) نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات؛ وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل..) (2)
وقال: (وابن باز لا يخفى عليه حكم السلف في المفوضة، فقد قال في مجموعه: المفوضة قال أحمد فيهم: إنهم شر من الجهمية، والتفويض أن يقول القائل: الله أعلم بمعناها فقط وهذا لا يجوز؛ لأن معانيها معلومة عند العلماء. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول) (3)
__________
(1) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 30.
(2) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 31.
(3) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 31.
كلكم كفرة (133)
وقال: (ثم إن ابن باز لا يخفى عليه أن أهل السنة مجمعون على البراءة والتحذير من المؤولة، فقد قال في مجموعه: أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة، ومن سار في ركابهم، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة والجماعة، وتبرؤوا منه، وحذروا من أهله) (1)
وقال ملخصا تناقضات ابن باز في تعامله مع ابن حجر: (والمقصود أنه مع علم ابن باز: بنفي ابن حجر العسقلاني لعلو الباري سبحانه.. وتأويله لصفة اليد.. وتوقفه عن إثبات الصوت.. واطلاعه على قول ابن حجر بالتفويض.. ومعرفته بانتصار ابن حجر لقول أهل الإرجاء في الإيمان.. ومعرفته ببدع ابن حجر القبورية كقوله بالتبرك فقد رد عليه ذلك في تعقباته.. ومعرفته لميل ابن حجر لتحريف صفة المحبة والنزول فقد رد عليه ذلك أيضا في تعقباته.. ومعرفته تحريف ابن حجر لصفة الحياء فقد رد عليه ذلك في تعقباته.. مع هذا كله فقد قال هو ومن معه من أعضاء اللجنة: (موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج بن الجوزي وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناها: أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخير وأنهم أخطؤوا فيما تأولوه من نصوص الصفات وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة رحمهم الله تعالى سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك وبالله التوفيق)، فانظر –عافاك الله من البلاء- إلى قولهم عن نفاة العلو للعلي القهار: (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة)، واستحضر معه قول ابن سحمان في كشف الشبهتين: (فهذا التلطف والشفقة والرحمة لا يجوز أن يعامل بها من
__________
(1) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 32.
كلكم كفرة (134)
ينكر علو الله على خلقه، ويعطل أسماءه وصفاته، بل يعامل بالغلظة والشدة والمعاداة الظاهرة)، وبإسناده عن بعض السلف قال: (من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام).. أما الجهمية.. فالرفق بهم، والشفقة عليهم، والإحسان، والتلطف، والصبر، والرحمة، والتبشير لهم، مما ينافي الإيمان، ويوقع في سخط الرحمن، لأن الحجة بلغتهم منذ أزمان.. أما جحد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه بذاته المقدسة على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه مباين لمخلوقاته، وكذلك نفي صفات كماله، ونعوت جلاله فهذا لا يشك مسلم في كفر من نفى ذلك، لأنه من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، ومما فطر الله عليه جميع خلقه إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته) (1)
وهكذا أخذ يذكره بأقوال سلفه من العلماء المحافظين من أمثال حمود التويجري الذي قال في (ذيل الصواعق): (لا ينبغي تسمية أعداء الله باسم العلماء لأن هذه التسمية لا تليق بهم ولا تطابق حالهم.. ومن المعلوم أن اسم العالم والعلماء من أعلى صفات المدح والتعظيم، وعلى هذا فلا ينبغي مدح أعداء الله ولا تسميتهم بأسماء المدح والتعظيم؛ لأن ذلك مما يغضب الرب تبارك وتعالى ويهتز له العرش) (2)
بل إنه أخذ يذكره بأقواله التي يكفر فيها من وقع في نفس ما وقع فيه ابن حجر، فقال: (واعلم يا من تريد معرفة الحق أن ابن باز لا يخفى عليه أن نفي العلو كفر وردة، فقد قال في شرحه للحموية: (من أنكر أن الله في السماء أو أن الله فوق العرش فقد كفر.. هذا إجماع أهل السنة والجماعة).. وقال في شرحه لكشف الشبهات: (الحاصل أن الإنسان إذا أتى بكفر قولي أو فعلي أو قلبي من شك ونحوه كفر حتى لو قال أنا أشهد أن لا إله إلا الله لكن عندي شك هل الجنة حق.. أو شك في أن الله في السماء أو فوق العرش أو ما هو فوق
__________
(1) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 33.
(2) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 34.
كلكم كفرة (135)
العرش يكفر لأنه مكذب لله ولرسوله)، وقال أيضا في فتوى صوتية له لما سئل عن: حكم من خدم السنة وشرح كتب السنة، لكنه أنكر صفة من صفات الله كالعلو؟ فقال ابن باز: هذا مكذب بالقرآن! من يقل إن الله في كل مكان فهو يكذب بالقرآن، الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] هذا مكذب بالقرآن. ثم سئل: هل يكفر بعينه؟ فقال: ما فيه شك! بعينه) (1)
وهكذا أخذ يذكره بما يقتضيه الولاء والبراء من مواقف، فقال: (وابن باز لا يخفى عليه أن الرجل لا يصير سنيا حتى يعتقد السنة ويتبرأ ممن خالفها من الفرق، فقد قال كما في فتوى له ولمن معه في اللجنة: (من كان يدعو إلى كتاب الله تعالى وإلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث ويعمل بذلك في نفسه، وينكر ما خالف ذلك ويجتهد في إزالة ما أحدث من البدع، ويتعاون مع أهل السنة ويواليهم ويعادي أهل البدع وينكر عليهم ما ابتدعوه في الإسلام على بينة وبصيرة - فهو من أهل السنة والجماعة)، ومع هذا كله فابن حجر عنده وعند أصحابه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم فرحمهم الله رحمة واسعة) (2)
ثم ختم حديثه في الرد على موقف ابن باز من ابن حجر بقوله: (ومن نظر إلى الفتوى السابقة بعين الإنصاف مع علمه بما كان عليه السلف الصالح عرف مباينة القوم لطريقة الأولين وسلوكهم لمنهج محدث جديد في الحكم على أصحاب البدع الكبرى المخالفين بين السلف والخلف) (3)
الموقف الثاني الموقف السلفي الخفي
__________
(1) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 35.
(2) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 36.
(3) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 37.
كلكم كفرة (136)
وهو ـ كما رأينا في الموقف السابق ـ موقف متناقض مع نفسه، ومع ما يصرح به في كتبه، بل مع نسبته السلفية نفسها، ذلك أنه بينما يصرح ـ مثلما رأينا من ابن باز ـ بالكفر العيني لكل من ينكر الجهة، أو يؤول الاستواء، أو يؤول ما يسميه الصفات ويعطلها، ومع ذلك، ومع كون ابن حجر فعل ذلك مثله مثل أكثر شراح الحديث إلا أنهم لم يستطيعوا أن يصرحوا بتكفيره، خشية من أن يتهموا بأنهم يرجعون إلى كفرة لا يؤمنون بإسلامهم، وخشية على سمعتهم من أن تدنس بتهمة التكفير.
وهذا عجيب جدا، ويدل على المكاييل المزدوجة للعقل السلفي، وإلا فكيف يمكن أن نصف قانونا من القوانين بالعدالة، وهو يضع العقوبات لجرائم واحدة، ثم يطبقها على قوم، ويستثني منها قوما، بل يكرمهم، ويثني عليهم، ولا يجيز الحديث فيهم.
إن هذا يصدق عليه بجدارة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) (1)
ولذلك فإن هذا النوع من السلفيين مطالب بأحد أمرين:
أولهما، وهو الأحسن والمستحب، بل الواجب، وهو إزالة تلك القوانين التي على أساسها كفروا الأمة، والتراجع عنها، وتخطئة سلفهم، وأولهم ابن تيمية، في اعتمادها، ليصبحوا كسائر المسلمين، لهم أن يعتقدو ما يشاءون، ويتركون الحرية لغيرهم ليعتقد ما يشاء.
والثاني، أن يضموا ابن حجر والنووي وغيرهما إلى سائر من كفروهم من الجهمية والمعطلة، لأن سنة الله تعالى في عباده واحدة، ولا يصح أن يطبقوها على قوم ويتركوا غيرهم، خاصة وأنهم يذكرون أنهم يعتقدون بالولاء والبراء، وأن من لم يكفر الكافر كافر.
خاصة وأن ابن حجر لا يكتفي بتلك العقائد التي يسمونها عقائد الجهمية، بل يضم
__________
(1) رواه البخاري (3733)
كلكم كفرة (137)
إليها موقفا سلبيا متشددا من ابن تيمية، ومن بعض أهل الحديث الذين يقدسونهم، فقد قال في ابن تيمية: (ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العُجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عُمر فخطّأه في شيء، فبلغ ذلك الشيخ إبراهيم الرقى فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق عليّ أخطأ في سبعة عشر شيئاً.. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه.. وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة.. فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا يبغضك إلا منافق).. ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أر هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيداً قال وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أمور عظيمة..) (1)
كما أنه يمكن اعتباره ـ بحسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه ـ قبوريا، فقد ردّ بشدة على ابن تيمية في مسألة زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه (الإنارة بطرق حديث الزيارة)، وانتصر للقبور التي يعتبرها السلفية أوثانا.
__________
(1) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/ 179)
كلكم كفرة (138)
بالإضافة إلى ذلك انهيار عقيدة الولاء والبراء عنده ـ بحسب المنهج السلفي ـ ففي الوقت الذي يؤنب فيه ابن تيمية ويقرعه ويكتب عليه نرى فيه ميولا إلى الشخصيات الشيعية التي واجهها ابن تيمية، وهي شخصية ابن مطهر الحلي، فقد قال في [لسان الميزان] عن ابن تيمية: (وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد –في ردّه– كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره. والإنسان عامد للنسيان. وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي، أدّته أحياناً إلى تنقيص علي) (1)
ويقول في ترجمة ابن مطهر مثنيا عليه: (الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم. وكان آية في الذكاء شرح مختصر بن الحاجب شرحاَ جيّداً سهل المآخذ، غايةً في الإيضاح. واشتهرت تصانيفه في حياته. وهو الذي رد عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه المعروف بالرد على الرافضي [مع أن اسم الكتاب هو منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، ومع ذلك لم يسمه بهذا الاسم تنقيصا له]، وكان ابن المطهر، مشتهر الذكر وحسن الأخلاق، ولما بلغه بعض كتاب ابن تيمية قال: (لو كان يفهم ما أقول، أجبته) (2)
لكن هذا النوع من السلفية مع ذلك لم يسكت عليه، بل كتب الكتب في بيان مخالفاته للعقيدة التي يعتقدونها، وردوا عليها ردودا هادئة جدا، مع كونهم تعاملوا مع من هو دونها بشدة وعنف.
ومن تلك الكتب التي لقيت قبولا كبيرا، ونحاول أن نعرض هنا بعض مواقفها
__________
(1) لسان الميزان (6/ 319)
(2) لسان الميزان (2/ 317)
كلكم كفرة (139)
ليكون نموذجا لغيرها كتاب [التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري] من تأليف علي بن عبد العزيز بن علي الشبل، وقد قرظه مشايخ السلفية الكبار من أمثال عبد العزيز بن باز وصالح الفوزان وعبد الله بن عقيل وعبد الله بن منيع، وغيرهم، وهو في أصله إكمال لما بدأه الشيخ عبد العزيز بن باز على فتح الباري بإشارته ومتابعته ومراجعته وقراءته.
ونحب قبل أن نورد ما أورده صاحب الكتاب من تعليقات على ابن حجر، ومواقفه منه، أن نستعرض ما ذكره بعض المشايخ المقرظين حول قيمة ابن حجر عندهم، وهي ما جعلتهم يحسبون ألف حساب للحكم بتكفيره كما حكموا على أمثاله، فقد قال الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان في تقريظه للكتاب: (.. إن من أصح الكتب المصنفة في الإسلام وأجمعها وأحسنها تبويباً واستنتاجاً كتاب الإمام البخاري، وقد عرف بشدة تمسكه بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وترسمه طريقة الصحابة وأتباعهم، فلم يضع في كتابه ما يخالف نهجهم. وقد اعتنى العلماء بشرح كتابه وتقريبه وبيان ما اشتمل عليه من العلم والفوائد، وأعظم شروحه وأكثرها فوائد شرح الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمه الله، وهذا معلوم لدى أهل العلم، غير أنه أدخل فيه من مسائل المتكلمين وتأويلاتهم لصفات رب العالمين ما شان كتابه) (1)
وهكذا أصبحت تلك التأويلات والتعطيلات التي أقام عليها السلفية الدنيا ولم يقعدوها هينة لينة سهلة يترحم على صاحبها للمصلحة المرتبطة به في نفس الوقت الذي تقام المحاكم من أجل مخالفات مثلها أو أقل منها.. وهذا من تناقض العقل السلفي ومزاجيته التي تجلت في كل مواقفه ابتداء من التصحيح المزاجي للأحاديث وتضعيفها، وانتهاء بالحكم بالإيمان أو الكفر على من شاء ومتى شاء وكيف شاء.
ومن الأمثلة على تلك النصوص التي قالها ابن حجر، ولم يكفر بها، مع تكفيرهم
__________
(1) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 11.
كلكم كفرة (140)
لغيره فيها مواقفه من الاستواء، كقوله في [هدي الساري]، (قوله (استوى على العرش) هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى، ووقع تفسيره في الأصل) (1)
وقد علق عليه الشبل بقوله: (هذا ليس صحيحاً؛ إذ نصوص الصفات ومنها آيات الاستواء من النصوص المحكمة المعلومة المعنى والمعقولة المراد، وإنما يُفوض إلى الله تعالى كيفياتها وحقائقها التي هي عليه، كما هو مذهب سلف الأمة.. هذا وليس المتشابه من القرآن ما لا يعلم معناه إلا الله، كما يقوله أهل التفويض من النفاة، وجرى عليه الحافظ ابن حجر هنا) (2)
وقال ابن حجر فيما يسمونه صفة اليد، والتي اعتبروا معطلها جهميا: (وقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات. وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به؛ فمنهم من وقف ولم يتأول، ومنهم من حمل كل لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك) (3)
وقد علق عليه الشبل بقوله: (الواجب إثبات اليدين حقيقة على الوجه اللائق بالله عز وجل حقيقة من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، أما التوقف عن الإثبات والتأويل بالتفويض، أو الجنوح للتأويل فمسلكا المؤولة والمفوضة من الأشاعرة والماتريدية في باب الصفات، وأهل السنة والجماعة منه براء) (4)
__________
(1) هدي الساري، 143.
(2) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 12.
(3) هدي الساري، 219.
(4) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 12.
كلكم كفرة (141)
وقال تعليقا على ما قال ابن حجر: (والمراد باليد هنا القدرة) (1): (هذا تأويل غير صحيح؛ بل اليد ثابتة لله عز وجل على حقيقتها، وهي صفة ذاتية من صفاته تعالى، فالواجب إثبات هذه الصفة على حقيقتها كما يليق بجلال الله وعظمته من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل كسائر الصفات. فكما أن لله قدرة لا تشبهها قدرة المخلوقين، فكذلك له يد لا تشبه أيدي المخلوقين، وله صفات لا تشبه صفاتهم، وإلا كان ذلك تفريقاً بين المتماثلات) (2)
وهذا الحديث الهادئ المؤدب مع خطورة المسألة خاص بابن حجر، فلو أن الذي قال بهذا غيره، لنقل له كل ما ذكره أئمة الحديث من كلامهم في معطل هذه الصفة، فقد قال ابن خزيمة إمام أئمتهم: (باب ذكر قصة ثابتة في إثبات يد الله جل ثناؤه بسنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيانا أن الله خط التوراة بيده لكليمه موسى، وإن رغمت أنوف الجهمية) (3)، ثم ساق النصوص التي تدل على هذه الصفة، واعتبر منكرها جهميا معطلا كافرا.
وقال ابن حجر في تعطيل ما يسمونه صفة الحياء: (قوله: (فاستحيا الله منه) أي رحمه ولم يعاقبه، قوله: (فأعرض الله عنه) أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضاً لا لعذر، هذا إن كان مسلماً ويحتمل أن يكون منافقاً) (4)
وقد علق عليه الشبل بهدوء بقوله: (يوصف ربنا سبحانه وتعالى بالاستحياء والإعراض كما في النصوص الشرعية على وجه لا نقص فيه؛ بل على الوجه اللائق من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل. ولا يجوز تأويلهما بغير معناهما الظاهر من لوازمها وغير ذلك، بل الواجب إثباتهما لله عز وجل على الوجه اللائق بجلاله وكماله من غير تحريف
__________
(1) فتح الباري، 1/ 419.
(2) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 14.
(3) التوحيد لابن خزيمة (1/ 126)
(4) فتح الباري،1/ 189.
كلكم كفرة (142)
ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل) (1)
وقال ابن حجر في نفي الرؤية الحسية لله تعالى، وهي مما يشنعون به كثيرا على المخالفين، ويكفرونهم على أساسه: (لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب) (2)
ومع خطورة المسألة من الناحية العقدية السلفية إلا أنه من باب المصلحة لم يشنع عليه، بل قال له بهدوء: (بل رؤية الباري سبحانه في الدار الآخرة حقيقة بمقابلة ولقاء ورؤية وهو في علوه سبحانه وتعالى كما قال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}، مع قطع الاستشراف عن كيفية تلك الرؤية، أو تشبيه المرئي بالمخلوق. ونفي المقابلة والقرب بلا دليل صحيح – ما فيه من الإجمال – خطأ وباطل) (3)
هكذا بكل بساطة.. مجرد خطأ وباطل.. ولكن لو كان غيره لقال: كفر وضلال ومعارضة للقرآن الكريم.. وأتي له بكل ما قال سلفهم من شتائم وسباب.
وهكذا قال تعليقا على ما قال ابن حجر: (ومعاذ الله أن يكون لله جارحة..) (4): (نفي الجارحة عن الله من النفي المجمل الذي لم يرد به دليل شرعي، والاستفصال فيه أن يُقال: إن كان المراد بالجارحة، كما للمخلوق من أعضاء؛ فالنفي حق ويُعبَّر عنه بما في القرآن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.. وإن كان المراد بنفي الجارحة نفي اليد عن الله أو نفي الصفات، فالنفي والحالة هذه باطل، ولابد. ففي باب النفي لابد من التوقيف فلا تنفي عن الله إلا ما نفاه عن نفسه أو نفاه عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في باب الإثبات) (5)
__________
(1) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 14.
(2) فتح الباري،1/ 613.
(3) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 14.
(4) فتح الباري، 3/ 541.
(5) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 14.
كلكم كفرة (143)
وقال تعليقا على ما قال ابن حجر: (ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة في مسجده والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه) (1): (زيارة القبر إذا احتاجت إلى سفر مشروعة تبعاً لا استقلالاً، فلا يجوز السَّفر لقصد زيارة القبر، وإنما تشد الرحال لزيارة المساجد الثلاثة فقط. والتبرك بالمشاهد والآثار بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك) (2)
ولو أن الذي قال هذا كان غير ابن حجر لاعتبر قبوريا مشركا شركا جليا.. ولكن الله رحم ابن حجر بكتابه فتح الباري، ولولاه لكان الآن في جهنم السلفيين، وفي سجلات تكفيرهم.
وقال ردا على ما ذكره ابن حجر: (اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح، إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه) (3): (هذا وما قبله تأويلات متكلفة لا مبرر لها، وخروج باللفظ عن حقيقته. والاستطابة لرائحة خلوف فم الصائم من جنس سائر الصفات العلى يجب الإيمان بها مع عدم مماثلة صفات المخلوقين، ومع عدم التكلف بتأويلها بآراء العقول ومستبعدات النقول، والذي يفضي بها إلى تعطيلها عن الله) (4)
وقال ردا على قول ابن حجر بخلق القرآن على حسب الرؤية الأشعرية: (قوله (أحدث الأخبار بالله) أي أقربها نزولاً إليكم من عند الله عز وجل، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم، وهو في نفسه قديم) (5): (هذا الموضع فيه إيهام يتعلق بصفة الكلام لله عز وجل، ويحتاج إلى تفصيل: فإن كان المراد أنه معنى قديم نفسي، فهذا قول الأشاعرة بأن
__________
(1) فتح الباري، 4/ 112.
(2) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 16.
(3) فتح الباري، 4/ 127.
(4) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 17.
(5) فتح الباري، 5/ 345.
كلكم كفرة (144)
القرآن معنى نفسي قائم بالله.. وإن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما تلقاه من غيره: من اللوح أو الهواء أو اللطيفة فهو باطل أيضاً. وهو قول الأشاعرة والمتكلمين لينفوا أن يكون الكلام مسموعاً. وهو راجع إلى الاحتمال الأول: بأن الكلام معنىً قديمٌ نفسيٌّ.. وإن أراد أنه قديم بمعنى أن الله كتبه في اللوح المحفوظ وسبق به علمه سبحانه ثم أنزله منجماً حسب الحوادث، وسمعه جبريل من الله. فهذا حق وصواب) (1)
هكذا بكل هدوء حاول أن يجد المبررات لكلامه مع علمه بكون ابن حجر أشعريا، ومع وضوح كلامه، لكن لو كان غيره هو الذي قال هذا الكلام لنقل له كل ما ذكرناه من تكفيرات ابن حنبل وابن الجراح وابن عينية.. ولطالب باستتابته وقتله.
وقال تعليقا على نفي ابن حجر للعلو الذي على أساسه كفروا الجهمية (2): (هذا جنوح إلى القول بعلو القهر وعلو الشرف. وهو الوصف بالعلو من جهة المعنى، دون علو الذات الذي أحاله الحافظ حساً، والحق أن لله العلو التام ذاتاً وقدراً وقهراً، وهو ما تواترت به نصوص الشريعة تواتراً قطعياً من وجوه كثيرة جداً تفوق الحصر) (3)
مع العلم أن هذه المسألة من المكفرات التي لم يتنازل السلفية عنها، وعلى أساسها كفروا تكفيرا عينيا كل من أنكرها، فقد قال ابن خزيمة: (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على
__________
(1) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 17.
(2) النص هو قول ابن حجر في الفتح 6/ 158: (فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله ألا يوصف بالعلو؛ لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس)
(3) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 21.
كلكم كفرة (145)
عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا) (1)
وقد نقل ابن تيمية الإجماع على ما قاله ابن خزيمة، حيث قال في (درء تعارض العقل والنقل): (وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين) (2)
بل إن اللجنة الدائمة للفتوى نفسها، وبرئاسة ابن باز أفتت بهذا في مواضع كثيرة منها أنها أجابت عن سؤال يقول صاحبه: (في هذه القرية مسجد.. ولكن للأسف فإن إمام هذا المسجد يعتقد عقيدة فاسدة وحلولية، يعتقد أن الله في كل مكان.. غلبتني نفسي حتى تناقشت مع إمام هذا المسجد وطرحت عليه الأدلة والبراهين بأن الله في السماء مستو على عرشه وفي هذا إذ لانكيف ولانمثل.. وكذلك ذكرت له ليلة الإسراء والمعراج وذكرت له حديث الجارية، ولم يقتنع بل ظل في عتوه وعقيدته هذه)، فأجابت أكبر هيئة سلفية للفتوى بقولها: (إنهم كفار، ولا تجوز الصلاة خلفهم ولا تصح) (3)
وقال الشبل تعليقا على تأويل ابن حجر نسبة الصورة لله (4): (الصواب عود الضمير على الرحمن كما جاء مصرحاً به في روايات صحيحة، والمقصود إثبات الصورة لله ولآدم كلٌ على ما يليق به. وقد بسط الكلام على المسألة وبيان عود الضمير على الله أبو العباس ابن تيمية في بيات تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية بسطاً شافياً) (5)
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل 6/ 264.
(2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 27)
(3) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 365)
(4) حيث قال في فتح الباري، 6/ 422: (وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم، والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها)
(5) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 25.
كلكم كفرة (146)
ولو أن الذي قال هذا غيره لنقل له ما قال الشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري في الصورة، وفي تكفير كل من أنكرها، في كتابه العظيم [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، ومن ذلك قوله ـ عند ذكره دوافع تأليف كتابه ـ: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة. وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به) (1)
لكن بما أن ابن حجر هو الذي قال هذا، فقد عفي عنه، وتساهلوا معه.. ولست أدري كيف، ولا بأي نص، ولا بأي عذر.
وقال الشبل ردا على تأويل ابن حجر للخلة (2): (إطلاق الخلة وهي أعلى درجات المحبة على الله صحيح وعلى الحقيقة اللائقة بالله، كما في صريح القرآن والسنة. وهي صفة ثابتة لائقة بالله لا تستلزم تشبيهاً ولا تمثيلاً، بل لله خلة لائقة به كما أن له سمعاً وبصراً وحياة تليق به. ونفي الخلة عن الله هو قول الجهمية عن الجعد، كما قال ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ إذا قال إبراهيمُ ليس خليله
شكر الضحية كلُّ صاحب سنة... قسريُّ يوم ذبائح القربان
كلا ولا موسى الكليم الداني لله درك من أخي قربان) (3)
وإيراد الشبل لهذه الأبيات هنا من عجائب التناقضات، فكيف يستحلون دم امرئ مسلم من أجل مقولة يقبلونها من غيره، بل يثنون عليه، ويثقون فيه.. وللأسف فإن الجعد
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن 1/ 6).
(2) قال ابن حجر في الفتح 6/ 448: (وأما إطلاقه في حق الله تعالى فعلى سبيل المقابلة، وقيل: الخلة أصلها الاستصفاء، وسُمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله تعالى، وخلة الله له نصره وجعله إماماً)
(3) التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري، ص 24.
كلكم كفرة (147)
بن درهم لم يؤلف كتاب فتح الباري، وإلا فإنه لو كان ألفه لكان الذم متوجها إلى خالد القسري لا إليه..
هذه نماذج عن الكيل بالمكاييل المزدوجة في التكفير، وقد رأينا في محال مختلفة أنهم يستعملون لكل شيء موازينه الخاصة.. ولهذا فإن الاضطراب والتشتت واللاعقلانية أكبر ما يميز العقل السلفي والتراث السلفي والإنسان السلفي.
2 ـ التكفير بسبب الوقوع في نواقض الإيمان فقهية
ذكرنا في كتاب [التراث السلفي تحت المجهر] أن التراث السلفي لم يكتف بوضع المسائل النظرية فقط في الجانب العقدي، وإنما أضاف إليها الكثير من المسائل العملية، والتي ترتبط بالفقه، كمسح الخفين، وغيرها.
ومن تلك المسائل التي أولاها السلفية ـ وخاصة أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ اهتماما كبيرا، وكفروا الأمة على أساسها، ما يرتبط بتعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين والتوسل والتبرك بآثارهم وزيارة قبورهم ونحو ذلك.
والتي حولها السلفية من قضايا فرعية فقهية ـ مختلف فيها في أحسن الأحوال ـ إلى قضايا أصلية عقدية يعتبر مشركا شركا جليا كل من أقر ذلك أو فعله أو سكت عمن فعله.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للفتوى برئاسة ابن باز هذا السؤال: (يقول بعض العلماء (إن التوسل قضية فقهية لا قضية عقيدة) كيف ذلك؟)، فأجابت: (التوسل إلى الله في الدعاء بجاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو ذاته أو منزلته غير مشروع؛ لأنه ذريعة إلى الشرك، فكان البحث فيه لبيان ما هو الحق من مباحث العقيدة، وأما التوسل إلى الله بأسمائه جل شأنه وبصفاته وباتباع رسوله والعمل بما جاء به من عقيدة وأحكام فهذا مشروع) (1)
بناء على هذا سنسوق هنا بعض النصوص الواضحة في تكفير الشيخ محمد بن عبد
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (1/ 520)
كلكم كفرة (148)
الوهاب للأمة جميعا فيما يتعلق بهذا النوع من المسائل، ذلك أن البعض ممن لا يقرؤون، أو لا يستعملون عقولهم عند القراءة يجادلون في ذلك ويشنعون على من يقول به.
فقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في [كشف الشبهات]: (بيان أن توحيد العبادة هو معنى لا إله إلا الله وأن الكفار في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أعرف بمعناها من بعض من يدعي الإسلام وهذا التوحيد هو معنى قولك (لا إله إلا الله) فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليًّا، أو شجرة، أو قبرا، أو جنيا لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك. وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ (السيد) فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه الكلمة هو (إفراد الله تعالى) بالتعلق و(الكفر) بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال صلى الله عليه وآله وسلم قولوا (لا إله إلا الله) قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني. والحاذق منهم يظن أن معناه لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى (لا إله إلا الله) (1)
فهذه الكلمات الخطيرة تحوي تصريحات بكفر كل الأمة ما عداهم، ذلك أنه يعتبر أن كل متوسل أو متبرك بالقبور والأشجار ونحوها مشركا شركا جليا، بل هو يتهم العلماء بذلك الشرك الجلي.
بل هو يعتبرهم أعداء يدعو لحربهم بكل الوسائل، فيقول: (وجوب التسلح
__________
(1) كشف الشبهات (ص: 8)
كلكم كفرة (149)
بالكتاب والسنة لدحض شبهات الأعداء إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج. فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين.. ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان) (1)
وهو يشير بقوله هذا، وبكل صراحة لكل علماء عصره ومن سبقهم ممن يقولون بالتوسل والتبرك.. يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي معلقا على النص السابق: (هذا تكفير واضح لعدد كبير من العلماء ويستحيل في العادة أن يوجد مثل هذا العدد الكبير (ألف) من العلماء الكفار في بلد واحد؛ فاعرف هذا فإنه مهم وهو من أدلة من يتهم الشيخ بتكفير من لم يتبعه!! والشيخ وأتباعه يقولون: معاذ الله أن نكفر المسلمين لكن هذا المسلم عند الشيخ له شروط طويلة يختلف فيها مع العلماء قبل العوام ولا تكاد تنطبق إلا على من يقلده ويتبعه) (2)
وبناء على هذا التكفير المطلق نرى ابن عبد الوهاب وأتباع مسيرته التكفيرية يقتدون به في ذلك، فيعممون التكفير على كل بلاد المسلمين ما عدا بلادهم التي يسكنون فيها والتي يسمونها [بلاد التوحيد]
يقول الشيخ حسن بن فرحان المالكي مبينا تاريخ الوهابية بعد ابن عبد الوهاب: (جاء تلاميذ الشيخ ومقلدوه رحمهم الله وسامحهم ليواصلوا التكفير فقالوا بتكفير من وافق أهل بلده في الظاهر وإن كان يرى خطأهم ومحب الشيخ في الباطن، وتكفير قبائل قحطان
__________
(1) كشف الشبهات (ص: 14)
(2) داعية وليس نبيا، ص 99.
كلكم كفرة (150)
والعجمان، وتكفير أهل حايل، وتكفير من خرج إلى البلدان خارج بلدان الدعوة إذا كان يرى إسلام أهل تلك البلدان.. وتكفير أهل مكة والمدينة، وتكفير الدولة العثمانية، بل وتكفير من لا يكفرها! وتكفير الإباضية..) (1)
ونحب أن ننقل هنا تأكيدا لكلام المالكي من [الدرر السنية في الأجوبة النجدية]، وهو من مصادر السلفية المعتبرة لتضمنه لرسائل الشيخ ابن عبد الوهاب وأبنائه وتلاميذه، ما يدل على تكفيرهم لجميع بلاد العالم الإسلامي ما عدا بلادهم التي يقيمون فيها.
ونبدأ ذلك بتكفيرهم لأهل الحرمين الشريفين مكة والمدينة، فقد ورد في الدرر السنية هذا النص الخطير: (وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمدا كثيرا كما ينبغي أن يحمد، وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير استحلال لحرمتهما) (2)
وهكذا نراهم يكفرون الدولة العثمانية، ويكفرون من توقف في تكفيرها، ويكفرون كل من أعانها ووقف معها، ففي [الدرر السنية في الأجوبة النجدية] سئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، عمن لم يكفر الدولة [يقصد الدولة العثمانية في ذلك الحين]، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه؛ والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟)، فأجاب بقوله: (من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم،
__________
(1) داعية وليس نبيا، ص 222.
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 285)
كلكم كفرة (151)
وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به؛ ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة. ومن لم ير الجهاد مع أئمة المسلمين، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، فهو لم يعرف العقائد الإسلامية، إذا استقام الجهاد مع ذوي الإسلام، فلا يبطله عدل عادل ولا جور جائر؛ والمتكلم في هذه المباحث، إما جاهل فيجب تعليمه، أو خبيث اعتقاد، فتجب منافرته ومباعدته) (1)
ومثله هذا النص الخطير الذين يوزع التكفير على الأمة جميعا: (فلا يعصم دم العبد وماله، حتى يأتي بهذين الأمرين: الأول: قوله: لا إله إلا الله، والمراد معناها لا مجرد لفظها، ومعناها هو توحيد الله بجميع أنواع العبادة.. الأمر الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، والمراد بذلك تكفير المشركين، والبراءة منهم، ومما يعبدون مع الله. فمن لم يكفر المشركين من الدولة التركية، وعباد القبور، كأهل مكة وغيرهم، ممن عبد الصالحين، وعدل عن توحيد الله إلى الشرك، وبدّل سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالبدع، فهو كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ فإن الذي لا يكفر المشركين، غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في نواقض الإسلام (من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من دعا علي بن أبي طالب، فقد كفر، ومن شك في كفره، فقد كفر.. الأمر الثالث: مما يوجب الجهاد لمن اتصف به: ظاهرة المشركين، وإعانتهم على المسلمين، بيد أو بلسان أو بقلب أو بمال، فهذا كفر مخرج من الإسلام، فمن أعان المشركين على المسلمين، وأمد المشركين من ماله، بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيارا منه، فقد كفر) (2)
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (10/ 429)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 291)
كلكم كفرة (152)
بل إن أتباع ابن عبد الوهاب لم يرحموا حتى أولئك الذين يحبونهم ويوالونهم من أهل الحجاز أواليمن أوالشام أو غيرها ما دام حبهم لم يخرج إلى الخارج، ولم يظهر في الواقع، فقد ورد في الدرر السنية هذه الرسالة من الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (اعلم، رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم، خوفاً منهم ومداراة لهم، ومداهنة لدفع شرهم، فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين؛ هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك، فكيف إذا كان في دار منعة واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال ووالاهم، وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود القباب والشرك وأهلها، بعد ما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلاً: أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفاً وطمعاً في الدنيا) (1)
بل لم يرحم السلفية وأتباع ابن عبد الوهاب وتلاميذه حتى أولئك الذين يقيمون معهم، ويعتقدون بمعتقداتهم، ولكنهم يجمعون معها اعتقادهم بإسلام غيرهم من المسلمين، ففي الدرر السنية: (.. من يسافر إلى بلاد المشركين للتجارة، ويرجع إلى بلده في المسلمين، فهؤلاء قسمان أيضا: قسم ينزه دينه عن الصلاة وراء أئمتهم، ولا يأكل ذبحهم، ولا يركن إليهم بالمودة ولين الكلام، ويكفرهم، ولا يسلم عليهم، فهذا لا يعادى ولا يهجر، لأن بعض الصحابة سافر، ودخل بلاد الشرك للتجارة. والقسم الثاني: من يسافر إليهم، ويعتقد إسلامهم، وربما فضلهم على المسلمين، فهذا له حكم هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (8/ 121)
كلكم كفرة (153)
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 51 - 52]. وهذا يوجد من كثير، يفضل أهل الشرك، ويجادل عنهم، فهذا تجب عداوته وهجره. وما أكثر هذا الضرب في الناس! فإنه يعاقب بالطبع على قلبه، حتى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، بل تراه كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]. ومن تدبر الكتاب والسنة، عرف ذلك. وأكثر الناس يتعصب لأهل الباطل، إما لأجل دنيا أو رياسة أو قرابة.. والفقيه الذي ينزل نصوص الكتاب والسنة على الواقع، فينفذ الحكم فيهم على وفق النص، ولا يقدم عادة الناس أو حظوظ نفسه، أو الخوف من أذاهم، فيداهن في دين الله فيهلك مع الهالكين) (1)
وبناء على هذا نرى الكتب والرسائل التي تؤرخ للوهابية تعتبر كل من خالف ابن عبد الوهاب مرتدا، فقد ورد في الدرر السنية: (وسئل أيضا: شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ارتد طائفة من أهل العيينة، ولما ارتد أهل حريملاء أن يكتب كلاما ينفع الله به. فأجاب..) (2)، وما أجاب به طبع في رسالة تلقى أهمية كبيرة لدى السلفية اسمها [مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد]
وهكا يذكر ابن غنام في [تاريخ نجدلابن غنام]، وهو الكتاب الذي أرخ للدعوة الوهابية: (وفي شوال من هذه السنة 1165 هـ ارتد أهل حريملاء.. وفي أواخر هذه السنة 1166 هـ ارتد أهل منفوحة) (3)
ولم يكتف السلفية من أتباع ابن عبد الوهاب بتكفير عامة الناس من أهل البلاد
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (8/ 424)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، (9/ 396)
(3) تاريخ نجدلابن غنام (ص:107)
كلكم كفرة (154)
المختلفة، بل راحوا يكفرون علماء الأمة الكبار الذين عاصروهم، واعتبروهم علماء شرك، وقدوتهم في ذلك شيخهم النجدي محمد بن عبد الوهاب الذي صرح في مواضع كثيرة من رسائله وكتبه بتكفير علماء عصره، ومن ذلك قوله: (فاعلم: أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه، بسبب أن علماء المشركين اليوم، يقرون أنه الشرك الأكبر، ولا ينكرونه.. وجواب هؤلاء كثير، في الكتاب والسنة، والإجماع؛ ومن أصرح ما يجابون به: إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر؛ وأيضا: إقرار غيرهم من علماء الأقطار، من أن أكثرهم قد دخل في الشرك، وجاهد أهل التوحيد) (1)
ومثله قوله في كشف الشبهات: (الرد على أهل الباطل إجمالا وتفصيلا، وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا) (2)
وهو يقصد بالمشركين الذين احتجوا عليه علماء الأمة من جميع المذاهب الفقهية، والذين اجتمعوا على الرد على تلك الأحكام المتشددة التي وقفها هو وسنده من آل سعود، وألفوا الكتب في ذلك.
وقد قال الشيخ حسن بن فرحان المالكي تعليقا على ذلك النص: (يا ترى من هم هؤلاء المشركون الذين يغوصون في أدلة الكتاب والسنة مع فصاحة وعلم وحجج؟! أليسوا علماء مختلفين معه في دعوى كفر مخالفيه من علماء وعوام؟ لا ريب أن هذا فيه تكفير صريح للمخالفين له ممن نسميهم (خصوم الدعوة) أو (أعداء التوحيد) أو (أعداء الإسلام)، وهذا ظلم، لأن الشيخ كان يرد على مسلمين ولم يكن يرد على كفار ولا مشركين، وهذه رسائله وكتبه ليس فيها تسمية لمشرك ولا كافر وإنما فيها تسمية لعلماء المسلمين في عصره كابن فيروز، ومربد التميمي، وابني سحيم سليمان وعبد الله، وعبد الله بن عبد
__________
(1) الدرر السنية (424/ 9)
(2) كشف الشبهات (ص: 15)
كلكم كفرة (155)
اللطيف، ومحمد بن سليمان المدني، وعبد الله بن داود الزبيري، والحداد الحضرمي، وسليمان بن عبد الوهاب، وابن عفالق، والقاضي طالب الحميضي، وأحمد بن يحي، وصالح بن عبد الله، وابن مطلق، وغيرهم من العلماء الذين يطلق عليهم (المشركون في زماننا) (1)
وقد ذكر الشيخ المالكي ـ وهو الذي تربى في مدارس الوهابية ـ استمرار هذا السيل من التكفير من لدن أتباع ابن عبد الوهاب إلى وقتنا المعاصر، فقال: (وقد استمر علماء الدعوة بعده في تكفير أو تبديع يكاد يصل للتكفير لعدد آخر من علماء المسلمين –أخطأوا ولم يكفروا- في عهد الدولة السعودية الثانية كابن سلوم وعثمان بن سند وابن منصور وابن حميد وأحمد بن دحلان المكي وداود بن جرجيس وغيرهم.. وفي القرن الرابع عشر الهجري استمر تكفيرنا وتبديعنا لعلماء معاصرين – أخطأوا كما نخطيء ولم يكفروا- كالكوثري، والدجوي، وشلتوت، وأبي زهرة، والغزالي، والقرضاوي، والطنطاوي، والبوطي، والغماري، والكبيسي، وغيرهم، ولو نستطيع لقلنا عنهم (المشركون في زماننا) وقد قيل!!) (2)
وقد أشار الشيخ المالكي إلى أن الحائل دون الهيئات الرسمية من علماء السعودية وغيرها وتكفير كل من عداهم من الأمة هو السلطة السياسية التي لا ترغب في المزيد من الصراعات، ولذلك توظف ما تشاء من تلك التكفيرات مع من تراهم معادين لها فقط دون غيرهم، فقال: (من المؤسف أنه لا يوقف تكفيرنا وتبديعنا للآخرين إلا السلطة أو العجز، ولولاهما لما أبقينا أحداً إلا وصمناه بكفر أو بدعة مكفرة! مع أن الواجب أن يكون هذا التورع عن التكفير والتبديع من العلماء لا من الحكام، وفي كل الأوقات لا وقت العجز،
__________
(1) داعية وليس نبيا، ص 101.
(2) داعية وليس نبيا، ص 102.
كلكم كفرة (156)
لأن العلماء يعرفون عظمة حق المسلم وتحريم دمه وماله وعرضه) (1)
وقد أشار الصنعاني صاحب سبل السلام ـ وهو من المعاصرين لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ إلى تلك التكفيرات الكثيرة التي كانت توزع على الأمة جميعا، وما يتبعها من السلب والنهب والقتل، فقال: (.. وكان قد تقدمه في الوصول إلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي، ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها، من سفك الدماء، ونهبه الأموال، وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال، وتكفير الأمة المحمدية في جميع الأقطار، فبقي معنا تَرَدُّدٌ فيما نقله الشيخ الفاضل عبد الرحمن، حتى وصل الشيخ العالم مربد بن أحمد وله نباهة، ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفيره أهل الإيمان، وقتلهم ونهبهم، وحقق لنا أقواله وأفعاله وأحواله، فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا، ولم يمعن النظر، ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية، ويدله على العلوم النافعة ويفقهه فيها... ولما حقق لنا أحواله، ورأينا في الرسالة أقواله، وذكر لي أنه إنما عَظُمَ شأنه بوصول الأبيات التي وجهنا إليه، وأنه يتعين علنيا نقض ما قدمناه، وحَلُّ ما أبرمناه) (2)
ومثله صرح الشوكاني ـ وهو ممن يثق فيه السلفية ويعتمدون على كتبه، مثله مثل الصنعاني ـ فقد قال: (ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام، ولقد أخبرنى أمير حجاج اليمن السيد محمد بن حسين
__________
(1) داعية وليس نبيا، ص 102.
(2) إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبد الوهاب، ص:110، وقد أقر أعلام السلفية الكبار بهذه الرسالة، ومنهم: الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في، المصارعة، (ص:417)، ومنهم الشيخ عبد الله البسام في [علماء نجد خلال ثمانية قرون] حيث قال:، كثير من أصحاب القلوب السليمة ينفون صحة الرجوع عن الشيخ الصنعاني، وينسبون تزوير الرجوع والقصيدة الناقضة إلى ابنه، ولكنني تحققت من عدد من الثقات، ومنهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاء بأن رجوع الأمير الصنعاني حقيقة، وأن القصيدة الناقضة له وليست لابنه.. انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون، (1/ 144)
كلكم كفرة (157)
المراجل الكبسى أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن بأنهم كفار وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم فما تخلصوا منه إلا بجهد جهيد) (1)
ونحب أن نشير هنا من باب المثال والنموذج إلى العلماء الذين قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتكفيرهم صراحة، بما ادعاه عليهم من الوقوع في الشرك الجلي، ويمكن أن يقاس عليهم غيرهم ممن هم مثلهم من جميع علماء الأمة، وما أكثرهم، بل كل العلماء في ذلك الحين وفي أحيان كثيرة من التاريخ كانوا على تلك الشاكلة، يقولون بالتوسل والتبرك وغيرها مما يعتبرها الوهابية شركا جليا.
فمن هؤلاء العلماء العلامة الكبير محمد بن فيروز الحنبلي، الذين لم تشفع له حنبليته عند الوهابية، فقد قال فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (.. وأيضا مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:
أيا قبر النبي وصاحبيه ووامصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب
ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض
__________
(1) البدر الطالع، (1/ 499 - 500)
كلكم كفرة (158)
اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال، خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]) (1)
وصرح بذلك في موضع آخر، فقال في رسالة كتبها إلى أحمد بن عبد الكريم جاء فيها: (.. وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام. وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه. بل العبارة صريحة واضحة، في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرا ظاهرا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما؛ هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها) (2)
ونلاحظ ان ابن عبد الوهاب يضيف ـ كالسلفية سلفهم وخلفهم ـ ناقضا جديدا للإيمان، يسمونه [سب دين الرسل]، وهم يقصدون منه انتقاد السلفية أو أهل الحديث.. لأنهم يعتبرون أنفسهم الممثل الشرعي الوحيد للإسلام، بل للرسل جميعا.. ولذلك لهم الحق في أن ينتقدوا العالم أجمع، ولا يحق لأحد أن ينتقدهم، ومن تجرأ وفعل صار كافرا، بل أكفر من اليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى لا يعرفون أهل الحديث، ولا ينتقدونهم.
ونحب أن نذكر هنا ترجمة مختصرة لابن فيروز ننقلها من كتاب من كتب الحنابلة،
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 78)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 63)
كلكم كفرة (159)
حتى نعرف مدى الجرأة التي كان يمتلكها ابن عبد الوهاب وغيره من السلفية.
فقد قال ابن حميد المكي في كتابه [السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة]: (محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز، التميمي، الأحسائي، العلامة الفهامة، كاشف المعضلات، وموضح المشكلات، ومحرر أنواع العلوم، ومقرر المنقول والمعقول، بالمنطوق والمفهوم.. وضع الله فيه من سرعة الفهم وقوة الإدراك وبطء النسيان وشدة الرغبة والحرص والفتوح الباطنة والظاهرة ما يتعجب منه فحفظ القرآن وهو صغير، وحفظ كثيراًً من الكتب منها: مختصر المقنع في الفقه وألفية العراقي في المصطلح وألفية ابن مالك في النحو.. كأن العلوم نصب عينيه أخذ الحديث عن علماء عصره وكذا الفقه والنحو والمعاني والبيان وسائر الفنون وأجازوه بإجازات مطولة ومختصرة وأثنوا عليه الثناء البليغ، ومهر في جميع هذه الفنون وتصدر للتدريس في جميعها وأفتى في حياة شيوخه وكتبوا على أجوبته وفتاواه بالمدح والثناء.. ونفع الله به نفعاًً جماًً، وصار يرحل إليه من جميع الأقطار حتى أنه يجتمع عنده من الطلبة نحو الخمسين وكان يقو م بكفاية أكثرهم ويتفقد أمورهم في جميع ما يلزم لهم كأنهم أولاد صلبه ولا يمَكِّن أحداًً ممن يأتي عنده من الأجانب لطلب العلم أن ينفق من كيسه ولو كان غنيا ويقول: (من لم ينتفع بطعامنا لا ينتفع بكلامنا)، فوضع الله له القبول في أقطار الأرض وكاتبه علماء الآفاق من البلاد الشاسعة والمدائح وطلب الإجازات والدعاء، ونجب خلق ممن قرأ عليه فكان أهل البلدان يأتون إليه ويطلبون أن يرسل معهم واحدا منهم يفقههم في الدين ويعظهم ويقضي ويدرس ويصلي بهم ويخطب فيرسل معهم من استحسن فلا يخالفه التلميذ في شيء أصلا بل كانت الطلبة يمتثلون منه أدنى إشارة ويعدونها أسنى بشارة.. وكان رحمه الله كثير العبادة والذكر، سخي النفس كثير الصدقات ولا يرد مسكينا وثب إليه وكان يدان على ذمته ويتصدق وعذل في ذلك فلم يلتفت لعاذله ويأتيه رزقه من حيث لم يحتسب، عليه أنوار زاهرة وآثار للعلم والصلاح ظاهرة، له حظ
كلكم كفرة (160)
من قيام الليل، مهيبا معظما عند الملوك فمن دونهم مقبول الكلمة نافذ الإشارة، لا يخاف في الله لومة لائم) (1) إلى آخر ما ورد في ترجمته، والتي تظهره مكانته الكبيرة في ذلك العصر، بالإضافة لعلمه وخلقه وتدينه.. ولكن كل ذلك لم يجعل لحمه مسموما يحرم التعرض له، كما يذكر السلفية عندما ينتقد أي علم من أعلامهم، وليتهم اكتفوا بنقده، بل أضافوا إلى ذلك تكفيره.
ولا يزال السلفية المعاصرون يصرون على ما قال شيخهم، ويدافعون عنه، وقد قال بعضهم في تبرير تكفير الشيخ لابن فيروز: (ولكن هذا الخصم - محمد بن فيروز - قد بلغت محاربته ومناهضته لهذه الدعوة حداً لا يوصف، لذا مدحه أحد خصوم هذه الدعوة وهو الحداد، حيث قال مادحاً لابن فيروز: (ولله در الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي لما قام مجتهداً ابتغاء مرضاة الله في إطفاء بدعة هذا الخبيث، كلما رأى وجهاً لبعض أهل المذاهب الأربعة، تبع ذلك الوجه إذا كان مخالفاً لما يعلمه أو يقوله ابن عبد الوهاب البدعي) (2) وبلغ من كيد ابن فيروز أنه – كما قال ابن حميد في السحب الوابلة - (كاتب السلطان عبد الحميد خان يستنجده على قتال البغاة الخارجين بنجد) (3)
ومن العلماء الذين صرح ابن عبد الوهاب بتكفيرهم العلامة الجليل عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175 هـ)، فقد قال ابن عبد الوهاب في بعض رسائله: (وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا؛ ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله) (4)
فهو في هذا النص لا يكفر الشيخ المويس فقط، بل يكفر كل من تبكر بقبة أبي طالب
__________
(1) السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة، لابن حميد المكي ص:969.
(2) مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام، ص 60.
(3) دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 30.
(4) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 116)
كلكم كفرة (161)
التي هدمها الوهابية، وتصوروا أنهم بهدمها هدموا اللات والعزى.
وهكذا صرح مرة أخرى، فقال: (إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها) (1)
وهو يقصد هنا فتاوى العلماء من غير الوهابية للبلاد التي يسكنون فيها بالدفاع عن أنفسهم وبلادهم وآثارهم من هجمات الوهابيين، والتي اعتبرها ابن عبد الوهاب ردة، بل اعتبر أنه يكفي عشر ما فعلوه ليتهموا بالردة.. فكفرهم ـ كما يصرح ـ مضاعف.
وقد قال في بيان ذلك في موضع آخر: (فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل باب حكم المرتد في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله؛ منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في الإقناع على ردته؛ ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب. فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني؛ وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى، عندنا، في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، ومن أهله؛ وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه) (2)، فقد اعتبر مجرد ردود العلماء على الوهابية، وإنكارهم لتكفيرهم للأمة إنكارا للدين نفسه.
وهكذا ذكر الدكتور عبد الله العثيمين في تحليله لرسائل ابن عبد الوهاب الشخصية،
__________
(1) الدرر السنية (10/ 123)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 62)
كلكم كفرة (162)
أن العلماء الذين واجهوه وانتقدوه كانوا كلهم محل طعن منه بسبب هذا الموقف، فقال (واضح من رسائل الشيخ (الشخصية) أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالماً أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم – أيضاً – من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى) (1)
ونحب أن نذكر هنا كما ذكرنا سابقا أن هذا العلامة الجليل الذين ناله سيف التكفير السلفي لم يكن من الهند أو من مصر، بل كان من علماء نجد التي كان ينتشر فيها المذهب الحنبلي، والذي لم يرحمه السلفية كما لم يرحموا سائر المذاهب، فقد ورد في ترجمته في كتاب [علماء نجد للبسام]: (عبد الله بن عيسى الشهير بالمويسي -تصغير موسى- ولد في بلدة حرمة من إحدى بلدان سدير في نجد، ونشأ فيها وقرأ على مشايخ نجد، ثم ارتحل إلى دمشق للأخذ عن علمائها فأخذ عنهم، ومن أشهرهم العلامة محمد السفاريني المشهور.. وجد واجتهد حتى مهر في الفقه ثم عاد إلى وطنه.. والمترجم بعد عودته من دمشق جلس في بلاده يفتي ويدرس وصار معتمد أهل بلده، ثم ولي قضاء بلدة حرمة إحدى بلدان سدير، فمكث في قضائها حتى توفي فيها سنة 1175 هـ) (1)
ولا زال السلفية إلى اليوم يصرون على تكفير هذا العلم الجليل مع أن أقواله وآراءه التي كفر على أساسها لا تختلف عن سائر أقوال وآراء كل العلماء من المذاهب الأربعة
__________
(1) علماء نجد للبسام 4/ 364.
كلكم كفرة (163)
وغيرهم.. فكيف بعد ذلك يذكرون أنهم لا يكفرون.. وهل يصح أن يكفر شخص لسبب، ثم يعفى عن آخر يرتكب نفس السبب؟.. وهل هذا الأمر دين، أم أنه مزاج شخصي، فيكفرون من شاءوا، متى شاءوا، ويسكتون على من شاءوا متى شاءوا؟
ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، وهو عندهم من المعتدلين، بل من المميعين للمنهج السلفي ـ كما يذكرون ـ فقد قال في كتابه الذي خصصه للدفاع عن ابن عبد الوهاب: (ومن أشد خصوم هذه الدعوة وأكثرهم عناداً ومناهضة، عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175 هـ)، ومعاداته وخصومته ظاهرة جلية - من خلال رسائل الشيخ.. يقول ابن حميد في (السحب الوابلة) (وكان ممن أنكر على ابن عبد الوهاب وعلى أتباعه في ابتداء دعوتهم) (1)
وهذا تبرير عجيب، فهل أصبحت كتابة الكتب والرسائل التي تنتصر لعامة المسلمين، وتبين أن ما هم فيه ليس شركا، تهمة تصل بصاحبها إلى الشرك والردة.. فما دام الأمر كذلك، فلم يتوقف هذا الكاتب نفسه عن تكفير من عداه من العلماء، وقد وقعوا في نفس ما وقع فيه.. ولكن التقية تدعوهم إلى ذلك، وإلا فإنهم في قرارة نفوسهم وفي بطون كتبهم وفي خطبهم ودروسهم ومقرراتهم ليسوا سوى مكفرة لكل الأمة من دون اسثناء..
ومن الأعلام الذين نص ابن عبد الوهاب على تكفيره لهم الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق (ت 1164 هـ)، وقد كان من كبار العلماء في ذلك الوقت، وكان ماهرا ـ كما يذكر مترجموه ـ (في الفقه والأصول والعربية وعلم الحساب والهيئة وتوابعها، واشتهر بتحقيق علم الفلك وتدقيقه في عصره فما بعده، وألف فيه التآليف البديعة.. وكان عالما عاملا فاضلا كاملا محققا ماهرا) (2)
__________
(1) دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 32.
(2) السحب الوابلة على أضرحة الحنابلة، ص:927.
كلكم كفرة (164)
وسبب تكفيره له كما يذكر السلفية المعاصرون ـ في دفاعهم عن ابن عبد الوهاب ـ هو (رسالة وجهها إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان عنوانها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، وقد تضمنت هذه الرسالة أسئلة تعجيزية تهكمية، وبأسلوب يحمل طابع التحدي والغرور، وقد قصد بها ابن عفالق الطعن والتوهين في محمد بن عبد الوهاب، والنيل منه والاستخفاف به - كما هو ظاهر في هذه الرسالة -، كما أن هذه الأسئلة – من خلال الاطلاع عليها - ليست وكذا الجواب عليها من أصول العلم وواجباته، بل أقرب ما تكون إلى فضول العلم وترفه.. ومن هذه الأسئلة – المترفة – التي وجهها ابن عفالق إلى الشيخ لكي يجيب عليها، قول ابن عفالق: (وبعد فأسألك عن قوله تعالى: {والعاديات... C إلى آخر السورة هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية، وكم فيها من مجاز مرسل ومجاز مركب، واستعارة تحقيقية، واستعارة وثاقية واستعارة عنادية واستعارة عامية واستعارة خاصية واستعارة أصلية واستعارة تبعية واستعارة مطلقة واستعارة مجردة واستعارة مرشحة وموضع الترشيح والتجريد فيها وموضع الاستعارة بالكناية والاستعارة التخيلية وما فيها من التشبيه الملفوف والمفروق والمفرد والمركب والتشبيه المجمل والمفصل. إلى آخر هذه الأسئلة)، كما ألفّ ابن عفالق رسالة وجهها إلى عثمان بن معمر أمير العيينة يشككه في دعوة الشيخ، ويطعن فيها حتى يتخلى عثمان عن نصرتها – في بادئ الأمر -، وادعى ابن عفالق أن ابن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم في مسائل التوحيد، وقد كتب ابن معمر رداً على رسالة ابن عفالق يذكر موافقته لدعوة الشيخ، مما جعل ابن عفالق يكتب جواباً عن رسالة ابن معمر وقد شنّع في هذا الجواب على الشيخ الإمام وابن معمر، ورماهما بتكفير المسلمين وتضليلهم، ويظهر من هذه الرسالة إلحاح ابن عفالق في إقناع ابن معمر بترك نصرة الشيخ) (1)
__________
(1) دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 30.
كلكم كفرة (165)
وقد أثارت كل هذه التحديات ابن عبد الوهاب الذي كفره في مواضع من رسائله، ومنها قوله فيه: (فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك) (1)
وهكذا نرى ابن عبد الوهاب يكفر علما آخر لا يقل عن العلمين السابقين، وهو من نجد أيضا، وقد أخذته الغيرة على أعراض المسلمين التي أصبحت منتهكة بسبب أحكام ابن عبد الوهاب وعصابته عليهم، وهو سليمان بن سحيم (ت 1181 هـ)، والذي ذكره الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف ـ السلفي المعتدل ـ أثناء تبريره لجرائم ابن عبد الوهاب، فقال: (سليمان بن سحيم.. عداوته ظاهرة وواضحة كما في الرسائل الشخصية للشيخ الإمام أثناء الرد على مفترياته.. وقد كانت رسالته المملوءة بالأكاذيب والشبهات ضد الدعوة السلفية، من أشد الوسائل تشويهاً للدعوة، وأشنعها تحريفاً وتزويراً لمبادئ هذه الدعوة ولأتباعها، حيث أن هذا الخصم قد بعث بتلك الرسالة إلى سائر علماء الأقطار والأمصار يستحثهم ويحرضهم ضد مجدد هذه الدعوة، ولقد كان لها آثارها وأصداءها السيئة ضد الدعوة ومجددها) (2)
فهذا الموقف النقدي الطبيعي من ابن سحيم جعل ابن عبد الوهاب يشن حملة شديدة عليه، كما جعل خلفه من السلفية المعاصرين يعتبرونه مثل أبي لهب وأبي جهل، لأنهم يعتبرون ابن عبد الوهاب هو الرسول بعد الرسول، فحكم من خالفه كحكم من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.
ومن الأمثلة على تلك الحملة ما ورد في الدرر السنية تحت عنوان: [رد ما صنفه ابن
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 78)
(2) دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 32..
كلكم كفرة (166)
سحيم من الكفر والسب والتهورات] (1)، وهو نص طويل ننقله ببعض التصرف لنتبين مظان التكفير الوهابي، ونرى مدى انطباقها بعد ذلك على سائر علماء الأمة.
وقد بدأ ابن عبد الوهاب تكفيره للشيخ بقوله: (يعلم من يقف عليه: أني وقفت على أوراق، بخط ولد ابن سحيم، صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبه على ما فيها، من الكفر الصريح، وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة) (2)
فقد اعتبر ابن عبد الوهاب ردود الشيخ عليه ونقده له ردودا على دين الإسلام وعلى شهادة أن لا إله إلا الله، مع أن الشيخ ابن سحيم علم من أعلام المسلمين، وصاحب مؤلفات ومصنفات، ومع ذلك صار عنده من المحاربين للإسلام، ولشهادة التوحيد.
ثم أخذ ابن عبد الوهاب يذكر المبررات التي جعلته يتناوله بسيف تكفيره، فقال: (الأول: أنه صنف الأوراق يسبنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها؛ فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر ومن أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني.. الثاني: أنه ذكر في أوراقه، أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء، وصادق في ذلك؛ ثم ذكر فيها كفر القدرية، والعلماء لا يكفرونهم، فكفر ناسا لم يكفروا، وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.. الثالث: أنه ذكر معنى التوحيد: أن تصرف جميع العبادات، من الأقوال والأفعال لله وحده، لا يجعل فيها شيء، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهذا حق. ثم يرجع يكذب نفسه، ويقول: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد، والنذر لهم، ليبرؤوا المريض، ويفرجوا عن المكروب، الذي لم يصل إليه
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 46)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 46)
كلكم كفرة (167)
عبدة الأوثان، بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل، بالحديث الذي فيه: (إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب).. الرابع: أنه قسم التوحيد إلى نوعين، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية؛ ويقول: إن الشيخ بين ذلك؛ ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي، وأمثاله، الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسينا، وإدريس، ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية؛ ويزعم أنهم ينخون ويندبون، وهذا توحيد الألوهية.. الخامس: أنه ذكر في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أنها كافية في التوحيد؛ فوحد نفسه في الأفعال، فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية، فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله؛ فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها، ويرد علينا؛ فإذا كفّرنا من قال: إن عبد القادر، والأولياء، ينفعون ويضرون، قال: كفّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان، وتاجا، وحطابا، قال: كفرتم أهل الإسلام؛ والعجب: أنه يقول: إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله، ويقول: من عمل بالقرآن كفر، والقرآن ما يفسر.. السادس: أنه ينهى عن تفسير القرآن، ويقول: ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.. السابع: أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات، وتعلق بالذات؛ وقبل ذلك قد كتب إلينا: أن التوحيد في ثلاث كلمات: إن الله ليس على شيء، وليس في شيء، ولا من شيء؛ فتارة يذكر: أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة يذكر ذلك، ويقول: التوحيد نفي الصفات.. الثامن: أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك، ثم قال: المراد بهذا الشرك، في هذه الآيات والأحاديث. الشرك الجلي، كشرك عباد الشمس، لا على العموم، كما يتوهمه بعض الجهال، فصرح: بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان، وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال، ثم في آخر الصفح بعينه، قال: وقد يطلق الشرك بعبارات أخر؛ وكل
كلكم كفرة (168)
ذلك في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ فرد علينا في أول الصفح، وكذب على الله ورسوله، في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره، ويقول: إن الشرك الأكبر والأصغر، داخل في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.. التاسع: أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع: شرك الألوهية، وشرك الربوبية، وشرك العبادة، وشرك الملك؛ وهذا كلام من لا يفهم ما يقول، فإن شرك العبادة هو شرك الإلهية، وشرك الربوبية هو شرك الملك.. العاشر: أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال: إن النذر والذبح عبادة، فهو منه دليل على الجهل، لأن العبادة ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة، فاستدل على النفي بدليل الإثبات..) (1)
إلى آخر المبررات، والتي يعتبرها جميعا نواقض للإيمان، مع كونها قضايا فرعية خلافية بسيطة، ولكن بحكم مستواه العلمي المحدود، وبحكم تعلقه الشديد بابن تيمية صار يعتبرها ضرورات لا ينكرها إلا كافر.
ونحن نطلب من القارئ الكريم أن يتذكر هذه الرسالة جيدا، حتى لا يطالبنا كل حين بذكر كلام السلفية في أي علم من الأعلام نذكر تكفيرهم له.. لأن ابن عبد الوهاب أو السلفية لم يتعرضوا بالتعيين إلا لمن واجههم، أو انتقدهم، أما من عداهم من العلماء في الأزمنة القديمة، أو في الأماكن البعيدة، فإنهم اكتفوا بتكفيرهم تكفيرا مطلقا لا عينينا.
وقد ذكرنا سابقا أن التكفير المطلق كاف لكل عاقل، لأن كل من كفر لسبب من الأسباب، فسيشمل ذلك كل من وقع في ذلك السبب.
بناء على ما سبق من تصريحات أعلام السلفية المتقدمين والمتأخرين بتكفير كل من
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 47)
كلكم كفرة (169)
يقع في أحد المكفرات العقدية أو الفقهية التي فصلناها في المبحث السابق، فإننا نحاول هنا أن ننظر في مدى انطباق تلك التكفيرات على المدارس الفقهية الكبرى في الأمة، من المدرسة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية.
وقبل ذلك نحب أن نذكر هنا تصريحات ونصوصا من علم كبير من أعلام السلفية، ومن أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تبين وجوب تكفير كل من انطبقت عليه المكفرات بأنواعها المختلفة، وعدم جواز التوقف في ذلك.
وعنوان الرسالة هو [تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة] وهي من تأليف الشيخ المحدث الأصولي: إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
وهي من جملة رسائل وكتب كثيرة ألفت في الموضوع، لتبرر ما فعله ابن عبد الوهاب من تكفيره للمسلمين وحربه لهم، ومنها [مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد] للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و[رسالة الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين] للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين.
وقد ذكر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ دوافعه لتأليفه الرسالة، فقال: (بلغنا وسمعنا من فريق يدعى العلم والدين وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب إن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه، وذلك أن بعض من شافهني منهم بذلك سمع من بعض الإخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستغاث به، فقال له الرجل: لا تطلق عليه الكفر حتى تعرفه، وكان هذا وأجناسه لا يعبأون بمخالطة المشركين في الأسفار وفي ديارهم، بل يطلبون العلم على من هو أكفر الناس من علماء المشركين [وهو أيضاً من الجهمية من علماء مكة (1)] وكانوا قد لفقوا لهم شبهات على دعواهم يأتي بعضها في أثناء الرسالة ـ إن شاء الله تعالى ـ وقد غروا بها
__________
(1) يقصد الأشاعرة وهذا يدل على أن الوهابية يطلقون على الأشاعرة جهمية.
كلكم كفرة (170)
بعض الرعاع من أتباعهم ومن لا معرفة عنده ومن لا يعرف حالهم ولا فرق عنده ولا فهم. متحيزون عن الإخوان بأجسامهم وعن المشايخ بقلوبهم ومداهنون لهم وقد استَوحشوا واستُوحِش منهم بما أظهروه من الشبه وبما ظهر عليهم من الكآبة بمخالطة الفسقة والمشركين وعند التحقيق لا يكفرون المشرك إلا بالعموم وفيما بينهم يتورعون عن ذلك ثم دبت بدعتهم وشبهتهم حتى راجت على من هو من خواص الإخوان) (1)
وتحليل هذا النص وحده كاف في الدلالة على تكفير السلفية للأمة جميعا.. فهذا العلم الكبير من أعلام السلفية يصف علماء مكة بالجهمية الكفار.. ويصف عوام الناس من غيرهم بالمشركين.. بل يتهم حتى الموالين لهم بالتذبذب بين الإيمان والكفر بسبب نقص ولائهم وترددهم في تكفير المسلمين بأعيانهم.
ثم ذكر سبب ذلك، فقال: (وذلك والله أعلم بسبب ترك كتب الأصول وعدم الاعتناء بها وعدم الخوف من الزيغ رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قدس الله روحه - ورسائل بنيه فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جداً كما سيمر) (2)
وقد أشرنا سابقا إلى ما تحويه تلك الكتب من تكفير مطلق ومعين لكل الناس، وحتى الموالين الذين يترددون حكموا عليهم بالكفر.
ثم بين أن إطلاق الكفر على أوصاف معينة كاف بمفرده للتعيين من دون حاجة لتسمية كل شخص، فقال: (أش ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم ونظر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحير جداً ولا حول ولا قوة إلا بالله وذلك أن بعض من أشرنا إليه بحثته عن هذه المسألة فقال: نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى واحمد ربك واسأله العافية، فإن هذا الجواب من بعض أجوبة
__________
(1) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 11.
(2) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 11.
كلكم كفرة (171)
العراقي [يقصد داود بن جرجيس الذي رد عليه الشيخ عبد اللطيف في كتابه منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس] التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم فقال نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد - قدس الله روحه - على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبهه، فانظر ترى العجب ثم اسأل الله العافية وأن يعافيك من الحور بعد الكور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيه ورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث حتى جاء بعض الكلمات التي فيها ما فيها فقال الرجل ما هذه كيف ذلك فقال الشيخ قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل عنه فلما جاءت هذه السقطة عرفتها أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال) (1)
ثم أخذ يرد على هذه الشبهة، ويقرر أن التعيين واجب وضرورة، ولا يصح أن يراعى فيه أحد، فقال: (ومما هو معلوم بالإضطرار من دين الإسلام أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر وهو ما كان عليه الصحابة وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك فمن تقرر عنده الأصل تقريراً لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته إذ لا معصوم إلا النبي) (2)
ثم بين محل المسألة من الدين، فقال: (ومسألتنا هذه وهي عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل
__________
(1) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 18.
(2) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 19.
كلكم كفرة (172)
عن الملة هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة أو في مسألة خفية كالصرف والعطف وكيف يعرفون عباد القبور، وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل) (1)
وهكذا فإن الشروط التي يصورها بعض السلفية من باب التمويه والاحتيال على نفي التكفير، لا علاقة لها بهذا، فمجرد الوقوع عندهم في الشرك أو في نواقض العقيدة كفر، وصاحبها كافر، ويستتاب من غير تعريف ولا إقامة حجة.. وإلا قتل.
هذا في حق عوام الناس، فكيف بالعلماء الذين عرفوا وتبينوا، بل فيهم من قرأ كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب ورد عليها.. فهم عند السلفية أولى بالتكفير.. بل يعتبرونهم أشد كفرا وعنادا.
وقد نقل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالته التكفيرية من كلام ابن عبد الوهاب ما يبرهن له على هذا بكل صراحة ووضوح، فقد ورد فيها: (.. فقد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكالاً تطلب إزالته، ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام على أي شيء يدل كلامه أن من عبد الأوثان أكبر من عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول بعد ما شهد به مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما كفراً ظاهراً ينقل عن الملة
__________
(1) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 20.
كلكم كفرة (173)
فضلاً عن عن غيرهما، هذا صريح واضح، ففي كلام ابن القيم الذي ذكرت وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله ودعاهم في الشدائد والرخاء وسب دين الرسول بعدما أقر به ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم) (1)
ثم أخذ ابن عبد الوهاب ـ كعادة السلفية في نشر أفكارهم ـ يحذر محدثه من التورع عن التكفير، حتى لا يقع هو نفسه في الكفر، لأن من لم يكفر الكافر كافر، فقال: (وأنا أخاف عليك من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، والشبهة التي دخلت عليك هذه البضّيعة التي في يدك تخاف أن تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله وأيضاً قرناء السوء [أضلوك كما هي عادتهم] وأنت والعياذ بالله تنزل درجةً درجة أول مرة في الشك وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم) (2)
وقد علق الشيخ إسحق حفيد ابن عبد الوهاب على هذه الرسالة التكفيرية الخطيرة بقوله: (فتأمل قوله في تكفير هؤلاء العلماء وفي كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف، وأنه صريح في كلام ابن القيم وفي حكايته عن صاحب الرسالة وحكم عليه بآية المنافقين، وأن هذا حكم عام، وكذلك تأمل اليوم حال كثير ممن ينتسب إلى الدين والعلم من أهل نجد يذهب إلى بلاد المشركين ويقيم عندهم مدة يطلب العلم منهم ويجالسهم ثم إذا قدم على المسلمين وقيل له اتق الله وتب إلى ربك من ذلك استهزأ بمن يقول له ذلك، ويقول أتوب من طلب العلم ثم يظهر من أفعاله وأقواله ما ينبئ عن سوء معتقده وزيفه ولا عجب من ذلك لأنه عصى الله ورسوله بمخالطة المشركين فعوقب، ولكن العجب من أهل الدين
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 63)
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 64)
كلكم كفرة (174)
والتوحيد لانبساطهم مع هذا الجنس الذين أرادوا أن يقرنوا بين المشركين والموحدين، وقد فرق الله بينهم في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
ثم رد على الشبهة التي تعلق بها من يتوقف عن التكفير، والتي يستدل بها عادة أصحاب التقية من السلفية لينفوا عن أنفسهم تهمة التكفير، فقال: (وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]) (2)
وربما يتوهم البعض أن في العذر الذي ذكره ما ينفي عن السلفية التكفير، وردا عليه نورد ما قال صاحب الرسالة نفسها، فقد اعتبر العذر في (الجنون وعدم البلوغ أو عدم القدرة على البحث أو كان ممن لا يفهم مدلول الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له وهو المراد بقول ابن القيم (ومقلد لم يتمكن من العلم) وبقول الشيخ عبداللطيف: (إذا تمكنوا من طلب العلم ومعرفته وتأهلوا لذلك)
وبذلك فإنه لا عذر للأمة جميعا بهذا الاعتبار إلا صبيانها ومجانينها.. أما من عداهم، فحكمهم حكم من يتبعونهم من العلماء، وهو الكفر والشرك، كما كفر ابن فيروز وغيره، وكفر معهم قومهم.
__________
(1) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 25.
(2) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 26.
كلكم كفرة (175)
وحتى الصبيان، فإنهم عند السلفية في خطر، فقد سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب عبدالله وحسين عن حكم من مات قبل ظهور دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، فأجابوا: (من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر فلا يدعى له ولايضحى له ولايتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى فإن قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن وإن لم تقم عليه الحجة في حياته فأمره إلى الله) (1)
وحتى نبين أن هذا التكفير الجماعي للمسلمين ليس وليد فكر ابن عبد الوهاب وتلاميذه فقط، بل هو وليد كل التراث السلفي وخصوصا ابن تيمية، الذي نقل عنه الشيخ إسحق حفيد ابن عبد الوهاب هذا النص من مجموع الفتاوى: (وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها لكن يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمداً بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ثم تجد كثيراً من رؤساءهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وكثير تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة- إلى أن قال- وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الرازي في عبادة الكواكب وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين) (2)
وقد علق عليه الشيخ إسحاق بقوله: (هذا لفظه بحروفه فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤساءهم فلاناً وفلاناً بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن
__________
(1) الدرر السنية: (10/ 142)، والرد على جريدة القبلة للشيخ سليمان بن سحمان: ص (20، 21)
(2) مجموع الفتاوى 4/ 54 – 18/ 54
كلكم كفرة (176)
الإسلام مع كونه من أكابر أئمة الشافعية هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر ولو دعا عبد القادر في الرخا والشد) (1)
هذه مجرد نصوص قليلة من نصوص كثيرة تؤكد التكفير السلفي للأمة جميعا بعلمائها وعوامها، لا فرق في ذلك بين الإطلاق والتعيين، ومن شك فيما ذكرناه أو تردد فيه، فليعد للرسالة ليرى خطورة ما فيها، وأننا لم نتجن عليه، بل إن في الكثير مما أهملناه أخطر مما ذكرناه.
وسنحاول هنا بناء على ذلك أن نطبق هذه القوانين السلفية على علماء الأمة من أتباع المذاهب الأربعة أسوة بتلك التكفيرات الكثيرة التي نص عليها ابن عبد الوهاب وتلاميذه في حق علماء من المذاهب الإسلامية المختلفة.. وسنرى من خلال ذلك التطبيق أن الكفر في الرؤية السلفية شامل للأمة جميعا ما عدا أنفسهم.. وهم أنفسهم في خطر، لأنه يكفر بعضهم بعضا.
والقاعدة البسيطة التي يمكن من خلالها تطبيق تلك المقولات التكفيرية على أعيان أعلام المذاهب الأربعة هو أنه بعد نشوء المذاهب العقدية، واختيار الحنفية للمدرسة الماتريدية، واختيار المالكية والشافعية وأكثر الحنابلة للمدرسة الأشعرية دخل رافد جديد في التكفير السلفي لأصحاب المذاهب الأربعة، وهو التجهم والتعطيل والقول بخلق القرآن الكريم، أو القول بخلق ألفاظ القرآن الكريم.. وهذه محل اتفاق بين السلفية في كفر المعتقدين بها.. لأن أدنى ما يعتقده هؤلاء جميعا هو نفي الجهة عن الله، وتفويض أو تأويل ما تشابه من النصوص.. ونحو ذلك من العقائد التي لا يشك أحد من السلفية في كفر معتقديها.. بل لا يشكون في كفر من لم يكفرهم، كما رأينا تصريحاتهم الدالة على ذلك سابقا.
وبعد أن وجدت الطرق الصوفية، وصارت العادة جارية في اتباع أصحاب المذاهب
__________
(1) تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، ص 28.
كلكم كفرة (177)
لأصحاب الطرق الصوفية دخل رافد جديد في التكفير السلفي لأصحاب المذاهب الأربعة هو التكفير بسبب التصوف، والذي سنراه ونرى غلو السلفية فيه في الفصل الخاص به.
وعندما أدخل ابن عبد الوهاب التوسل والاستغاثة ونحوها في الشرك أضاف لأصحاب المذاهب الأربعة كفرا جديدا، بالإضافة للتكفيرات السابقة.. هو القبورية والوثنية والشرك الأكبر.. وبذلك تحول أصحاب المذاهب الأربعة أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من مشركي قريش.
وعندما حصل الصراع بين الدولة العثمانية ـ التي كانت تتبنى المذهب الحنفي، وتحترم سائر المذاهب ـ وآل سعود، أضافوا إلى التكفير تكفيرا آخر وهو التكفير بالولاء للدولة الكافرة.. وقد ذكرنا تصريحاتهم الدالة على ذلك سابقا.
وبذلك فإن السلفية ينظرون إلى المذاهب الأربعة، وكأنها خزان من الكفر يتراكم بعضه على بعض، فكل عصر يضيف للتكفير السابق تكفيرا جديدا.
وقد أشار الألباني إلى ذلك جميعا في قوله: (فإن ما أنا فيه من الاشتغال بالمشروع العظيم - تقريب السنة بين يدي الأمة - الذي يشغلني عنه في كثير من الأحيان ردود تنشر في رسائل وكتب ومجلات من بعض أعداء السنة من المتمذهبة والأشاعرة والمتصوفة وغيرهم، ففي هذا الانشغال ما يغنيني عن الرد على المحبين الناشئين، فضلا عن غيره) (1)
فقد اعتبر المتمذهبة بهذا من أعداء السنة مثلهم مثل الأشاعرة والمتصوفة.. وهذا وحده كاف في الدلالة على تكفيرهم للأمة جميعا، لأنه لم يتمذهب بهذه المذاهب غيرهم.
بناء على هذا، سنذكر هنا بعض النماذج من علماء المذاهب الأربعة الكبار، والذين لا يصدق عليهم في المعايير السلفية إلا حكم الكفر على الإطلاق والتعيين، ومن شك في ذلك فسيصبح كافرا بالمنطلق السلفي.
__________
(1) السلسلة الصحيحة (6/ 285)
كلكم كفرة (178)
وبما أن عد ذلك كثير، لأنه يشمل كل علماء المذاهب الأربعة ما عد النزر القليل منهم، فإنا سنقتصر على من وقف منهم موقفا سلبيا من ابن تيمية (1)، لأن الردود على ابن تيمية تشمل اعتباره مجسما أو مشبها وذلك يعني ـ عند السلفية ـ أن الراد جهمي معطل.. أو تكون الردود عليه في موقفه من الصوفية.. وذلك يعني أن الراد صوفي.. أو تكون الردود عليه في موقفه من القبور.. وهذا يعني أن الراد قبوري مشرك وثني.
ذكرنا في المبحث السابق ذلك العداء الذي بين السلفية والمدرسة الحنفية من أول نشوئها، فلذلك اتهم سلف السلفية الأوائل أبا حنيفة بالكفر، وبمثل ذلك اتهم سائر تلاميذه، وخاصة أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فقد قال قال عمرو بن علي الفلاس: سمعت يحيى القطان، وقال له جار له: حدثنا أبو يوسف، عن أبي حنيفة، عن التيمي، فقال: مرجئ، عن مرجئ، عن مرجئ (2).
وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك، وذكروا عنده أبا يوسف؛ فقال: لا تفسدوا مجلسنا بذكر أبي يوسف (3).
وقال حبان بن موسى: سمعت ابن المبارك، يقول: إني لأستثقل مجلساً فيه ذكر أبي يوسف (4).
وقال المسيب بن واضح: ما سمعت ابن المبارك ذكر أحداً بسوء قط؛ إلا أن رجلاً
__________
(1) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بالموضوع من كتاب [ابن تيمية وموقف أهل السنة منه]، للشيخ عادل كاظم عبدالله.
(2) تاريخ بغداد 16/ 372.
(3) تاريخ بغداد 16/ 372.
(4) تاريخ بغداد 16/ 372.
كلكم كفرة (179)
قال له: مات أبو يوسف؛ فقال: مسكين يعقوب؛ ما أغنى عنه ما كان فيه (1).
وقال عبدة بن عبدالله الخراساني: قال رجل لابن المبارك: أيما أصدق أبو يوسف، أو محمد؟ قال: لا تقل: أيما أصدق؛ قل: أيما أكذب (2).
وقال زكريا الساجي: يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة؛ مذموم مرجئ (3).
وقال عبدالله بن إدريس: كان أبو حنيفة ضالاً مضلاً. وأبو يوسف فاسق من الفاسقين (4).
وقال محمد بن إسماعيل البخاري: يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي؛ تركوه (5).
وقال إسحاق بن منصور الكوسج: قلت لأحمد بن حنبل: يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة، وأصحابه؟ فقال: إي والله (6).
وقال أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبري: سمعت أبا الحسن الدارقطني سئل عن أبي يوسف القاضي، فقال: أعور بين عميان (7).
وقال محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر ابتداء محمد بن الحسن؛ فقال: كان يذهب مذهب جهم (8).
__________
(1) تاريخ بغداد 16/ 372.
(2) تاريخ بغداد 16/ 372.
(3) تاريخ بغداد 16/ 372.
(4) تاريخ بغداد 16/ 372.
(5) تاريخ بغداد 16/ 372.
(6) السنة لعبدالله بن أحمد 228.
(7) تاريخ بغداد 16/ 372.
(8) تاريخ بغداد 2/ 561.
كلكم كفرة (180)
وقال أبو زرعة الرازي: كان محمد بن الحسن جهمياً (1).
وقال زكريا الساجي: محمد بن الحسن كان يقول بقول جهم، وكان مرجئاً (2).
وقال يحيى بن معين: كان محمد بن الحسن كذاباً، وكان جهمياً (3).
وهكذا كان الأمر من بعدهم، وخاصة بعد أن صار الحنفية ماتريدية العقائد، فقد كفرهم السلفية حينها بتهمة التجهم والتعطيل.. وبعد أن مال أكثرهم إلى التصوف تحولوا جميعا إلى حلولية وقبورية ومشركين.
ومن العلماء الذين ينطبق عليهم التكفير السلفي لهذه الأسباب وغيرها قاضي القضاة الشيخ شمس الدين أبوالعباس أحمد بن إبراهيم السّروجي الحنفي (المتوفى 710 هـ)، والذي قال فيه مترجموه: (وكان بارعاً في علوم شتى وله اعتراضات على ابن تيمية في علم الكلام) (4)، وقال ابن حجر في ترجمته: (ومن تصانيفه: الرد على ابن تيمية، وهو فيه منصف متأدب صحيح المباحث، وبلغ ذلك ابن تيمية فتصدى للردّ على ردّه) (5)
ورده على ابن تيمية في علم الكلام كاف في تكفيره عند السلفية، لأن القضايا التي انتصر لها ابن تيمية في تصوره قضايا نهائية لا يحق لأحد الجدال فيها.
ومنهم الفقيه أبو الفتح نصر بن سليمان المنبجي الحنفي (المتوفى 719 هـ) الذي قال عنه الذهبي: (الشيخ الإمام القدوة، المقرئ، المحدث، النحوي، الزاهد العابد القانت الرباني، بقية السلف، أبوالفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، نزيل القاهرة وشيخها)، وقد ذكره ابن حجر العسقلاني ضمن العلماء الذين عارضوا عقائد ابن تيمية، بل كان من
__________
(1) تاريخ بغداد 2/ 561.
(2) تاريخ بغداد 2/ 561.
(3) تاريخ بغداد 2/ 561.
(4) لنجوم الزاهرة، ابن تغردي بردي، ج 9 ص 213،
(5) رفع الإصر عن قضاة مصر، ابن حجر العسقلاني، ص 42،
كلكم كفرة (181)
أعظم القائمين عليه والمحرضين ضده، وكان يغري به بيبرس الجاشنكير (1).
وقد ذكر ابن عبدالهادي المقدسي أن لابن تيمية رسالة كتبها للشيخ المنبجي وأسماها بالرسالة المصرية (2)، وقد ذكر ابن حجر الرسالة ـ وفيها ما يكفي للدلالة على تكفير السلفية له ـ فقد جاء فيها: (واتفق الشيخ نصر المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد أنه مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه، فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتاباً طويلاً ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد فعظم ذلك عليهم) (3)
وقد اتهم ابن تيمية تيمية هذا الشيخ الجليل بالإلحاد، قال ابن كثير: (وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي)
ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان التركماني الجوزجاني الحنفي (المتوفى 744 هـ) الذي كتب رسالة في الردّ على ابن تيمية بعنوان (الأبحاث الجلية في الرد على ابن تيمية)
ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان التركماني الجوزجاني الحنفي (المتوفى 744 هـ) الذي كتب رسالة في الردّ على ابن تيمية بعنوان (الأبحاث الجلية في الرد على ابن تيمية) (4)
ومنهم الفقيه الشيخ محمد بن محمد العلاء البخاري الحنفي (المتوفى 841 هـ)، الذي قيل في ترجمته: (كان يُسئل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها فيجيب بما ظهر له من الخطأ، وينفر عنه قلبه إلى أن استحكم ذلك عليه فصرّح بتبديعه ثم تكفيره، ثم صار يُصرح في مجلسه أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الإطلاق كافر واشتهر
__________
(1) الدرر الكامنة، ج 1 ص 147
(2) العقود الدرية، ابن عبدالهادي، ص 56،
(3) الدرر الكامنة، 154
(4) كتاب السلفية الوهابية ص 136..
كلكم كفرة (182)
ذلك..) (1)
ومنهم الفقيه الشيخ الملا علي بن سلطان محمد القاري الهروي الحنفي (المتوفى 1014 هـ) الذي يعده السلفية قبوريا، وقد قال في (شرح كتاب الشفا): (وقد فرّط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرّم السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
ومنهم الفقيه الشيخ أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الحنفي (المتوفى 1304 هـ)، من علماء الهند، صاحب المصنفات الكثيرة في الفقه والحديث والتراجم ومنها كتاب (إبراز الغي الواقع)، ومما ذكره فيه: (أقول: مسألة زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم كلام ابن تيمية فيها من أفاحش الكلام، فإنه يحرم السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويجعله معصية ويحرم نفس زيارة القبر النبوي أيضاً، ويجعلها غير مقدورة وغير مشروعة وممتنعة، ويحكم على الأحاديث الواردة في الترغيب إليها كلها موضوعة من حسن بعضها، أو لعلمي أن علم ابن تيمية أكثر من عقله، ونظره أكبر من فهمه، وقد شدّدّ عليه بسبب كلامه في هذه المسألة علماء عصره بالنكير، وأوجبوا عليه التعزير) (3)
ومنهم الفقيه المحدث الشيخ محمد زاهد بن حسن الكوثري الحنفي (المتوفى 1371 هـ) الذي ألف السلفية الكتب الكثيرة في تكفيره، وهو من علماء تركيا الكبار وكان وكيل المشيخة الإسلامية بدار الخلافة العثمانية، وهو من كبار المخالفين لابن تيمية وله معه وقفات وردود كثيرة، منها قوله: (ولو قلنا لم يبل الإسلام في الأدوار الأخيرة بمن هو أضر من ابن تيمية في تفريق كلمة المسلمين لما كنا مبالغين في ذلك، وهو سهل متسامح مع اليهود والنصارى يقول عن كتبهم انها لم تحرف تحريفاً لفظياً فاكتسب بذلك إطراء المستشرقين له،
__________
(1) البدر الطالع، ج 2 ص 137..
(2) شرح الشفا، ملا علي القاري، ج 2 ص 152.
(3) سعادة الدارين في الرد على الفرقتين، ابراهيم السمنودي، ج 1 ص 173.
كلكم كفرة (183)
شديد غليظ الحملات على فرق المسلمين لا سيما الشيعة... ولولا شدة ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاجه إلى أن بلغ به الأمر إلى أن يتعرض لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الوجه الذي تراه في أوائل الجزء الثالث منه بطريق يأباه كثير من أقحاح الخوارج مع توهين الأحاديث الجيدة في هذا السبيل) (1)
وقال في الرد على ثناء ابن تيمية على كتاب (النقض على المريسي) للدارمي: (فتباً لابن تيمية وصاحبه ابن القيم حيث كانا يوصيان بكتابه هذا أشد الوصية ويتابعان في كل ما في كتابه كما يظهر من صفحة خاصة منشورة في أول الكتاب، فأصبحا بذلك في صفّ هذا المؤلف المجسم الفاقد العقل، فلا إمام لمن اتخذ هؤلاء أئمة في الأصول أو الفروع، ومن هنا يظهر كل الظهور مبلغ شناعة إتباعهما في شواذهما الفقهية بترك ما عليه أئمة الهدى فنعوذ بالله من الخذلان) (2)
ومن كلامه في ابن تيمية: (وقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في شتى البدع، وفي تكملتنا على (السيف الصقيل) ما يشفي غلة كل غليل إن شاء الله تعالى في تعقب مخازي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم) (3)
ومن السلفية الذين صرحوا بتكفيره الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الحميد حسونة الذي سماه (مجنون أبي حنيفة الجهمي الضال) (4)
ومنهم الشيخ مقبل بن هادي الوادعي الذي قال فيه: (من ضلالات الكوثري عدو السنة وأهلها: (تكفيره للعالم الرباني والصديق الثاني ابن القيم أعلى الله درجته ونقله عن بعض الرافضة قوله: إن الشوكاني يهودي مدسوس على المسلمين) وسكوته عنه، ونقل عن
__________
(1) الإشفاق في أحكام الطلاق، محمد زاهد الكوثري، ص 268.
(2) مقالات الكوثري، محمد زاهد الكوثري، ص 265.
(3) مقالات الكوثري، ص 293.
(4) تسيير سرية من اجتماع الجيوش الإسلامية، ص (39 - 40)
كلكم كفرة (184)
الفخر الرازي أن كتاب التوحيد لابن خزيمة [كتاب الشرك] وسكت.. فهو رجل ضال مضل) (1)
ثم قال: (يعد من أئمة المبتدعين والمعطلة لصفات رب العالمين.. حيث يذهب في صفة العلو مذهب الجهمية المعطلة، وهو نفي علو الله تعالى بذاته على مخلوقاته، ويرى أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ويقول عن السلف: الذين أثبتوا علو الله على خلقه واستواءه على عرشه (لا حظ لهم في الإسلام، غير أن جعلوا صنمهم الأرضي صنماً سماوياً) (2).. ثانياً: صفة الاستواء: تابع الكوثري فيها الجهمية، فعطل صفة الاستواء، وحرف نصوصها، وقال: (وللاستواء في كلام العرب خمس عشرة معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله، فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو ما إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار (3).. ثالثاً: صفة النزول: تابع الكوثري فيها الجهمية، فعطل صفة النزول، وحرّف نصوصها إلى نزول الملك (4).. وحرف حديث النزول تحريفاً لفظياً، فذكر لفظ [يُنزل] بضم الأول وهذا عين المناقضة لمذهب أهل السنة والجماعة.. رابعاً: صفة اليدين: يذهب الكوثري في صفة اليدين مذهب الجهمية المعطلة، فقد عطل صفة اليدين، وحرف نصوصها إلى العناية الخاصة بدون توسط (5).. أو المراد من اليد: القدرة (6)، وهذا مناقض لمذهب أهل السنة والجماعة، فقد أثبتوا صفة اليدين كما جاءت بها النصوص، ومن لم يحملها على الحقيقة عندهم فهو معطل.. خامساً: صفة
__________
(1) فضائح ونصائح، ص (266)
(2) تبديدالظلام، ص (35،78)
(3) مقالات الكوثري، ص (294،303)
(4) مقالات الكوثري، (349) وتبديد الظلام، (53،90) وتعليقاته على كتاب الأسماء والصفات، (449 - 450)
(5) تعليقاته على كتاب الأسماء والصفات، (317)
(6) تعليقاته على كتاب الأسماء والصفات، (314)
كلكم كفرة (185)
الكلام: تابع الكوثري الجهمية في تعطيل صفة الكلام والقول بخلق القرآن، وحرف نصوصها إلى الكلام النفسي (1)، بل.. ويعترف الكوثري بأنه ليس بينه وبين المعتزلة خلاف في كون القرآن مخلوقا (2)، كما أنه لا يرى جواز سماع كلام الله تعالى، فلم يسمع منه جبريل؛ لأن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا بصوت (3)، وهذا مناقض لمذهب سلف الأمة وأئمتها، الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة، وهو أن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود فهو -سبحانه- المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقاً منفصلاً عنه بل سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته.. موقفه من توحيد الألوهية: اعتنق الكوثري من مهلكات القبورية، والبدع الشركية، من ذلك: جواز بناء المساجد على القبور: وادعى أنه أمر متوارث كما في مقالاته (4)، وهذا خلاف الأحاديث الصحيحة في النهي عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله.. جواز إيقاد السرج والشموع على القبور.. جواز الصلاة في مسجد جعل على قبر رجل صالح بقصد التبرك بآثاره وإجابة دعائه (5)):
هذه بعض الأسباب التي كفر بها الوادعي الكوثري، وقد نقلناها لنبين انطباقها على أكثر علماء المذاهب الأربعة.
ومن علماء الحنفية الذين يشملهم التكفير السلفي الشيخ أحمد خيري المصري (المتوفى 1387 هـ)، وهو من الذين تتلمذوا على الشيخ محمد زاهد الكوثري بعد هجرته إلى مصر، وبعد وفاة أستاذه كتب كتاباً عن سيرته أسماه (الإمام الكوثري)، وقد قال فيه: (وقد عاش المترجم طول حياته خصماً لابن تيمية ومذهبه، وسرد آراء الأستاذ يخرج
__________
(1) تأنيب الخطيب، (96 - 97)
(2) تعليق الكوثري على كتاب الأسماء والصفات، ص (251)
(3) تعليق الكوثري على كتاب الإنصاف، ص (95)
(4) مقالات الكوثري، ص (156 - 157)
(5) مقالات الكوثري: (156 - 157)
كلكم كفرة (186)
بالترجمة عن القصد، وهي مبسوطة في كثير من تآليفه وتعاليقه، وعلى الرغم من أن لابن تيمية بعض المشايعين الآن بمصر، فإنه سيتبين إن عاجلاً وإن آجلاً، ولو يوم تعرض خفايا الصدور أن ابن تيمية كان من اللاعبين بدين الله، وأنه في جلّ فتاواه كان يتبع هواه وحسبك فساد رأيه في اعتبار السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة.) (1)، وهذا النص وحده كاف لإدانته وتكفيره عند السلفية.
ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة (المتوفى 1394 هـ)، وله علاقة طيبة جدا بأستاذه الكوثري، وقد أثنى عليه كثيرا، ومما يدينه به السلفية أنه سئل: (.. قال أحد الخطباء على المنبر يوم الجمعة بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام كأيامنا هذه وبدأ خلق الأرض يوم الأحد وفرغ من الخلق عصر يوم الجمعة، وخلق الإنسان بعد عصر يوم الجمعة ثم استوى على العرش فهو مستو عليه، ولما سئل عن العرش قال: إنه الكرسي، وهو يوزع رسائل من تأليفه تثبت الجهة لله ويقول: إن العقل يوجب أن يكون الله في جهة لأن ما ليس في جهة فهو معدوم، ونحن العوام قد تبلبلت أفكارنا لأننا نعتقد أن الله في كل مكان وهو معنا أينما كنا وهو ثالث الثلاثة ورابع الأربعة، نرجو بيان الأمر على صفحات المجلة؟)
فأجاب أبو زهرة بقوله: (ما يقوله الشيخ إتّباعٌ لما قيل عن ابن تيميه فهو في هذا يقلده فيما روي عنه في الرسالة الحموية، والحق أنه تعالى منزه عن المكان، ومنزه عن أن يجلس كما يجلس البشر، وأن العلماء الصادقين من عهد الصحابة يفسرون هذا بتفسير لا يتفق مع المكان، ولا يمكن أن تفسر الأيام الستة بأيامنا هذه، لأن أيامنا ناشئة من دوران الأرض حول الشمس إلا أن تفسر بمقدارها لا بحقيقتها، ولا نرى موافقة الشيخ في الخوض في هذه الأمور، ونباب الموعظة وبيان الحقائق الإسلامية التكليفية متسع، والله
__________
(1) الإمام الكوثري، أحمد خيري، ص 29.
كلكم كفرة (187)
تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل) (1)
وهذا النص وحده كاف لإدانته السلفية ورميه بكل الموبقات التي رموا بها الجهمية والمعطلة.
على الرغم من ثناء ابن تيمية والكثير من السلفية على المدرسة المالكية، واعتبارها مدرسة سلفية، فإن هذا الثناء ـ عند التأمل فيه ـ نجده بلا معنى، بل نجده نوعا من الاحتيال والتلاعب.
ونحن لن نناقشهم هنا في صاحب المذهب نفسه، لأن لهم روايات ترتبط به تجعله سلفيا كسائر سلفيتهم.. وللمالكية روايات أخرى تجعله جهميا عند أهل الحديث، وتضع له من الصفات ما يتناقض مع الرؤية السلفية تماما.
وهذا المحل ليس محل مناقشة أمثال هذه المسائل، لأن مرادنا هو المدرسة التي تشمل مئات بل آلاف الفقهاء الذين توزعوا في التاريخ والجغرافيا لفترات طويلة، ولأماكن كثيرة.
وكلهم ـ إن لم نقل أكثرهم ـ كان يقول بما تقول به الأشاعرة من التأويل أو التفويض، ولا يعتقد بالجهة، ويقول بأن الحرف والصوت مخلوق، وغير ذلك من العقائد التي يكفر السلفية معتقدها.
بالإضافة إلى ذلك البعد الصوفي الذي دخل المذاهب الإسلامية جميعا، وخصوصا المذهب المالكي الذي كان الكثير من أعلامه الكبار مشايخ للطرق الصوفية، كابن عطاء الله السكندري وغيره.. وهم لذلك يعتبرون عند السلفية حلولية وقبورية بالإضافة إلى تجهمهم وتعطيلهم.
لكن البعض قد يجادلنا بأن السلفية يثنون على الكثير من أعلام المالكية، بل
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد أبوزهرة، ص 118.
كلكم كفرة (188)
ويستدلون بهم في مواجهة البدع، والتحريفات التي أدخلها الخلف على الدين، ومنهم وعلى رأسهم إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790 هـ)، ذلك الذي يسبحون بكتابه [الاعتصام] صباح مساء، وعلى أساسه يبدعون الطرق الصوفية، والكثير من السلوكات العادية للمسلمين.
حتى أن الشيخ الفوزان سئل في بعض دروسه: (أحسن الله اليكم ما رأيكم بكتاب الاعتصام للإمام الشاطبي وكذلك كتابه الموافقات؟)، فأجاب بقوله: (ما مثلي يحكم على كتاب الاعتصام والموافقات، الامام الشاطبي امام جليل وإمام تقدره العلماء ويرجعون إلى كتابيه الاعتصام والموافقات، يرجعون إليهما ويستفيدون منهما فلا مجال للتهويل في شأن الكتابين او السؤال عن الشاطبي او كتابيه فإن هذا معروف عن العلماء والأئمة وهما مرجعان عظيمان لأهل العلم) (1)
وهذا الكلام نوع من الاحتيال على الحقيقة التي يؤمن بها الفوزان نفسه، والأمر فيه مثل الأمر في ابن حجر، وقد رأينا أنهم يكفرونه، ولكن لا يصرحون بذلك، لمصلحة لهم فيه.
ولهذا كتب بعض الباحثين من السلفيين مقالا مطولا في الرد على موقف الفوزان، يلزمه من خلاله بتطبيق منهجه ومنهج السلف في تكفير الشاطبي، وعنوان المقال هو: [الشاطبي بين حكم السلف على أمثاله وبين ثناء الفوزان]
وقد رد فيه بأدلة كثيرة ألزم بها الفوزان بما يعتقده، وقدم لذلك بقوله ـ ردا على منهج التمييع السلفي ـ: (صدقت فلست أنت من يسأل عن الشاطبي ولا مثلك من يحكم عليه وعلى كتبه لأنك جاهل بعقيدة السلف ومنهجهم في التعامل مع المبتدعة والزنادقة، فكم لك من تمييع مع أمثال الشاطبي ومع من هم أشد كفرا وزندقة منه، وما اعتراضك على
__________
(1) من شريط تفسير المفصل من السور.
كلكم كفرة (189)
كلام السلف في أبي جيفة [يقصد أبا حنيفة] عنا ببعيد) (1)
بالإضافة إلى ذلك كتب بعض السلفية (2) من أصحاب المنهج الخفي في التكفير كتابا في مخالفة الشاطبي لمعتقدات السلف، من دون تكفير له فيها، مع كونه يكفر من هم دونه، وقد قال في مقدمة كتابه المسمى [الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام]: (فقد كان لمؤلفات أبي إسحاق الشاطبي أثرٌ عظيمٌ بين العلماء وطلبة العلم، تلقوها بالقبول، وتناولوها بالتعليم والشرح والتلخيص، وانتفع بها من شاء الله من الناس، وأعظم ما ألفه كتابي (الموافقات) في أصول الشريعة و(الاعتصام) في لزوم السنة والتحذير من البدع، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه.. ولما كان للشاطبي جهود في حرب البدعة، وحرب البدع مما اشتهر به السلفيون، فقد انتشر بين الناس أنه سلفي الاعتقاد – حتى بين بعض طلبة العلم-، والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ كتابيه هذين أنه أشعري المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ومرجعه في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة.. وموقف الشاطبي من البدع العملية (وهي البدع في العبادات) في تحذيره منها وبيان مفاسدها والتشديد على التمسك بالسنة فيها موقف جيد، وعمل مشكور، ولكنه مع ذلك وقع في بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية في الصفات والقدر وغيرها) (3)
وقد بين الكاتب السلفي أن هذا النوع من البدع ليس خاصا به فقط، بل شمل كل من يستفيد السلفية من مواقفهم من البدع العملية.. فهم ينقلون عنهم في هذا الباب، ويكفرونهم في باب البدع العقدية.. وهذا من عجائب السلوكات السلفية.. فهم يضربون الأمة بعضها ببعض.. يضربون الصوفية بالشاطبي.. ويضربون الشاطبي بسلفهم الأول.
__________
(1) مقال: الشاطبي بين حكم السلف على أمثاله وبين ثناء الفوزان.
(2) هو الشيخ ناصر بن حمد الفهد.
(3) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 3.
كلكم كفرة (190)
يقول في ذلك: (ولم ينفرد الشاطبي بهذا الأمر بين العلماء؛ فقد وقع فيه غيره كأبي بكرٍ الطرطوشي فإنه ألّف كتاب (البدع والحوادث) في التحذير من البدع العملية ومع ذلك فقد وافق الأشاعرة في أصولهم، وكأبي شامة الدمشقي فإن له كتاب (الباعث في إنكار البدع والحوادث) في البدع العملية وهو أشعري المعتقد) (1)
ثم بين أن السبب في ذلك يعود إلى (أن علماء الكلام لم يتطرقوا لمثل هذه الأمور؛ لهذا لم يفسدوها بأصولهم فلم تلتبس على من أراد الحق وسعى إليه بخلاف الاعتقادات كالأسماء والصفات والقدر والإيمان وغيرها فإن المتكلمين أفسدوها بأصولهم المبتدعة وشبهوا على كثيرٍ من العلماء الفضلاء فيها فوافقوهم في أصولهم وبدعهم) (2)
وسأذكر هنا باختصار بعض ما ذكره من مخالفات خطيرة لمنهج السلف، ليس لها حكم عندهم إلا الكفير الصريح.
وأولها هو مواقفه العقدية، والتي لخصها الكاتب بقوله: (ذهب الشاطبي إلى مذهب الأشاعرة – في الجملة - ففي باب الصفات أوّل بعضها كالفوقية والنزول والكلام وغيرها، وإن ذكر مذهب الصحابة والسلف في هذا وحثّ على اتباعه فإنما يعني به التفويض – تفويض المعنى والكيفية -، وفي باب القدر أنكر الأسباب – تبعاً للأشاعرة- وجعل المسببات لاتدخل تحت قدرة المكلف، وأنكر التحسين والتقبيح العقليين تبعاً لإنكار الأشاعرة للحكمة وجعلهم الأعيان لا تتصف بحسنٍ ولا قبحٍ قبل ورود الشرع وأن الله سبحانه إنما يأمر وينهى لمحض المشيئة فقط، واتبع الشاطبي أيضاً المتكلمين في كثيرٍ من أصولهم الكلامية في إثبات الصانع وحدوث العالم، وفي النبوات، وفي حكم الدلائل اللفظية
__________
(1) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 3.
(2) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 5.
كلكم كفرة (191)
وغيرها) (1)
ومع أن الكثير مما ذكره هنا يكفرون على أساسه إلا أنه ـ من باب المصلحة السلفية ـ توقف عن التكفير.. ولست أدري دليله الشرعي في ذلك.. وهل يمكن عقلا أن يكفر عامي بسيط بسبب إنكاره الجهة، بينما يتسامح مع عالم جليل في عقل الشاطبي؟
بل إنه في رده عليه، ولست أدري هل فطن لذلك أم لا، ينقل من كلام السلف وابن تيمية ما يحكم عليه بالكفر، فمن الوجوه التي رد بها عليه (الوجه الرابع: أن هؤلاء المتكلمين الذين ابتدعوا في الصفات والقدر والنبوات وفي غيرها –وقد تبعهم الشاطبي في ذلك- قد سلكوا في استدلالاتهم على بدعهم هذه طرقاً مبتدعة –زعموها عقلية-تلقفوها من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة) (2)
وهذا تكفير محض، وإلا فكيف يستقيم أن يعتقد نفس معتقدات الجهمية والمعتزلة، ثم يكفرون ويعفى عنه.. ولست أدري نوع العفو.. هل هو ملكي أم رئاسي؟
ثم ذكر (مخالفته للسلف في توحيد الربوبية)، فقال: (ذهب أبو إسحاق الشاطبي إلى ما ذهب إليه المبتدعة في إثبات الصانع وإثبات حدوث العالم باتباع طريقة الأعراض وهي طريقة جهمية معتزلية مبتدعة، فقد نقل الشاطبي عن أبي بكرٍ الطرطوشي كلاماً طويلاً وفيه قوله: (لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض) (3) ـ ثم قال الشاطبي مقرّراً لجميع كلامه: (وهو حسن من التقرير)، وهذه الطريقة هي طريقة الجهمية والمعتزلة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، وأول من قال بها الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة، وقد التزموا من أجلها لوازم أفسدوا بها
__________
(1) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 9.
(2) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 9.
(3) الاعتصام، 2/ 723..
كلكم كفرة (192)
الدين، وأحدثوا البدع، وحرفوا النصوص، وخالفوا المنقول والمعقول) (1)، وهكذا يرميه بجرائم المعتزلة والجهمية.. ثم يكفرهم ويعفو عنه.
ثم يذكر (مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات) التي يكفرون على أساسها كل الأمة، فيقول: (تعددت مخالفات الشاطبي في هذا التوحيد تبعاً لمخالفات الأشاعرة، فإنه إنما ينقل الاعتقادات من كتبهم الكلامية، فكان إذا أراد عرض معتقد الصحابة والسلف في الصفات عرضها بما يتوافق مع عقيدة المفوّضة – وهو نفس فهم الأشاعرة لمعتقد السلف -، ويبني أحكامه في الصفات تبعاً لألفاظٍ مجملة، وإذا تكلم عن بعض الصفات أوّلها كتأويلات الأشاعرة والمبتدعة، وإذا تعرض للخلاف بين المذهبين – يعني مذهب السلف ومذهب الخلف في الصفات – هوّن الخلاف بينهم وجعله شبيهاً بالخلافات الواقعة في الفروع) (2)
وقد ذكر كثرة مخالفاته في هذا الباب، فقال: (ولكثرة مخالفاته هذه فقد رأيت أن أقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث..) (3)
وبناء عليه ذكر الكثير من النصوص من الاعتصام أو الموافقات والتي يحكموها على أمثالها، بل على ما هو دونها بالكفر، ومن أمثلة تلك النصوص، قول الشاطبي في (الموافقات): (كما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله تعالى: (تجري بأعيننا) (مما عملت أيدينا) (وهو السميع البصير) (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا) (4)، وهذا طعن صريح منه للسلفية وأهل الحديث برميهم بالتشبيه، ومع ذلك لم يتشدد معه، كما تشدد مع من هم دونه.
__________
(1) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 12.
(2) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 12.
(3) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 12.
(4) الموافقات، 4/ 223.
كلكم كفرة (193)
وهكذا نقل عنه في (الموافقات) تحت قاعدة إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان: (كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كلياً عاماً ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمرٍ خاصٍ يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة) (1)، وهذا النص يقضي على كل البنيان السلفي، ومع ذلك لم يعره أهمية كبيرة.
وهذا نقل عنه قوله - تحت مسألة من الخلاف ما يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وذكر من أسبابه-: (التاسع: أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجهٍ يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل، وجميع التأويلات في ذلك سواء، فلا خلاف في المعنى المراد، وكثيراً ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه) (2)
وهكذا نقل عنه تعطيله لما يسميه السلفيه صفة العلو ـ وهي مما اتفقوا على تكفير معطلها ـ ومما نقل عنه في ذلك قوله: (.. ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب –المنزه عن النقائص – من العين، واليد، والرجل، والوجه، والمحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات) (3)
ونقل عنه من (الاعتصام) قوله: (لا يشك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة) (4)، وهكذا خالفهم في أصل أصول اعتقادهم، بل جعله بدعة وأقرب إلى الكفر، بل مما وقع الخلاف في تكفير القائل به..
__________
(1) الموافقات، 4/ 10.
(2) الموافقات، 5/ 216.
(3) الاعتصام، 1/ 305.
(4) الاعتصام، 2/ 707.
كلكم كفرة (194)
ونقل عنه من (الموافقات) ـ تحت مسألة مالا بد من معرفته لمن أراد علم القرآن ـ قوله: (ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علوم القرآن منه، وإلا وقع في الشُبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة – ثم ذكر أمثلةً على ذلك ومنها قوله: والثالث: قوله تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة) (1)
ومن العجب أنه في وجوه ردوده عليه يذكر كلام سلفه في تكفير من يقول بذلك، وقد قال مقدما لها: (مذهب الشاطبي – كما يتبين من مجموع النصوص السابقة- يدل على نفيه للعلو، ونفي العلو إنما ذهب إليه متأخرو الأشاعرة بعد أن غلب عليهم التجهم والاعتزال.. بل إن الجهمية الأوائل والمعتزلة الذين امتحنوا الأئمة بخلق القرآن كانوا لا يجرؤون على التصريح بهذه العقيدة وإنما يلمحون إليها، كما قال حماد بن زيد وعباد بن العوام ووهب بن جرير وأبو بكر بن عياش وغيرهم رحمهم الله تعالى: (إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء) (2)
ثم نقل قول ابن تيمية في ذلك –وهو يخاطب الأشاعرة-: (ووافقتم المعتزلة على نفيهم وتعطيلهم الذي ما كانوا يجترئون على إظهاره في زمن السلف والأئمة وهو قولهم إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، فإن هذه البدعة الشنعاء والمقالة التي هي شر من كثير من اليهود والنصارى لم يكن يظهرها أحد
__________
(1) الموافقات، 4/ 154.
(2) انظر (السنة) لعبد الله بن أحمد 1/ 117 - 118،127.
كلكم كفرة (195)
من المعتزلة للعامة ولا يدعو عموم الناس إليها، وإنما كان السلف يستدلون على أنهم يبطنون ذلك بما يظهرونه من مقالاتهم) (1)
وهكذا نقل تأويلات الشاطبي للاستواء ـ وهو مما اتفق سلف السلفية وخلفهم على اعتباره تأويله تجهما وكفرا ـ فقد قال (الاعتصام): (بدعة الظاهرية ـ يقصد الحشوية والسلفية ـ فإنها تجارت بقومٍ حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى (على العرش استوى): قاعد، قاعد، وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه) (2)
ومن الوجوه التي رد بها عليه، ولا تحمل إلا على التكفير قوله: (معتقد أهل السنة في الاستواء سبق ذكره عند ذكر كلام ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك فيه، وهو أن معنى الاستواء معلوم لنا ولكن الكيفية مجهولة، وقد كان نفي الاستواء علامة من علامات الجهمية يُستدل بها عليهم، كما روى عبدالله بن أحمد عن يزيد بن هارون أنه سئل: من الجهمية؟ قال: من زعم أن (الرحمن على العرش استوى) على خلاف ما يقر ذلك في قلوب العامة فهو جهمي) (3)) (4)
ولكن لست أدري لم لم يقل صراحة عن الشاطبي: إنه جهمي.. مع أنهم يرمون بهذا كل من قال بذلك.. بل يرمون به من توقف في ذلك، أو لم يكفر قائله، ولكن موازين السلفية المتناقضة والمزاجية تقبل كل شيء.
وذكر له في هذا المقام ما يدل على طعنه على السلفية وأهل الحديث بسبب أخذهم بظاهر لفظ الاستواء.. وهم يعتقدون أن من يفعل ذلك زنديق زنديق زنديق ـ كما ينقلون عن الإمام أحمد ـ فقد قال الشاطبي: (حكى ابن العربي في (العواصم) قال: أخبرني جماعة
__________
(1) نقلا عن الصواعق المرسلة، 2/ 404.
(2) الاعتصام، 2/ 787.
(3) السنة، 1/ 123
(4) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 32.
كلكم كفرة (196)
من أهل السنة – ويعني بهم الأشاعرة – بمدينة السلام أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر وحضر فيه كافة الخلق، وقرأ القارئ (الرحمن على العرش استوى) قال لي أخصهم: من أنت –يعني الحنابلة – يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد، قاعد، بأرفع صوتٍ وأبعده مدى، وثار بهم أهل السنة – يعني الأشاعرة – من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان..) (1)
ثم نقل موقفه من خلق القرآن الكريم ـ وقد رأينا موقف سلف السلفية وخلفهم منه ـ والذي عبر عنه ـ كما في (الاعتصام) بقوله: (وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناءً على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأصول) (2)، وقوله: (كلام الباري إنما نفاه من نفاه وقوفاً مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجاً عن مشابهة المعتاد على وجهٍ صحيحٍ لائقٍ بالرب، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلاً، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجرداً) (3)، وقوله ـ كما في (الموافقات) ـ: (إن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجهٍ ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام) (4)
وهذه الأقوال جميعا مما لا شك عند السلفية جميعا في تكفير قائلها، فقد ذكر ابن تيمية وغيره (أن القول بأن كلام الله سبحانه معنى نفسي وهو واحد لا تعدد فيه وليس بحرفٍ ولا صوت قول محدث مبتدع في الإسلام لم يعرف إلا في القرن الثالث وأول من قاله ابن
__________
(1) الاعتصام، 2/ 785.
(2) الاعتصام، 1/ 307.
(3) الاعتصام، 2/ 843،844.
(4) الموافقات، 4/ 274.
كلكم كفرة (197)
كُلاّب وتبعه على ذلك الأشعري والأشاعرة وهو مما اختص به الأشاعرة والكلاّبية دون بقية المبتدعة) (1)
وقد رد الكاتب السلفي على ما ذكره الشاطبي بقوله: (لذلك فالأشاعرة يقولون بأن الألفاظ والحروف التي بين أيدينا-في المصحف- مخلوقة –وهو نفس كلام المعتزلة- وقد اعترف علماؤهم بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي، كما قال الرازي في (المحصل): (فالحاصل أن الذي ذهبوا إليه –يعني المعتزلة – فنحن لا ننازعهم فيه) وقال: (واعلم أننا لا ننازعهم في المعنى) (2)، ولهذا قال أبو محمد بن قدامة: (ومدار القوم –يعني الأشاعرة - على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة، ولكنهم أحبوا أن لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان، وجحد الحقائق، ومخالفة الإجماع، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم، والقول بشئ لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر، ومن العجب أنهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة) (3)) (4)
وهذا القول وحده في إدانة الشاطبي ـ على حسب الرؤية السلفية العتقية والجديدة ـ فالنصوص عندهم في تجريم وتكفير من يقول بخلق القرآن لا عد لها ولا حصر، وقد قال ابن تيمية -مخاطباً الأشاعرة-: (وكذلك قولكم في القرآن، فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم من الذين قالوا القرآن مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة، فتظاهرتم بالرد على المعتزلة وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك، وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة
__________
(1) انظر (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص 81،109، و(الفتاوى) 5/ 463،533،553.
(2) انظر (المحصل) ص 172،173، و(درء تعارض العقل والنقل) 7/ 237.
(3) حكاية المناظرة في القرآن، ص 34،وانظر: (الرد على من أنكر الحرف والصوت) ص 137،181.
(4) الإعلام بمخالفات الموافقات والإعتصام، ص 37.
كلكم كفرة (198)
من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه) (1)
وما دام الأمر بهذه الصورة، والمعتزلة والأشاعرة متفقان فيها، فلم يكفر المعتزلة بسببها ويسكت عن الأشاعرة؟
بل إن ابن القيم يذكر ما هو أخطر من ذلك، فقال: (فتأمل الأخوّة التي بين هؤلاء – يعني الأشاعرة- وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل، فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه وهو كلام الله وإنه مخلوق) (2)
هذه مجرد نماذج عن شخصية كبرى في المذهب المالكي، لها قيمتها عند السلفية، ولكنهم ـ مع ذلك ـ وبحسب قوانينهم التكفيرية لا يملكون إلا الحكم عليها بالكفر.
ومثلها شخصية أخرى لا تزال تنال حظها من الاهتمام لدى السلفية باعتبار نصرتها لأحباب السلفية من بني أمية، وهي شخصية ابن العربي المالكي.. والذي يستدلون بعواصمه وقواصمه كل حين.. وفي نفس الوقت يضمرون تكفيره، لأنه أشعري جلد كما يقولون.. فهم يضربون به الشيعة وكل محبي آل البيت الطاهرين.. ويضربونه هو بعد ذلك لتجهمه وتعطيله وكفره.
فمن الأدلة على الصريحة على تجهمه وتعطيله ـ بحسب الرؤية السلفية ـ قوله بخلق القرآن، فقد جاء في كتابه [المسالك]: (قلنا: الدليل في قول أبي هريرة؛ لأنه قال: (اقرأ بها في نفسك يا فارسي). والقراءة في النفس تسمى قرآناً حقيقة؛ كما قال الأخطل: إن الكلام لفي
__________
(1) الفتاوى الكبرى، 6/ 632.
(2) مختصر الصواعق، ص 500.
كلكم كفرة (199)
الفؤاد، وإنما جعل الكلام على اللسان دليلاً) (1)
وقال: (اعلم أن القرآن لا يتحدد معناه، ولا يتقدر مقتضاه؛ فقد يراد به الكلام القديم الموجود بذات الرب تعالى، وقد يراد به القراءة الحادثة؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، وقد يضاف إليه من حيث إنه موجود بذاته، وصفة من صفاته، وقد يراد به القراءة الحادثة؛ كما أنها توصف بأنها كلامه؛ قال الله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}، والثاني: أنها دلالة على كلامه الموجود بذاته) (2)
وقال: (قوله: (على سبعة أحرف) والحروف هاهنا: هي القراءة بالأصوات، وهي ضد كلام البارئ سبحانه؛ لأن البارئ كلامه القديم الذي هو صفة من صفاته لا تفارقه؛ ليس هو بصوت، ولا حرف) (3)
وهذه كلها تصريحات واضحة لا يحكم على صاحبها عند السلفية سلفهم وخلفهم إلا بالتكفير، وقد رأينا النصوص الدالة على ذلك، وإجماعهم عليه.
وهكذا نراه يؤول النزول وينفي الحركة والانتقال عن الله، وهم يعتبرون تأويل كل ذلك تعطيلا وتجهما وكفرا، فقد قال في كتابه السابق: (اعلم أن معنى النزول في اللغة، والقرآن، والسنة؛ ينطبق على تسعة معان؛ منها معان مختلفة، ولم يكن هذا اللفظ مما يخص أمراً واحداً؛ حتى لا يمكن العدول عنه إلى غيره؛ بل وجدناه مشترك المعنى؛ فاحتمل التأويل، والتخريج، والترتيب في ذلك؛ فمن ذلك: النزول بمعنى الانتقال، والبارئ تعالى؛ يتنزه عنه، وإنما ذلك في المخلوقات؛ مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}؛ هذا على معنى النقلة، والتحويل) (4)
__________
(1) المسالك 2/ 374 - 375..
(2) المسالك 3/ 379 - 380..
(3) المسالك 3/ 380..
(4) المسالك 3/ 447..
كلكم كفرة (200)
وقال: (وهذه الوجوه من القرآن واللغة؛ على أن البارئ تعالى لا يجوز عليه النقلة، ولا الحركة، وأن نزوله بخلاف مخلوقاته؛ إنما نزوله نزول رحمة وإحسان، أو يكون كما قال بعض العلماء الصوفية: إن نزوله ثلث الليل؛ إنما هو نزول من حال الغضب إلى حالة الرحمة، وإلا إذا أضفت النزول إلى السكينة؛ لم يكن، وإذا أضفته إلى الكلام؛ لم يكن أيضاً تفريغ مكان، ولا شغل مكان، وإنما أراد به: إقباله على أهل الأرض بالرحمة، والاستعطاف بالتوبة، والإنابة. هذا تفسيره عند علمائنا من أهل الكلام. وأما من تعدى عليه بالتفسير، والقول النكير؛ فإنهم قالوا: في هذا الحديث دليل على أن الله تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سماوات. قلنا: هذا جهل عظيم؛ إنما قال: (ينزل إلى سماء الدنيا)، ولم يقل في الحديث: من أين ينزل، ولا كيف ينزل) (1)
وقال: (وأما قوله: (ينزل) و(يجيء) و(يأتي) وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها؛ فإنها ترجع إلى أفعاله، وههنا نكتة، وهي أن أفعالك أيها العبد؛ إنما هي في ذاتك، وأفعال الله لا يجوز أن تكون في ذاته، ولا ترجع إليه، وإنما تكون في مخلوقاته؛ فإذا سمعت أن الله يفعل كذا؛ فمعناه في المخلوقات؛ لا في الذات) (2)
وهذا تصريح خاطر ليس له حكم عند السلفية إلا الكفر.. وإلا فإنهم ملزمون بالعفو عن كل الطوائف التي كفروها بمثل هذه الأسباب، فلا يستقيم عقلا ولا شرعا أن يؤاخذ قوم بما يعفى به عن آخرين.
ومثل ذلك تعطيله للجهة، والتي كتب فيها السلفية كتبهم الكثيرة، والممتلئة بتكفير من ينكرها، فقد قال ابن العربي في نفيها: (والذي يجب أن يعتقد في ذلك: أن الله كان ولا شيء معه؛ ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش؛ فلم يتغير، ولا حدثت له جهة منها،
__________
(1) المسالك 3/ 449 - 450..
(2) المسالك 3/ 452..
كلكم كفرة (201)
ولا كان له مكان فيها؛ فإنه لا يحول، ولا يزول؛ قدوس لا يحول، ولا يتغير) (1)
وهكذا قال في تنزيه الله عن الجوارح، والتي يسميها السلفية صفات، ويقيمون الدنيا ويقعدوها من أجلها، فقد قال ابن العربي فيها: (فصل في مفترقات من الآيات، ومجموع الوظائف من الأحاديث المشكلات، وهي ثمانية أحاديث: الحديث الأول: وقع في الصحيح لمسلم؛ قوله: (إن الله يمسك السماوات على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع؛ ثم يقول: أنا الملك)؛ قال علماؤنا: قد استقر في عقائد المسلمين؛ أن البارئ تعالى منزه عن الجارحة؛ لأنه إنما يراد به القدرة، والاجتماع. وقال قوم: إن الإصبع هنا؛ هي النعمة. وقال آخرون: إنما أراد به؛ أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستة أيام، ولم يدركه في ذلك لغوب ولا نصب. وقال آخرون: يحتمل أن يريد بالإصبع: بعض خلقه. وهذا غير مستنكر في قدرة الله. وقال آخرون: قد يريد أن تكون المخلوقات؛ اسم: إصبع؛ فأخبر بخلق هذه الأشياء عليه. والغرض في هذا الحديث: إبطال أن تكون لله جارحة؛ لإحالة العقل) (2)
وقال: (قوله: (إن الله يطوي السماوات يوم القيامة؛ ثم يأخذهن بيده اليمنى؛ ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين المتكبرون، ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين المتكبرون) قد تقدم الكلام في اليدين، واختلاف الأصوليين في ذلك، وإنهما بمعنى الصفة؛ لا بمعنى الجارحة) (3)
وقال في تأويل ما يسميه السلفية صفة الضحك والعجب والقدم والوجه وغيرها: (قوله: (يضحك الله..)؛ معناه: يظهر لهما أدلة الكرامة وعلامات الرضا، كما يفعل الضاحك
__________
(1) المسالك 3/ 451..
(2) المسالك 3/ 463 - 464..
(3) المسالك 3/ 463..
كلكم كفرة (202)
منا لما يسر به. قوله: (عجب ربكم من شاب ليست له صبوة)؛ معناه: فعل به من الكرامة فعل المتعجب من فعله، ووله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال النار يلقى فيها، حتى يضع الجبار فيها قدمه) وفي بعض طرقه: (حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط)؛ قال علماؤنا: معنى (قدمه) خلق من خلقه يسمى قدماً؛ أضافه إضافة الملك إلى نفسه.. وقال آخر: معناه: أن البارئ تعالى يخلق خلقاً يسمى قدماً؛ يملأ بهم جهنم. قوله: (إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)؛ معناه: على صورة المضروب، فالهاء عائدة على عبده، وغير ذلك من الأحاديث المشكلات، والتأويل عليها يطول) (1)
هذه مجرد أمثلة ونماذج عن مقولاته المرتبطة بخلق القرآن الكريم وما يسميه السلفية [الصفات الذاتية والفعلية]، بالإضافة إلى هذا فإنه يحمل بشدة على أهل الحديث والسلفية ويسخر من تشبيههم وتجسيمهم.. وليس لكل هذا حكم عند السلفية إلا الكفر.
وهم مدعوون بهذا إما إلى إزالة أمثال هذه المسائل من قاموس تكفيرهم، وإلا تطبيقها على ابن العربي مثله مثل سائر العلماء.. وإلا فإنه لا يجوز شرعا ولا عقلا المحاباة والمجاملة في أمثال هذه المسائل.
ومن المالكية الذين يصدق عليهم التكفير السلفي قاضي القضاة الفقيه المحدث الشيخ تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى السعدي الإخنائيّ المالكي المصري (المتوفى 750 هـ)، والذي كان من العلماء الذين وقفوا بشدة في وجه ابن تيمية وخاصة في مواقفه من الزيارة والقبور والتوسل وغيرها مما يسميه السلفية [الشرك في توحيد الألوهية]، والذي على أساسه كفر ابن عبد الوهاب ابن فيروز وغيره من علماء زمانه، فمن كتبه في هذا المجال: (المقالة المرضية في الردّ على من ينكر الزيارة المحمدية)
ويضاف إلى ذلك وقوفه في وجه دعوة التوحيد ـ كما يعبر ابن عبد الوهاب وتلاميذه
__________
(1) المسالك 3/ 463 - 464.
كلكم كفرة (203)
ـ وذلك عندهم من أكبر مصادر الكفر، قال ابن حجر العسقلاني في ترجمته: (وكان كثير الحط على الشيخ تقي الدين بن تيمية وأتباعه، وهو الذي عزر الشهاب ابن مري وكان على طريقة الشيخ تقي الدين ويتكلم على الناس بلسان الوعظ لما قدم مصر.. إلى أن جرت مسألة التوسل فتكلم فيها بكلام شيخه فأنكروا عليه، وبلغ ذلك القاضي فطلبه وعزره، وطوف به وبالغ في إهانته وتألم له كثير من الناس) (1)
ومن المالكية الذين ينطبق عليهم التكفير السلفي المفتي الفقيه الشيخ ضياء الدين خليل بن إسحاق المالكي (المتوفى 776 هـ)، الذي يعتبر كتابه (مختصر الشيخ خليل) من أشهر المختصرات الفقهية على مذهب المالكية، بل ربما كان أشهرها على الإطلاق في القرون المتأخرة، ويشهد لذلك عناية العلماء به وعكوف طلاب العلم على حفظه ودراسته، وتلقيهم له بالقبول إلى اليوم.
و له بالإضافة إلى هذا كتاب في مناسك الحج والزيارة، نقل عبارات منه عدةٌ من فقهاء المالكية، منهم الإمام الزرقاني الذي قال في كتابه (شرح المواهب اللدنية): (ونحو هذا في منسك العلامة خليل، وزاد: (وليتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم، ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسل به، إذ هو محط جبال الأوزار وأثقال الذنوب، لأن بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته وأضل سريرته، ألم يسمع قوله تعالى {ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك}، فقال الزرقاني مُعلقاً على كلام الخليل بن إسحاق: (ولعل مراده التعريض بابن تيمية) (2) (1)
ومن أعيان المالكية، والذي كان يمثل ثقافة زمانه وأزمنة كثيرة الرحالة الشيخ أبو عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي الشهير بابن بطوطة (المتوفى 779 هـ)، والذي
__________
(1) رفع الإصر، ص 353.
(2) شرح المواهب اللدنية، الزرقاني، ج 12 ص 219.
كلكم كفرة (204)
يسميه السلفية [القبوري]، ويحكمون بشركه، ويحاربونه في كل محل بسبب قوله في كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) عند ذكر ما شاهده في دمشق عندما زارها: (وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر، وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال: إن هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله. فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواماً، وصنف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، في نحو أربعين مجلداً. ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية. وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة ومنها المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيباً لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك ما يشبهه وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة،
كلكم كفرة (205)
فسجن بها حتى مات في السجن) (1)
ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي العلامة الكبير الشيخ أبوعبدالله محمد بن عرفة التونسي الورغمي المالكي (المتوفى 803 هـ)، فقد قال الشيخ الكتاني في كتابه (فهرس الفهارس) عند ترجمة ابن تيمية: (ومن أشنع ما نقل عن ابن تيمية أيضاً قوله في حق شفاء القاضي عياض: غلا هذا المغيربي) (2)
ومنهم الشيخ أحمد زروق المالكي (المتوفى 899 هـ) الذي قال عن ابن تيمية: (ابن تيمية رجل مسلم له باب الحفظ والإتقان، مطعون عليه في عقائد الإيمان، مثلوب بنقص العقل فضلاً عن العرفان..) (3)، ومن طعن في عقائد ابن تيمية ـ عند السلفية ـ ليس له حكم إلا الكفر.
ومنهم الشيخ محمد البرلسي الرشيدي المالكي، الذي قال: (وقد تجاسر ابن تيمية عامله الله بعدله وادعى أن السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محرم بالإجماع، وأن الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به، وأن سائر الأحاديث الواردة في فضل الزيارة موضوعة، وأطال بذلك بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس المستحق لكل كمال أنفس وحاول ما ينافي العظمة والكمال بادعائه الجهة والتجسيم، وأظهر هذا الأمر على المنابر، وشاع وذاع ذكره في الأصاغر والأكابر وخالف الأئمة في مسائل كثيرة، واستدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط من عين أعيان علماء الأمة، وصار مُثله بين العوام فضلاً عن الأئمة، وتعقب العلماء كلماته الفاسدة وزيفوا حججه الداحضة الكاسدة وأظهروا عوار سقطاته، وبينوا قبائح أوهامه وغلطاته، حتى
__________
(1) تحفة النظار في غرائب الأمصار، ابن بطوطة، ص 52.
(2) فهرس الفهارس، ج 1 ص 278.
(3) شواهد الحق، ص 453.
كلكم كفرة (206)
قال في حقه العز بن جماعة: إن هو إلا عبد أضله الله وأغواه، وألبسه رداء الخزى وأرداه) (1)، وهذا النص وحده كاف عند السلفية لتسجيله في قوائم الكفرة.
ومنهم المحدث الفقيه الشيخ محمد بن عبدالباقي الزرقاني المالكي (المتوفى 1122 هـ) صاحب (شرح الموطأ)، و(شرح المنظومة البيقونية)، و(شرح المواهب اللدنية)، وهي مراجع كبرى للمالكية وغيرهم، فقد قال الشيخ القسطلاني في (المواهب اللدنية) ما يلي: (وقد روي أن مالكاً لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي: يا أبا عبدالله أأستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدعو، أم استقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله عزوجل يوم القيامة. لكن رأيتُ منسوباً للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: أنّ هذه الحكاية كذب على مالك، وأنّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحدٌ من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك) (2)
وقد عقب الشيخ الزرقاني في (شرح المواهب اللندنية) على هذا بقوله: (هذا تهور عجيب، فإن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه فضائل مالك بإسناد لا بأس به، وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه، فمن أين أنها كذب وليس في إسنادها وضاع ولا كذاب) (3)
وقال تعليقا على قول ابن تيمية (وأن الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحدٌ من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه): (نفيه مردود عليه من قصوره أو مكابرته، ففي الشفاء قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت
__________
(1) شواهد الحق، ص 15.
(2) شرح المواهب اللدنية، ج 12 ص 194.
(3) شرح المواهب اللدنية، ج 12 ص 194.
كلكم كفرة (207)
أنه افتتح الصلاة، فَسَلّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم انصرف) (1)
وقال تعليقا على قول ابن تيمية (ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك): (كذا قال وهو خطأ قبيح، فإن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلاً له مستدبر القبلة) (2)
ثم قال تعليقا على ذلك كله: (ولكن هذا الرجل ابتدع له مذهباً وهو عدم تعظيم القبور، وإنها إنما تزار للترحم والاعتبار بشرط أن لا يُشدّ إليها رحل، فصار كل ما خالفه عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه، انتقل إلى دعوى أنه كَذب على من نُسب إليه، مجازفة وعدم نصفه، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله...) (3)
وقيمة هذا الكلام هنا هو أن نظرة المدرسة المالكية لمالك تختلف اختلافا جذريا عن نظرة السلفية له، وكذا رواياتهم عنه تختلف اختلافا جذريا عن روايات السلفية.. ومطالعة روايات المالكية عن مالك لا تحكم عليه إلا بالكفر عند السلفية..
ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي العالم الفقيه الشيخ أبوالمحاسن جمال الدين يوسف بن أحمد بن نصر الدجوي المالكي (المتوفى 1365 هـ)، فمن كلامه في رسالة بعثها إلى الشيخ الكوثري: (وأظن أنك ذكرتَ لي يوم كنا مع المرحوم الشيخ عبدالباقي سرور نعيم أن بعض علماء الهند ذكر هنات ابن تيمية وزلاته وأفاض في الردّ عليها.. وقد ذكرتَ حفظك الله كثيراً من هناته التي خرق بها الإجماع، وصادم بها المعقول والمنقول، وبينت مراجعها من كتبه وكتب تلميذه ابن القيم، ولا معنى للمكابرة في ذلك
__________
(1) شرح المواهب اللدنية، ج 12 ص 194.
(2) شرح المواهب اللدنية، ج 12 ص 194.
(3) شرح المواهب اللدنية، ج 12 ص 194.
كلكم كفرة (208)
بعد رسائله في العقائد المطبوعة في آخر فتاويه، وبعد ما قرره في مواضع من منهاج السنة وموافقة المعقول والمنقول ورسائله الكبرى إلى غير ذلك من مؤلفاته فقد كان سامحه الله مولعاً بنشر تلك الآراء الشاذة والعقائد الضالة كلما سنحت فرصة لتقرير معتقده الذي ملك عليه مشاعره حتى أصبح عنده هو الدين كله، على ما فيه من جمود وحجود وخلط وخبط! وكذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله كان مستهتراً بما جُنّ به شيخه من تلك الآراء المنحرفة، فكان دائماً يرمي إليها عن قرب أو بعد حتى إنه في كتاب (الروح) الكثير الفوائد التي تلطف الأرواح لم ينس ما شغف به من تلك المقالات الحمقاء) (1)
ثم قال ملخصا كل ما ذكره من مثالب ابن تيمية: (إن ابن تيمية في رأيي لا يصح أن يكون إماماً لأن الإمامة الحقة لا ينالها من يُقدّس نفسه هذا التقديس، فإنه إذا قدّس نفسه كان متبعاً لآرائها، غير متهم لها، فكان سائراً مع أهوائها، غير منحرف عنها، ومن اتبع هواه ضل عن سبيل الله من حيث يدري أولا يدري، ومن قدّس نفسه لم يتبع سبيل المؤمنين شاء أم أبى.. وقد أدى ذلك العالم الكبير ابن تيمية، بسرعته –ولا نقول طيشه– إلى أن يجازف فيقول: (لم يرد ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، في رواية من الروايات الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن ذلك في البخاري وهو يحفظه.. وقد أنكر حديث الزيارة وهو صحيح كما أوضح السبكي في (شفاء السقام) إلى غير ذلك، مع أنه من الحُفّاظ، وأشهر شيء من مزاياه هو أنه محدث، ولكنه التسرع يُذهب من النفس رشدها، والمجازفة تعمي عين البصيرة وتفقأ بصر العقل) (2)
ثم قال ردا على سلفية عصره: (وأرجو أن تعذرني فقد أهاج حفيظتنا واستثار الكامن منا ما نراه الآن من أولئك الزعانف الذين يدعون الاجتهاد وقد رددوا صدى مقال إمامهم
__________
(1) السلفية المعاصرة إلى أين؟، محمد زكي إبراهيم، ص 88.
(2) السلفية المعاصرة إلى أين؟، محمد زكي إبراهيم، ص 88.
كلكم كفرة (209)
ابن تيمية، وأكثروا من ذكر الكتاب والسنة وهو أبعد الناس عنهما وأخلاهم منهما.
فرقة تدعي الحديث ولكن
لا يكادون يفقهون حديثا
ولو عقلوا لعلموا أنهم من مقلدة ابن تيمية على غير هدى ولا بصيرة، فهم أعظم الناس جهلاً، وأكبرهم دعوى، يعادون المسلمين، ويكفرون المؤمنين، ولا غروا فقد كفّر أسلافهم من الخوارج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واعترض جدهم الأعلى ذو الخويصرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
وهذا النص وحده يكفي لتكفيره.. بل وتكفير آبائه وأجداده وكل من يتصل به.
ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي العلامة الحافظ الشيخ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (المتوفى 1380 هـ) الذي لم تشفع له حصانته التي اكتسبها من علم الحديث، وكونه من أعلامه الكبار في هذا العصر.. فقد ألف السلفية في شأنه وشأن تكفيره الكثير من الكتب والرسائل باعتباره جهميا قبوريا حلوليا صوفيا رافضيا.. وغيرها من الألقاب.
بالإضافة إلى ذلك عداؤه الشديد لابن تيمية وأهل الحديث، فقد كان ينتقده في كل محل، ومن أقواله فيه قوله في (البرهان الجلي): (بل بلغت العداوة من ابن تيمية إلى درجة المكابرة وانكار المحسوس فصرّح بكل جرأة ووقاحة ولؤم ونذالة ونفاق وجهالة أنه لم يصح في فضل علي عليه السلام حديث أصلاً، وأن ما ورد منها في الصحيحين لا يثبت له فضلاً ولا مزية على غيره... بل أضاف ابن تيمية إلى ذلك من قبيح القول في علي وآل بيته الأطهار، وما دل على أنه رأس المنافقين في عصره لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح المخرج في صحيح مسلم مخاطبا لعلي (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) كما ألزم
__________
(1) السلفية المعاصرة إلى أين؟، محمد زكي إبراهيم، ص 88.
كلكم كفرة (210)
ابن تيمية بذلك أهل عصره وحكموا بنفاقه... وكيف لا يلزم بالنفاق مع نطقه قبحه الله بما لا ينطق به مؤمن في حق فاطمة سيدة نساء العالمين وحق زوجها أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيد المؤمنين، فقد قال في السيدة فاطمة البتول: أن فيها شبهاً من المنافقين الذين وصفهم الله بقوله (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) قال لعنة الله عليه: فكذلك فعلت هي إذ لم يعطها أبو بكر من ميراث والدها صلى الله عليه وآله وسلم، أما عليّ فقال فيه أنه أسلم صبياً وإسلام الصبي غير مقبول على قول، فراراً من إثبات أسبقيته للإسلام وجحوداً لهذه المزية، وأنه خالف كتاب الله تعالى في سبع عشرة مسألة وأنه كان مخذولاً حيثما توجه وأنه كان يحب الرياسة ويقاتل من أجلها لا من أجل الدين وأن كونه رابع الخلفاء الراشدين غير متفق عليه بين أهل السٌّنة.. وزعم قبحه الله أن علياً مات ولم ينس بنت أبي جهل التي منعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج بها، بل فاه في حقه بما هو أعظم من هذا، فحكى عن بعض اخوانه المنافقين أن علياً حفيت أظفاره من التسلق على أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل، في أمثال هذه المثالب التي لا يجوز أن يتهم بها مطلق المؤمنين فضلاً عن سادات الصحابة رضي الله عنهم فضلاً عن أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقبّح الله ابن تيمية وأخزاه وجزاه بما يستحق وقد فعل والحمد لله، إذ جعله إمام كل ضال مضل بعده، وجعل كتبه هادية إلى الضلال، فما أقبل عليها أحد واعتنى بشأنها إلا وصار إمام ضلالة في عصره) (1)
ومن أعلام المالكية الكبار الذين يشملهم التكفير السلفي الحافظ الشيخ محمد عبدالحي بن عبدالكبير الكتاني المغربي (المتوفى 1382 هـ)، بسبب أشعريته وصوفيته وموقفه من أهل الحديث عموما والسلفية خصوصا، فقد قال في بعض كتبه: (فإني أرى هذه الضلالات وما يتبعها من الشناعات التي كان أول مذيع لها وموضح لظلامها الشيخ أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى وعفا عنه قد كادت الآن أن تشيع وفي كل بلاد أهل السنة
__________
(1) البرهان الجلي، أحمد الغماري، ص 53.
كلكم كفرة (211)
تذيع...) (1)
وقال في كتابه الشهير (فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمسلسلات): (ومن أبشع وأشنع ما نقل عنه رحمه الله قوله في حديث ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل كنزولى هذا قال الرحالة ابن بطوطة في رحلته وشاهدته نزل درجة من المنبر الذي كان يخطب عليه وقال القاضي أبو عبدالله المقري الكبير في رحلته نظم اللآلي في سلوك الأمالي حين تعرض لشيخيه ابني الإمام التلمساني ورحلتهما ناظرا تقي الدين ابن تيمية وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته، وكان له مقالات شنيعة من إمرار حديث النزول على ظاهره وقوله فيه كنزولي هذا، وقوله فيمن سافر لا ينوي إلا زيارة القبر الكريم لا يقصر لحديث لا تشد الرحال اه، ونقله عنه حفيده أبو العباس المقري في أزهار الرياض وأقره مع أن تآليفه المتداولة الآن بالطبع ليس فيها إلا التوريك في مسألة إبقاء المتشابه على ظاهره مع التنزيه والتنديد بالمؤولين وهو على الإجمال مصيب في ذلك، وأما مسألة الزيارة فإنه انتدب للكلام معه فيها جماعة من الأئمة الأعلام وفوقوا إليه فيها السهام كالشيخ تقي الدين السبكي والكمال ابن الزملكاني وناهيك بهما وتصدى للرّد على ابن السبكي ابن عبد الهادي الحنبلي ولكنه ينقل الجرح ويغفل عن التعديل وسلك سبيل العنف والتشديد وقد ردّ عليه وانتصر للسبكي جماعة منهم الإمام عالم الحجاز في القرن الحادي عشر الشمس محمد علي بن علان الصديقي المكي له (المبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي) ومن أهل عصرنا البرهان إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري سماه (نصرة الإمام السبكي بردّ الصارم المنكي) وكذا الحافظ ابن حجر له (الإنارة بطرق حديث الزيارة) وانظر مبحثها من فتح الباري والمواهب اللدنية وشروحها...) (2)
__________
(1) شواهد الحق، ص 14.
(2) فهرس الفهارس والأثبات، ج 1 ص 227.
كلكم كفرة (212)
وهذا النص وحده كاف لإدانيته وتكفيره عند السلفية.
هذه مجرد نماذج عن تكفير السلفية لكبار علماء المالكية في المجالات المختلفة، ويقاس عليهم غيرهم.. لأن إحصاء ذلك مستحيل لكثرته، وعلى العموم يمكن إطلاق القول بأن الأصل في كل متمذهب عندهم بمذهب مالك الكفر، وحتى يخرج منه يحتاج إلى إثبات، لأن أكثر علماء المالكية إن لم نقل كلهم كان له صلة بالمذهب الأشعري، أو يقول بالتأويل، بالإضافة للبعد الصوفي الذي شمل معظم متأخري المالكية، بالإضافة للبعد القبوري نتيجة تعظيم المالكية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللأولياء والصالحين.
وهي من المدارس التي شمل التكفير السلفي أكثر أعلامها، إن لم نقل كلهم، وقد نص على بعض النماذج من ذلك صراحة الشيخ سليمان بن سحمان، فقد صرح بتكفير السبكي والرملي شارح المنهاج فقال: (فهذا الرجل الشهاب الرملي إن كان من المعروفين بالعلم لأني لا أعرف حاله فهو من جنس السبكي وأضرابه الغالين الذين يصنفون في إباحة الشرك زاعمين أن ذلك من تعظيم الرسول ثم لو كان الرملي من أهل العلم.. هذا يوجب كفره وارتداده) (1)
فتطبيق هذا النص وحده على أعلام الشافعية كاف في تكفير جميع المدرسة، ذلك أن أكثر علماء الشافعية إن لم نقل كلهم كانوا إخوانا للسبكي والرملي، أو نسخا مشابهة لهما.. وحتى الذين يرضى عنهم السلفية مثل ابن حجر العسقلاني، فقد رأينا تصريحاتهم وتلميحاتهم في تكفيره، ومثله النووي، وسنرى تكفيرهم له في هذا المبحث.
بل قد صرح بعضهم بتكفير الشّافعي صاحب المذهب نفسه باعتباره قبوريا متصوّفا يزكّي أبا حنيفة، ومن زكى الكافر كافر، فقد قال: (الشّافعي العاذريّ الارتيابيّ المرجئ
__________
(1) الصواعق المرسلة، 260..
كلكم كفرة (213)
المذهبيّ الجلد قبوري متصوّف يزكّي أبا حنيفة الّذي أجمع السّلف على تكفيره. وترحّمه عليه في كتابه [الأمّ] يبيّن أنّ تضليله له عنى به في أقصى الحالات تبديعا دون تكفير) (1)
واستدل على قبوريته بما رواه علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: (إنى لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائرا - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى) (2)
بالإضافة إلى هذا فقد اتهم بالتشيع، واستندوا في ذلك كما ينقل الذهبي إلى موافقته الشيعة في عدة مسائل فقهية كالجهر بالبسملة والقنوت في صلاة الصبح والتختم باليمين (3).
وقد قال عنه الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي: (هو ثقة، صاحب رأي ليس عنده حديث، وكان يتشيع)، وقد علق عليه الذهبي بعد أن نقل ذلك عنه بقوله: (فكان العجلي يوهم في الإمام أبي عبد الله التشيع لقوله:
إن كان رفضاً حب آل محمد... فلشهد الثقلان أني رافضي (4)
بل إن يحيى بن معين ـ إمام الجرح والتعديل على الإطلاق عند السلفية ـ حكم على الشافعي بأنه ليس بثقة، ومثله المحدث أبو عبيد القاسم بن سلام.
قال ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله]: (ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضاً قوله في الشافعي أنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل: أن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي. فقال أحمد: ومن أين يعرف يحيى الشافعي، وهو لا يعرف ولا يقول ما يقول الشافعي أو نحو هذا، ومن جهل شيئاً عاداه.. وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: الشّافعي العاذريّ المرجئ المذهبيّ الجلد قبوري متصوّف يزكّي أبا حنيفة، مدونة الموحدين الغرباء.
(2) تاريخ بغداد (1/ 123)
(3) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم ص 32.
(4) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم ص 32.
كلكم كفرة (214)
يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل، وقال له: لم تر عيناك قط مثل الشافعي) (1)
أما النووي ـ شارح صحيح مسلم وغيره ـ فحاله لا يختلف عن حال ابن حجر، ذلك أن السلفية يرجعون كثيرا إلى كتبه، ويستدلون بها على خصومهم، وهذا ما جعلهم في حرج من التصريح بكفره، وإن كانوا يلمحون لذلك.
وقد كتب بعضهم كتابا في إثبات كفره، وفي الرد على السلفية المميعة والمرجئة ـ كما يذكر ـ وهو يلزمها بلوازم أقوالها في غيره، لأنه لامعنى أن يفرق بين الناس في الأحكام الشرعية.
والكتاب بعنوان [بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية]، وهو لإبراهيم بن رجا الشّمّريّ، وقد قال في مقدمته في بيان وجوب تسمية المبتدعة والتحذير منهم: (والمبتدع حقه الإهانة والثناء بالشر والتحذير والحذر، قال طاووس للناس لما رأى مبتدعاً يطوف في البيت: (هذا فلان، فأهينوه)، والعمل بهذه الواجبات والسنن متوقفة على معرفة أصحابها ومعرفتهم متوقفة على معرفة سنن السلف ومنهجهم في هذا الباب، فصار الأمر في غاية الأهمية والضرورة لتحقيق هذا المطلوب والتقرب إلى الله عز وجل به، لأجل هذا وغيره صنف الأئمة مصنفات مستقلة في بيان حال أهل الزيغ والكلام، وذكروا في مقامات تبيين السنة أئمة السنة بأسمائهم، وجعلوا حب المرء وذكره لهم علامة على سنيته، وكذلك ذكروا رؤوس المبتدعة بأسمائهم وجعلوا ذكرهم علامة على ابتداع ذاكرهم، وقد قال الوليد الكرابيسي –وصدق- في وصف أهل السنة: (ألم تروا إلى الواحد منهم يجيء إلى الرجل الجليل فيبدعه، ويمزق في وجهه)، هكذا هم أهل السنة ساروا على ما كان يبايع به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من (أن يقولوا الحق أينما كان ولا يخافوا في الله لومة لائم)، فالواجب على كل
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، ج 2 ص 160.
كلكم كفرة (215)
متبع صادق في اتباعه إعمال هذا المنهج في الحكم على الصغير والكبير مهما عظمت منزلت المرء عند بعض الخلق فلا يخاف السني في الله لومة لائم) (1)
وبناء على هذه الدوافع التي سنها السلفيون الأوائل، والتي لا يكون السلفي سلفيا إلا بمراعاتها، رد على المتقلبين من السلفية الذين يكيلون بالمكاييل المزدوجة، فيظهرون سلفيتهم مع من شاءوا، فيكفرونهم، ويتميعون مع آخرين، فيسكتون عنهم، فقال: (وبما أنه قد أثيرت في السنوات الأخيرة مسألة الحكم على بعض الأشخاص والموقف منهم ومن آثارهم من تصانيف ومؤلفات، وقد تناولها البعض بشيء من العاطفة وعدم الضبط لأصول أهل السنة في باب التبديع والحكم على المخالف مما نتج عنه فساد عظيم من نشر أصول بدعية وقواعد تمييعية لو طبقت لم تكد أن تبقي على الأرض مبتدعا، ولأظهرت منهج السلف عند إلتزامها –عياذا بالله- بصورة المنهج المتعسف الظالم الذي يخمد الحسنات ويطوي الخيرات ويذكر الهنات ويسقط العلماء بالزلات، ولأظهر أهله –وهم سلفنا الكرام- بصورة المنحرفين عن الطريق المستقيم وعن العدل حين الحكم في الرجال، والله المستعان على زمان فشت فيه البدع، وظهرت فيه الضلالات والموبقات حتى أصبح يصرخ ويقال لمن دعا إلى السنة (غيرت السنة)، ووالله (لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف، ما عرف غير هذه القبلة) كما قال أبوقلابة رحمه الله تعالى في زمان هو خير من زماننا هذا) (2)
بناء على هذه الدوافع السلفية ذكر الكاتب دوافعه لاختيار النووي كشخصية تمثل المدارس الفقهية في غالب تاريخها، فقال: (لذا ارتأيت نشر هذه الرسالة مشاركة في الخير، ومن باب عدم حقران شيء من المعروف.. وقد اخترت من بين تلك الأسماء المشهورة والتي كانت سببا في إيقاع كثير من الشرور بناءا على الموقف منها: شارح صحيح الإمام
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 8.
(2) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 9.
كلكم كفرة (216)
مسلم يحيى بن شرف المعروف بالنووي، وذلك لظهور حاله عند من خبره، مما يجعل النزاع لأجله والتبديع والتجديع للمحذر من طريقته والمبين لمنهجه نزاعا غريبا أجنبيا عن العلم وأهله لا ينبغي تركه من غير تحقيق المسائل التي تعلقت به والتي ترتب من ورائها ما ترتب من الآثار، وقد اختار قوم –ممن عرفوا الحق- الدعة والسلامة -فيما يظنونه – في ترك البيان لحقيقة هذه المسائل خوفا من ألسن الطاعنين من الجهلة والسفهاء وما أكثرهم، وهم في هذا قد وقعوا في شر عظيم وغش مبين) (1)
بناء على هذا قسم فصول الكتاب عارضا لأقوال النووي على محكات التكفير السلفية، والتي على أساسها كفر الجهمية والمعتزلة والصوفية وغيرهم.. وهو يطالب في ذلك كله أصحابه من السلفية الجبناء ـ كما يسميهم ـ بالتصريح بدل التمليح، وبترك الكذب على أنفسهم وعلى الناس.
وقد بدأ ذلك كله بذكر عقيدته ـ الجهمية كما يسميها ـ في العلو والجهة، فنقل من قوله في (شرح مسلم) قوله في حديث الجارية: (هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان تقدم ذكرهما مرات في كتاب الإيمان، أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات، والثاني تأويله بما يليق به فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم فلما قالت في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان..) (2)
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 9.
(2) شرح مسلم: 5/ 24.
كلكم كفرة (217)
ثم نقل عن القاضي عياض قوله: (لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم، فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول في السماء أي على السماء، ومن قال من دهماء النظار والمتكلمين وأصحاب التنزيه بنفي الحد واستحالة الجهة في حقه سبحانه وتعالى تأولوها تأويلات بحسب مقتضاها) (1)
وقد علق الشمري على هذا النص بقوله: (حاصل هذا التقرير أن النووي لا يثبت العلو للعزيز القهار، وأنه يدور في كلامه الآنف الذكر على ما دارت حوله الجهمية الأوائل، قال محمد بن يحيى بن سعيد القطان: كان أبي وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: (الجهمية تدور أن ليس في السماء شيء)، وأخرج عبدالله في السنة عن حماد بن زيد قال: (إن هؤلاء الجهمية إنما يحاولون يقولون: ليس في السماء شيء)، وقال جرير بن عبدالحميد: (كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله).. وعلق البخاري في خلق أفعال العباد وصححه ابن القيم عن وهب بن جرير قوله: (إياكم ورأي جهم، فإنهم يجادلون أنه ليس في السماء شيء، وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر)، فالنووي هنا إنما جنح في هذه المسألة إلى رأي جهم عياذا بالله) (2)
وبناء عليه حكم عليه بالكفر، وفي الصفحات الأولى من كتابه، ومن نص واحد من النصوص التي ذكرها في شرحه على صحيح مسلم.. وما زاد على ذلك، فهو تكفير على تكفير، وتضليل على تضليل.
__________
(1) شرح مسلم: 5/ 24.
(2) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 12.
كلكم كفرة (218)
وهكذا تعامل مع موقفه من حديث النزول، فقد قال النووي فيه: (هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء.. ومختصرهما أن أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد.. ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق.. والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين: أحدهما تأويل مالك بن أنس وغيره معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف) (1)
وقد علق عليه بذكر كلام السلف في منكر النزول، واعتباره جهميا، ثم قال: (سبق بيان بطلان الزعم أن مذهب السلف التفويض وزاد هنا بلية أخرى وهي قوله (مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات)، وهذا كذب آخر على السلف فإن الحركة قد أثبتها عامة السلف والقول بنفيها هو المشهور عند الجهمية ومن وافقهم، يقول حرب الكرماني في السنة: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أوعاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم... والله تبارك وتعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا
__________
(1) شرح مسلم: 6/ 36.
كلكم كفرة (219)
يغفل، يتكلم ويتحرك) (1)
ونقل عن ابن تيمية في تكفير من يؤول هذا قوله: (.. وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد ين منصور، وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم) (2)
وبعد أن أتى بالنصوص الكثيرة الدالة على تكفير السلف ـ بمن فيهم ابن تيمية ـ لمن أنكر النزول، أو أوله، أو فوض فيه، علق عليها بقوله ـ منكرا على من يسميهم المميعة الذين يكيلون بالمكاييل المزدوجة، فيوزعون التكفير بحسب المصلحة ـ: (فهذا شيء من أقوال السلف فيمن يرد حديث النزول، أما حاله عند كثير من الخلف هو: أن هذا لا ينقص من مكانته ولا علمه ولكل جواد كبوة، وليس من شرط العالم أن لا يزل.. وما دام قدم في خدمة السنة ما قدم فهو إمام) (3)
ثم رد على هذه الأقوال التي انتهجها أصحاب التكفير التلميحي بقوله: (فأقول نعم قولكم (هذا لاينقص من مكانته) هذا على طريقة الخلف، أما على سنن السلف فإن الأمر مختلف فإن تلبس المرء بالبدع مما ينقص مكانته عندهم بلا مثنوية كما قال السجزي عنهم: كان في وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، واتباع على مذهبهم لكنهم وقعوا في شيء من البدع
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 63.
(2) درء تعارض العقل والنقل (2/ 7)
(3) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 63.
كلكم كفرة (220)
إما القدر، وإما التشيّع أو الإرجاء عرفوا بذلك فانحطت منزلتهم عند أهل الحق.. وأما إدخال هذه البدع الكفرية في قول من يقول (لكل جواد كبوة) باطل لازمه الطعن في السلف، إذ الكلام هنا عن (الكبوات الكبرى =البدع والضلالات الكبرى) فمن زعم أن لكل عالم كبوات من هذا الجنس فقد طعن في العلماء، وعلى رأس العلماء السلف الكرام، فانظر كيف وقع هؤلاء القوم في الطعن بالعلماء دفاعاً عن المنحرفين.. أما أنه (ليس من الشرط العالم أن لا يزل) فصحيح، ولكن من شرطه ألا يكثر منه أو يفحش في الزلات العظام، وإلا فما الفرق بين العالم والجاهل حينئذ، بل قد يصير العالم جاهلاً بزلة واحدة.. كما أنه قد يرفع اسم الإيمان –لا الإسلام- بزلة واحدة.. ثم إن العالم حقاً هو الفقيه المتبع لا المبتدع المخالف للسنة.. وأما قول القائل في معرض الكلام عمن وقع في بدع كبرى (كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه) غلو في الإرجاء، إذ جَعل الوقوع في هذه الضلالات من النبل، وهذا من أقبح الإرجاء عند (مرجئة التبديع=الذين لا يريدون أن يبدعوا إلا المعاند المتعمد في مخالفة الشرع).. وأما قولهم (ما دام قدم في خدمة السنة ما قدم فهو إمام) أقول نعم، هذا على طريقة المنتكسين من الخلف في حصانتهم البدعية لكل من توسع في معرفة المعلومات، أما سلفنا الصالح فوربي قد بدعوا وضللوا أناساً أفضل من الشارح بكثير كيعقوب بن شيبة والكرابيسي وداود الظاهري وغيرهم، ورضي الله عن حذيفة القائل (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصير بها منافقا، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرات).. فالرجل قد يخرج بكلمة واحدة من السنة بل من الإسلام) (1)
وهكذا تعامل معه في موقفه من تأويل صفة العين ـ كم يراها السلفية ـ كما نص على ذلك في شرحه لما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى): (معناه أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث وعن جميع
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 79.
كلكم كفرة (221)
النقائص وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة فينبغي لكم أن تعلموا هذا وتعلموه الناس لئلا يغتر بالدجال من يرى تخييلاته وما معه من الفتنة) (1)
وقد علق الشمري على هذا تعليقا مطولا بإيراد أقوال السلف في تنكير منكر هذا، أو مؤوله، ومما جاء فيه قوله: (هذا تعطيل لدلالة الحديث هربا من إثبات الصفة، فإن صفة العين ثابتة بالكتاب والسنة والآثار وقد أجمع العلماء وأئمة الدين على إثباتها.. قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: (فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبت الخالق البارئ لنفسه، من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله، ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله مبينا عنه، عز وجل، في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].. وقد قال ابن عثيمين في عقيدة أهل السنة والجماعة: (وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدجال (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) (2)، وبهذا يعلم أن النووي في تأويله لهذه الصفة أيضا سلك مسلك الجهمية ومن وافقهم وخالف الكتاب والسنة والإجماع) (3)
وبعد أن ذكر الشمري فصولا كثيرة تبين وقوع النووي في التجهم والتعطيل، وأنه لا يصح السكوت عن تكفيره، كما لم يصح السكوت عن تكفير غيره، عقد فصلا خاصا بتوحيد الألوهية عند النووي، ليثبت فيه وقوعه في الشرك الجلي.. ليضم إلى تجهمه وتعطيله الشرك الجلي المخرج من الملة.
وقد قدم لذلك الفصل بما تنص عليه الرؤية السلفية، وخاصة الوهابية من تعظيم هذا النوع من التوحيد، فقال: (فإن من المعلوم لدى كل موحد –إن شاء الله- أن الله
__________
(1) شرح النووي على مسلم 2 - 236.
(2) عقيدة أهل السنة والجماعة ص 12.
(3) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 84.
كلكم كفرة (222)
عزوجل خلق العباد لعبادته وتعظيمه.. وقد بين نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التوحيد أتم بيان، وحمى جناب التوحيد أتم حماية وسد وسائل الشرك أكمل إسداد، وهذه المسألة =مسألة سد الوسائل المفضية إلى الشرك ـ مسألة عظيمة، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب الفتنة في القبور والغلو فيها، وبسبب الغلو في الصالحين، والغلو في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب هذه الأمور، منذ أن بنيت المساجد على القبور، ومنذ أن ظهر التصوف في هذه الأمة، والشرك يكثر ويتعاظم في هذه الأمة الا من رحم الله فالأمر خطير جدا.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة عند القبور، ونهى عن الدعاء عند القبور، ونهى عن البناء على القبور، ونهى عن العكوف عند القبور، واتخاذ القبور عيدا، إلى غير ذلك، كل هذا من الوسائل التي تفضي إلى الشرك، وهي ليست شركا في نفسها، بل قد تكون مشروعة في الأصل، ولكنها تؤدي إلى الشرك بالله عز وجل، ولذلك منعها صلى الله عليه وآله وسلم.. وكره صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق [الإستغاثة] عليه فيما يستطيعه، ويقدر عليه، حماية لجناب التوحيد، وسدا لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق، فحماية جناب التوحيد من مقاصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة.. فالأمر في هذا الباب كما قال عبداللطيف آل شيخ: حماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية: من أكبر المقاصد الإسلامية) (1)
ثم ذكر من أدلة وقوع النووي في الشرك الجلي قوله في [المجموع] مبينا ما يستحب أن يقوله من يزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وقف أمام قبره، فقد قال: (ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا - يعني سائر الشافعية - عن العتبي مستحسنين له، قال: (كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 190.
كلكم كفرة (223)
جاءوك فاستغفروا الله وأستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي) (1)
ثم علق على هذا بقوله: (وهذا القول خلل في التوحيد من الشارح –كفى الله المسلمين شره- فإن قوله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يتوسل به.. يستشفع به..)، ألفاظ يستمعلها هؤلاء المتصوفة ومرادهم منها السؤال والاستغاثة بالمخلوقين لا مجرد التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم حال سؤال الله تعالى، ولا يستغربن مستغرب عدي للشارح من المتصوفة فإنه متصوف جلد، وله كتاب اسمه [المقاصد] ذكر فيه أصول التصوف الخمسة، كما أنه قد أخذ الطريقة الصوفية من شيخه -في الخزعبلات! - ياسين المراكشي، كما قال السخاوي في كتابه [المنهل الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي] عن النووي نقلا عن السبكي في الطبقات الكبرى: شيخه في الطريق [قلت: أي التصوف]: الشيخ ياسين المراكشي، الماضي، ويشهد له ما أسلفناه عن الذهبي في ترجمته: أن الشيخ كان يخرج إليه ويتأدب معه ويزوره، ويرجو بركته ويستشيره في أمور) (2)، وللنووي أذكار مشهورة لايزال المتصوفة يرونها بأسانيدهم متصلة إليه، فهذه حقيقة لا شك فيها عند المنصفين المطلعين، ولكن بعض الناس حالهم كما قال الله تعالى {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية}) (3)
ثم لخص حكمه على النووي بناء على ذلك النص، فقال: (والمقصود وبناءا على ما تقدم يقال هنا: إن أراد الشارح بالتوسل والاستشفاع أي: سؤال الله عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوسلا بذاته صلى الله عليه وآله وسلم فهذه بدعة شركية ووسيلة من وسائل الشرك الأكبر عياذا بالله، وإن أراد الشارح الاستدلال بهذا الأثر على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستغاثة به –وهي التي يسميها
__________
(1) المجموع، 8 – 274.
(2) المنهل الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي ص 5.
(3) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 191.
كلكم كفرة (224)
أصحاب الشارح من المتصوفة توسلا- فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، علما بأنه قد استدل غير واحد من الملاحدة بهذه القصة على دعاء الأموات والاستغاثة بهم منهم محمد الكسم وداود بن جرجيس وغيرهما من أهل الزندقة والشرك) (1)
هذه مجرد نماذج عن الموقف من فقيه محدث له وزنه في المذهب الشافعي خصوصا، وعند سائر المذاهب الإسلامية عموما.. ولا يخرج سائر فقهاء المدرسة الشافعية عن هذا النسيج، بل لعل فيهم من هو أكثر تطرفا بالنسبة للمواقف السلفية.
وسنذكر هنا بناء عليه نماذج أخرى، وخاصة منها تلك التي وقفت موقفا سلبيا من ابن تيمية وعقيدته.. وفي ذلك كفاية للدلالة على الكفر عند السلفية، لأن المنكر على ابن تيمية في العقيدة إما أن ينكر عليه في الصفات، فيكون بذلك جهميا مؤولا معطلا، أو ينكر عليه في الموقف من التوسل والاستغاثة والتبرك، فيكون بذلك قبوريا مشركا.
فمن هؤلاء الأعلام من الشافعية الذين يشملهم التكفير السلفي الفقيه الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد ابن الرفعة الشافعي المصري (المتوفى 710 هـ) الذي وصفه ابن قاضي شهبه الدمشقي في (طبقات الشافعية) بأنه (الشيخ العالم العلامة شيخ الإسلام وحامل لواء الشافعية في عصره) (2)، وقد كان من الذين انتدبوا لمناظرة ابن تيمية، وهذا يدل على خلافه معه في المسائل التي ذكرنا.
ومنهم المفتي قاضي القضاة الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن عبدالواحد الزملكاني الأنصاري الشافعي (المتوفى 727 هـ) الذي انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي تدريساً وإفتاء ومناظرة، وله مؤلفات في الردّ على ابن تيمية منها (العمل المقبول في زيارة
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 192.
(2) طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، ج 3 ص 66.
كلكم كفرة (225)
الرسول) (1)، وهو بذلك يصنف ضمن القبورية عند السلفية.
وقد ذكر ابن كثير ـ تلميذ ابن تيمية النجيب ـ معجزة تحققت لابن تيمية ـ تتعلق بابن الزملكاني، وكيف أن المنية عاجلته قبل عودته إلى الشام فمات في الطريق بسبب دعاء ابن تيمية، قال ابن كثير: (وكان من نيته الخبيثة إذا رجع إلى الشام متولياً أن يؤذي شيخ الإسلام ابن تيمية، فدعا عليه فلم يبلغ أمله ومراده فتوفي في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس) (2)
ومنهم المفتي المحدث الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن جهبل الحلبي (المتوفى 733 هـ)، وهو من علماء دمشق والقدس وكان مفتياً ومحدثاً ومعلماً، وصفه الذهبي قائلاً: (ابن جهبل العلامة، مفتي المسلمين) (3)، وله ردٌّ طويلٌ على ابن تيمية في نفي الجهة أورده السبكي في طبقات الشافعية الكبرى.. وذلك الرد وحده كاف لتكفيره عند السلفية.. فالجهة عندهم لا تقل عن التوحيد، بل تفوقه لأن منكر الجهة يقول بعدم الإله كما نص على ذلك سلفهم.
ومنهم الحافظ قاضي القضاة الشيخ تقي الدين علي السبكي الشافعي (المتوفى 756 هـ)، وهو من علماء الشافعية الكبار، بل هو مثلهم الأعلى، ويمثل طبقة كبيرة من العلماء في عصره ومن بعدهم إلى عصرنا الحالي.. ولذلك فإن تكفير السلفية له تكفير لكن من اتبعه أو استفاد منه أو اعتقد عقيدته.
ومن أهم ما يلزم السلفية بتكفيره زيادة على رميهم له ولأمثاله بالتجهم والتعطيل هو تلك المصنفات التي تجعله عندهم من القبورية والمشركين شركا جليا، فمن مؤلفاته:
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى، ج 5 ص 106.
(2) البداية والنهاية، ج 2 ص 2169.
(3) ذيل تاريخ الإسلام، ص 307.
كلكم كفرة (226)
(شفاء السقام في زيارة خير الأنام)، و(الدرة المضية في الردّ على ابن تيمية)، و(شنّ الغارة على من أنكر سفر الزيارة)
وسأنقل هنا من رسالته (الدرة المضية في الردّ على ابن تيمية) ما يلزم السلفية بالحكم عليه بمثل ما حكم ابن عبد الوهاب على محمد بن فيروز الحنبلي، والذي كفره بأقل مما قاله وفعله السبكي وإخوانه من الشافعية، فقد محمد بن عبد الوهاب في ابن فيروز: (ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة ومع هذا صنف مصنفاً أرسله إلينا قرر فيه هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح) (1)
أما السبكي فينكر ابن تيمية ومدرسته أصلا، فقد قال في [الدرة المضيئة]: (فإنه لما أحدثَ ابنُ تيمية ما أحدثَ في أصول العقائد، ونقضَ من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتِّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع...) (2)
وقال في كتابه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام): (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجواز ذلك وحُسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يُلبس فيه على الضعفاء الأغمار وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار.. وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل
__________
(1) الرسائل الشخصية (1/ 121)
(2) الدرة المضية، تقي الدين السبكي، ص 3.
كلكم كفرة (227)
قول لم يقله عالم قبله وصار به بين أهل الإسلام مُثلة) (1)
وقال في كتابه (فتاوى في فروع الفقه الشافعي) عن ابن تيمية: (وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به، ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه، كما في هذه المسألة، ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره، وخروجه عن الحد جداً، وهو كان مكثراً من الحفظ ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه، مع جسارته واتساع خياله، وشغب كثير، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس بإجماع المسلمين وولاة الأمور على ذلك ثم مات. ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت، ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون، ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم، ولكن للناس ضرورات إلى الجواب في بعض المسائل) (2)
هذه أمثلة مما قاله في بعض كتبه ورسائله، وهو يدل على أن صفات أتباع ابن تيمية من السلفية المعاصرين للسبكي لا يختلفون في أي شيء عن أتباع أتباع ابن تيمية بعدهم إلى عصرنا، وكيف يختلفون ومأكل عقولهم ومشربها واحد، وهو تلك الكتب المليئة بالحقد والكراهية على جميع المسلمين، بل على جميع البشر.
ومن أتباع المدرسة الشافعية الذين سلط عليهم السلفية سيف التكفير الإمام الحافظ المفتي الشيخ صلاح الدين خليل العلائي الدمشقي المقدسي (المتوفى 760 هـ)، الذي ألف كتابا في مشروعية زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرد على ابن تيمية في ذلك، وذلك ما يجعله قبوريا جلدا ـ كما يعبر السلفية ـ
__________
(1) شفاء السقام، تقي الدين السبكي، ص 171.
(2) فتاوى السبكي في فروع الفقه الشافعي، تقي الدين السبكي، ج 2 ص 163.
كلكم كفرة (228)
ومنهم الحافظ قاضي القضاة العز بن جماعة (المتوفى 767 هـ) الذي ذكر المؤرخون أنه وقّع على فتوى ابن تيمية بعدم جواز شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأنبياء بقوله: (القائل بهذه المقالة ضال مبتدع) (1).. وذلك يكفي لاعتباره قبوريا مشركا، بالإضافة لتجهمه وتعطيله الذي لا يخلو منه شافعي صادق الاتباع للشافعي.
ومنهم الشيخ عفيف الدين أبو السعادات اليافعي المكي الشافعي، (المتوفى 768 هـ) صاحب الكتاب التاريخي المشهور (مرآة الجنان وعبرة اليقظان)، وقد أرخ فيه لسنة وفاة ابن تيمية بقوله: (وفيها مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية معتقلاً، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة والورق.. سمع من جماعة وبرع في حفظ الحديث والأصلين، وكان يتوقد ذكاء ومصنفاته قيل أكثر من مائتي مجلد، وله مسائل غريبة أنكر عليه فيها وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنة، ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطعنه في مشائخ الصوفية العارفين كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي والأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري والشيخ ابن العريف والشيخ أبي الحسن الشاذلي وخلائق من أولياء الله الكبار الصفوة الأخيار.. وكذلك عقيدته في الجهة وما نقل عنه فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك مما هو معروف في مذهبه) (2)
وهذا النص وحده كاف عند السلفية لإدانيته بالتصوف والتجهم والقبورية والشرك الجلي والطعن في المقدسين المعصومين من أهل الحديث.
ومنهم قاضي القضاة المحدث الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي (المتوفى 771 هـ)، صاحب (طبقات الشافعية الكبرى) وغيرها من المؤلفات التي لا يزال الشافعية وغيرهم
__________
(1) دفع شبه من شبه وتمرد، أبو بكر الحصني، ص 325.
(2) مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبدالله بن أسعد اليافعي، ج 4 ص 209.
كلكم كفرة (229)
يعتمدونها، وهو لا يختلف عن والده في عقيدته أو مواقفه من ابن تيمية.
وقد قال في ترجمته لوالده الحافظ السبكي الذي مر معنا في هذا المبحث، والذي كان معاصرا لابن تيمية ومن المتصدين له: (إمامٌ ناضح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنضاله وجاهد بجداله ولم يلطخ بالدماء حد نصاله، حمى جناب النبوة الشريف بقيامه في نصره وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره فلم يخط على بعد الديار سهمه الراشق ولم يخف مسام تلك الدسائس فهمه الناشق، ثم لم يزل حتى نقى الصدور من شبه دنسها ووقي من الوقوع في ظلم حندسها، قام حين خلط على ابن تيمية الأمر وسول له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر حين سد باب الوسيلة يغفر الله له ولا حرمها، وأنكر شدّ الرحال لمجرد الزيارة لا واخذه الله) (1)
ومنهم المحدث الكبير الذي يرجع إليه السلفية كثيرا في كتبه ومنظوماته الحديثية مع أنهم يكفرونه الحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي (المتوفى 804 هـ) الذي نقل عنه تلميذه الحافظ بدر الدين العيني في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) ما يدل على كونه قبوريا جلدا ـ كما يعبر السلفية ـ فقد قال ناقلا عنه: (.. وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية، وقد سأل أبو هريرة الحسن أن يكشف له المكان الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سرته فقبله تبركاً بآثاره وذريته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان ثابت البناني لا يدع يد أنس حتى يقبلها ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أيضاً: وأخبرني الحافظ أبو سعيد بن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ، أن الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك. قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت أحمد عندي جليل يقوله؟ هذا كلامه
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى، ج 5 ص 310.
كلكم كفرة (230)
أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) (1)
وقيمة هذا النص أنه يضع كلا الإمامين الكبيرين الشافعي وأحمد تحت سطوة السيف التكفيري السلفي، خاصة وأن الذي ذكر هذا موثوق عندهم في الفن الذي يتصورون أنهم يحتكرونه علم الحديث.
وقد ذكرنا سابقا أن الرؤية التي يتصورها أصحاب المذاهب لأئمة مذاهبهم تختلف اختلافا جذريا عن الرؤية السلفية، ولهذا فإن من الحيل التي يستعملها من ينفي التكفير عن السلفية هو قولهم: نحن لا نكفر أصحاب مالك ولا الشافعي.. وهم يريدون بذلك أصحابهم الذين يتصورون أنهم يتبعون أولئك الأئمة بحسب الصورة السلفية.
وهكذا عندما يقولون: لا نكفر أصحاب الأشعري، فالأشعري عندهم مختلف عن أشعري الأشعرية ذلك أنهم ينسبون إليه كتاب الإبانة الذي لا يختلف عن كتب ابن بطة والبربهاري، وأصحاب المدرسة الأشعرية ينكرون ذلك الكتاب.. والعبرة يما يقول أصحاب المدرسة، لا بما يقول غيرهم.
ومنهم الحافظ الشيخ ولي الدين نجل الحافظ زين الدين العراقي (المتوفى 826 هـ) الذي كفر كما كفر والده بسبب انتقاداته على ابن تيمية، وذلك في كتابه (الأجوبة المرضية في الردّ على الأسئلة المكية)
ومنهم الإمام الفقيه تقي الدين أبي بكر الحسيني الحصني الشافعي (المتوفى 829 هـ) الذي تهجوه كل كتب السلفية بسبب انتقاداته الشديدة على ابن تيمية، ومن تصريحاته التي تثبت قبوريته ـ كما يعبرون ـ قوله: (زيارة قبر سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرّم
__________
(1) عمدة القاري، بدر الدين العيني، ج 9 ص 349.
كلكم كفرة (231)
ومجّد من أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سُنة من سنن المسلمين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه خبث ومرض المنافقين، وهو من أفراخ السامرة واليهود وأعداء الدين من المشركين، ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شدّ الرحال إليه على ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سواء في ذلك الزرافات والوحدان، والعلماء والمشايخ والكهول والشبان، حتى ظهر في السنين الخداعة مبتدع من حران لبّس على أتباع الدجال ومن شابههم من شين الأفهام والأذهان، وزخرف لهم من القول غروراً كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبل أهل الإيمان، وأغواهم عن الصراط السوي إلى بُنيات الطريق ومدرجة الشيطان فهم بتزويقه في ظلمة الخطأ والإفك يعمهون، وعلى منوال بدعته يهرعون، صُمّ بُكم عُميّ فهم لا يعقلون) (1)
وقال في مقدمة كتابه (دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد) الذي ألفه في الرد على ابن تيمية، وفي حيله التي كان يعتمدها هو وأتباعه: (.. ثم اعلم أن مثل هؤلاء لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصاً منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس، فيقول له ما عقيدة إمامك؟ فإذا قال: كذا وكذا قال: أشهد أنها حق، وأنا مخطيء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفض المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه، وأنه قطع الجميع، ألا تروه كيف خرج سالماً؟ حتى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير، لا سيما من العوام، فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عز وجل في سجن الزندقة والكفر. ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن، حقاً كان أو باطلاً ولو بالأيمان الفاجرة، سواءً
__________
(1) دفع شبه من شبه وتمرد-تحقيق عبدالواحد مصطفى (ص: 294)
كلكم كفرة (232)
كانت بالله عزوجل أو بغيره) (1)
وقال ـ مبينا بعض خدع ابن تيمية، والتي لا يزال السلفية المعاصرون يستعملونها ـ: (ثم اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يؤكد في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئاً من معتقده الفاسد، فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق. وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان، ويسمى شخصاً بعيد المسافة، كل ذلك خديعة ومكراً وتلبيساً، لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) (2)
وقال: (إن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر من العلم، لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق، وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه، مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشيخين وتكفير عبدالله بن عباس وأنه من الملحدين، وجعل عبدالله بن عمر من المجرمين وأنه ضال مبتدع) (3)
ونحن وإن كنا لا نحبذ التكفير من أي طرف من الأطراف، لكن قيمة كتاب الحصني أنه كشف تلك الدسائس والحيل التي كان ابن تيمية يمارسها، والتي لا يزال أتباعه للأسف يفعلونها بحذاقة.. وكيف لا يفعلوها وهو إمامهم المقتدى، وشيخ إسلامهم
__________
(1) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 314.
(2) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 315.
(3) دفع شبه من شبه وتمرد، ص 343.
كلكم كفرة (233)
المعتبر.
ومنهم قاضي القضاة الشيخ نجم الدين عمر بن حجي السعدي الشافعي (توفي 830 هـ)، فمن أقواله في ابن تيمية ـ التي تدينه عند السلفية، بل تكفره ـ: (هذا الرجل المسئول عنه في الاستفتاء كان عالماً متعبداً، ولكنه ضلّ في مسائل عديدة عن الطريق المستقيم والمنهج القويم، لا جرم سجن بسجن الشرع الشريف بعد الترسيم وأفضى به إعجابه بنفسه إلى الجنوح إلى التجسيم الذي ابتدعته اليهود الذين أشركوا بالواحد الأحد المعبود. وتغالى فيه أصحابه وأتباعه حتى قدموه على جميع الأئمة وعلى علماء الأمة. وهجر مذهب الإمام أحمد الذي أتباعه بالإجماع أولى وأحمد، ورد عليه العلماء المحققون. وسجنه حكام الشريعة الأقدمون ونودى بدمشق أن لا ينظر أحدٌ في كلامه وكتبه وهرب كلٌّ من أتباعه ومَن هو على مذهبه واعتقاده. والعجب كل العجب من جُهَّال حنابلة هذا الزمان يغضبون إذا قيل لهم: (أخطأ ابن تيمية)، وربما اعتقد بعضهم أن قائل ذلك ملحد، ولا يغضبون إذا قيل لهم: أخطأ الشافعي وأبو حنيفة ومالك والإمام أحمد. اللهم اشهد أني برئ من كل مجسم ومشبه ومعطل وإباحي وحلولي واتحادي وزنديق وملحد ومن كل من خالف اعتقاد أهل السنة والجماعة. وبرئ من كل من منع من زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن شدّ الرحل إليه ومن زيارة قبور الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين. اللهم وإني أسألك وأتوسل إليك بسيد الأولين والآخرين رسول رب العالمين والأولياء والصالحين أن تحييني على الإسلام وتميتني على الإيمان على اعتقاد أهل السنة والجماعة سالماً من اعتقاد أهل الزيغ والضلال والبدع والإضلال.) (1)
ومنهم الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني (المتوفى 923 هـ) صاحب (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية)، وهو بالمعايير السلفية بالإضافة لتجهمه وتعطيله قبوري
__________
(1) الفتاوى السهمية، ص 45.
كلكم كفرة (234)
مشرك، فقد قال في (المواهب اللدنية) عن ابن تيمية: (وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في (شفاء السقام) فشفى صدور المؤمنين) (1)
ومنهم الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي (المتوفى 974 هـ) المشهور بانتقاداته الشديدة على ابن تيمية، وفيها ما يكفي للدلالة على تكفيره ـ على حسب المعايير السلفية ـ فمن أقوال في ابن تيمية: (ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله، وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية، ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب كما سيأتي، والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، عامله الله بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله.. وأخبر عنه بعض السلف أنه ذكر عليّ بن أبي طالب في مجلس آخر فقال: إن علياً أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان، فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عليّ بزعمك) (2)
وقال في (الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم): (فإن قلت كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله؟.. قلت: من ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شيء
__________
(1) المواهب اللدنية، القسطلاني، ج 4 ص 574.
(2) الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي، ص 144.
كلكم كفرة (235)
من أمور الدين عليه، وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله تعالى وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه، وباه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان.. حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس منزه سبحانه وتعالى عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه العظائم والكبائر، وأخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، وخمدت تلك البدع وزالت تلك الظلمات، ثم انتصرت له أتباع لم يرفع الله تعالى لهم رأساً، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) (1)
ومنهم المحدث محمد بن عبدالرؤوف المناوي الشافعي (المتوفى 1031 هـ) صاحب (فيض القدير شرح الجامع الصغير) الذي يعتبر مرجعا كبيرا في شرح الحديث وتخريجه، والسلفية ـ وخصوصا الألباني ـ يرجعون إليه كثيرا، وإن كانوا يكفرون صاحبه.
بل إنه هو نفسه يكفرهم، فقد قال في شرح حديث (أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته): (والكلام كله في مبتدع لا يكفر ببدعته، أما من كفر بها، كمنكر العلم بالجزئيات، وزاعم التجسيم أو الجهة أو الكون، أو الاتصال بالعالم أو الانفصال عنه، فلا يوصف عمله بقبول ولا ردّ لأنه أحقر من ذلك) (2)، وهذا النص وحده كاف في تكفيره لهم، وتكفيرهم له.
ومنهم المحدث الشيخ محمد بن علي الصديقي المكي الشافعي (المتوفى 1057 هـ
__________
(1) الجوهر المنظم، ص 29.
(2) فيض القدير، للمناوي، ج 1 ص 96.
كلكم كفرة (236)
صاحب (المبرد المبكي في الردّ على الصارم المنكي)، في الرد على كتاب ابن عبدالهادي تلميذ ابن تيمية، والذي يعتمد عليه السلفية في مناقب شيخهم.. والكتاب وحده كاف في الدلالة على تكفيره بمعاييرهم المختلفة: التجهم والتعطيل والقبورية وغيرها.
ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي المصري، (المتوفى 1069 هـ) صاحب (نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض)، فقد قال في فصل عقده لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم: (وزيارة قبره سنة مأثورة مستحبة مجمع عليها، أي على كونها سنة، ولا عبرة بمن خالف فيها كابن تيمية.. واعلم أن هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم إلى مقالته إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها، وصنف فيها السبكي مصنفاً مستقلاً وهي منعه من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشدّ الرحال إليه.. فتوهم أنه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها، فإنها لا تصدر عن عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله عزوجل) (1)
ومنهم الشيخ رضوان العدل بيبرس الشافعي المصري (المتوفى 1303 هـ) وهو الذي قال مؤرخا للوهابية في كتابه (روضة المحتاجين لمعرفة قواعد الدين): (ثم ظهر بعد ابن تيمية محمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر، وتبع ابن تيمية وزاد عليه سخفاً وقبحاً، وهو رئيس الطائفة الوهابية قبحهم الله، وتبرأ منه أخوه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب وكان من أهل العلم) (2)
ومنهم المحدث عبد ربه بن سليمان القليوبي الأزهري، (كان حياً في عام 1377 هـ) صاحب كتاب (فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن ضل عن الصواب)، وهو كتاب ضخم في ستة أجزاء في الردّ على ابن تيمية وابن عبدالوهاب والسلفية جميعا، وذلك وحده كاف لإدانته وتكفيره.
__________
(1) نسيم الرياض، أحمد بن محمد الخفاجي، ج 5 ص 96.
(2) روضة المحتاجين لمعرفة قواعد الدين، ص 384.
كلكم كفرة (237)
ومن كلامه في ابن تيمية قوله: (ابن تيمية الذي أجمع عقلاء المسلمين أنه ضال مضل، خرق الإجماع وسلك مسالك الابتداع، الذي ما ترك أمراً مخالفاً ولا مبدءاً معارضاً لما عليه إجماع المسلمين إلا وسلكه، فكان كل من كان على هذا المبدأ من أهل الضلالة المقابل لأهل الحق يدعو إلى هذا المبدأ، وهم حزب الشيطان المقابل لحزب الرحمن، إذ الأمر في الدين اثنان لا ثالث لهما) (1)
ومنهم العلامة الجليل الشهيد الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الذي يتهمه السلفية بكل ما يتهمون به سائر الشافعية وأصحاب المذاهب المختلفة بالتجهم والتعطيل والقبورية والشرك ونحوها.. وقد ذكرنا في كتابنا [لحوم مسمومة] موقف السلفية المتشدد منه، واعتباره رأسا من رؤوس الضلال، فلا نعيده هنا.
وقد ختم حياته رحمه الله بالشهادة على أيديهم.. فهنيئا له بها، ورزقنا الله مثلها.
ومنهم العلامة المعاصر الجليل المحدث الشيخ محمود سعيد بن ممدوح الشافعي، صاحب التحقيقات الكثيرة في الحديث وغيره، والذي يتهم بكل ما اتهم به الشافعية من تجهم وتعطيل وقبورية بالإضافة للرفض.. لانتصاره لآل البيت وأتباعهم.
ومن أقواله التي لا تحمل إلا على الكفر ـ عند السلفية ـ قوله: (وآخرون يتولون العترة المطهرة، ولكن بحد وإلى مقام لا يتجاوزونه البتة، فتراهم يأتون إلى كل فضيلة لعليّ عليه السلام ثابتة بالأحاديث الصحيحة فيتأولونها دفعاً بالصدر لتوافق بعض المذاهب، فإذا جاء في الأحاديث الصحيحة أن علياً مولى المؤمنين وأنه لا يغادر الحق وأنه أعلم وأشجع الصحابة وأسبقهم إسلاماً وهو الكرار الذي لم يهزم، إلى غير ذلك اشتغلوا بتأويل الأحاديث الصحيحة بما يوافق المذهب، وازداد بعضهم جحوداً بالالتجاء إلى منهاج بدعة
__________
(1) فيض الوهاب، ج 5 ص 151.
كلكم كفرة (238)
ابن تيمية فيعولون عليه في نفي خصائص عليّ عليه السلام، وتدعيم أسس النّصب) (1)
هذه مجرد نماذج عن تكفير السلفية لأعيان المدرسة الشافعية، ومن شاء أن يستزيد، فليذهب للمكتبة الشافعية، وليقرأ ما كتبه أعلامها ابتداء من القرون الأولى لظهورها، وسيكتشف في كل كتاب منها من النصوص ما يضع صاحبه في سجلات التكفير السلفية الضخمة.
قد يتصور البعض ممن لا يعرف تاريخ المدارس الفقهية، ولم يطلع على تراثها وأعلامها أن الحنابلة شيء واحد، وأنهم مدرسة ممتدة من أحمد بن حنبل بل من قبله من أهل الحديث إلى عصرنا الحالي، وهذا خطأ جسيم.. لأن الحنابلة كسائر المذاهب الفقهية كان فيها الكثير من الصوفية ـ الذين يكفرهم السلفية لتصوفهم ـ وكان فيهم الكثير من المؤولة والمفوضة ـ الذين يكفرهم السلفية لتجهمهم وتعطيلهم ـ وكان فيهم الكثيرمن الذين يمتلئ تاريخهم بمحبة الصالحين والتبرك بقبورهم، ممن يسميهم السلفية قبورية ومشركين.
ومن أقوى الأدلة على ذلك أن ابن عبد الوهاب كفر الحنابلة المعاصرين له، بل المساكنين له في نجد بسبب رميه لهم بالقبورية والشرك الأكبر، وقد سبق ذكر بعض النماذج على ذلك.
بل حتى أحمد بن حنبل نفسه، نجد له صورتين: صورة سلفية هي التي يعظمونها، ويقدرونها، ويلصقون بها كل تجسيم ونصب.. وصورة أخرى نجدها عند الفريق الآخر من الحنابلة تمثله ورعا تقيا عفيفا منزها.
ونحن لا يعنينا أي صورتين هي الصحيحة.. لأن الأمر فوق الأشخاص، وإنما يعنينا هنا أن نبحث في شمولية التكفير السلفي للأمة جميعا، بما فيها فريق كبير محترم من
__________
(1) غاية التبجيل، محمود سعيد بن ممدوح، ص 119.
كلكم كفرة (239)
الحنابلة.
وحتى لا نقع في أي جدال مع أي طرف حول ما يصح وما لا يصح في تاريخ أي شخص، وما روي عنه، فسأكتفي هنا بنموذجين للتكفير السلفي للحنابلة، وكلاهما يمثل قسما محترما منهم، أما أولهما فيرتبط بالمنزهة من الحنابلة، وتكفير السلفية لهم بتهمة التعطيل والتجهم، وأما الثاني، فيرتبط بالصوفية أو من يتبركون بالقبور ونحوها، وهم ممن يطلق عليهم السلفية لقب القبورية، ويتهمونهم بالشرك الجلي.
وقبل ذلك أسوق نصا مهما من رجل تربي بين الحنابلة، وفي المدرسة الوهابية، وهو أدرى بها، وبأقسامها، وهو الشيخ حسن بن فرحان المالكي، وذلك في كتابه المهم [نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية]، والذي ذكر فيه الكثير من نماذج تكفير كبار علماء السعودية للمسلمين، وغلوهم في ذلك.
وقد احتاج في مقدمة كتابه أن يوضح معنى كلمة علماء السعودية، ومذاهبهم، ويعنينا من كلامه مدى ارتباطهم بالمذهب الحنبلي، فقد قال تحت عنوان [القيد السابع: علماء في (عقائد الحنبلية) فقط]: (كان هذا القيد ضرورياً وعلمياً أكثر من القيود السابقة، وهذه القيود تأتي فائدتها عندما نرى أنها من أكبر عوامل الوحدة وأقوى محفزات التواضع والهدوء والعلمية، فقد سبق أن ذكرنا أن لقب (أهل السنة) لقب استحوذ عليه مذهبان (الأشاعرة والحنابلة)، فهذا ما لا ينكره علماء المملكة.. كما أن (لقب السلفية) محل تنازع في التفسير لا في الاسم.. وعلماء المملكة لا يدعون أنهم أشاعرة في العقيدة، بل هم يذمون الأشاعرة ويبدعونهم ويعدونهم من الفرق الهالكة يوم القيامة، ولا يستطيعون إثبات أن تلك التفصيلات العقدية كان يعتقدها (السلف) من الصحابة وكبار التابعين، فما بقي إلا كونهم (حنابلة) فهنا يقل النزاع... ويسلم خصومهم من أهل السنة الآخرين.. ويستطيعون أن ينسبوا لأحمد بن حنبل ماعجزوا عن نسبته إلى السلف من الصحابة والتابعين.. إذن فهم
كلكم كفرة (240)
(حنابلة في الأصل، رغم أنهم منتسبون إلى الألقاب المتنازع عليها كأهل السنة والسلفية) (1)
وهنا يقع إشكال كبير في مدى صدق انتساب هؤلاء للمذهب الحنبلي، وقد حل هذا الإشكال بقوله: (لكننا نجدهم لا يتسمون بـ (الحنابلة) إلا من جهة الفقه فقط، أما من جهة العقيدة فإنهم يتسمون أو يتلقبون بالألقاب الأكثر سعة (كأهل السنة والسلفية) ربما لأنهم يريدون أن يثبتوا أنهم هم (أهل سنة) فقط وغيرهم (مبتدعة) وإن انتسبوا (للسنة)... وأنهم (أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين) وإن انتسب غيرهم لسلف صالح من صحابة وتابعين.. ربما.. لكن بما أنهم يرون أن الإمام أحمد هو إمام أهل السنة.. وأن عقيدته ومدرسته سنية سلفية فهم (حنابلة) في العقيدة... مادام أن الحنابلة سنة وسلفية... فلا ضير في نسبتهم إلى أحمد عقيدة وفقهاً.. لقلة من ينازعهم على هذا اللقب، وكثرة من ينازعهم على الألقاب الأخرى العامة) (2)
لكن الشيخ حسن يعود فيتساءل: (هل هم حنابلة في العقيدة؟ وهل الحنابلة في العقيدة مذهب أم مذاهب؟) (3)
ثم يجيب عن هذا التساؤل بقوله: (سؤال لا يعرف دقته إلا من قرأ المسيرة الحنبلية.. عندها سيعرف أن الحنابلة مذاهب وتيارات.. فمن أي هذه التيارات أتت المدرسة الحنبلية التي ينتمي إليها علماء المملكة؟.. إنها مدرسة ابن تيمية.. إذن فالقيد الواجب إضافته يكون على النحو التالي: القيد الثامن: علماء في (العقيدة الحنبلية التيمية) فقط.. [ذلك] أن (العقيدة الحنبلية) تنازع فيها فريقان من الحنابلة المتفقين في الفقه والمختلفين في العقيدة.. ثم جاء فرقة ثالثة (وهي فرقة ابن تيمية) خالفتهما معاً في العقيدة في أمر هو عندها (لب العقيدة)
__________
(1) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 21.
(2) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 21.
(3) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 22.
كلكم كفرة (241)
وهي مسألة القبور وتوابعها من تبرك وتوسل وتعظيم وصلاة عندها... وبما أن هذه المسألة (القبور والصالحين والتبرك..) هي من صلب العقيدة عند ابن تيمية فلا بد أن تكون كافية لجعل (التيمية) فرقة مستقلة رغم أنها تلتقي مع الحنابلة في كثير من العقائد كالصفات والرؤية والصحابة والقدر) (1)
ثم يبين الشيخ حسن انقسام الحنابلة من حيث العقائد إلى قسمين أولهما: (حنابلة هم أقرب للأشعرية كابن الجوزي فهو حنبلي اتفاقاً من حيث الفقه، ولكنه من حيث العقيدة هو من (المنزهة)، وكونه من المنزهة أنكر بعض الحنابلة حنبليته في العقيدة وإن أقر بها في الفقه، وعلى كل ففيه خلاف هل هو أشعري ينتسب لأحمد أم حنبلي ينتسب لأحمد.. فهو ينتسب لأحمد ويقول عن نفسه (حنبلي) ويكتب في (مناقب أحمد) ويصنف في (الفقه الحنبلي) ويقول إن أحمد (كان مثله منزهاً) فابن الجوزي لكن بالإجماع (منزه ومؤول) سواء كان هذا التأويل هو مذهب أحمد أو مذهب الأشعري.. ومن قرأ كتابه (دفع شبه التشبيه) وجده مؤولاً في العقائد بوضوح... وقد كان لهذا الشيخ الحنبلي المنزه صولة في القرن السادس ثم اضمحل مذهبه شيئاً فشيئاً... إلى أن قضى عليه ابن تيمية في القرن الثامن) (2)
والقسم الثاني: (حنابلة هم أقرب للكرامية [وهي فرقة جمعت بين التصوف والتجسيم] كالحنابلة المتقدمين من تلاميذ أحمد كعبد الله بن أحمد والمروذي والدارمي (قبل 300 هـ) ثم تلاميذهم كالخلال والبربهاري (بعد 300 هـ) ثم تلاميذهم كابن بطة (قبل 400 هـ) ثم تلاميذه كابن حامد (على رأس الـ 400 هـ) ثم تلاميذه كأبي يعلى (458 هـ)... وهم أغلبية الحنابلة المتقدمين.. ومن قرأ كتبهم في العقائد يجدهم (مشبهة).. وهذه الحنبلية
__________
(1) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 23.
(2) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 24.
كلكم كفرة (242)
انتصر لها ابن تيمية إلا في مسألة القبور وتوابعها) (1)
وبذلك فإن هذا القسم من الحنابلة، وإن كان معتبرا من ناحية التجسيم والتشبيه عند السلفية إلا أنه مكفر من جهة تعظيم القبور، أو الميل للتصوف.
وقد بين المالكي مزايا الحنبلية التيمية ودوافع ظهورها، فقال: (الحنبليتان السابقتان حنبلية ابن الجوزي وحنبلية المتقدمين – مع اختلافهما القوي في الصفات- إلا أنهما يتفقان في الفقه وفي التصوف.. أما الفقه فلا يهمنا هنا فقد سبق الكلام عنه.. وليس ذي إشكال كبير لا عند ابن تيمية ولا عند علماء المملكة.. وأما الصفات فقد انتصر ابن تيمية لفرقة الحنابلة المتقدمين.. وقضى على ما تبقى من حنبلية ابن الجوزي كما سبق.. وأما التصوف ومسألة القبور فقد كانت منطقة الإفتراق بين ابن تيمية والمذهبين الحنبليين السابقين كليهما.. ومن هنا (نشأت الفرقة الحنبلية الثالثة وهي: التيمية).. وهذا اللقب معروف عند كثير من المؤلفين في العقائد) (2)
وقد ختم المالكي هذه التحليلات التاريخية المهمة جدا، باعتبار الحنابلة مدسة تشمل تيارات متعددة، والتكفير على أكثرها سار مثله مثل سائر المذاهب، فقال: (إذن فليس الحنابلة على مذهب واحد في العقيدة.. ومن حسن الحظ أننا نستطيع اليوم أن نقول هذا باطمئنان لأن كتب هذه الفرق الثلاث مطبوعة متوفرة وهي مختلفة في العقائد يرد بعضها على بعض ويضلل بعضها بعضاً ويبدعه... إذن فليس عندنا الرغبة في تقسيم المقسم... وإنما هذه حقيقة... الحنابلة أنفسهم مختلفون في العقائد... وانتقل هذا الإختلاف من التبديع في عهد ابن الجوزي إلى الحكم على الفعل بالشرك في عهد ابن تيمية.. إلى تبادل
__________
(1) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 25.
(2) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 26.
كلكم كفرة (243)
التكفير الصريح بين علماء الحنابلة في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومدرسته) (1)
وقد ضرب بعض الأمثلة على ذلك، فقال: (من يقرأ مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي (المؤول المنزه) يجده معظماً لمسألة القبور وتوابعها، ومن يقرأ آراء الحنابلة المتقدمين (المشبهة المثبتة) في التراجم... يجدهم معظمين لمسألة القبور وتوابعها... بل بعضهم موغل في التصوف إلى القول بوحدة الوجود كالهروي الحنبلي.. ومن يقرأ كتب ابن تيمية يجده مستنكراً لمسألة القبور وتوابعها، ففارق ابن تيمية في هذه المسألة المذهب الحنبلي كله) (2)
وبذلك فإن مدرسة الحنابلة بالنسبة للسلفية لا يختلف الحكم عليها عن سائر المدارس، اللهم إلا من تبع ابن تيمية منهم.. بل لا يكفي ذلك، فقد كان من أتباع ابن تيمية من كفره ابن عبد الوهاب..
وقد لخص المالكي الفروقات بين ابن تيمية والحنابلة، فقال: (فابن تيمية اتفق مع حنبلية ابن الجوزي في الفقه فقط.. واتفق مع حنبلية المتقدمين في الفقه والصفات معاً.. ولكنه اختلف مع الحنبليتين في (موضوع القبور والتبرك والتوسل).. من هنا قلنا: إن ابن تيمية له مذهب في العقائد يختلف عن الحنابلة كلهم في هذه المسألة) (3)
ولخص الفروقات التي ميزت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن مدرسة ابن تيمية بقوله: (ومن هنا نعلم سر اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمدرسة ابن تيمية دون غيرها من مدارس الحنابلة العقدية.. فضلاً عن مدارس السنة.. لقد اختار مدرسة ابن تيمية وجلبها إلى نجد لأجل هذه العقيدة ضد أصحاب القبور والتوسل والتبرك والتصوف فقط.. فهو لم يجلب (ابن تيمية) من أجل (الفقه).. ولا من أجل (ذم الجهمية والمعتزلة
__________
(1) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 27.
(2) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 28.
(3) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 28.
كلكم كفرة (244)
والشيعة).. ولا من أجل (مسألة خلق القرآن).. ولا الرؤية والميزان والصراط والشفاعة وصفة نعيم الجنة وعذاب النار... كلا.. لأن هذه الأمور (الفقه والعقائد) كانت موجودة أصلاً عند حنابلة نجد.. وهي أصيلة في التيارات أو الاتجاهات الحنبلية الثلاثة.. وقد كانت كتب ابن تيمية (الفقهية لا العقدية) محل اهتمام عند حنابلة نجد.. وبما أن كتب ابن تيمية (الفقهية) معروفة عند حنابلة نجد.. فكأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: هذا شيخكم الحنبلي شيخ الإسلام صاحب الإختيارات وماليء الدنيا وشاغل الناس يقرر بأن ما أنتم عليه هو (الشرك الأكبر) الذي يوجب القتل والجهاد) (1)
ولخص الإضافات الوهابية للمدرسة الحنبلية والتيمية، فقال: (أما إضافات الوهابية، فأشهرها الحكم على البلدان الإسلامية التي فيها (تعظيم للقبور أو تبرك وتوسل بالصالحين) بأنها بلا د شرك وليس بلاد إسلام.. والحكم على سكانها أو المتأولين من علمائها بأنهم كفار.. والتصريح بتكفير للمعينين من علماء الحنابلة فضلاً عن غيرهم.. وإنزال الآيات التي نزلت في المشركين وجعلها في المسلمين... وتقسيم بلاد الإسلام لديار إسلام تابعة للوهابية وديار كفر تابعة لمخالفيهم.. وإضافة شروط لـ (لا إله إلا الله).. وإضافة نواقض لها... وجعلها في المسلمين المخالفين للوهابية.. فإذا كان من نواقض الإسلام التي ذكرها ابن تيمية (مظاهرة المشركين على المسلمين) فقد جعلها الوهابية (في مظاهرة المشركين من أهل العيينة على المسلمين من أهل الدرعية).. أعني أنزلوا خصومهم منزلة المشركين الأصليين وأنزلوا أنفسهم منزلة المسلمين فقط الذين لا يوجد في الأرض غيرهم) (2)
وتأكيدا لهذا الوصف الدقيق الذي ذكره الشيخ حسن بن فرحان المالكي للتاريخ الحنبلي، والذي يدل عليه كل التراث الحنبلي، سأنقل هنا وصفا من كتاب علمي أكاديمي
__________
(1) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 29.
(2) نصيحة لشباب المسلمين في كشف غلو العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، ص 30.
كلكم كفرة (245)
أرخ فيه صاحبه لنجد وحنابلتها في الوقت الذي ظهر فيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو يبين بوضوح أن السيطرة في المذهب الحنبلي كانت للجناح الذي اختارته الأمة جميعا: التنزيه في العقائد على منهج المتكلمين، والتربية الروحية على منهج الصوفية.
وبذلك فإن المدرسة الحنبلية في الحقيقة لم تكن تختلف كثيرا عن سائر المدارس الإسلامية، وخاصة في مواقفها التنزيهية أو التبرك بالأولياء وزيارة القبور ونحوها، ولهذا بدأ تكفير ابن عبد الوهاب وتلاميذه للأمة من تكفيره للحنابلة المعاصرين له ومن قبلهم.
والكتاب بعنوان [مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية: خلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر] من تأليف د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، وهو أستاذ مشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد قال الكاتب في مقدمة كتابه: (هذا بحث يهدف إلى جمع آراء علماء نجد في مسائل الاعتقاد قبل الدعوة الإصلاحية، وخلال القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري، وتبرز أهمية هذا البحث بأن الواقع العقدي لبلاد نجد قبل الدعوة لم يأخذ حظّه من الدراسة والتحرير، وإن وُجدت دراسات فهي تقتصر على الجانب التاريخي فحسب، وقد يخفى على الكثير أن المسالك الكلامية وطرائق الصوفية قد غشيت بلاد نجد – كما هو مذكور في هذا البحث- فلا يزال واقع نجد قبل الدعوة محل اختزال عند بعض الباحثين، كما أن هذا الواقع وما يحتمله من الذم أو المدح هو محل جدل ونقاش بين الباحثين المعاصرين، ففريق يغرق في ذم هذا الواقع، ويعمم في قدحه، وآخر يقلص هذا الانحراف، ويقلل من شأنه. إضافة إلى ذلك فإن جملة من العداء والخصومة بين الدعوة ومخالفيها في مسائل التوحيد والشرك والتكفير والقتال، فإنه لا ينفك عند الخصوم من جذور كلامية، وشطحات صوفية، وقد تتبع الباحث آراء مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة،
كلكم كفرة (246)
واستخرجها من كتب الاعتقاد والفقه، والتاريخ والتراجم، والرسائل الشخصية والأشعار.. ثم صنفها) (1)
ومن فصول الكتاب المهمة التي بين فيها الباحث التوافق الشديد بين سائر مذاهب الأمة والمذهب الحنبلي: (الفصل الثاني: علم الكلام عند علماء نجد.. والفصل الثالث: التصوف عند علماء نجد)، وقد بين فيهما بالأدلة الكثيرة من كتب الحنابلة أنفسهم، ومن كتب أئمة الدعوة الوهابية أن الحنابلة في ذلك الحين دخلهم علم الكلام والتنزيه الكلامي الذي يتناقض مع الرؤية السلفية التي تعتبره تجهما وتعطيلا وكفرا.. ودخلهم كذلك البعد الصوفي بجميع آثاره، والذي يرميه السلفية بالقبورية والشرك الجلي.. والأدلة كلها تشير إلى أن غيرهم من الحنابلة في سائر بلاد العالم الإسلامي كانوا على منهاجهم.
وقد أشار الكاتب في الفصل الذي عقده عن حنابلة نجد وعلم الكلام إلى أن الحنابلة الحقيقيين الذين ساروا على منهج السلف لم يكونوا إلا عددا محدودا جدا مقارنة بغيرهم.
وقد نقل من ذلك عن ابن القيم قوله: (وجميع المتقدمين من أصحابه على مثل منهاجه، وإن كان بعض المتأخرين منهم من دخل في نوع من البدعة التي أنكرها أحمد، ولكن الرعيل الأول من أصحابه كلهم وجميع أئمة الحديث قولهم قوله) (2)
وقد علق الكاتب على هذا النص بقوله: (فالحنابلة الأوائل على طريقة الإمام أحمد كالخلال وأبي داود ونحوهما، وكذا من سلك طريقة المحدثين من أصحابه كالآجري وابن بطة وغيرهما، بخلاف المتأخرين من الحنابلة كالتميميين وأشباههم) (3)
وقد أشار ابن تيمية ـ في معرض حديثه عن التميميين ـ إلى هذا، فقال: (أما التميميون
__________
(1) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 3.
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم صـ 213.
(3) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 29.
كلكم كفرة (247)
كأبي الحسن وابن أبي الفضل وابن رزق الله، فهم أبعد عن الإثبات وأقرب إلى موافقة غيرهم وألين لهم؛ ولهذا تتبعهم الصوفية ويميل إليهم فضلاء الأشعرية: كالباقلاني والبيهقي؛ فإن عقيدة أحمد التي كتبها أبو الفضل هي التي اعتمدها البيهقي مع أن القوم ماشون على السنة. وأما ابن عقيل فإذا انحرف وقع في كلامه مادة قوية معتزلية في الصفات والقدر وكرامات الأولياء) (1)
وبهذا الإقرار من ابن تيمية وابن القيم يصبح كبار أعلام الحنابلة وفضلاءهم من جملة المنزهة الذين لا يتوقف السلفية في تكفيرهم.. وهم يروون عن أحمد وأصحابه الكبار ما يدل على التنزيه.. وبذلك يكون يصبحون جميعا محل الخلاف من السلفية.. لأنه إذا صح ما يروى عن أحمد وتلاميذه الكبار من التنزيه أو من التبرك فلن ينجو أحد من الحنابلة ما عدا الذين يعظمهم ابن تيمية والسلف المتأخرين كابن بطة وغيره.
وهكذا أشار إلى هذا ابن تيمية في موضع آخر، فقال: (إن الإمام أحمد في أمره باتّباع السنة، ومعرفته بها ولزومه لها، ونهية عن البدع، وذمّه لها ولأهلها بالحال التي لا تخفى ثم إن كثيراً مما نصّ هو على أنه من البدع، صار بعض أتباعه يعتقد أن ذلك من السنة، وأن الذي يُذم من خالف ذلك.. وكذلك ما أثبته أحمد من الصفات التي جاءت بها الآثار، واتفق عليها السلف، كالصفات الفعلية من الاستواء والنزول والمجيئ والتكلم إذا شاء وغير ذلك، فينكرون ذلك بزعم أن الحوادث لا تحل به، ويجعلون ذلك بدعة، ويحكمون على أصحابه بما حكم به أحمد في أهل البدع، وهم من أهل البدعة الذين فهم أحمد، لا أولئك، ونظائر هذا كثيرة، بل قد يُحكى عن واحد من أئمتهم إجماع المسلمين على أن الحوادث لا تحلّ بذاته، لينفي بذلك ما نصّ أحمد وسائر الأئمة عليه من أنه يتكلم إذا شاء، ومن هذه
__________
(1) مجموع الفتاوى (6/ 53)
كلكم كفرة (248)
الأفعال المتعلقة بمشيئته) (1)
وهكذا نرى علما كبيرا من أعلام السلفية ينكر على الحنابلة ميلهم إلى المنزهة، وذلك في فصل عقده لذلك بعنوان: [الحذر من الركون إلى كل أحد، والأخذ من كل كتاب؛ لأن التلبيس قد كثر، والكذب على المذاهب قد انتشر] (2)، قال فيه: (إن أحوال أهل الزمان قد اضطربت، والمعتمد فيهم قد عزّ، والكذب على المذاهب قد انتشر، فالواجب على كل مسلم يحب الخلاص أن لا يركن إلى كل أحد، ولا يعتمد على كل كتاب، ولا يسلم عنانه إلى من أظهر له الموافقة، فلقد وقفت على رسالة عملها رجل من أهل أصبهان يعرف بابن اللبان، وسماها [شرح مقالة الإمام الأوحد أبي عبدالله أحمد بن حنبل] وذكر فيها مذهب الأشعري المخالف لأحمد، أعطى نسخاً إلى جماعة يطوفون بها في البلاد) (3)
ومثله ذكر أبو العباس بن الحسين العراقي (توفي 588 هـ) خروج الحنابلة من العقائد التي سنها السلف، وارتماؤهم في أحضان المنزهة ـ كسائر المذاهب الإسلامية ـ فقال: (وإنما الشكوى إلى الله من قوم إلى مذهب أحمد ينتمون، وبالسنة يتوسمون، ويدّعون التمسك بقوله وفعله، وهم مع ذلك يخالفون نصوصه، ويطرحون عمومه وخصوصه، فكأنهم يدعون إليه ويبعدون منه، وجميع ما يرد عليهم من السنة الثابتة ينفرون عنها، ويسلّطون على ما جاء في الصفات من الأخبار والآيات ما سلّطه المتكلمون من التأويل، ويسلكون فيه مسالك أهل الإلحاد والتعطيل) (4)
وقد علق د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف، على هذه النصوص التي تبين انحراف الحنابلة على مذاهب السلف بقوله: (المقصود أن جملة من متأخري الحنابلة قد
__________
(1) الاستقامة 1/ 15، 16 بتصرف.
(2) رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 231.
(3) رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 231 بتصرف.
(4) فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف لأبي العلاء الهمذاني ص 29.
كلكم كفرة (249)
غشيتهم طرائق المتكلمين في الاعتقاد، وظهر موجب ذلك في مصنفاتهم وتقريراتهم، مع تفاوت بينهم في هذا الأثر والتأثير؛ إذ ليسوا سواءً، فإذا كان القاضي أبو يعلى ليس كابن عقيل مثلاً، فكذا الإمام ابن قدامة ليس كابن حمدان، وهكذا، وعلماء نجد –قبل الدعوة الإصلاحية- هم امتداد لأولئك العلماء، فلا غرو أن يلحقهم أثر وموجب أسلافهم المتأخرين كابن حمدان والبلباني وعبدالباقي المواهبي ونحوهم، كما أنهم يتفاضلون في هذا الشأن، فالأثر الكلامي على ابن قائد –مثلاً – أظهر وأشدّ من أثره على ابن عطوة) (1)
وقد ذكر أمثلة كثيرة على ذلك من خلال التراث العقدي للحنابلة في ذلك الحين منها أن الشيخ ابن البسام (توفي 945 هـ) -في أسئلته إلى معين الدين محمد الإيجي – (قد أثبت صفة الاستواء لله تعالى، لكنه أعقبه بقول (لا مجاز ولا معنى)، فنفي المعنى يوهم مذهب التجهيل والتفويض، اللهم إن كان مقصوده نفي المعاني الفاسدة كتأويلات المعطلة ونحوها، لاسيما وأنه قرر معنى الاستواء وأنه العلو والارتفاع، لكنه تردد في هذا الإثبات، وكذا تردد في إثبات الحرف والصوت فقال: (ثم قدح في خاطري بعد ذلك ريب أن يكون بخلاف ذلك مما رأيت من كلام العلماء في ذلك، واختلافهم فيه، وقدح لي أيضاً في الحرف والصوت مثل ذلك، لا أدري أ مخلوقان أم منزلان)، فابن بسام كان مثبتاً للصفات الإلهية، لكن عَرَض له تردد واضطراب وتوقف بشأن صفة الاستواء والحرف والصوت، ومن المعلوم أن التوقف والشك من طرائق المتكلمين، خاصة وأن المسؤول ليس على جادة أهل السنة المحضة) (2)
ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك رسالة (طُرَف الطَّرف في مسألة الحرف والصوت) لابن عطوة (948 هـ)، ففي مطلع السؤال أن أقواماً من طلاب العلم في نجد يجاهرون
__________
(1) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 29.
(2) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 29.
كلكم كفرة (250)
بتمشعرهم، ويشهدون أن القرآن لا حرف ولا صوت، وأن من يقول هو حرف وصوت كافر (1).
وقد علق على هذا بقوله: (في ذلك ما يكشف عن واقع الأثر الكلامي الأشعري على طلاب علم في نجد) (2)
هذه شهادة سقناها من باب {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] لنبين من خلالها أن سيف التكفير السلفي كما شمل سائر المذاهب الفقهية لم يراع حرمة أتباع الإمام أحمد، بل زجهم جميعا في سجين تكفيره.
بناء على هذا سنحاول أن نذكر هنا النموذجين اللذين أشرنا إليهما سابقا.
النموذج الأول التكفير بسبب التعطيل
ينص الحنابلة المنزهة على أن الإمام أحمد ـ كان كسائر الأئمة ـ أبعد الناس عن التجسيم والتشبيه الذي وقع فيه من يدعون التبعية له، وأن ما ينسب إليه من كتب وروايات في ذلك لا تصح عنه، فكتاب [الرد على الجهمية] ليس هو من تصنيفه إنما هو من تصنيف من يتظاهر باتباعه من المشبهة والمجسمة، وقد نص الحافظ الذهبي في ترجمة الامام أحمد في [سير أعلام النبلاء] على أن كتاب [الرد على الجهمية] موضوع على الامام أحمد إذ قال: (لا كرسالة الاصطخري، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله) (3)
ومن تأويلاته التي ينقلونها عنه تأويله لقوله تعالى: (وجاء ربك) بجاء ثوابه (4).
وهكذا أصبح الإمام أحمد نفسه بسبب الروايات التي يرويها الحنابلة المنزهة عنه معطلا وجهميا..
__________
(1) انظر: طُرَف الطَّرف ص 31.
(2) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 29.
(3) سير أعلام النبلاء (11/ 286)
(4) رواه عنه الحافظ البيهقي كما نقل ذلك عنه ابن كثير في البداية (10/ 327)
كلكم كفرة (251)
أما أتباعه المنزهة، فلعل أحسن من يمثلهم، والذي انتقد انتقادا شديدا، وصرح بتكفيره جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (المتوفى: 597 هـ)، والذي تختلف تصويراته للمذهب الحنبلي عن التصويرات التي يعرضها السلفية عنه.
وقد عبر عن ذلك في مقدمة كتابه الذي انتقد فيه أبا يعلى الفراء، صاحب كتاب التأويلات، فقال بعد أن ذكر بعض أعلام الحنابلة الذين انتصروا للتجسيم والتشبيه: (ورأيت من أصحابنا مَنْ تكلَّم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وأضواء لوجهه هي السُبُحات، ويدين وأصابع وكفاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس!! وقالوا: يجوز أن يَمَسَّ ويُمَس، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم: ويتنفَّس. ثم يُرْضون العوام بقولهم: لا كما يعقل!! وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث) (1)
وقد ذكر في كتابه ـ بناء على هذا ـ الكثير من التأويلات على النصوص التي تعلق بها السلفية في وصفهم لله تعالى.. ولا داعي لذكر ذلك هنا، وإن كان ذكرها كاف في تكفيره، لكنا بدل ذلك سنذكر ما صرح به بعض من كفره من السلفية المعاصرين الذين يدعون إلى انتهاج نهج السلف الأول في تسمية الأشياء بأسماء، وعدم استعمال الخدع والحيلة والكذب.
ومن أمثلتهم الشمري الذي قال فيه: (وبهذا يعلم تجهم ابن الجوزي –عامله الله
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص (97)
كلكم كفرة (252)
بعدله- لما قال عمن يستدل بأحاديث النزول على إثبات العلو قال: (هذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام. فقاس صفة الحق عليه)، ولابن الجوزي أقوال عديدة تدل على تجهمه بل وتجلده في ذلك كقوله: (عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها)، وهذه لغة الجهمية المحضة يسمون كل من أثبت الصفات مشبها.. وقال أخزاه الله: (ومن قال: استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات، وينبغي ألا يعمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل).. وقال لا رحمه الله: (ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف)، وقال أيضاً: (الواجب علينا أن نعتقد أنّ ذات الله لا تتبعض ولا يحويها مكان، ومنها قوله عن حديث النزول: (يستحيل على الله تعالى الحركة والنقلة والتغير، فبقي الناس رجلين؛ أحدهما: المتأول له بمعنى أنه يقرب رحمته... الثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه).. ومنها قوله فض الله فاه: ثم لم يذكر الرسول الأحاديث جملة (أي: أحاديث الصفات)، وإنما كان يذكر الكلمة في الأحيان؛ فقد غلط من ألفها أبوابا على ترتيب صورة غلطا قبيحا، وقوله: قال الله تعالى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله {يُريدُونَ وجَهْهُ}، أي: يريدونه، وقوله: وقال الحسن في قوله تعالى {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين.. وقوله لعنه الله: وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في (يضع قدمه في النار)... قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض) (1)
وقد نقل الشمري رسالة كتبها حنبلي مجسم هو إسحاق العثلي الحنبلي ينصح فيها الحنبلي المنزه ابن الجوزي، وكان مما قال له فيها: (فكيف تصفون اللَّه سبحانه بشيء مَا وقفتم عَلَى صحته، بَل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات الَّتِي رضيها لنفسه، وأخبر بها
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 71.
كلكم كفرة (253)
رسوله بنقل الثقات الأثبات، يحتمل، ويحتمل... لَقَدْ آذيت عباد اللَّه وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب... ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك، كأنك جبار من الجبابرة، ولا كرامة لَك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة) (1)
بل نقل عن ابن تيمية ما يدل على تكفيره ورميه بالتجهم والتعطيل، فقد قال في [درء تعارض العقل والنقل]: (فإن قيل قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول واقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك، قيل هؤلاء أنواع نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه، وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الحسن علي بن المفضل المقدسي وأمثالهم) (2)
وقد علق على هذا النص من ابن تيمية بقوله: (وتأمل كيف عد عياضاً مع النفاة والذي جل شرح النووي –في الحقيقة- نقل عنه وعن أخدانه من الأشاعرة والمتكلمين وأمرهم كما قال بعض السلف: [اعتبروا الناس بأخدانهم]) (3)
بالإضافة إلى هذا يذكر الشمري من الأمور الموجبة لكفر ابن الجوزي قبوريته
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 72.
(2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 32)
(3) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 73.
كلكم كفرة (254)
وشركه الجلي، فقال: (والرجل –أعني ابن الجوزي- قبوري هالك فمن أقواله: كثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت في صلاحي..)، ولأجل هذا وغيره اشتد نكير العلماء عليه ونقموا أقواله، كما قال ابن رجب) (1)
وقال الشمري في كتاب آخر يتحدث عنه ويعاتب العلماء الذين يتوقفون في تكفيره على الرغم من تكفير من هم دونه: (الوجه الثالث: قولهم عن ابن الجوزي أنه (من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم)، باطل من القول بل الرجل جهمي جلد، وقد ذكر ابن رجب أنه قد اشتد نكير العلماء عليه ونقموا أقواله.. وقد قال عنه عبدالرحمن السعدي –وهو من أئمة العصريين-: خلط تخليطا عظيما في باب الصفات وتبع في ذلك الجهمية والمعتزلة، فسلك سبيلهم في تحريف كثير منها وخالف السلف في حملها على ظاهرها، وقدح في المثبتين، ونسبهم إلى البلاهة، وهذا الموضوع من أكبر أغلاطه، ولذلك أنكر عليه أهل العلم وتبرأ منه الحنابلة في هذا الباب ونزهوا مذهب الإمام أحمد.. هذا وقد قال ابن باز نفسه في شرح كشف الشبهات: (الأصل فيها أنه لا يعذر من كان بين المسلمين، من بلغه القرآن والسنة، ما يعذر الله جل وعلا قال: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، من بلغه القرآن والسنة غير معذور، إنما أوتي من تساهله وعدم مبالاته)، وقال ابن باز في فتاوى نور على الدرب: ليس في العقيدة والتوحيد توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات ليس فيها عذر يجب على المؤمن أن يعتقد العقيدة الصحيحة.. وليس له عذر في التساهل في هذا الأمر الا إذا كان بعيدا عن المسلمين في أرض لا يبلغه فيها الوحي فإنه معذور في هذه الحالة وأمره إلى الله ويكون حكمه حكم أهل الفترات.. وأما كونه بين المسلمين ويبقى على الشرك
__________
(1) بيان تلبيس الأشعرية ونقض بدعهم الكفرية، ص 74.
كلكم كفرة (255)
وإنكار الأسماء والصفات فهذا غير معذور بالجهل) (1)
وقد علق الشمري على هذه النصوص بقوله: (فهل ابن الجوزي لم يبلغه القرآن فيعذر في نفيه لعلو الله وغير ذلك من الصفات؟!) (2)
هذه نصوص واضحة تبين أن المنهج التلميحي في التكفير لم يكن يقصد من تلك الكلمات المعسولة إلا التغطية على مواقفه التكفيرية الحقيقية، والتي يدل عليها كل شيء.. ولكنه مع ذلك يسهل التلاعب بها على العقول المخدرة التي لا يستعملها أصحابها.
النموذج الثاني التكفير بسبب التصوف وتوابعه
ويمثله الكثير من الحنابلة، بل يمثله أكثر الحنابلة المتأخرين، وقد أشار د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف في كتابه الذي سبق الإشارة إليه إلى انتشار التصوف بين الحنابلة مثلهم مثل سائر المذاهب، فقال: (وقبل أن نتحدث عن واقع نجد ومدى تأثره بالتصوف، يجدر بنا أن نشير إلى أن تأثر بعض علماء نجد بالتصوف قد يكون امتداداً لتأثر متأخري الحنابلة بالتصوف، فإن القاريء لتراجم الحنابلة في كتاب السحب الوابلة –على سبيل المثال- ليجد أعداداً كبيرة من الحنابلة الذين تلبّسوا بالطرق الصوفية المحدثة (3).. وأحسب أن التصوف لدى علماء نجد – قبل الدعوة الإصلاحية – أقل ظهوراً وتأثيراً من تصوف الحنابلة في مصر والشام ونحوها، فأولئك الحنابلة ينتسبون إلى طرق صوفية، واحتفاء بلبس الخرقة، والتعبّد بالعزلة والخلوة، وغير ذلك من شطح الصوفية ومخاريقهم، وهذا ما لم يكن ظاهراً لدى أولئك النجديين ولذا جزم بعض الباحثين أن الصوفية لم تكن ذات جذور في نجد.. وعلى كلٍّ فإن جملة من هذا التعبّد مما ليس مشروعاً،
__________
(1) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 36.
(2) من مخالفات الخلف لما كان عليه السلف، ص 37.
(3) انظر: السحب الوابلة 1/ 22، 2/ 444، 753، 759، 806، 850، 863، 865، 868، وغيرها.
كلكم كفرة (256)
قلد يلحظ في ثنايا كتب الفقه عند متأخري الحنابلة، فكتاب كشاف القناع عن الإقناع للبهوتي يحوي أمثلة متعددة على ذلك، مثل الذكر الجماعي، والتوسل بذوات الصالحين، والدعاء وقراءة القبور عند القبور، وشدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1)، والبهوتي ومؤلفاته لها مكانتها ومنزلتها عند علماء نجد آنذاك) (2)
والنتيجة التي خلص إليها من خلال التحقيق التاريخي في منطقة نجد ـ مع أنها أقل تأثرا بالتصوف على خلاف سائر الحنابلة في المناطق الأخرى من العالم الإسلامي ـ عبر عنها بقوله: (مهما يكن فإن التصوف المحدث، وما يشتمله من عبادات مبتدعة، وأذكار غير مشروعة، وغلو في الأولياء ونحوهم، والافتتان بالقبور، وسائر البدع المتنوعة.. إن ذلك ليظهر على عموم الناس، بخلاف الأثر الكلامي النظري، فقد لا يظهر إلا على خاصة الناس من العلماء وأشباههم. وهذا ما نلمسه في واقع نجد، فإن رسوم التصوف وشطحاته تلحظ من خلال معلومات متفرقة سواءً في رسائل العلماء وتقريراتهم، أو كتب التراجم والتاريخ، والأشعار والمنظومات) (3)
وهذا يدل على أن الواقع الحنبلي في فترات تاريخية كثيرة كان لا يختلف في قليل أو كثير عن واقع سائر المذاهب الإسلامية.. وما دام التكفير السلفي قد شملها بسبب هذا، فإنه لم يغادر الحنابلة أيضا على عكس ما يتصور الكثير.
وقد أورد د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف الكثير من النصوص والرسائل التي تدل على تكفير الوهابية للحنابلة في ذلك العصر وما قبله من العصور، اللهم إلا من حافظ على منهج السلف منهم، وما أقلهم.
__________
(1) انظر: رسالة، المسائل العقدية التي خالف فيها بعض فقهاء الحنابلة إمام المذهب – كتاب كشاف القناع أنموذجاً-، لحمود السلامة، رسالة ماجستير- غير منشورة – جامعة الملك سعود.
(2) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 56.
(3) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 56.
كلكم كفرة (257)
ومن تلك النصوص قول الشيخ عبدالوهاب والد الشيخ ابن عبد الوهاب ـ: (واعلموا أن أهل حرمة وأضرابهم الذين اتبعوا هذا الشيطان، اتباع كل ناعق، وأن من حضرهم منهم، أو جادل عنهم، أو قال لهم أشياء مستحسنة فلا يصلى خلفه، ولا تقبل شهادته) (1)
ومن تلك النصوص قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: (من أعظم الناس ضلالاً متصوفية في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى) (2)
ومنها ما يدل على أن من أتباع الحنابلة في ذلك الوقت من كان ينتصر لابن عربي وابن الفرضي وغيرهما ممن لا يتوقف السلفية في تكفيرهما، كما لم يتوقف قبل ذلك مشايخهما الأوائل، ومن تلك النصوص قول الشيخ عبدالله بن عيسى: (وأما الاتحادي ابن عربي صاحب الفصوص المخالف للنصوص، وابن الفارض الذي لدين الله محارب، وبالباطل للحق معارض، فمن تمذّهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلاً، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين، فإن ابن عربي وابن الفارض ينتحلان نحلاً تكفرهما، وقد كفّرهم كثير من العلماء العاملين) (3)
وقد ذكر د. عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يشير إلى ما ذكرناه مرارا من ممارسة السلفية للتقية حين يتهمون بالتكفير، فقد ذكر أنه لما اتهم ابن عبد الوهاب بتكفير ابن عربي وابن الفارض نفى ذلك عنه، وقال:
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية 1/ 524.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/ 189 (الرسائل الشخصية)
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/ 192، (الرسائل الشخصية)
كلكم كفرة (258)
(سبحانك هذا بهتان عظيم) (1)
ثم أجاب د. عبدالعزيز آل عبداللطيف على هذا بقوله: (ولا شك أن هذه الدعوة وكذا جوابها تعطي دلالة جليّة على فداحة الانحراف سواءً في نجد أو خارجه وتكشف شدة التلبيس والمغالطة في شأن هذين الملحدين، فابن سحيم يهوّل من هذا الاتهام، ويرسل إلى الآفاق أن الشيخ الإمام يكفّرهما.. والشيخ الإمام ينفي هذا الاتهام، ويجعله بهتاناً عظيماً مع أن كفرهما ظاهر بيّن، حتى قال الإمام الذهبي –عن ابن عربي-: (ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله) (2)، والإمام البقاعي إنما جعل كتابه تنبيهاً للغبيّ فحسب! فسمّاه (تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي)، كما قال الذهبي – عن تائية ابن الفارض -: (فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلالة) (3)، وإنما نفى الشيخ الإمام عن نفسه دعوى تكفير ابن عربي وابن الفارض؛ فلأنه لم يقرر تكفيرهم ولم يتحدث عنها أو يشتغل بهما، لاسيما وأن الشيخ الإمام في مستهل دعوته، وابتداء تعليمه وتبليغه، ويحتاج إلى الترفق بالناس وتأليفهم (4). خاصة وأن فئاماً من الناس يعظّمون ابن عربي، وينخدعون بكتابه [الفتوحات المكية]، وكذا ابن الفارض) (5)
ولم يقتصر اهتمام الحنابلة بالتصوف على المتأخرين، بل سبقهم إليه الكثير من المتقدمين، بل من كبار المتقدمين الذين واجهوا الجهمية، ولذلك نرى ابن تيمية يخفف لهجته في نقد الصوفية الأوائل، بناء على أن بعضهم أو الكثير منهم كان حنبليا، أو كان له موقف
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/ 12، (الرسائل الشخصية)
(2) سير أعلام النبلاء 23/ 48.
(3) سير أعلام النبلاء 22/ 368.
(4) انظر: مجموعة التوحيد النجدية ص 339.
(5) مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية، ص 58.
كلكم كفرة (259)
من الجهمية.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك نموذج يعظمه السلفية كثيرا، لموقفه المتشدد من الأشاعرة.. ولكنهم في نفس الوقت وبناء على مواقفهم من الصوفية لا يجدون إلا أن يكفروه.. فهم يستعملونه ويكفرونه.. مثلما يستعملون ابن حجر والنووي وابن الجوزي والشاطبي وابن العربي والمازري لضرب الطوائف المختلفة.. ثم يرموهم بعد ذلك في جهنم تكفيرهم.
وهذا النموذج هو أبو إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب: [منازل السائرين] الذي شرحه ابن القيم في مدارج السالكين، وهم يعظمونه وينقلون عنه مواقفهم من الجهمية والأشاعرة، مثلما فعل الحافظ الذهبي في كتابه العلو (1).
وهو صاحب [كتاب ذم الكلام وأهله]، وهو أشهر كتبه، وقد نقل منه ابن تيمية نصوصا كثيرة في رسالته التسعينية، التي هي عبارة عن كتاب يتضمن تسعين وجها في نقض مذهب الأشاعرة، وخاصة في مسألة الكلام والقرآن.
وله كتاب [الفاروق في صفات الله سبحانه وتعالى]، والذي جرى فيه على منهج السلفية، ولذلك يعجبون به كثيرا، ويعتبرونه على أساسها من سلفهم.
قال الذهبي في ترجمة الإمام أبي إسماعيل عبدالله بن محمد بن علي الأنصاري الهرروي: (ولقد بالغ أبو إسماعيل في ذم الكلام على الاتباع فأجاد، ولكنه له نفس عجيب لا يشبه أئمة السلف في كتابه [منازل السائرين]، ففيه أشياء مطربة، وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمله لاح له ما أشرت إليه، والسنة المحمدية صلفة، ولا ينهض الذوق والوجد إلا على تأسيس الكتاب والسنة. وقد كان هذا الرجل سيفا مسلولا على المتكلمين، له صولة وهيبة واستيلاء على النفوس ببلده، يعظمونه، ويتغالون فيه، ويبذلون أرواحهم فيما يأمر
__________
(1) مختصر العلو، ص (278)
كلكم كفرة (260)
به. كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير، وكان طودا راسيا في السنة لا يتزلزل ولا يلين، لولا ما كدر كتابه [الفاروق في الصفات] بذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسن قصده...) (1)
وقال: (قد انتفع به خلق، وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين، وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم. كلا، بل هو رجل أثري، لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا، وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء الغيبة عن شهود السوي، ولم يرد محو السوي في الخارج، وياليته لا صنف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين! ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله، وذلوا له وتوكلوا عليه، وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (2)
وقد قال ابن تيمية وهو يتحدث عنه: (وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره، وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنف كتابه الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة وصنف كتاب تكفير الجهمية وصنف كتاب ذم الكلام وأهله وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع) (3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (18/ 509)
(2) سير أعلام النبلاء (18/ 509)
(3) منهاج السنة (5/ 359)
كلكم كفرة (261)
والسلفية المعاصرون يصرحون بتكفيره، كما قال الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري: (ومما يرد من قوله تعسفه وتكلفه في تسويغ حماقات الهروي صاحب منازل السائرين عندما يحوم حول الاتحاد والحلول وهما مذهبان غبيان كافران، وعندما يتكلف في استعراض رياء الصوفية وتظاهرهم بالشهقات والقشعريرة من خوف الله (زعموا) ويحولها إلى عبادات وصفاء روحي ونحن نعرفهم عن كثب لم يمتحوا من السنة بذنوب ولم يتأسوا بسلف صالح كجيل الصحابة وجيل أحمد بن حنبل، ومن تبعهم بإحسان، وإنما كانوا قوما يواصلون الصيام البدعي ويعتكفون في المقابر والخربات ويهمون بأوراد وضعية وطلسمات ممحوجة، وربما انتهجوا منهج صاحب كتاب (شمس المعارف الكبرى) فتجلت لهم الأرواح الأرضية وأملت عليهم السخام، فأحدهم يدعي أنه يسمع آذان ملائكة العرش والآخر كالمأفون محيي الدين بن عربي يزعم أن الرحمن تجلى له، وأن الرسول صافحه، وأنهما أمليا عليه أحكماما توصي بنسخ الشريعة، وهؤلاء حقهم أن تطهر منهم صحائف المسلمين ولا تلتمس التسويغ لكفرهم الغبي ولهذا قلت: يرد الكثير الكثير مما ورد في مدارك السالكين لاسيما ما أنكره سلفنا من إدراك السوي (الغير) (1)
وهكذا قال المعلقون على [مدارج السالكين] من أمثال الشيخ محمد الفقي، والأستاذ عماد عامر التي تدل على تكفيرهم له، فقد علق عماد عامر على النصوص التي ذكر الهروي فيها الفناء بقوله: (هذا لسان كفر ظاهر، ما كان أغنى ابن القيم عن الاعتذار لأصحابه بغياب العقل وفقد الإدراك والتمييز مع هذا الكلام، قد كان حسبه أن يشير إلى فساد هذا الكلام وبطلانه، ثم الله أعلم بأحوال هؤلاء) (2)
وعلق حامد الفقي فقال: (وهل في شرع الرسالة الموحى بها من عند ربنا الرحمن
__________
(1) الفنون الصغرى، (242 ـ 243)
(2) مدارج السالكين (1/ 148)
كلكم كفرة (262)
الرحيم هذا الفناء وما يستلزمه ويفضي إليه ويناسبه؟ غفر الله للشيخ الإمام ابن القيم فقد أجهد نفسه كثيرا جدا ـ بقلب سليم ـ في محاولة غسل أوضار الصوفية فهل بلغ غايته ونجح في مقصده؟)
بل إن تكفير السلفية للهروي يكاد يتعدى إلى ابن القيم نفسه الذي شرح كتابه، وسكت عن الكثير من المكفرات التي يعتبر السلفية الساكت عنها أو المقر لها كافرا، ولهذا نرى السلفية المحدثين يحذرون من كتاب مدارج السالكين، ويطلبون أن يقرأ بدله تهذيبه (1)، بل فيهم من حاول أن ينفي نسبة الكتاب لابن القيم لتضمنه الكثير من المكفرات..
ولذلك يمكن القول أنه ـ لولا التقية التي يمارسها السلفية في حق ابن تيمية وتلاميذه ـ لصرحوا بكفر صاحب المدارج، كما صرحوا بكفر صاحب المنازل، لأنه لا فرق بينهما، ومن يطالع تعليقات الشيخ محمد حامد الفقي على المدارج، يستطيع أن يستنبط الكثير من وجوه تكفير السلفية لابن القيم.. ولكنهم لو صرحوا بكفره لانهدت أركان كثيرة من البنيان السلفي الهش.
__________
(1) وقد سئل بعض أعلام السلفية المعاصرين: (ما رأي فضيلتكم في كتاب مدارج السالكين، حيث سمعت التحذير منه؟)، فأجاب: (كتاب: مدارج السالكين ـ غني عن التعريف، وفوائده جمة في بابه، ومع ذلك فإنه لا يخلو من بعض الملاحظات، بسبب المشرب الصوفي لمؤلف المنازل نفسها، شيخ الإسلام الهروي وليس هذا مجال لتفصيل ذلك، وقد قام غير واحد بتهذيب الكتاب، فلو رجع السائل لأحد هذه التهذيبات لكان أنفع له، كتهذيب عبد المنعم صالح العزي) انظر موقع الفتاوى في شبكة أسلام ويب.
كلكم كفرة (263)
السلفية.. وتكفير المدارس الصوفية
أخطر ما وصل إليه التكفير السلفي هو تكفيره للمدارس الصوفية بمشايخها وعلمائها ومريديها ومحبيها ومناصريها والمدافعين عنها.. فلم يسلم من سيف تكفيره بسببها إلا السلفية، وبعضهم ـ ممن هادن أو سكت ـ على خطر، كما سنرى في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
وما ذكرناه ليس سهلا ولا بسيطا ولا محدودا، ذلك أن الطرق الصوفية، ولفترات طويلة من التاريخ الإسلامي كانت هي المسيطرة والمؤثرة في المجتمع، فلم تكن تخلو أسرة ولا بيت من مريد لطريقة من الطرق، ومن عداهم كانوا ينظرون إلى الطريقة باعتبارها محلا للصالحين، ومأوى للطاهرين الموحدين.. وكانوا جميعا يعظمون الأولياء ويتبركون بهم ويزرون قبورهم.. وكانوا جميعا يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويستغيثون به، ويكتبون القصائد في مدحه..
وكيف لا يكون الأمر كذلك، وأكثر الأمة أسلم بسبب رجال الطرق الصوفية ومريديها ومحبيها.. فقد كانوا هم مفتاحهم للإسلام، وهل يمكن لأحد أن يعرض عن المفتاح الذي فتح الله له به الهداية؟
بناء على هذا لن نبذل جهدا كبيرا في هذا الفصل في إثبات تكفير السلفية للطرق الصوفية إما تكفيرا مطلقا، أو تكفيرا معينا.. لأنهم هم أنفسهم كفونا ذلك ـ وخاصة في هذا العصر ـ حيث ألفوا الكتب الكثيرة، وأصدروا الفتاوى الطويلة في تكفير كل رجالا التصوف وطرقها والمؤيدين لها.
والمعاصرون من السلفيين قد تميزوا عن السابقين بتوسيع دائرة التكفير لتشمل الأوائل من الصوفية كالجنيد ورابعة وغيرهما، ممن كان سلفهم الأول ينظر إليهم بنوع من
كلكم كفرة (264)
الاحترام والتقدير.
وقد ألفوا المؤلفات الكثيرة في ذلك.. والتي تحاول أن تعطي قاعدة مفادها: كل صوفي كافر.. ولا يهم في ذلك أن يكون متقدما أو متأخرا.. سلفيا أو خلفيا.. فمجرد نسبته للتصوف تطبعه بطابع الكفر، حتى لو برأه منه ابن تيمية وغيره.. فلا عبرة بذلك، لأن ابن تيمية ـ كما يقول هؤلاء السلفيون ـ لم يكن يدرك الحيل التي احتالوا بها عليه، ليبرئهم، ويسكت عنهم.
ومن باب المثال، أذكر هنا كتابا لقي إقبالا كبيرا من السلفيين منذ تأليفه إلى الآن، وهو مرجعهم الأكبر في هذا ـ بدل ابن تيمية ـ وهو كتاب (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) الذي يعتبر من أعظم الكتب التكفيرية التي كتبها السلفية، وخالفوا بها حتى مشايخهم الأوائل، وقد بدأ محمود عبد الرؤوف القاسم ـ صاحب الكتاب ـ كتابه هذا ببيان أن الصوفية جميعا شيء واحد، ويحملون فكرة واحدة، ولذلك فإن تكفير ابن تيمية أو غيره لأي واحد منهم، يجعل الجميع تحت طائلة التكفير.
يقول في ذلك: (لا يوجد إلا صوفية واحدة، غايتها واحدة، وحقيقتها واحدة (وسنرى أن طريقتها واحدة) منذ أن وجدت الصوفية حتى النهاية، وإن اختلفت الأسماء، وهذه براهين من أقوال عارفيهم (وصاحب البيت أدرى بما فيه) (1)
ونقل من نصوص الصوفية ما يدل على ذلك، كقول الجنيد (سيد الطائفة): (الصوفية أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم) (2)، وقول أبي نصر السراج (صاحب اللمع): (لأن علم الحقائق ثمرة العلوم كلها، ونهاية جميع العلوم، وغاية جميع العلوم إلى علم الحقائق، إذا انتهى إليها وقع في بحر لا غاية له، وهو علم القلوب، وعلم المعارف،
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 5
(2) الرسالة القشيرية (ص:127)
كلكم كفرة (265)
وعلم الأسرار، وعلم الباطن، وعلم التصوف، وعلم الأحوال، وعلم المعاملات، أي ذلك شئت فمعناه واحد) (1)، وقول أبي طالب المكي: (فأما المعرفة الأصلية التي هي أصل المقامات ومكان المشاهدات، فهي عندهم واحدة؛ لأن المعروف بها واحد، والمتعرف عنها، إلا أن لها أعلى وأول، فخصوص المؤمنين أعلاها، وهي مقامات المقربين، وعمومهم أولها، وهي مقامات الأبرار، وهم أصحاب اليمين) (2)
وهكذا نص على هذا الصوفية المتأخرون من أمثال ابن عجيبة الذي قال: (.. بخلاف مذهب الصوفية، فهي متفقة في المقصد والعمل وإن اختلفت المسالك.. فمرجع كلام القوم في كل باب لأحوالهم، وإلا فلا تنافي بين أقوالهم لمن تأملها، وذلك بخلاف مذهب غيرهم، والوجه فيه أن الحق واحد وطريقه واحدة وإن اختلفت مسالكها، فالنهاية واحدة، والذوق واحد، وفي معنى ذلك قال قائلهم:
الطرق شتى وطريق (3) الحق واحدة والسالكون طريق الحق أفراد
ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع، أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان، وهم متفقون فيه لأنه أمر ذوقي لا يختلف) (4)
وهكذا قال الشيخ عبد القادر عيسى: (وإن الطريق واحدة في حقيقتها، وإن تعددت المناهج العملية، وتنوعت أساليب السير والسلوك، تبعاً للاجتهاد وتبدل المكان والزمان، ولهذا تعددت الطرق الصوفية، وهي في ذاتها وحقيقتها وجوهرها واحدة) (5)
وهكذا قال الشيخ عبد الحليم محمود: (وفي الناس من يرى أن التصوف مذاهب
__________
(1) اللمع (ص:457)
(2) قوت القلوب: (2/ 79)
(3) ليستقيم البيت يجب أن يكون (الطرق شتى ودرب الحق...)
(4) الفتوحات الإلهية، (ص:101) وما بعدها.
(5) حقائق عن التصوف، (ص:272)
كلكم كفرة (266)
وفرق وطوائف، ولكن هذا التفكير المنحرف تأتى إِلى القائلين به من نظرتهم إلى علم الكلام وإلى الفلسفة؛ ففي علم الكلام: أشاعرة ومعتزلة ومشبهة، وفي الفلسفة: أرسطيون وإِفلاطونيون وديكارتيون.. ولقد خلط الكاتبون بين هذه الدراسات والتصوف، فزعموا أن في التصوف مذاهب وفرقاً وطوائف ولو أمعنوا النظر، لعرفوا أن التصوف تجربة روحية، وليس نظراً عقلياً، وإذا كان النظر العقلي يفرق الناظرين إلى طوائف وفرق، فإن التجربة لا يختلف فيها اثنان.. وكما أنه لا يستساغ الخلط بين الوسائل والغايات في أي ميدان من الميادين، فإنه لا يجوز أن يستساغ الخلط بين طرق التصوف، وهي وسائل، وبين الغاية، وهي التصوف نفسه، فطرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من بعض، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة. التصوف إذن مذهب (بصيغة المفرد) لا مذهب (بصيغة الجمع) (1)
ومع كون ما ذكره هؤلاء الصوفية واضح لا حرج فيه، فالتجربة الصوفية تختلف عن الرؤى العقلية، ولذلك فإنها واحدة من حيث أهدافها لأنها جميعا تهدف إلى التعرف على الله والتواصل معه إلا أن الكاتب راح يستنتج منها ـ كعادة السلفية ـ أن إثبات كفر واحد من هؤلاء سيعمم النتيجة على الجميع، وتصبح المعادلة كالتالي: كل صوفي كافر، و(س) صوفي، إذن هو كافر..
وحينها لا نحتاج لإثبات كفر أي شخص إلا لإثبات ميوله الروحية، ومحبته للصالحين، أو قراءة كتبهم، فإن دعا الآخرين إلى ذلك صار كفره مضاعفا، لأنه سيتحمل وزر كل من كفر بسببه.
يقول في ذلك: (هذه أقوال لبعض كبار القوم، نخلص منها إلى أن للصوفية عقيدة واحدة يدين بها كل المتصوفة قديمهم وحديثهم، وأن الطرق الصوفية (كالشاذلية والرفاعية
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:12، 13)
كلكم كفرة (267)
والقادرية والخلوتية والنقشبندية واليشرطية والمولوية والبكطاشية والتجانية وغيرها وغيرها، وإن اختلفت أسماؤها، فهي كلها تؤدي إلى هدف واحد هو العقيدة الصوفية الواحدة) (1)
وهو ـ كسائر السلفية في تعاملهم مع المخالفين لهم ـ يشق على قلوبهم، ويرميهم بالتقية إن دافعوا عن أنفسهم في وجه أي بهتان يصب عليهم.. ويصورهم بصورة المتآمرين على ذلك الإسلام السلفي النظيف، فيقول: (سيظن الكثيرون -بناء على ما تقدم- أنه يكفي لدراسة الصوفية أن ندرس عقيدة صوفي واحد، كالغزالي مثلاً، أَو ابن عربي، أو ابن عجيبة، أو غيره، ثم نطلق حكماً بكل ثقة واطمئنان على جميع المتصوفة، وإن حكمنا سيكون علمياً صحيحاً، فنقول: هذا صحيح كل الصحة من الناحية العلمية، ولكننا أمام جماعة باطنية لهم عقيدة سرية، استهوت عقولهم ونفوسهم واستحوذت عليها، فلا يهتدون سبيلًا إِلا سبيلها، وهم يدافعون عنها بكل ما لديهم من إِمكانيات وبالمراوغات والمغالطات واللف والدوران وجميع الأساليب اللاعلمية واللاأخلاقية) (2)
ثم يضرب مثلا على ذلك فيقول ـ بيقين ليس وراءه يقين ـ (وكمثل على ذلك: إِنهم يعلمون يقيناً وخاصة الواصلون منهم أن الصوفية هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة الإسلامية، ومع ذلك فهم يكتمون هذه الحقيقة ويشيعون بين الناس أن الصوفية هي قمة الإسلام والإيمان وهي منتهى التقى والورع، وهي مقام الِإحسان، وقد انطلت هذه الخدعة على الناس وصدقوها، حتى لو قلت لأحدهم: إِن الصوفية زندقة، لثار عليك واتهمك الاتهامات التي لا تخطر لك على بال، رغم أَنه ليس صوفيًّا، ولكنه اقتنع بالخدعة وانجرت
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 8.
(2) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 8.
كلكم كفرة (268)
عليه ذيولها) (1)
وهو ـ كسائر السلفية ـ لا يقبل من الصوفية ـ كما لا يقبل من غيرهم ـ إلا أن يخضعوا لكل ما ينسبونه لهم، فإن دافعوا عن أنفسهم بالحقائق العلمية القطعية اعتبروا مراوغين مخادعين يستعملون أساليب الباطنية، يقول في ذلك: (ومثل من مراوغاتهم المعتادة: لو جئتهم بدراسة عن صوفية ابن عربي مثلًا، لسمعت من يقول لك: هذا مدسوس عليه، أَو لسمعت من يقول: هذا شيء لا يدين به الباقون، أو لسمعت: هذا كان فيما مضى من الزمان، ولم يبق له أثر، أو تسمع من يقول: الصوفية الآن لا يعرفون هذه الأمور ولا يفهمونها، فأَكثرهم بسطاء وسذج، أو هذا يعرفه بعضهم ويجهله الآخرون، وإن كانت الدراسة حول صوفي غير مشهور، فسيكون الجواب: هذا مندس على الصوفية، مدع لها، والصوفية الحقة بريئة منه ومن أمثاله، والصوفية الحقة هي قمة الِإسلام والِإيمان.. ولو أتيتهم بنصوص صوفية للغزالي مثلاً، وبرهنت لهم على صحتها وصحة نسبتها إلى قائلها وأريتهم مواضع الضلال فيها، فالجواب الذي ستسمعه: هذا كلام له تأويل! أو يجب أن نؤوله! أو هذا كلام لا نفهمه، ومثل هذه الأجوبة، نسمعها أيضاً من غير المتصوفة من كثير من الناس، لأنهم سمعوها سابقاً من المتصوفة، وسمعوها وسمعوها كثيراً حتى اقتنعوا بها) (2)
وللأسف فإنهم هم أنفسهم ـ أي السلفية ـ تأتيهم بالبراهين القاطعة من كتبهم، فيذكرون لك أن فيها فلان، وهو ضعيف، وفلان لم يوثقه ابن حبان، أو تكلم فيه ابن أبي زرعة.. فإن ذكرت لهم شيئا مما قاله ابن تيمية أو غيره مما ينكرونه زعموا أنه مدسوس عليهم.. فإن ذكرت لهم رجلا من السلف الذي أثنى عليه ابن القيم كالهروي، ذكر لك أن ابن القيم انخدع فيه.. وهكذا يتيحون لأنفسهم ما يمنعون منه غيرهم.
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 9.
(2) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 10.
كلكم كفرة (269)
حتى أنه في موضوعنا هذا المتعلق بالتكفير.. إذا نقلت لهم النصوص الكثيرة من تكفير سلفهم للأشاعرة أو غيرهم، يأتيك بنص قاله واحد من المتأخرين.. ثم يقول لك: نحن لا نقول بذلك، وها هو فلان أفتى بهذه الفتوى.. فيسمحون للواحد منهم أن ينسخ كل جرائم سلفه.. بينما يكلفون الصوفية أو غيرهم من مخالفيهم بأن يتحملوا أوزار أي واحد منهم.
وهذا يذكرنا بموقف السلفية من تحريف الشيعة للقرآن الكريم، حيث يلجأون إلى كتاب واحد ألفه رجل منهم، ليس له أي مكانة بينهم، ويتغافلون عن مئات الكتب والتصريحات والنصوص التي تؤكد أن قرآن الشيعة هو نفسه قرآن سائر المسلمين.
وهذا كله من التطفيف السلفي في الميزان الذي جعلهم يضعون مكاييل خاصة بهم، ومكاييل خاصة بغيرهم.
وأحب أن أبين هنا أن الصوفية وعلى مدار التاريخ كانوا من أكثر الناس تسامحا مع الأمة جميعا، بل مع البشر جميعا، ولهذا لم يحفظ عنهم أي إساءة أو أذى أو ممارسة عنف مع أي جهة من الجهات.. وهذا ما جعلهم ينتشرون في كثير من مناطق الإسلامي، وينشرون معهم الإسلام وسماحة الإسلام.
وقد قال الصوفي الكبير الأستاذ السيد محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية في كتابه المعنون بـ[أهل القبلة كلهم موحدون وكل مساجدهم مساجد التوحيد، ليس منهم كافر ولا مشرك ولا وثني ولا مرتد، وان قصر أو اخطأ أو تجاوز] يبين سماحة الصوفية مع كل مذاهب الأمة وطوائفها، وذلك تعليقا على الحديث الذي يتعلق به السلفية في تكفير سائر الأمة والحكم بهلاكها، فقد قال: (بقي الكلام عن الحديث الذي لا يزال يلغط به بعضهم، ابتغاء تطبيقه على الجماعات الصوفية بخاصة وليس إلا [هو يقصد في الفترة التي كتب فيها الكتاب حيث كانت الحرب حينها متوجهة للصوفية، أما الآن فهي متوجهة
كلكم كفرة (270)
للشيعة].. ونحن على تقدير صحته، قد بينا لك من نصوص القرآن ثم من المسلمات البديهية أن تعدد السبل إلى المقصود الواحد أمر طبيعي وشرعي، فلا ينسحب عليه حكم (تعدد الفرق) لأن الذي يطلق عليها تجاوزا أو مجازا اسم (الفرق) الآن في الإسلام، كلها دائرة في فلك الكتاب والسنة، فهي على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه. فهى (مذاهب) أو (مشارب) أو (سبل) تبتدئ من الشهادتين، وتنتهي عندها حقهما وأثرهما. فهى واحدة).. فالسادة المالكية، والأحناف، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والظاهرية والإباظية والإمامية والهادوية والصوفية والسلفية، والأشعرية والما تريدية، بل والمعتزلة (المعتدلين) كل هؤلاء وأمثالهم يسيرون في طريق واحد على (أساليب) مختلفة من الفهم والاستنباط والمقارنة والبحث.. ويلحق بهؤلاء جميعا سائر الهيئات والجماعات الإسلامية السليمة المنتشرة في بقاع الأرض وهي ألوف لا تحصى) (1)
ثم بين موضع انطباق الحديث، فقال: (وإنما ينطبق الحديث (على فرض صحته) على غلاة الخوارج والباطنية والقرامطة والبهائية والتاديانية والجماعات المستحدثة من السلفية ونحو هؤلاء من الفرق التي ذكرها أصحاب كتب (الملل والنحل) ممن خالفوا الأصول عمدا، وأنكروا المعلوم من الدين بالضرورة، وليس في طوائف الصوفية خاصة وبقية الطوائف الاسلامية المعتدلة من خالف الاصول عمدا أو أنكر المعروف من الدين بالضرورة وإن تطرف أو غالى، ربما كان فيهم المقصرون، أو المخطئون، أو العصاة، وهذا لا يحرمهم من الدين ولا يسحب عليهم حكم الفرق الكافرة، فبعض الفرق أشد غلوا وانحرافا وتطرفا وانجرافا، ومع هذا فهى مسلمة، فالمعصية شيء، والردة والزندقة والشرك والكفر شيء آخر) (2)
__________
(1) أهل القبلة كلهم موحدون، ص 24.
(2) أهل القبلة كلهم موحدون، ص 25.
كلكم كفرة (271)
بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل أن نثبت بالأدلة القطعية تكفير السلفية للصوفية تكفيرا مطلقا أو تكفيرا معينا.
يضع السلفية الكثير من نواقض الإيمان المرتبطة بالتصوف، منها ما يرتبط بالعقائد والتصورات، ومنها ما يرتبط ببعض السلوكات العملية التي يدرجها السلفية ضمن نواقض توحيد الألوهية، وقد استقرأنا أقوالهم في ذلك ابتداء من السلف الأول إلى اليوم، فوجدنا أنه يمكن تصنيفها إلى أربعة نواقض كبرى:
1 ـ تهمة التنزيه المطلق للحضرة الإلهية: فالسلفية يتهمون الصوفية بالقول بوحدة الوجود بمعناها الفلسفي الذي يجعل من الخالق والمخلوق شيئا واحدا، أو وحدة الموجود ـ كما يعبر بعضهم ـ أو تنزيه الله عن أن يوجد معه غيره كما يمكن أن يعبر..
2 ـ تهمة المواجيد والأشواق الروحية: أو وحدة الشهود والفناء والحلول والاتحاد.
3 ـ تهمة تعظيم الحضرة النبوية: بالتوسل والاستغاثة بها، وكتابة القصائد والزيارات والاحتفال بالمناسبات المختلفة..
4 ـ تهمة تقديس الولاية والأولياء: ومنها تعظيم آل بيت النبوة، واتهام الصوفية بالتشيع على أساس ذلك، أو بالقبورية والشرك نتيجة تعظيم مقامات الأولياء.
1 ـ تهمة التنزيه المطلق للحضرة الإلهية
وهذه أكبر التهم، وقد اهتم بها ابن تيمية كثيرا، وعلى أساسها كفر كثيرا من مشايخ الصوفية المتأخرين.. والمعاصرون من السلفية يرمون بها كل الصوفية ابتداء من الجنيد إلى آخر صوفي.. وهم يقرؤون كل ما يقوله الصوفية من معان تحض على التوحيد إلى هذا المعنى.
كلكم كفرة (272)
ومن أمثلة ذلك قول صاحب كتاب [الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ] في فصل خصصه لوحدة الوجود عند الصوفية: (إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود) (1)
ثم راح يسوق الكثير من تلك النصوص الجميلة التي ذكرها الصوفية، والتي راحوا من خلالها يعمقون صلة المؤمنين بالله، ليجعلوا قبلة قلوبهم واحدة هي الله.. لكنها لم تكن جميلة عند السلفية، لأن لوثة الخوف من الشرك التي امتلأت بها عقولهم جعلتهم ينكرون كل شيء، ويشكون في كل شيء.. وليتهم إذ لم يفهموها، أو لم تعجبهم، سكتوا، بل إنهم شنوا حملة كبيرة عليها، واعتبروها زندقة وهرطقة، واعتبروا أولئك العارفين الذين نطقوا بها زنادقة منحرفين ضالين.
ومن أمثلة ذلك تلك النصوص الجميلة الممتلئة بتنزيه الله وتعظيمه، قول أبي حامد الغزالي: (.. فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل) (2)
وقد علق صاحب الكتاب على هذا بقوله: (يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم) (3)
وينقل عن الغزالي قوله: (نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 75.
(2) إحياء علوم الدين: (1/ 254)
(3) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 91.
كلكم كفرة (273)
سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية. والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به... وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال... ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال) (1)
ومع أن هذا النص واضح في تنزيه الله وتعظيمه وأنه صاحب الوجود الحقيقي، وما عداه لا يملك هذا الوجود الأصلي، بل وجوده تبعي، فقد علق عليه الكاتب بقوله: (هذا النص مشحون ـ أي بوحدة الوجود ـ لكن أهم ما فيه هو: 1 - استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.. 2 - قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).. 3 - إعطاؤه لكلمة (الربوبية) معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/ 243)
كلكم كفرة (274)
تابيعهم.. 4 - إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد: (أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح). ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون).. 5 - تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال) (1)
بهذه الطريقة يحلل السلفية كلام العارفين، وبقلوبهم المريضة يحولون تلك المعاني الرقيقة السامية إلى هذا المنحدر السحيق.. كل ذلك ليرضوا نزوة تكفير علم عظيم اتفقت الأمة على احترامه والاستفادة منه.
وهكذا ينقل قول الغزالي ـ وهو يتحدث عن إكرامات الله للسالكين إليه ـ: (ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية)؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله) (2)
وعلق على ذلك بتوضيح مراد الغزالي الحقيقي على حسب ما يفهم العقل السلفي، فقال: (نحن الآن نعرف مما سبق ومما سيأتي من نصوص، أنه وأنهم يعنون بقوله وقولهم:
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 85.
(2) إحياء علوم الدين: (3/ 13)
كلكم كفرة (275)
(أفعال الله) أي: حركاته (سبحانه عما يصفون) (1)
وهكذا ينقل هذه الدرر الجميلة من كلام الغزالي عن حقيقة تنزيه الصوفية المطلق لله، في قوله: (والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد).. والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد) (2)
ثم يجيب عن سر ذلك، فيقول: (فإن قلت: كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الِإنسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع)؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ... وهذه المشاهدة التي لا
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 86.
(2) إحياء علوم الدين: (4/ 212)
كلكم كفرة (276)
يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز) (1)
ثم يعلق الكاتب على هذا التوحيد العرفاني السامي بقوله: (أرجو الانتباه إلى كلمتى: (الجمع والتفرقة) اللتين يشرح معناهما بوضوح، ويقول: (فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضوة الِإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره، ولا يُتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تُستبان بأضدادها، وما عمّ وجوده حتى إنه لا ضدّ له، عسر إدراكه) (2)) (3)
ومع وضوح هذا الكلام وجماله وروحانيته إلا أن السلفية لا يستفيدون منه إلا شيئا واحدا هو كفر صاحبه.. أما لو ذكر الغزالي بأن الله ليس سوى جرم من الأجرام، أو جسم من الأجسام، وأن له بيتا في الجنة، وأنه يجلس ويستلقي ويجري ويهرول، فإنه حينها يصير موحدا ومسلما.
هذا مجرد مثال عن مواقف السلفية من كلام أبي حامد الغزالي في التوحيد السني التنزيهي، لا التوحيد السلفي الوثني.
ونحب أن نسوق هنا للدلالة على معنى وحدة الوجود عند الصوفية، والتي كفرهم ابن تيمية والسلفية جميعا بسببها، كلام عالمين جليلين نالا حظهما من الاهتمام من لدن الصوفية بمدارسها المختلفة، كما نالا حظهما من التكفير من المدارس السلفية المختلفة.
__________
(1) الِإحياء: (4/ 213)
(2) الإِحياء: (4/ 276)
(3) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 86.
كلكم كفرة (277)
أما أولهما، فهو الشيخ عبد القادر عيسى، وهو شيخ طريقة له مريدوه، وشهادته لها أهميتها الكبرى، باعتبار علاقته العملية بالتصوف.. وأما الثاني فهو الشيخ عبد الحليم محمود، وهو باحث وأكاديمي ومطلع على الفلسفات المختلفة، بالإضافة لممارسته للتصوف.
أما الأول، وهو الشيخ عبد القادر عيسى فقد عقد فصلا في كتابه العظيم [حقائق عن التصوف] لرد هذه الشبهة عن الصوفية قدم له بقوله: (اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال، وفهم كلامهم على غير المراد. ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر ورجع إِليهم ليعرف مرادهم. لأن هؤلاء العارفين مع توسعهم في هذه المسألة لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إِشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودوَّنوا لأنفسهم وتلاميذهم لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإِيضاح لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر) (1)
وبناء على هذا فقد راح ـ وهو الشيخ المربي صاحب الطريقة ـ يشرح المراد منها عند الصوفية، وأن معناها لا يعود إلا لتنزيه الله عن مشابهة مخلوقاته في أي شيء حتى في الوجود نفسه، فالله صاحب الوجود الحقيقي الواجب، وأما مخلوقاته، فوجودها تبعي لا ذاتي، وناقص لا كامل، فقال: (ونظراً لأن مسألة وحدة الوجود أخذت حظاً كبيراً من اهتمام بعض العلماء، وشغلت أذهان الكثير منهم، أردنا أن نزيد الموضوع إِيضاحاً وتبسيطاً خدمة للشريعة وتنويراً للأفهام فنقول: إِن الوجود نوعان: وجود قديم أزلي؛ وهو واجب، وهو الحق سبحانه وتعالى، قال تعالى: {ذلِكَ بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ} [الحج: 22]. أي الثابت
__________
(1) حقائق عن التصوف، ص 543.
كلكم كفرة (278)
الوجود، المحَقَّق، ووجود جائز عرضي ممكن، وهو وجود من عداه من المُحْدَثات) (1)
وبناء على هذه البديهية القرآنية والعقلية راح يميز بين الفهم الشرعي لوحدة الوجود كما يقول بها الصوفية، ووحدة الوجود الفلسفية، والتي يتوهم السلفية أنها من مقولات الصوفية.
فذكر أن وحدة الوجود الفلسفية والتي تعني (اتحاد الحق بالخلق، وأنه لا شيء في هذا الوجود سوى الحق، وأن الكل هو، وأنه هو الكل، وأنه عين الأشياء، وفي كل شيء له آية تدل على أنه عينه) (2)
وقد حكم على هذا النوع من الوحدة بأنه (كفر وزندقة وأشد ضلالة من أباطيل اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، وقد شدَّد الصوفية النكير على قائله، وأفتَوْا بكفره، وحذَّروا الناس من مجالسته. قال العارف بالله أبو بكر محمد بناني: (فاحذر يا أخي كلَّ الحذر من الجلوس مع من يقول: ما ثَمَّ إِلا الله، ويسترسل مع الهوى، فإِن ذلك هو الزندقة المحضة، إِذ العارف المحقق إِذا صح قدمه في الشريعة، ورسخ في الحقيقة، وتَفَوَّهَ بقوله: ما ثَمَّ إِلا الله، لم يكن قصدهُ من هذه العبارة إِسقاطَ الشرائع وإِهمال التكاليف، حاش لله أن يكون هذا قصده) (3)) (4)
أما وحدة الوجود الثانية، والتي يقصدها الصوفية بتعبيراتهم المختلفة، فهي (وحدة الوجود القديم الأزلي، وهو الحق سبحانه، فهو لاشك واحد منزه عن التعدد. ولم يقصدوا بكلامهم الوجود العرضي المتعدد. وهو الكون الحادث، نظراً لأن وجوده مجازي، وفي أصله عَدَمِيٍّ لا يضر ولا ينفع. فالكون معدوم في نفسه، هالك فانٍ في كل لحظة. قال تعالى: {كُلُّ
__________
(1) حقائق عن التصوف، ص 544.
(2) حقائق عن التصوف، ص 544.
(3) مدارج السلوك إِلى ملك الملوك للعارف الكبير محمد بناني المتوفى 1284 هـ.
(4) حقائق عن التصوف، ص 544.
كلكم كفرة (279)
شَيءٍ هالِكٌ إلا وَجهَهُ} [القصص: 88]. وإِنما يُظهره الإِيجاد، ويُثْبتُه الإِمداد. الكائنات ثابتة بإِثباته، وممحوةٌ بأَحدِّيَة ذاته، وإِنما يُمْسكه سر القيومية فيه) (1)
وهم يستشهدون لهذا المعنى بالمعنى الإشاري المبثوث في ثنايا قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فيفهمون منها أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي أن وجوده قاصر على جهة ربه.
وربما يفيد سياق الآية هذا المعنى، فهو قد ورد في أثناء الدعوة إلى توحيد الله في الدعاء والعبادة، ليقول من جهة لا تتخذ أي ند تدعوه من دون الله فسيأتي اليوم الذي يهلك فيه، فلا يبقى شيء غير الله، وقد تفيد ما يريده خالعو لباس الكون المعدوم من نفي الوجود الذاتي، فلذلك يكون من دعا غير الله، متوجها بالدعاء إلى الوهم، قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]
ولا تنافي بين المعنيين، ولا تصادم بينهما، ولا يلغي أحدهما الآخر (2)، بل إن المعنى الأول مؤسس على المعنى الثاني.
وهكذا يفهم العارفون من كل النصوص الواردة في إثبات وحدانية الحق أو أحديته أو أحقيته: وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال من ضمن دعاء التهجد: (أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق
__________
(1) حقائق عن التصوف، ص 545.
(2) وقد أنكر ابن تيمية هذا التفسير بوجوه من الإنكار قال في التقديم لها: وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين من أن المعنى كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه بعضها يشير إلى الرجحان وبعضها يشير إلى البطلان. انظر: مجموع الفتاوى:2/ 28.
كلكم كفرة (280)
والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق) (1)
ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت الحق) أي واجب الوجود؛ فأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب، فوجود الله هو الوجود الحقيقي إذ وجوده لنفسه، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه، فهو معدوم باعتبار ذاته في كل الأحوال، كما قال الشيخ أبو مدين (2):
الله قل وذر الوجود وما حوى... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال...
فالكل دون الله أن حققته... عدم على التفصيل والإجمال...
واعلم بأنك والعوالم كلها... لولاه في محو وفي اضمحلال...
من لا وجود لذاته من ذاته... فوجوده لولاه عين محال...
والعارفون بربهم لم يشهدوا شيئاً... سوى المتكبر المتعال...
ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً... في الحال والماضي والاستقبال
وعبر الآخر عن انشغال العارف بالله عن الكون بقوله:
شغل المحب عن الهواء بسره... في حب من خلق الهواء وسخره...
والعارفون عقولهم معقولة... عن كل كون ترتضيه مطهره...
فهم لديه مكرمون وفي الورى... أحوالهم مجهولة ومستره
وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كما ورد في الحديث كلمة
__________
(1) صحيح البخاري (2/ 61)
(2) أبو مدين، الديوان، ص 57.
كلكم كفرة (281)
لبيد (1): ألا كل شيء ما خلا الله باطل (2).
ومن هذا الباب جاءت أسماء الله تعالى التي نص عليها قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]
فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه الأسماء يلبس الأشياء جميعا ثوب العدم، ليبقى الحق وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي.
وقد قال سيد قطب مبينا عمق المعاني التي تدل عليها هذه الأسماء الحسنى: (وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى. حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة. فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]
ويقول عن المعاني التي يستشعرها، وهو يعيش في ظلال هذه الأسماء: (الأول فليس قبله شيء. والآخر فليس بعده شيء. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء.. الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان. وهما مطلقتان. ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله. وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه. حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله. فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده. وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته. وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود) (3)
__________
(1) وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها أشعر كلمة تكلمت بها العرب، وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر، وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر، وفي أخرى أصدق بيت قالته الشعراء، وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.
(2) صحيح البخاري (5/ 53)، صحيح مسلم (7/ 49)
(3) سيد قطب (5/ 3161)
كلكم كفرة (282)
ونحب أن نبين هنا أن سيد قطب على الرغم من عدم انتمائه لأي طريقة صوفية، ومع ذلك رمي بسبب هذه الكلمات بالقول بوحدة الوجود.. وكفر بسببها، وبأسباب أخرى سنراها في الفصل الخاص بتكفير السلفية للحركات الإسلامية.
وقد نبه الشيخ عبد القادر عيسى في نهاية بيانه لموقف الصوفية من وحدة الوجود إلى أن الصوفية يتواصون بينهم في عدم الحديث عن أمثال هذه المسائل، لأنها مسائل ذوقية، والعارف هو الذي يعيش الحقيقة لا الذي يجادل بها، فقال: (وعلى كلٌّ فالأَوْلى بالصوفي في هذا الزمان أن يبتعد عن الألفاظ والتعابير التي فيها إِيهام أو غموض أو اشتباه، لئلا يوقع الناس بسوء الظن به، أو تأويل كلامه على غير ما يقصده، ولأن كثيراً من الزنادقة والدخلاء على الصوفية قد تكلموا بمثل هذه العبارات الموهمة والألفاظ المتشابهة، لِيَظْهروا ما يُكِنُّونَه في قلوبهم من عقائد فاسدة، ولِيصلوا بذلك إِلى إِباحة المحرمات، ولِيبرِّرُوا ما يقعون فيه من المنكرات والفواحش، فاختلط الحق بالباطل، وأُخِذَ المؤمن الصادق بجريرة الفاسق المنحرف، ولهذا سيَّجَ الصوفية بواطنهم وظواهرهم بالشريعة الغرَّاء، وأوْصَوْا تلامذتهم بالتمسك بها قولاً وعملاً وحالاً، فهي عندهم باب الدخول وسلم الوصول، ومَنْ حاد عنها كان من الهالكين) (1)
بعد أن عرفنا تفسير الشيخ عبد القادر عيسى لحقيقة وحدة الوجود ـ كما يفهمها الصوفية، لا كما يفهمها الفلاسفة ـ نذكر الآن تفسير الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق، والذي اهتم بالتصوف كثيرا، إلى جانبه اهتمامه بالفلسفة، وشهادته لها أهميتها الكبرى في هذا المجال.
وقد تعرض لها الشيخ عبد الحليم محمود في مواطن كثيرة من كتبه، وبين اتفاقها مع العقائد الإسلامية، وبعدها عن الفلسفات الإلحادية، ومن ذلك ما ذكره في كتابه (أبو
__________
(1) حقائق عن التصوف، ص 546.
كلكم كفرة (283)
العباس المرسي) حيث قال: (نريد أن نبدأ مباشرة بملاحظة تزيل – بصورة غير متوقعة – حدة المناقشة في هذا الموضوع. وذلك أننا بصدد (وحدة الوجود) ولسنا بصدد وحدة الموجود. والموجود متعدد: سماء وأرضا. جبالا وبحارا. لونا ورائحة وطعما. متفاوت ثقلا وخفة.. ولم يقل أحد من الصوفية الحقيقيين – ومنهم ابن العربي والحلاج – بوحدة الموجود – وما كان للصوفية، وهم الذروة من المؤمنين أن يقولوا – وحاشاهم – بوحدة الموجود) (1)
وبعد أن بدأ هذه النتيجة المهمة التي توضح الفرق بين معنى وحدة الوجود عند الصوفية ومعناها عند الفلاسفة، أخذ يتحدث عن سبب إلصاق تهمة القول بوحدة الوجود الفلسفية بالصوفية، فقال: (وقد تتساءل: من أين اذن أتت الفكرة الخاطئة التي يعتقدها كثير من الناس. من أن الصوفية يقولون بوحدة الموجود؟! وتفسير ذلك لا عسر فيه: إن فريقا من الفلاسفة في الأزمنة القديمة، وفي الأزمنة الحديثة، يقولون بوحدة الموجود. بمعنى أن الله – سبحانه وتعالى عن إفكهم – هو والمخلوقات شيء واحد. قال بذلك هيراقليط في العهد اليوناني: والله عند نهار وليل صيف وشتاء، وفرة وقلة، جامد وسائل – أنه على حد تعبيره – كالنار المعطرة تسمى بإسم العطر الذي يفوح منها تقدس سبحانه وتنزه عما يقول، والله سبحانه وتعالى في رأي (شلي) في العصور الحديثة. هو هذه البسمة الجميلة على شفتي طفل باسم. وهو هذه النسائم العليلة التي تنعشنا ساعة الأصيل. وهو هذه الإشراقة المتألقة بالنجم الهادي في ظلمات الليل، وهو هذه الوردة اليافعة تنفتح وكأنها ابتسامات شفاه جميلة. إنه الجمال إينما وجد، ولكنه أيضا – سبحانه وتعالى – القبح أينما كان. وكما يكون طفلا فيه نضرة، وفيه وسامة. يكون جثة ميت، ويكون دودة تتغذى من جسد ميت. ويكون قبرا يضم بين جدرانه هذه الجثة، وهذا الدود. أستغفرك ربي أوتوب اليك. ولوحدة الوجود – بمعنى وحدة الموجود – أنصار في كل زمان. ولما قال الصوفية.. بالوجود الواحد.. شرح
__________
(1) أبو العباس المرسي، ص 132.
كلكم كفرة (284)
خصومهم الوجود الواحد بالفكرة الفلسفية عن وحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود وفرق كبير بينهما. ولكن الخصومة كثيرا ما ترضى عن التزييف وعن الكذب في سبيل الوصول إلى هدم الخصم. والغاية تبرر الوسيلة كما يقولون) (1)
هذا هو السبب الأول، وهو مرتبط بالاشتراك اللفظي بين المصطلحين: الفلسفي والصوفي مع أن لكل منهما دلالته الخاصة.
وأما الثاني فمرتبط باشتراك لفظي آخر.. ليس بين الصوفية والفلاسفة.. وإنما بين الصوفية والمتكلمين، وقد وضحه الشيخ عبد الحليم محمود بقوله: (وشيء آخر في غاية الأهمية، كان له أثر كبير في الخطأ في فهم فكرة الصوفية عن الوجود الواحد، وهو أن الإمام الأشعري رأي في فلسفته الكلامية أن الوجود هو عين الموجود، ولم يوافقه الكثير من الصوفية على هذه الفكرة الفلسفية. ولم يوافقه الكثير من مفكري الإسلام وفلاسفته على رأيه. وهو رأي فلسفي يخطئ فيه أبو الحسن الأشعري أو يصيب، وما مثله في آرائه الفلسفية الا مثل غيره في هذا الميدان يخطئ تارة ويصيب أخرى، ورأى مخالفوه أن الوجود غير الموجود. وأنه ما به يكون وجود الموجود. ولما قال الصوفية بالوجود الواحد. شرح خصومهم فكرتهم في ضوء رأي الأشعري، دون أن يراعوا مذهبهم ولا رأيهم. ففسروا قولهم بالوجود الواحد على أنه قول بالموجود الواحد) (2)
ثم ذكر سببا ثالثا لذلك الخلط بين قول الصوفية وقول الفلاسفة ـ وهو الذي يتشبت به السلفية في العادة ـ وهو (هذه الكلمات التي تناثرت هنا وهناك مخترعة ملفقة مزيفة، ضالة في معناها، تافهة في قيمتها الفلسفية غريبة على الجو الإسلامي تنادي بصورتها ومعناها: أنها اخترعت تضليلا وافتياتا، إنها هذه الكلمات التي يعزونها الى الحلاج، أو الى غيره.. لا توجد
__________
(1) أبو العباس المرسي، ص 133.
(2) أبو العباس المرسي، ص 134.
كلكم كفرة (285)
في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه.. لقد اخترعوها اختراعا ثم وضعوها أساسا تدور عليه أحكامهم بالكفر والإضلال. ويكفي أن يتشبث بها انسان فيكون في منطق البحث غير أهل الثقة) (1)
وبناء على هذا راح الشيخ عبد الحليم محمود يوضح مدى عقلانية وشرعية ما يطرحه الصوفية من معان حول وحدة الوجود، فقال: (الوجود الواحد: وهل في الوجود الواحد من شك؟ إنه وجود الله المستغني بذاته عن غيره، وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن، وليس لكائن غيره سبحانه. الوجود من نفسه، انه سبحانه الحالق. وهو البارئ المصور.. وصلة الله بالإنسان إذن: هي أنه سبحانه يمنحه الوجود الذي يريده له في كل لحظة من اللحظات المتتابعة. فشكل حياته في كل بصورة أمده سبحانه وتعالى بها. وصلة الله بكل كائن: إنما هي على هذا النمط) (2)
ثم بين أن معنى وحدة الوجود في النصوص القرآنية هو نفسه معنى القيومية، فالله سبحانه وتعالى (قيوم السموات والأرض قائم على كل نفس بما كسبت، وقائم على كل ذرة من كل خلية وقائم على كل ما هو أصغر من ذلك وما هو أكبر، بحيث لا يعزب عن هيمنته وعن قيوميته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. هذه القيومية أخذ القرآن والسنة يتحدثان عنها في استفاضة مستفيضة ليهزا الإنسان هزة عنيفة، فلا يخلو على الأرض، ولا يتبع هواه، وانما يرتفع ببصره، ويستشرف بكاينه الى الملأ الأعلى مستخلصا نفسه من عبودية المادة ليوحد الله سبحانه وتعالى في عبودية خالصة، وفي إخلاص لا يشوبه شرك من هوى أو شرك من سيطرة المادة أو الغرائز) (3)
__________
(1) أبو العباس المرسي، ص 135.
(2) أبو العباس المرسي، ص 136.
(3) أبو العباس المرسي، ص 137.
كلكم كفرة (286)
وبناء على هذا راح يستعرض آيات القرآن الكريم التي يستدل بها الصوفية عادة في إثبات وحدة الوجود القرآنية التي يؤمنون بها، ومنها قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58، 59]، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68، 69]
ثم علق على هذه الآيات الكريمة وغيرها مبينا قيمة النظرة إلى الكون بهذه الصفة، بقوله: (هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتا، إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما تدرك ولا تعقل، إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيا كانت، وهمهم كل همهم مصبحين ممسين، إنما هو ملء البطن، أو كنز الذهب والفضة، أو النزاع على جاه، أو العمل لتثبيت سلطان. انهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها، وتحيط بهم آثاره، فلا ينظرون اليها، وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه، فلا يوجههم ذلك الى الحمد لا الى الشكر. إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل في قلوبهم ولا في تفكيرهم ولا في بيئتهم، قليلا ولا كثيرا. والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذي انغمسوا حقا في محيط الإلهية. سبحوا في بحارها، واستشقوا نسائمها الندية، وغمرهم لألاؤها وضياؤها؛ لقد بدأوا بحمد الله وشكره على نعماه وآلائه التي تحيط بهم من جميع أقطارهم، فزادهم نعما وآلاء.. لقد اتقوا الله حق تقاته فعلمهم الله.. لقد اكتفوا بالله هاديا ونصيرا، فهداهم الله إلى صراطه المستقيم، ونصرهم على أنفسهم وعلى أعائدهم) (1)
وبناء على هذا فإن الشرك عند الصوفية ينطلق من هذه النظرة للكون، واعتقاد وجوده الذاتي القائم بنفسه، يقول عبد الحليم محمود مبينا مدى سمو الفهم الصوفي للتوحيد مقارنة بغيرهم: (.. وأخذوا شيئا فشيئا يحاولون تحقيق التوحيد: قولا وعقيدة، وذوقا
__________
(1) أبو العباس المرسي، ص 138.
كلكم كفرة (287)
وتحقيقا، وأخذوا يرون في [أشهد أن لا إله إلا الله] معاني لا يتطلع إليها غيرهم، وبدأ معنى الشرك يتضح لهم بصورة لا تخطر على بال اللاهين الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم، وبدأوا يحطمون الشرك يحطمون أصنامه وأوهامه. ومن النفس والهوى والشيطان، ومن الغرائز الحيوانية، والغرائز الإنسانية. وانهار الشرك حتى همسات الفؤاد لقد انهار الشرك الواضح، وانهار الشرك الخفي، وثبت في أذواقهم واستقر في أحوالهم ومقاماتهم أن (لا إله إلا الله) وأنه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وأينما كانوا فالله معهم وهو أقرب اليهم من حبل الوريد. وهو أقرب اليهم من جلسائهم ومعاشريهم. انه يغمر كيانهم، فلا يرون غيره سبحانه، لا يرون غير قيوم السموات والأرض، ولا يرون غيره مصرفا لليسير من الأمور وللعظيم منها، ولا يرون غيره مالكا للملك.. لقد أصبحوا ربانيين، وأصبح الله في بصرهم وسمعهم وجوارحهم وفي قلوبهم من قبل ذلك ومن بعده. يشغله كله فلا يدع فيه مكانا للأغيار) (1)
وبناء على هذا كانت أساليب الصوفية في عرض الحقائق العقدية مختلفة عن سائر المناهج لأنهم في تعبيراتهم التي أساء السلفية فهمها، وكفروهم على أساسها (يشرحون أن الله سبحانه وتعالى الممد الوجود لكل موجود. إنه يمد القائم بالقيام، ويمد الماشيء بالمشي، والمتحرك بالحركة. إنه – على حد تعبير أهل السنة والأشاعرة ـ الذي يقطع، وليست السكين هي التي تقطع. وهو الذي يحرق وليست النار هي التي تحرق، وهو الذي حينما يريد، يقول للنار: كوني بردا وسلاما، فتكون بردا وسلاما، ومهما عبر الصوفية في هذا الميدان عن الوجود الواحد، فقالوا في ذلك فإنهم سوف لا يبلغون المدى الذي بلغته تلك الآية الكريمة، التي تمثل في روعة رائعة الهيمنة المهيمنة، والاستغراق القاهر، والجلال الشامل؛ والتي لا تعني وحدة متحدة، ولا اتحادا متطابقا بين الحالق وبين المخلوق، أو العابد
__________
(1) أبو العباس المرسي، ص 139.
كلكم كفرة (288)
والمعبود، والآية هي {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]) (1)
هذه ـ ببساطة ـ مفاهيم الصوفية حول وحدة الوجود ـ كما يوضحها أعلامهم الكبار، بل كما يشير إليها القرآن الكريم نفسه، وكان الأجدى بالسلفية قبل أن يصدروا أحكامهم القاسية بتكفير كل من يقول بهذا المعنى أن يراجعوا هؤلاء، ليفهموا منهم معناها، فخير من يعبر عن المرء لسانه.
ولكنهم ـ حتى لو ذهبوا إليهم ـ فسيظلون على تكفيرهم لهم، لأن المشكلة عندهم ليست في هذا المعنى، وإنما المشكلة الكبرى في تنزيه الله وعدم القول بتجسيمه وتقييده وتحديده.. ولهذا فإنهم يضعون المنزهة جميعا بمدارسهم الكلامية والصوفية في سلة واحدة، لأن أول العقيدة في الله عندهم هي أن الكون شطران: شطر يسكنه الله، وهو العرش وما علا.. وشطر يسكنه الخلق، وهو ما دون العرش إلى الأرض السفلى (2).
2 ـ تهمة المواجيد والأشواق الروحية
من المميزات التي تميز بها الصوفية عن سائر المدارس الإسلامية اهتمامهم الشديد بالصلة الروحية أو الوجدانية أو العاطفية بين العبد وربه سبحانه وتعالى، ولهذا كانت جميع الطرق الصوفية عبارة عن تجارب مختلفة تحاول أن تختصر للسالك والمريد الطريق إلى هذا التواصل.
فلا يكفي في التواصل الروحي مع الله ـ عند الصوفية ـ ممارسة الشعائر، ولا أداء التكاليف الظاهرة، فكل ذلك جميل، ولكنه لا يكفي.. بل الذي يجب قبل ذلك وبعده هو تلك المحبة والشوق والتطلع الروحي للتواصل مع الله.
وقد كان من أساليبهم في تربية المريدين على هذه المعاني السامية التعبير عنها بما
__________
(1) أبو العباس المرسي، ص 140.
(2) انظر الأدلة على قول السلفية بهذا في كتابنا [السلفية والوثنية المقدسة]
كلكم كفرة (289)
يرغب فيها، وبما أن التعبير عن المعاني الوجدانية لا تجدي فيه طريقة المتكلمين ولا الفلاسفة، فقد كان المنهج الأسهل لذلك هو التعبير الشاعري عنها.
ذلك أنه بناء على صعوبة التعبير عن المعاني الوجدانية التي يتحقق بها السالك، فإنه يلجأ إلى اللغة الرمزية أو القصصية أو الشعرية، كما فعل أكثر العرفاء المسلمون كابن الفارض وجلال الدين الرومي والأمير عبد القادر، والشيخ ابن عليوة، والشيخ أبو العزائم، وغيرهم من مشايخ الصوفية.
ومن الأمثلة على ذلك توظيفهم لاسم ليلى كتعبير رمزي للذات الإلهية، كما قال الشيخ ابن عليوة في موشحة المشهور والذي لا يزال تردد في الحضرات الصوفية (دنوت من حي ليلى) (1):
دنوت من حي ليلى... لما سمعت نداها
يا له من صوت يحلو... أودُّ لا يتناهى
رضت عني جذبتني... أدخلتني لحماها
أنستني خاطبتني... أجلستني بحذاها
قربت ذاتها مني... رفعت عني رداها
أدهشتني تيهتني... حيرتني في بهاها
وليلي عنده ــ كما هي عند غيره من الصوفية ــ رمز للذات المقدسة، وكأن العاشق هو قيس ليصور لنا تعلقه وهيامه بها، بحيث يستحضر القارئ أو المستمع صورة (قيس) ذلك العاشق الولهان.
وقد نجح الشيخ ابن عليوة في نقل هذه المعاني الحسية من الغزل العادي إلى الغزل الإلهي، بحيث أضحت معاني روحية صرفة، فحب ليلى هو رمز الحضرة الإلهية، والقرب
__________
(1) العلاوي، الديوان، ص 36.
كلكم كفرة (290)
أو الدنو من ليلى هو القرب من ذات الله تعالى، ورفع الرداء رمز لانكشاف الحجاب، وكذا ألفاظ الأنس والحضور الغيبية، ليست إلا رموزا تعكس لنا بصدق، شوق الشاعر وتعلقه بالله وحده، وانقطاع قلبه عن كل شيء إلا عن محبته (1).
بل إن الصوفية لا يعتبرون من ليلى ومثيلاتها مجرد رموز، بل إنهم يذكرون أن قيسا في الحقيقة لم يكن يحب مظهر ليلى، وإنما كان يحب الحقيقة المختفية وراءها، كما عبر جلال الدين الرومي عن ذلك بقوله: (إن كل ضروب الرغبة والميل والمحبة والشفقة التي يكنها الناس لأنواع الأشياء تعد ضروبا من محبة الحق والتوق إليه.. وتلك الأشياء جميعا حجب، وعندما يمضي الناس من هذا العالم ويرون ذلك الملك من دون هذه الحجب يعلمون أن هذه الأشياء جميعا لم تكن سوى حجب وأغظية، مطلوبهم على الحقيقة ذلك الأوحد) (2)
لكن هذه اللغة لم تعجب السلفية أو لم يفهموها، فلذلك راحوا يرمون الصوفية نتيجية لذلك بكل أنواع التهم كالحلول والاتحاد وغيرها.
ومن العجب أن بعضهم يجمع بين رمي الصوفية بالحلول والاتحاد وبين رميهم بوحدة الوجود بمفهومها الفلسفي، وهذا هو التناقض بعينه، ذلك أن الحلول والاتحاد يستلزم ذاتين منفصلتين يحلان ببعضهما، أو يتحدان، بينما وحدة الوجود تعنى وجود ذات واحدة.
وقد رد الصوفية على هذه التهم الموجهة لها بصنوف من الاستدلالات منها قول الشيخ عبد القادر عيسى عند عرضه لهذه الشبهة: (إِن من أهم ما يتحامل به المغرضون على السادة الصوفية اتهامهم جهلاً وزوراً بأنهم يقولون بالحلول والاتحاد، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد حلَّ في جميع أجزاء الكون؛ في البحار والجبال والصخور والأشجار والإِنسان
__________
(1) انظر: الشارف لطروش، الشيخ بن مصطفى العلاوي، رائد الحركة الصوفية في القرن العشرين، ص 7.
(2) جلال الدين الرومي، فيه ما فيه، دمشق: دار الفكر، ص 71.
كلكم كفرة (291)
والحيوان.. ولاشك أن هذا القول كفر صريح يخالف عقائد الأمة. وما كان للصوفية وهم المتحققون بالإِسلام والإِيمان والإِحسان أن ينزلقوا إِلى هذا الدرك من الضلال والكفر، وما ينبغي لمؤمن منصف أن يرميهم بهذا الكفر جزافاً دون تمحيص أو تثبت، ومن غير أن يفهم مرادهم، ويطلع على عقائدهم الحقة التي ذكروها صريحة واضحة في أُمهات كتبهم، كالفتوحات المكية، وإِحياء علوم الدين، والرسالة القشيرية وغيرها) (1)
وبناء على هذا راح يستعرض ردود الصوفية على هذه التهمة، ومن ذلك قول الشيخ عبد الوهاب الشعراني: (ولعمري إِذا كان عُبَّاد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله؛ بل قالوا: ما نعبدهم إِلا ليقربونا إِلى الله زلفى، فكيف يُظَن بأولياء الله تعالى أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حدٌّ ما تتعقله العقول الضعيفة؟! هذا كالمحال في حقهم رضي الله تعالى عنهم، إِذ ما مِن وليٌّ إِلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط) (2)
والمنطق العقلي يؤكد هذا المعنى فـ (الحلول والاتحاد لا يكون إِلا بالأجناس، والله تعالى ليس بجنس حتى يحلَّ بالأجناس، وكيف يحل القديم في الحادث، والخالق في المخلوق!؟ إِن كان حلولَ عَرَض في جوهر فالله تعالى ليس عرضاً، وإِن كان حلولَ جوهر في جوهر فليس الله تعالى جوهراً، وبما أن الحلول والاتحاد بين المخلوقات محال؛ إِذ لا يمكن أن يصير رجلان رجلاً واحداً لتباينهما في الذات؛ فالتباين بين الخالق والمخلوق، وبين الصانع والصنعة، وبين الواجب الوجود والممكن الحادث أعظم وأولى لتباين الحقيقتين) (3)
ولهذا فقد نص الصوفية جميعا باختلاف مناهجهم على استحالة الحلول والاتحاد،
__________
(1) حقائق عن التصوف، ص 531.
(2) اليواقيت والجواهر، ج 1 ص 83.
(3) حقائق عن التصوف، ص 531.
كلكم كفرة (292)
كما قال الشيخ محي الدين بن عربي في عقيدته الصغرى: (تعالى الحق أن تحله الحوادث أو يحلها) (1)
وقال في عقيدته الوسطى: (اعلم أن الله تعالى واحد بالإِجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد في شيء) (2)
وقال في باب الأسرار: (لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف من هذا القول حاشاه، إِنما يقول: أنا العبد الذليل في المسير والمقيل) (3)
وقال في باب الأسرار: (من قال بالحلول فهو معلول، فإِن القول بالحلول مرض لا يزول، وما قال بالاتحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول) (4)
وقال: (لو صحَّ أن يرقى الإِنسان عن إِنسانيته، والمَلكُ عن ملكيته، ويتحد بخالقه تعالى، لصحَّ انقلاب الحقائق، وخرج الإِله عن كونه إِلهاً، وصار الحق خلقاً، والخلق حقاً، وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجباً، فلا سبيل إِلى قلب الحقائق أبداً) (5)
وقد عبر عن ذلك شعرا، فقال:
ودعْ مقالةَ قوم قال عالمُهم... بأنَّه بالإِله الواحد اتحَدا
الاتحادُ مُحُالٌ لا يقول به... إِلا جهولٌ به عن عقلهِ شَرَدَا
وعن حقيقتِه وعن شريعتِه... فاعبدْ إِلهَك لا تشركْ به أَحَدا
__________
(1) الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، نقلا عن اليواقيت والجواهر ج 1. ص 80 - 81.
(2) اليواقيت والجواهر ج 1. ص 80 - 81.
(3) اليواقيت والجواهر ج 1. ص 80 - 81.
(4) اليواقيت والجواهر ج 1. ص 80 - 81.
(5) اليواقيت والجواهر ج 1. ص 80 - 81.
كلكم كفرة (293)
واستدل على ذلك عقلا بقوله: (من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم، أن تعلم عقلاً أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إِليه بذاتها، وإِنما كان القمر محلاً لها، فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه) (1)
والصوفية يردون على خصومهم من السلفية عند ذكرهم لهذه التهمة بأقوال ابن تيمية الكثيرة التي ينفي فيها عن الصوفية هذه التهمة رغم مخاصمته الشديدة لهم، كما قال في فتاويه: (ليس أحد من أهل المعرفة بالله، يعتقد حلول الرب تعالى به أو بغيره من المخلوقات، ولا اتحاده به، وإِن سُمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية، الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية) (2)
وقال: (كل المشايخ الذين يُقتدَى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات. وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إِفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا) (3)
بل إن ابن تيمية يذكر ما يورده خصوم السلفية من قول بعضهم: (أنا مَنْ أهوى... ومَنْ أهوى أنا) بقوله: (فهذا إِنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبّين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل؛ وهذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إِذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى
__________
(1) اليواقيت والجواهر ج 1. ص 80 - 81.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 11. ص 74 - 75.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 10. ص 223.
كلكم كفرة (294)
فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر: غبتُ بكَ عنِّي... فظننْتُ أنَّك أنِّي.. فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ) (1)
وهكذا تولى ابن تيمية نفسه الدفاع عن الصوفية في هذا رغم خصومته الشديدة لهم، ولكن السلفية ـ للأسف ـ لا يقبلون من ابن تيمية هذا، بل يتمنون لو أنه لم يكتبه كما سنرى ذلك لاحقا.
من العجائب التي وقع فيها العقل والتراث السلفي هو ذلك الهجوم الشديد على تلك القلوب الطاهرة والأرواح السامية الممتلئة حبا لنبيها صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تمثل صدق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: (من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله وماله) (2)
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أشدَّ أمتي لي حبا قوم يكونون أو يجيئون، وفي رواية - يخرجون بعدي- يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني) (3)
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله وماله) (4)
لكن السلفية أولوا كل هذه النصوص، فاعتبروا المحبة مجرد الاتباع، وقصروا الاتباع على بعض الظواهر التي يخالفون فيها سائر المسلمين.. ولهذا صار الحب عندهم قاصرا على ما يسمونه تطبيق السنة.. وتطبيق السنة عندهم قاصر على تلك الظواهر التي ترتبط بهندامهم وحركاتهم وأكلهم وشربهم.. أما الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعلق به والحنين
__________
(1) مجموع رسائل ابن تيمية ص 52.
(2) أحمد (2/ 417). ومسلم (8/ 145)
(3) أحمد 5/ 170.
(4) أحمد (2/ 313)، ومسلم (7/ 96)
كلكم كفرة (295)
إليه، فيحذرون منه خشية أن يجر إلى الشرك..
ومن هذا الباب.. باب التعلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتقاد منزلته عند الله، توجهت الأمة منذ عصورها الأولى إلى الاستشفاع والتوسل والاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم كلما احتاجت إلى ذلك.. ذلك أن الله تعالى أخبر أن من حكمته وسنته في خلقه قبول شفاعة الشافعين من المقربين إليه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أولى بهذه الشفاعة من غيره، وفي أكثر المواقف حساسية، وهو ذلك الموقف العظيم يوم القيامة.. فمن شفع يوم القيامة لا يحال عليه أن يشفع في الدنيا.. لأن الدنيا والآخرة مرتبتان فقط، والقوانين الجارية فيهما واحدة.. فإن كانت الاستغاثة والتوسل شركا في الدنيا، فهي كذلك في الآخرة.. وإن لم تكن شركا في الآخرة ـ كما ورد في الأحاديث الشريفة ـ فلن تكون أيضا شركا في الدنيا.
بالإضافة إلى ذلك فإن موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغاير حياته إلا في ناحية واحدة، وهي انقطاع الوحي، أما ما عداه فإن حياته صلى الله عليه وآله وسلم لاشك فيها، بل تدل عليها كل الأدلة.. فإن كان الشهداء، وهم أدنى بآلاف آلاف الدرجات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نفى الله موتهم، ونهى عن اعتقاد ذلك، فقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169)، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الشهداء والعارفين والنبيين؟
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن أعمال أمته تعرض عليه، وأنه يدعو لهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم) (1)
فإن شك في هذا الحديث، فقد قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)
__________
(1) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 24): رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.
كلكم كفرة (296)
فإن قيل: بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة، فنقول: إن كان الله تعالى أخبر بدعوة الملائكة ـ عليهم السلام ـ للمؤمنين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7)، فإن كان هذا مع حملة العرش، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع أمته التي كلف بها، وهو أحرص الخلق عليها؟
وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا) (1)
فإن جاز هذا للعشائر والأقارب، وهم أفراد من الأمة، فكيف لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أحن على أمته من آبائهم، وأمهاتهم، وقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: 6)
بالإضافة إلى هذا كله، فإن الشرك الحقيقي هو اعتقاد التأثير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته، وعدم التأثير بعد موته.. لأن المؤمن يدرك أن الله هو الفاعل والمؤثر مطلقا.. وأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الوساطة.. أي أنه وسيلة للفضل الإلهي.. ولذلك فإن هذه اللفظة وحدها [الوسيلة] تدل كل عاقل على التوحيد الحقيقي الذي تدل عليه السنة النبوية.. لا التوحيد الذي يدعو إليه السلفية، والذي يختلط بالوثنية والمنطق الوثني.
وهكذا كان ذلك التعظيم للحضرة النبوية المقدسة هو الدافع للمؤمنين لزيارة القبر الشريف الذي هو أطهر بقعة وأعظم بقعة على الأرض، والذي وقف منه السلفية موقفا متشددا خالفوا به سائر المسلمين، فاعتبروا الزيارة التي تحن لها القلوب شركا، فأصبح
__________
(1) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 327): رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
كلكم كفرة (297)
المشتاقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمتحدثون إليه بأشواقهم مشركين.
وبناء على هذه كله ظهر ما يسمى بأدب المديح، وهو جزء بسيط من حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، فالأمة التي لا تمدح نبيها ولا تعظمه ولا تملأ قلوب أجيالها شوقا إليه، أمة لا خير فيها.. لأن ذلك المديح لا تعود فائدته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم وأكرم.. ولكن فائدته لهذه الأمة جميعا، حتى تربى أجيالها على محبته والشوق إليه والارتباط به، لأن ذلك هو الدين الحقيقي.. لا دين المظاهر والطقوس.
لكن السلفية للأسف، والذين سكتوا على أولئك الشعراء الذين مدحوا السلاطين الذين يعظمونهم، فلم ينبسوا تجاههم ببنت كلمة، ولم يبدعوهم ولم يكفروهم تجرأوا على تكفير كل من يقول قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يسمعها متأثرا بها وقابلا لها.. ولا يعفون من الكفر إلا من سمعها وأنكرها وكفر صاحبها وحذر منها.
وسنذكر هنا نموذجين عن مواقف السلفية من شاعرين كبيرين اختصا بالمديح النبوي، وانتشرت أشعارهما، فكانت تنشد في المجالس المختلفة، وتقبلها الأمة جميعا بمذاهبها المختلفة، ما عدا الفئة الباغية التي لم تكتف بأن تصم آذانها عن سماعها، بل راحت تحذر منها، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]، بل راحت تضيف إلى ذلك تكفير الشاعر وتكفير المنشد وتكفير كل من استمع ورضي.. ثم يقولون بعد ذلك: نحن لسنا مكفرين.. ولو أنه لم يكن من قوانين تكفيرهم إلا هذا لشمل الأمة جميعا.
النموذج الأول البوصيري ومدحه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يعتبر الشاعر الكبير محمد بن سعيد البوصيري (توفي 695 هـ) من أكبر شعراء المديح النبوي المشهورين، والذين سنوا سنة حسنة في الشعر تبعتها أجيال كثيرة من المسلمين الذين تركوا تلك الأغراض الشعرية القديمة كالمدح والرثاء والغزل وغيرها. ليحولوا قبلة
كلكم كفرة (298)
شعرهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وقد تلقت الأمة ذلك بقبول كبير بين العوام والخواص، وفي جميع المناطق المحافظة، ولفترة طويلة في التاريخ الإسلامية، وفي مساحة واسعة منه ـ حتى صارت قصائده ـ وخاصة البردة ـ تحفظ وتنشد في كل المجالس والمناسبات.. لا لجمالها الشاعري فقط، لأنه يوجد ما هو أكثر جمالا وشاعرية منها، وإنما لكونها تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي لذلك اكتسبت قيمتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولقيت القبول في الأمة لأجل هذا المعنى.
إلا السلفية الذين خالفوا سائر المسلمين في كل شيء، وخالفوهم في هذا أيضا، فراحوا يفتون بكفر البردة، وصاحبها وكل من ارتبط بها.. اللهم إلا إذا أنكر على صاحبها، وكفره، وكفر كل من رضي عن قصيدته.
وحتى لا يكون كلامنا مجرد دعوى، فسأنقل هنا من فتاوى كبار أعلام السلفية ما يجعل من قصيدة البردة أكبر وسيلة من الوسائل التي يستعملها السلفية في التكفير.. وكأن البردة بالنسبة للسلفية فيروس يصيب كل من أصابه بمرض الكفر الذي لا شفاء له.
ونبدأ تلك الفتاوى بفتوى للشيخ محمد بن عبدالوهاب في تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] فقد قال: (فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وسبب الجهل بها دخل النار من دخلها، فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعني والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا) (1) من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي... اذا الكريم تجلي باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي... محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي... فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعى أنه من العلماء واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن.. هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].. لا والله، لا والله لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان) (2)
ثم قال متأسفا على حال الأمة التي أوقعتها هذه القصيدة في الشرك الجلي: (فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة ومن فتن بها، عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة، واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عند التكفير والقتال؛ بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18]، وعند قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57]، وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]) (3)
ويقول في بعض رسائلهِ الشخصية: (وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات، ثم يشرح البردة، ويستحسنها، ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه! هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا نارا، ولا رسولا، ولا إلها؛ وأما كون لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها
__________
(1) البخاري رقم: 2753.
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 294)
(3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 294)
كلكم كفرة (299)
من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك) (1)
وهذا النص واضح في تكفيره للعلماء الذين قبلوا البردة أو شرحوها.. وكأنه يقول لهم: لن تغني عنكم كل علومكم وتصانيفكم ما دمتم استحسنتم البردة أو شرحتموها.
وهكذا قال علامتهم المجدد عبد الرحمن بن حسن في قول البوصيري:
يا أكرَمَ الخلقِ ما لي مَن ألوذُ به... سِوَاكَ عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمِمِ...
ولَن يَضِيقَ رسولَ اللهِ جاهُكَ بي... اذا الكريمُ تَجَلَّى باسمِ مُنتَقِمِ
فقد علق على هذه الأبيات بقوله: (فناقضوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقشة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم، في قالب محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه. وأظهر لهم التوحيد والإخلاص، الذي بعثه الله به في قالب تنقصه. وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا فى تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته. فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله، ولارضوا بحكمه ولاسلموا له، وأنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعظيم أمره ونهيه. وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلَّغ به الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وآله وسلم فعاملوه بما نهاهم عنه: من الشرك بالله، والتعلق على غير الله) (2)
وهكذا قال علامتهم المحدث سليمان بن عبدالله، والذي علق على الأبيات السابقة وغيرها بقوله: (فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك.. منها: أنه نفى أن يكون له ملاذٌ إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.. الثاني: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية.. الثالث: سؤاله منه
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 65)
(2) فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد: (1/ 381)
كلكم كفرة (300)
أن يشفع له، وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره، فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداء.. تناقض عظيم وشرك ظاهر، فإنه طلب أولاً أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً، وإلا فيا هلاكه. فيقال: كيف طلبت منه أولاً الشفاعة ثم طلبت منه أن يتفضل عليك، فإن كنت تقول: إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟ فهلا سألتها من له الشفاعة جيمعاً، الذي له ملك السموات والأرض، الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله) (1)
وهكذا علق على قول البوصيري:
فإن من جودك الدنيا وضرتها... ومن علومك علم اللوح والقلم
بقوله: (فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبداً رسولاً، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين) (2)
وهكذا قال علامتهم عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين في الأبيات السابقة، فقد علق
__________
(1) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 621)
(2) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 621)
كلكم كفرة (301)
عليها بقوله: (مقتضى هذه الأبيات، إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الدنيا والآخرة من جوده، وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم الشدائد، ورجاه لكشفها، وهو الآخذ بيده في الآخرة، وإنقاذه من عذاب الله؛ وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام. وإن لم يقل هؤلاء إن محمدا هو الله، أو ابن الله، ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (1)، والإطراء هو المبالغة في المدح، حتى يؤول إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية) (2)
ثم أورد ما يذكره الصوفية من كون البوصيري وغيره من مداح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصدوا بذلك إلا طلب الشفاعة، ثم رد عليه بقوله: (أولا: هذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك... أي: وإلا فأنا هالك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (لا ملجأ منك إلا إليك) (3).. وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ؟ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف (أو) في قوله: أو شافعا لي، صريح في مغايرة ما بعدها لما قبلها، وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة، فإن لم يكن فبالشفاعة) (4)
وهكذا راح يطلب من الشاعر أن يغير كل ما ذكره من محسنات بديعية وجماليات تعبيرية تعارفت عليها الشعوب لتنسجم مع توحيدهم، وإلا فهو مشرك شركا جليا.. هو وكل من استحسن شعره أو رضي عنه.. أو سمعه ولم ينكر عليه.
وهكذا علق على أبيات جميلة للبوصيري يقول فيها مخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
الأمان الأمان إن فؤادي... من ذنوب أتيتهن هواء
فهذه علتي وأنت طبيبي... وليس يخفى عليك في القلب داء
فقد قال: (والناظم آل به المبالغة في الإطراء، الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الغلو، والوقوع في هذه الزلقة العظيمة. فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب، فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغفرة ذنبه، وصلاح قلبه؛ ثم صرح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء، أي: فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب) (5)
وهكذا قال علامتهم محمد بن صالح بن عثيمين تعليقا على الأبيات السابقة: (وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أوعيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك بعض الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق.. وهذا من أعظم الشرك لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقتضاهُ أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.. وقال -أي: البوصيري -[ومن علومك علم اللوح والقلم]، يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ) (6)
وهكذا قال علامتهم صالح بن فوزان الفوزان تعليقا على الأبيات السابقة: (هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلا الله سبحانه وتعالى إذا كان من أهل الإيمان) (7)
وقال: (.. فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق المديح، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يوصف بصفاتِه التي أعطاهُ الله إيَّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يُغلي في حقَّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكُروب ويغفر الذنوب، وأنه يستغاث به ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد وفاته، كما وقع فيه
__________
(1) البخاري: 3445، وأحمد 1/ 23،1/ 24،1/ 47،1/ 55..
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 145)
(3) البخاري: 6311،6313،6.
(4) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 145)
(5) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 160)
(6) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 218)
(7) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 241)
كلكم كفرة (302)
كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبوية في أشعارهم (البردة) للبوصيري، وما قيل على نسجها من المخرفين، فهذا غلو أوقع في الشرك، كما قال البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به.. فهذا غلوٌّ - والعياذ بالله - أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حتى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الدنيا والآخرة للرسول، علم اللوح والقلم للرسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلا الرسول، إذاً ما بقي لله عز وجل، وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد، وكذلك غيرُها من الأشعار، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم.. وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده، وحاكاه في هذا الغلو، هذا كله من الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإطراء.. ومن الغلو في حقه صلى الله عليه وآله وسلم: إحياء المولد كل سنة، لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم، فبعض المسلمين تشبه بالنصارى فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة، لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها، وإنما حدث بعد المائة الرابعة، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة، فهو بدعة، وهو من التشبه بالنصارى) (1)
هذا قليل من كثير من فتاوى علماء السلفية في اعتبار ما تضمنته البردة من معاني سامية، ومشاعر متدفقة رفيعه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. شركا جليا، وكفرا بواحا..
وقد ألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة التي تحجر على كل لسان يغرد بحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حتى صار حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعبير عن الشوق إليه جريمة أكبر من جريمة القتل والفاحشة وغيرها.. لأنهم يتساهلون في تلك الجرائم، بينما يتشددون في هذا.
النموذج الثاني البرعي ومدحه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
مثلما وقف السلفية موقفا سلبيا من البوصيري، فقد وقفوا نفس الموقف من الشاعر الكبير المشهور في الدوائر الصوفية المتأخرة الشيخ عبد الرحيم بن الشيخ محمد وقيع الله
__________
(1) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 312)
كلكم كفرة (303)
البرعي أحد أبرز شيوخ الصوفية العاملين في السودان والعالم الإسلامي.
فمن الكتب التي ألفت لتكفير الشاعر نتيجة مشاعرة الجياشة نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب بعنوان [شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة] لمؤلفه عمر بن التهامي بن عبد الرحمن، والذي قدم له وقرظه وشجعه الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان.
وقد قال في تقديمه للكتاب: (فإنَّ الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة ورضىَ لنا الإسلام ديناً، ومن ثمار ذلك الإكمال والتمام والرضى بيان أبواب الخير والحثّ عليها والترغيب في ولوجها. وبيان أبواب الشرِّ والتحذير منها والترهيب من قُربها، وكان من ضمن أبواب الشرِّ المحذَّر منها: الأئمة المضلون.. ذلك لأنَّ ضرر أُولئك الأئمَّة يتعدى إلى شريحةٍ كثيرةٍ من الناس ممن يسمع منهم أو عنهم فيُخْدع بهم وبخاصةٍ أتباعهم ومن سار في ركابهم، ويزيد شرُّ أولئك الأئمَّة ويعظُمُ خطرهم وضررهُم إذا كان ضلالهم عقائدياً، وفي هذه الرسالة سترى بياناً وردّاً لأنواع من الضلال العقدي: مِن وصف الله تعالى بالنقائص، ومن إسباغ بعض صفات الخالق على بعض المخلوقين، ومن تعليق فلاح الناس ونجاحهم باتباع بعض الناس دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن تقرير وحدة الوجود، والحلول والاتحاد، كل هذه الضلالات وغيرها سترى بياناً شافياً وردَّاً مُفحماً مُلزِماً قام به الشيخ عمر التهامي. بعد ما تتبَّع بعض الأشعار التي تضمَّنت هدم التوحيد وبناء الشرك) (1)
ونحب ـ قبل أن نتطرق إلى ما ذكره من تكفير للبرعي وشعره ـ أن ننقل مقدمته للكتاب لنرى الحقد والضغائن والعدوانية والتكفير، وهي تتحدث جميعا بلسان فصيح، لتخرج الأمة بكل مدارسها من الإسلام، حتى لا يبقى فيه إلا التهامي وسلفه.
يقول التهامي في مقدمة كتابه: (فاعلم رحمك الله أنّ كثيراً من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم يعتقدون اعتقادات فاسدة منها ما هو كفر صريح بالله، ومنها ما هو دون ذلك.
__________
(1) شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص 3.
كلكم كفرة (304)
فمن الاعتقادات الكفرية التي يعتقدونها والتي تخرج صاحبها من الإسلام، اعتقادهم أنَّ الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً يتصرّفون في هذا الكون، وينوبون عن الله في تدبيره، فيرزقون العباد، ويُحيون ويُميتون، ويُسعدون، ويُشقون، ويُعزُّون، ويُذلُّون، وأنهم يعلمون الغيب.. هذا بعض فسادهم في الاعتقاد، وأما فسادهم في العبادة فهو أكثر من أن يُحصر، فهم يعبدون الصالحين في غيابهم وبعد موتهم فيدعونهم ويستغيثون بهم في جميع أحوالهم سواءً في الرخاء، أو الشدة، بل في الشدائد لا يلجأون إلاَّ إليهم. ويذبحون وينذرون لهم ويطوفون بقبورهم، ويتبرَّكون بها، ويُعفِّرون وجوههم في ترابها، ويبكون عندها، ويتذللون لأصحابها، ويخشعون عندهم أكثر من خشوعهم لله، ويخافون منهم وهم أموات أشد من خوفهم من الله، لذلك قد يحلف أحدهم بالله كاذباً، ولا يحلف بشيخه إلاَّ وهو صادق. ويثنون على الصالحين أكثر من ثنائهم على الله، ويلهجون بذكرهم، وإذا عبدوا الله عبدوه بالبدع المحدثات والأمور المنكرات، فتجد أحدهم يرقص الليل كلّه ويستمع الدفوف والألحان ظناً منه أنها تقربه من الله، بل تجد أحدهم يذكر الله آلاف المرات بذكر مبتدع ما أنزل الله به من سلطان، فصاروا بهذه الاعتقادات والأعمال والأقوال من أشرِّ أهل الأرض، وأخبثهم، ومن أكفر الناس على الإطلاق) (1)
وهكذا صار الصوفية بل الأمة جميعا من من (أشرِّ أهل الأرض، وأخبثهم، ومن أكفر الناس) لا لشيء إلا لكونهم لم يستأذنوا ابن تيمية ولا ابن عثيمين ولا السدحان في أي ذكر يريدون أن يذكروا الله به، أو في أي بيت شعر يريدون قراءته أو سماعه.
ثم قال ـ مبينا سبب اختياره للبرعي ـ: (ومِن هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في محاربة الموحِّدين، والاستهزاء بهم، والتنفير منهم، والدعوة لهذا الفساد العظيم والشرّ الجسيم، صوفي يُدعى عبد الرحيم البرعي.. فهو من الشعراء الذين يُكثرون من مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص 5.
كلكم كفرة (305)
والأولياء الصالحين، لكنَّه مع ذلك ما ترك معتقداً كفرياً فاسداً يعتقده غلاة المتصوفة، إلا وصرّح به في هذا المديح، فبدا جلياً خبث منهجه، وسوء معتقده، وهو وأتباعه على شفا هلكة، وعلى خطر عظيم، إن لم يرجعوا إلى الله، ويتوبوا إليه مما يعتقدونه ويدعون إليه من الكفر القبيح، والشرك الصريح.. وفي هذه الرسالة المختصرة نستعرض معكم بعض الأبيات من أشعاره، في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء الصالحين، لتروا بوضوح تام الاعتقادات الكفرية البيّنة في شعره، ولتروا الخطر العظيم على قارئها المعجب بها، إذا لم يكن عنده شيء من العلم بالتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة، خاصة وأن قصائده وأشعاره انتشرت انتشاراً واسعاً في السودان، وفي جميع الأوساط بين العامة والخاصة، والكبار والصغار، والرجال والنساء) (1)
وقد عقد فصلا في كتابه هذا سماه [بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه النَّاس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب]، قدم له بقوله: (اعلم رحمك الله تعالى أن البرعي يرى أن إشراك الصالحين مع الله في الدعاء والإستغاثة لا حرج فيه بل هو مستحب، فهو وكثير من المتصوفة يتقرَّبون إلى الله بالشرك ويرونه من الأدب والتَّعظيم لله، تماماً كما كان يظن مشركو مكة فإنهم كانوا يدعون الصالحين كاللات وغيره ويظنّون أنّ ذلك الفعل من الأمور التي تقرِّبهم إلى الله) (2)
ثم ذكر أبياتا جميلة للبرعي يقول فيها:
شددت رحال عزمي يا نديمي... على نجب الرّجا نحو الكريم
رسول الله مصباح البرايا... أب الضّعفاء كفّال اليتيم
أتيت إليه من فجٍّ عميقٍ... أجوب الوادي في اللّيل البهيم
__________
(1) شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص 7.
(2) شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص 43.
كلكم كفرة (306)
إلى أن قال:
أغثني يا رسول الله إني... مريض الجسم ذو قلب سليم
وقل لاتخش مهما عشت ضيمًا... ولا هضمًا أيا عبد الرحيم
ثم علق عليها بقوله: (في هذه الأبيات يُصرِّح البرعي بإستغاثته بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويشركه مع الله في الدعاء والإستغاثه، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخرج صاحبه من المِلَّة؛ لأنّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن دعاء غيره فقال جلَّ وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]) (1)
بل إنه يتهمه بأنه أعظم شركا من مشركي قريش أنفسهم، بسبب قوله:
إليك رسول الله أشكو مصائباً... فأنت رجائي في الخطوب وعمدتي
وأنت لنا غوث وعون وملجاء... وأنت لمرضانا شفاء ورحمة
فقد علق على هذه الأبيات بقوله: (وهذا من أعظم المحاداة لله والإشراك به، لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه هو وحده الذي يجيب دعوة المُضطر.. بل إنّ هذا الشرك الذي وقع فيه البرعي وأمر به ودعا إليه، ما كان يفعله مشركو مكة؛ لأنهم كانوا إذا أصابتهم شِدَّة لجأوا إلى الله وحده ونسوا كل ما سواه.. فإذا علمت أن مشركي مكة كانوا لا يلجؤون في الشدائد إلا إلى الله، تبيَّن لك أن شرك عبدالرحيم البرعي أعظم من شركهم واشدّ، وأن البرعي من أكثر الناس وأعظمهم محاربة لتوحيد رب العالمين ومعاداة له، وأن أساس دعوته ولُبُّها هو الإشراك بالله وهدم التوحيد والدين الصحيح نسأل الله العافية) (2)
هذا مجرد مثال عن موقف السلفية من أبيات شعر بسيطة يخاطب فيها الشاعر بشوق
__________
(1) شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص 43.
(2) شعر البرعي في ميزان الكتاب والسنة، ص 44.
كلكم كفرة (307)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره ولي أمره الأول، وأنه أولى به من نفسه.. ولكن السلفية لا يعجبهم هذا، لأنهم لا يريدون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزاحم شيوخهم وسلفهم الذين يعظمونهم.
4 ـ تهمة تقديس الولاية والأولياء
وهذه التهمة وحدها كافية في إثبات شمولية التكفير السلفي لكل المسلمين، بل حتى أحباب سلفهم الأول منهم، بل حتى أحباب ابن تيمية نفسه، لأنهم جميعا، وفي كل العصور، وفي كل الأماكن يعظمون من يعتقدون ولايته، وإذا مات يبنون على قبره ضريحا، ويظلون يزورونه، وقد يقيمون المناسبات التي تسمى الموالد تذكيرا به.
وقد أشار الشيخ علي بن أحمد الحداد إلى هذا، فقال: (ومن قال بكفر أهل البلد الذي فيه القباب وإنهم كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين) (1)
وهو يشير بهذا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه الذين كفروا جميع المسلمين بسبب تعظيمهم للأولياء، وبنائهم على قبورهم، فاعتبروهم مشركين شركا جليا لا يختلف عن شرك أهل الجاهلية، بل قد يفوقه.
فقد وضع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (نواقض الإسلام) ما يجعل من جميع المسلمين مشركين.. وأكثرها يعود إلى تعظيم الأولياء وتقديسهم واحترامهم، فمن تلك النواقض (1 ـ الشرك في عبادة الله تعالى.. ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر، أو للقباب.. 2 ـ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم كفر إجماعا.. 3 ـ من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر..)
ثم ختم القول على هذه النواقض بقوله: (لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل
__________
(1) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 7.
كلكم كفرة (308)
والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً) (1)
فهذا ما يتصوره الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه من نواقض الإسلام، والأخطر مما ذكرنا من المكفرات هو ما ورد فيها من عبارات غامضة وأحكام مطلقة، تجعل لكل من يشاء أن يكفر أحدا أن يستخدمها بسهولة، ولعله لأجل هذا خرجت الحركات التكفيرية من رحم الوهابية.
وكمثال على ذلك نرى الشيخ ابن عبد الوهاب يربط بين الذبح الذي لا يقصد به إشراك أحد في عبادة غير الله، بالشرك بالله مع أنه قد يكون عادة جرت أن يذبح في مكان ولي للبركة، وليس للتعبد، ثم يوزع لحم الذبيحة على الفقراء، وهذا ما جرى به العمل في العالم الإسلامي، بما فيها الجزائر، والتي كانت تسمى (زردة)، ولقبها علماء الجمعية بـ (أعراس الشيطان)
وهكذا الأمر بالنسبة لما ذكره في الناقض الثاني، فهو يعتبر (الواسطيّة) وكأنها شرك يزاحم الله تعالى، مع أن المسلم إنما يرجو نيل شفاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، كما في أحاديث مستفيضة عن شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم للعصاة من أمته يوم القيامة، وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فالآية الكريمة لا تقف عند المعنى الظاهر في {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64]، لوجود آية أخرى صريحة: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، ولكن ضمّ استغفار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للقوم الذين أرادوا التوبة رجاء لقبولها من الله. وهناك مواقف عديدة لجأ فيها الصحابة لبعضهم في مواقف شديدة طلباً لتحقيق أمر أو نزول بركة أو رحمة من الله، وكما فُعل مع العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد رد الصوفية مدافعين عن أنفسهم منذ ظهرت هذه المقولات عند الشيخ محمد بن
__________
(1) موسوعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 385 ـ 387.
كلكم كفرة (309)
عبد الوهاب وأتباعه في العالم الإسلامي، وتركزت ردودهم على تفنيد ما يزعمه الوهابيون من أن تعظيم الصوفية للصالحين أو لأضرحتهم أو توسلهم بهم إلى الله لا يعني الشرك، ولا علاقة له بما كان يفعله أهل الجاهلية.
فهذا الشيخ القباني يخاطب الشيخ ابن عبد الوهاب قائلا: (فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..) (1)
ويذكر (الحداد) عن أتباعه أنهم (مهما عظموا الأنبياء والأولياء، فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه) (2)
ويقرر (دحلان) ما قرره سائر المسلمون في جميع العصور قبل مجيئ الوهابية، وهو أن الشرك في حقيقته ليس سوى اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، يقول في ذلك: (فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله.. ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى) (3)
وهذا نرى (الزهاوي) يؤكد مثل من سبقه على أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون لأصنامهم أنها تنفع وتضر بذواتها فيقول: (إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في
__________
(1) نقلا عن: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 233.
(2) مصباح الأنام، ص 5.
(3) مصباح الأنام، ص 234.
كلكم كفرة (310)
الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم) (1)
ويرد (العاملي) على ابن عبد الوهاب في ادعائه أن مشركي العرب ينكرون ربوبية الله - كما ذكر ذلك ابن عبد الوهاب في رسالتيه: (كشف الشبهات)، و(أربع قواعد) – فيقول: (لا شيء يدلنا على أنهم – أي مشركي العرب – لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم أنه لا تأثير لها في الكون، وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط، إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثير بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها، فتشفي المرض وتكشف الضر) (2)
ويذكر الشطي في معتقد الوهابية في الاستغاثة، فيقول: (فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول عليه السلام، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال...) (3)
ويرد على ذلك بأن ما يفعله العوام لا يرقى إلى هذه الدرجة، فبذكر حكاية مهمة لجده تبين دوافع العوام فيما يفعلونه من التعلق بالأولياء والصالحين، فقال: (ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزاً تقول: يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلاً، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه) (4)
__________
(1) الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق، ص 51.
(2) كشف الارتياب، ص 170.
(3) نقلا عن دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 237.
(4) النقول الشرعية، ص 100.
كلكم كفرة (311)
ويرد ابن عفالق على كل ما يذكره الوهابية من مكفرات، بل يعتبر أنها في أشد أحوالها ليست سوى ذنوب ومعاص لا ترقى لحد الكفر، فقد قال – في معرض نفيه أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركاً -: (فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله.. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله) (1)
بل إن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، وهو الأخ الشقيق لمحمد بن عبد الوهاب يستنكر استنكارا شديدا موقف أخيه من تكفير من ذبح أو نذر لغير الله، ويستغرب من تكفير من دعا غير الله فيقول: (من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه) (2)
ويضيف في موضع آخر: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد..) (3)
وهكذا بالنسبة للاستغاثة، فالشيخ محمد بن محمد القادري لا يرى في الاستغاثة بغير الله - ما دام أن المستغيث بغير الله، لا يعتقد أن غير الله هو الموجد، وأنه لا تأثير إلا لله وحده شركا - يقول في تقرير ذلك: (وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة.. ولا يشك في مسلم أن يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته..) (4)
ومثل ذلك النذر للأولياء، فهو عندهم من الشرك الذي لم ينص عليه غير الوهابية،
__________
(1) نقلا عن: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 234.
(2) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، ص 6.
(3) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، ص 7.
(4) نقلا عن: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض، ص 237.
كلكم كفرة (312)
فيقول:
(وأما نص النجدي بمنع النذر مطلقاً للأكابر، فمن افترائه على كتب الشريعة وجهله المركب) (1)
وبناء على هذه فإن هذه النواقض العشرة التي تبناها الوهابية، وتبناها أتباعهم في العالم الإسلامي تعتبر – كما يذكر بعض الباحثين- (المدخل الذي يرد منه كل من أراد الترويج لثقافة التكفير، على قاعدة أن من لم يكفّر كافراً فهو كافر، ومن شكّ في كفره فهو كافر، الأمر الذي يشجّع الناس على الإنغماس في عقائد بعضهم، فيخرجون من يشاءون من الدين ويدخلون إليه من يشاءون، ويعقدون نادياً للتداول فيما انعقدت عليه قلوب المؤمنين، فهذا مؤمن، وذاك كافر، وذلك منافق، وقد يصدرون أحكاماً بقتل فلان بتهمة الردّة عن الدين، لمجرد أنه يختلف مع المذهب الرسمي، وتطال آخر تهمة الإنحراف عن العقيدة، والضلال، ويتكفّل رسل الموت من أهل الدعوة بإيصال رسائل التهديد للكتّاب كما فعل الفوزان) (2)
وكمثال على انتشار التكفير في العالم الإسلامي بسبب تلك التعاليم المتشددة، ما حصل في الجزائر إبان الاستعمار من تكفير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعوام الجزائر بسبب تعظيمهم للأولياء، وزيارتهم لأضرحتهم، وإحيائهم للمناسبات المرتبطة بهم.
وكمثال على ذلك نرى الشيخ مبارك الميلي الذي استنسخ المنهج الوهابي كاملا غير منقوص، وخاصة في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره) الذي حكم به على شرك جميع الجزائريين، بل على شرك جميع المسلمين الذين يزورون الأضرحة أو يتوسلون بأصحابها.
بل إنه يعتقد ما كان يعتقد الشيخ ابن عبد الوهاب من عودة الجاهلية الأولى، بل إنه يرى أن الجاهلية الآخرة أشد، فيقول: (ولقد سادت هذه الحالة العالم الإسلامي، فانتهوا
__________
(1) مصباح الأنام، ص 44.
(2) سعد الشريف، الوهابية مذهب الكراهية، مشايخ التكفير، الجزء الخامس ـ 2، مجلة الحجاز الإلكترونية.
كلكم كفرة (313)
إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسلمين شمل انحطاطهم هذه الناحية أيضا؛ فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان ووضع الأسماء على مسمياتها؛ فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب وصاحب الكشف والتصريف معنى الألوهية، ولكن لا يسمونهم آلهة!! ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة!!) (1)
ويخاطب الذي يشكك في كون المسلمين تحولوا إلى مشركين لا يختلفون عن أبي جهل وأبي لهب، إن لم يكونوا أشد منهم شركا، فيقول: (ألست ترى في أوساطهم قبابا تبذل في تشييدها الأموال، وتشد لزيارتها الرحال؟! أم لست تسمع منهم استغاثات وطلب حاجات من الغائبين والأموات؛! أم لم تعلم بدور تنعت بدار الضمان تشترى ضمانتها بالأثمان؛! أم لم تجتمع بذرية نسب للمرابطين إعطاؤها بقوة غيبية؟! أم لم تتكرر عليك مناظر مكلفين إباحيين يقدسون بصفتهم مرابطين أو طرقيين؟! هذا إلى اجتماعات تنتهك فيها كل الحرمات باسم الزردات، أو تحت ستار الاعتقادات والدعوة إلى أوضاع مبتدعة صدت الناس عن اتباع السنة المطهرة.. والخبير بحياة أهل عصره، العالم بأصول دينه، لا يتردد في ظهور الشرك وانتشاره، وتعدد مظاهره وآثاره، والعامي الفطري لو سألته وأفهمته؛ لوجدت عنده الخبر اليقين لإثبات أن أمثاله- وما أكثرهم- في ضلال مبين) (2)
والشيخ مبارك الميلي كالشيخ البشير الإبراهيمي يفتي بحرمة الطعام الذي يقدم في تلك المحال، لأنه في تصوره مما أهل به لغير الله، على الرغم من أن الذابحين لتلك الأنعام يذكرون اسم الله عليها، ويطبقون فيها ما يذكره الفقهاء من أحكام الذبائح، فيقول: (هذه
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 162)
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 164)
كلكم كفرة (314)
الزردة يذكرون اسم الله على ذبيحتها، ونيتهم الذبح للصالح عندهم، فأعمل الجامدون من الطلبة جانب اللفظ، ورأوا إباحة أكلها، وهم يقرؤون قول خليل في نية المصلي ولفظه: (وإن تخالفا، فالعقد)؛ يريد أن العبرة عند اختلاف القلب واللسان بما يعقده القلب لا بما يلفظه اللسان، وهي قاعدة عامة في جميع الطاعات) (1)
ولسنا ندري كيف اطلع الشيخ على نية الذابح، وهي باطنة لا يمكن لأحد الاطلاع عليها إلا ربها أو صاحبها، ولكنه مع ذلك يصر على أنهم يريدون بها غير وجه الله، ويعتبر أن المخالف في ذلك جامد ومغرض، فيقول: (وقد يقول الجامدون والمغرضون: إنا نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، وقد ظهر من حال الذابح أنه ذكر اسم الله، فلا نبحث عن نيته الباطنة! فنقول لهم: أولا: إن المفتي لا يقتصر دائما على الظواهر؛ ففي الأيمان والطلاق مسائل تنبني على النية والقصد، ويختلف حكمها باختلاف النية مع اتحاد اللفظ، بل تقدم قريبا الاستناد إلى النية في حكم الذبائح عن علي وغيره.. وثانيا: إن من السرائر ما تحف به قرائن تجعل الحكم للنية ولا تقبل معه الظواهر.. وذبائح الزردة من هذا القبيل؛ فإن كل من خالط العامة يجزم بأن قصدهم بها التقرب من صاحب المزار) (2)
ثم اعتبر من القرائن الدالة على أن الذبح فيها لغير الله، وهي لذلك محرمة، والأخطر من ذلك الحكم على فاعل ذلك بالشرك الجلي، لأنه قدم القرابين لغير الله، فيذكر (3):
الأول: ـ أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار؛ فيقولون: زردة سيدي فلان، أو: طعام سيدي عبد القادر، مثلا.
ثانيها: أنهم يفعلونها عند قبره وفي جواره، ولا يرضون لها مكانا آخر.
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 379)
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 380)
(3) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 380)
كلكم كفرة (315)
ثالثها: أنهم إن نزل المطر إثرها نسبوا إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه وتعويلهم عليه.
رابعها: أنهم إن نهوا عن فعلها في المكان الخاص، غضبوا ورموا الناهي بضعف الدين أو بالإلحاد، وقد يجاوزون الجهر بالسوء من القول إلى مد الأيدي بالإذاية.
خامسها: أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة نكسوا على رؤوسهم وقالوا: إن وليهم غضب عليهم لتقصيرهم في جانبه.
ثم علق على هذه القرائن بقوله: (فهذه دلائل من أحوال الناس وأفعالهم وأقوالهم التي لم يلقنها لهم المكابرون المتسترون وراء التأويل تريك أن ذبائح الزردة مما ذبح على النصب وأهل به لغير الله وإن ذكر عليها اسمه) (1)
بل حكم عليها بأنها من (من الشرك، فيجب على العلماء تحذير الأمة منها والنصح باجتنابها، ويجب على الأمة الاتباع والمبادرة إلى الإقلاع) (2)
واستدل لذلك بـ (مشابهتها في المعنى لعتائر الجاهلية وقرابينها واجتماعاتها على أنصابها وأصنامها، وتقدم حكم الشرع في ذلك، ومشابهتها في الصورة لعقر الجاهلية على قبور أجاودهم) (3)
ثم عاد كرجال الجمعية جميعا إلى الشاطبي ليستند إليه في الدلالة على أن ما يقوم به المسلمون البسطاء أمام أضرحة من يعظمونهم من الصالحين شرك جلي لا يختلف عن شرك الجاهلية، فيقول: (كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد؛ يقولون: نجازيه على فعله، لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره؛ لتأكلها
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)
(2) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)
(3) رسالة الشرك ومظاهره (ص: 381)
كلكم كفرة (316)
السباع والطير، فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته... ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره؛ حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه، حشر راجلا) (1)
ولسنا ندري العلاقة بين ما ذكره الشاطبي عن أهل الجاهلية وبين ما يفعله المسلمون أمام أضرحة من يصومون ويصلون ويذكرون الله ذكرا كثيرا.
وهكذا يسترسل الشيخ مبارك الميلي في النقول والاستدلالات المبنية جميعا على أساس أن أولئك البسطاء الذين اجتمعوا قصدوا بذبحهم غير الله، وبالتالي صار حكمهم حكم المشركين، وهو الكفر البواح.
وعلى هذا المنوال نجد الشيخ البشير الإبراهيمي الذي أعلن حربا شديدة على تلك المناسبات التي تجمع الجزائريين وتوحد قلوبهم، ومن ذلك ما كتبه في البصائر (2) تحت عنوان (أعراس الشيطان) (3)، استهله على طريقته في تغليب الأدب على العلم، والبيان على البرهان، فهو بدأ بذكر الشيطان وتأثيراته المختلفة بطريقته تهكمية ساخرة، فقال: (كنا نفهم أن الشيطان يطوف ما يطوف ثم يأوي إلى قلوب أوليائه، لينفث فيها الشر، ويزين لها معصية الله، ويحركها إلى الفساد والمنكر، ويذكرها بسننه المنسية لتتوب إليه من إهمالها وإضاعتها؛ وما كنا نعلم أن للشيطان مراج خاصة لا يبرحها في فصلين من السنة، ومعظمها في (العمالة الوهرانية)، وما ذلك لطيب في هوائها، أو عذوبة في مائها، أو اعتدال في جوها، فالشيطان غني عن هذا كله، ولا يعبأ بهذا كله، وإنما ذلك للذة يجدها الشيطان في هواها... وسهولة انقياد يجدها في أوليائه بها، وقابلية للتسويل والتزين قلما يجدها في غيرهم من رعاياه،
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره، ص: 382.
(2) في العدد 95 من جريدة (البصائر)، 14 نوفمبر سنة 1949.
(3) انظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 319)
كلكم كفرة (317)
وصدق الله العظيم، فإن الشياطين لا تنزل إلا على كل أفاك أثيم) (1)
بعد هذا الاستهلال الذي خصصه للشيطان مع أن الحديث مرتبط بالموالد، أخذ يربط بين الشيطان والموالد، فقال – بأسلوبه التعميمي الذي لا يحب الاستثناء-: (هذه (الزرد) التي تقام في طول العمالة الوهرانية وعرضها هي أعراس الشيطان وولائمه، وحفلاته ومواسمه، وكل ما يقع فيها من البداية إلى النهاية كله رجس من عمل الشيطان، وكل داع إليها، أو معين عليها، أو مكثر لسوادها فهو من أعوان الشيطان) (2)
ثم ذكر المبررات الداعية إلى هذا الحكم الشديد، فقال: (ألم تر إلى ما يركب فيها من فواحش ومحرمات؛ وما يهتك فيها من أعراض وحرمات؟ كل ذلك مما يأمر به الشيطان البدوي، وكل ذلك مما ذكرنا به القرآن، وبين لنا أنه من أمره ووعده، وتزيينه وإغوائه) (3)
ولم يذكر الشيخ أي دليل على هذا القذف العام لكل الموالد من دون استثناء، وكأنها جميعا مناسبات للمنكرات والفواحش، ولا حظ فيه لعبادة أو دين أو علم.
ولم يكتف الشيخ بهذا القذف العام لجميع المجتمع الجزائري، وإنما راح يشهر سلاح التكفير والرمي بالشرك الأكبر الذي تلقفه من شيخه محمد بن عبد الوهاب، فقال: (كلما انتصف فصل الربيع من كل سنة تداعى أولياء الشيطان في كل بقعة من هذه العمالة إلى زردة يقيمونها على وثن معروف من أوثانهم، يسوله لهم الشيطان وليا صالحا، بل يصوره لهم إلها متصرفا في الكون، متصرفا في النفع والضر والرزق والأجل بين عباد الله، وقد يكون صاحب القبر رجلا صالحا، فما علاقة هذه الزرد بصلاحه؟ وما مكانها في الدين؟ وهل يرضى بها لو كان حيا وكان صالحا الصلاح الشرعي؟ وقد كانت هذه الزرد تقام في أيام
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 319)
(2) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
(3) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
كلكم كفرة (318)
الجدوب للاستسقاء غير المشروع، فأصبحت عادة مستحكمة، وشرعة محكمة، وعبادة موقوتة، يتقرب بها هؤلاء المبتدعة إلى أوثانهم في أوقات الجدوب والغيوث على السواء، يدعوهم إليها شيطانهم في النصف الأخير من كل ربيع، فإذا جاء الغيث نسبوه إلى أوثانهم، وإذا كان الجدب نسبوه إلى الله، عكس ما قال الله وحكم، ثم إذا جاء الصيف فاءوا إلى الأعمال الصيفية مضطرين، فإذا أقبل الخريف عادوا إلى تلك العادة النكراء فأنفقوا فيها كل ما جمعوه، وتداينوا بالربا المضاعف بما لا تقوم به ذممهم ولا أموالهم؛ فإذا ثقل الدين وألح الدائن، باع من يملك قطعة أرض أرضه، وباع من يملك دابة دابته، وتلك هي الغاية التي يعمل لها الشيطانان، شيطان الجن، وشيطان الاستعمار!) (1)
بعد هذا الحكم القاسي الشديد المفتقر إلى اللغة العلمية والحكمة في معالجة الظواهر، راح يعتبر ذلك التقديس الذي جبل عليه الجزائريون للأولياء والصالحين نفخة من نفخات الشيطان أو كيد من كيد الاستعمار، وأنه لا علاقة له بحب الصلاح والولاية والتدين، فلا يحب الصالحين إلا من يحب الصلاح نفسه، ولا يعظم أهل الدين إلا من سبق تعظيمهم لهم تعظيم الدين نفسه.
يقول الإبراهيمي: (سر ما شئت في جميع الأوقات، وفي جميع طرق المواصلات تر القباب البيضاء لائحة في جميع الثنايا والآكام ورؤوس الجبال، وسل تجد القليل منها منسوبا إلى معروف من أجداد القبائل، وتجد الأقل مجهولا، والكثرة منسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. واسأل الحقيقة تجبك عن نفسها بأن الكثير من هذه القباب إنما بناها المعمرون الأوربيون في أطراف مزارعهم الواسعة، بعد ما عرفوا افتتان هؤلاء المجانين بالقباب، واحترامهم لها، وتقديسهم للشيخ عبد القادر الجيلاني، فعلوا ذلك لحماية مزارعهم من السرقة والإتلاف. فكل معمر يبني قبة أو قبتين من هذا النوع يأمن على مزارعه السرقة،
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 320)
كلكم كفرة (319)
ويستغني عن الحراس ونفقات الحراسة، ثم يترك لهؤلاء العميان- الذين خسروا دينهم ودنياهم- إقامة المواسم عليها في كل سنة، وإنفاق النفقات الطائلة في النذور لها وتعاهدها بالتبييض والإصلاح، وقد يحضر المعمر معهم الزردة، ويشاركهم في ذبح القرابين، ليقولوا عنه إنه محب في الأولياء خادم لهم، حتى إذا تمكن من غرس هذه العقيدة في نفوسهم راغ عليهم نزغا للأرض من أيديهم، وإجلاء لهم عنها، وبهذه الوسيلة الشيطانية استولى المعمرون على تلك الأراضي الخصبة التي أحالوها إلى جنات، زيادة على الوسائل الكثيرة التى انتزعوا بها الأرض من أهلها) (1)
ثم بين أثر الحركة الإصلاحية في قلع هذه العادات، ويقر في نفس الوقت بأنه لم يمض عليها زمن حتى عادت من جديد من غير أن يبحث في سر عودتها، فقال: (ولقد ماتت هذه العوائد الشيطانية قبل الحرب الأخيرة أو كادت تموت، بتأثير الحركة الإصلاحية المطهرة للعقائد، ثم قضي عليها بتأثر الناس بالحرب ولأوائها، وقد عادت في السنتين الأخيرتين إلى ما كانت عليه) (2)
ثم ختم مقاله بفتاوى خطيرة تفتقر إلى لغة الفقهاء، فقال: (يا قومنا، أجيبوا داعي الله، ولا تجيبوا داعي الشيطان، يا قومنا إن أصول هذه المنكرات مفسدة للعقيدة، وإن فروعها مفسدة للعقل والمال، وإنكم مسؤولون عند الله عن جميع ذلك، يا قومنا إنكم تنفقون هذه الأموال في حرام وإن الذبائح التي تذبحونها حرام لا يحل أكلها، لأنها مما أهل به لغير الله؛ فمن أفتاكم بغير هذا فهو مفتي الشيطان، لا مفتي القرآن) (3)
وقد استمر – للأسف – منهج خلف الجمعية على درب سلفها في هذه المواقف
__________
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 321)
(2) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 321)
(3) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (3/ 322)
كلكم كفرة (320)
الخطيرة المفتقرة إلى اللغة العلمية، والمتسرعة في الحكم بالتكفير، حيث نجد الشيخ أحمد حماني الرجل المتساهل في الكثير من الفتاوى يتكلم بنفس تلك اللغة التي تكلم بها الإبراهيمي والميلي، فيقول - متأسفا-: (وفي الجزائر ينادي كل قوم برجلهم: أهل الغرب بسيدي بومدين وسيدي الهواري وفي الوسط سيدي عبد الرحمان وسيدي محمد وسيدي منصور، وأهل الشرق سيدي الخير وسيدي راشد، وسيدي عبد القادر للجميع للجميع، وقد كانت الدعوة الإصلاحية قضت على معظم هذه البدع ورجعت بالناس إلى ذكر الله وحده، ولكننا عدنا إلى سماع هذا حتى في إذاعتنا ووسائل إعلامنا، وما كان يجوز هذا في أمة موحدة وإنما يذكر عندنا اسم الله وحده، فإننا أمة وحدها الإسلام) (1)
ولسنا ندري ما الحرج في أن تشتهر المناطق المختلفة بأسماء الأولياء والصالحين، بل نرى في ذلك تشجيعا للصلاح والتقوى التي أهلت أولئك ليتبوؤوا تلك المكانة الرفيعة في المجتمع.
ولكن الجمعية للأسف، والتي بالغت في تقديس أعضائها لم ترض للناس أن يقدسوا أحدا غيرهم، وهي تعلم أن المجتمع إن لم يرفع الصالحين فسيرفع غيرهم لا محالة، فهي سنة اجتماعية، فلكل مجتمع أبطاله ورجاله وأهل القدوة فيه، فإذا ما ضربوا ضربت هوية المجتمع معهم، وللأسف فقد استبدل الناس بعد أولئك الصالحين – بغض النظر عن حقيقة صلاحهم ومدى صدقهم فيه- بمطربين ومهرجين ولاعبين وسياسيين.. ولم نجد أحدا ينكر ذلك.
والأخطر من هذا أن الشيخ أحمد حماني الذي أتيحت له فرص كثيرة بعد الاستقلال ضيعها جميعا، ولم يجد شيئا ينكره إلا هذه العادات ليقتلعها من جذورها من غير أن يضع أي بديل صالح لها، وكمثال على ذلك أنه طرح عليه في الإذاعة الوطنية هذا السؤال: (عادة
__________
(1) أحمد حماني: حياة وآثار، شهادات ومواقف، ص 123.
كلكم كفرة (321)
موروثة كانت منتشرة فينا ورثناها عن الأجداد وهي إقامة حفلات الزردة، يتهيأ لها الناس... ويجتمعون بمكان ولي فينحرون البقر ويذبحون الشياه... وتقام الاحتفالات بالحضرة والآلات والتهوال ويضرع للأولياء والصالحين فيمدونهم بالبركات والخيرات، اختفت هذه العادة أيام الثورة لكنها عادت بعد 1962 وكان الناس فيها قسمان مؤيد ومعارض) (1)
فأجاب عن هذا السؤال بنفس الحمية التي كان ينطق بها الشيخ الإبراهيمي والتبسي والميلي، فذكر أن آخر زردة كانت في قسنطينة سنة 1937 لأن إقامتها ليست من الإسلام في شيء لما فيها من مظاهر الشرك ودعاء للأولياء والذبح لغير الله، زيادة على أنها من مظاهر التخلف ووراءها الاستعمار وقد اختفت هذه البدع بعد الاستقلال حتى عادت للظهور من جديد في الثمانينيات، ووجه حماني لومه للمذيع والإذاعة الوطنية أنه لو احترم نفسه كصحافي صادق لقدم لأمته الحقائق لتتمسك بها بما يفيدها وتهجر القبيح الذي يضرها (2).
ولسنا ندرى لم لم ينكر الشيخ تلك الاحتفالات الكبرى أو أنواع الزردة التي تقام في ملاعب كرة القدم، والتي استبدل بها المجتمع احترامه وتعظيمه للصالحين بتعظيمه للاعبين، فحصد نتيجة ذلك صراعات كبرى بين أهل المناطق المختلفة من أجل هدف أو لاعب أو حكم، ولم يكن للشيخ أحمد حماني في ذلك الوقت - للأسف- إلا أن ينضم إلى قائمة المشجعين، فيشجع فريقا على حساب فريق.
بل إن الشيخ لم يكتف بالتبشير في الإذاعة التي هي ملك للجزائريين جميعا بهذه التصريحات الخطيرة، بل راح في كل النوادي يبشر بها، وكأنها قضية الساعة، فقد وردت إليه
__________
(1) أحمد حماني: الفتاوى، 3/ 312.
(2) أحمد حماني: الفتاوى، 3/ 312.
كلكم كفرة (322)
استفتاء (1) حول الزردة، فأجاب بلغة لا تختلف عن لغة الوهابيين التكفييريين، نجتزئ منها – من باب الاختصار- هذه العبارات المفرقة الدالة على المنهج الفكري للشيخ وللجمعية جميعا.
فقد ذكر أن المقصودين بالزيارة (كانوا عاطلين عن كلّ ما يؤهّلهم للزيارة! فلا علم ولا زهد ولا صلاح ولكن نسب مرتاب في صحّته)
وذكر أن الممارسات التي تؤدى عند الأضرحة ممارسات شركية، فقال: (إنّ مثل هذا التمسّح نوع من الشرك ولا يكون إلاّ للحجر الأسود بالكعبة فقط مع التوحيد الخالص لله وقد قال له عمر يخاطبه: (والله ما أنت إلا حجر لا تنفع ولا تضر ولو لا أنّي رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)، فإن كنت مع الحجر الأسود كما قال عمر فلا بأس أن تقبّله، أمّا غيره فلا يجوز لك التمسّح به فإنّ التمسّح به وتقبيله شرك يتنَزّه عنه المؤمن الموحّد)
ثم إنه حكم بالشرك حتى على التوسل الذي لم ير الشيخ ابن باديس فيه أي حرج، فقال: (إنّ التوسّل الشائع بين الناس وهو الدعاء – الدعاء هو مخ العبادة – شرك محض، فالتوحيد أن تدعو الله الذي خلقك – ولو عظمت ذنوبك – فإنه معك يسمع دعاءك فإن كان لا بدّ من التوسّل فتوسّل بصالح أعمالك كما فعل الثلاثة اصحاب الغار حينما نزلت عليهم الصخرة وسدّته عليهم، فاستجاب لهم من يعلم شدّتهم. هذا هو التوسّل الصحيح وغيره قد يوقع صاحبه في الشرك، فلا تحم حوله)
ثم اعتبر كالوهابيين جميعا أن الأضرحة ليست غير أصنام لا تختلف عن أصنام الجاهلية، فقال: (وكانت هذه الزردة كثيرة لأنّ لكلّ قوم لإلههم من أصحاب القبور من حدود تبسة إلى مغنية، كانت القبور تعبد من دون الله ولكلّ قوم من يقدسونه. فـ (سيدي سعيد) في تبسة، و(سيدي راشد) في قسنطينة و(سيدي الخير) بسطيف و(سيدي بن
__________
(1) جريدة الشعب الجزائرية الصادرة بتاريخ 18/ 11 / 1991 الصفحة 9.
كلكم كفرة (323)
حملاوي) بالتلاغمة، و(سيدي الزين) بسكيكدة و(سيدي منصور) بولاية تيزي وزو و(سيدي محمد الكبير) في البليدة، و(سيدي بن يوسف) بمليانة و(سيدي الهواري) بوهران و(سيدي عابد) بغليزان و(سيدي بومدين) بتلمسان و(سيدي عبد الرحمن) بالجزائر، ويزاحمه (سيدي امحمد)، وليعذرني الإخوة ممن لم أذكر آلهة بلدانهم وهم ألوف، ففعل هؤلاء القوم مع هؤلاء المشايخ يشبه فعل الجاهلية مع هبل واللات والعزّى وخصوصا إقامة الزردة حولها والذبح لها والتمسح بالقبور، أفترانا نحيي آثار الشرك ونحن الموحدون؟)
ثم أفتى بأن (الطعام واللحم المقدّم في الزردة لا يحلّ أكله شرعا لأنّه مما نصّ القرآن على حرمة أكله فإنه سبحانه وتعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فاللحم من القسم الرابع أي مما أهل لغير الله، أي ذبح لغير الله بل للمشايخ، فزردة (سيدي عابد) أقيمت له وهكذا (سيدي أحمد بن عودة) و(سيدي بومدبن).. أقيمت له الزردة ليرضى وينفع ويدفع الضّر، وتقول إنّ هذه الذبائح قد ذكر اسم الله عليها، فأقول: ولو ذكر اسم الله فإنَّ النّية الأولى وهي تقديمها إلى صاحب المقام، يجعلها لغير الله)
ونحب أن نختم هذا العنوان بما حصل من تعظيم تلاميذ ابن تيمية وأتباعه الأوائل له، والذي لا ينطبق عليه ـ بالمقاييس السلفية والوهابية خصوصا ـ إلا حكم الشرك الجلي.
فقد ورد في كتاب [البداية والنهاية] لابن كثير تلميذ ابن تيمية النجيب قوله في أحداث سنة 728 هـ: (وحضر جمع كثير إلى القلعة، وأذن لهم في الدخول عليه، وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، ثم حضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصروا على من يغسله، فلما فرغ من غسله أخرج ثم اجتمع الخلق بالقلعة والطريق إلى الجامع وامتلأ بالجامع أيضا وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازة.. ثم تزايد الجمع إلى
كلكم كفرة (324)
أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن يصلي عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النعش به من باب البريد واشتد الزحام وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النعال من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم لا يلتفتون إليها لشغلهم بالنظر إلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر) (1)
ويذكر أنه بعد دفنه: (شرب جماع الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودفع في الخيط الذي كان فيه الزئبق الذي كان في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهما، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمسمائة درهما) (2)
ولم يقتصر التبرك بابن تيمية وتعظيمه على ذلك اليوم، بل استمر بين أتباعه ومحبيه حتى أنهم كانوا يستشفون بتراب قبره، فقد جاء في كتاب (الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر) في الحادثة التي حصلت مع البطائحي المزي، وراوها لابن حجي قال: كنت شابا، وكانت لي بنت حصل لها رمد، وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية، وكان صاحب والدي، ويأتي إلينا ويزور والدي، فقلت في نفسي: لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به، فإنه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل، فجئت إلى القبر، فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا، فقلت: ما تصنع بهذا، قال: أخذته لوجع الرمد، أكحل به أولادا لي، فقلت: وهل ينفع ذلك؟ فقال: نعم.. وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته، فأخذت منه، فكحلتها وهي نائمة، فبرئت، قال: وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل أبي عمر
__________
(1) البداية والنهاية (14/ 156)
(2) البداية والنهاية (14/ 157)
كلكم كفرة (325)
المقدسي، وكان يأتي الينا، فأعجبه ذلك، وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه، ويعجبه ذلك (1).
بناء على ما سبق من تصريحات أعلام السلفية المتقدمين والمتأخرين بتكفير كل من يقع في أحد المكفرات التي ذكرناها في المبحث السابق، فإننا نحاول هنا أن ننظر في تطبيقاتهم لتلك التكفيرات على الصوفية بأعلامها وطرقها ومن يواليها ومن يتودد إليها أو يقبل سلوكاتها أو لا يقف في وجهها..
فإن هؤلاء جميعا كفار عند السلفية باعتبارات مختلفة، فمنهم من يكفر بسبب مواقفه العقدية، ومنهم من يكفر بسبب سلوكاته العملية، ومنهم من يكفر بسبب نقضه للولاء والبراء الذي يتطلب منه أن يكفرهم، لأن من لا يكفر الكافر كافر.. وهكذا نجدهم يكفرون كل من اقترب من الصوفية بأي شكل من الأشكال، أو في أي بعد من الأبعاد.
بل إن السلفية كفروا دولا قائمة بذاتها ـ كالدولة العثمانية ـ بناء على رعايتها للصوفية، وتأييدها لهم، وأطلقوا بناء على ذلك أحكامهم الكثيرة التي تجعل ذلك الحكم أعم من أن يخص دولة بعينها.
بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل، ومن خلال التراث السلفي القديم والحديث أن نذكر الأدلة والوثائق المثبتة لهذا التكفير.. وقد قسمنا المبحث إلى أربعة أقسام:
1 ـ تكفير أعلام الصوفية، ومفكريها في القديم والحديث.
2 ـ تكفير أنصار الصوفية ومؤيديها من العلماء والعامة.
3 ـ تكفير الطرق الصوفية.
4 ـ تكفير الدول الراعية للصوفية.
__________
(1) الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمة شيخ الاسلام كافر 129 - 130.
كلكم كفرة (326)
1 ـ تكفير أعلام الصوفية، ومفكريها في القديم والحديث.
من المفارقات العجيبة التي تدل على غلبة المزاجية على العقل السلفي ذلك الموقف المتناقض من كثير من أعلام التصوف المتقدمين وغيرهم.. فبينما نراهم يعظمون ابن تيمية في كل شيء، ولا يكادون يخرجون عن كلمة من كلماته، أو موقف من مواقفه.. لكنهم في الموقف من كثير من أعلام التصوف خصوصا نجدهم يخرقون هذه القاعدة، ويتصورون، ولأول مرة، أن ابن تيمية قد أخطأ في تعامله معهم، وأنه كان لينا مع الكثير منهم، وأن الأجدر به لو تعامل معهم كما تعامل مع الجهمية وغيرهم من الفرق التي سلط عليها سيف تكفيره.
بناء على هذا سنتحدث هنا عن هذا الخلاف بين السلفية المتأخرين والسلفية المتقدمين في الموقف من أعلام الصوفية.
موقف متقدمي السلفية من تكفير أعلام الصوفية
ذكرنا في الفصل السابق أن الكثير من أعلام الحنابلة والكرامية ـ الذين يشكلون لبنة من لبنات العقيدة السلفية ـ كانوا ذوي ميول صوفية، وأنهم كانوا يمزجون بينها وبين تشددهم مع المتكلمين والمنزهين، ورميهم بالتجهم والتعطيل، وذكرنا مثالا على ذلك بالشيخ الهروي الذي يطلقون عليه لقب [شيخ الإسلام]
وبناء على هذا، فقد كانت موقف ابن تيمية ـ مثلا ـ مع الصوفية الحنابلة أو الصوفية الأوائل مواقف لينة جدا مقارنة بغيرهم.. فهو يدافع عنهم، ويؤول ما ورد عنهم من كلمات، ولا يحملها على ظاهرها، بل يجد لها من المسوغات والمبررات ما يجعلها مقبولة عندهم.
وهكذا نجده في مواقفه من الكثير من المصطلحات الصوفية التي شنع عليها المتأخرون، وكفروا كل من يتحدث بها أو عنها من أمثال الفناء والبقاء والجمعية وغيرها.
كلكم كفرة (327)
وقد كان ذلك مدعاة لانتقادات المتأخرين مثلما فعل الشيخ محمد جميل غازي حين قدم لكتاب [الصوفية والفقراء] لابن تيمية، فاستنكر أشياء عليه كذكر ابن تيمية أن الصوفية يريدون مقام الصديقية (1)، فراح ينتقده في ذلك انتقادا شديدا مبينا أنهم ليسوا كذلك وأنهم أنهم أهل الزندقة، والحلول والاتحاد، ووصفهم بأنهم أهل المروق والفرقة والبدعة.
ومن أمثلة هذه المواقف اللينة التي أطلقها ابن تيمية تجاه أعلام الصوفية ـ وخصوصا المتقدمين منهم ـ قوله في [مجموع الفتاوى]: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإِبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوِّغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إِلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإِجماع السلف وهذا كثير في كلامهم) (2)
وقال: (وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله فهؤلاء من أعظم الناس لزوماً للأمروالنهي وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرا من المشي مع القدر كما مشى أصاحبهم أولئك وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على إتباع المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور ولا يثبت طريقاً تخالف ذلك أصلا، لاهو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون إتباع
__________
(1) انظر الصوفية والفقراء (8 - 10)
(2) مجموع الفتاوى، ج 10. ص 516 ـ 517.
كلكم كفرة (328)
الأمر) (1).
وقال مثنيا على الشيخ عبدالقادر الجيلاني: (قلت: (ولهذا يقول الشيخ عبد القادر - قدس الله روحه- كثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والرجل من يكون منازعا لقدر لا موافقا له وهو - رضي الله عنه - كان يعظم الأمر والنهي ويوصي باتباع ذلك وينهى عن الاحتجاج بالقدر) (2)
وقال عنه: (والشيخ عبد القادر من أعظم شيوخ زمانه مأمرا بالتزام الشرع والأمر والنهى وتقديمه على الذوق، ومن أعظم المشائخ أمرا بترك الهوى والاراده النفسية) (3)
وهكذا أثنى على الجنيد كثيرا، وفي مواضع مختلفة من كتبه، كقوله: (والجنيد وأمثاله أئمة هدى، ومن خالفه في ذلك فهو ضال. وكذلك غير الجنيد من الشيوخ تكلموا فيما يعرض للسالكين وفيما يرونه في قلوبهم من الأنوار وغير ذلك؛ وحذروهم أن يظنوا أن ذلك هو ذات الله تعالى) (4)
وقال: (فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد) (5)
وهكذا سمى الكثير منهم واعتبرهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى، فقال: (أنهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، مثل سعيد بن المسيب، والحسن البصري.. وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض،
__________
(1) مجموع الفتاوى، ص 369/ 8.
(2) مجموع الفتاوي، 8/ 303.
(3) مجموع الفتاوى، ج 10 - ص 884.
(4) مجموع فتاوي ابن تيمية، ج 5 ص 321.
(5) مجموع الفتاوى، جزء 14 - صفحة 355.
كلكم كفرة (329)
ومعروف الكرخي.. وبشر الحافي، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة. إلى مثل المتأخرين: مثل الجنيد بن محمد القواريري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي، ومن بعدهم ـ إلى أبي طالب المكي إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق، ومصر والمغرب وخراسان، من الأولين والآخرين) (1)
بل إن ابن تيمية يمتدح الصوفية الذين ذكروا في الكتب المؤرخة للتصوف، وإن كان يعتب عليها إهمالها للصحابة والتابعين، فقد قال: (وكذلك من صنف في التصوف والزهد جعل الأصل ما روي عن متأخري الزهاد - وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين كما فعل صاحب الرسالة أبو القاسم القشيري وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي وابن خميس الموصلي في مناقب الأبرار؛ وأبو عبد الرحمن السلمي في تاريخ الصوفية لكن أبو عبد الرحمن صنف أيضا سير السلف من الأولياء والصالحين. وسير الصالحين من السلف كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم من ذكرهم لأخبار أهل الزهد والأحوال من بعد القرون الثلاثة من عند إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي ومن بعدهم وإعراضهم عن حال الصحابة والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم والثناء عليهم والرضوان عنهم. وكان أحسن من هذا أن يفعلوا كما فعله أبو نعيم الأصبهاني في الحلية من ذكره للمتقدمين والمتأخرين. وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في صفوة الصفوة وكذلك أبو القاسم التيمي في سير السلف، وكذلك ابن أسد بن موسى إن لم يصعدوا إلى طريقة عبد الله بن المبارك. وأحمد بن حنبل. وهناد بن السري
__________
(1) مجموع الفتاوي، ج 2 ص 452،
كلكم كفرة (330)
وغيرهم في كتبهم في الزهد) (1)
وهكذا نجده يدافع عما نسب لهم من أشياء تخالف الشريعة كقوله في السيدة رابعة العدوية: (وأما ما ذُكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، وهو كذب فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها) (2)
وهكذا نراه لا يكفر بسبب الكثير من المصطلحات التي يغرم المتأخرون بتكفير أصحابها، بل يعذرهم في استعمالها، فقد قال في [مجموع الفتاوى]: (واعلم أن لفظ الصوفية وعلومهم تختلف فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم ومرموزات واشارات تجرى فيما بينهم فمن لم يداخلهم على التحقيق ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئ وحسير) (3)
بل إن ابن تيمية يقر الصوفية على ما يذكرونه من وحدة الشهود والفناء، والذي يحكم المتأخرون بتكفير قائله ـ كما فعلوا مع سيد قطب ـ: (وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين؛ فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد؛ لا يخطر بقلوبهم غير الله؛ بل ولا يشعرون؛ كما قيل في قوله: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى. وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف. وإما رجاء يبقي قلبه منصرفا عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه؛ بحيث يكون عند استغراقه في ذلك
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/ 367)
(2) مجموع الفتاوى (2/ 288)
(3) مجموع الفتاوى، جزء 5 - صفحة 79.
كلكم كفرة (331)
لا يشعر بغيره. فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى. والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها. وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه كما يذكر: أن رجلا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي قال: غبت بك عني فظننت أنك أني) (1)
بل إن ابن تيمية مع تشدده في الكثير من المسائل يتساهل مع ما روي من شطحات من الصوفية الأوائل، فقد قال في [مجموع الفتاوى]: (وفي هذا الفناء قد يقول: أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، إذا فني بمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، وبمذكور عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه. كما يحكون أن رجلاً كان مستغرقا في محبة آخر، فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال ما الذي أوقعك خلفي؟ فقال: غبت بك عني فظننت إنك أني. وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود حلاوة الإيمان، كما يحصل بسكر الخمر، وسكر عشيق الصور. وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحاله حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ، كقول بعضهم: انصب خيمتي على جهنم، ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع؛ وقد يكون صاحبها غير مأثوم، وأن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو من يعين كافرا أو ظالما بحاله ويعلم أنه مغلوب عليه. ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/ 219)
كلكم كفرة (332)
سبب زوال العقل والغلبة أمرا محرما) (1)
ولو أننا أخذنا هذا النص، ونسبناه إلى أي شخص، ثم استفتينا أي عالم من علماء السلفية المعاصرين ابتداء من هيئة كبار العلماء إلى صغارهم، فإنهم لا محالة يحكمون بكفر قائله.. اللهم إلا إذا وجدنا منهم من طالع كتب ابن تيمية، وقرأ هذا النصوص خصوصا، فإنه يكتفي بتخطئته وانتقاده دون تكفيره.
وهكذا نرى ابن القيم في تعامله مع الصوفية، فهو يثني على الكثير من أعلامها، وينقل كلامهم، ويشرحه، ويبين قيمته، ويبرر ما أسيء فهمه.. وهذا ما لقي نوعا من النفور من المتأخرين الذين تمنوا لو أنه اكتفى بتكفير الجهمية والمعطلة وغيرهم، ولم يفعل هذا.
ومن أمثلة ذلك قوله في [مدارج السالكين] في تعريف التصوف: (الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وكذلك التصوف قال الكتاني: التصوف: هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف) (2)
وقال معلقا على قول الجنيد: (المريد الصادق غنى من العلماء)، وقوله: (إذا أراد الله بالمريد خيرا أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء): (قلت: إذا صدق المريد وصح عقد صدقه مع الله، فتح الله على قلبه ببركة الصدق وحسن المعاملة مع الله ما يغنيه عن العلوم التى هي نتائج أفكار الناس وآرائهم وعن العلوم التى هى فضله ليست من زاد القبر) (3)
وقال معلقا على قول الشافعي: (صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون: الوقت سيف فان قطعته وإلا قطعك، ونفسك أن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل): (قلت: يا لهما من كلمتين، ما أنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قائلهما
__________
(1) مجموع الفتاوى: 16/ 402.
(2) مدارج السالكين: 2/ 307..
(3) مدارج السالكين: 2/ 366.
كلكم كفرة (333)
ويقظته، ويكفي في هذا ثناء الشافعي علي طائفة هذا قدر كلماتهم) (1)
وهكذا نرى الذهبي يثني على الكثير من الصوفية أثناء ترجمته لهم، بل يعتبرهم من أهل الحديث، ومن ذلك قوله في (ابن الإعرابى): (الإمام الحافظ الزاهد شيخ الحرم أبو سعيد احمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري الصوفي صاحب التصانيف وكان ثقة ثبتا عارفا ربانيا كبير القدر بعد الصيت) (2)
وقال في (غندر): (وإما غندر الثالث فهو صوفي محدث جوال، لقي الجنيد وطبقته وكتب الحديث وسكن مصر) (3)
وقال في (الماليني): (الحافظ العالم الزاهد أبو سعد احمد بن محمد بن احمد ابن عبد الله ابن حفص الأنصارى الهروي المالينى الصوفي، ويعرف أيضا بطاووس الفقراء.. وجمع وحصل من المسانيد الكبار شيئا كثيرا، وكان ثقة متقنا صاحب حديث ومن كبار الصوفية) (4)
وقال في (الكتاني): (الإمام المحدث مفيد دمشق ومحدثها أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد علي التميمي الدمشقي الصوفي، سمع الكثير وجمع فأوعى) (5)
هذه مجرد نماذج بسيطة، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، وهي كلها تدل على الموقف اللين الذي انتهجه متقدمو السلفية مقارنة بالموقف الذي انتهجه المتأخرون، وخاصة في الفترة التي جاء فيها محمد بن عبد الوهاب، والذي كفر جميع صوفية زمانه حتى الحنابلة منهم، كما رأينا سابقا، وقد زاد ذلك التكفير في عصرنا على كل العصور السابقة كما
__________
(1) مدارج السالكين: 3/ 128.
(2) تذكرة الحفاظ، 3/ 852.
(3) تذكرة الحفاظ، 3/ 961..
(4) تذكرة الحفاظ، 3/ 1070.
(5) تذكرة الحفاظ، 3/ 1170.
كلكم كفرة (334)
أشرنا إلى ذلك.
موقف متأخري السلفية من تكفير أعلام الصوفية
على عكس ذلك الموقف اللين الذي وقفه كبار منظري ومحققي المدرسة السلفية نجد المتأخرين الذين تشددوا في كل أعلام الصوفية أوائلهم وأواخرهم، ورموهم جميعا بالقول بوحدة الوجود بمعناها الفلسفي.
ومن أمثلة ذلك موقف صاحب كتاب [الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ]، والذي يقدسه السلفية المعاصرون كثيرا، ويعتبرون صاحبه صاحب اكتشاف مهم غاب عن كل متقدمي السلفية الذين أحسنوا الظن بالصوفية بسب ما كانوا يرونه من عبادة وتقوى.
فقد قال في كتابه هذا مشيرا إلى أن الصوفية جميعا قائلون بوحدة الوجود بمعناها الفلسفي: (أمام هذا الوضع، لا يكفي تقديم دراسة عن صوفي واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة! لذلك ستكون الفصول الآتية أقوالاً لأكبر عدد يمكن للكتاب أن يستوعبه من أئمتهم وكبرائهم، منذ الجنيد وأقرانه حتى أصحاب الطرق في أيامنا الحاضرة، بحيث لا يبقى مجال لأولئك المدافعين، ولا يبقى مكان لحججهم. ويجب أن نتذكر دائماً، وأن لا ننسى أبداً أن التصوف مذهب واحد، كما يقرره أصحاب هذا المذهب العارفون الواصلون) (1)
ومن الأمثلة على ذلك موقفه من الجنيد الذي رأينا ثناء ابن تيمية وابن القيم عليه، ومثلهما الكثير من المحدثين كابن رجب والذهبي وغيرهما.. لكن كل ذلك لم يعجبه، بل راح يتهم الجنيد بما لم يجرؤ سلفه على اتهامه به.
بل راح يتهم ابن تيمية في ثنائه عليه، بسب عدم فهمه لمقاصده، فقد نقل ما قال ابن تيمية في كتاب (دقائق التفسير)، وهو قوله: (.. وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم مع
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 9.
كلكم كفرة (335)
مشاهدة المشيئة العامة، لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه، وهو الفرق بين ما يحبهُ وما يبغضه، وبين ذلك لهم الجنيد، كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم) (1)
ثم علق على ذلك بقوله: (أقول: رحم الله ابن تيمية، لم يكلف نفسه دراسة اللغة الصوفية وعباراتها، فانزلق مثل هذا الانزلاق، وأظن أن عبارة الجنيد (مشاهدة المشيئة العامة) هي الآن واضحة المدلول، أما العبارتان: (ما يأمر الله به، وما ينهى عنه) فقد تغيب الإشارة فيهما عن القارئ الذي لم يتمرس بعد باللغة الصوفية، فإلى ماذا تشيران؟) (2)
ثم راح يشرح لابن تيمية ما لم يفهمه من كلام الجنيد، فقال: (مر معنا في صفحات سابقة، وسيمر فيما يأتي من فصول أنهم يقولون بالِإسلام والِإيمان والِإحسان الذي جاء في الحديث الشريف، وأنهم يفسرون (الِإحسان) أنه الفناء في الذات، أو استشعار الألوهية وتذوقها، وبالتالي معرفة وحدة الوجود استشعاراً وذوقاً وتحققاً. ومر معنا- وسيمر- أنهم يجعلون معنى كلمة (الفاحشة، أو الفواحش) الواردة في القرآن الكريم هو البوح بالسر، ولنتذكر أيضاً تفسيرهم للآية الكريمة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، وغيرها. من هنا تتوضح الِإشارة في قول الجنيد (ما يأمر الله به) التي تشير إلى الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، وكذلك الِإشارة في قوله: (وما ينهى عنه) التي تشير إلى الآية الكريمة: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النحل:90]. أي إن عبارة الجنيد: (ما أمر الله به) تشير إلى (الِإحسان) الذي يأْمر الله به، والذي هو عندهم معرفة وحدة الوجود؛ وعبارته: (وما ينهى عنه) تشير إلى (الفحشاء) التي ينهى الله سبحانه عنها، والتي هي عندهم البوح بالسر، وبذلك تكون العبارة: (لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما
__________
(1) دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، (1/ 426)
(2) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 93.
كلكم كفرة (336)
يأمر الله به وما ينهى عنه) لها نفس معنى عبارة الشاذلي: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً) ونفس معنى عبارة الجيلاني (فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارة وإلى جماله تارةً أخرى)، ونفس معنى عبارة ابن عجيبة: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه) (1)
وهكذا يقع السلفية في الطعن في ابن تيمية إن لم يوافق هواهم.. فهم معه كل شيء، وخاصة إن وافق نفوسهم الممتلئة بالأحقاد، ليغذيها بغذاء التكفير الذي يشتهونه.. لكنه إن قصر في ذلك، فهم يكملون ما قصر فيه.
ولهذا نجدهم يتمنون لو أنهم استطاعوا أن يحرقوا كل ما كتبه عن التصوف هو وابن القيم وابن رجب وغيرهم.. مثلما فعل أسلافهم بكتب الغزالي والفلاسفة.
وهكذا راح ينقل كلمات الجنيد في السلوك والمعرفة، ويطبق عليها كل الأحكام الجزافية التي وضعها، فقد نقل عن الجنيد قوله للشبلي: (نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رءوس الملإ! فقال: أنا أقول، وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري؟)، ثم علق عليه بقوله: (يهمنا في هذا النص قول الجنيد فقط. إِنه يخبر عن علم حبره هو تحبيراً، (أي: وضع قواعده وأصوله)، ثم خبأه في السراديب! فما هو هذا العلم المخبأ؟! ولم خبأه في السراديب؟!) (2)
وهكذا يسأل نفسه، ويجيب نفسه، ثم يحكم في الأخير بنفسه، فهو القاضي وهو المدعي وهو السجان وهو السياف.. ولا يحل لأحد من الناس أن يوضح له مقصود الجنيد حتى لو كان ابن تيمية نفسه.
وهكذا نراه في موقفه من الشيخ عبد القادر الجيلاني، والذي أثنى ابن تيمية عليه
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 94.
(2) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 96.
كلكم كفرة (337)
كثيرا في كتبه، كما رأينا بعض النماذج على ذلك سابقا، لكن ابن تيمية ـ كما يصور هذا السلفي المعاصر ـ لم يفهم هذا الشيخ الجليل، لأن حيل الباطنية الصوفية انطلت عليه.
ولهذا يوضحها له في كشفه الذي حصل لأول مرة في التاريخ، وتلقاه السلفية بكل أريحية، ولم يبالوا بطعن ابن تيمية ولا غيره من أسلافهم.
ومن تلك الأدلة التي استدل بها على تكفيره بسبب قوله بوحدة الوجود الفلسفية هذه النصوص الروحية العميقة: (الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيّن الأين وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية) (1)
وقوله: (.. ثم قال لي: يا غوث الأعظم! ما أكل الِإنسان شيئاً وما شرب وما قام ولا قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلًا وما توجه لشيء وما غاب عن شيء إلا وأنا فيه، ساكنه ومتحركه. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، جسم الِإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره) (2)
وقوله: (فإذا تحقق عندكم العمل، رأيتم القدرة، فحينئذ يَجْعَلُ التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم، إذا لم يبق بينك وبين الله حجاب من حيث قلبك، قدّرك على التكوين وأطلعك على خزائن سره، وأطعمك طعام فضله، وسقاك شراب الأنس، وأقعدك على مائدة القرب منه، وكل هذا ثمرة العلم بالكتاب والسنة أعمل بهما ولا تخرج عنهما، حتى يأتيك صاحب العلم، الله عز وجل. فيأخذك إليه، إذا شهد لك معلم الحكم بالحذق في كتابه، نقلك إلى كتاب العلم، فإذا تحققت فيه أقيم قلبك ومعناك، والنبي في صحبتهما آخذ
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:41)
(2) الفيوضات الربانية، (ص:5) وتبرز هنا ملحوظة هامة، هي أنه لا يهمنا إن كان كل ما في كتاب (الفيوضات الربانية) صحيح النسبة للجيلاني أم لا؛ لأن الذي يهمنا هو أن هذا الكتاب هو عقيدة عشرات الملايين من الذين ساروا على نهج الطريقة القادرية طيلة قرون طويلة.
كلكم كفرة (338)
بأيديهما، ويدخلهما إلى الملك، ويقول لهما: ها أنتما ربكما) (1)
وقوله: (بقي أبو يزيد البسطامي سبع مرات، لما سُمع منه من الكلام العجيب، يفتح إلى قلويهم أبواب القرب، لا يجمعهم مع الخلق سوى الصلوات الخمس ولقب الآدمية البشرية؛ وصورتهم صورة الِإنس، وقلوبهم مع القدر، وأسرارهم مع الملك) (2)
ثم يعلق على هذا النص بقوله: (يخبر عبد القادر الجيلاني عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يفتح أبواب القرب (من الله وبه وإليه وفيه) إلى قلوبهم، أي إلى قلوب المريدين. إذاً فعبد القادر الجيلاني -في هذا النص- يزكي أبا يزيد، وبالتالي فهو يوافقه على أقواله التي مرت معنا آنفاً) (3)
وقوله تعليقا على قول الشيخ عبد القادر الجيلاني: (قيل للحلاج حين صلب: (أوصني)، قال: نفسك إن لم تشغلها وإلا شغلتك) (4): (يُظهر الحلاجَ هنا بمظهر المعلم الحكيم، المقصود، حتى عند الصلب، إذاً فالحلاج مزكىً عند الجيلاني، وهذا يعني أن الجيلاتي يتلقى أقوال الحلاج بالقبول، فهو يؤمن بأقواله وعقيدته، ونستطيع أن نرجع إليها حالاً، لتكون تذكرة وتعيها أذن واعية) (5)
وهكذا نراه ينقل النصوص الكثيرة من كتب الشيخ عبد القادر المختلفة، ويحللها كما يشاء، ويحكم عليها بسيف تكفيره.
ومثل ذلك نجد علما آخر من أعلام السلفية المعاصرين أعطى جهدا كبيرا في تكفير الصوفية والتحذير منهم، وهو د. محمد جميل غازي، والذي عقد في كتابه [الصوفية والوجه
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:217)
(2) الفتح الرباني، (ص:360)
(3) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 73.
(4) الفتح الرباني، (ص:367)
(5) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 75.
كلكم كفرة (339)
الآخر] فصلا خاصا برابعة العدوية التي أثنى عليها ابن تيمة، والتي هي محل احترام من جميع المسلمين.
وقد عنون فصله بهذا العنوان المثير: [رابعة العدوية: الشخصية والأسطورة]، وقد ذكر أن الذي دفعه إلى كتابته [مجلة التوعية الإسلامية]، نظرا لـ (اتساع شهرتها بين المتصوفة، وما ذاع وشاع حولها من أساطير.. فقد امتلأت كتبهم بآلاف الصفحات التي كتبت عنها) (1)
وقد بدأ حديثه الممتلئ بالحقد عليها، بسب تلك الشهرة بالصلاح والتقوى التي نالتها بقوله: (رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجا في العقيدة، ومنهجا في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية، والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان الأخرى ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها واعتنقوها فقالوا بالحلول، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على أربعة بالذات وما قالته، وما نسبه إليها، وما نسج حول شخصيتها من خرافات وأوهام) (2)
وانطلاقا من هذا راح يحلل ما قالته رابعة بنفس المحاليل التي يحلل بها السلفية ما لا يعجبهم من الأفكار، وقد بدأ ذلك بتساؤل طرحه، هو (لماذا نعبد الله؟)، ثم أجاب عليه بقوله: (الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة صوفيا وليس كما يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد عليهم ابن تيمية في رسالته عن الصوفية والفقراء، فقال: نحن أولى بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هدي عيسى بن مريم ولقد كان
__________
(1) الصوفية والوجه الآخر، ص 39.
(2) الصوفية والوجه الآخر، ص 39.
كلكم كفرة (340)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس الصوف يلبس القطن ويلبس الكتان، هذا إذا سلمنا جدلا أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا يلبس شيئا غير الصوف.. ورابعة العدوية كما قلت هي واحدة من هذه المدرسة. وحينما تقول إنها لا تعبد الله خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تماما.. فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو خوفا من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار كما أطلقوا عليها. مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه.. فكيف يتأتى لواحدة كرابعة العدوية قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلاما كثيرا، كيف تأتى لهذه التي عاشت عمرا في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن تسبق رسل الله جميعا في المعرفة بالله والعلم به سبحانه وتعالى؟) (1)
ثم ساق أبياتها التي هي محل إعجاب من المؤمنين جميعا، وهي قولها:
أحبك حبين حب الهوى...... وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى... فشغلي بذاتك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
وعلق عليها بقوله: (ما هي هذه الحجب التي تنتظر رابعة أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع أن الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام حينما قال له: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله سبحانه وتعالى في الدنيا لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه
__________
(1) الصوفية والوجه الآخر، ص 40.
كلكم كفرة (341)
وتعالى) (1)
ثم راح لتلك الأحاديث الجميلة التي رويت عن رابعة في محبة الله ليقضي عليها بفهمه الممتلئ بالعنف والغلظة، فقال: (رابعة العدوية، ومن على شاكلتها هم أول من أطلق على محبة الله عشقا، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقا كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنيا على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم بالله تكون على هذا المستوى) (2)
ثم يتساءل: (ما هو هذا العشق الإلهي الذي لجأت إليه رابعة العدوية، ونسيت الدنيا، وما فيها وكرهت العالم جميعا، وهل الله سبحانه أمرنا بهذا؟ هل الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصد عن خلقه، وأن نصد عن الناس، وأن نصد عن الزواج، وأن نصد عن المتع، وأن نصد عن المال، وأن نصد عن هذا كله بحجة أننا تركنا هذا كله له، مع أنه هو الذي قال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ثم كيف تمتنع رابعة عن الزواج كما يقولون.. أتزعم رابعة العدوية أنها متفوقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تزوج النساء وأكل وطعم وشرب، وهل نتصور أن رابعة أفضل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل من صحابته، هؤلاء الذين رباهم الله، وأنها أوتيت من العلم ما لم يؤته رسول الله، وأكثر مما نزل في القرآن، وأنها تتخلق بأخلاق أكبر من أخلاق القرآن؟.. وهذا وحده
__________
(1) الصوفية والوجه الآخر، ص 41.
(2) الصوفية والوجه الآخر، ص 42.
كلكم كفرة (342)
مخرج من الملة والعياذ بالله سبحانه وتعالى) (1)
هذه نماذج عن اللغة التي تحدث بها هذا السلفي عن هذه المرأة التي اعتبرها المسلمون والمسلمات مثالا من أمثلة الصلاح والتقوى والمحبة الإلهية.. والسلفية لا يعجبهم أن يثنى على أحد من الناس اللهم إلا على أولئك الذين حفظوا عشرات ومئات الآلاف من الأحاديث.. أما من عداهم، فلا يستحق أن تذكر له مكرمة، ولا أن يشاد به، حتى لا تصير الإشادة به حجابا بين الأمة وبين سلفها.
2 ـ تكفير أنصار الصوفية ومؤيديها والمتأثرين بها.
لا يكتفي السلفية بتكفير مشايخ الصوفية الكبار، كما أشرنا إلى ذلك في العنوان السابق، بل إنهم يضمون إليهم تحت عناوين مختلفة كل من له صلة بالتصوف من قريب أو بعيد.
وهم يكفرونه على أسس مختلفة: منها ما يرتبط برميه بوحدة الوجود، أو رميه بالشرك الجلي نتيجة قوله بالتوسل والاستغاثة والتبرك، أو رميه بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهكذا.
وكتطبيق على ذلك سأسوق هنا بعض النماذج على من يشملهم التكفير العيني السلفي بسبب تأثرهم بالتصوف، أو انتمائهم لطرقه.
وأول هؤلاء جميع مشايخ الأزهر الشريف ابتداء من أول شيخ فيه إلى آخرهم.. فكلهم كفار عند السلفية ليس بالاعتبار العقدي فقط.. لأنهم جميعا منزهة.. وإنما بالاعتبار الصوفي أيضا.. فهم كفار كفرا مضاعفا.
فمن مشايخ الأزهر الشيخ الإمام ابراهيم بن محمد بن شهاب الدين البرماوي الازهري الشافعي الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1106 هجرية الموافق 1695 م، فقد كان
__________
(1) الصوفية والوجه الآخر، ص 43.
كلكم كفرة (343)
ذا نزعة صوفية ظاهرة في كتبه، بالإضافة لما طبع عليه الصوفية من حب آل البيت وتعظيمهم، ولهذا كان من أشهر كتبه (تراجم جماعة من آل البيت) وهو مصنف يترجم لعدد كبير من آل البيت ويدخل للتصوف من خلال محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطهرين (1).
ومن مؤلفاته التي يكفي الواحد منها لتكفيره عند السلفية (2): (رسالة في التوسل بالأولياء والصالحين بعد الممات)، و(رسالة في قواعد التصوف)
ومنهم الإمام أحمد بن عبد المنعم بن صيام الدمنهوري (3)، الذي ولي مشيخة الأزهر عام 1182 هجرية، وقد أخذ التصوف من عدد من كبار شيوخ التصوف في عصره، ومن مؤلفاته فيه رسالة حول تحقيق معنى وحدة الوجود عند الصوفية، وكتاب [الزايرجة]، وهو شرح لكتاب (كشف الران عن وجه البيان) لمحي الدين ابن عربي، وكتاب [حلية الأبرار فيما في اسم على من الأسرار]، وكتاب [إرشاد الماهر إلى كنز الجواهر] (في أمراض القلوب وأعمالها)
ومنهم الشيخ أحمد العروسي (4) الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1192 هجرية، وقد كان من كبار متصوفة عصره، وقد تتلمذ على يدي الشيخ الصوفي الكبير مصطفى البكري، ومن مؤلفاته في التصوف التي تكفي لتكفير عند السلفية: (شرح نظم التنوير في اسقاط التدبير للشيخ الملوي (في التصوف)
ومنهم الشيخ عبد الله بن حجازي بن ابراهيم الشافعي الشرقاوي، وقد تلقى مبادئ الطريقة الخلوتية على الإمام الشيخ الحفني، ويذكر مترجموه أنه (استولى عليه التدله
__________
(1) الجبرتي، عجائب الىثار في التراجم والاخبار، ج 3، ص 34.
(2) خير الدين الزركلي، الأعلام، ج 1، 42.
(3) علي عبد العظيم، مشيخة الأزهر، ج 1 ص 131.
(4) د. محمد عبد المنعم خفاجي، الأزهر في ألف عام، ص 72..
كلكم كفرة (344)
والذهول والهيام مما يسميه الصوفية بالجذب، وثاب إلى نفسه بعد أيام، ثم اتصل بالصوفي الشهير العارف بالله الشيخ محمود الكردي، ولازمه فرباه وأرشده وقطع به مدارج الطريق ولقنه أسراره، فأصبح في مقدمة المريدين وطليعتهم) (1)
ومن مؤلفاته في التصوف التي تكفي لتكفيره عند السلفية: ثبت الشرقاوي في الأحزاب والأوراد، وشرح حكم ابن عطاء الله السكندري، وشرح مختصر لعلم التصوف، وشرح الحكم والوصايا الكردية، وشرح ورد السحر للبكري.
ومنهم الشيخ مصطفى العروسي (2)، الذي ولي مشيخة الأزهر كما وليها أبوه وجده من قبله، ومن مؤلفاته في التصوف: حاشية على شرح الشيخ زكريا الأنصاري للرسالة القشيرية في التصوف، وكشف الغمة وتقييد معاني أدعية سيد الأمة، والهداية بالولاية.
ومنهم الشيخ مصطفى عبد الرازق (3)، وكان من تلاميذ الشيخ محمد عبده الذين يحضرون دروسه حيث قرأ عليهم رسالة (الجامي في الصفات) وهي رسالة فلسفية صوفية، ومن مؤلفاته في التصوف: أصول التصوف، وفصول في الأدب والأخلاق (في آداب التصوف)
ومنهم الشيخ عبد الحليم محمود، الذي تدور معظم كتبه حول نصرة التصوف بمدارسه وطرقه المختلفة، وهو ما لقي إنكارا شديدا من السلفية الذين يحملون عليه بشدة، ويلحقونه بابن عربي وبمن يسمونهم ملاحدة الصوفية.
ومن أهم ما قام به تحقيقه الجيد لأمهات كتب التصوف، من أمثال: الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، واللمع للطوسي، وتفسير
__________
(1) الجبرتي، مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس، ص 125.
(2) الجبرتي، عجائب الآثار، ص 92.
(3) على عبد العظيم، مشيخة الأزهر، ج 3، ص 684.
كلكم كفرة (345)
التستري، والطريق إلى الله أو كتاب الصدق للخراز، والرسالة القشيرية، والمنقذ من الضلال، للغزالي، وعوارف المعارف للسهروردي، وشرح حكم بن عطاء الله، للشيخ زروق، وغيث الواهب في شرح الحكم العطائية لابن عباد، ولطائف المنن لابن عطاء الله السكندري.
بالإضافة إلى كتبه الكثيرة الممتلئة بالنفحات الصوفية من أمثال: الفيلسوف المسلم دينييه (عبد الواحد يحيى)، والتصوف عند ابن سينا، والتصوف الاسلامي شحصيات ونصوص، والمدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، وأبو البركات سيدي أحمد الدرديري، وأبو العباس المرسي، والسيد أحمد البدوي، وذو النون المصري، وأبو مدين الغوث، وأبو اليزيد البسطامي، وغيرها من الكتب التي لقيت شهرة كبيرة في الأوساط الصوفية خصوصا.
هذه مجرد نماذج عن مشايخ الأزهر الكبار الذين تأثروا بالتصوف، وألفوا فيه، وهو يدل على أن الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية الكبرى كانت تتبنى التصوف في السلوك كما تتبنى المدرسة الأشعرية أو غيرها من المدارس التنزيهية في العقيدة.. وكل ذلك مما ليس له من حكم عند السلفية إلا الكفر.
وهكذا الحال بالنسبة للمدارس الفقهية.. فأكثر أعلامها نجده إما صوفيا بحتا، أو نجد للصوفية أثرها فيه، بل إن الكثير من أعلام السلفية الذين يستندون إليهم ويجلونهم، لو طبقنا عليهم مقاييس السلفية وخصوصا بفرعها الوهابي، فإنه لا ينطبق عليها إلا حكم الشرك الجلي.
وسأسوق هنا باختصار شديد أسماء بعض القبوريين من السلف ـ على حد تعبير السلفية ـ مع المصادر الموثوقة التي وردت فيها (1) والذين ندعو السلفية إلى ضمهم إلى
__________
(1) اقتبستها من كتاب [أسماء أشهر علماء ألامه الإسلامية المتوسلين، فهل هؤلاء وقعوا في الشرك]، بالإضافة إلى ما كتبه الدكتور محمود صبيح في الموضوع.
كلكم كفرة (346)
إخوانهم من القبوريين من سائر المسلمين، فلا يصح أن يحكموا بالشرك الجلي على قوم، ويتركوا الحكم به على آخرين.. فمن تلك الأسماء:
1 - الحافظ إبراهيم الحربى: الذي روى عنه الخطيب البغدادي في تاريخه قوله: (قبر معروف الترياق المجرب) (1)، وقال أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه طبقات الصوفية في ترجمة معروف الكرخي: (سمعت أبا الحسن بن مقسم المقرئ ببغداد يقول: سمعت أبا علي الصفار يقول: سمعت إبراهيم بن الجزري يقول معروف الترياق المجرب) (2)
2 ـ الحافظ أبو الربيع بن سالم، الذي قال عنه الذهبي في [سير أعلام النبلاء]: (قال الأبار كان غاية في الورع والصلاح والعدالة ولي خطابة المرية ودعي إلى القضاء فأبى ولما تغلب العدو نزح إلى مرسية وضاقت حاله فتحول إلى فاس ثم إلى سبتة فتصدر بها وبعد صيته ورحل إليه الناس وطلب إلى السلطان بمراكش ليأخذ عنه فبقي بها مدة ورجع حدثنا عنه عالم من الجلة سمعت أبا الربيع بن سالم يقول صادف وقت وفاته قحط فلما وضعت جنازته توسلوا به إلى الله فسقوا وما اختلف الناس إلى قبره مد الأسبوع إلا في الوحل)، وروى عنه أنه أنه توسل بقبر محمد بن عبيد الله الحجري (3).
3 - الحافظ أبو الشيخ الأصبهانى: الذي ذكر له الذهبي قصة لو حصلت لغيره لما ترددوا في رميه بالشرك الجلي، فقد روى عن أبي بكر بن أبي علي: قال كان ابن المقرئ يقول كنت انا والطبراني وأبو الشيخ بالمدينه فضاق بنا الوقت فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرت القبر، وقلت: يا رسول الله الجوع، فقال لي الطبراني: اجلس فإما ان يكون الرزق او الموت، فقمت أنا وأبو الشيخ، فحضر الباب علوي ففتحنا له، فإذا معه غلامان
__________
(1) تاريخ بغداد (1/ 122)
(2) طبقات الصوفية، ص 81.
(3) سير أعلام النبلاء) (21/ 251 - 253)
كلكم كفرة (347)
بقفتين فيهما شيء كثير، وقال شكوتموني إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأيته في النوم فأمرني بحمل شيء اليكم (1)))
4 ـ الحافظ أبو زرعة الرازى: الذي ذكر له المناوي هذه القصة: (.. أن عليا الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة على بغلة شهباء، وقد شق بها السوق، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة الرازي وابن أسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث من لا يحصى، فقالا: أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون، ورويت لنا حديثا عن آبائك عن جدك نذكرك به، فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلائق برؤية طلعته، فكانت له ذؤابتان متدليتان على عاتقه، والناس قيام على طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصاخ ومتمرغ في التراب ومقبل لحافر بغلته، وعلا الضجيج، فصاحت الأئمة الأعلام: معاشر الناس انصتوا واسمعوا ما ينفعكم ولا تؤذونا بصراخكم، وكان المستملي أبو زرعة والطوسي، فقال الرضا: حدثنا أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين عن أبيه شهيد كربلاء عن أبيه علي المرتضى قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله قال حدثني جبريل عليه السلام قال حدثني رب العزة سبحانه يقول كلمة لا إله إلا الله حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي، ثم أرخى الستر على القبة وسار، فعد أهل المحابر والدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفا) (2)
5 ـ المحدث أبو على الخلال: قال الخطيب البغدادي: (أخبرنا أحمد بن جعفر بن
__________
(1) سير أعلام النبلاء (16/ 400)
(2) فيض القدير، 4/ 489.
كلكم كفرة (348)
حمدان القطيعي، قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال، يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب) (1)
6 ـ الحافظ ابن القيسرانى: قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (قال أبو الربيع بن سالم الحافظ كان وقت وفاة أبي محمد بن عبيد الله قحط مضر فلما وضع على شفير القبر توسلوا به إلى الله في إغاثتهم فسقوا في تلك الليلة مطرا وابلا وما اختلف الناس إلى قبره مدة الاسبوع الا في الوحل والطين) (2)
7 ـ الحافظ ابن حبان: الذي قال في كتابه [الثقات]: (وقبره ـ أي قبر الإمام علي الرضا ـ بسنا باذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد قد زرته مرارا كثيرة، وما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر على بن موسى الرضا صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عنى إلا أستجيب لي وزالت عنى تلك الشدة، وهذا شئ جربته مرارا، فوجدته كذلك أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وعليهم أجمعين) (3)
8 - الحافظ ابن حجر العسقلانى: وله كلام كثير فى فتح البارى وغيره في هذا، من ذلك قوله، وهو يشرح حديث التوسل بدعاء العباس في الاستسقاء قال: (ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة) (4)
9 ـ الإمام أحمد: الذي قال فى منسكه الذى كتبه للمروذى: (إنه يتوسل بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم فى دعائه)، فمع أن النص واضح في التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسها، لكن ابن تيمية تكلف، فأول ذلك إلى التوسل بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته، فقد نقل ابن مفلح قول الإمام أحمد وتفسير ابن تيمية له مقررا له لا، فقال: (وقيل: يستحب، قال أحمد في منسكه الذي كتبه
__________
(1) تاريخ بغداد (1/ 442)
(2) تذكرة الحفاظ، 4/ 1371.
(3) الثقات (8/ 457)
(4) فتح الباري: 2/ 497.
كلكم كفرة (349)
للمروذي: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره، وجعلها شيخنا كمسألة اليمين به، قال: والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلموبدعائه وشفاعته، ونحوه مما هو من فعله وأفعال العباد المأمور بها في حقه مشروع، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]) (1)
10 ـ أحمد بن حرب: فقد روى عنه الحافظ ابن الجوزي هذه القصة: (.. عن زكريا بن أبي دلويه يقول: (رأيت أحمد بن حرب بعد وفاته بشهر في المنام فقلت: ما فعل بك ربك قال: غفر لي وفرق المغفرة. قلت: وما فوق المغفرة قال: أكرمني بأن يستجيب دعوات المسلمين إذا توسلوا بقبري) (2)
11 ـ الحافظ ابن خزيمة الذي يسميه ابن تيمية وغيره [إمام الأئمة]، فقد ذكره الحافظ ابن حجر في التهذيب، وذكر أن الحاكم قال في تاريخ نيسابور: وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: (خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشائخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضي بطوس قال فرأيت من تعظيمه يعني بن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها ما تحيرنا) (3)، وقال الحاكم: (سمعت أبا علي النيسابوري يقول كنت في غم شديد فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام كأنه يقول لي صر إلى قبر يحيى بن يحيى واستغفر وسل تقض حاجتك فأصبحت ففعلت ذلك فقضيت حاجتي) (4)
12 ـ الحافظ الخطيب البغدادى: الذي روى في باب [دعاء لحفظ القرآن والحديث وأصناف العلوم] هذا الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أراد أن يؤتيه الله
__________
(1) الفروع: 3/ 229.
(2) المنتظم ص 211/ 11.
(3) التهذيب: 7/ 339.
(4) تهذيب التذهيب: 11/ 260.
كلكم كفرة (350)
حفظ القرآن وحفظ العلم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل ثم يغسله بماء مطر يأخذه قبل أن يقع إلى الأرض ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام فانه يحفظ بإذن الله: (اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يسأل مثلك أسألك بحق محمد رسولك ونبيك وإبراهيم خليلك وصفيك وموسى كليمك ونجيك وعيسى كلمتك وروحك...) (1) وقد أنكر بعض السلفية هذا بحجة أن الحديث موضوع، ونحن لم ننقله هنا من باب كونه حديثا، وإنما من باب إقرار الخطيب له، واعتباره له، وهذا يدل على قوله به.
13 ـ الحافظ الدارمى: الذي روى في سننه في [باب ما أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم] عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كووا إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال: ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق (2).
14 ـ الحافظ الطبراني، الذي روى عنه الذهبي توسله عند القبر والشكوى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الجوع (3)، كما أنه صحح حديث التوسل بعد وفاة النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
هذه مجرد نماذج عن قبورية الحفاظ وأهل الحديث، والأمثلة غيرها كثير، والسلفية مدعوون إما إلى حذف التوسل والاستغاثة والتبرك ونحوها من نواقض الإيمان، واعتبارها من المسائل المختلف فيها، أو رمي سلفهم بتهمة التكفير، مثلهم مثل سائر الناس، لأن القضية خطيرة وهي مرتبطة بالتوحيد ولا محاباة فيه، و{اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوى والسامع (2/ 261)
(2) سنن الدارمى، ح 92.
(3) سير أعلام النبلاء (16/ 400)
كلكم كفرة (351)
كما ذكرنا سابقا، فإن تكفير مشايخ الطرق الصوفية ومريديها ومناصريها وكل من يرتبط بها، بل من كل من لم يكفرها، بديهة من البديهيات السلفية التي ابتدأت ـ خصوصا ـ من الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى اليوم، وفتاواه وفتاوى تلاميذه وأتباعه منتشرة مشتهرة، وقد أيدتها الهيئات الرسمية الكبرى في السعودية، وأيدها مفتوها الكبار، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة، والتي تعتبر الطرق الصوفية أشد كفرا من اليهود والنصارى ومشركي قريش.
فمن ذلك ما ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية إجابة عن سؤال يقول صاحبه: (ما هي حقيقة هذه الطرق الكثيرة عندنا مثل: الشاذلية، والأحمدية، والسعدية، والبرهانية، وغيرها..)
وقد أجابت اللجنة الرسمية الممثلة للدولة السعودية بهذا الجواب الخطير: (طريقة الشاذلية والأحمدية والسعدية والبرهانية ونحوها من الطرق طرق ضلال، لا يجوز للمسلم أن يتبع واحدة منها) (1)
وهكذا قال الشيخ ابن جبرين: (أما الصوفية في هذا الزمان ومنهم من يعرفون بالتيجانية وغيرهم، فإنهم قد انتحلوا طرقا، وصارت لهم مقامات وخواص تصادم الأدلة؛ حيث يعتقدون في أوليائهم الأقدمية على الرسل الكرام، ويزعمون أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، ويرجعون إلى أقوال مقدميهم، ويحكمونهم في الأنفس والأزواج والأموال، ويعتقدون فيهم العصمة وملكية التصرف، ونحو ذلك من الاعتقادات السيئة، فما داموا كذلك فهم مجانبون للصواب، ومحادون لله ورسوله، فلا نعرف لهم فضلا ولا كرامة) (2)
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: 3/ 141.
(2) مجلة البحوث الإسلامية (9/ 171)
كلكم كفرة (352)
وقال الشيخ الفوزان: (.. ومن ذلك الطرق الصوفية فإنها طرق مبتدعة محدثة ليست من دين الإسلام بل هي من دس أعداء الإسلام وتلقفها كثير من الجهال أو من الضلال الذين يريدون أن يحتالوا بها على الناس ويتزعموا بها على الناس بالباطل فالطرق الصوفية طرق محدثة وطرق فاسدة وطرق ضالة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن ذلك الطريقة التيجانية فإنها من أضل الطرق الصوفية وأفسدها ولها عقائد كفرية وقد أنقذ الله منها بعض معتنقيها فردوا عليها وكتبوا في بيان كفرها وضلالها الكتابات الطيبة المفيدة وهي مطبوعة ومتداولة ولله الحمد) (1)
هذه مجرد أمثلة عن أقوال كبار مشايخ السلفية المعاصرين، والتي تبدو ـ في ظاهرها ـ لينة نوعا ما بسبب المكانة الرسمية التي يتبوأها هؤلاء.. أما من عداهم، فنلاحظ لغة أكثر خشونة، وأعظم تكفيرا.
وسأسوق هنا نماذج عن تكفير أعيان الطرق الصوفية من كاتب سلفي أكاديمي وأستاذ جامعي، لكنه للأسف يفتقر لكل أدوات البحث العلمي.
وهذا الكتاب بعنوان [الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها] لمؤلفه عبدالله بن دجين بن علي السهلي، وفيه عرض لنماذج للطرق الصوفية الكبرى، وتكفيره لها، وبيان أسباب ذلك.
وقد بدأ مسلسل تكفيره بالطريقة القادرية المنسوبة للشيخ عبد القادر الجيلاني (المتوفى 561 هـ)، والتي تنتشر في اليمن والصومال ومصر والهند والمغرب والسودان الغربي، ومن فروعها: اليافعية، والنابلسية، والرومية، والعروسية (2).
وقد استعرض هذا الأستاذ السلفي الأكاديمي أسباب تكفيره لها، بقوله: (أما أتباع
__________
(1) مؤلفات الفوزان، 24/ 88.
(2) انظر: الموسوعة الصوفية د. عبدالمنعم الحنفي ص 269.
كلكم كفرة (353)
الطريقة القادرية، فقد ابتعدوا عن هذا المنهج ولم يتمسكوا في طريقتهم بالكتاب والسنة ولا بقول شيخهم، فذهبوا إلى ما ذهب إليه كثير من الصوفية من الربط بين العقائد الكلامية والتصوف، كما نسبوا للشيخ كثيراً من الكرامات والأقوال التي فيها غلو كبير، والتي تصل إلى الشرك في توحيد الربوبية وفي توحيد العبادة، ونسبوا له قصائد شركية فيها دعوى الربوبية، ونسبوا إليه القول بالحقيقة المحمدية، ونسبوا للشيخ الورد المسمى: صلوات الكبريت الأحمر، وهو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والباز الأشهب، والقصيدة العينية، وقد تضمنت عبارات تدل على وحدة الوجود، وكذلك ورد الجلالة ودعاء الجلالة وتضمنا دعاء أسماء أعجمية يظهر أنها أسماء جن، والسؤال بحقها، وعبارات تدل على وحدة الوجود، وصرح عبدالغني النابلسي من القادرية بوحدة الوجود وملأ بها كتبه.. فهذه الأقوال المخالفة للكتاب والسنة قال بها القادرية ممن ينتسبون إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني) (1)
ولنفس الأسباب حكم بتكفير الطريقة الشاذلية (2) التي تنتسب لأبي الحسن الشاذلي، والتي ينتسب لها كبار أعلام التصوف من أمثال أبي العباس المرسي (توفي 686 هـ)، وابن عطاء الله الإسكندري (توفي 709 هـ) صاحب الحكم وغيرها، وهي تنتشر في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، وينتسب لها كبار العلماء.
وقد ذكرهم الباحث السلفي الأكاديمي ـ مكفرا لهم جميعا ـ بقوله: (ومن أعلامها الكبار الشيخ عبد الوهاب الشعراني (ت 707 هـ)، ويوسف النبهاني ت (1350 هـ)، اللذان صرحا بالشر ك الأكبر في كتبهما، وللشاذلي شعر ونثر فيه متشابهات وعبارات يتكلف له في الاعتذار عنها، كما قال الذهبي، أما ابن عطاء الله فقد جاء في الحكم ما يثبت قوله بوحدة
__________
(1) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 50.
(2) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 51.
كلكم كفرة (354)
الوجود، وهذا ما أشار إليه شراحها، كما قال ابن عطاء بالأنوار كثيرا، التي هي الفلسفة الإشراقية، واعتقاد الشاذلية الظاهر على مذهب الأشعرية الكلابية، ويدعون أن الأولياء يعلمون الغيب، كما زعم شيخهم أن حزبه الكبير كتب بإذن من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدعون مثل كل الصوفية رؤية الله ـ تعالى ـ في الدنيا، والحقيقة المحمدية والنور المحمدي، ويحثون على اللباس الحسن وترك المرقعات) (1)
وهكذا راح يكفر الطريقة الرفاعية التي تنسب إلى الشيخ أحمد بن علي الرفاعي المغربي، (المتوفى 578 هـ)، فقد قال عنها: (وقد انتشر الشرك الأكبر عند الرفاعية مثل غيرهم من الصوفية.. وللصيادي [بوارق الحقائق] كله استعانة واستغاثة وتوجه للقبور، وعقيدتهم الظاهرة يتابعون فيها الأشعرية المتأخرة، في تعريف التوحيد، ونفي العلو، وأن القرآن قديم وغير ذلك، كما تتابع الصوفية المتأخرة في المشي مع القدر، وفي الحقيقة المحمدية والنور المحمدي، وذكر الرفاعي ما يشير إلى الحلول أو الوحدة، ووافق متأخروهم أهل وحدة الوجود، ودافعوا عنهم. كما يوافق الرفاعية الصوفية في الخلوة، والفقر، وذم الفقهاء، وقد ورد عن الرفاعي) (2)
وهكذا راح يكفر الطريقة النقشبندية التي تنسب للشيخ محمد بن بهاء الدين النقشبندي المعروف بشاه نقشبند، (توفي 791 هـ)، لها فروع في الصين وتركيا، وبعض بلدان أسيا الوسطى، والهند، وجاوه، ومن فروعها: الصديقية، وخوجكانية.
وقد صرح الأستاذ السلفي الأكاديمي بتكفيرهم، فقال: (.. ويصرحون بالشرك الأكبر في توحيد الربوبية والألوهية، وظاهر جليا أن النقشبندية ممن يقولون بوحدة الوجود أو يميل إليها كثير منهم، وقد كثرت شروحهم لكتب ابن عربي وغيره من القائلين بوحدة
__________
(1) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 51.
(2) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 53.
كلكم كفرة (355)
الوجود، ولا يخفى أن النقشبندية ظهرت في القرن الثامن الهجري وما بعده والذي يعتبر تفريعاً وشرحاً لكتب ابن عربي وأتباعه، ودفاعاً عنهم. وقد ذكر النقشبندية مثل غيرهم من الصوفية: أن الولي يقول للشيء كن فيكون، والحقيقة المحمدية، ورؤية الله ـ تعالى ـ في اليقظة، وخطابه ـ سبحانه وتعالى عما يقولون ـ، والنقشبندية تتفق مع الطرق الصوفية الأخرى في الخلوة، والفقر، وغير ذلك) (1)
وهكذا راح يكفر الطريقة الختمية التي تنسب للشيخ محمد عثمان بن محمد الميرغني المحجوب، وتنتشر في شمال السودان وشرقه، وجنوب مصر، والحجاز.
وقد صرح الأستاذ السلفي الأكاديمي بتكفيره لها بقوله: (لاتختلف الختمية عن الطرق الصوفية الأخرى فقد ذكر محمد عثمان الميرغني أنها خلاصة الطرق الصوفية الخمس السابقة ذكرها، والغالب عليها الطريقة النقشنبدية، ويتابع الختمية ابن عربي ويعظمونه وأهل نحلته، ويقولون بوحدة الوجود، وقد قالوا بالشرك الأكبر، فزعموا أن شيوخهم يغيثون من يلتجئ بهم، ويزيلون الكربات، وأنهم وسيلة النجاة، ويزعمون ما مفاده استمرار الوحي، وأنهم يتلقون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد زعموا أن كل كتبهم هي من إملاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم تلقوا أسس طريقتهم وأورادها وتعاليمها من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا بالحقيقة المحمدية، وسائر عقائد الصوفية. ويدعى شيوخ الختمية النسب الشريف مثل كل الطرق الصوفية، وإن كان في نسبهم أسماء أعجمية، وقد تابعوا الرافضة في دعوى ولاية أهل البيت، وتابعهم الختمية في سب الصحابة صلى الله عليه وآله وسلم، واتهامهم بكتم ولاية علي صلى الله عليه وآله وسلملكنهم يثبتون ولاية الخلفاء الراشدين، ويعتبرون أنفسهم امتداداً لولاية أهل البيت، لذلك يدعون للتقارب مع الرافضة، ومناصرتهم والدعوة لهم، ومما اشتهر به الختمية السحر واستخدام
__________
(1) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 55.
كلكم كفرة (356)
الجن) (1)
وهكذا راح يكفر الطريقة البكتاشية التي تنسب إلى بكتاش ولي، وقد انتشرت في تركيا، وكردستان وآسيا الصغرى، وفي ألبانيا، غالب السكان على هذه الطريقة.
وقد صرح الكاتب السلفي بتكفيره لهم بقوله: (هي طريقة صوفية في الأصل، وحتى الآن يعتبرها أتباعها طريقة صوفية، إلا أن فيها عقائد نصرانية، ورافضية فيغلون في آل البيت، خاصة جعفر الصادق، وأحلوا علي بن أبي طالب مكان عيسى عليه السلام، ويحتفلون بما يشبه العشاء الرباني عند النصارى، وعلى رؤوسهم قلنسوات أسطوانية ذات 12 طيَّة، إشارة إلى الأئمة الاثني عشر، أئمة الشيعة.. ومن عقائدها الشرك الأكبر في دعاء الأولياء، وتأليه علي بن أبي طالب ويعترفون بخطاياهم لشيخهم ويغفرها لهم، ويقولون بوحدة الأديان) (2)
وهكذا راح يكفر الطريقة التجانية، المنتسبة لأبي العباس أحمد التجاني (ت 1239 هـ)، وهي تنتشر في شمال إفريقيا وغربها.
وقد صرح الكاتب السلفي بتكفيرهم لهم بقوله: (أهم عقائدهم: الشرك الأكبر في شيوخهم، فيحجون إلى فاس حيث قبر شيخهم قبل توجههم للحج إلى مكة، والشرك في الربوبية، والقول بوحدة الوجود، واستمرار النبوة والوحي لشيوخهم، فزعموا أن كتبهم من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقولون بالحقيقة المحمدية، والنور المحمدي، وأن صلاة الفاتح أفضل من القرآن الكريم، وباقي عقائدهم مثل بقية الطرق الصوفية الأخرى) (3)
هذا نموذج عن تكفيرات أستاذ جامعي للأمة جميعا عبر تكفيره لأهم مقوم من
__________
(1) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 56.
(2) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 58.
(3) الطرق الصوفية نشأتها وعقائدها وآثارها، ص 59.
كلكم كفرة (357)
مقوماتها، وركن من أركانها.
وحتى نؤكد هذا، ونبين مدى الإجحاف الذي يمارسه السلفية تجاه الطرق الصوفية، سنذكر هنا نموذجا عن الإجحاف الكبير الذي سلطه السلفية على الطريقة التيجانية، التي يتبعها الكثير في بلاد المغرب والسودان الغربي (السنغال) ونيجيريا وشمالي إفريقيا ومصر والسودان وغيرها من أفريقيا، وقدر بعضهم عدد التيجانية في عام 1401 هـ ـ 1981 م في نيجيريا وحدها بما يزيد على عشرة ملايين.
وقد ألف السلفية الكثير من الكتب في تكفير أصحاب هذه الطريقة بدءا من مؤسسها، ومنها: الهداية الهادية إلى الطائفة التيجانية، للدكتور محمد تقي الدين الهلالي، ومشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التيجاني الجاني، لمحمد الخضر الجكني الشنقطي، والأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التيجانية، لعبد الرحمن بن يوسف الأفريقي.
وقد أصدروا كذلك الكثير من الفتاوى في تكفيرها، وتكفير المؤيدين لها، ومن تلك الفتاوى فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز، والتي جاء فيها: (الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفراً وضلالاً وابتداعاً في الدين لما لم يشرعه الله. وسبق أن سئلت اللجنة الدائمة عنهم وكتبت بحثاً في كثير من بدعهم وضلالاتهم الدالة على ذلك) (1)
ومن المكفرين لهذه الطريقة الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي تأثر هو وجمعيته بالعقل السلفي والتراث السلفي، فراح يكفر هذه الطريقة مع علمه بأن أتباعها في الجزائر في ذلك الحين كبير جدا، ولها علماء كثيرون.
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (2/ 324)
كلكم كفرة (358)
وقد انطلق في فتواه من مسألة بسيطة جدا تتعلق بصلاة الفاتح (1) التي يرددها التيجانيون، ويعتقدون لها فضلا خاصا، وهي فتوى لا تزال تجد صداها مع خطورتها، ولذلك نرى أن ندرسها على ما يقتضيه المنهج العلمي، وخاصة أن لازم قوله فيها كفر أكبر تجمع إسلامي في العالم، وهو التجمع التيجاني المنتشر في جميع أنحاء العالم، وخاصة إفريقيا.
ونص السؤال هو حكم بعض الدعاوى المنسوبة للتيجانية، وهي أنهم:
1 - يعتقدون أن قراءة (صلاة الفاتح) أفضل من تلاوة القرآن ستة آلاف مرة متأولين بأن ذلك بالنسبة لمن لم يتأدب بآداب القرآن.
2 - أن (صلاة الفاتح) من كلام الله القديم، ولا يترتب عليها ثوابها إلا لمن اعتقد ذلك.
3 - وأن (صلاة الفاتح) علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الطريقة ولم يعلمها لغيره.
4 - وأن مؤسس الطريقة التيجانية أفضل الأولياء.
5 - وأن من انتسب إلى تلك الطريقة يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب وتغفر ذنوبه الصغار والكبار، حتى التبعات.
ومع خطورة المسألة، ومع الانتشار الكثيف للتيجانية في الجزائر، وخصوصا الجنوب الجزائري، لم يتحرز ابن باديس، ولم يستفسر عن مدى صحة هذه الدعاوى، بل راح يطلق الأحكام التي يخرج منها قارئها لا بتصديق الاتهامات فقط، وإنما بكفر معتقدها أيضا.
وسنذكر هنا باختصار بعض ما أجاب به، وما يستنتج منه الحكم بالكفر:
1 ــ القرآن كلام الله و(صلاة الفاتح) من كلام المخلوق ومن اعتقد أن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق فقد كفر، ومن جعل ما للمخلوق مثل ما لله فقد كفر بجعله لله نداً
__________
(1) نص صلاة الفاتح هي: (اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم)
كلكم كفرة (359)
فكيف بمن جعل ما للمخلوق أفضل مما للخالق.. هذا إذا كانت الأفضلية في الذات فأما إذا كانت الأفضلية في النفع فإن الأدلة النظرية والأثرية قاضية بأفضلية القرآن على جميع الأذكار وهو مذهب الأئمة من السلف والخلف (1).
2 - أن من زعم - متأولا لتلك الأفضلية الباطلة – بأن (صلاة الفاتح) خير لعامة الناس من تلاوة القرآن لأن ثوابها محقق ولا يلحق فاعلها إثم والقرآن إذا تلاه العاصي كانت تلاوته عليه إثماً لمخالفته لما يتلوه، واستدلوا على هذا بقول أنس الذي تحسبه العامة حديثاً: (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه) (2) فهو زعم باطل لأنه مخالف لما قاله أئمة السف والخلف من أن القرآن أفضل الأذكار، ولم يفرقوا في ذلك بين عامة وخاصة ولا بين مطيع وعاص، ومخالف لمقاصد الشرع من تلاوة القرآن (3).
3 - ليس عندنا من كلام الله إلا القرآن العظيم، هذا إجماع المسلمين حتى أن ما يلقيه جبريل - عليه السلام - في روع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماه الأئمة بالحديث القدسي، وفرقوا بينه وبين القرآن العظيم ولم يقولوا فيه كلام الله، ومن الضروري عند المسلمين أن كلام الله هو القرآن وآيات القرآن، فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) من كلام الله فقد خالف الإجماع في أمر ضروري من الدين وذلك موجب للتكفير (4).
4 - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معلما، وعاش معلما آخر لحظة من حياته، وقد أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وانقطع الوحي وانتهى التبليغ والتعليم، وهذا كله مجمع عند المسلمين، وقطعي في
__________
(1) آثار ابن باديس (3/ 143)
(2) ذكره الغزالي في الإحياء (1/ 324) بدون سند، وذكر نحوه عن بعض السلف، وأقرب ما حديث إليه ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ج:6 ص:2017) عن ميمون بن مهران قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول ({أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]) وإنه لظالم.
(3) آثار ابن باديس (3/ 144)
(4) آثار ابن باديس (3/ 146)
كلكم كفرة (360)
الدين، فمن زعم أن محمداً مات وقد بقي شيء لم يعلمه للناس في حياته فقد أعظم على الله الفرية وقدح في تبليغ الرسالة، وذلك كفر، فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الطريقة التيجانية دون غيره، كان مقتضى اعتقاده هذا أنه مات ولم يبلغ وذلك كفر، فإن زعم أنه علمه إياها في المنام فالإجماع على أنه لا يؤخذ شيء من الدين في المنام مع ما فيه من الكتم وعدم التبليغ المتقدم (1).
ومن مقتضى الاعتقاد الباطل المتقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتم عن أفضل أمته ما هو الأفضل وحرم منه قرونا من أمته وهو الأمين على الوحي وتبليغه، الحريص على هداية الخلق وتمكينهم من كل كمال وخير، فمن قال عليه ما يقتضي خلاف هذا فقد كذب عليه وكذب ما جاء به، ومن رجح صلاته على ما علمه هو صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بوحي من الله واختيار منه تعالى فقد دخل في وعد: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا)) [الأحزاب:36].
5 - لا تثبت الأفضلية الشرعية إلا بدليل شرعي ومن أدعاها لشيء بدون دليل فقد تجرأ على الله وقفا ما ليس به علم وقد أجمعت الأمة على تفضيل القرون المشهود لها بالخيرية من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام فاعتقاد أفضلية صاحب الطريقة التيجانية تزكية على الله بغير علم وخرق للإجماع، موجب للتبديع والتضليل (2).
6 - عقيدة الحساب والجزاء على الأعمال قطيعة الثبوت ضرورية العلم، فمن اعتقد أنه يدخل الجنة بغير حساب فقد كفر (3).
وبناء على هذه الأدلة التي ساقها ابن باديس، خرج بنتيجة عبر عنها بقوله: (فالمندمج في
__________
(1) آثار ابن باديس (3/ 147)
(2) آثار ابن باديس (3/ 147)
(3) آثار ابن باديس (3/ 148)
كلكم كفرة (361)
الطريقة التيجانية على هذه العقائد ضال كافر، والمندمج فيها دون هذا العقائد عليه أثم من كثر سواد البدعة والضلال) (1)
ثم نقل من كلام الأستاذ محمد بن الحسن الحجوي وزير معارف الحكومة المغربية مقرا له قوله: (لهذه وغيره نقول أن الطريقة التيجانية ليست كسائر الطرق في بدعها.. بل هي طريقة موضوعة لهدم الإسلام تحت اسم الإسلام) (2)
وقد علق ابن باديس على هذا بذكر مضار هذه الطريقة، والتي تؤهلها كما يرى لكفر المنتسب لها، فقال: (فبهذا صارت الطريقة التيجانية في نظر أهل العلم بالسنة والكتاب كأنها مسجد الضرر ضد الإسلام، فالله يقول في نبيه خاتم النبيين، وهو يقولون في الشيخ التيجاني هو الختم وهو لبنة التمام للأولياء فحجروا على الله ملكه وقطعوا المدد المحمدي وهم لا يبالون أو لا يشعرون، وحتى إن شعروا فالمقصد يبرر الواسطة، وإذا سمعوا أن النبي أفضل النبيين قالوا إن التيجاني رجله على رقبة كل ولي لله، بهذه العبارة الجافة من كل أدب الجارحة لعواطف كل مسلم لأن الولي في عرفهم يشمل النبي إذ يقولون أن ولاية النبي أفضل من نبوته، ولا يبالون أن يكون أصابهم أفضل من أبي بكر وعمر والعشرة المبشرين بالجنة الذين كانوا يخافون الحساب ولا يأمنون العقاب، ولم يكن عندهم بشارة بالنجاة منهما، إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.. دعاء الإسلام إلى الجد ومحاسبة النفس والعمل على الخوف والرجاء في جميع نواحي الحياة الدنيا على أن يكون ذلك على السداد والإخلاص ليكون ذخراً لسعادة الأخرى فجاءت عقيدة ضمان الشيخ ودخول الجنة بلا حساب) (3)
هذا ما ذكره وما نقله ابن باديس في فتواه، ولم ينقل أي نص من كتب التيجانية المعتمدة،
__________
(1) آثار ابن باديس (3/ 148)
(2) آثار ابن باديس (3/ 148)
(3) آثار ابن باديس (3/ 149)
كلكم كفرة (362)
أو من شيوخهم المعتبرين في ذلك الحين، والذين زار بعضهم الجزائر، وصرح بخلاف التصريحات التي نقلت لابن باديس.
بل إن الدليل الذي ذكره هو ما تعود السلفية على الاستدلال به من الحكايات والقصص، فقد حكى عن الحجوري المغربي قوله: (حكي لي بعض القضاة قال: كان في محكمتي تسعون عدلا في البادية، وقد تقصيت أخبار الصالح والطالح منهم لأعلم مقدار ثقتي بهم في حقوق المسلمين فوجدت عشرين منهم متساهلين لا يؤتمنون على الحقوق، وحين دققت النظر في السبب تبين لي أنهم جميعاً تيجانيون، فبقيت متحيرا حتى انكشف لي أن السبب هو اتكالهم على أنه لا حساب ولا عقاب يترصدهم فانتزع الخوف من صدورهم) (1)
وقد علق ابن باديس على هذه الحكاية بقوله: (هذا في العدول وهم من أهل العلم فكيف بالعامة؟ فهذه الطريقة ما وضعت إلا لهدم الإسلام، ولا أجزم بأن صاحبها هو الذي وضعها هذا الوضع فقد يكون فيمن أتصل به من كاد هذا الكيد، ودسّ، وليس مثل هذا الكيد جديداً على الإسلام) (2)
وقد كان الأجدى بابن باديس مع مكانته الاجتماعية أن يتصل بمشايخ وعلماء التيجانية الكثيرين، ليستوضح منهم حقيقة ما ينسب إليهم، ولا يرجع في ذلك إلى استفتاء أو إلى كتب لا ندري من طبعها، خاصة إذا أنكرها علماء التيجانية (3)، وتبرأوا مما فيها.
ولو أنه رجع في هذا إلى كثير من علماء التيجانية لوجدهم يردون هذه الشبهة، ويصرحون بأنها لا تمت إلى الواقع بصلة، بل لو أنه رجع إلى شيخ الطريقة التيجانية في ذلك
__________
(1) آثار ابن باديس (3/ 149)
(2) آثار ابن باديس (3/ 150)
(3) سنرى الوثائق الدالة على إنكار التيجانية لمثل هذه العقائد في محلها.
كلكم كفرة (363)
الحين، وهو الشيخ محمد الحافظ المصري الذي زار الجزائر في ذلك الوقت لوجده يتبرأ من تلك الشبهة.
وللأسف فإن هذه الشبهة لا تزال تطرح على الرغم من المؤلفات الكثيرة التي ألفها التيجانيون في الرد عليها، مع أن المسائل المرتبطة بالردة يكفي فيها مجرد تصريح الشخص بتراجعه أو براءته أو عدم فهم المخالف له لتنفى عنه التهمة.
ولخطورة المسألة لتعلقها بإسلام مئات الملايين من المسلمين نعرض هنا ما ذكره الشيخ محمد الحافظ شيخ الطريقة التيجانية في ذلك الحين، فقد كتب خطابا نشرته مجلة الفتح الصادرة في القاهرة العدد 418 بتاريخ: الخميس 16 رجب 1353، جاء فيه بعد الحمد والصلاة والسلام على رسول الله: (إني أعلن أننا لا نعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتم شيئاً مما أمِرَ بتبليغه، ومستحيل أن يُؤمَر بتبليغ ورد أو صلاة الفاتح أو غيرها أو بيانِ فضلها فيكتم شيئاً من ذلك، ومن أعتقد ذلك فهو كافر بالله ورسوله لا يُقبل منه صرف ولا عدل، ولا أدري كيف يعقل أن يكون قد كتم الورد وهو الاستغفار والصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم بأي صيغة ولا إله إلا الله. وصلاة الفاتح موجودة قبل الشيخ (أي أبي العباس التيجاني) مشهورة فلا يصح بحالٍ كونُها ادّخِرَت له، ولم يثبت ذلك عنه) (1)
ورد على شبهة بقاء التشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يرميهم بها خصومهم، فقال: (ولا نعتقد أن هنالك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشريعاً بأي وجه من الوجوه، وما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم مستحيل أن ينسخ شيء منه أو يزاد شيء عليه، ومن زعم ذلك فهو كافر خارج على الإسلام) (2)
وبين المراد من التلقي المباشر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وإننا وإن قلنا بجواز أن يرى الوليُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة إلا أننا نعتبر حكمها حكم رؤية النوم الصحيحة سواء بسواء،
__________
(1) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 3.
(2) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 3.
كلكم كفرة (364)
ولا يعوّل فيها إلا على ما وافق شرعه صلى الله عليه وآله وسلم، وليست مشاهد الأولياء بحجة وإنما الحجة هي الشريعة المحمدية. أما تلك فمبشرات مقيدة بشرعه الشريف: ما قبِله منها قبلناه وما لم يقبله فمذهبنا فيه حسن الظن فنحكم عليها حكم الرؤيا المؤولة، ولا نشك أن معظم الرؤيا يحتاج إلى التأويل. وإنما رجحنا حسن الظن لأن المؤمن الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو شحيح بدينه حريص على متابعته نستبعد عليه أن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ واليقظة في ذلك كالنوم ـ وهو يقرأ قوله عليه الصلاة والسلام: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) (1)، ولا نخص واحداً من الصالحين بذلك بل هو عندنا عام في كل ما ينقل عنهم، وكم نقِلَ عن الشيوخ من الموهمات والشطحات سواء في ذلك طريقة مولانا الشيخ عبد القادر وغيرها. وقد اعتذر لهم العلماء وردوا الوجهَ المخالف. ولا تخلو كتب أي طريقة من موهماتٍ وشطحٍ كلها مؤول) (2)
وبين حقيقة ما تريده التيجانية من تأثير العلاقة بين المريدين والمشايخ، فقال: (ولا نعتقد أن مجرد رؤية أحد من الصالحين كافية في نجاة المرء وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، ونرى أن الاجتماع بالصالحين مع صدق المحبة يجر إلى الصلاح غالباً ولذلك حث الشرع على صحبتهم وبيّن أنها من أسباب التوبة، وحديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم طلب التوبة فدله حبرٌ على بعض الصالحين ليصحبهم فأدركه الموت قبل أن يصل إليهم فرحمه الله وقبِله، ثابتٌ في الصحيح. وحديث الجليس الصالح كذلك) (3)
وبين أن صلاة الفاتح التي قامت عليها كل تلك الضجة، مجرد أوهام عارية من الصحة،
__________
(1) صحيح البخاري (1/ 38)، صحيح مسلم (1/ 8)
(2) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 4.
(3) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 4.
كلكم كفرة (365)
فقال معبرا عن عقائد التيجانية في هذا: (ونعتقد أن من أعظم الكفر أن يعتقد أحد أن صلاة الفاتح أو غيرها من الصلوات عليه صلى الله عليه وآله وسلم تعادل في الفضل أية آية من القرءان، فكيف تفضلها؟! فكيف بسورة؟! فكيف به كله؟! ولا نعتقد أنها من القرءان كما زعم من زعم، ولا من الحديث القدسي ولا من أي قسم من وحي النبوة، فإن ذلك قد انقطع بلحوقه صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى. والمذكور عندنا أنها من الإلهام الثابت للأولياء، ولا نعتقد أنها تساوي الكلمة الشريفة (لا إله إلا الله)، وحاشا الشيخ أن يقول بنسخ الذكر بالأسماء فذلك باطل، فنحن ولله الحمد نذكر الله عز وجل بأسمائه ونحافظ على التسبيح والتحميد وقيام الليل وسائر النوافل والأذكار الواردة في الشريعة ونحث عليها) (1)
وبين التصور التيجاني للورد، وعدم تعارضه مع الالتزام الشرعي، فقال: (ولا نعتقد أن مجرد أخذ الورد يُدخلُ أحداً الجنة بحسابٍ أو بغير حساب فإن شرطَه المحافظة على الأوامر الشرعية كلها علماً وعملاً. وما هو الورد: استغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا إله إلا الله بعد القيام بالواجبات التي أوجبها الله تبارك وتعالى) (2)
ورد على الشبهة التي ترفع الشيخ التيجاني أو أتباعه إلى مقامات عالية فوق جميع الصالحين، فقال: (.. ولا أن الشيخ التيجاني ولا أحداً من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ مرتبة أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم. فكيف بالأنبياء عليهم السلام فكيف بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، والولي مهما سمت رتبته مستحيل أن يبلغ في العلوم الإلهية مبلغَ أي نبي، ومن زعم ذلك فهو ضال مضل. ونعتقد أن من الضلال أن يأمن العبد مكر الله تبارك وتعالى مهما توالت عليه المبشرات، ومن اتكل على عمله أو نسبته إلى أي شخص وترك العمل فذلك ءاية الخسران
__________
(1) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 5.
(2) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 5.
كلكم كفرة (366)
المبين والعياذ بالله تعالى) (1)
ورد على الشبهة المرتبطة باعتقاد تصرف الأولياء، فقال: (ونعتقد أن من أشنع الشرك أن يعتقد أحد أن لأي أحدٍ كان مع الله تصرفاً، أو من دونه سبحانه وتعالى. وإنما نقول أن العبد قد يصل إلى مكانة من المحبوبية لدى ربه عز وجل بحيث يتصرف الحقُ فيه فيربط على قلبه فلا يسأله إلا ما سبقت به إرادته الأزلية سبحانه، وهذا الذي نفهمه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرّه) (2) وفي الحديث القدسي (وإن سألني لأعطينه) (3) وهذا غالباً، وإلا فقد يسأل ربَه عز وجل ولا يعطيه لأن ما شاء الله كان لا ما شاء غيره) (4)
ورد على تهمة الحلول والاتحاد التي يرمي بها السلفيون ومن بينهم جميعة العلماء الطرق الصوفية، فقال: (وإن من اعتقد في الله عز وجل حلولاً أو اتحاداً أو اعتقد أن مخلوقاً هو ذات الله أو فيه صفة من صفاته أو شبهه بخلقه أو شبّه خلقه به أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة أو أوّله إلى صورة تخالفه كمن يقول بتناسخ الأرواح ويزعم أنه البعث، أو اتبع رأياً من ءاراء المبتدعة فهو ضال مضل) (5)
ثم ذكر خلاصة عقيدة التيجانية، والتي تنسجم مع سائر عقائد المسلمين، فقال: (وخلاصة عقيدتنا في الأصول ما عليه السلف الصالح والخلف من أهل السنة والجماعة
__________
(1) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 6.
(2) صحيح البخاري (3/ 243)، وصحيح مسلم (5/ 105)
(3) نص الحديث كما في البخاري: (إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته) (صحيح البخاري (8/ 131)
(4) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 6.
(5) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 7.
كلكم كفرة (367)
من الفقهاء والمحدثين والصوفية وما عليه الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهم في الفروع. ونسلم للسادة الصوفية قاطبة مع وزن أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم بالشريعة، فما وافقها أقررناه وما كان يحتمل الموافقة والمخالفة حسّنّا للظن فيهم وحملنا حالهم على الوجه الموافق ووكلنا أمرهم إلى الله العليم بما في القلوب، وقد نُقلت عنهم شطحات لا يتابَعون عليها ولا يُقتدى بهم فيها. وما لا يحتمل رددناه فإنه لا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تشريع) (1)
وهكذا يستمر الشيخ الذي هو مرجع التيجانية الأكبر في بيان عقائد التيجانية، وأنها لا تختلف عن سائر عقائد المسلمين، وكان في إمكان الشيخ ابن باديس وغيره من أعضاء الجمعية، ومن بعدهم من المكفرة أن يقرؤوا مثل هذه النصوص الصادرة من الناطقين الرسميين باسم الطريقة، ويتراجعوا عن تلك الأحكام الخطيرة التي أصدروها، ولكن ذلك للأسف لم يحصل، لسبب بسيط وهو الافتقار إلى المنهج العلمي، وإلى بعض الأمراض النفسية التي تجعل من الشخص لا يحب أن يدخل الجنة إلا وحده أو مع طائفته.
ولو أنهم رجعوا إلى مصادر التيجانية لعلموا أن الشيخ التيجاني يخبر أنه سيكذب عليه كما كذب على غيره، وأنه في هذه الحالة ينبغي العودة إلى المصادر الشرعية، فقد روي أنه سئل: هل يُكذَب عليك؟ قال: نعم، إذا سمعتم عني شيئاً فزنوه بميزان الشرع فما وافق فاعملوا به وما خالف فاتركوه)
وبناء على هذا يخير الشيخ محمد الحافظ، وهو مرجع من مراجع التيجانية الكبار في عهد الجمعية وبعدها أنه (ما من فرد في هذه الطريقة كبيراً كان أو صغيراً إلا وهو يعلن براءته من تلك الأباطيل. وقد تلقينا عن مشايخ هذه الطريق ـ وهو المنصوص عليه عن صاحبها نفسه ـ أن كل ما ينسب إلى الشيخ بفرض صحة نسبته إليه سواء وُجد في كتبه أو لم يوجد
__________
(1) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 7.
كلكم كفرة (368)
وكان ظاهره مخالفاً لنص الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة المحمدية فهو مؤول ويحرم الأخذ بظاهره، ويجب حمله على وجه يلتئم مع الشريعة. وقد قام علماء الطريق ببيان تأويله الموافق للشريعة حتى لا يضل أحد بحمله على الوجه المخالف. وما لم تصح نسبته إليه فلا يعول على شيء منه بحال. وقد بلغنا أن بعض خلفاء الطريق أحرق بعض ما ينسب للشيخ من الفضائل المختلفة التي تتنافى مع السنة المحمدية وأمر بإحراقها حيثما وجدت. وهل من منصف يستطيع أن يبين لنا معنى لتتبع تلك الموهمات ـ حتى كأنه ليس في الطريق غيرها مع أنه لا خلاف بين أهل الطريق في أنها مؤولة ـ وترك الصريح البيّن من الدعوة إلى الله عز وجل والعمل بالكتاب والسنة والتمسك الشديد بهما وهو الذي عليه العمل وحده عند كل فرد من أهل الطريقة؟ وحيث أن تلك العقائد المخالفة بحذافيرها لا خلاف بيننا في بطلانها ونحن متفقون على البراءة من كل من يعتقدها كلها أو بعضها، فلم تبق إلا الخلافات الشخصية وليست خلافاً جوهرياً.. فإن كان هذا النكير غيرةً على الدين حقيقة فلا يوجد أحد ـ فيما نعلم ـ يعتقد تلك العقائد من التيجانيين فهو جهاد في غير عدو. ومن نسب إلى الطريقة التيجانية أي عقيدة من تلك العقائد أو غيرها مما ينافي العقيدة الإسلامية فهو كاذب. وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أكفر رجلٌ رجلاً إلا باء أحدهما بها إن كان كافراً وإلا يكفر بتكفيره) (1)) (2)
4 ـ تكفير الدول الراعية للصوفية.
لم يكتف السلفية بكل تلك التكفيرات التي ارتبطت بالصوفية، وإنما شملت تكفيراتهم أيضا كل دولة تؤيد هذه الطرق، أو تنتشر بينها هذه الطرق.. وبذلك يصبح التكفير ـ لأول مرة ـ مرتبطا بالجغرافيا.. ولذلك لا عجب أن يسمي السلفية السعودية [بلاد
__________
(1) نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، (ص: 44)
(2) محمد الحافظ، براءة الطريقة التيجانية من كل ما يخالف الشريعة، ص 7.
كلكم كفرة (369)
التوحيد]، لأنهم يعتقدون أن غيرها من البلاد بلاد شرك.
وقد أشار ابن غنام إلى هذا الموقف في تأريخه للدعوة الوهابية، فقال: (كان غالب الناس في زمانه – أي الشيخ محمد بن عبدالوهاب – متضمخين بالأرجاس متلطخين بوضر الأنجاس حتى قد انهمكوا في الشرك بعد حلول السنة بالأرماس... فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث والخطوب المعضلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات من الأحياء منهم والأموات، وكثير يعتقد النفع والضر في الجمادات) (1)، ثم ذكر صور الشرك في نجد والحجاز والعراق والشام ومصر وغيرها.
ويقول سعود بن عبدالعزيز (ت 1229 هـ) في رسالة له إلى والي العراق العثماني واصفاً حال دولتهم: (فشعائر الكفر بالله والشرك هي الظاهرة عندكم مثل بناء القباب على القبور وإيقاد السرج عليها وتعليق الستور عليها وزيارتها بما لم يشرعه الله ورسوله واتخاذها عيداً وسؤال أصحابها قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، هذا مع تضييع فرائض الدين التي أمر الله بإقامتها من الصلوات الخمس وغيرها فمن أراد الصلاة صلى حده ومن تركها لم ينكر عليه وكذلك الزكاة وهذا أمر قد شاع وذاع وملأ الأسماع في كثير من بلاد: الشام والعراق ومصر وغير ذلك من البلدان) (2)
وقال فيها: (وحالكم وحال ائمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك - أي في ادعائهم الإسلام - وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عام (اثنين وعشرين) رسالة لسلطانكم (سليم) أرسلها ابن عمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء، وفيها من الذل والخضوع والخشوع ما
__________
(1) حسين بن غنام (روضة الأفكار) ص 5.
(2) الدرر السنية، 1/ 382.
كلكم كفرة (370)
يشهد بكذبكم، وأولها: (من عُبَيْدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله قد نالنا الضر ونزل بنا المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عبّاد الصلبان على عبّاد الرحمن!! نسألك النصر عليهم والعون عليهم) وذكر كلاماً كثيراً هذا حاصله ومعناه، فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد أخلصوا لخالق البريات) (1)
ولهذا لما غزا الأتراك مواطن الوهابية ألف الشيخ سليمان بن عبدا لله (توفي 1233 هـ) كتاباً - سُميَ بالدلائل - على ردة وكفر من أعان هؤلاء وظاهروهم وإن كان ليس على دينهم - في الشرك - وذكر فيه أكثر من عشرين دليلاً على ذلك، وسمي الجيش الغازي (جنود القباب والشرك) (2)
وسئل الشيخ عبدالله بن عبداللطيف (1339 هـ) عن من لم يكفر الدولة – أي العثمانية – ومن جرهم على المسلمين واختار ولايتهم وأنه يلزمه الجهاد معهم، والآخر لا يرى ذلك كله بل الدولة ومن جرهم بغاة ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة وإن ما يغنم منهم من الأعراب حرام، فأجاب: (من لم يعرف كفر الدولة ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين لم يعرف معنى لا إله إلا الله، فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة مسلمون فهو أشد وأعظم وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله وأِرك به، ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة) (3)
أما الشيخ سليمان بن سحمان (ت 1349 هـ)، فقد قال في قصيدة له (4):
وما قال في الأتراك من وصف كفرهم... فحق فهم من أكفر الناس في النحل
وأعداهم للمسلمين وشرهم... ينوف ويربو في الضلال على المللْ
ومن يتول الكافرين فمثلهم... ولا شك في تكفيره عند من عقلْ
ومن قد يواليهم ويركن نحوهم... فلا شك في تفسيقه وهو في وجلْ
ولعل هذا الموقف هو الذي جعل ابن باديس المتأثر بالوهابية لدرجة كبيرة جدا، يختلف مع أكثر علماء الأمة في الموقف من كمال أتاتورك حين أثنى عليه حيا وميتا، فقد رثاه بعد موته بهذه الكلمات التي لم يرث بمثلها غيره، فقد قال: (في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو) (5)
وقد برر ابن باديس هذا الموقف بقوله: (إن الإحاطة بنواحي البحث في شخصية أتاتورك (أبي الترك) مما يقصر عنه الباع، ويضيق عنه المجال، ولكنني أرى من المناسب أو من الواجب أن أقول كلمة في موقفه إزاء الإسلام. فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفاً ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذا الملامة كلها حتى يعرِّف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى ذلك الموقف فمن هم هؤلاء المسؤلون؟... المسؤولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به) (6)
__________
(1) الدرر السنية، ص 160، (تاريخ الدولة العلية) ص 177 وص 198 ومابعدها.
(2) الدرر السنية، 7/ 57 ـ 69.
(3) الدرر السنية، 8/ 242.
(4) (ديوان ابن سحمان) ص 191..
(5) آثار ابن باديس:4/ 213.
(6) آثار ابن باديس:4/ 213.
كلكم كفرة (371)
ثم يحدد هؤلاء، والذين اعتبر أتاتورك بالرغم من توجهه العلماني أو الإلحادي أفضل منهم، فذكر أنهم (خليفة المسلمين شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها) (1)
ولم يكتف السلفية بذلك التكفير العام للدولة العثمانية، بل راحوا يكفرون سلاطينها ـ لا بسبب استبدادهم وظلمهم ـ وإنما بسبب انتمائهم للطرق الصوفية.
فمن سلاطين العثمانيين الذين كفروهم: السلطان أورخان الأول (ت 761 هـ)، وهو السلطان الثاني لهذه الدولة بعد أبيه عثمان (عثمان الأول ت 726 هـ)، وسبب تكفيرهم له هو أنه كان صوفياً على الطريقة البكتاشية (2).
ومنهم السلطان محمد الثاني (الفاتح) (ت 886 هـ)، وسبب تكفيرهم له أنه (بعد فتحه للقسطنطينية سنة 857 هـ، كشف موقع قبر (أبي أيوب الأنصاري) وبنى عليه ضريحاً، وبنى بجانبه مسجداً وزين المسجد بالرخام الأبيض وبنى على ضريح أبي أيوب قبة، فكانت عادة العثمانيين في تقليدهم للسلاطين أنهم كانوا يأتون في موكب حافل إلى هذا المسجد ثم يدخل السلطان الجديد إلى هذا الضريح ثم يتسلم سيف السلطان (عثمان الأول) من شيخ (الطريقة المولوية) (3)
ومنهم السلطان سليمان القانوني (ت 974 هـ)، وهو من أشهر سلاطين الدولة العثمانية، وحكم 46 سنة تقريباً، وسبب تكفيرهم له أنه (لما دخل (بغداد) بنى ضريح أبي حنيفة وبنى عليه قبة، وزار مقدسات الرافضة في (النجف) و(كربلاء) وبنى منها ما تهدم) (4)
__________
(1) آثار ابن باديس:4/ 213.
(2) انظر (تاريخ الدولة العلية العثمانية) ص 123، و(الفكر الصوفي) ص 411.
(3) الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) 1/ 64..
(4) الدولة العثمانية دولة إسلامية) 1/ 25.
كلكم كفرة (372)
ومنهم السلطان سليم خان الثالث (ت 1223 هـ)، والذي قاله فيه الإمام سعود بن عبد العزيز في رسالته لوالي بغداد - والتي سبق ذكرها-: (وحالكم وحال أئمتكم وسلاطينكم تشهد بكذبكم وافترائكم في ذلك - أي في ادعائهم الإسلام - وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عام (اثنين وعشرين) رسالة لسلطانكم (سليم) أرسلها ابن عمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغيث به ويدعوه ويسأله النصر على الأعداء، وفيها من الذل والخضوع والخشوع ما يشهد بكذبكم) (1)
ومنهم السلطان عبد الحميد الثاني (1327 هـ)، وقد كفروه بسبب انتمائه للطريقة (الشاذلية)، ويذكرون في مبررات تكفيرهم له رسالة له إلى شيخ الطريقة الشاذلية في وقته يقول فيها: (الحمد لله.... أرفع عريضتي هذه إلى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، وإلى مفيض الروح والحياة، شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات وأقبل يديه المباركتين، راجياً دعواته الصالحات، سيدي: إنني بتوفيق الله تعالى أدوام على قراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهاراً، وأعرض أنني لا زالت محتاجاً لدعواتكم القلبية بصورة دائمة) (2)
__________
(1) الدرر السنية، ص 160.
(2) انظر (إمام التوحيد) لأحمد القطان ومحمد الزين ص 148.
كلكم كفرة (373)
السلفية.. وتكفير المدارس الحركية
ينظر السلفية بريبة كبيرة إلى كل العاملين في المجال الدعوي مهما اختلفت توجهاتهم ومذاهبهم وتياراتهم، فلهم عندهم جميعا لقب واحد هو لقب المبتدعة، ما داموا لم ينضموا إلى الجماعة السلفية التي تمثل وحدها الإسلام كما يزعمون..
وكل ذلك ينطلق من تلك النظرة الطائفية المستكبرة التي يتعامل بها العقل السلفي مع كل الأمور.. فهو في هذا المجال أيضا لا يرضى أن يوجد في البيئة الإسلامية أي منافس له، لأنه لا يريد إلا أن يكون وحده في الساحة، وأن يكون وحده ممثلا للإسلام.
وقد عبر عن هذا المعنى الشيخ صالح الفوزان عندما سئل: (يزعُم بعض الناس أنَّ السلفية تعتبر جماعة من الجماعات العاملة على الساحة، وحكمها حكم بقية الجماعات، فما هو تقييمكم لهذا الزعم؟)
فأجاب بقوله: (الجماعة السلفية هي الجماعة التي على الحق، وهي التي يجب الانتماء إليها والعمل معها والانتساب إليها، وما عداها من الجماعات يجب أن لا تعتبر من جماعات الدعوة لأنها مخالفة إلا إذا انضمت إلى هذه الجماعة السلفية، أما إذا استمرت مخالفة فلا نتبعها وكيف نتَّبع فرقة مخالفة لجماعة أهل السُّنة وهدي السلف الصالح.. ما خالف للجماعة السلفية فإنه مخالف لمنهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مخالف لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فقول القائل: إن الجماعة السلفية واحدة من الجماعات الإسلامية، هذا قول غلط، لأن الجماعة السلفية هي الجماعة الوحيدة التي يجب اتِّباعُها والسير على منهجها والانضمام إليها والجهاد معها لأنها الجماعة الأصيلة وما عداها فهي جماعة اصطلاحية تضع لها منهجاً اصطلاحياً، فما عدا الجماعة السلفية فإنه لا يجوز للمسلم أن ينضم إليه، لأنه مخالف، فهل
كلكم كفرة (374)
يرضى إنسان أن ينضم إلى المخالفين.. هل يريد الإنسان النجاة ويسلك غير طريقها) (1)
وسُئِلَ: (هل السلفية حزب من الأحزاب وهل الانتساب لها مذموم؟)، فأجاب: (السلفية هي الفرقة الناجية، وهم أهل السُّنة والجماعة، ليست حزبًا من الأحزاب التي تسمى أحزابًا وإنما هم جماعة على السُّنة والدين.. فالسلفية طائفة على مذهب السلف على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، هي ليست حزباً من الأحزاب العصرية الآن، إنما هي جماعة قديمة أثرية من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم متوارثة مستمرة لا تزال على الحق ظاهرة إلى قيام الساعة كما أخبرصلى الله عليه وآله وسلم) (2)
وهكذا نراهم عندما يتحدثون عن أي حركة من الحركات الإسلامية، فإنهم ينطلقون من مقولات سلفهم في الجهمية والمعتزلة والشيعة وغيرها ليطبقوها عليهم.
وبذلك فإن أحكامهم على هذه الجماعات والحركات لا تختلف عن أحكام سلفهم على تلك الفرق والمذاهب، وإن كانوا يختلفون في حدة الموقف، بناء على الظروف المختلفة المتعلقة بكل متحدث منهم.
أما الموقف الحقيقي لهم فهو لا يختلف عن موقفهم من سائر الأمة، وهو تسليط سيف التكفير عليهم إما تكفيرا مطلقا أو تكفيرا معينا، كما سنرى من خلال هذا الفصل.
بناء على ما ذكرنا سابقا من تكفير السلفية للأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم بسبب مواقفهم التنزيهيه من صفات الله، والتي اعتبرها السلفية تعطيلا وتجهما.. وبناء على موقفهم من الصوفية، وتكفيرهم لهم جملة وتفصيلا.. وبناء على مواقفهم المتشددة فيما يسمونه الولاء والبراء، فإن موقف السلفية من الحركات الإسلامية جميعا يصل إلى حد
__________
(1) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة ص 252.
(2) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة ص 253.
كلكم كفرة (375)
التكفير بناء على هذه الاعتبارات وغيرها، كما سنشرح ذلك في التهم التي يوجهها السلفية عادة للحركات الإسلامية، وهي:
1 ـ التهم المرتبطة بالانحرافات العقدية.
لا يدرس السلفية الحركات الإسلامية من باب جدوى ما تقوم به من ممارسات في خدمة الإسلام أو التعريف به والدعوة إليه، ليحكموا من خلال ذلك على مدى جديتها وجدوى ما تقوم بها، وإنما يدرسونها من خلال الموازين التي تركها لهم سلفهم.. والتي تختصر في الموقف من الصفات والعلو وخلق القرآن ونحو ذلك..
ولهذا نرى السلفية يبحثون في تراث أي حركة، وفي عقل أي منتم إليها، فإن وجدوا شيئا مما يخالف ما ذكره سلفهم، سارعوا إلى نقله وتوثيقه، ثم الحكم على الحركة كلها من خلاله.
ومن أمثلة ذلك ما حكم به الشيخ ربيع بن هادي المدخلي على جماعة التبليغ، فقد قال: (ولا شك أن الاختلاف بين السلفيين أهل السُنّة والتوحيد وبين جماعة التبليغ اختلاف شديد وعميق في العقيدة والمنهج. فهم ماتريدية معطّلة لصفات الله، وصوفية في العبادة والسلوك يبايعون على أربع طرق صوفية مُغرقة في الضلال ومن ذلك أن هذه الطرق تقوم على الحلول ووحدة الوجود والشرك بالقبور وغير ذلك من الضلالات. وهذا قطعاً لا يعرفه عنهم العلامة ابن عثيمين ولو عرف ذلك عنهم لأدانهم بالضلال ولحذَّر منهم أشد التحذير، ولسلك معهم المسلك السلفي كما فعل شيخاه الإمام محمد بن إبراهيم والإمام ابن باز وغيرهما) (1)
وهكذا قال التويجري في كتابه الذي خصصه لتكفيرهم ـ عند ذكره لبعض القصص التي حصلت بين السلفية وبينهم ـ (قال الشيخ الذي أرسل إليَّ المذكرة: وقد حصلت لي مع
__________
(1) أقوال علماء السُنة في جماعة التبليغ، لربيع المدخلي، ص 3.
كلكم كفرة (376)
الشاهد المذكور قصة، وهي أنه جاءني مستنكراً الكلام في جماعة التبليغ! فقلت له: إنهم متصوفة وماتريدية لا يصفون الله بصفة العلو، فقال: وما الدليل على ذلك؟ فقلت له: اذهب بنفسك، وحاول أن تقف على الواقع. فذهب الرجل، وبعد أيام عاد إليَّ وهو يقول: إن ما ذكرته من كونهم لا يعترفون بعلوِّ الله واستوائه على عرشه صحيح. فقلت له: وكيف عرفت ذلك؟ قال: ذهبت إلى رئيس الجماعة سعيد أحمد الذي كان يثق بي تمام الثقة؛ لأني من تلاميذه ومريديه، فقلت له: إني لست في شك من عقيدتنا، وهي أن الله في كل مكان، وليس هو في السماء، ولكن؛ بماذا نردُّ على الذين يقولون: إن الله في السماء. فقال: اتركهم واثبت على عقيدتك؛ فهي الحق) (1)
وقد علق التويجري على هذه القصة بقوله: (وهذه طامة كبرى من عقائد التبليغيِّين، وهي إنكار علو الله على خلقه، وهذا هو مذهب الجهمية الذين كفَّرهم كثير من علماء السلف وتبرَّؤوا منهم.. وقد ذكر عبد الله ابن الإِمام أحمد في كتاب [السنة] كثيراً من أقوال العلماء في تكفيرهم، وذكرها غيره من الأئمة الذين صنَّفوا في السنة والردِّ على الجهميَّة. فليعتبر المسارعون إلى الانضمام إلى جماعة التبليغ بما ذُكر عن رئيس جماعتهم في المملكة العربية السعودية أنه يعتقد أن الله في كل مكان وليس هو في السماء! وهذا كفر صريح؛ لمناقضته للأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن الله تعالى مستوٍ على عرشه، فوق جميع المخلوقات، وأنه مع الخلق بعلمه واطلاعه وإحاطته.. فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من الانضمام إلى التبليغيين الذين ينكرون علوَّ الله على خلقه، ويزعمون أنه في كل مكان، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً) (2)
وهكذا ينظر السلفية إلى الإخوان المسلمين، فهم في كل كتاب يتحدثون فيه عنهم لا
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 42.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 43.
كلكم كفرة (377)
يهتمون كثيرا بأخطائهم التي وقعوا فيها أثناء ممارستهم للعمل الدعوي، فذلك لا يهمهم كثيرا، وإنما الذي يهمهم هو أن الشيخ حسن البنا عند ذكره للعقائد كان متأثرا بالأشاعرة المعطلين للصفات والمنكرين للجهة، وقد قال أحدهم في كتاب تكفيري خطير خصصه للإخوان المسلمين: (أما حسن البنا فمذهبه في صفات الله تعالى أنه (أشعري مفوض) في صفات الله تعالى أي يثبت المعنى في ثلاث عشرة صفة فقط أما باقي الصفات فيفوض في المعنى ولا يثبت معناها وهذا مذهب الأشاعرة المفوضة. فحسن البنا أثبت في كتابه (العقائد) الصفات الثلاثة عشرة التي أثبتها الأشاعرة وهي الصفات السبع التي تسمى صفات المعاني وأثبت الصفات الخمس التي تسمى الصفات النفسية ثم أثبت صفة الوجود فهذه ثلاث عشر صفة من أثبتها بطريقة الأشاعرة يعتبر أشعريا.. فحسن البنا أشعري يثبت الصفات السبع والصفات السلبية الخمسة والصفة النفسية، ثم بعد ذلك اختار الطريق الآخر من طرق الأشاعرة وهو تفويض الصفات ثم دلس وألصق كل هذا بمذهب السلف. فحسن البنا يرى بتفويض صفات الله تعالى ثم يتمادى ويدلس وينسب هذا بالباطل لمذهب السلف) (1)
بل إنه يذهب ويرمي محاولة الشيخ حسن البنا تهوين الخلاف بين السلف والخلف في تلك المسائل إلى أنه ارتكب بذلك أكبر جريمة، فقال: (لا يكتفي حسن البنا بأنه يفوض في صفات الله تعالى، ولا يكتفي بأنه يدلس وينسب مذهبه الباطل في التفويض إلى السلف بل يتمادى أكثر وأكثر، فيُهوِّن ويُقلِّل من الخلاف بين الأشاعرة المفوضة (الذين يكذب حسن البنا ويقول أن مذهبهم في تفويض معاني صفات الله تعالى هو مذهب الصحابة والسلف) وبين الأشاعرة المؤولة الذين يسميهم حسن البنا بالخلف؛ فيقول بأن الخلاف بين الفريقين من قبيل (خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا) أو (هو هين كما ترى، وأمر لجأ
__________
(1) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 107.
كلكم كفرة (378)
إليه بعض السلف أنفسهم، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا)..؛ فيقول حسن البنا (ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق، ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديما وحديثا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله.. وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا) (1).. أي يجعل الخلاف في توحيد الأسماء والصفات بين الفريقين الضالَّين من باب الخلاف السائغ الهين الذي لا ينكر فيه على المخالف، وقول حسن البنا الصوفي الحصافي الشاذلي لم يقل به أحد من السلف نعوذ بالله تعالى من الخذلان) (2)
وهكذا يرمي من خلف الشيخ حسن البنا بالوقوع في نفس البدعة التي وقع فيها، بل في أشد منها، فيقول: (أما خلفاء حسن البنا كسعيد حوى والغزالي وغيرهم فكانوا أصرح منه فعطلوا الصفات بالكلية ثم أولوها ما عدا ثلاثة عشر على مذهب الأشاعرة المؤولة أو الماتريدية) (3)
بل إنه يصور مشروع الإخوان المسلمين في إقامة الخلافة الإسلامية أو إحيائها، بأنه ليس كذلك، وإنما هو مشروع لإحياء الخلافة الصوفية الأشعرية، فيقول في فصل بعنوان [السبب الحقيقي والهدف الحقيقي لإنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان الضالة]: (نريد أن نسأل: لماذا أنشأ حسن البنا الأشعري الصوفي جماعة جديدة في بدايات القرن العشرين تضم
__________
(1) كتاب رسائل الإمام من رسالة العقائد ص 289.
(2) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 118.
(3) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 119.
كلكم كفرة (379)
جميع الفرق الضالة المنتسبة للإسلام؟ الإجابة ببساطة نعرفها عندما نعرف الهدف الأسمى والأعلى لجماعة الإخوان؛ فالهدف الأسمى والأعلى لجماعة الإخوان هو: وصول جماعة الإخوان للحكم في البلاد الإسلامية ويليه إقامة الخلافة الصوفية الأشعرية الحامية لأهل البدع والفرق الضالة، فهي خلافة البدع والخرافات والضلالات، وإذا أنشأ حسن البنا الصوفي الأشعري جماعته لتضم فقط من هم على مذهبه من الصوفيين الأشاعرة فهذا سيُعَطِّل تنفيذ الهدف الأسمى للجماعة وسيضع المعوقات في طريق تحقيق هذا الهدف الأساس للجماعة ولذلك اختار حسن البنا أن يجعل جماعته تضم جميع الفرق الضالة وتحتضنها لتحقيق هدف الجماعة؛ وهذا ما سار عليه خلفاء حسن البنا وحتى الآن وهذا صميم منهج جماعة الإخوان الضالة) (1)
وهكذا كفر السلفية جماعة العدل والإحسان المغربية بسبب ميولاتها الصوفية، وقد قال بعضهم، وهو يتحدث عن الشيخ عبد السلام ياسين زعيم الجماعة: (وهذا الرجل الذي يتزعم حالياً جماعة أشبه ما تكون بطريقة صوفية، وتدعى [جماعة العدل والإحسان]، قد مر في حياته باضطرابات فكرية وعقائديه، حيث عاش ردحاً من الزمن يتغذى على الفكر المادي فكر فرويد وماركس، وفجأة ينتقل إلى توجه آخر، ومناقض له تمام المناقضة، وهذه التوجه الجديد هو التصوف، الذي لا أثر للعقل فيه البتة.. وقد لخص المغراوي مصادر التلقي عند ياسين في الأمور التالية: 1 - الفكر الرافضي.. 2 - فكر الحلاج المقتول على الزندقة.. 3 - فكر ابن عربي الحاتمي شيخ القائلين بوحدة الوجود.. 4 - فكر الشعراني صاحب الطبقات.. 5 - فكر الدباغ وكتابه الإبريز.. 6 - فكر التجاني)
2 ـ التهم المرتبطة بالتصوف والبدع العملية
من الاهتمامات الكبرى للسلفية أثناء دراستهم لأي حركة من الحركات الإسلامية
__________
(1) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 42.
كلكم كفرة (380)
البحث عن صلتها وعلاقتها بالطرق الصوفية.. ذلك أن وجود هذا وحده كاف لشرعنة التحذير من تلك الحركة وتبديعها.. بل وتكفيرها كما يكفر الصوفية جميعا.
ولهذا نراهم عند حديثهم عن جماعة التبليغ يستعملون كل الوسائل لربطها بالطرق الصوفية، ابتداء من بحثهم عن حياة شيخها وعلاقته بالتصوف، وانتهاء بالبحث عن أي دليل يرتبط بأي منتم لهذه الحركة لرمي الجماعة كلها من خلاله.
ومن الأمثلة على ذلك تلك الشهادات التي يوردونها عن بعض من تابوا من تبعيتهم للجماعة، ويعتبرونها مصدرا كافيا للحكم عليهم، بل وتكفيرهم.
فمن تلك الشهادات التي أوردها صاحب كتاب [الحقائق عن جماعة التبليغ] هذه الشهادة: (أشهد أنا الواضع اسمي فيه والموقع في آخره، السيد عبد اللطيف عبد الرحمن المدني؛ بأن الجماعة المدعوَّة جماعة التبليغ، التابعة لإِلياس صاحب الطريقة الجشتية، ثم بعد وفاته اتَّبعت ابنه يوسف (ديوبند) صاحب الطريقة الجشتية النقشبندية، ثم التابعة حاليّاً لإِنعام الحسن (ديوبند) صاحب الطريقة الجشتية النقشبندية، ومن ثمَّ رئيسهم بمكة المكرمة سعيد بن أحمد الهندي صاحب الطريقة الجشتية النقشبندية، وهي الجماعة المعروفة التي تدور في داخل المملكة، ومركزها بمكة المكرمة والمدينة المنوَّرة.. أعرفها تماماً حقَّ المعرفة؛ لأنني قد خرجتُ معهم في جولات التبليغ سنتين في داخل المملكة وبلاد أخرى، وأعرف عقائدهم فاسدة: عقيدة الجشتية النقشبندية البدعية الشركية، وأعرف منهم تعزيز البدع والخرافات في كل المجالات، وأنهم بعيدون عن التوحيد والكتاب والسنة، وأنهم لا يعرفون من التوحيد شيئاً، بل هم وثنيون في العقيدة والعمل، وقد أنكرت عليهم أنا شخصيّاً مراراً في العقائد والبدع والخرافات، ولكن لم يسمعوا مني أي شيء من الكتاب والسنة النبوية، بل هم ألدُّ الخصام في طريقتهم الباطلة، وهذا مبلغهم من العلم، جهلٌ على الإِطلاق، وبالرغم ينشرون في البلاد الإِسلامية وغيرها العقائد الفاسدة الوثنية الجشتية النقشبندية
كلكم كفرة (381)
البدعية الشركية، ويشردون عباد الله العامة عن التوحيد والكتاب والسنة بطرق غريبة من أقوال الخرافيين.. وهؤلاء الجماعة - أعني: جماعة التبليغ - ينذرون لهؤلاء المقبورين في المسجد، ويستنصرون بهم في كل المهمات، وعندما ينكر عليهم؛ يقولون في جوابهم: لسنا وهابيين، ولسنا على مذهب الشيخ النجدي، وقصدهم الشيطان الرجيم، يمثلون به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، غفر الله له ورحمه. وأعرف عنهم كل عملهم واجتهادهم في إخفاء التوحيد والكتاب والسنة ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إليهما، كما أعرف عنهم أن تجوُّلهم في أرض الله ما هو إلا لنشر البدع والشرك والطرق الشيطانية بأسلوب ساحر للعوام بالتجمعات في قلب الجزيرة وغيرها، وكل ذلك يخدعون به العوام، حتى يدخلونهم في مذهبهم الباطل.. وللعلم؛ قد كفَّرهم جماعة السلفيين أهل الحديث بالباكستان والهند، وهذا الذي أعرفه عنهم جميعاً حقيقيّاً، ولا أقول هذا إلا إحقاقاً للحق) (1)
وهكذا نراهم في موقفهم من جماعة العدل والإحسان، فهم لا يهتمون بطروحاتها التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي والسياسي ونحوهما، وإنما يهتمون بكون شيخها كان في يوم من الأيام مريدا لدى الطريقة القادرية البودشيشية ـ الكافرة كما يعبرون ـ
وهكذا في موقفهم من الإخوان المسلمين، حيث لا نجد كتابا من كتبهم إلا وهو يرمي الإخوان المسلمين بكونهم صوفية.. وأنهم لذلك حلوليون قبوريون مشركون شركا جليا.
بل إن بعضهم يصور أن حركة الإخوان المسلمين لم تكن سوى مؤامرة صوفية أشعرية للقضاء على السنة ومن يمثلها من السلفية، وقد قال بعضهم في ذلك، تحت عنوان [ظروف إنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان وعلاقة ذلك بصوفية حسن البنا]: (لقد أنشأ حسن البنا جماعة الإخوان الصوفية الاشعرية المنحرفة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انطلاقاً من
__________
(1) الحقائق عن جماعة التبليغ (ص 26 - 27)
كلكم كفرة (382)
المذهب الصوفي الأشعري الضال لحسن البنا، وانطلاقاً من الفكر الضال المنحرف لحسن البنا؛ فبعد سقوط الخلافة العثمانية الصوفية الأشعرية حامية الشرك والأوثان والأضرحة عام 1924 م نتيجة لانحرافها عن منهج الله ومحاربتها ومقاتلتها لأولياء الله تعالى الداعين لتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده تعالى والناهين عن الشرك والكفر – حيث قاتلت الخلافة الصوفية الأشعرية العثمانية المنحرفة دعوة التوحيد التي دعا لها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية – فأراد حسن البنا أن يعيد تلك الخلافة الصوفية الأشعرية الضالة الحاوية والحامية للبدع والشركيات، فأنشأ عام 1928 م جماعة الإخوان الصوفية الحاوية للبدع والضلالات الصوفية.. بل إن حسن البنا يصرح بأنه في البداية أنشأ (جمعية الحصافية الخيرية) نسبة إلى الطريقة الحصافية الشاذلية الصوفية القبورية التي بايعها حسن البنا في شبابه ثم غير التسمية بعد ذلك وأنشأ (جماعة الإخوان المسلمين) كما جاء في كتابه [مذكرات الدعوة والداعية] ويفهم من ذلك أن جماعة الإخوان هي امتداد للجماعة الصوفية التي أنشأها حسن البنا من قبل وهي [جمعية الحصافية الخيرية] كما سبق بيانه) (1)
ثم يوضح الحيلة التي من خلالها فكر الشيخ حسن البنا في القضاء على السلفية ليحل بدلهم الصوفية والأشعرية، فقال: (فقد رأى حسن البنا أنه لو اعتمد فقط على أهل مذهبه الضال من الصوفية الأشعرية لاستعادة الخلافة العثمانية فلن يستطيع ذلك لأن مذهب الصوفية الأشعرية هو في انحدار وضعف وأما دعوة التوحيد الدعوة السلفية دعوة أهل السنة والجماعة في علو وانتشار؛ فجاءت لحسن البنا فكرة شيطانية تقضي بإنشاء جماعة حاوية لجميع الفرق التي تنتسب للإسلام والتي تدعي الإسلام على أن تضم تلك الجماعة كل من يقول [لا إله إلا الله] سواء أ كان على سنة أو على بدعة أو على ضلالة على ألا ينكر أي فريق على الآخر ضلاله وبدعه وعلى أن يتعاون الجميع لإعادة الخلافة الصوفية
__________
(1) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 99.
كلكم كفرة (383)
الأشعرية الحاوية للبدع والحامية للأوثان وللشرك بالله تعالى.. بحيث يكون الجميع أخوة فيكون الرافضي أخاً للصوفي القبوري ويكون السلفي أخاً للقبوري الذي يعبد الأوثان وأخاً للرافضي الذي يكفر الصحابة ويقول بتحريف كتاب الله تعالى ويكون الجميع أخوة في جماعة حسن البنا لكي يحققوا له هدفه ويعملوا على إعادة الخلافة الصوفية الاشعرية الضالة، وكانت تلك الجماعة هي [جماعة الإخوان] والتي أنشأها حسن البنا عام 1928 م بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية الصوفية الاشعرية الضالة) (1)
ويحلل الكاتب أكثر حركة الإخوان المسلمين، بل يدخل ـ كما هي عادة السلفية ـ في عقل مؤسسها الشيخ حسن البنا، ليتعرف على نيته وخدعه ومكره، فيقول: (إن المتأمل لفكر حسن البنا خلال حياته يدرك أنه صوفي مائة بالمائة ولكنه عندما تم تعيينه كمدرس ابتدائي في مدينة الإسماعيلية عام 1927 م وجد أن هناك اتجاهين في مدينة الإسماعيلية الاتجاه الأول هو الدعوة السلفية دعوة الحق، والاتجاه الثاني هو الاتجاه الصوفي الذي ينتمي له حسن البنا، وكانت الدعوة السلفية تنكر على الصوفيين بدعهم وأصبح الاتجاه الصوفي في انحسار، فأدرك حسن البنا أنه لو دعا للصوفية التي يؤمن بها فسيكون في مواجهة مباشرة مع الاتجاه السلفي وسيخسر كثيراً لذا فبدلاً من أن ينضم حسن البنا لأهل الحق السلفيين وينكر بدع الصوفية اتجه حسن البنا لفكرة خبيثة وهي أن ينشأ اتجاهاً ثالثاً يقول بالبعد عن مواطن الخلاف بين الطرفين بين أهل الحق السلفيين وبين أهل الباطل الصوفيين، وهذا الاتجاه الثالث وهي جماعة الإخوان المسلمين هي في الواقع نسخة معدلة من الصوفية أو هي صوفية معاصرة.. وبهذه الفكرة الجديدة الخبيثة لحسن البنا وهي (جماعة الإخوان المسلمين) جعل حسن البنا الخلاف مع الرافضي الشيعي من باب الخلاف السائغ الذي لا يجب الإنكار عليه فيه فحسن البنا جعل الخلافات مع الرافضة من قبيل الخلافات التي
__________
(1) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 100.
كلكم كفرة (384)
يمكن تجاوزها) (1)
وهم لا يكتفون بهذا، بل يصورون كل عمل اجتهادي تقوم به أي حركة من الحركات الإسلامية للدعوة إلى الله نوعا من أنواع البدع التي أخذتها تلك الحركة عن الطرق الصوفية..
ومن الأمثلة البسيطة على ذلك ما تقوم به الحركات الإسلامية من نشاطات فنية كالإنشاد والتمثيل وغيرهما، بغية تقريب الدين للناس، وجذبهم إليه.
فهم في هذه المسألة متشددون جدا، بل ألفوا المؤلفات في تحريم ذلك، وهم يستندون فيها لفتوى طويلة لابن تيمية (2) يفرق فيها بين الوسائل المشروعة للدعوة، والوسائل غير المشروعة، وقد أجاب فيها على سؤال مهم حول رجل من الصالحين أراد أن يدعو جماعة من المنحرفين إلى الله، ولم ير حلا لذلك سوى (أن يقيم لهم سماعاً ـ أي غناء ـ يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات، فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟) (3)
فمع أن السائل ذكر سوء حال المدعوين قبل هدايتهم، وأنهم كانوا مرتكبين لذنوب كبائر متعدية كالقتل وسرقة المال وقطع الطرق.. ومع أن الداعية الذي قام بذلك ـ كما ذكر السائل ـ كان شيخاً معروفاً بالخير واتباع السنة.. ومع أنه قصد من فعله الخير.. ومع أنه لم يمكنه إلا اتخاذ هذه الطريقة لهدايتهم.. ومع أنه لم يقع معهم في محرمات كبائر، وإنما دف بلا
__________
(1) إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان، ص 102.
(2) طبعت هذه الفتوى ضمن مجموع الفتاوى (11/ 620 - 635) وقد أفردت في كتيب صغير بعنوان: الطرق الشرعية والطرق البدعية في المسائل الدعوية.
(3) مجموع الفتاوى (11/ 620)
كلكم كفرة (385)
صلاصل وغناء بشعر مباح بغير شبابة.. ومع أنه ترتب على هذه الطريقة مصلحة كبيرة وخير عظيم. (ومع هذا كله لم تغلب ابن تيمية عاطفته ولم ينكسر لها، بل بنى فتواه على الأدلة الشرعية والقواعد المرعية) (1) كما يذكر السلفية.. وهو التشدد مع هذا لمخالفته السنة.
ولطول جواب ابن تيمية على المسألة، وإيراده النصوص الكثيرة على ذلك، فسنختصر جوابه هنا لأهميته في بيان سبب النظرة السلبية للسلفية لكل عمل إسلامي يقام، مهما انضبط بالضوابط الشرعية، فقد قال: (.. والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم. فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه.. وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله: فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.. إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر، فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية، فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالإضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان –وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة – تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية. وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً
__________
(1) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 16.
كلكم كفرة (386)
مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية. فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلاً بالطرق الشرعية، عاجزاً عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية. إما مع حسن القصد. إن كان له دين وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل.. فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد) (1)
وهكذا حول ابن تيمية هذا الشيخ الصالح الذي استطاع أن يخلص المجرمين من إجرامهم بتلك الوسائل الشرعية المباحة التي استعملها، إلى أن مبتدع وضال.. لأن كل مبتدع عندهم ضال، وكل ضال في النار.
بل إنه أومأ إلى اتهامه في نيته نفسها بأن يكون قصده الرئاسة عليهم، وقد استدل لذلك بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]
ولم يستند في هذا إلى حجة عقلية أو نقلية، وإنما كل حججه هي أولئك السلف المعصومين الذين أحل بهم السلفية ما حرم الله، وحرموا بهم ما أحل الله، يقول ابن تيمية: (ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا. لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب، وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك) (2)
وبما أن الصوفية في ذلك الحين، وفي كل بلاد العالم الإسلامي كانوا يعتمدون السماع والغناء كوسيلة من وسائل جذب القلوب والأرواح لله.. فإن ابن تيمية حرم هذه الوسيلة
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 625)
(2) مجموع الفتاوى (11/ 627)
كلكم كفرة (387)
العظيمة، كما حرم كل وسيلة غيرها.
بل إنه أباح السماع والغناء إذا كان في الأعراس ونحوها من باب اللهو واللعب، أما أن يتحول إلى وسيلة للتعبد، فلم ير صحة ذلك، بل وقف في وجهه، كما يقف السلفية كل حين في وجه كل مشروع لخدمة الأمة ورقيها.
يقول ابن تيمية: (وقول السائل وغيره: هل هو حلال؟ أو حرام؟ لفظ مجمل فيه تلبيس. يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه؛ وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين: (أحدهما) أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس. وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله، و(النوع الثاني) أن يفعل على وجه الديانة والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العباد لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات لا من جنس اللعب والملهيات.. فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس والأفراح ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟ وهل هو طريق إلى الله؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم وتحريك وجدهم لمحبوبهم وتزكية نفوسهم وإزالة القسوة عن قلوبهم ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة لا على وجه اللهو واللعب) (1)
وبناء على هذا كله، فقد ذكر أن (من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 631)
كلكم كفرة (388)
عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه ديناً، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه. فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى أمر مباح؛ بل من جعل هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين. ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلاً متكلماً في الدين بلا علم) (1)
هذه هي النتيجة التي خلص بها ابن تيمية، وعلى أساسها يتعامل السلفية مع كل نشاط دعوي بغض النظر عن الجهة التي تتبناه، ولهذه فإن هذه الفتوى استعملها صاحب كتاب [الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ] ليطبق على جماعة التبليغ، وهكذا تطبق على كل حركة إسلامية، وعلى كل ناشط في العمل الإسلامي.
بل إن تيمية لم يكتف بذلك، بل راح يصعد في موقفه من هذا الشيخ الطيب الذي استعمل هذه الوسيلة المباحة لهداية المنحرفين، فقال: (فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب)
هذه هي قاعدته في هذا الموضوع، والتي يستعملها السلفية كما يستعملون النصوص المقدسة لتحريم كل عمل إسلامي لا يتوافق مع ما فعله السلف.. الذين هم أعلم الناس وأطهر الناس وأبر الناس قلوبا وأصدقهم حديثا.. ولا يخالفهم ـ حسب تصورهم ـ إلا هالك.
وبما أن السماع أو الإنشاد الروحي كان الوسيلة التي يستعملها الصوفية في ذلك الحين للانتشار، فقد حمل عليه ابن تيمية حملة شديدة جدا، وقد وصفهم في فتواه هذه بقوله:
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 633)
كلكم كفرة (389)
(فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين؛ فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغضه الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه؛ ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله وجند الشيطان) (1)
وهذه الفتوى تنطبق تماما على كل الحركات الإسلامية التي تستعمل الإنشاد أو غيره من الوسائل للدعوة والتربية والتوجيه والتعبئة ونحوها، فابن تيمية، ومعه السلفية يحرمون كل ذلك.
3 ـ التهم المرتبطة بالولاء والبراء
كما ذكرنا سابقا، فإن السلفية يعتبرون الولاء والبراء من أركان الإيمان الكبرى، فلا يكفي أن يكون المؤمن عندهم مؤمنا، بل يشترط كذلك أن يتبرأ من جميع الكفرة، وأول ذلك أن يكفرهم، ولا يتوقف في تكفيرهم.. فإن كفرهم جميعا، وتوقف في واحد منهم ممن وقع فيه الخلاف، اعتبر ـ عند السلفية ـ مخلا بهذا الركن الخطير، وألحق بالكفرة، ولا ينفعه أداؤه لجميع أركان الإيمان كما تتطلبها القوانين السلفية.
ومن هذا الباب أمكنهم أن يكفروا جميع الحركات الإسلامية، باعتبارها جميعا تدعو ـ ولو في الظاهر ـ بالقاعدة المعروفة المنسوبة للإخوان المسلمين [نجتمع فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه]، والتي علق عليها الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه (حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية] بقوله: (هذا تقعيد حادث فاسد، إذ لا عذر لمن خالف في قواطع الأحكام في الإسلام، فإنه بإجماع المسلمين لا يسوغ
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 635)
كلكم كفرة (390)
العذر ولا التنازل عن مسلمات الاعتقاد، وكم من فرقة تنابذ أصلاً شرعياً وتجادل دونه بالباطل؟ وعليه؛ فإلى الطريق الوسط الحق، طريق جماعة المسلمين على منهاج النبوة) (1)
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد البدر في تقديمه لكتاب [زجر المتهاون بضرر قاعدة المعذرة والتعاون ـ نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه]: (كان اللائق – بل المتعين – على أتباع هذا الداعية – (يقصد حسن البنا) بدلاً من التوسع في إعمال مقولته هذه (يقصد: نعمل فيما اتفقنا عليه..) لتستوعب الفرق الضالة، حتى لو كانت أشدها ضلالاً؛ كالرافضة – أن يعنوا بتطبيق قاعدة الحب في الله والبغض في الله، والموالاة فيه والمعاداة فيه – التي لا مجال فيها لأن يعذر أهل الزيغ والضلال فيما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة) (2)
وبناء على هذا الموقف راحوا ينكرون تلك المواقف المعتدلة من جماعة التبليغ أو العدل والإحسان أو الإخوان المسلمين من القضايا المختلف فيها بين المسلمين.
وقد قال بعضهم منكرا على الشيخ حسن البنا تساهله مع الخلافات مع الصوفية والأشاعرة وغيرهم: (و بهذه الفكرة الجديدة الخبيثة.. جعل حسن البنا الخلاف مع الرافضي الشيعي من باب الخلاف السائغ الذي لا يجب الإنكار عليه فيه، فحسن البنا جعل الخلافات مع الرافضة من قبيل الخلافات التي يمكن تجاوزها.. وجعل البنا الخلافات مع الصوفية حول البدع الإضافية التركية كالذكر الجماعي والحضرة والأوراد البدعية والاحتفال بالمولد النبوي هي خلافات فرعية يسوغ فيها الخلاف ولا ينكر فيها على المخالف فيقول حسن البنا في الأصول العشرين الأصل الثاني عشر: (والبدعة الإضافية والتَّركِيَّة والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص
__________
(1) حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، (ص 149)
(2) زجر المتهاون بضرر قاعدة المعذرة والتعاون ـ نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ص 7.
كلكم كفرة (391)
الحقيقة بالدليل والبرهان) ولا عجب فالبنا صوفي يمارس بنفسه تلك البدع الإضافية التركية ويفاخر بذلك في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية) ولا يعلن توبته أو ندمه على ذلك.. وجعل حسن البنا الخلاف بين السلف الذين يثبتون صفات الله تعالى وبين الخلف كالمعتزلة والأشاعرة المفوضة أو المؤولة الذين ينفون صفات الله تعالى أو يفوضون فيها هي كما قال في آخر رسالة العقائد من قبيل (.. خلاف لا يستحق ضجة ولا إعناتا) أو (.. وهو هين كما ترى، وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم، وأهم ما يجب أن تتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف، وجمع الكلمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا).. وطبعاً هذا الفكر الضال لجماعة الإخوان المسلمين الذي وضعه حسن البنا لا يتطرق إلى التوحيد بشكل خاص كتوحيد الألوهية ومحاربة الشركيات لأن حسن البنا يرى أن هذا يثير الخلاف والفتنة بين المسلمين، ولأن توحيد الألوهية يتطلب الإنكار على الصوفية التي ينتمي لها حسن البنا، كما يستنكر الفكر الضال لحسن البنا إنكار أهل السنة السلفيين أي شيء على الفرق الضالة الواردة في الحديث الشريف سواء الأشاعرة أو المعتزلة أو المفوضة في باب توحيد الأسماء والصفات لأن هذا يثير الخلاف والفتنة بين المسلمين ولأن حسن البنا وجماعته أصلاً أشاعرة صوفية) (1)
عندما نطبق النواقض التي وضعها السلفية للإيمان ابتداء من سلفهم الأول إلى المتأخرين منهم، وخصوصا في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن بعده، فإننا نجد أن كل الجماعات الإسلامية عندهم وفي موازينهم ليست سوى جماعات كفر وضلال وبدعة، بدون استثناء، وأنه يجب لذلك التحذير منهم، بل التعامل معهم وفق ما تقضيه قوانين
__________
(1) إثبات فساد منهج دعوة حسن البنا، ص 100.
كلكم كفرة (392)
الولاء والبراء السلفية المتشددة.
ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ صالح الفوزان: (ومن هنا وجب على كل من عنده علم وبصيرة أن يبين خطر هذه الجماعات والأحزاب التي ظهرت على الساحة باسم الدعوة إلى الإسلام وكثير من أفرادها بل ومن قادتها لا يعرفون حقيقة الإسلام وما يناقضه ولا يحملون مؤهلات الدعوة إليه) (1)
وسئل الشيخ ابن باز: (نرجو من سماحتكم توجيه نصيحة خاصة للشباب الذين يتأثرون بالانتماءات الحزبية المسماة بالدينية؟)، فأجاب: (أما الانتماءات إلى الأحزاب المحدثة فالواجبُ تركها وأن ينتمي الجميع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا فرق في ذلك بين جماعة الإخوان المسلمين أو أنصار السُّنة أو الجمعية الشرعية أو جماعة التبليغ أو غيرهم من الجمعيات والأحزاب المنتسبة للإسلام) (4)
وقال الشيخ محمد أمان بن علي الجامي: (في هذه الأيام يكثُر الكلام والاستشكال حول الانتماءات الكثيرة وإذا تكرر السؤال حول الانتماءات وشعر شبابنا بالتشويش والبلبلة لهم الحق أن يبعثوا ويسألوا لأن هذه الانتماءات أمر محدث ومبتدع في هذا البلد، بل عند جماعة المسلمين قديماً وحديثاً.. من يتصور هذا الدين تصوراً سليماً بعيداً عن الهوى لا يشك أن الانتماءات التي طرأت في صفوف المسلمين أنها انتماءات محدثةٌ وبدعةٌ لا يشك في ذلك إلا من نقص علمه أو غلب عليه هواه ودخلت عليه بعض المؤثرات التي غيرت فطرته وعقله) (2)
وقال الشيخ الشيخ صالح بن محمد اللحيدان: (فإن جميع الجماعات والتسميات ليس لها أصلٌ في سلف هذه الأمة) (2)
__________
(1) من مقدمة الشيخ لكتاب، تنبيه أولي الإبصار، لمؤلفه الشيخ صالح بن سعد السحيمي.
(2) من شريط النصح بترك الجماعات، تسجيلات الإبانة السمعية.
كلكم كفرة (393)
وسئل الشيخ صالح الفوزان: (ما رأيكم في الجماعات كحكم عام؟)، فأجاب: (كل من خالف جماعة أهل السُّنة فهو ضال، ما عندنا إلا جماعة واحدة هم أهل السُّنة والجماعة وما خالف هذه الجماعة فهو مخالف لمنهج الرسول، ونقول – أيضًا -: كل من خالف أهل السُّنة والجماعة فهو من أهل الأهواء، والمخالفات تختلف في الحكم بالتضليل أو بالتكفير حسب كبرها وصغرها، وبعدها وقربها من الحق) (3)
وسُئِلَ: (ما وجه نسبة الجماعات الموجودة اليوم إلى الإسلام أو وصفهم بالإسلامية، وصحة إطلاق لفظ الجماعات عليهم، وإنما هي جماعة واحدة كما في حديث حذيفة؟)، فأجاب: (الجماعات فرق توجد في كل زمان، وليس هذا الأمر بغريب.. فوجود الجماعات، ووجود الفرق هذا أمر معروف، وأخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكن الجماعة التي يجب السير معها والاقتداء بها والانضمام إليها هي جماعة أهل السُّنة والجماعة، الفرقة الناجية.. هذه هي الجماعة الممتدة من وقت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة، وهم أهل السُّنة والجماعة، وأما من خالفهم من الجماعات فإنها لا اعتبار بها وإن تسمَّتْ بالإسلامية، وإن تسمَّتْ جماعة الدعوة أو غير ذلك، فكل ما خالف الجماعة التي كان إمامها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنها من الفرق المخالفة المتفرقة التي لا يجوز لنا أن ننتمي إليها أو ننتسب إليها، فليس عندنا انتماء إلا لأهل السُّنة والتوحيد.. هؤلاء هم الجماعة المعتبرة، وما عداها من الجماعات فإنه لا اعتبار بها، بل هي جماعة مخالفة، وتختلف في بُعدها عن الحق وقربها من الحق، ولكن كلها تحت الوعيد، كلها في النار إلا واحدة، نسأل الله العافية) (1)
بناء على هذا، فسنتحدث عن مواقفهم من أهم الجماعات الإسلامية الموجودة الآن في الواقع الإسلامي، والتي رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين:
1. جماعات دعوية مجردة ليس لها أي أهداف سياسية، بل تكتفي بالدعوة إلى الدين في
2.
__________
(1) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة ص 241
كلكم كفرة (394)
3. جوانيه العقدية والروحية والسلوكية.
4. جماعات قد تمارس العمل الدعوي، ولكنها تضم إليه العمل السياسي، إما باتخاذها مواقف معينة من الواقع السياسي، أو أنها تمارس السياسة نفسها.
ونريد بها كل الجماعات التي تهتم بالدعوة للعقائد أو القيم الإسلامية من غير أن يكون لها أي اهتمام أو طموح سياسي..
ومن أهم النماذج التي تمثلها جماعة التبليغ، وهي من الجماعات التي تعتمد التربية والموعظة والحوار كوسائل للدعوة إلى الإسلام والقيم الإسلامية، وهي تتوجه بذلك سواء لمن لم تبلغه الدعوة الإسلامية لمحاولة إدخاله للإسلام، أو للمستاهلين من المسلمين أو المنحرفين منهم.. ولها مناهجها الخاصة في ذلك.
لكن هذه الجماعة، ومع تعظيمها الشديد للحديث، لأن كبار مشايخها كانوا محدثين.. ومع تعظيمها للصحابة، بل مبالغتهم في شأنهم، فمن الكتب الأساسية التي يكادون يحفظونها كتاب [حياة الصحابة].. ومع اهتمامها الكبير بتفاصيل السنن الظاهرية، حتى أن الكثير لا يفرق بينهم وبين السلفية نفسها.. ومع ذلك كله لم يجدوا من السلفية إلا التكفير.
وقد نص على هذا التكفير كبار مشايخ السلفية المعاصرين، وكبار مفتيهم، من أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم الذي يعتبر من أكثر الشخصيات السلفية وثاقة وتأثيرا، فهو من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتولى أكبر المناصب في السعودية، فقد كان هو المفتي للبلاد قبل فتح (إدارة الإفتاء) رسمياً، ثم افتتحت (إدارة الإفتاء) رسمياً عام 1374 هـ تحت إشرافه.. ولما افتتحت رئاسة المعاهد والكليات أيضاً كان هو الرئيس، وكان قد أناب عنه أخاه الشيخ عبد اللطيف.. ولما تأسست رئاسة القضاء عام 1376 هـ عمد رسمياً برئاسة القضاء، ووضعت لها ميزانية خاصة، وعين ابنه الشيخ عبد العزيز نائباً له فيها،
كلكم كفرة (395)
والشيخ عبد الله بن خميس مديراً عاماً.. ولما افتتحت رئاسة البنات عام 1380 هـ كان هو المشرف العام عليها، فوضع الشيخ عبد العزيز ابن ناصر بن رشيد رئيساً عليها، ثم عين بدلاً عنه الشيخ ناصر بن حمد الراشد.. ولما افتتحت رابطة العالم الإسلامي كان هو رئيس المجلس التأسيسي لها.. ولما افتتحت الجامعة الإسلامية عام 1380 هـ كان هو المؤسس لها وعين نائباً له الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
بناء على كل هذه المناصب التي تبوأها، فإن فتواه تعتبر بمثابة قرار رئاسي أو مرسوم ملكي له تأثيره الكبير في كل تلك الكتب والفتاوى والتحذيرات التي ووجه بها جماعة التبليغ.
وقد قال في فتواه بكل صراحة وتحريض: (وأعرض لسموكم أن هذه جمعية لا خير فيها، فإنها جمعية بدعة وضلالة، وبقراءة الكتيبات المرفقة بخطابهم وجدناها تشتمل على الضلال والبدعة والدعوة إلى عبادة القبور والشرك الأمر الذي لا يسع السكوت عنه، ولذا فسنقوم إن شاء الله بالرد عليها بما يكشف ضلالها ويدفع باطلها. ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته) (1)
وهكذا نجد الفتاوى الكثيرة من أعلام السلفية المصرحة بكفرهم إما بسبب نسبتهم للتصوف أو للعقيدة الماتريدية أو باعتبارهم من القبورية أو بسبب مواقفهم من تكفير المسلمين أو غير ذلك.
وسأذكر هنا نموذجين لكتابين ينتشران بكثرة في تكفير جماعة التبليغ، لنرى الأسباب التي من خلالها يكفر أعلام السلفية هذه الجماعة الدعوية.
النموذج الأول كتاب [الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ]
__________
(1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 268)
كلكم كفرة (396)
وهو من إعداد: عبدالعزيز بن ريس الريس، وتقديم الشيخ عبدالعزيز بن محمد السدحان، وهي عبارة عن رسالة تحتوي على فتوى أحد عشر عالماً من كبار علماء السلفية كالشيخ محمد بن إبراهيم وابن باز والألباني وعبدالرزاق عفيفي.. وغيرهم.
وفي مقدمة الكتاب ذكر أبرز النتائج التي وصل إليها، واوالتي عبر عنها بما يلي: (بيان حال هذه الجماعة وحال مؤسسها من التصوف والدعوة إلى البدعة، بل وإلى الشرك الأكبر كما في كتابهم المعتمد للعجم وهو كتاب تبليغي نصاب.. أن هذه الجماعة لا تهتم بدعوة التوحيد؛ توحيد الألوهية، والتحذير من الشرك الأكبر ووسائله، فكيف يطلب منها هذا وهي تدعوا إلى الشرك الأكبر بتوزيعها وإقرارها لكتاب تبليغي نصاب المتضمن للشرك الأكبر؟ بل كيف يراد منها أن تدعو إلى سد وسائل الشرك ومركزهم الرئيس في الهند والسودان به قبور.. أن هذه الجماعة جماعة بدعة وضلالة، سواء كانوا داخل السعودية أو خارجها، كما نص على ذلك الشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ حمود التويجري وغيرهما. وفي هذا الكتاب البرهنة والتدليل) (1)
وقد ذكر في مقدمة الكتاب أن تلك الفتاوى المتساهلة التي صدرت بحقهم لم تكن إلا فتاوى مؤقتة ذلك أن (للتبليغيين حيلاً كما أخبر بذلك من خبرهم وعرف حالهم، ومن حيلهم أنهم إذا جاءوا إلى العلماء أظهروا لهم ما يرضيهم من الاهتمام بالسنة والائتمار بأوامر أهل العلم، وهذا يفسر ما أشكل على غير واحد سبب ثناء بعض أهل العلم عليهم؛ لذا ترى بعض العلماء كان محسن الظن بهم، ثم تراجع كما كان من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم) (2)
وقد رد الكاتب على من يدافع عنهم بحجة أن من السلفيين من تساهل معهم بذكره
__________
(1) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 3.
(2) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 4.
كلكم كفرة (397)
(أن هناك علماء آخرين قدحوا فيهم، والعبرة بالحجة والدليل، والحجة ظاهرة – كما في هذا الكتاب - في أن هذه الجماعة جماعة بدعة وضلالة، بل دعاة شرك.. أن القادح والذام عنده زيادة علم فقوله مقدم على غيره؛ لذا الذي نراه هو تراجع كثير من مادحيهم إلى القدح فيهم ولا عكس.. أن هذا يرجع إلى مكرهم ودهائهم؛ لأنهم إذا جاءوا عند العالم أظهروا ما يرضيه) (1)
وقد بين أن عمله هذا يندرج ضمن الرد على أهل البدع، والذي هو منهج السلفيين أولهم وآخرهم، فقال: (الرد على المخالف من أبرز سمات علماء السلف، وإن كنتَ في شك فانظر إلى كلام السلف الماضين ومؤلفات الإمام ابن تيمية تجد أكثرها ردوداً كمنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، والاستقامة، والجواب الصحيح، والرد على البكري، ونقض التأسيس وهكذا. وإن من أبرز مزايا الدعوة الإصلاحية لأئمة الدعوة النجدية الرد على المخالف من أهل البدع، فلله درهم كم كشفوا من شبهة وفندوا من بدعة، وحموا من جناب التوحيد، وكسروا من شوكة كل مبتدع عنيد) (2)
وقد ذكر أن له سنة بسلفه الصالح من الأولين، ومواقفهم من أهل البدع، وحكى للاستدلال على ذلك عن أبي صالح الفراء قال: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن، فقال: ذاك أستاذه – يعني الحسن بن حي – فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ فقال: لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم، كان أضر عليهم (3).
وذكر من أسباب بدعية جماعة التبليغ وكفرها الأسباب التالية (4):
__________
(1) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 5.
(2) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 6.
(3) سير أعلام النبلاء (7/ 364)
(4) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 9، فما بعدها.
كلكم كفرة (398)
1 ـ وقوعها في نواقض الإيمان المرتبطة بتوحيد الألوهية، (وهي الدعوة التي من أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وخلق الثقلان.. وهي وإن ذكرت من أصولها الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله ومحمد رسول الله) إلا أنها من أبعد الناس عنها، وذلك أن التوحيد الذي يعتنون به هو توحيد الربوبية الذي أقر به كفار قريش، ولم يدخلهم في الإسلام دون توحيد الألوهية الذي من أجله أرسلت الرسل) (1)
2 ـ أن في مركزهم الرئيس في الهند والسودان قبوراً، وكذا بجوار مركزهم الرئيس في رائي وند بالباكستان، وقد ذكر هذا من خبرهم وعايشهم ثمان سنوات الشيخ المعروف سعد الحصين (2).
3 ـ أن أكابر المنتسبين إليها على عقائد شركية وبدعية، ومع ذلك ما زالوا من أكابرهم فهذا يدل دلالة واضحة على أن الجماعة لا تبالي بتوحيد العبادة، قال الأستاذ سيف الرحمن بن أحمد الدهلوي: (إن أكابر أهل التبليغ يرابطون على القبور، وينتظرون الكشف والكرامات والفيوض الروحية من أهل القبور، ويقرون بمسألة حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياة الأولياء حياة دنيوية لا برزخية مثل ما يقر القبوريون بنفس المعنى) (3) ـ وقد نقل الشيخ حمود التويجري شهادات سبعة أشخاص مع تواقيعهم أن هذه الجماعة عندها كفريات وبدع (4).
4 ـ أنك إذا جالست أفراد هذه الجماعة رأيت تفسيرهم للكلمة الطيبة بما يتعلق بتوحيد الربوبية دون الألوهية. و(كون هذه الجماعة لا تهتم بالتوحيد كافٍ في اسقاطهم عند الموحدين السائرين على طريقة النبيين والمرسلين، ذلك لأن دعوة الأنبياء والمرسلين هي
__________
(1) انظر كتاب الصفات الستة عند جماعة التبليغ ص 22،28، القول البليغ ص 8، 205،
(2) انظر القول البليغ ص 12 وكتاب الصفات الستة ص 81.
(3) القول البليغ ص 12 - 14.
(4) القول البليغ ص 187 - 190
كلكم كفرة (399)
الدعوة إلى إفراد الله سبحانه بالعبادة دون أحد سواه فمن خالفهم في الدعوة فليس من أتباعهم الناجين) (1)
5 ـ أن هذه الجماعة أعدت لأتباعها من العجم كتاب [تبليغي نصاب]، وفيه الدعوة الصريحة إلى طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا (كما يقرر علماؤنا شرك أكبر محبط للعمل ومخرج من الملة، فبإعدادهم لهذا الكتاب والحث عليه، بل وتوزيعه، تكون جماعة التبليغ قد أدانت بأنها ليست مهملة لدعوة التوحيد فحسب، بل هي داعية شرك) (2)
6 ـ أن هذه الجماعة قد انغمست في البدع المختلفة، فهم يبايعون العجم ومن يثقون به من العرب على الطرق الصوفية المبتدعة الأربعة الجشتية والنقشبندية والقادرية والسهروردية.
7 ـ أن في كتابهم المعد لأتباعهم من العجم [تبليغي نصاب] من البدع المهلكة الكثير، ومنها (الحث على السفر إلى المدينة النبوية بقصد زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد الحج بدليل (من حج فلم يزرني، فقد جفاني)، وهذا الفعل بدعة والحديث موضوع.. ومنها الحث على التوجه لقبره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء الآتي (يا رسول الله أسألك الشفاعة) (3).. وغيرها كثير.
8 ـ لا يهتم التبليغيون بالعلم، وليس عندهم في مناهجهم العلم بمعناه الحق- معرفة أحكام الشرع بأدلته- والدراسة على العلماء فهم مفرطون في شرط العبادة الثاني، وهو المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلأجل عدم اهتمامهم بالعلم وقعوا في بدع كثيرة في باب العبادات زيادة على ما سبق ذكره من البدع.
9 ـ من أصول هذه الجماعة الخروج، وهو السفر للدعوة إلى الله، وهذا الأصل محمود
__________
(1) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 9.
(2) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 10.
(3) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 10.
كلكم كفرة (400)
مطلوب موجود عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن على غير طريقة التبليغيين، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلملم يكن يرسل إلا العلماء فلم يرسل غيرهم للدعوة إلى الله مع وجود المقتضي والحاجة في زمانه وانتفاء المانع، وما كانت هذه صورته فحكمه بدعة في الشريعة.. (فنخلص من هذا أن إرسال الجهال للدعوة إلى الله من جملة البدع) (1)
10 ـ أن مؤسس هذه الجماعة هو محمد إلياس بن محمد بن إسماعيل الكاندهلوي الديوبندي الحنفي مذهباً الأشعري الماتريدي عقيدة الصوفي طريقة، أخذ البيعة الصوفية على يد الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، ثم جددها بعد موت الشيخ رشيد على يد الشيخ أحمد السهارنفوري الذي أجازه في مبايعة غيره على النهج الصوفي المعروف.
وقد كان محمد إلياس يجلس في الخلوة عند قبر الشيخ نور محمد البدايوني وفي المراقبة الجشتية عندقبر قدوس الكنكوهي الذي كانت تسيطر عليه فكرة وحدة الوجود (2).
وقال الشيخ سيف الرحمن عن محمد إلياس: (هو الحنفي مذهباً والصوفي مشرباً قليل البضاعة العلمية غير شهير فيها لكن كان قوي الحماس للدعوة إلى الدين الإسلامي – بل إلى الدين الصوفي – وإلى المسلك التصوفي الطرقي) (3)
وهو يرد على بعض السلفيين الذين ـ في تصوره ـ انخدعوا بهم بقوله: (في كلام هؤلاء الأجلة رد على أولئك التبليغيين الموجودين في جزيرة العرب الزاعمين أن محمد إلياس داعية سلفي يدعو إلى توحيد الألوهية ونبذ الشرك بالله. فانظر إلى أي مدى بلغ التلاعب بعقول الناس؟ وإلى أي حد بلغ التدليس والكذب؟.. فهل يوجد سلفي موحد يقر كتاب (تبليغي نصاب) المتضمن للشركيات والبدع؟ وهل يوجد سلفي يبايع على الطرق الصوفية
__________
(1) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 10.
(2) كتاب حقيقة الدعوة إلى الله تعالى ص 75
(3) كتاب نظرة عابرة اعتبارية حول جماعة التبليغ ص 7،8.
كلكم كفرة (401)
وهكذا أتباعه من بعده) (1)
وقد رد الكاتب على الشبهة التي يستند إليها بعض السلفيين، وبسببها لا يقول بكفرهم، وهي أن (ما سبق ذكره إنما هو في حق التبليغيين الموجودين في الهند والباكستان، أما التبليغيون الموجودون في جزيرة العرب والدول العربية أصحاب العقيدة السلفية فلا ينطبق عليهم هذا التحذير وهم على خير) (2)
وقد رد على هذه الشبهة بقوله: (وهذه الشبهة تضمنت حقاً وباطلاً؛ أما كون هؤلاء ليسوا كأولئك إذ هم على عقيدة سلفية صحيحة فهذا حق فيمن كان كذلك، لكن ليس معنى هذا أنهم في الدعوة ليسوا على طريقة بدعية، وأيضاً المستمر منهم مع هؤلاء التبليغيين موافق لهم على عدم إنكار الشرك؛ لأن من أصولهم عدم إنكار المنكر أياً كان، بل وسيوالي التبليغيين الهنود والباكستانيين المبتدعة الواقعين في الشرك؛ لأنهم من جماعته فتراه يحضر اجتماعهم السنوي، ويخرج معهم للدعوة على هذه الطريقة الضالة، فهم بهذا على خطر عظيم وطريق غير مستقيم) (3)
النموذج الثاني كتاب [القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ]
وهو لمؤلفه الشيخ حمود بن عبد الله بن حمود التويجري (1334 - 1413 هـ)، وهو من كبار مشايخ السلفية المعاصرين، وقد تتلمذ على يديه الكثير منهم، من أمثال الشيخ سفر الحوالي، والشيخ سليمان العودة، والشيخ ربيع المدخلي، والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.. وغيرهم من المشايخ.
ومن مزايا هذه الشخصية السلفية ـ والتي خولها له عدم توليه لأي مناصب حساسة
__________
(1) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 12.
(2) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 12.
(3) الإمام ابن تيمية وجماعة التبليغ، ص 12.
كلكم كفرة (402)
ـ صراحته الشديدة، وتبعيته المطلقة للسلف الأول من غير استعمال أي تقية.. وقد لاحظنا هذا فيما استعرضنا من كتبه في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة ذلك، ككتاب [إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية]، و[تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران]، و[إقامة الدليل على المنع من الأناشيد الملحنة والتمثيل]، و[الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة]، و[عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان مقربا من علماء السلفية الكبار، كالشيخ ابن باز الذي قدم له الكثير من كتبه، وغيره.. وهو لذلك محل ثقة كبيرة لدى السلفيين، بل إن ثناءهم عليه وعلى صدقه في سلفيته يتجاوز ثناءهم على ابن باز وغيره ممن يتصور السلفية أن المناصب قد غيرتهم ولينتهم، كما ذكرنا بعض الأمثلة على ذلك سابقا.
وقد اخترناه من بين الكثير من الكتب المؤلفة في تكفير جماعة التبليغ، لكونه يمثل صورة واضحة دقيقة عن المنهج السلفي في النقد والتكفير، والذي يتجاوز كل حدود المنهج العلمي.. فالكاتب لم يكلف نفسه بالرحلة إلى علماء هذه الجماعة، وسؤالهم، وإنما اكتفى بالكثير من القصص التي سمعها من ثقاة كما يذكر.. ثم بنى عليها كل ذلك البنيان.. وهو منهج سلفه الأول في التسرع في الأحكام على الناس من خلال القصص والحكايات.
ولهذا فإن هذا الكتاب مع كبر حجمه، مقارنة بالقضية التي طرحها، مملوء بالقصص والحكايات عن أفراد جماعة التبيلغ، فهو ينطلق من الفرد ليحكم على المجموع.. وهذا منهج سلفي معتمد يطبقونه مع خصومهم، ولا يرضون لخصومهم أن يطبقوه معهم.
وكمثال على ذلك قوله بعد إيراد بعض القصص: (.. وفي قصتهم مع فاروق حنيف أوضح دليل على أن إكرام المسلم المتمسك بالسنة لا وجود له عند التبليغيين.. ويدل على ذلك أيضاً بغضهم وعداوتهم لشيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب،
كلكم كفرة (403)
ومحاربتهم لكتبهم، وتمنيهم إحراقها وإزالتها عن وجه الأرض.. وقد تقدم في القصة الثالثة عشرة أن طائفة من التبليغيِّين اعتدوا على الحسامي لما تكلَّم في بيان التوحيد والتحذير من الشرك.. وتقدم في القصة الرابعة عشرة أنهم أنكروا على اليربوزي لما تكلَّم في بيان التوحيد، وقالوا له: إنَّك تفسد عقول المسلمين بآراء ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب!! ثم طردوه من مجتمعهم، وطردوا معه جميع الذين ينتسبون إلى السنة)
وبعد أن ساق هذه الاستدلالات العجيبة، راح يستنتج منها هذه النتجية الخطيرة: (فلتتأمل هذه القصص؛ ففيها دليل على بغض التبليغيِّين للسنة وأهلها، وفي اعتدائهم على بعض أهل السنة، وإهانتهم، وطردهم من مجتمعاتهم؛ دليل على أن إكرام المسلم المتمسك بالسنة لا وجود له عند التبليغيِّين، وأنهم إنما جعلوا إكرام المسلم أصلاً من أصول بدعتهم؛ ليصيدوا به السذَّج الذين ينخدعون لظواهر أقوالهم التي يُراد بها الخديعة للأغبياء واستدراجهم إلى قبول البدع والجهالات والإِعراض عن السنة وأهلها) (1)
بناء على هذا سأسوق هنا ـ باختصار ـ بعض الوجوه التي كفرهم على أساسها، وهي نفسها التي يذكرها غيره، ولكنا اعتمدنا على ما ذكره هنا بناء على ثقتهم فيه، بخلاف غيره ممن وقع فيه الخلاف.
الوجه الأول وقوعهم في نواقض الإيمان المرتبطة بالتوحيد
كعادة السلفية في التركيز على ما يسمونه [التوحيد] بأنواعه الثلاثة، وخاصة توحيد الألوهية، واعتباره الأساس الأول للدين، وحصره في التوسل والاستغاثة وزيارة الأضرحة ونحوها، فإن أول ما بدأ به الشيخ التويجري تكفيره لجماعة التبليغ هو وقوعهم في هذا النوع من الشرك، قال في ذلك: (أما جماعة التبليغ؛ فإنهم جماعة بدعة وضلالة، وليسوا على الأمر الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وإنما هم على
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 56.
كلكم كفرة (404)
بعض طرق الصوفية ومناهجهم المبتدعة.. وقد ذكر العلماء العارفون بجماعة التبليغ كثيرا مما هم عليه من البدع والخرافات والضلالات وأنواع المنكرات وفساد العقيدة، ولا سيما في توحيد الألوهية؛ فهم في هذا الباب لا يزيدون على ما كان عليه أهل الجاهلية الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم إنَّما يقرون بتوحيد الربوبية فقط كما كان المشركون من العرب يقرون بذلك، ويفسرون معنى (لا إله إلا الله) بمعنى توحيد الربوبية، وأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر للأمور، وقد كان المشركون يقرون بهذا التوحيد؛ كما ذكر الله ذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن، ولم ينفعهم ذلك، ولم يدخلوا به في الإسلام. وقد جهل التبليغيون معنى (لا إله إلا الله) على الحقيقة، وهوأنه المستحقُّ للعبادة دون ما سواه، فيجب إفراده بجميع أنواع العبادة، ولا يجوز صرف شيء منها لغيره، ومن صرف منها شيئا لغيره؛ فقد جعل ذلك الغير شريكا له في الألوهية، ومن خفي عليه هذا المعنى؛ فهومن أجهل الناس، ولا خير فيه) (1)
ومن الأدلة التي استدل بها على وقوعهم في هذا النوع من الشرك قوله: (وللتبليغيين مسجد ومركز رئيسي في دلهي، يشتمل على أربعة قبور في الركن الخلفي للمصلَّى، وهذا شبيه بفعل اليهود والنصارى، والذين اتَّخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وقد لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الصنيع، وأخبر أنهم من شرار الخلق عند الله) (2)
ويؤكد تويجري كلامه هذا بما نقله عن الأستاذ سيف الرحمن بن أحمد الدهلوي من أن (أكابر أهل التبليغ يرابطون على القبور، ويقرون بمسألة حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياة الأولياء حياة دنيوية لا برزخية مثل ما يقر القبوريون بنفس المعنى، ويأتي شيخهم الشيخ زكريا -شيخ الحديث عندهم وبمدرستهم ببلدة سهارنفور بالهند- يأتي إلى المدينة المنورة، ويرابط
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 7.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 7.
كلكم كفرة (405)
عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجانب الشرقي من القبر ونحو الأقدام الشريفة، ويذهب في المراقبة عدة ساعات؛ كما شاهده الكثيرون) (1).
ونقل عنه (ثمانية أبيات بلغة الهنود، وقد ترجمت إلى العربية، وذكر أنها لمؤلف من التبليغيين، وقد اشتملت على الشرك الأكبر، وذلك بصرف خالص حق الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولقبح ما فيها من الشرك تركت إيرادها) (2)
هذا بالنسبة لوقوعهم في النواقض المرتبطة بتوحيد الألوهية، والتي لا يشك أي سلفي في كفر من وقع فيها، بل إننا لو طبقنا مقولاتهم في تكفير من لم يكفر ـ كما يذكر الشيخ ابن عبد الوهاب وتلاميذه ـ لاعتبرنا السلفية المتوقفين في التكفير من جملة هؤلاء الكفرة.
وهكذا الأمر بالنسبة لما يسمونه [توحيد الأسماء والصفات]، فقد ذكر التويجري أن (التبليغيين فيه أشعرية وماتريدية، وهما من المذاهب المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة) (3)، بل هي من المذاهب المكفرة عندهم ـ بما فيها قول التويجري نفسه ـ كما ذكرنا ذلك سابقا.. ويكفي نفيهم للعلو، ليضعهم في زمرة الكفرة كما يقرر جميع السلفية.
الوجه الثاني وقوعهم في نواقض الإيمان المرتبطة بالولاء والبراء
ذكرنا سابقا أن السلفية لا يكتفون بتكفير من وقع في الكفر، بل يضمون إليه وجوب تكفيره، ومن لم يفعل لا يعتبرونه آثما أو مقصرا فقط، بل يعتبرونه كافرا أيضا حتى لو قام بكل التكاليف التي يتطلبها منه الإسلام.
وبما أن جماعة التبليغ جماعة دعوية، وهي تبتعد عن كل الوسائل التي تنفر من تدعوهم، فقد جعلها ذلك ـ كما يرى السلفية ـ تقصر في الحكم على الكفرة بكونهم كفرة..
__________
(1) نظرة عابرة اعتبارية حول الجماعة التبليغية، ص 47.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 7.
(3) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 8.
كلكم كفرة (406)
وكأنهم يطلبون منها عند لقائها بأي كافر ـ بدل أن تركز حديثها معه على دعوته إلى الله ـ إلى الحكم بكفره، لينفر بذلك نفورا تاما.
وقد نقل الشيخ التويجري ـ للاستدلال على كفر جماعة التبليغ بهذا السبب ـ ما قاله الأستاذ سيف الرحمن بن أحمد الدهلوي عنهم وأن (من أصولهم تعطيل جميع النصوص الواردة في الكتاب والسنة بصدد الكفر بالطاغوت وبصدد النعي عن المنكر تعطيلاً باَتاً.. ومن أصولهم: التجنُّب بشدة بل المنع بعنف من الصراحة بالكفر بالطاغوت، ومن الصراحة بالنهي عن المنكر، وتعليل ذلك بأنه يورث العناد لا الصلاح..) (1)
ثم راح ـ كما يفعل السلفية في العادة ـ إلى تطبيق ما ورد من القرآن الكريم في حق المشركين إلى تحويله إلى المؤمنين، فقال: (ولا يخفى ما في أصولهم المذكورة ها هنا من المعارضة للقرآن والسنة: لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].. وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].. والآيات والأحاديث في الحثِّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعيد الشديد على تركهما كثيرة جداً) (2)
وبعد إيراده لهذه الآيات وغيرها، وما قال فيها مفسرو السلف، قال: (ثم إن التبليغيين لم يقتصروا على ترك الصراحة بالكفر بالطَّاغوت، بل ضموا إلى ذلك ما هو شر منه، وهوالتجنُّب بشدة والمنع بعنف من الصراحة بالكفر بالطاغوت، وتعطيل جميع النصوص الواردة في الكتاب والسنة بصدد الكفر بالطاغوت، وهذا من زيادة ارتكاسهم
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 13.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 14.
كلكم كفرة (407)
في الغي والضلال.. وأما تركهم الصراحة بالنَّهي عن المنكر، وتجنُّبهم ذلك بشدة، ومنعهم منه بعنف، وتعطيلهم جميع النصوص الواردة في الكتاب والسنة بصدد النهي عن المنكر؛ فهو من أوضح الأدلَّة على زيغهم، وفساد معتقدهم، وسلوكهم طريق الغي والضلال الذي ذكره الله عن العصاة من بني إسرائيل، وذمهم على ذلك، ولعنهم) (1)
بل إنه لم يكتف بتشبيههم ببني إسرائيل، بل راح يعتبرهم أضل منهم، فقال ـ تعليقا على بعض ما أورده من الأحاديث ـ (وفي هذا الحديث أبلغ رد على التبليغيين الذين لا يبالون بالنهي عن المنكر ولا يعدونه من واجبات الإسلام، وقد زادوا على ما ذكره الله عن بني إسرائيل بزيادات من الغي والضلال، وهي تجنُّبهم الصراحة بالنهي عن المنكر بشدة، ومنعهم من ذلك بعنف، وتعطيلهم جميع النصوص الواردة في الكتاب والسنة بصدد النهي عن المنكر. وفي هذا أوضح دليل على مخالفتهم لطريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة) (2)
ومن العجيب أن هذا الوجه الذي كفر التويجري على أساسه جماعة التبليغ، هو نفسه الذي كفر السلفية على أساسه الإخوان المسلمين وغيرهم من الذين يذكرون أن هدفهم هو الوقوف في وجه الطاغوت.. فمن وقف في وجه الطاغوت عندهم كافر بسبب رميه بالخروج.. ومن سكت كافر لتشبهه ببني إسرائيل.
هذا فيما يتعلق بوقوع جماعة التبليغ في نواقض الإيمان المرتبطة بالبراء.. أما نواقضه المرتبطة بالولاء، فهي ـ كما يذكر التويجري ـ طعنهم في السلفية.. لأن الطعن فيهم طعن في عقائدهم.. والطعن في عقائدهم كفر.
يقول التويجري: (وأي خير يرجى من أناس لا يعرفون توحيد الألوهية، ولا يرون
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 15.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 16.
كلكم كفرة (408)
الكفر بالطَّاغوت، ولا يرون النهي عن المنكر، ويعادون أئمة العلم والهدى من أهل التوحيد وأنصار السنة، وخصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، ويحاربون كتبهم المشتملة على تقرير التوحيد والدعوة إليه وإلى إخلاص العبادة لله وحده وعلى النهي عن الشرك وذرائعه وعن البدع والخرفات وأنواع الضلالات والمنكرات؟! وقد حصل من بعض أكابرهم السب القبيح في كتبهم لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب.. وحصل من بعض أمرائهم إحراق مجموعة التوحيد المسماة ب (الجامع الفريد) لما أهداها له بعض الخارجين معه، وكان المهدي للكتاب يظن أن الأمير يسر بهذه الهدية الثمينة، فكانت المقابلة على حسن الصنيع بالمنكر الفظيع، وهو إحراق كتب التوحيد، عامل الله هذا الأمير والذين يسبون شيخ الإسلام بعدله. وأيضاً؛ فأي خير يرجى من الانضمام إلى أناس يرابط أكابرهم على القبور، وينتظرون الكشف والكرامات والفيوض من أهل القبور، ويزعمون أن لأكابرهم حظّاً من مجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظة لا مناماً؟! وأيضاً؛ فأي خير يرجى من الانضمام إلى أناس قد جعلوا لهم أصولاً من أصول الغي والضلال يدعون الناس إليها، ومنها ترك الصراحة بالكفر بالطاغوت والنهي عن المنكر، ومنها تعطيل جميع النصوص الواردة في الكتاب والسنة بصدد الكفر بالطاغوت وبصدد النهي عن المنكر تعطيلاً باتّاً، ومنها التجنُّب بشدة والمنع بعنف من الصراحة بالكفر بالطاغوت ومن الصراحة بالنهي عن المنكر، وتعليل ذلك بأنه يورث العناد لا الصلاح؟!) (1)
ومن القصص التي استدل بها على عداوتهم للسلفية (قصة إحراق [الجامع الفريد]، وفيها دليل على ما يكنُّه التبليغيُّون من بغض العقيدة السلفية وبغض أهل التوحيد وكتبهم ورسائلهم. وقد جاء في مذكرة الشيخ المدني الذي تقدَّمت الإِشارة إليه: أن أحد الثقات السعوديين شهد عنده على عبد الرزاق المصري الصوفي الملقب: الكويتي؛ قال: (وكان لسان
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 27.
كلكم كفرة (409)
جماعة التبليغ، وأشهر قادتها بعد سعيد أحمد الهندي الصوفي؛ شهد عليه أنه أحرق [الجامع الفريد] المشتمل على مجموعة من الكتب والرسائل في بيان التوحيد والدعوة إليه والتحذير من الشرك والبدع، وذلك بمرأى من الشاهد، عندما أهدى الكتاب إلى الصوفي التبليغي؛ ظانّاً أنه يفرح بهذه الهدية الثمينة، فكان الأمر بالعكس، ولم يقتصر التبليغي على كراهته للكتاب وما فيه من أصول السنة، بل بادر إلى إحراقه؛ ليشفي غيظه وحقده على العقيدة السلفية وأهلها؛ بإحراق ما وقع في يده من كتب أهل السنة، ولما رأى السعودي ما فعله الصوفي من مقابلة الهدية بإحراق الكتاب؛ فارقهم، وكانت هذه الحادثة موعظة له وحافزاً على مفارقة التبليغيِّين والبعد عنهم) (1)
ومن القصص التي ذكرها واستدل بها على بغضهم للسلفية [القصة الثالثة عشرة]، وقد ذكرها الشيخ أحمد بن صالح بن ثابت الحسامي في كتاب أرسله إلى بعض المشايخ بتاريخ 21/ 9 / 1393 هـ، وقال فيه: (أحيطكم علماً بما أني ذهبتُ إلى الرياض لزيارة الإِخوان والتجوُّل في المساجد في آخر شهر رجب، حتى ذهبت إلى مسجد المنتزه قرب المطار، وكان مني أن وضحت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كيف بدأ يدعو، وأول ما بدأ في دعوته إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، وحذَّر من جميع ما يعبد من دون الله، فعندما وضحت العقيدة الإِسلامية؛ اعتدى عليَّ مجموعة، منهم أربعة أنفار لا أعرف أسماءهم، وإنما يسمون من جماعة التبليغ، فمسكني أحدهم وقال لي: أنت شيطان ناطق! أنت بضد الإِسلام والمسلمين! أنت تريد تخرب جماعة التبليغ! وأخذوا فيوز المكرفون) (2)
ومن القصص التي ذكرها [القصة الثامنة]، وذكر فيها أن أحد كبار العلماء في المدينة المنورة ألقى موعظة في مسجد التبليغيِّين في المدينة، وهو الذي يسمونه مسجد النور،
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 45.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 49.
كلكم كفرة (410)
فانفضَّ التبليغيُّون، وخرجوا من المسجد، ولم يستمعوا إلى كلامه وموعظته.. وذكر أيضاً أن العالم المشار إليه ألقى موعظة في مسجد صياف في الحرة الشرقية بالمدينة، فانفضَّ التبليغيُّون ولم يستمعوا إلى كلامه وموعظته (1).
ومن القصص التي ذكرها [القصة العاشرة] قصة أحد كبار العلماء في المدينة المنورة، حينما ذهب إلى المقر الرئيسي للتبليغيِّين بدلهي في الهند، وأراد أن يلقي عليهم دروساً في بيان العقيدة السلفية وتوحيد الألوهيَّة والتحذير من الشرك والبدع، وليبيِّن لهم وجوب الكفر بالطاغوت ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأظهروا له الجفاء ومنعوه من الكلام في مقرَّهم، ولما سألهم عن قبر إمامهم محمد إلياس الذي وضع الخطة التبليغيَّة - وكان قبره في زاوية مسجدهم -؟ قالوا: إنه يبعد عن دلهي بمسافة مئة كيلومتر (2).
هذه نماذج عن القصص التي ذكرها، وبسببها اتهمهم ببغض السنة والتوحيد.. وليس لمن يفعل ذلك من حكم سوى الكفر.
الوجه الثالث انتماؤهم للطرق الصوفية
وهذا الوجه وحده كاف لتكفيرهم عند السلفية جميعا، وبدون استثناء، لأن هذا الانتماء يتضمن ـ كما ذكرنا في الفصل السابق ـ كل نواقض الإيمان بحسب تصوراتهم.
يقول التويجري: (وأما باب السلوك؛ فإنهم فيه صوفية، والصوفية من شر أهل البدع.. وقد تعلَّق التبلغيون بأربع طرق من طرق الصوفية، وهي: الجشتية، والسهروردية، والقادرية، والنقشبندية؛ فإلى هذه الطرق الأربع يدعون الأعاجم ويبايعونهم عليها بدون تحفُّظ، ويدعون من انخدع بهم ومال إليهم من جهال العرب وأغبيائهم إلى مبايعة عليها إذا
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 47.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 47.
كلكم كفرة (411)
وثقوا به) (1)
ومن الأكاذيب التي نقلها عنهم من دون تحقيق ولا توثيق هذه الكذبة العظيمة، فقد قال: (وقد ذكر بعض العلماء عن التبليغيين نوعاً آخر من الذكر، وهو أنهم يكررون كلمة (لا إله) ست مئة مرة، ثم يكررون كلمة (إلا الله) أربع مئة مرة. وذكر آخر عن عدد كثير من الرجال أنهم سمعوا جماعة من التبليغيين الهنود وهم في بيت في شارع المنصور بمكة يكررون كلمة (لا إله) نحواً من ست مئة مرة، ثم بعد ذلك يكررون كلمة (إلا الله) نحواً من مئتي مرة، ويقولون ذلك بصوت جماعي مرتفع، يسمعه من كان في الشارع، وذلك بحضرة شيخ من كبار مشايخهم الهنود، وقد استمر فعلهم هذا مدة طويلة، وكانوا يفعلون ذلك في الشهر مرتين: مرة في نصفه، ومرة في آخره) (2)
وقد علق على هذا بقوله: (ولا شك أن هذا من الاستهزاء بالله وبذكره، ولا يخفى على من له علم وفهم أن فعلهم هذا يتضمن الكفر ست مئة مرة؛ لأن فصل النفي عن الإثبات في قول (لا إله إلا الله) بزمن متراخ بين أول الكلمة وآخرها على وجه الاختيار يقتضي نفي الألوهية عن الله تعالى ست مئة مرة، وذلك صريح الكفر، ولوأن ذلك وقع من أحد مرة واحدة؛ لكان كفرَا صريحَا؛ فكيف بمن يفعل ذلك ست مئة مرة في مجلس واحد؟! ثم إن إتيانهم بكلمة الإثبات بعد فصلها عن كلمة النفي بزمن متراخٍ لا يفيدهم شيئاً، وإنما هوالتلاعب بذكر الله والاستهزاء به. وهذا المنكر القبيح والضلال البعيد من نتائج تقليدهم لشيوخهم، شيوخ السوء والجهل والضلال، الذين أغواهم الشيطان، وزين لهم ما كانوا يعملون) (3)
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 9.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 9.
(3) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 9.
كلكم كفرة (412)
وهكذا، وبثقة شديدة، وبدون استعمال أي وسائل للتحقيق والتحري يحكم عليهم هذه الأحكام الشديدة.. وهو أنهم يكفرون ليس مرة واحدة، وإنما 600 مرة.
ومن الحكايات التي ذكرها في هذا، واستدل بها على كفره (ما ذكره بعض العلماء عن التبلغيين أيضاً أن رجلا ً من طلبة العلم خرج معهم من مدينة الحناكية، وأميرهم أحد رؤساء جماعة التبليغ، وفي أثناء الليل رأى أحدهم يهتز ويقول: هو، هو، هو! فأمسكه، فترك الحركة وسكت، وفي الصباح أخبر أميرهم بما فعله الهندي الصوفي التبليغي، فأنكر الأمير على طالب العلم إنكاره على التبليغي، وقال له بغضب شديد: أنت صرت وهابيًّا، والله؛ لوكان لي من الأمر شيء؛ لأحرقت كتب ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهّاب، ولم أترك على وجه الأرض منها شيئًا! ففارقهم طالب العلم حين سمع منه هذا الكلام السيئ؛ لأنه عرف عداوتهم لأئمة العلم والهدى من أهل التوحيد وأنصار السنة، وعرف محاربتهم لكتبهم المشتملة على تقرير التوحيد والدعوة إليه وإلى إخلاص العبادة لله وحده، والنهي عن الشرك والبدع والخرافات وأنواع الضلالات والمنكرات، والتحذير منها ومن أهلها) (1)
وذكر التويجري من أورادهم أيضا [دلائل الخيرات]، و(البردة) و(القصيدة الهمزية)، (وفيهما من الشرك والغلوِّ ما هو معروف عند أهل العلم من أهل التوحيد) (2)
وذكر من كتبهم كتاب [حياة الصحابة] لمحمد يوسف الكاندهلوي، (وهو مملوء بالخرافات والقصص المكذوبة والأحاديث الموضوعة والضعيفة، وهو من كتب الشر والضلال والفتنة) (3)
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 10.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 11.
(3) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 11.
كلكم كفرة (413)
وهكذا لم يرحم السلفية جماعة التبليغ مع تعظيمهم للصحابة، ومبالغتهم في شأنهم، وهذا أكبر دليل على أن مواقف السلفية من الأمة جميعا واحدة.. سواء من عظم منهم الصحابة، أو من لم يعظمهم.. لأن قاعدتهم هي (من لم يكن معنا فهو ضدنا)
لم يكتف التويجري بتلك الحملة الشديدة على جماعة التبليغ بسبب مواقفها العقدية، أو خلافاتها مع السلفية، بل راح يستعمل سلاح التنفير عنهم بربطهم الشيعة، لأنه يعلم العداوة الشديدة التي يكنها السلفية للشيعة.. والتي نقلوها إلى سائر الأمة.
وقد لخص التويجري ما ذكره سيف الرحمن بن أحمد في كتابه من مشابهة التبليغيين للشيعة، وحكم عليهم على أساساسهم بكونهم منهم، كما قال: (من تشبه بقوم؛ فهو منهم) (1)
فمن تلك الوجوه (أن لهم الشبه بالشيعة في إخفاء السم في الدسم.. ولهم الشبه بالشيعة في إخفاء ما في كتبهم.. ولهم شبه بالشيعة في إخفاء كثير من عقائدهم المبعدة في الغلو وفي التطرُّفات والخرافات النائية.. ولهم شبه بالشيعة بالتقية باسم الحكمة والاحتياط، حيث إنهم يظهرون شيئاً ويخفون شيئاً، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون شيئاً ويفعلون شيئاً، وينادون بالدعوة إلى الإجماعيات، ويتحمسون لكثير من الخلافيات.. ولهم شبه بالشيعة في البغض ونصب العداء لأهل الحق وعقيدة السلف.. ولهم شبه بالشيعة في كثير من التأويلات النائية عن طريق السلف الصالح.. ولهم شبه بالشيعة في قربهم للحكايات والخرافات وتعظيم النسبة إلى أكابرهم وإلى مشايخهم.. ولهم شبه بالشيعة في بعدهم عن النصوص وعن الظلم بالنصوص -نصوص الكتاب والسنة-؛ فالذاكر الشيعي على العموم جاهل، وهذا التبليغي كذلك على العموم جاهل.. ولهم شبه بالشيعة في تحديد
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 18.
كلكم كفرة (414)
علمهم وعلم طائفتهم في كتبهم المعروفة عندهم دون غيرها من الكتب ودون غيرهم من علماء المسلمين.. ولهم شبه بالشيعة بمنع اتباعهم عن البحث وطلب الحق عند غيرهم.. ولهم شبه بالشيعة؛ بجعل معظم الدين محصوراً في المناقب والمثالب وتعظيم الأكابر.. ولهم شبه بالشيعة في المقدرة على المغالطات والمبالغات.. ولهم شبه بالشيعة في المقدرة على النفاق وإظهار التوحيد وإخفاء الإشراك، بل النداء بالتوحيد وترويج الإشراك) (1)
وقد علق التويجري على هذا وغيره بقوله: (ولقد صدق من قال: إن يهود هذه الأمة هم الشيعة، وإن يهود أهل السنة هم المقلدون الجامدون، وخاصة أمثال هؤلاء التبليغيين الذين يناصرون الجهلة التقليد الجامد وعبادة الكبراء وتعظيمهم والخضوع لهم، ويروجون البدعة في المسلمين، ويوجبون على المسلمين مالم يوجبه الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه الله ورسوله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من وقَّر صاحب بدعة؛ فقد أعان على هدم الإسلام) (2)
مثلما وقف السلفيون في وجه كل الحركات والجماعات التي تمارس العمل الدعوي بعيدا عن السياسة ما دامت لا تنتهج نهجها، ولا تسلك سبيلها، فإنها كذلك وقفت في وجه كل الحركات التي تنتهج العمل السياسي كوسيلة من وسائل الدعوة والتغيير، مثلما تنتهج غيره من الوسائل.
وبما أن جماعة الإخوان المسلمين هي أكبر وأقدم جماعة تنتهج هذا المنهج، فقد توجهت الحرب السلفية إليها مبكرا..
فقد قال الشيخ أحمد شاكر (1892 م - 1958 م) في كتابه [شؤون التعليم والقضاء]: (حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه المسلمين الذين قلبوا الدعوة الاسلامية إلى
__________
(1) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 19.
(2) القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ، ص 20.
كلكم كفرة (415)
دعوة إجرامية هدامة ينفق عليها الشيوعيون واليهود كما نعلم ذلك علم اليقين) (1)
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (حركة الإخوان المسلمين ينتقدها خواص أهل العلم؛ لأنه ليس عندهم نشاط في الدعوة إلى توحيد الله وإنكار الشرك وإنكار البدع، لهم أساليب خاصة ينقصها عدم النشاط في الدعوة إلى الله، وعدم التوجه إلى العقيدة الصحيحة التي عليها أهل السُنة والجماعة. فينبغي للإخوان المسلمين أن تكون عندهم عناية بالدعوة السَلفية، الدعوة إلى توحيد الله، وإنكار عبادة القبور، والتعلق بالأموات والاستغاثة بأهل القبور كالحسين أوالحسن أو البدوي، أو ما أشبه ذلك، يجب أن يكون عندهم عناية بهذا الأصل الأصيل، بمعنى لاإله إلا الله، التي هي أصل الدين، وأول ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مكة دعا إلى توحيد الله، إلى معنى لا إله إلا الله، فكثير من أهل العلم ينتقدون على الإخوان المسلمين هذا الأمر، أي: عدم النشاط في الدعوة إلى توحيد الله، والإخلاص له، وإنكار ما أحدثه الجهال من التعلق بالأموات والاستغاثة بهم، والنذرلهم والذبح لهم، الذي هو الشرك الأكبر، وكذلك ينتقدون عليهم عدم العناية بالسُنة: تتبع السُنة، والعناية بالحديث الشريف، وماكان عليه سلف الأمة في أحكامهم الشرعية، وهناك أشياء كثيرة أسمع الكثير من الإخوان ينتقدونهم فيها، ونسأل الله أن يوفقهم ويعينهم ويصلح أحوالهم) (2)
وسئل الشيخ مقبل بن هادي الوادعي: (هل الإخوان المسلمون يدخلون تحت مسمى الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة منهجًا وأفرادًا أم لا؟)، فأجاب: (أما المنهج فمنهج مبتدع من تأسيسه ومن أول أمره، فالمؤسس كان يطوف بالقبور وهو حسن البنا، ويدعو إلى التقريب بين السنة والشيعة، ويحتفل بالموالد، فالمنهج من أول أمره منهج مبتدع ضال، أما الأفراد فلا نستطيع أن نجري عليهم حكماً عاماً، فمن كان
__________
(1) شؤون التعليم والقضاء ص 48.
(2) مجلة (المجلة) عدد 806..
كلكم كفرة (416)
يعرف أفكار حسن البنا المبتدع ثم يمشي بعدها فهو ضال، ومن كان لا يعرف هذا ودخل معهم باسم أنه ينصر الإسلام والمسلمين ولا يعرف حقيقة أمرهم فلسنا نحكم عليه بشيء، لكننا نعتبره مخطئاً، ويجب عليه أن يعيد النظر حتى لا يضيع عمره بعد الأناشيد والتمثيليات، وانتهاز الفرص لجمع الأموال) (1)
وقال: (الإخوان المسلمون شيعة في مسألة الإمامة، ومعتزلة في مسألة الرأي، وخوارج في معاملة الحكام) (2).
وقال: (بعض الذين اتخذوا منهجاً على الجهل والهوى يقحمون أنفسهم في التصويتات والإنتخابات واللفلفة يجمع لا يفرق بين الصوفي والسني والشيعي المهم أن تكون معنا حتى لو كانت الكلاب والحمير تدلي بأصواتها لدعوها تدلي بأصواتها معهم) (3)
وسئل الشيخ صالح الفوزان: (ما حكم وجود مثل هذه الفرق: التبليغ، والإخوان المسلمين، وحزب التحرير، وغيرها في بلاد المسلمين عامة؟)، فأجاب: (هذه الجماعات الوافدة يجب ألاّ نتقبلها لأنها تريد أن تنحرف بنا وتفرقنا وتجعل هذا تبليغياً وهذا إخوانياً وهذا كذا...،لِمَ هذا التفرق! هذا كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى، ونحن على جماعةٍ واحدة وعلى بينةٍ من أمرنا، لماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير! لماذا نتنازل عما أكرمنا الله سبحانه وتعالى به من الاجتماع والألفة والطريق الصحيح، وننتمي إلى جماعات تفرقنا وتشتت شملنا، وتزرع العداوة بيننا! هذا لا يجوز أبداً) (4)
ويقول الشيخ ربيع المدخلي: (.. معلوم أنّ من منهج الإخوان حرب العقيدة السلفية، فهذا السلفي الذي يقول أنا سلفي، إذا قال أنا سلفي العقيدة إخواني المنهج أو
__________
(1) تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب، السؤال 77.
(2) كتاب البشائر في السماع المباشر.
(3) أسئلة الطائف من الأجوبة السديدة في فتاوى العقيدة ص 30 - 31.
(4) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة، من إجابات الشيخ صالح الفوزان.
كلكم كفرة (417)
تبليغي المنهج فهو ينادي على نفسه بأنّه يحارب المنهج السلفي والعقيدة السلفية، فهي من الحيل الحزبية والسياسية التي أشاعها التبليغ والإخوان وفرّقوا بين العقيدة والمنهج للتلاعب بعقول السلفيين خاصّة) (1)
بناء على هذا سأذكر هنا نموذجين من الكتب المؤلفة في تكفيرهم.. وهي قليل من كثير تمتلئ به المكتبات والمواقع.
النموذج الأول كتاب [إثبات فساد منهج ودعوة حسن البنا وجماعة الإخوان وأنها ليست على منهج السلف الصالح]
وهو كتاب ضخم ينتشر بكثرة على مواقع الويب، ويتميز بجمعه لكل ما يذكره السلفيون من انتقادات للإخوان المسلمين، وهي لا تحمل إلا على التكفير، وعبارات الكاتب فيها واضحة جدا، ولكنه ـ بغية الفرار من وصم التكفير ـ يتكلف لذلك بمثلما يتكلف به أصحاب المنهج التكفيري الخفي، وأنه لا يكفرهم.. وهو في ذلك يمارس المنطق السلفي الذي يخالف جميع منطق الدنيا، حين يقول: كل إنسان فان، وسقراط إنسان.. ولكني لا أقول: إنه فان.. وهكذا نجد الكاتب ـ ككثير من السلفية ـ يقولون: الصوفية والقبورية مشركون، والإخوان صوفية وقبورية.. ولكنا لا نقول إنهم كفار أو مشركون.
وللدلالة على هذا أنقل هنا فهرس الكتاب الذي من خلاله يمكن اكتشاف تكفير الكاتب للإخوان بكل سهولة، حتى لو زعم ـ من باب الحيلة والتقية ـ أنه لا يكفرهم.. لأن تطبيق ما ذكره من صفاتهم لا ينطبق عليه إلا التكفير.. بل تكفير من لم يكفر.
والكتاب يتكون من خمسة عشر بابا، وفي كل باب الفصول الكثيرة، وهي كلها عناوين جاهزة لأحكام خطيرة، ليس لها عند السلفية إلا حكم واحد هو الكفر الجلي.
الباب الأول: حقيقة جماعة الإخوان والبدعة المنكرة الجديدة التي أحدثها حسن
__________
(1) أجوبة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي السلفية على أسئلة أبي رواحة المنهجية ص:42.
كلكم كفرة (418)
البنا، وهل جماعة الإخوان من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة؟
الفصل الأول: الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة الذين هم على منهج السلف الصالح الصحابة رضوان الله عليهم.
الفصل الثاني: حسن البنا ينفي انتماء جماعة الإخوان للفرقة الناجية أهل السنة والجماعة ويسمح ويدعو لضم جميع الفرق الضالة لجماعته لتحقيق هدف الجماعة الأعلى والأسمى.
الفصل الثالث: حسن البنا يأتي ببدعة منكرة جديدة لم يسبقه أحد إليها من قبل: حسن البنا يطبق القاعدة الفاسدة في منهج جماعة الإخوان (يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) مع الفرق الضالة المسلمة المبتدعة: حسن البنا وجماعة الإخوان الضالة يطبقون القاعدة الضالة الأخرى (لا يضر مع الإيمان بدعة) كنتيجة لتطبيقهم القاعدة السابقة المنحرفة
الفصل الرابع: حيلة خبيثة ماكرة تخدع بها وتحتال بها جماعة الإخوان على المسلمين لمساواة الفرق الضالة المبتدعة بأهل السنة السلفيين:
الفصل الخامس: فتوى مهمة للإمام العلامة صالح الفوزان حول البدعة الجديدة المنكرة لحسن البنا:
الفصل السادس: ظروف إنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان وعلاقة ذلك بصوفية حسن البنا:
الفصل السابع: ليس معنى أن جماعة الإخوان تسمح بضم جميع الفرق الضالة أن جماعة الإخوان ليس لها مذهب رسمي؛ فمذهب الجماعة الرسمي هو أنها (جماعة صوفية أشعرية):
الفصل الثامن: السبب الحقيقي والهدف الحقيقي لإنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان الضالة:
كلكم كفرة (419)
الفصل التاسع: هل من الممكن أن يكون هناك سلفي ينتمي لجماعة الإخوان؟!:
الفصل العاشر: الفرق بين كون المسلم سلفي سني وكون المسلم إخواني ينتسب إلى جماعة الإخوان!!
الفصل الحادي عشر: الكذب والخداع والتقية والتلاعب بالألفاظ والمراوغة من أصول جماعة الإخوان لتحقيق هدفها الأعلى والأسمى في النهاية:
الفصل الثاني عشر: أسلوب جماعة الإخوان في الطعن في العلماء السلفيين ومحاولة إسقاطهم عند العوام:
الفصل الثالث عشر: المرحلية في الدعوة:
الفصل الرابع عشر: استغلال جماعة الإخوان لجراحات المسلمين في العالم لكي تنشر نفوذها ولتزيد من أتباعها وأموالها:
الباب الثاني: حسن البنا صوفي وجماعة الإخوان جماعة صوفية:
الفصل الأول: صوفية حسن البنا وموقفه وموقف جماعة الإخوان من توحيد الألوهية ومن بدع الصوفية: حسن البنا صوفي يتفاخر بأنه يطوف ويتبرك بالقبور ويؤدي الحضرة ويداوم الاحتفال بالمولد النبوي المبتدع ويبايع على الطريقة الصوفية الحصافية الشاذلية ويؤسس الجمعية الحصافية التي تحولت لجماعة الإخوان:
الفصل الثاني: نصرة حسن البنا ودعوته لمذهب الفرقة الصوفية الضالة (البدعة الحسنة في الدين) وتسويغ حسن البنا للبدع الإضافية والتَّركية وفتحه باب بدع الصوفية على مصراعيه: الرد على حسن البنا في قوله (البدع الإضافية التَركية محل خلاف بين العلماء):
الفصل الثالث: حسن البنا يضع مذهب الفرقة الصوفية الضالة (البدعة الحسنة في الدين) في نص بيعة أفراد جماعة الإخوان!!
كلكم كفرة (420)
الفصل الرابع: وقوع حسن البنا وجماعة الإخوان (حتى الآن) في البدع الصوفية:
1) إعراض جماعة الإخوان عن العقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح وتوحيد الله تعالى بل تحذير جماعة الإخوان ممن ينشر التوحيد والعقيدة الصحيحة وينهى عن الشركيات بدعوى أنه يفرق الأمة ويفرق وحدة المسلمين:
2) انعكاس حب الصوفية وعدم إنكار شركياتها على حسن البنا نفسه (حسن البنا يخطب بجوار الضريح المنسوب للسيدة زينب ثم لا يقول حرفاً في الإنكار على الشرك بالله من حوله)
3) حسن البنا يهون من التوسل بالأموات والذوات في الدعاء ويجعله من باب الخلاف السائغ:
4) تبني جماعة الإخوان المذهب الصوفي المنحرف (البدعة الحسنة في الدين) وحسن البنا يضعه في أركان بيعة جماعة الإخوان الضالة
5) حسن البنا يداوم على أن يحتفل بالمولد النبوي وينشد بيتاً شركياً كفرياً
6) حسن البنا يُنشد بأنشودة صوفية تتضمن عقيدة الوجود الكفرية مما يدل على جهله المطبق بالعقيدة.
7) حسن البنا يبتدع أوراداً وأذكاراً مبتدعة لجماعته الصوفية جماعة الإخوان
8) حسن البنا وبدعة الذكر الجماعي
9) استخدام الأناشيد الصوفية والتمثيليات بكثرة وكوسيلة دعوية مع استخدام الموسيقى:
10) حسن البنا وبدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
11) ثناء حسن البنا على محمد عثمان الميرغني - الصوفي القبوري السوداني المنادي بعقيدة وحدة الوجود الكفرية –
كلكم كفرة (421)
12) غلو جماعة الإخوان الصوفية في مؤسسها وفي زعمائها والطاعة المطلقة لهم مشابهة للفرقة الصوفية الضالة وللطرق الصوفية الضالة
الفصل الخامس: حسن البنا يستمر على طريقته الصوفية المبتدعة وأورادها المبتدعة المنتسبة لأهل الضلال الصوفية حتى آخر نفس من حياته والعياذ بالله تعالى:
الفصل السادس: حسن البنا ينسب الصوفية لنفسه ولجماعته بنفسه:
الفصل السابع: شبهات حول صوفية حسن البنا والرد عليها:
الرد على الشبهة الأولى حول صوفية حسن البنا:
الرد على الشبهة الثانية حول صوفية حسن البنا:
الفصل الثامن: ظروف إنشاء حسن البنا لجماعة الإخوان وعلاقة ذلك بصوفية حسن البنا:
الفصل التاسع: انعكاس حب الصوفية وعدم إنكار شركياتها والتهاون في توحيد الألوهية على خلفاء حسن البنا وعلى جماعة الإخوان " فخيرهم ساكت عن الشرك ومقر له وإن كان الساكت عن الشرك لا خير فيه ":
الباب الثالث: حسن البنا أشعري وجماعة الإخوان جماعة أشعرية:
تمهيد عن الفرقة الضالة الأشعرية:
الفصل الأول: مذهب حسن البنا في تفويض صفات الله تعالى وموقفه من توحيد الأسماء والصفات:
الرد على حسن البنا الصوفي الأشعري في كذبه على الصحابة والسلف وادعائه أنهم على مذهب الأشاعرة المفوضة في صفات الله تعالى:
كتاب رسالة العقائد لحسن البنا دعوة إلى المذهب الأشعري:
الفصل الثاني: الرد على حسن البنا في سبه وشتمه لمذهب الصحابة في توحيد
كلكم كفرة (422)
الصفات وفي سبه لأهل السنة المؤمنين بتوحيد الصفات وفي كذبه على الصحابة بأنهم أشاعرة مفوضة وفي استخفافه بتوحيد الصفات:
الفصل الثالث: حسن البنا يضع (عقيدة التفويض الأشعرية الفاسدة في صفات الله تعالى) في نص بيعة أفراد جماعة الإخوان!!!
الفصل الرابع: نماذج من الثمرات الخبيثة لعقيدة حسن البنا على قادة جماعة الإخوان من بعده: القرضاوي الأشعري يدافع وينافح عن العقيدة الأشعرية الضالة ويستهين ويستخف بعقيدة الصحابة العقيدة السلفية الصحيحة:
الفصل الخامس: الرد على جماعة الإخوان وحسن البنا حول العقيدة الأشعرية:
الباب الرابع: جماعة الإخوان هي عميلة للرافضة الشيعة وهي طابور خامس للرافضة في بلاد المسلمين وجماعة الإخوان تعتقد بأن المذهب الشيعي الرافضي هو مذهب شرعي إسلامي كالمذاهب الأربعة!!!
الفصل الأول: جماعة الإخوان ابنتها حماس هما عملاء للرافضة والطابور الخامس لهم في بلاد الإسلام وجماعة الإخوان تعتقد أن المذهب الشيعي الرافضي هو مذهب شرعي كالمذاهب الأربعة
الفصل الثاني: الرد على جماعة الإخوان في اتهامها أهل السنة السلفيين بتكفير الشيعة الرافضة الذي يقولون (لا إله إلا الله):
الفصل الثالث: الرد على دعوى جماعة الإخوان الضالة بالتقريب مع الشيعة الرافضة وزعم جماعة الإخوان الضالة بوجود شيعة معتدلين:
الباب الخامس: القاعدة الفاسدة في منهج جماعة الإخوان " يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ":
الفصل الأول: جماعة الإخوان تطبق القاعدة الفاسدة في التوحيد وفي أصول الدين
كلكم كفرة (423)
ومع الفرق الضالة المسلمة المبتدعة وحتى مع غير المسلمين: حسن البنا وجماعة الإخوان الضالة يطبقون القاعدة الضالة الأخرى [لا يضر مع الإيمان بدعة] كنتيجة لتطبيقهم القاعدة السابقة المنحرفة
الفصل الثاني: حيلة خبيثة ماكرة تخدع بها وتحتال بها جماعة الإخوان على المسلمين لمساواة الفرق الضالة المبتدعة بأهل السنة السلفيين:
الفصل الثالث: جماعة الإخوان تطبق القاعدة الفاسدة [يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه] في (فروع الدين) أيضاً بعد أن طبقتها في أصول الدين والتوحيد:
الفصل الرابع: الهدف من تطبيق القاعدة الفاسدة في منهج جماعة الإخوان في أصول الدين وفروعه:
الفصل الخامس: جماعة الإخوان الضالة هم من غثاء السيل الذين تنبأ بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
الفصل السادس: نماذج من إفساد حسن البنا وجماعة الإخوان في الأرض:
أولاً ـ حسن البنا ينشئ فرقة مسرح جماعة الإخوان ويضم إليها النسوة الممثلات ويضم إليها الرجال النصارى، والفرقة تبدأ باكورة أعمالها بتمثيل القصة الغرامية (جميل بثينة)، وحسن البنا يدفع المال للممثلات المسلمات الفاسقات في الفرقة المسرحية لجماعة الإخوان لكي يقلن كلام الغرام للممثلين النصارى وغيرهم في المسرحيات الغرامية.
ثانياً ـ حسن البنا يفتي ويقول: احلقوا لحاكم ولا تطلقوها إلا بإذن خاص مني واللحية غير واجبة.
ثالثاً ـ حسن البنا يدعو زواره وضيوفه إلى حفلات الأوبرا الموسيقية.
رابعاً ـ حسن البنا ينشئ الفرقة الموسيقية لجماعة الإخوان.
خامساً ـ حسن البنا ينشر الصور الفوتوغرافية للنساء المسلمات عضوات جماعة الإخوان في الصفحة الأولى في الجريدة الرسمية لجماعة الإخوان المفسدين:
كلكم كفرة (424)
سادساً ـ حسن البنا ينشر الرسوم الكاريكاتورية في جريدة جماعة الإخوان ويشجع الرسوم الكاريكاتورية:
الفصل السابع: نموذج من ثمرة تربية حسن البنا؛ المرشد العام للإخوان المسلمين (أمير المؤمنين) صوفي قبوري يرقص الديسكو! ويشرب الدخان! ويشاهد الأفلام! ويستمع لأم كلثوم.. المرشد العام يترك صلاة الجمعة لمشاهدة السينما.. المرشد العام يشرب الدخان:
الفصل الثامن: منهج يوسف القرضاوي مفتي جماعة الإخوان وضلاله في الفتاوى: حقيقة منهج القرضاوي وأثره في فتاويه المضلة: نماذج وأمثلة من الفتاوى المضلة للقرضاوي:
الباب السادس: موقف حسن البنا وجماعة الإخوان من اليهود والنصارى:
الفصل الأول: هدم حسن البنا لمفهوم عقيدة الولاء والبراء مع اليهود والنصارى: حسن البنا يقول بأن الكنائس هي بيوت الله!!! وفي كلامه تصحيح أديان النصرانية واليهودية والدعوة لوحدة الأديان:
جماعة الإخوان وحسن البنا يضمون النصارى كأعضاء وكمستشارين وكقادة في جماعة الإخوان وكوكلاء في الانتخابات:
الفصل الثاني: نماذج من انحرافات خلفاء حسن البنا في جماعة الإخوان مع اليهود والنصارى وهدمهم لمفهوم الولاء والبراء:
الباب السابع: الموقف الحقيقي لجماعة الإخوان من الديمقراطية والعلمانية:
الفصل الأول: جماعة الإخوان الضالة تدَّعي وتزعم مواجهة العلمانية ثم تدعو للعلمانية وتطبق العلمانية قولاً وفعلاً وتتحالف مع العلمانيين وتتحالف مع الأحزاب العلمانية للوصول للحكم!!!!
كلكم كفرة (425)
الباب الثامن: الهدف الأعلى والأسمى لجماعة الإخوان وعلاقة ذلك بالقاعدة الفاسدة في منهجهم:
الفصل الأول: حقيقة الهدف الأعلى والأسمى لجماعة الإخوان:
الفصل الثاني: من وسائل جماعة الإخوان لتحقيق هدفها الأسمى والأعلى:
أولاً استخدام القاعدة الفاسدة في منهج جماعة الإخوان لتحقيق الهدف الأعلى والأسمى للجماعة:
ثانياً استخدام واتباع الطريقة المباشرة والطريقة غير المباشرة لإسقاط الحكومات في البلاد الإسلامية وللوصول إلى الحكم في تلك البلاد الإسلامية:
ثالثاً المرحلية في الدعوة:
رابعاً إقامة التنظيم العالمي لجماعة الإخوان والتنظيمات المحلية:
خامساً: البيعة في تنظيم جماعة الإخوان:
الفصل الثالث: حسن البنا يبدي إعجابه الشديد بمحاولة ولي الصوفية القبورية (أحمد البدوي) الانقلاب على حاكم مصر المسلم وإقامة خلافة صوفية قبورية بمصر:
الفصل الرابع: حسن البنا يحاول عمل انقلاب في الحكم ضد حاكم مصر حينئذ فاروق، ولما بدأ فاروق يواجه حسن البنا وجماعته إذا بحسن البنا يكذب وينفي محاولته عمل انقلاب ويعلن رضاءه بالأنظمة العلمانية السائدة في البلاد!!!:
الفصل الخامس: نماذج من الدول التي حكمتها جماعة الإخوان:
الباب التاسع: الفرق بين منهج الإصلاح عند أهل السنة السلفيين وبين جماعة الإخوان الضالة:
الفصل الأول: اختلاف تفسير أهل السنة السلفيين لكلمة التوحيد وللتوحيد عن جماعة الإخوان الضالة:
كلكم كفرة (426)
الفصل الثاني: اختلاف منهج أهل السنة السلفيين مع منهج جماعة الإخوان الضالة:
الفصل الثالث: اختلاف وسائل أهل السنة والجماعة عن جماعة الإخوان في الإصلاح:
الفصل الرابع: الرد على شبهة لجماعة الإخوان الضالة:
الفصل الخامس: مقارنة بين شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وبين حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان:
الباب العاشر: الموقف الحقيقي لجماعة الإخوان من الدعوة السلفية والسلفيين والدولة السعودية السلفية:
الفصل الأول: موقف جماعة الإخوان من الدعوة السلفية والسلفيين أهل السنة:
الفصل الثاني: موقف جماعة الإخوان من المملكة السعودية السلفية:
الباب الحادي عشر: جماعة الإخوان هي كالسرطان وكالطاعون الذي يصيب المسلمين والأمة الإسلامية:
الباب الثاني عشر: انحرافات أخرى في منهج حسن البنا وجماعة الإخوان:
الفصل الأول: تحويل حسن البنا الانتماء من الانتماء للإسلام ولأهل السنة والجماعة إلى التعصب له ولجماعته
الفصل الثاني: اغترار حسن البنا بالكثرة وبعده عن منهج السلف:
الفصل الثالث: حسن البنا الحاكم بأمره:
الفصل الرابع: شيخ الإسلام ابن تيمية يرد على المبتدع حسن البنا:
الفصل الخامس: ملخص بعض الجرائم التي اقترفها سيد قطب
البيان في تكفير وسب سيد قطب للصحابة رضوان الله عليهم
بعض الأدلة على أن تكفير سيد قطب وسبه للصحابة هو عن تعمد وإصرار وقصد:
كلكم كفرة (427)
أولاً: نصيحة وإنكار الشيخ محمود شاكر على سيد قطب سبه وتكفيره للصحابة ورد سيد قطب برفض النصيحة وبسب وشتم الشيخ محمود شاكر:
ثانياً: تصريح سيد قطب بأنه يسعى لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي من خلال لجنة هو عضو فيها!!!
علي أكبر خامنئي المرشد الأعلى في إيران يُتَرجم بنفسه كتب سيد قطب للفارسية ويُثني عليه وينصح بقراءة كتبه ويُصدر طابعاً بريدياً إحياء لذكراه:
الباب الثالث عشر: بيان وإيجاز لبعض البدع الكبرى التي تبنتها جماعة الإخوان وخرجت بمقتضاها عن الطائفة المنصورة الناجية أهل السنة والجماعة:
الباب الرابع عشر: نصيحة للقارئين وللمنتمين لجماعة الإخوان:
الباب الخامس عشر: تحذير كبار العلماء من جماعة الإخوان ومن مؤسسها حسن البنا.
هذا هو فهرس الكتاب، وهو وحده كاف للدلالة على تكفير صاحبه للإخوان المسلمين، لأن سلفه الذين يعتبره مرجعه في كل قضية يطرحها لا يقولون إلا بذلك.. بل إنهم يخيرونه بين القول بتكفيرهم، وبين أن يكفر هو نفسه.. ويكفي في ذلك جميعا رميهم بالقبورية، والتي لا تعني إلا الشرك الجلي.
النموذج الثاني كتاب [الإخوان المسلمون الوجه الآخر]
وهو لمؤلفه الشيخ علي الحذيفي، والذي بين هدفه من كتابه هذا بقوله: (فرقة [الإخوان المسلمين]، صنع لها كبارها صيتاً كبيراً يغطي على حقائقها وفضائحها، وروجوا لها على أنها هي الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، جاهلين أو متجاهلين أن منهجها مخالف تماماً ومصادم كل المصادمة بل يسير بالاتجاه المعاكس للطائفة الناجية والفرقة المنصورة، ومع هذا فـ[الإخوان المسلمون] يصنعون لأنفسهم زخماً إعلامياً كبيراً، وهالة عجيبة
كلكم كفرة (428)
وكأنهم هم الذين في الساحة وحدهم وهم الذين حفظ الله بهم دينه وشريعته، وقد دفعتني هذه التغطية الإعلامية لهذه الفرقة إلى كتابة شيء مختصر عن حقيقتها وفضائحها كما فعل العلماء من قبلي ولهم في ذلك قصب السبق، وإنما فعلوا ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة) (1)
وهو ـ كسائر السلفية الذين تحدثوا عن الإخوان ـ راحوا يثبتون أولا انتماءهم أو تأثرهم بالتصوف، وبعد ذلك يحكمون عليهم بما يحكمون على التصوف والصوفية.
يقول الحذيفي عند حديثه عن الشيخ حسن البنا: (.. نشأ وتعلم على تعليم المدارس النظامية، أي: لم يتلق تعليمه على يد واحد من أهل العلم، بل نشأ على أحدى الطرق الصوفية، وهي الطريقة الحصافية كما اعترف هو نفسه بذلك، وشهد عليه طلبته المقربون إليه وأصحابه الذين عاشروه ردحاً من الزمن، وبقي هو على هذه الطريقة واستمر يزور أهلها ويذهب إليهم حتى آخر أيام حياته.. كانت لنشأة حسن البنا أثرها البالغ على جماعة (الإخوان المسلمين) وعلى أفرادها، فقد تسرب إلى الجماعة كثير من معالم التصوف وآثاره بواسطة حسن البنا دون أن يتفطن لها كثير من أتباعها، ومن ذلك: البيعة للمشائخ والكبار للجماعة.. السرية والتكتيم.. حصر الدين بجزئية من جزئياته، وشيء من شعائره، والغلو في هذه الجزئية.. تقسيم الدين إلى قشور ولباب.. تقسيم الدعاة إلى فقهاء واقع وغيرهم.. وجود المرشد والذي لا تصدر الجماعة إلا عن رأيه، والذي يطاع طاعة عمياء.. حصر ولاء أفراد الجماعة على طريقتهم فقط، وزعمهم أن هذا من عدم الازدواجية في الولاء.. الأناشيد.) (2)
وهو يؤكد هذا بما يذكره الذين أرخوا للجماعة، ومنهم جابر رزق الذي قال في كتابه
__________
(1) الإخوان المسلمون: الوجه الآخر، ص 4.
(2) الإخوان المسلمون الوجه الآخر، ص 12.
كلكم كفرة (429)
[حسن البنا بقلم تلامذته ومعاصريه]: (وفي دمنهور توثقت صلته بالإخوان الحصافية، وواظب على الحضرة في مسجد التوبة في كل ليلة مع الإخوان الحصافية، ورغب في أخذ الطريقة، حتى انتقل من مرتبة المحب إلى مرتبة التابع المبايع) (1)
وقال الندوي: (الشيخ حسن البنا ونصيب التربية الروحية في تكوينه، وفي تكوين حركته الكبرى: إنه كان في أول مرة – كما صرح بنفسه – في الطريقة الحصافية الشاذلية وكان قد مارس أشغالها وأذكارها وداوم عليها مدة، وقد حدثني كبار رجاله وخواص أصحابه أنه بقي متمسكاً بهذه الأشغال والأوراد إلى آخر عهده وفي زحمة أعماله، وكان إعجابه ومواظبته على وردها المعروف بالوظيفة الرزوقية) (2)
وهكذا راح يرميه بتهمة [القبورية] التي عرفنا معناها عند السلفية، وخصوصا عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه، وقد استدل لذلك بقول الشيخ حسن البنا في [مذكرات الدعوة والداعية]: (وكنا في كثير من أيام الجمع التي يتصادف أن نقضيها في دمنهور، نقترح رحلة لزيارة أحد الأولياء الأقربين من دمنهور، فكنا أحيانا نزور دسوق فنمشي على أقدامنا بعد صلاة الصبح مباشرة، حيث نصل حوالي الساعة الثامنة صباحاً، فنقطع المسافة ني ثلاث ساعات وهي نحو عشرين كيلو مترا، ونزور ونصل الجمعة، ونسترح بعد الغداء، ونصل العصر ونعود أدراجنا إلى دمنهور حيث نصلها بعد المغرب تقريباً، وكنا أحيانا نزور عزبة النوام حيث دفن في مقبرتها الشيخ سيد سنجر من خواص رجال الطريقة الحصافية والمعروفين بصلاحهم وتقواهم، ونقضي هناك يوماً كاملاً ثم نعود) (3).
__________
(1) حسن البنا بقلم تلامذته ومعاصريه، ص 8.
(2) التفسير السياسي للإسلام، ص 138 - 139.
(3) مذكرات الدعوة والداعية، (ص 36)
كلكم كفرة (430)
وهكذا ينقل عن سيد قطب تأويله للاستواء (بما يشبه كلام الجهمية) (1) ـ كما يعبر عن ذلك ـ وهو قوله: (والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء)، وقوله: (وكذلك العرش، فنحن نؤمن به كما ذكره ولا نعلم حقيقته. أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق. استنادا إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله سبحانه لا تتغير عليه الأحوال. فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش، ثم تتبعها حالة استواء. والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى: (ثم استوى)، والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا)
وقد رد على هذا بقول الشيخ عبد العزيز بن باز معلقاً على كلام سيد قطب: (معناه إنكار الاستواء المعروف وهو العلو على العرش، وهذا باطل يدل على أنه مسكين ضائع في التفسير) (2)
وهذا وحده كاف للحكم بكفره عند جميع السلفية، وقد نقلنا من كلام ابن باز وغيره الكثير من النصوص الدالة على ذلك.
__________
(1) الإخوان المسلمون الوجه الآخر، ص 12.
(2) شريط: أقوال العلماء في مؤلفات سيد قطب.
كلكم كفرة (431)
السلفية.. وتكفير المدارس الشيعية
يعتبر الشيعة ـ وخصوصا الإمامية منهم ـ من أكبر المظاهر التي تظهر فيها العدوانية السلفية بقمة عنفوانها وجلالها وشراستها، ذلك أنهم عند حديثهم عنهم يفقدون كل ما بقي لهم من عقل وحكمة وبصيرة ليصبحوا كذلك الأسد الجريح الجائع إذا رأى فريسته السهلة.
ولذلك يمكن لأي شخص أن يستفز من شاء منهم ليخرجه من طوره الإنساني إلى طوره البهيمي السبعي بشيء بسيط جدا، وهو أن يذكر له بأن الشيعة طائفة من المسلمين، أو أن لهم بعض الحسنات، أو أنه لا يصح تكفيرهم، أو أنهم لا يقولون بتحريف القرآن.. فيكفي هذا أو بعضه ليتحول السلفي إلى وحش شرس، قد يقضي على نفسه، أو يقضي على أي شيء يقف بجانبه.
وقد حصل لي هذا كثيرا في حواراتي التي أحاول فيها التقريب بين المذاهب الإسلامية، وردم الهوة التي حفرها الشيطان بينهم.. فكنت حينها ألحظ تلك الوجوه التي كانت تدعي الوحدة والتسامح والسلام وتتحمس لها تتغير وتنقلب انقلابا تاما، وألحظ الألسن كيف ترغي وتزبد، وكيف تطير معها العقول.. وكنت أشفق على محدثي أن تصيبه جلطة أو يرتفع ضغط دمه أو تصيبه سكتة قلبية، فلذلك أسارع إلى تغيير الحديث خشية أن أتسبب في أي مكروه لأمثال هذه العقول الصغيرة التي لا تطيق الحوار.
والسلفية لذلك كله لا يكتفون بتكفيرهم فقط.. بل يضيفون إليه توابل كثيرة من الكذب عليهم لتجعلهم شر أهل الملل، وأكفر أهل الأرض.. بل يصورون للعامة والخاصة أنه لم تقع مصيبة في الأمة إلا كانوا خلفها والمدبرين لها.. ويجيشون لذلك ما تعودوا أن يجيشوه من كلام سلفهم وخلفهم.
كلكم كفرة (432)
وهم ـ فوق ذلك ـ ينتقون من كتبهم ما شاءت لهم أهواؤهم ليرموهم بالعظائم، فإذا رأوا ألف مرجع من مراجعهم يصرح بأن القرآن الكريم كلام الله، وأنه لم يمسه التحريف ولا التبديل أعرضوا عنهم جميعا، وراحوا إلى أي أي مجهول أو مغمور ليجعلوه لسانهم الناطق رغم أنوفهم.
وهكذا يذهبون إلى كتبهم التي جمعت الغث والسمين، والصحيح والضعيف، والمقبول والمرفوض، ليلزموهم بكل ما فيها.. لكنهم إن قيل لهم: لقد روى رواتكم مثلما روى رواتنا، ونحن لا نلزمكم بما تكذبونه من الروايات، فلا تلزمونا بما نكذبه منها، رفضوا منهم هذا.. وأصروا على أن يكيلوا لأنفسهم بخلاف ما يكيلون لهم.
وهذا كله يرجع لتخلي السلفية عن استعمال العقل المقدس الذي وهبه الله لعباده ليزنوا به الأمور.. لأن غلبة السبعية والبهيمية على العقل تمنعه من التفكير السليم.. بل تجعله كذلك الأسد الذي يستحل فريسته، ولا يأذن لها في الدفاع عن نفسها.
والسبب الأكبر الذي جعل السلفية يستعملون كل هذا مع الشيعة سياسي بالدرجة الأولى.. ذلك أن الشيعة كانت لفترات تاريخية كثيرة تمثل المعارضة، لأنها لم تكن تعترف بالحكومات القائمة، وتتصور أنها اغتصاب لحق أهل البيت.. ولذلك شن الحكام حملتهم عليها ابتداء من بني أمية.. واستغلوا السلف والخلف لينشروا لهم من تشويهها ما شاءت لهم أهواؤهم وعدوانيتهم.. ولذلك ورد فيهم من الآثار ما لم يرد في أي طائفة من الطوائف.
وهذه مظلمة عظيمة لا يصح لنا أن نسكت عنها، أو أن نوافقها، فالظلم حرام.. وأعظم الظلم أن يظلم مسلم بسبب حبه لنبيه وآل بيت نبيه..
بناء على هذا سنكتفي في هذا الفصل بذكر تصريحات سلف السلفية وخلفهم بتكفير الشيعة، وآثار ذلك التكفير (1).. أما أسباب التكفير والرد عليها، فقد ذكرناها في محل آخر
__________
(1) يتصور البعض أن هذا الموقف التكفيري خاص بالشيعة الإمامية الاثني عشرية، وهذا غير صحيح، فالشيعة الزيدية أيضا مشمولون بالتكفير السلفي، بناء على عقائدهم التي لا تختلف عن عقائد المعتزلة، والتي يتفق السلفية جميعا على تكفير القائل بها، وقد شن الوادعي السلفي حملة شديدة عليهم، وقد سُئل عنهم فقال: هم بعيدون عن السنة، ثم ذكر مقولة: ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبير (انظر: بغية الطالب الألمعي لفتاوى المحدث العلامة مقبل بن هادي الوادعي (ص 3)
كلكم كفرة (433)
من كتبنا، لأن غرضنا من هذا الكتاب هو بيان تكفير السلفية للأمة جميعا.
أولا ـ تكفير السلفية المتقدمين للشيعة.
تنقل المصادر المسندة للسلفية الكثير من النصوص ـ التي لا ندري مدى صحتها ـ عن أئمة السلفية الأوائل، وحملتهم الشديدة على الشيعة..
وهي ـ إن صحت ـ تنم عن حقد شديد لا يتناسب مع أولئك الأعلام الكبار، وربما يكونون قد قالوا ذلك ـ في حال صحته ـ إرضاء للسلطات الأموية الحاكمة التي جعلت مشروعها الأكبر حرب الإمام علي وذريته.. حتى وصل الأمر في ذلك العصر إلى اعتبار التسمية بعليّ محظورة إلاّ لبني هاشم، فكان بعضهم يخاف من اسمه، فيصغّره، ويقول: انا عُلَيّ ولست بعلي.. قال قتيبة بن سعيد سمعت الليث بن سعد يقول: قال عليُّ بن رباح: (لا أجعل في حلٍّ من سمّاني عُلَيّاً فإن اسمي عَلِيّ)، وقال سلمة بن شبيب: (سمعت أبا عبد الرحمن المقرئ يقول: كانت بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه عَلِيّ قتلوه، فبلغ ذلك رباحاً فقال: هو عُلَيّ، وكان يغضب من (عَلِيٍّ) ويُحرّج على من سمّاه به) (1)
بالإضافة إلى أن المقصود بالتشيع في ذلك الحين ليس المذهب المعروف، وإنما كان مجرد محبة الإمام علي، أو تقديمه على سائر الصحابة، كما نص على ذلك ابن حجر في قوله: (والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويُطلق عليه رافضي، فإنْ انضاف إلى ذلك السب والتصريح بالبغض فغال في الرفض، وإنْ
__________
(1) تهذيب الكمال ج 20: 429، تهذيب التهذيب 7: 280.
كلكم كفرة (434)
اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو) (1)
وقال: (وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالبا، وتوهينهم الشيعة مطلقا، ولا سيما أن عليا ورد في حقه: (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)، ثم ظهر لي في الجواب عن ذلك أن البغض ها هنا مقيد بسبب وهو كونه نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن من الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حق المبغض والحب بالعكس، وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالبا والخير في حب علي وبغضه ليس على العموم، فقد أحبه من أفرط فيه حتى ادعى أنه نبي أو إله، تعالى الله عن أفكهم والذي ورد في حق علي من ذلك قد ورد مثله في حق الأنصار وأجاب عنه العلماء أن بغضهم لأجل النصر كان ذلك علامة نفاق وبالعكس. فكذا يقال في حق علي. وأيضا فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهورا بصدق اللهجة والتمسك بأمور الديانة، بخلاف من يوصف بالرفض فإن غالبهم كاذب ولا يتورع في الأخبار، والأصل فيه أن الناصبة اعتقدوا أن عليا قتل عثمان أو كان عليه فكان بغضهم له ديانة بزعمهم. ثم انضاف إلى ذلك أن منهم من قتلت أقاربه في حروب علي) (2)
بناء على هذا روى السلفية ـ المتقدمون منهم والمتأخرون ـ الكثير من الروايات عن سلفهم الأول، باعتبار أقوالهم فيهم نصوصا مقدسة لا يصح نقضها ولا نقدها ولا حتى توجيهها..
ومن أوائل تلك النصوص ما يروونه عن علقمة بن قيس النخعي (62 هـ) وقوله: (لقد غلت هذه الشيعة في علي كما غلت النصارى في عيسى بن مريم) (3) ?
ومنها الروايات الكثيرة عن عامر الشعبي (105 هـ)، والتي نقلها ابن تيمية وغيره
__________
(1) هدي الساري ص 640.
(2) تهذيب التهذيب (8/ 458)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد 2/ 548?.
كلكم كفرة (435)
من أعلام السلفية، وهي إن صحت تدل على حقد كبير لا يتناسب مع جلال هذا العلم ومكانته، فقد رووا عنه قوله: (ما رأيت أحمق من الخشبية (1) [يقصد الشيعة]، لو كانوا من الطير لكانوا رخما، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا، والله لو طلبت منهم أن يملؤوا هذا البيت ذهبا على أن أكذب على علي لأعطوني، والله ما أكذب عليه أبدا) (2)
ورووا عنه هذا القول الطويل الممتلئ بالكذب عليهم: (أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، لم يدخلوا في الاسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتا لأهل الاسلام وبغيا عليهم) (3)
ثم راح يقارن بين الشيعة واليهود ليجعل الشيعة يهود هذه الأمة ـ متناسيا تتلمذه وتتملذ إخوانه من السلف على اليهود ـ فقال: (وآية ذلك أن محنة الرافضة، محنة اليهود. قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي، وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال، وينزل سيف من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي، وينادي مناد من السماء..... واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم.. واليهود تزول عن القبلة شيئا، وكذلك الرافضة، واليهود تنود في الصلاة، وكذلك الرافضة، واليهود تسدل أثوابها في الصلاة، وكذلك الرافضة.. واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن. واليهود قالوا: افترض الله علينا خمسين صلاة، وكذلك الرافضة.. واليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون: السام عليكم ـ
__________
(1) يقصد الشيعة، والخشبية نسبة إلى الخشب، وذلك لأنهم كانوا يرفضون القتال بالسيف ويقاتلون بالخشب، وذكر ابن حزم (الفصل 5/ 45) أن بعض الشيعة كانوا لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذي ينتظرونه فهم يقتلون الناس بالخنق وبالحجارة، والخشبية بالخشب فقط.
(2) منهاج السنة النبوية (1/ 22)
(3) السنة لعبد الله بن أحمد 2/ 549، والخلال في السنة 1/ 497، واللالكائي في شرح السنة 7/ 1461.?
كلكم كفرة (436)
والسام الموت ـ وكذلك الرافضة.. واليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة.. واليهود تبغض جبريل، ويقولون هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة، يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد) (1)
وهكذا راح يشببهم بالنصارى، فقال ـ كما يروونه عنه ـ: (وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة: النصارى ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعا، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة، ويستحلون المتعة، وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم، فسبوهم والسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة، ولا تجاب لهم دعوة، دعوتهم مدحوضة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم متفرق، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) (2)
وهكذا رووا عن طلحة بن مصرّف (112 هـ) قوله: (الرافضة لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، لأنهم أهل ردة) (3)
ورووا عن مسعر بن كدام (155 هـ) أنه لقيه رجل من الرافضة فكلمه بشئ.. فقال له مسعر: تنح عني فإنك شيطان) (4) ? ?
ورووا عن أشهب بن عبدالعزيز أن مالكا سئل عن الرافضة فقال: (لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون) (5)
__________
(1) منهاج السنة النبوية (1/ 24)
(2) منهاج السنة النبوية (1/ 26)
(3) الإبانة الصغرى ص 161.?.
(4) اللالكائي في شرح السنة 8/ 1457.?.
(5) ذكره ابن تيمية في منهاج السنة 1/ 61?.
كلكم كفرة (437)
وهكذا قال محمد بن يوسف الفريابي (212 هـ):? (ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة) (1)
وقال القاسم بن سلام (224 هـ):? (عاشرت الناس، وكلمت أهل الكلام، وكذا، فما رأيت أوسخ وسخاً، ولا أقذر قذراً، ولا أضعف حجة، ولا أحمق من الرافضة، ولقد وليت قضاء الثغور فنفيت منهم ثلاثة رجال: جهميين ورافضي، أو رافضيين وجهمي، وقلت: مثلكم لا يساكن أهل الثغور فأخرجتهم) (2)
?وقال أحمد بن يونس (227 هـ):? (إنا لا نأكل ذبيحة رجل رافضي، فإنه عندي مرتد) (3)
?ورووا أن أحمد بن حنبل (241 هـ) سئل: عن رجل له جار رافضي يسلم عليه؟ قال: (لا، وإذا سلم عليه لا يرد عليه) (4)
وهكذا قال البخاري (256 هـ) في كتاب [خلق أفعال العباد]: (ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم) (5)
وهكذا قال أبو زرعة الرازي (264 هـ):? (إن الجهمية كفار، وإن الرافضة، رفضوا الإسلام) (6)
وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري (329 هـ):? (واعلم أن الأهواء كلها ردية،
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 8/ 1457?.
(2) السنة للخلال 1/ 499.
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 8/ 459.
(4) السنة للخلال 1/ 494?.
(5) خلق أفعال العباد (ضمن عقائد السلف) ص 125?.
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 178.
كلكم كفرة (438)
تدعوا إلى السيف، وأردؤها وأكفرها الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، فإنهم يريدون الناس على التعطيل والزندقة) (1)
وقال ابن بطة (387 هـ):? (وأما الرافضة: فأشد الناس اختلافاً، وتبايناً، وتطاعناً، فكل واحد منهم يختار مذهباً لنفسه يلعن من خالفه عليه، ويكفر من لم يتبعه. وكلهم يقول: إنه لا صلاة، ولا صيام، ولاجهاد، ولا جمعة، ولا عيدين، ولا نكاح، ولا طلاق، ولا بيع، ولاشراء، إلا بإمام وإنه من لا إمام له، فلا دين له، ومن لم يعرف إمامه فلا دين له.. ? ولولا ما نؤثره من صيانة العلم، الذي أعلى الله أمره وشرّف قدره، ونزهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ، وقبيح أقوالهم، ومذاهبهم، التي تقشعر الجلود من ذكرها، وتجزع النفوس من استماعها، وينزه العقلاء ألفاظهم وأسماعهم عن لفظها، لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين) (2)
وقال القحطاني (387 هـ) في نونيته التي يهتم بها السلفية ويعظمونها ويحفظونها (3):
إن الروافضَ شرُّمن وطيءَ الحَصَى... من كلِّ إنسٍ ناطقٍ أو جانِ
مدحوا النّبيَ وخونوا أصحابه... ورموُهمُ بالظلمِ والعدوانِ
حبّوا قرابتهَ وسبَّوا صحبه... جدلان عند الله منتقضان
وبعد هؤلاء جميعا وغيرهم جاء ابن تيمية (728 هـ) ? إلى كل الأحقاد التي ورثها عن سلفه، فصبها على الشيعة، وألف الكتب في ذلك، ومن أقواله فيهم: (والله يعلم وكفى بالله عليماً، ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم: لا أجهل، ولا أكذب، ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان، وأبعد عن حقائق الإيمان
__________
(1) شرح السنة ص 54.
(2) اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة ص 251 - 252.?
(3) نونيه القحطاني ص 21 ?.
كلكم كفرة (439)
منهم) (1)
ويقول: (وهؤلاء الرافضة: إما منافق، وإما جاهل، فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقاً، أو جاهلاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكون فيهم أحد عالماً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع الإيمان به. فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على? مفرط في الجهل والهوى) (2)
وقال: (فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء.. وأيضاً فغالب أئمتهم زنادقة إنما يظهرون الرفض لأنه طريق إلى هدم الإسلام) (3)
ويقول عن جهلهم وضلالهم: (القوم من أضل الناس عن سواء السبيل فإن الأدلة إما نقليه وإما عقليه، والقوم من أضل الناس في المنقول والمعقول، في المذاهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، والقوم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار، المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل) (4)
ويقول عن اشتهارهم بالكذب: (وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب) (5)
__________
(1) منهاج السنة 1/ 160.?
(2) منهاج السنة 1/ 161.?
(3) مجموع الفتاوى 28/ 482 - 483.
(4) منهاج السنة 1/ 8.?
(5) منهاج السنة 1/ 59.?
كلكم كفرة (440)
ويقول عن عدائهم للمسلمين ومناصرتهم الكفرة والمشركين: (وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين، ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهودياً، ومرة نصرانياً أرمينياً، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني، وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة المنافقين، وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار وأردب) (1)
ويقول: (والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز مالا يحصل بدولة المسلمين، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة، وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس) (2)
ويقول: (وهؤلاء يعاونون اليهود والنصارى والمشركين على أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته المؤمنين، كما أعانوا المشركين من الترك والتتار على ما فعلوه ببغداد وغيرها بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ولد العباس وغيرهم من أهل البيت المؤمنين من القتل والسبي وخراب الديار.? وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام) (3)
وهكذا نرى ابن القيم يسير على نهج شيخه ابن تيميه، ومشايخه من السابقين من السلفية، بل إنه يستعمل ما يسميه توسما ليخبر عن حقيقة الشيعة، وأنهم ليسوا سوى
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/ 637?
(2) مجموع الفتاوى 28/ 527 - 528.
(3) مجموع الفتاوى 25/ 309.
كلكم كفرة (441)
خنازير.. كما عبر عن ذلك بقوله: (ثم إن كنت من المتوسمين فاقرأ هذه النسخة من وجوه أشباههم ونظرائهم كيف تراها بادية عليها وإن كانت مستورة بصورة الإنسانية.. واقرأ نسخة الخنازير من صور أشبهاهم ولا سيما أعداء خيار خلق الله بعدالرسل وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن هذه النسخة ظاهرة على وجوه الرافضة يقرأها كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه، فإن الخنزير أخبث الحيوانات وأردؤها طباعا، ومن خاصيته أنه يدع الطيبات فلا يأكلها ويقوم الانسان عن رجيعة فيبادر اليه فتأمل مطابقة هذا الوصف لأعداء الصحابة كيف تجده منطبقا عليهم فإنهم عمدوا إلى أطيب خلق الله وأطهرهم فعادوهم وتبرؤوا منهم ثم والواكل عدو لهم من النصارى واليهود والمشركين، فاستعانوا في كل زمان على حرب المؤمنين الموالين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمشركين والكفار وصرحوا بأنهم خير منهم فاي شبه ومناسبة أولى بهذا الضرب من الخنازير فإن لم تقرأ هذه النسخة من وجوههم فلست من المتوسمين) (1)
وهكذا جعل ابن القيم من شروط التوسم والفراسة والصلاح أن يرى المؤمن إخوانه من الشيعة بصورة الخنازير.. وإلا فلن يتوسم الصلاح أبدا.
هذه مجرد نماذج عن أحقاد سلف السلفية على الشيعة، وإلا فإن أقوالهم فيهم، وخاصة أقوال ابن تيمية لا تكاد تعد ولا تحصى، وهي التي لا يزال يرددها خلفهم، بعد أن أضافوا إليها أيضا المزيد من الأحقاد والعقد، وخاصة بعد أن أعانهتم ودعمتتهم السلطات السياسية التي يعظمونها ويخضعون لها على ذلك.
ثانيا ـ تكفير السلفية المتأخرين للشيعة.
ربما لم يحدث في التاريخ جميعا أن شنت حرب حاقدة على طائفة من الطوائف تريد حرمانها من كل حقوقها في الدنيا والآخرة، وإلصاق كل التهم بها، مثلما فعلت السلفية مع
__________
(1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 254)
كلكم كفرة (442)
الشيعة الإمامية، وخصوصا بعد تمكنها ولأول مرة في التاريخ من تأسيس دولتها ذات الطابع الإسلامي الملتزم.
فبعد تلك الفترة مباشرة نسي علماء السلفية أحقادهم على الصوفية والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة.. بل نسوا الصهيونية والصليبة.. بل نسوا الشيطان نفسه.. ليفرغوا أنفسهم لحرب الشيعة، باعتبارها العدو الأول للدين وللأمة.. وباعتبارها كذلك كيانا يهدد المنطقة والكرة والأرضية والمجموعة الشمسية وكل الكون.
وفي هذا الوقت بالذات ظهرت تلك الفتاوى الدبلوماسية المتساهلة مع مدارس الأمة الأخرى غير الشيعة، لأنها لا تريد أن تتفرغ وحدها لحرب الشيعة، وحرب دولتها، فلذلك تساهلت مع الجميع ـ مؤقتا ـ لتستعملهم في حرب الشيعة وحرب دولتها الفتية.. وقد نجحت في ذلك نجاحا كبيرا.
وسأكتفي هنا بذكر بعض الفتاوى والنماذج من المنشورات السلفية لترينا صورة عن الحقد السلفي على هذه الطائفة الإسلامية المحترمة.
1 ـ الفتاوى والبيانات السلفية في تكفير الشيعة
لا يمكن عد الفتاوى والبيانات التي أصدرها أعلام السلفية المعاصرين حول الشيعة، فهي من الكثرة بحيث لا يمكن إحصاؤها، فقد جيشوا كل أسلحتهم التي مكنهم منها التطور الحديث ليستعملوها في حربهم ضد الشيعة، فألفوا الكتب، ووزعوا المنشورات، وأرسلوا الخطباء لكل أنحاء العالم، وأقاموا القنوات الفضائية، حتى صار العوام البسطاء يعرفون الشيعة ويقومون هم أنفسهم بالتحذير منهم.. بل وصل الأمر إلى أن يفخر الفسقة والمنحرفون ممن لا يعرفون الدين ولا يوقرونه بكونهم من أهل السنة والجماعة.. وليسوا كأولئك المعممين من الشيعة والرافضة.
وسأكتفي هنا بذكر نموذجين عن الفتاوى السلفية المعاصرة: أحدهما يمثل هيئة
كلكم كفرة (443)
رسمية، والثاني يمثل شخصية علمية، بل من هيئة كبار العلماء.
النموذج الأول فتاوى اللجنة الدائمة في تكفير الشيعة
تعتبر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية من أكبر الهيئات الرسمية للفتوى التي يرجع إليها السلفية، باعتبارها تضم كبار علمائهم، وباعتبارها مؤسسة رسمية لها قيمتها وحرمتها عند جماهير السلفية.
ومن الأسئلة التي وجهت لهذه اللجنة هذا السؤال حول الحكم على عوام الشيعة الإمامية: (ما حكم عوام الروافض الأمامية الاثنى عشرية؟ وهل هناك فرق بين علماء أي فرقة من الفرق الخارجة عن الملة وبين أتباعها من حيث التكفير أو التفسيق؟)
فأجابت: (من شايع من العوام إماما من أئمة الكفر والضلال، وانتصر لسادتهم وكبرائهم بغيا وعدوا، حكم له بحكمهم كفرا وفسقا، قال الله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68].. وغير ذلك في الكتاب والسنة كثير؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل رؤساء المشركين وأتباعهم، وكذلك فعل أصحابه، ولم يفرقوا بين السادة والأتباع) (1)
وهذه الفتوى أبلغ رد على الذين يدافعون عن السلفية، ويتصورون أنهم لا يكفرون العوام بسبب جهلهم.. ولو طبقناها على مواقفهم من سائر الأمة، لطبقت عليها جميعا، لأنها كلها تبع لمن تعتبرهم السلفية من الكفرة..
وسئلت هذه اللجنة حول حكم أكل ذبائح الشيعة، فأجابت: (إذا كان الأمر كما ذكر السائل من أن الجماعة الذين لديه من الجعفرية يدعون علياً والحسن والحسين وسادتهم فهم مشركون مرتدون عن الإسلام والعياذ بالله، لا يحل الأكل من ذبائحهم لأنها ميتة ولو ذكروا
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ج 2/ 377] فتوى رقم [9247].
كلكم كفرة (444)
عليها اسم الله) (1)
وسئلت: (إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم كي تقع عبادته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية والأثنا عشرية مثلاً؟)
فأجابت: (على المسلم أن يتبع ما جاء عن الله ورسوله إذا كان يستطيع أخذ الأحكام بنفسه وإذا كان لا يستطيع ذلك سأل أهل العلم فيما أشكل عليه من أمر دينه ويتحرى أعلم من يتحصل عليه من أهل العلم ليسأله مشافهة أو كتابة. ولا يجوز للمسلم أن يقلد مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية ولا أشباههم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم وأما انتسابه إلى بعض المذاهب الأربعة المشهور فلا حرج فيه إذا لم يتعصب للمذهب الذي انتسب إليه ولم يخالف الدليل من أجله) (2)
وأجابت في فتوى أخرى من سألها عن طلب العلم من بعض الشيعة: (عليك بالدراسة على العلماء المعروفين بعلمهم، وسلامة اعتقادهم، والبعد عن المبتدعة والمخالفين لأهل السنة، ومنهم الشيعة والإمامية لا تدرس عليهم، ولا تجالسهم ولا تراسلهم ولا تنظر في كتبهم لئلا يضلوك عن سبيل الله) (3)
النموذج الثاني فتاوى ابن جبرين في تكفير الشيعة
يعتبر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (1353 - 1430 هـ) من كبار أعلام السلفية المعاصرين من أصحاب الفتاوى الكثيرة المرتبطة بكل شيء، وقد ذكرنا سابقا فتاواه
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: 2/ 264..
(2) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء: 1/ 153.
(3) فتاوى اللجنة الدائمة 12/ 99..
كلكم كفرة (445)
العجيبة في الرقيا والطب ونحوها، وسنذكر هنا بعض فتاواه في الشيعة، لنرى مبلغ علم العقل السلفي في مثل هذه المسائل الخطيرة.
ومن فتاواه في هذا الجانب أنه سئل عن حكم شراء اللحم من جزار شيعي، فقال: (لا يحل ذبح الرافضي ولا أكل ذبيحته، فإن الرافضة غالباً مشركون حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة والرخاء حتى في عرفات والطواف والسعي، ويدعون أبناءه وأئمتهم كما سمعناهم مرارا، وهذا شرك أكبر وردة عن الإسلام يستحقون القتل عليها. كما هم يغلون في وصف علي ويصفونه بأوصاف لا تصلح إلا لله، كما سمعناهم في عرفات، وهم بذلك مرتدون حيث جعلوه رباً وخالقاً، ومتصرفاً في الكون، ويعلم الغيب، ويملك الضر والنفع، ونحو ذلك. كما أنهم يطعنون في القرآن الكريم، ويزعمون أن الصحابة حرفوه وحذفوا منه أشياء كثيرة تتعلق بأهل البيت وأعدائهم، فلا يقتدون به ولا يرونه دليلاً.. لكنهم مع ذلك ينافقون فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، ويقولون: من لا تقية له فلا دين له. فلا تقبل دعواهم في الأخوة ومحبة الشرع، فالنفاق عقيدة عندهم، كفى الله شرهم) (1)
وسأله آخر هذا السؤال الذي يبين الأحقاد التي ينشئها علماء السلفية في نفوس العوام والبسطاء: (لدي أمر طالما أشغلني؛ حيث إنني أحد موظفي أرامكو، وحديث عهد بهذه الوظيفة، ولكن ما أشغلني أنني أعمل مع رافضة في نفس القسم، وجرت العادة على الاشتراك في وجبات الطعام خلال وقت الدوام، ويكون الأكل جماعيا، وما قد يتخلل ذلك من الضحك والمزاح، مما قد يضعف عند المسلم قضية الولاء والبراء والغيرة على هذا الدين، مع العلم أنني أحدث واحد فيهم ورئيسي المباشر منهم، مما قد يضطرهم إلى مضايقتي في العمل إذا أحسوا مني بغضهم. أفيدونا رعاكم الله، فإنني في حيرة من أمري؛
__________
(1) فتاوى ابن جبرين: رقم الفتوى (11092)
كلكم كفرة (446)
لما قد يترتب على ذلك إن أنا قطعتهم وجعلت علاقتي معهم مجردة فيما يتعلق بالعمل، ولكن قد يضايقوني كما أسلفت؟)
فأجاب بقوله: (عليك أن تحاول الانتقال إلى جهة أخرى لا يوجدون بها، أو لا يكون لهم سلطة فيها، فإن لم تجد قريبا فعليك أن تظهر لهم المقت والاحتقار، والسخرية منهم، وأن لا يكون لك انبساط معهم ولا انشراح صدر، وإذا رأيت منهم مضايقة خاصة فسجل كلماتهم واكتب بها إلى المسئولين في الشركة، حتى يلقوا جزاءهم، كما أن عليك محاولة إقناعهم ببطلان معتقدهم وصحة ما أنت عليه، فإن رجع أحد منهم وإلا قامت عليهم الحجة) (1)
وسئل: (أنا طالبة في جامعة الملك سعود ومن ضمن طالبات الجامعة طالبات شيعيات يحضرن معنا نفس المحاضرات، فنتحدث إليهن وتحدث بيننا وبينهن مناقشات خاصة بالدراسة، وغير الدراسة، مع العلم أن معظمهن يتصفن بصفات حميدة وأخلاق عالية، وقد سمعت أنه من المحرم مخالطة الشيعة فما الحكم في ذلك؟)
فأجاب: (الشيعة غالبا يطعنون في أكابر الصحابة كالخلفاء الثلاثة، ويكفرونهم، ويلعنونهم، ويطعنون في القرآن، ويزعمون أن الصحابة نقصوه أكثر من ثلثيه، ويردون الأحاديث التي في الصحيحين؛ لأن رواتها الصحابة الكفرة بزعمهم، ثم يغلون في علي وفاطمة وابنيها، ويعبدونهم من دون الله ويدعونهم في الشدائد، ويكفرون أهل السنة الذين يحبون الصحابة، ويدعون أن من أحبهم فقد أبغض أهل البيت الذين هم عندهم على وابناه وفاطمة فقط، فعلى هذا لا يجوز إقرارهم ولا الأنس بهم، ولا يوثق بهم ولا تجوز محبتهم وموالاتهم، ولو أظهروا النصح والمحبة فإن ذلك من التقية التي هي النفاق، ويقولون
__________
(1) فتاوى الشيخ ابن جبرين (18/ 28)
كلكم كفرة (447)
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) (1)
وسئل: (ما حكم دفع زكاة أموال أهل السنة لفقراء الرافضة (الشيعة) وهل تبرأ ذمة المسلم الموكل بتفريق الزكاة إذا دفعها للرافضي الفقير أم لا؟)
فأجاب: (لقد ذكر العلماء في مؤلفاتهم في باب أهل الزكاة أنها لا تدفع لكافر ولا لمبتدع، فالرافضة بلا شك كفار) (2)
وسئل: (أنا أعمل في دائرة حكومية، وعند الانتهاء من صلاة الظهر يحضر بعض من الموظفين الشيعة يؤدون صلاة غير الصلاة التي وردت عن المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد بينا لهم الصلاة الصحيحة وأن الصلاة التي يصلونها غير صحيحة، ولكنهم أصروا على صلاتهم، فهل نمنعهم من أداء الصلاة أم لا؟)
فأجاب بهذا الجواب التي لا يتناسب إلا مع العقل السلفي: (عليك أن تسألهم عن صلاتكم هل هي صحيحة أم باطلة، فإن قالوا صحيحة فألزموهم بالصلاة معكم، فإن قالوا باطلة فسلهم عن سبب البطلان، فإن زعموا أنكم على ضلال وخطؤوكم وأبطلوا عباداتكم فقد كفروكم، ومن كفر المسلمين فهو الكافر فامنعوهم من الصلاة لأنهم قد فعلوا ما يكفرون به وهو تكفيركم وبطلان الصلاة خلفكم فلا صلاة لهم ولا عبادة لهم سيما إذا صلوا صلاة تخالف صلاة المسلمين في مساجد المسلمين، فامنعوهم حتى يذهبوا إلى بلادهم ويصلوا في معابدهم الخاصة بهم، والله يكفينا شرهم) (3)
وسئل: (كيف التعامل مع الرافضة؟)، فأجاب: (لا يجوز تشجيعهم ولا تهنئتهم بمواسمهم ولا الشراء من بضائعهم ولا من تجاراتهم، وكذا لا يجوز بداءتهم بالسلام ولا
__________
(1) فتاوى ابن جبرين: رقم الفتوى (10495)
(2) فتاوى الشيخ ابن جبرين (18/ 44)
(3) فتاوى ابن جبرين: رقم الفتوى (7827)
كلكم كفرة (448)
القيام لهم، ولا تصديرهم في المجالس؛ وذلك لأنهم يُكفرون الصحابة غالبًا ويردون الأحاديث التي رويت عنهم مع أنها في الصحيحين، ولأنهم يكفرون أهل السُنة، ولهذا لا يُصلون خلف أئمة أهل السُنة، وقد فشا فيهم الشرك الذي هو دُعاء أئمتهم كعلي والحسن والحُسين وزين العابدين ونحوهم، والشرك يُحبط الأعمال ويُدخل صاحبه في النار) (1)
وسئل: (استنكر أحد الإخوة تكفير الرافضة.. فقال الأخ ـ علماً أنه أقدم منى في طلب العلم ـ أن تكفير عقيدتهم لا يعني تكفير عامة جُهّالهم الذين يُضَلّلون مِن قِبل أئمتهم، ولكن إن نُصِحوا وبُيِّنَ لهم وأقيمت عليهم الحُجة ولم يرجعوا عن تلك العقيدة الفاسدة وجب تكفيرهم، فما رأي سماحة الشيخ، هل الجاهل منهم معذور بشركه؟)
فأجاب: (الرافضة الذين يسمون أنفسهم الشيعة، ويدعون حب آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هم شر طوائف الأمة، وقد كان المؤسس لهذا المذهب يهودي اسمه عبد الله بن سبأ، وأصحابه السبئية الغلاة الذين ادعوا الإلهية في علي، وورثتهم يألهون أئمتهم من ذرية علي، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، وإذا أظهروا الإسلام وكتموا اعتقادهم كانوا منافقين، وهؤلاء من غلاة طوائف الرافضة الذين قال فيهم بعض العلماء: إنهم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض.. ثم اعتنقوا بعض أصول المعتزلة كنفي الصفات، والقدر، ثم أحدثوا بعد القرون المفضلة بناء المشاهد على قبور أئمتهم؛ فأحدثوا في الأمة شرك القبور، وبدع القبور، وسرى منهم ذلك لكثير من طوائف الصوفية، والمقصود أن الرافضة في جملتهم هم شر طوائف الأمة، واجتمع فيهم من موجبات الكفر، تكفير الصحابة، وتعطيل الصفات، والشرك في العبادة بدعاء الأموات، والاستغاثة بهم، هذا واقع الرافضة الإمامية الذين أشهرهم الإثنا عشرية فهم في الحقيقة كفار مشركون لكنهم يكتمون ذلك، إذا كانوا بين المسلمين عملا بالتقية التي يدينون بها، وهي كتمان باطلهم، ومصانعة من يخالفهم..
__________
(1) فتاو ابن جبرين: رقم الفتوى (12461)
كلكم كفرة (449)
وعلى هذا فإنهم يعاملون معاملة المنافقين الذين يظهرون الإسلام. ولكن يجب الحذر منهم، وعدم الاغترار بما يدعونه من الانتصار للإسلام.. ومن أجل ذلك الغالب عليهم عدواة أهل السنة، والكيد لهم بكل ما يستطيعون، ولكنهم يخفون ذلك شأن المنافقين، ولهذا كان خطرهم على المسلمين أعظم من خطر اليهود، والنصارى لخفاء أمرهم على كثير من أهل السنة، وبسبب ذلك راجت على كثير من جهلة أهل السنة دعوة التقريب بين السنة والشيعة، وهي دعوة باطلة. فمذهب أهل السنة، ومذهب الشيعة ضدان لا يجتمعان،، فلا يمكن التقريب إلا على أساس التنازل عن أصول مذهب السنة، أو بعضها، أو السكوت عن باطل الرافضة، وهذا مطلب لكل منحرف عن الصراط المستقيم ـ أعني السكوت عن باطله ـ كما أراد المشركون من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يوافقهم على بعض دينهم، أو يسكت عنهم فيعاملونه كذلك، كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]) (1)
2 ـ الكتب والمنشورات السلفية في تكفير الشيعة
لا يمكن إحصاء ما ألفه السلفية من كتب ومنشورات حول الشيعة، لأن كل علم من أعلامهم أو خطيب من خطبائها يتقرب إلى الله بكتابة كتاب أو رسالة يملؤها بكل ما ملأه به سلفه من أحقاد حول هذه الطائفة المحترمة من طوائف الأمة.
وقد شجع على التأليف في هذا الجانب الكثير من العوامل، ومن أهمها العامل السياسي، فالسعودية ودول الخليج استعملت في حربها مع إيران كل الوسائل وأهمها الحرب الثقافية المتمثلة في نشر الكتب والرسائل والمطويات.. حتى لا يخلو بيت من بيوت المسلمين من أمثال هذه الكتب.
وسأذكر هنا باختصار نموذجين عن كتب تنتشر بكثرة، وخصوصا على النت، لتكون مثالا على أحقاد السلفية وطبيعتها العدوانية، وأمراضها النفسية التي تلبسها لباس
__________
(1) فتاوى ابن جبرين: رقم الفتوى 18080.
كلكم كفرة (450)
الإسلام.
النموذج الأول كتاب [الخطوط العريضة التي قام عليها دين الشيعة الاثنى عشرية]
وهو لمؤلفه السلفي الكبير صاحب الهوى الأموي محب الدين الخطيب (1303 - 1389 هـ) الذي لم يترك طائفة من الأمة إلا وأصابها بحقده وكبره وغروره السلفي.
وقد ذكر الدكتور صالح الخرفي لقاء مطولا له مع هذا العلم السلفي الكبير ذكر فيه جهوده الكبرى في خدمة الأمة ـ كما يتصور السلفية ـ وكان مما قاله له قوله: (إن الاستعمار على اختلاف دوله حاول أن يحارب الإسلام بالطرق الصوفية بشمال إفريقيا، وبالقاديانية والبهائية في الهند، وأقطار كثيرة أخرى، فكان من وسائل الدفاع عن الإسلام التنبيه على أضرار الطرق المنحرفة التي كان يسميها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنيات الطريق، وأن مجلة (الفتح) قامت بنصيب كبير من الجهود في مقاومة الطرق ومقاومة القاديانية، وحتى بعد احتجاب الفتح كنت أنتهز الفرص في مجلة (الأزهر) لمواصلة هذا الجهاد الذي أرجو الله أن يؤدي ثمرات طيبة في الجزائر وفي جميع البلاد الإسلامية التي زال عن آفاقها شبح الاستعمار.. وكما كنت أرى ضرر الطرق الصوفية فيما مضى، فقد اتسع في هذه السنوات مجال الدعوة الشيعية بكتب تصدر عن النجف في العراق ومن جبل عامل في لبنان ومن إيران والهند، وفيها الطعن على الصحابة من الصديق الأكبر إلى من هو دونه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فرأيت من أكبر الجهاد في الدفاع عن مذهب السنة وأهلها أن أنبه على مواطن الباطل من هذه الكتب الشيعية، فنشرت تعليقا على كتاب (العواصم من القواصم) للقاضي ابن العربي الذي سبق الشيخ ابن باديس إلى نشره ولكن بغير تعليق، وكذلك نشرت تعليقا على مختصر (الحافظ الذهبي) لكتاب (منهاج السنة) للشيخ (ابن تيمية) وتعليقا على مختصر (التحفة الإثني عشرية) لابن شاه ولي الله الدهلوي، ورسالة (الخطوط العريضة) في
كلكم كفرة (451)
حقيقة الشيعة) (1)
وقد كان هذا العلم السلفي من كبار المحاربين للتقارب بين المذاهب الإسلامية مع أنه كان مذهب كبار العلماء في عصره، وخاصة علماء الأزهر.. وهو لذلك كان يحذرهم بشدة من تلك الدعوات الصادقة التي اتفق عليه االطرفان من العمل في المتفق عليه، وعذر بعضهم بعضا في المختلف فيه.. وهو نفس ما تدعو إليه التقية التي يقول بها جميع الشيعة.
لكن عقل محب الدين الخطيب السلفي لم يستطع أن يفهم هذا المعنى، فراح يقول: (أول موانع التجاوب الصادق بيننا وبينهم ما يسمونه (التقية)، فإنها: عقيدة دينية تبيح لهم التظاهر لنا بغير ما يبطنون، فينخدع سليم القلب منا بما يتظاهرون له به من رغبتهم في التفاهم والتقارب، وهم لا يريدون ذلك، ولا يرضون به، ولا يعملون له، إلا على أن يبقى من الطرف الواحد، مع بقاء الطرف الآخر في عزلته لا يتزحزح عنها قيد شعرة، ولو توصل ممثلو دور التقية منهم إلى إقناعنا بأنهم خطوا نحونا بعض الخطوات، فإن جمهور الشيعة كلهم من خاصة وعامة يبقى منفصلا عن ممثلي هذه المهزلة، ولا يسلم للذين يتكلمون باسمه بأن لهم حق التكلم باسمه) (2)
وهكذا راح في رسالته تلك يتغافل عن كل الجهود التي قام بها عوام الشيعة وخواصهم في خدمة القرآن الكريم وحفظه وتفسيره لينشر تلك الشبهة التي لا يزال السلفية يتعلقون بها، ويردونها على الرغم من أن كل الأدلة ضدهم.
يقول الخطيب: (وقد ألف أحد طواغيتهم واسمه النوري الطبرسي كتابا في ذلك سماه (فصل الخطاب)، وفيه مئات النصوص والنقول عن كبار طواغيتهم بدعوى أن القرآن محرف... وإن المنافقين منهم يتظاهرون بالبراءة من هذا الكتاب تقية، ولكن هذه البراءة لا
__________
(1) صفحات من الجزائر: شخصيات ومواقف للدكتور صالح خرفي (ص:122 - 123)
(2) الخطوط العريضة، ص 15.
كلكم كفرة (452)
تنفعهم لأنهم يحملون منذ ألف سنة إلى الآن أوزار النصوص والنقول الموجودة في كتبهم بهذا المعنى) (1)
وهكذا راح يواجه تلك الدعوات التقريبية التي تحاول حصر الخلاف بين الشيعة وغيرهم من الأمة في مسائل فرعية وتاريخية لا علاقة لها بجوهر الدين وأصوله، فقال تحت عنوان [الشيعة تخالف المسلمين في الأصول وليس فقط في الفروع]: (يستحيل هذا التفاهم مع الشيعة الإمامية؛ لأنها تخالف جميع المسلمين في أصولهم، ولا ترضى من المسلمين إلا بأن يلعنوا (الجبت والطاغوت) أبا بكر وعمر، فمن دونهم إلى اليوم، وبأن يتبرؤوا من كل من ليس شيعيا، حتى آل البيت، الذين لم ينضووا تحت لواء الرافضة في عقائدهم الملتوية التي منها ادعاء أن القرآن محرف، وقد زعموا ذلك في جميع عصورهم وطبقاتهم، على ما نقله عنهم وسجله لهم نابغتهم العزيز عليهم، الحبيب إلى قلوبهم: النوري الطبرسي) (2)
ولم يكتف السلفية عند طبعهم للكتاب بتلك الأحقاد التي كتبها الخطيب، وإنما أضاف إليها كل من نشر الكتاب المزيد مما في نفسه منها.
ومن النماذج على ذلك ما قدم به [محمد مال الله] للكتاب، فقد شن حملة شديدة على العلماء الذين يدعون للوحدة الإسلامية، والتقارب بين المذاهب الإسلامية، ومن أقواله أو خطبه في ذلك: (لا يفكرن أحد في الوحدة وفي التأليف بين المسلمين وبين هذه الجماعة، فإن مذاهبها ومبادئها لا تمكنها أبداً في الرضا عن المسلمين ومن الاقتراب إليهم وإلى ودهم وولايتهم. وإذا كانت هذه القرون الطويلة التي مرت بهم لم تستطع أن تأكل من صدورهم ومن كتبهم العداوات التي يحملونهم لأبي بكر وعمر وعثمان والآخرين، بل ظلت في صدورهم وفي كتبهم حتى اليوم تزداد ذكاء واتقاداً وتوهجاً، فكيف نرجو نحن منهم محبة
__________
(1) مقدمة الخطيب لكتاب (التحفة الاثني عشرية) (هامش ص: 33)
(2) الخطوط العريضة، ص 54.
كلكم كفرة (453)
أو ولاية أو صداقة؟! ثم ما الذي نرجوه من الاتحاد بهم والاقتراب إليهم؟ إنهم لن ينفعونا شيئاً، ولن يزيدونا إلا ضعفاً وهوناً وهواناً وخبالاً!.. أنريد منهم أن يجاهدوا معنا أعداءنا وأعداء الإسلام، وهم يقولون إن الجهاد باطل موضوع لا يجوز إلا تحت راية الإمام المنتظر، وهم يقولون أيضاً: إن الذين فتحوا بلاد الكفر والشرع من المسلمين آثمون عاصون لأنهم تحت إمرة غير معصوم أمثال عمرو وخالد وأبي عبيدة وأسامة.. أم نريد منهم القوة وهم ما زالوا الضعف في الإسلام والوهن في صفوف المسلمين؟ أم نريد منهم كثرة العدد، وماذا نفعل بكثرة العدد؟ والمسلمون لم يؤتوا من قلة العدد. إنه الغثاء والوباء والبلاء. ومسلم واحد مثل خالد بن الوليد خير للإسلام من الشيعة في جميع عصورها) (1)
ثم راح يصدق كل تلك الأكاذيب التي تتحدث عن تاريخ الشيعة: (أم ماذا نريد منهم وقد كانوا أبداً حرباً على المسلمين، وعوناً لأعداء المسلمين، المريدين بهم الفواق؟ سائلوا التاريخ قولوا له: في أي عصر من عصورك كتبت في صفحاتك لهذه الطائفة جهاداً أو نصراً للإسلام. أو دفاعاً عنه بين صفوف المجاهدين من المسلمين؟ بل قولوا له في أي عصر من عصورك لم تكتب على هذه الطائفة انحيازها إلى غير المسلمين وانكفاءها شطر آخصام الإسلام فراراً من المسلمين؟ قولوا للتاريخ وهو أصدق ناطق ومجيب: أما كانوا أعواناً وعيوناً لطاغية التتار على المسلمين وعلى خليفتهم، ثم أما حاولوا قتل البطل المجاهد السلطان صلاح الدين بينما هو يناجز عبدة الصلبان ويحاربهم ولكن الله أنجاه منهم ومن عدوانهم؟ وقد خصوا هذا البطل العظيم بمزيد العداوة وعنيف الخصومة. بل قولوا أي بطل من أبطال الإسلام وفاتحيه ومجاهديه لم يكرهوه ويمقتوه ما خلا علي بن أبي طالب، وما ولاؤهم له بولاء ولكنه البلاء؟ إذن ماذا نريد منهم ومن الاقتراب إليهم وتألفهم لو
__________
(1) الخطوط العريضة، ص 5.
كلكم كفرة (454)
كان ذلك ممكناً ميسوراً؟ إننا نريد مسلماً واحداً سليماً قوياً ولا نريد ألف مريض هالك) (1)
النموذج الثاني كتاب [أحكام الروافض؛ شبهاتهم؛ كيفية التعامل معهم]
وهو للشيخ عبد الرحمن السحيم، وهو لداعية سعودي يعمل بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، وقد تتلمذ ـ كما ورد في ترجمته ـ على كبار أعلام السلفية، من أمثال الشيخ ابن عثيمين والشيخ ناصر العقل والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ عبد الكريم الخضير، وغيرهم.
وهذا الكتاب مملوء بالفتاوى التكفيرية.. وقد بدأها بهذه الفتوى إجابة عن سؤال يقول: (هل الرافضة أو الشيعة كفار مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله): (ليس كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صار مسلما، فالمنافقون يشهدون هذه الشهادة ومع ذلك لا تنفعهم.. وذلك أن شهادة التوحيد لها شروط وأركان ولها نواقض، فمن أتى بناقض من نواقض هذه الشهادة فإنه لا ينفعه عمل. وكذلك الحال بالنسبة للرافضة فإنهم أشد كفرا من اليهود والنصارى كما نص على ذلك العلماء. وقد بسط القول فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه النافع: [منهاج السنة النبوية].. والرافضة عموما يُعظّمون القبور والأموات، والشرك أصل فيهم. وليس شيء أضرّ على الإسلام من الرافضة، ومن قرأ التاريخ عَرَف ذلك، فمن أسقط الخلافة العباسية سواهم؟ ومن جرّأ المغول على سفك دماء المسلمين في بغداد وسائر البلاد الإسلامية إلاّ هم؟) (2)
وسئل في فتوى أخرى عن مخاظر الشيعة، فقال: (الرافضة شرّ من اليهود والنصارى، وذلك لأنهم ينتسبون إلى الإسلام، والإسلام منهم براء، وقد حذّر السلف من صُحبة الرافضة، بل حتى منعوا من إلقاء السلام عليهم، وهم يُضمرون عداء واضحا لأهل
__________
(1) الخطوط العريضة، ص 7.
(2) أحكام الروافض، ص 9.
كلكم كفرة (455)
الإسلام، وربما طفح هذا العداء حتى صرّحوا به.. قال الإمام البربهاري: واعلم أن الأهواء كلها ردية تدعو إلى السيف، وأردؤها وأكفرها الرافضة والمعتزلة والجهمية، فإنهم يريدون الناس على التعطيل والزندقة.. وجرائم الرافضة لا تخفى على ذي بصيرة، فجرائمهم عبر التاريخ حتى سوّدوا صفحات من التاريخ بَسوء أفعالهم، سوّد الله وجوههم وأخزاهم) (1)
وأجاب في فتوى أخرى عن سؤال حول التعامل مع الشيعة ومخالطتهم، فقال: (يجب أن لا يغيب عن ذهنك أن الكذب والنفاق هو دين الرافضة، والذي يُسمّونه التّقيّة، وهو عندهم تسعة أعشار الدِّين، وفي حديث عندهم أيضا: (من لا تّقيّة له لا دين له)، ويروون عن جعفر الصادق – وهو منهم برئ – أنه قال: (التّقيّة ديني ودين آبائي وأجدادي)، وعندهم أيضا حديث: (من صلّى خلف سُنيّ تّقيّة فكأنما صلّى خلف نبيّ)، فهذا التعامل الحسن وعدم إظهار الكُره هو من هذا الباب من باب التّقيّة، ثم إنهم لا يملكون قوّة الحجة فيُحاولون كسب العامّة يعني أهل السنة بهذه الطريقة، ولا يغررك طيب كلامهم فما تُخفي صدورهم أكبر. فهم كملامس الحيات وكأنياب الليث.. ثانيًا: جلوسك معهم ومُصاحبتهم يُطمعهم فيك أكثر. بالإضافة إلى مُجالسة أهل الضلال تكثير لسوادهم. وهم شرّ من وطئ الحصى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.. وإني لأتساءل كيف تطيب نفوسنا أن نُجالس من يطعنون في عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يتفوّهوا بهذا أمامنا، فهذا اعتقادهم الذي تنضح به كتبهم.. رابعًا: بالنسبة لدعوتهم فهو شبه الريح وأخو المستحيل، أذكر أنني قابلت رافضيًا هداه الله إلى الإسلام فسألته: كيف يُمكن أن أعرف أن الرافضي قد اقتنع وأنه لا يستعمل معي التّقيّة؟ قال: هذا لا يُمكن إلا إذا أسلم وحسُن إسلامه. أما من خلال النقاش والمجادلة فلا يُمكن ذلك، وأفاد أيضا أن دعوتهم أصعب ما تكون، إذ قد رضعوا بغض العامّة يعني أهل السنة رضعوا بغضنا مع حليب أمهاتهم، والحوادث على
__________
(1) أحكام الروافض، ص 10.
كلكم كفرة (456)
ذلك كثيرة، والشواهد أكثر) (1)
وسئل: (ما صحة قول: كلنا مسلمين شيعة كنا أم سنة فلا فرق؟)، فأجاب: (إذا صح أنه لا فرق بين الليل والنهار، ولا بين الثرى والثريا فيصحّ أنه لا فرق بين الكفر والإسلام! فالرفض شرك وكُفر، والرفض دين آخر غير دين الإسلام، ليس لهم مساجد بل حسينيات، ليس عندهم قرآن بل مصحف فاطمة، يحجّون إلى كربلاء والنجف والعتبات المقدسة - بزعمهم - يُقدّسون مراقد الأئمة، يَدعون عليا والحسين من دون الله! أي إسلام هذا؟! فنحن لا نلتقي مع الرافضة إلا أننا نعيش وإياهم على سطح الأرض) (2)
وسئل: (جاري شيعي فهل يجوز زيارته في بيته أو قبول دعوته إلى بيته أو إلى أي مكان آخر، وهل يجوز أن ندعوه في المناسبات وغيرها؟)، فأجاب بقوله: (روى أبو بكر الخلاّل في كتاب السنة عن يوسف بن موسى أن أبا عبد الله [الإمام أحمد] سُئل - وأخبرني علي بن عبد الصمد - قال: سألت أحمد بن حنبل عن جارٍ لنا رافضيّ يُسَلِّمُ عَلَيّ أرُدّ عليه؟ قال: لا. وروى أيضا عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سُئل عن رجل له جار رافضي يُسَلِّم عليه. قال: لا، وإذا سَلّم عليه لا يَرُدّ عليه. فإذا كان السلف يَمنعون من السلام عليه ومِن رَدّ السلام، فكيف بِدعوته؟ مع أن أهل العلم يُجيزون ردّ السلام على اليهودي أو النصراني إذا سلَّم، وأما الرافضي الطاعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السابّ لأصحابه، فهذا لا يُردّ عليه ولا كرامة له) (3)
وسئل: (هل يجوز أن يدخَل الروافِض الحرمين؟)، فأجاب بقوله: (إن الرافضة لم يَدخلوا الإسلام أصلا حتى يُحكَم بِكفرِهم، بل لهم دِين مُستَقِلّ، ولهم مُصحف غير
__________
(1) أحكام الروافض، ص 12.
(2) أحكام الروافض، ص 19.
(3) أحكام الروافض، ص 30.
كلكم كفرة (457)
مصحف المسلمين [مصحف فاطمة]، بل وحتى الاسم، فاسمهم [الرافضة]، وهم يَعترفون بذلك كله في كُتبهم، وقد صرّح بعض معاصريهم بأنهم لا يَجتمعون مع أهل السنة لا في ربّ ولا في دِين ولا في نبيّ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يَجب منعهم من دخول الحرم.. ومَن سَفَك الدم الحرام في الحرم إلا الرافضة.. ومن قَتل الحجيج قديما وحديثا إلا الرافضة؟! وكل ذلك بِدعوى الإسلام! وتحت شِعار محبة آل البيت، وحقيقة دِين الرافضة الكفر الصريح والزندقة المكشوفة) (1)
وسئل: (ما رأيكم بعمل تحالف إسلامي سني وشيعي قائم على أساس الشهادتين والقرآن الكريم؟)، فأجاب: (الذي يَطلب القرب من الرافضة كالذي يتطلّب جذوة نار في قاع البحر، والذي يُريد مُسالمة الرافضة أو نُصرتهم فهو كالذي يُريد مسالمة العقارب والأفاعي السامة.. شواهد التاريخ كثيرة وكثيرة جدا على غَدر الرافضة، بل شواهد الواقع المعاصر المشاهَد شاهدة بذلك.. فكيف يُطلب التقارب مع أناس لا عهد لهم ولا وفاء؟ بل مع أناس يَرون سفك دماء أهل السنة (العامة – الناصِبة) قُربة إلى الله.. هذا غير ممُكن إلا أن يتنازل الرافضة عن كُفرهم وشركهم، وأن يُؤمنوا بالكتاب والسنة. أما ما عدا ذلك فعبث! والتاريخ أثبت أن يد الرافضة بِيَد العدو المحتلّ.. فكيف نطلب حرب عدو أيديهم في يده وقلوبهم معه) (2)
وسئل عن حكم لعن الشيعة، فأجاب: (أما الرافضة فلعنهم قُربة؛ لأنهم يلعنون خيار الأمة، بل يلعنون أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيلعنون أبا بكر وعمر وابنتيهما.. ومَن لا يرعوي عن اللعن، فلا ينبغي التورّع عن لعنه، إلاّ أن يُفضي ذلك إلى حَمْلِهم على لَعْن
__________
(1) أحكام الروافض، ص 39.
(2) أحكام الروافض، ص 41.
كلكم كفرة (458)
الأخيار) (1)
وسئل: (من أشد خطرا على المسلمين الروافض أم الإسرائليون؟)، فأجاب: (الرافضة واليهود: وَجْهان لِعُملة واحدة، والرفض صَنيعة يهودية، إلاّ أن الذي يُبطِن لك خلاف ما يُظهِر أخطر. خاصة إذا كان يتمسّح بِدِين الإسلام ويزعم أنه مسلم! فهذا قد يصِل إلى ما لا يصِل إليه غيره، وقد يُخدَع به فئام من المسلمين، وهل أسقط الخلافة في بغداد قديما إلاّ ابن العلقمي الرافضي؟ وهل ساعد على دُخول العدوّ الْمُحْتَلّ إلى العراق إلا أحفاد ابن العلقمي؟! والتاريخ يُعيد نفسه. والحية لا تُؤمن وإن كانت ناعمة الملمس) (2)
هذه مجرد نماذج قليلة عن فتاوى كثيرة ممتلئة بالحقد والكراهية.. وهي نتيجية طبيعية لتلك الأحقاد التي تتلمذ عليها من مشايخه من السلفية القدامى والمعاصرين.. فيستحيل على من تتلمذ على أولئك الرجال وتلك الكتب أن يكون إنسانا مسالما أو طبيعيا.
__________
(1) أحكام الروافض، ص 46.
(2) أحكام الروافض، ص 65.
كلكم كفرة (459)
السلفية.. وتكفير المدرسة الإباضية
لا تختلف النظرة السلفية التكفيرية للإباضية عن نظرتها لسائر الأمة، ذلك أنهم يقولون بالكثير من العقائد التي اتفق سلف السلفية وخلفهم على التكفير بها.. ولكن بما أن صراعهم الحالي متوجه إلى الشيعة، وفي وقت سابق كان متوجها إلى الصوفية، فلهذا كانوا أكثر هدوءا معهم، وإن كانوا يبطنون تكفيرهم، بل يظهرونه في كثير من الأحيان، ولكن ليس بالحدة التي أظهروا بها كفر الشيعة أو الصوفية لعدم وجود أسباب سياسية تشجعهم على إعلان المواجهة.
وأول ما يكفر به السلفية الإباضية اتهامهم بكونهم خوارج، وأن كل النصوص الواردة في الخوارج منطبقة عليهم، ولهذا يفسرون قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم وفي سلفهم من الخارجين على الأمة المكفرين لها: (سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة) (1) إلى حمله على الخوارج قديما والأباضية حديثا (2).. ولست أدري كيف يحملونه عليهم، وهم أكثر الناس سلاما مع الأمة، وأبعد الناس عن التطرف والإرهاب والعنف الذي بدأ بسلف السلفية، وانتهى بخلفهم.
بالإضافة إلى هذا، فهم يحكمون عليهم بما يحكمون على القائلين بخلق القرآن، وهم جميع الأمة ما عداهم..
ويحكمون عليهم بما يحكمون على ما يسمونه تعطيل الصفات وإنكار الجهة ونفي
__________
(1) رواه البخاري (6930)، ومسلم (1066)
(2) انظر: فرق معاصرة لغالب عواجي 1/ 295.
كلكم كفرة (460)
الرؤية الحسية وغير ذلك من العقائد مما رأينا تكفير السلفية للقائلين بها، والإباضية من جملة القائلين بها.. ولذلك فهم يدخلون في دائرة التكفير السلفي المطلق لجميع المدارس العقدية كما شرحنا ذلك في الفصل الأول.
بالإضافة إلى ذلك، فقد وردت الكثير من التصريحات من السلفية المتأخرين من مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تكفير الإباضية، ومنها قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب: (والخوارج ما عندنا أحد منهم حتى في الأمصار ما هنا طائفة تقول بقول الخوارج إلا الإباضية في أقصى عمان ووقعوا فيما هو أكبر من رأي الخوارج وهي عبادة الأوثان ولا وجدنا خطك في الخوارج إلا أن أهل هذه الدعوة الإسلامية التي هي دعوة الرسل إذا كفروا من أنكرها قلت يكفرون المسلمين لأنهم يقولون لا إله إلا الله) (1)
وقال الشيخ سليمان بن سحمان: (فإنه بلغنا عن بعض الإخوان الساكنين بالساحل من أرض عُمان أن في جهتهم جهميةً وإباضية وعباد قبور متظاهرين بمذاهبهم وعقائدهم، مظهرين العداوة للإسلام وأهله. وذكروا أنه كان لديهم أناس ممن ينتسب إلى العلم والطلب يجادلون عنهم، ويوالونهم، ويفرون إليهم، ويأخذون جوائزهم وصلاتهم، ويأكلون ذبائحهم. وهؤلاء الجهمية الذين كانوا بالساحل من أرض عمان قد شاع ذكرهم وانتشر خبرهم، وظهر أمرهم من قديم الزمان.. حكم الجهمية، وعباد القبور والإباضية وغيرهم من طوائف الكفر ممن قد نشأ في الإسلام، وبين أظهر المسلمين، ويسمعون كتاب الله وسنة رسوله ويقرؤون فيهما. وكتب أهل الفقه وأهل الحديث) (2)
وقال: (فأما الجهمية، والإباضية، وعباد القبور، فالرفق بهم، والشفقة عليهم،
__________
(1) المطلب الحميد لعبد الرحمن بن حسن ص 157.
(2) مجموعة الرسائل النجدية 1/ 72، كشف الشبهتين.
كلكم كفرة (461)
والإحسان، والتلطف، والصبر، والرحمة، والتبشير لهم، مما ينافي الإيمان، ويوقع في سخط الرحمن، لأن الحجة بلغتهم منذ أزمان) (1)
بل إنهم يستدلون بالحديث السابق على جواز قتلهم، ولو لم يقاتلوا، وقد كتب بعضهم تحت عنوان [حكمهم عند أهل السنة وقتالهم]، أورد بعده الحديث السابق: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) (2)
ثم علق عليه بقوله: (بهذا الحديث ونحوه استدل من يرى جواز قتلهم ابتداء وإن لم يبدءوا بحرب، وهذا إذا أظهروا بدعتهم، وكذلك استدل به على جواز قتل المقدور عليه منهم، قال ابن تيمية: (فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم، فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم) (3)، وقال ابن قدامة: (والصحيح إن شاء الله أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والإجهاز على جريحهم لأمر النبى صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم ووعده بالثواب لمن قتلهم) (4)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها) (5) وإنما وجب قتال الخوارج لإفسادهم أمر المسلمين، وتفريق كلمتهم وإضعافهم أمام عدوهم، قال ابن هبيرة (إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن فى قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفى
__________
(1) كشف الشبهتين ص 60.
(2) البخاري (3611)، مسلم (1066)
(3) مجموع الفتاوى (28/ 499)
(4) المغني (8/ 526)
(5) مجموع الفتاوى (7/ 481)
كلكم كفرة (462)
قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى) (1)
وهكذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، وهي أعلى لجنة رسمية للفتوى لدى السلفية، فقد سئلت حول حكم الصلاة خلف الإباضية، فأجابت: (فرقة الإباضية من الفرق الضالة لما فيهم من البغي والعدوان والخروج على عثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهما، ولا تجوز الصلاة خلفهم) (2)
بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل ذكر نموذجين عن الكتب والرسائل المؤلفة في تكفير الإباضية، لنرى من خلالها أسباب التكفير ونتائجه، ونرى معهما مظهرا جديدا من مظاهر حقد السلفية على الأمة جميعا.
النموذج الأول كتاب [الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة]
وهو لمؤلفه الذين أطلق على نفسه لقب [عبد الله السلفي]، وقد بدأ كتابه هذا ـ كعادة السلفية ـ بمدح أنفسهم وسلفهم الذين (يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم) (3)
وبعد ذلك مباشرة، وبدون مقدمات نطق بهذا الحكم التكفيري الخطير: (من
__________
(1) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 37.
(2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم 6935.
(3) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 4.
كلكم كفرة (463)
المضلين الضالين في هذا الزمان وقبله بأزمان الإباضية فقد جمعوا بين عقيدة الخوارج –إذ هم فرع عنهم- والمعتزلة الجهمية وسموا أنفسهم أهل الحق والاستقامة!) (1)
ثم راح ينقل النصوص الواردة في الخوارج، ويطبقها عليهم، ويستعين بشيخه شيخ الإسلام في ذلك.. ويستنتج بعد ذلك هذه النتيجة: (يتفق العلماء والباحثون قديماً وحديثاً على أن الإباضية في أصولها العقدية فرع عن الخوارج، وتلتقي معهم في أغلب الأصول التي خرجت بها الخوارج عن الأمة وأن الخلاف الذي انشعبت به عنهم كان في موقفهم من بقية المسلمين، وحكم الإقامة معهم ومتى يكون قتالهم، وأحكامهم في السلم والحرب) (2)
ثم راح ينقل أقوالهم في المسائل المختلفة، ويعقب عليها بأحكام سلفه المتشددة، وقد بدأ ذلك بتوحيد الألوهية ـ كما يفهمه السلفية ـ ونقل عن [لباب الآثار] لمهنا بن خلفان البورسعيدي قوله: (ومن نذر لشيء من القبور أو لموضع ولم يبين الشيء هل يثبت، وفيم يجعل؟ قال: يثبت ويجعل في مصالح الموضع أو القبر أن احتاج وإلا يوقف إلى أن يحتاج، وقول يفرق في الفقراء والله أعلم) (3)، وقوله: (من نذر برأس غنم ليؤكل عند القبر الفلاني كل سنة تدور مادام حيا، ثم ترك قضاء النذر سنتين ثم أراد قضاء الماضي ما يلزمه؟ قال: يجزي البدل لما مضى وعليه التوبة والاستغفار وفي الكفارة عليه اختلاف وهي كفارة يمين مرسلة والله أعلم) (4)
وغيرها من النصوص، ثم عقب عليها بقوله: (هذا شركٌ أكبر هذا ما يجوز، هذا لا يحل الوفاء به، وعليه التوبة إلى الله من ذلك؛ لأن هذا شركٌ أكبر، الذبح للأموات، والتقرب
__________
(1) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 4.
(2) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 7.
(3) لباب الآثار لمهنا بن خلفان البوسعيدي، ج 2، ص 22.
(4) لباب الآثار، ص 21.
كلكم كفرة (464)
إليهم بالذبائح، أو النذور هذا شركٌ أكبر، العبادة حق الله وحده) (1)
وهكذا عقد فصلا خاصا بموقفهم من خلق القرآن، وراح يكفرهم على أساس ذلك، قال: (وهذه المسألة من أهم المسائل وليست فتنة القول بخلق القرآن التي قام بها بعض خلفاء بني العباس ونصرهم فيها قضاة المعتزلة بخافية على أحد فكم أريق فيها من دماء وكم امتحن بسببها وكم جلد وأوذي أهل السنة فيها من الإمام احمد بن حنبل فمن دونه، وقد ورث هذه المقولة الخبيثة المخرجة عن الملة ورثها عن المعتزلة اتباعهم الإباضية وانتصروا لها وقرروها) (2)
وليؤكد هذا ذكر ما أورده ابن جميع الإباضي في مقدمة التوحيد من قوله: (وليس منا من قال إن القرآن غير مخلوق) (3)
ونقل من كتاب [الدليل لأهل العقول] للورجلاني قوله: (والدليل على خلق القرآن أن لأهل الحق عليهم أدلة كثيرة، وأعظمها استدلالهم على خلقه بالأدلة الدالة على خلقهم هم فإن أبوا من خلق القرآن أبينا لهم من خلقهم، وقد وصفه الله عز وجل في كتابه وجعله قرآناً عربياً مجعولاً) (4)
وذكر أن هذا هو ما ذكره جميعهم انتهاء بالخليلي في كتابه [الحق الدامغ]، والذي سنعرض له في هذا الفصل.
وقد اعتبر أقوالهم في هذه المسألة وحدها ما يكفي لتكفيرهم، قال: (هذه المسألة من المسلمات عند أهل السنة، فقد دل القرآن والسنة وأقوال السلف -الصحابة فمن دونهم-
__________
(1) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 12.
(2) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 14.
(3) مقدمة التوحيد ص 19.
(4) الدليل لأهل العقول للورجلاني ص 50، 68 - 72.
كلكم كفرة (465)
وإجماع أهل السنة على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ومن قال بخلقه كفر) (1)
ثم نقل عن ابن القيم قوله في النونية:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في... عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم... بل حكاه قبله الطبراني
وهكذا عقد فصلا خاصا بموقفهم من [الأسماء والصفات] كفرهم بسببه، وقد نقل في مقدمته قول بعضهم عند حديثه عن اشتقاق الاسم: (الاسم مشتق من السمة وهو العلامة: يقول المرء: كان الله تعالى في الأزل بلا اسم ولا صفة. فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فلما أفناهم بقي بلا اسم وصفة.. والاسم أيضا ما دل على الذات من غير اعتبار معنى يوصف به الذات) (2)
ثم عقب على هذا بقوله: (وهذا من أعظم الضلال وأقبح الكفر أن يكون الله تعالى بلا اسم ولا صفة، وقد كفر جمعٌ من الأئمة من قال إن أسماء الباري سبحانه مخلوقة، ومنهم: الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، عثمان بن سعيد الدارمي، ونعيم بن حماد، ومحمد بن اسلم الطوسي، ومحمد بن جرير الطبري وابن خزيمة، وغيرهم) (3)
هذه نماذج قليلة عن تكفيره لهم، وأسباب ذلك، وهي مما اتفق عليه سلف السلفية وخلفهم على التكفير على أساسها، ولذلك فإن من يذكر بأن السلفية لا يكفرون الإباضية مخطئ في ذلك، أو هو لا يعرف قوانين السلفية في التكفير، أو لا يعرف مقولات الإباضية.
النموذج الثاني: كتاب [الرد القويم البالغ على كتاب الخليلي المسمى بالحق
__________
(1) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 14.
(2) أصول العقائد الإسلامية ـ العقيدة (2/ 25)
(3) الإباضية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص 24.
كلكم كفرة (466)
وهو لمؤلفه الأكاديمي السلفي الدكتور علي بن محمد ناصر الفقيهي، وقد قدم للكتاب وأقره الشيخ السلفي الكبير صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان، وقد قال في تقديمه له: (وصلتني رسالتكم ومعها مؤلفكم في الرد على الإباضي الجهمي أحمد بن حمد الخليلي في كتابه المسمى (الحق الدامغ)، والذي ضمنه ثلاث ضلالات: نفي رؤية المؤمنين لربهم، والقول بخلق القرآن، وتخليد العصاة من المؤمنين في النار..) (1)
وقد قال الكاتب في مقدمته بعد ذكره ـ كعادة السلفية ـ للمؤامرات التي شنت على الأمة الإسلامية من طرف المذاهب والفرق: (اطلعت على كتابه بعنوان (الحق الدامغ) المطبوع عام 1409 هوعلى غلافه اسم مؤلفه: أحمد بن حمد الخليلي. وهو يقع في 239 صفحة، وبعد قراءته وجدته خصّصه لثلاث مسائل عقدية خالف فيها أهل السنة والجماعة، وسلك فيها مسلك الجهمية والمعتزلة والزيدية والإمامية الرافضة من الشيعة وهذه المسائل الثلاث هي: (إنكاره رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في الدار الآخرة.. قوله: إن القرآن مخلوق.. اعتقاده تخليد الفساق في النار) (2)
وقال مبينا دوافعه من تأليف الكتاب: (وحيث إن المؤلف وطائفته – الإباضية – قد ورثوا الجهمية والمعتزلة.. كما صرح بذلك في كتابه هذا أنه يشارك الإباضية في هذه الأفكار الجهمية، والمعتزلة، والزيدية، والإمامية من الشيعة.. وهذا تصريح بإحياء تلك الأفكار التي وقف أهل السنة جميعاً في وجه معتنقيها، وبيّنوا أصولها، وأهداف مَنْ أسّسها ودعا إليها وأدخلها على ضعاف المسلمين علماً وإيماناً، فتفرقت بذلك كلمتهم، وتشتت شملهم، حتى أصبحت تلك الطوائف التي اعتنقت تلك الأفكار باسم الإسلام يكفّر بعضهم
__________
(1) الرد القويم البالغ على كتاب الخليلي المسمى بالحق الدامغ، ص 4.
(2) الرد القويم البالغ على كتاب الخليلي المسمى بالحق الدامغ، ص 7.
كلكم كفرة (467)
بعضاً، أو يبدّعه أو يفسّقه، ولكن بحمد الله بقيت الطائفة الناجية المنصورة، على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، عقيدة، وعبادة ومنهجاً. فردّت على تلك الطوائف المنحرفة انحرافها، وبينت للأمة السبيل الصحيح والصراط المستقيم، بما جاء في كتاب الله العزيز، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الصحابة والتابعين، واليوم نجد هذه الأفكار التي فرّقت كلمة الأمة، تُبْعَثُ من جديد، ويحمل لواءها الخليلي -ومن كان على شاكلته- في هذا الكتاب.. كما يشارك في هذه الأفكار المنحرفة، في قالب التنزيه، ويطعن في عقيدة علماء السلف وأتباعهم، شخص يدعى حسن بن علي السقاف، الذي صار يسود أوراقه بترهات وأباطيل ينشرها ليستر بها الحق الأبلج، ولنصر آراء الكوثري ومن صار على منهجه قبله وبعده) (1)
والكتاب يمتلئ بتكفيرات الإباضية الصريحة والملمحة، ومن ذلك قوله عند عتاب الخليلي لابن القيم بسبب تكفيره للمنزهة الذين يسميهم السلفية [المعطلة]: (وأما دعوى المؤلف على ابن القيم أنه يكفّر المعطلة لأسماء الله وصفاته من عند نفسه، فهي دعوى باطلة، لأن الحكم بالكفر أو الفسق أو التبديع حكم شرعي، الحكم فيه لله ولرسوله، فابن القيم لا يحكم على أحد بهواه، وإنما يحكم بالكفر على من كفّره الله ورسوله، فهو يقول ما قاله الله ورسوله فيمن رد آيات الله وسنة رسوله الصحيحة وجحدها، وربما أن المؤلف يخشى على نفسه من حكم الله ورسوله) (2)
وهكذا حول المؤلف حكم ابن القيم حكما لله ورسوله.. وهكذا ذكر أن لابن القيم أن يكفر من يشاء باعتباره ناطقا باسم الله ورسوله، أما الخليلي، فلا يصح له أن يقول شيئا وإلا فإنه سيصيبه ما أصاب غيره من التكفير.
هذه هي الكبرياء السلفية التي تصور لهم أن لهم الحق وحدهم في أن يكتبوا ما
__________
(1) الرد القويم البالغ على كتاب الخليلي المسمى بالحق الدامغ، ص 9.
(2) الرد القويم البالغ على كتاب الخليلي المسمى بالحق الدامغ، ص 24.
كلكم كفرة (468)
يشاءون، ويردوا على من يشاءون، وينصروا عقائد التجسيم والتشبيه التي يشاءون، فإن جاء أحد من الأمة وكتب ينتصر لآرائه أقاموا عليه الدنيا.
ومن النصوص الدالة على تكفير المؤلف للإباضية في الكتاب قوله ـ عند نفي الخليلي للرؤية الحسية لله تعالى ـ: (فهل ترضى لنفسك ولطائفتك الإباضية أن تكونوا في صف الجهمية الذين أخذوا عقائدهم عن اليهود أعداء هذا الدين، الذين وصفهم الله بالإفساد في الأرض، ولما عجزوا عن مواجهة الإسلام بالسيف، لجؤوا للكيد له، بأن دخل بعضهم في الإسلام نفاقاً كما فعل (عبدالله بن سبأ) الذي أسس عقائد الإمامية، في الرفض وتكفير الصحابة، ودعوى تحريف القرآن، ثم ختموا عقائدهم بعقائد الجهمية والاعتزال، ومنها إنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة، والقول بخلق القرآن، وقد حمل بشر المريسي لواء الجهمية في ذلك، والمعتزلة هم المنكرون للرؤية، وقد ألّف القاضي عبد الجبار المعتزلي مجلداً خاصاً بنفي الرؤية، وهو المجلد الرابع من كتابه المسمى (المغني في أبواب التوحيد والعدل)، وكل فصوله تدور على الفلسفة والمنطق، وليس لها صلة بكتاب الله الذي أنزله الله على رسوله ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومنها ظلمات أصحاب الفلسفة والمنطق الذين ضلوا في عقائدهم قبل ظهور الإسلام.. ومما نضيفه إلى معلومات الخليلي هو أن أهل السنة والجماعة، حكموا على الجهم بن صفوان -لأفكاره الضالة، وإنكاره أن يكون لله عزّ وجلَّ اسماً أو صفة –بالكفر) (1)
ومن تكفيراته الصريحة قوله عند الحديث عن موقف الإباضية من خلق القرآن: (إن أولئك الدخلاء من اليهود وغيرهم أرادوا القضاء على الإسلام وأهله بهذا الأسلوب الماكر، حين عجزوا عن مواجهة الإسلام في الظاهر، فهؤلاء الدخلاء اختلطوا بالمسلمين ونشروا أفكارهم الضّالة في المجتمع الإسلامي، ومن هذه الأفكار الضالة المضلة القول
__________
(1) الرد على الجهمية، (ص:171)
كلكم كفرة (469)
(بخلق القرآن) وإلا لم يكن هذا القول معروفاً عند الصحابة والتابعين، وقد تقبل بعض المسلمين (كالمعتزلة) وبعض (الإباضية) والزيدية وغيرهم تلك الأفكار المنحرفة البعيدة كل البعد عن هدي كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعرف أعداء الإسلام أن اجتماع الأمة الإسلامية على الإيمان بكتاب ربها عزوجل وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وأن التمسك بها سبب عظيم في عزها وقوتها، وامتداد سعادتها فأدخلوا أفكارهم المنحرفة على المسلمين في باب أسماء الله وصفاته، ونشروها بينهم تحت ستار التنزيه لله عز وجل عن مشابهة المخلوقين، ومن تلك الصفات التي نفوها عن الله عز وجل صفة (الكلام) فقالوا: إن الكلام لا يصدر إلا عن لسان وشفتين وهذه من صفات المخلوقين، فلو أثبتنا لله صفة الكلام فقد شبهناه بخلقه ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، ولمّا تقبّل بعض المسلمين كالمعتزلة والزيدية وبعض الإباضية ومن يدعي الإسلام كالرافضة تلك الأفكار الضالة -وقد يكون ذلك من بعضهم جهلاً بمراد أولئك الدخلاء - وَصَلَ أعداء الإسلام إلى أهدافهم، وهي إثارة الفتنة وتمزيق الأمة) (1)
وهكذا يصور الكاتب السلفي الأكاديمي الإباضية بأنهم مؤامرة لتخريب الإسلام وهدم العقائد الإسلامية، وأن الوحيدين الذين نجوا من هذه المؤامرة، وتوجهوا لمحاربتها هم السلفية..
__________
(1) الرد القويم البالغ على كتاب الخليلي المسمى بالحق الدامغ، ص 155.
كلكم كفرة (470)
السلفية.. وتكفير المدارس السلفية
قد يستغرب البعض هذا العنوان، ويتساءل متعجبا أو متهما أو ساخرا: كيف تكفر السلفية السلفية؟.. وهل السلفية إلا شيء واحد؟.. وهل يمكن للواحد أن ينقسم على نفسه؟.. وهل يمكن للواحد أن يتصارع مع نفسه؟
وهذا سؤال وجيه، والإجابة عليه تحل إشكالات كثيرة، وتفضح مكرا خفيا يقوم به من يدافع عن السلفية في قضايا التكفير وغيرها من القضايا..
ذلك أن هذا اللقب [السلفية] تتنازعه قديما وحديثا الكثير من الشخصيات والمدارس والتوجهات، والصراع بينها شديد جدا، ولا يقل عن صراعها مع سائر المدارس، بل وصل الصراع إلى حد التكفير.. فالسلفية يكفر بعضهم بعضا إما على منهج التكفير المطلق، وإما على منهج التكفير المعين.. وبذلك فإننا لو طبقنا تلك المقاييس التي طبقناها على سائر المدارس الإسلامية، فلن يبقى سلفي في الدنيا إلا وأصابته سهام التكفير، لا من لدن أصحاب المدارس الأخرى التي يكفرها، وإنما من لدن زملائه في المدرسة السلفية الذين يتفق معهم على أكثر العقائد السلفية، ويتفق معهم على اعتبار ابن تيمية شيخا للإسلام، واعتبار ابن عبد الوهاب مجددا له.
وهذا الخلاف السلفي السلفي ليس مجرد كلمات قد نجتهد في البحث عن مظانها، وليس مجرد تلميحات قد نجتهد في البحث عن تفسيرها.. وإنما تمثله ثروة كبيرة من الكتب والرسائل التي نجد فيها من الصراحة والوضوح ما لا يحتاج معه الباحث لأي عناء أو تكلف..
فكما أن كل سلفي كتب في الرد على الجهمية والمعطلة والصوفية والشيعة.. فكذلك نجد له كتابات في الرد على الجامية أو المداخلة أو الحدادية أو السرورية أو الحزبية أو الجماعات
كلكم كفرة (471)
المسلحة وهكذا..
بل نجد أن الجماعة الواحدة ذات التوجه الواحد، والتي تجتمع على خصومها سرعان ما يحصل الخلاف بينها في أي قضية من القضايا لتنشغل فترة طويلة في رد بعضها على بعض، إما على المواقع والمنتديات وإما بإصدار الكتب والبيانات والتحذيرات.
والذي لا يقر بهذا أو ينكره أو يتصور أننا نبالغ فيه أحد شخصين: إما جاهل لا يعرف الواقع، ولا يعرف التراث السلفي وما يصدر كل يوم منه، فهو يعيش في برجه العاجي يحمل صورة مثالية عن السلفية، ولم يشأ أن يلطخ نفسه بالواقع المرير الذي تعيشه.. وإما شخص يكذب على نفسه، ويحتال على الناس، ويفر من الحقيقة.
وما أسهل على العقلاء ـ من غير بذل أي جهد ـ أن يكتشفوا هذا، لا بمطالعة الكتب التي قد تشق عليهم، وإنما بالاكتفاء بالجلوس أمام شاشات التلفزيون ومتابعة الأخبار، ليرى ـ مثلا ـ أن السلفية التي اختارت العمل الحركي السياسي، وشكلت لذلك حزبا من الأحزاب، سرعان ما تنشق على نفسها، وتتحول إلى حزبين، ثم إلى أربعة وهكذا.
ومثل ذلك الحركات السلفية المسلحة.. فسرعان ما تتحول إلى الصراع فيما بينها مع كونها جميعا تقدس ابن تيمية، وتقتدي بابن عبد الوهاب، وتكفر المعطلة والجهمية والصوفية والشيعة وكل ما تتبناه جميع المدارس السلفية.
ومثل ذلك الخلاف الذي تفضحه شاشات التلفزيون، نجده في الكتب والمواقع والمحاضرات الكثيرة التي يتهجم فيها السلفية بعضهم على بعض إلى الدرجة التي يتصور القارئ أنه في غابة ممتلئة بالوحوش المفترسة، لا بين ناس عقلاء يدعون جميعا أنهم يحكمون القرآن والسنة ويرجعون إلى سلفهم الصالح في فهمهما وتطبيقهما.
وقد أشار الشيخ ربيع المدخلي إلى هذه الظاهرة، قال: (فبعض الناس ـ يقصد من السلفيين ـ الآن يطاردون السلفيين حتى وصلوا إلى العلماء وسموهم مميّعين! والآن ما بقي
كلكم كفرة (472)
في الساحة عالم –تقريباً- إلا طعن به وفيه! وهذه –طبعاً- هي طريقة الإخوان وطريقة أهل البدع؛ فإن أهل البدع من أسلحتهم أن يبدأوا بإسقاط العلماء، بل هي طريقة يهودية، ماسونية: إذا أردت إسقاط فكرة فأسقط علماءها أو شخصياتها، فابتعدوا عن هذا الميراث الرديء، واحترموا العلماء. ووالله ما يسعى في الكلام فِيَّ –ولا الطعن في ما نحن فيه- إلا لتكون النتيجة إسقاط المنهج؛ فالذي يكره هذا المنهج يتكلم في علمائه، الذي يبغض هذا المنهج ويريد إسقاطه، يسير في هذا الطريق) (1)
وأشار إلى بعض زملائه الذين كانوا معه في نفس المدرسة ـ وهم الحدادية ـ فقال ـ عند ذكره للفروق بينه وبينهم ـ: (ومن صفاتهم أيضا عدم الترحم؛ كان إذا ترحمت على مثل ابن حجر والشوكاني والنووي قالوا: مبتدع، إذا قلت الحافظ، قالوا: مبتدع، إذا قلت: عندهم أشعرية قالوا: لابدّ أن تقول: مبتدع، إذا لم تقل مبتدع فأنت مبتدع.. قلنا لهم: إذا قلنا أشعري معناه أنه عنده بدعة؛ الإنسان يريد أن يتأدب في لفظه ليس لازما أن تقول عنه مبتدع.. أنا أقرأ لكم تراجم من البخاري؛ يمرّ على جابر الجعفي ويمر على غيره لا يقول مبتدع وهو يعرف أنه رافضي ولا يقول أنه مبتدع، لأن هذا ليس لازما، بيّن ضلاله نصحا للناس لكن ليس لازما أن تقول مبتدع أو غير مبتدع فأبوا. يتصل علي أناس من الخارج من أبها يقول لي: ما رأيك في ابن حجر، أقول له: عنده أشعرية، يقول لي: أبدا، أنت ضالّ لابدّ أن تقول مبتدع) (2)
بناء على هذا، فإنه لا يمكننا في هذا الفصل أن نحيط بكل ذلك الخلاف، ونشرح تفاصيله، فالكتب والرسائل في ذلك أكثر من أن تحصى إلى الدرجة التي يمكن اعتبار كل علم من أعلام السلفية مدرسة قائمة بذاتها، ولها أحكامها الخاصة بها على سائر السلفيين
__________
(1) مجموع الكتب والرسائل: (1/ 481 - 482)
(2) مقال حول الفرق بين الحدادية والسلفية.
كلكم كفرة (473)
أعلامهم وعوامهم.
وكمثال على ذلك أننا عندما نبحث في تراث الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والذي له جمهوره الكبير، وأتباعه الكثيرون، لا نجد ردوده فقط على سيد قطب أو الإخوان أو التبليغ أو الصوفية أو الشيعة.. وإنما نجد ردودا كثيرة له على إخوانه في المدرسة السلفية، يتهمهم فيها بعدم رعايتهم لشروط المنهج السلفي، وعدم تطبيقهم الجاد له، ولو طبقنا المقاييس التي يحكمون بها على من يفعل ذلك، فإننا لن نحكم على من اتهمهم إلا بالكفر.. بل إننا نجد تصريحات كثيرة بالكفر لمن تتلمذوا على يديه، ثم اتهموه بعد ذلك بالسكوت ومهادنة أهل البدع من السلفية كما سنرى.
ومن الأمثلة على ذلك اتهام الشيخ ربيع لعلماء السلفية المعاصرين بالمهادنة، والتقصير في مواجهة أهل البدع، فقد قال في [مجموع الكتب والرسائل] بعد أن نقل (قول رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: (يا أبا بكر! أسألك عن كلمة؟ فولى وهو يقول: ولا نصف كلمة): (هذا –والله- هو الولاء الصادق لله وللإسلام، ولو عامل (علماء السنة) في هذا الزمن أهل البدع هذه المعاملة الحازمة، لماتت البدع في جحورها، ولما استطاعت المطابع أن تطبع كتبهم!) (1)
وهكذا قال في حديثه عن علماء الهند والعراق والشام مع أن فيهم الكثير من أعلام السلفية: (والفطن يعرف من هم علماء الهند وإيران والعراق والشام؟! وأنهم الروافض، وأسوأ منهم!) (2)
وهكذا كان حديثه عن علماء السعودية مع تشددهم وسلفيتهم التي ورثوها أبا عن جد، وتتلمذوا عليها منذ نعومة أظفارهم، فقد قال عند حديثه عن تقصيرهم في الرد على
__________
(1) مجموع الكتب والرسائل (5\ 167 - 168)
(2) مجموع الكتب والرسائل، (10\ 573)
كلكم كفرة (474)
الإخوان المسلمين: (ونسأل الله أن يطهر هذه البلاد من كتب أهل البدع الملمعة من كتب الإخوان المسلمين فإنه إلى الآن علماء هذه البلد ما أدركوا أن كتب الإخوان المسلمين أخطر من كتب كل أهل البدع لأنهم لم يقرأوها) (1)
وهكذا حكم على (هيئة كبار العلماء)، فقد قال عنهم: (ربيع، وزيد بن محمد هادي جاهدا أكثر من كثير من (هيئة كبار العلماء)، بعض (هيئة كبار العلماء) يجيئون في طبقة تلاميذ ربيع وزيد) (2)
وقال في الشيخ بكر عبد الله أبو زيد عند واصفه تعليقاته على كتاب (أضواء إسلامية): (يمكن أن نسمي هذه الأوراق بالصفحات الظالمة لأنها اشتملت على الباطل والإثم، وخلت خلوا كاملا من العلم وأساليب العلماء، وحشيت بالتلبيس الذي خدع الشباب الحزبي ورسخ في نفوسهم ما غرسه فيهم دعاة الباطل من تقديس من لا يجوز تصنيفه إلا في أئمة الضلال الجامعين للبدع الكبرى التي قل أن تجتمع إلا فيمن طبع الله على قلوبهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، ولا يستمر على تقديسه والذب عنه بعد أن قيض الله من يكشف عواره ويبين ضلاله إلا كل من سقط من عين الله {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، ولأنها قد تعمد صاحبها الإجمال والإطلاق كما هو شأن كل ناصر للباطل مدافع عنه) (3)
ويقول فيه: (فوالله ما عهدنا سنيا سلفيا غضب لأهل البدع والباطل مثلك ولا عرفنا أحدا ثأر لأهل البدع والباطل مثل ثأرك، وكان اللائق بك على الأقل أن تخلي الميدان لأهل البدع يصولون ويجولون فيه بالباطل والبهت لنصرة الأباطيل والضلالات والترهات) (4)
__________
(1) مجموع الكتب والرسائل، (2\ 526)
(2) مجموع الكتب والرسائل، (9\ 440)
(3) مجموع الكتب والرسائل، (7\ 12 - 13)
(4) مجموع الكتب والرسائل (7\ 20)
كلكم كفرة (475)
وقال مخاطبا الشيخ بكر: (إنني لأرثي لحال رجل حمل راية السنة ردحا من الزمن أن يصل به الأمر إلى هذه الحال الغريبة العجيبة من المجازفات في الأحكام، والجرأة على الطعن بالباطل، وتحريك الفتنة -بعد أن استسلمت للنوم عجزا عن مقارعة الحق) (1)
وقال: (فما الذي أعمى بكرا أبا زيد عن كل هذه الصحائف -حتى لو كان استعرض الكتاب مجرد استعراض-؟ إنه الهوى والرغبة الجامحة في الطعن والتشويه، وإن هذا العمل وأمثاله لا يصدر إلا من قلب مريض بالهوى- أعاذنا الله والمسلمين من الهوى وأمراض القلوب والنفوس-، ومع كل ما ارتكبه من ظلم يقول: (إن الله يحب العدل والإنصاف في كل شيء) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (2)
وقال في الشيخ فالح الحربي الذي كان من المقربين منه: (كان فالح عبئا ثقيلا على الدعوة السلفية وأهلها منذ سلك نفسه في الدعاة إلى المنهج السلفي لا يراعي في تصرفاته ومواقفه وأحكامه مصالح ولا مفاسد ولا يأبه لها، بل كان زراعا للمشاكل في أوساط الشباب السلفي متعالما واضعا نفسه فوق منزلته يطعن في العلماء من مثل العلامة الألباني والشيخ مقبل الوادعي وغيرهما) (3)
وقال: (تبين كذب وفجور فالح على أيدي بعض الكتاب السلفيين بالأدلة الواضحة، ونحن اليوم مع فالح رائد الفتنة والشغب والكذب) (4)
وقال: (فالح وعصابته قد مرقوا من المنهج السلفي وأصبحوا من ألد خصومه، ويظهر للعاقل أنهم أشد خطرا عليه وعلى أهله من كل خصوم وطوائف أهل الضلال) (5)
__________
(1) مجموع الكتب والرسائل (7\ 27)
(2) مجموع الكتب والرسائل (7\ 87)
(3) مجموع الكتب والرسائل، (4\ 69)
(4) مجموع الكتب والرسائل (9\ 168)
(5) مجموع الكتب والرسائل (9\ 417)
كلكم كفرة (476)
مع العلم أنه هو نفسه الذي قال فيه عندما كان مقربا لديه: (المعروف أن الشيخ فالح أنه رجلٌ من أهل السنة من السائرين على منهج السلف ولا نعرف بأن له ابتداع أو له مخالفات لأهل السنة الرجل يصنَّف مع أهل السنة والجماعة ويغار على منهج السلف وينصر منهج السلف ويرد على أهل البدع وهذه طريقة السَّلف) (1)
وقال في الشيخ أبي إسحاق الحويني والشيخ محمد حسان وغيرهما من السلفيين المصريين: (الأصل فيهم أنهم من الإخوان، وتربية الإخوان.. والله أنا أرى أنهم مبتدعة.. ما يزداد إلاَّ بعدًا عن المنهج السلفي وتلاحمًا مع القطبيين، فهذا حاله، هذا حاله الآن، هو يدعي أنه من أهل السنّة ويقترب من أهل البدع، ويعاشرهم، ويتلاحم معهم.. فمثل هذا الرجل لا يجوز أخذ العلم عنه، بل يجب الحذر منه؛ وإن زكَّاه من زكَّاه من المنتسبين إلى العلم) (2)
وقال في الشيخ أحمد فريد ومصطفى العدوي: (الذي أعرفه عنهما؛ أنهما من مدرسة الإسكندرية، وهذه المدرسة مدرسة تكفيرية، عندهم خلل عظيم في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وتعلق شديد بسيد قطب وأفكار سيد قطب المتعلقة بالحكم، وبعضهم أولياء بعض، يعني بعض أولئك لا يظهر عليهم التأييد الواضح لأفكار سيد قطب، أو اللهج بمسألة تكفير الحكام، لكنهم أولياء، وأنصار وأصدقاء، وأحباب، وأخلاء للمصرحين بذلك، ومن رؤوسهم: (ياسر برهامي، ومحمد بن إسماعيل المقدم، ومحمد عبد المقصود وهو من رؤوس الشر في مصر، وإن كان اشتهر بأنه فقيه وكذا، لكنه تكفيري محض، وكذلك أحمد حطيبة، وكذلك أحمد فريد، وكذلك أبو إسحاق الحويني، وكذلك محمد حسان، وكذلك النقيب)، ومجموعة كبيرة ممن يسمون بالمدرسة الإسكندرية؛ كلهم على هذا
__________
(1) الثناء البارع على الشيخ فالح بن نافع، ص 2.
(2) هذا ما نقله أحمد بازمول عنه في تقديمه لكتاب خالد المصري (الحدود الفاصلة) (ص 29)
كلكم كفرة (477)
المنوال) (1)
وقال في الشيخ العيد شريفي الجزائري: (إن عيد شريفي قد عرف عند حملة العلم وطلابه في الجزائر أنه صاحب هوى وينتصر لبعض أهل الأهواء.. يا شيخ هذا من سنوات ونحن الناصح واسكت الناس عنه ولكن أبى الا مناصرة أهل الباطل والمضي في هذا السبيل، ورأيت أنه في الجدال يعني لا يعرف منطقا أبدا لا يعرف منطق الجدال، ومتبع لهواه فصبرنا صبرنا صبرنا عنه؛ فرأينا فيه من الشر والسوء؛ فنعوذ بالله فهو من أنصار أبي الحسن في الباطن... من أهل الباطل وله طعن في الأبرياء واستنقاص من العلماء طعن يعني غريب، غريب، غريب؛ فنسأل الله له العافية هذا يعتبر يعني بيني وبينوا علاقة ومعرفة ومعرفة في الحق من أول مرة يجيء هنا وهو يعاملني هكذا أين الوفاء والمروءة وأين الوفاء للمنهج نفس يعني الخطأ واضح، جاء يحاججني بالباطل أكثر من أبي الحسن) (2)
وقال في الشيخ أبي الحسن المأربي اليمني: (إن أبا الحسن المصري المأربي أعجوبة من أعاجيب هذا الزمان لا أجد له نظيرا في القدرة على الثرثرة وكثرة الكلام ويتمتع بقدرة هائلة عل تقليب الأمور وجعل الحق باطلا والباطل حقا والظالم مظلوما والمظلوم البريء ظالما وإلباس نفسه لباس التقوى والورع، وإلباس الأبرياء لباس الفجار الهدامين المفسدين الظالمين، كما فعل ذلك في عدد من أشرطته، مما يدل على خبرة طويلة راسخة ومهارة نادرة في هذه الميادين إلى درجه لا يلحق فيها ولا يبلغ فيها شأوه.. إن هذا الرجل صاحب فتنة عظيمة قد أعد لها العدة لعله منذ وطئت قدماه اليمن أو من قبل ذلك) (3)
وهكذا تعامل مع عدنان العرعور الذي ألف كتابين خاصين به أحدهما [انقضاض
__________
(1) نقلا عن: شبهات حول أحداث مصر، ص 76.
(2) مجموع الكتب والرسائل، (9\ 127)
(3) مجموع الكتب والرسائل، (13\ 413)
كلكم كفرة (478)
الشهب السلفية على أوكار عدنان الخلفية] و[دفع بغي عدنان]، ومما قال فيه: (عدنان عرعور هذا بلاء البلاء وفتنة الفتن، وما عرفت صاحب فتنة مثله أضر بالمنهج السلفي وأهله مثله، ما أعرف أحد يسعى في تمزيق السلفيين وتفريقهم وإلقاء الفتن والشحناء والبغضاء مثله، وأخشى أن يكون ظرفة من ظرف أعداء الله لتحقيق أهداف خبيثة لأن الأعداء يهود ونصارى يعرفون أن الدين الحق إنما هو هذا الحق الذي يدين به السلفيين فيسعى في تفريقهم وتمزيقهم، ثم يتباكى كذبا وزورا أنه يحذر الفتن ويخاف من الفتنة ومن أجل المصلحة وهو كذب في كذب، والله ما رأيت دجالا مثل هذا الإنسان ولعلكم تقرأون.. ابن صياد... أصدق من كلام الدجال المعاصر عدنان، أصدق بكثير، عدنان كله كذب ومرواغات وتلبيس وفتن.. فاحذروا هذا الدجال احذروا كل الحذر وهناك كتابات وأشرطة سوف تصلكم إن شاء الله لتعرفوا أن هذا دجال العصر، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لغير الدجال أخوفه عليكم من الدجال)، فهذا ممن يُخاف ويُخشى على الأمة، ورأينا شره وفتنته تشتعل في أوربا، ولا أشك أنه مجند من أهل البدع والأهواء، ولا أستبعد أنه مجند من غيرهم لهذه الفتن ولهذه الزلازل ولهذه القلاقل ولهذه البلابل التي يقولها هذا الرجل والتي يتجارى به أهل الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه؛ فهو يركض في مشارق الأرض ومغاربها بالأموال الطائلة التي اعترف عدنان بأنه صعلوك؛ فمن أين لهذا الصعلوك هذه الأموال إلا أنه يفعل ويفعل الأفاعيل للحصول على هذه الأموال لماذا؟ ليبدد السلفيين ويضرب بعضهم ببعض ويجعل بأسهم بينهم ألا فادعوا الله تبارك وتعالى أن يريح الإسلام والمسلمين من هذا الرجل وأمثاله)
وقال فيه: (كنّا نعدّه من جملة السلفيين بناءً على ما يظهر لنا من حاله آنذاك رغم قلة مجالستي له، لكن بناء في الوقت نفسه على ادعائه، وقول بعض السلفيين المخدوعين به. إذ: (المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم).. بدأ ينكشف لي بعض ما ينطوي عليه في إحدى
كلكم كفرة (479)
زياراتي للرياض حيث بدأ يدافع ويناضل عن سيِّد قطب إذا انتقده بعض السلفيين؛ ويدعي له أنه صحيح التأصيل، وأن المنهج السلفي غير مؤصل، وأن السلفيين لا يؤصلون، ويخص منهم الشيخ ابن باز رأس السلفيين بأنه لا يؤصل، في نقاش وكلام طويل تظاهر فيه بالتراجع عن رأيه في تلك الجلسة ثم عاد لما كان عليه.. ثم أراد عدنان أن ينقذ نفسه من هذه الورطة الكبيرة والفعلة الشنيعة وأراد أن يغطي سوأته أمام السلفيين ولعل له أهدافاً أخرى، فكتب إليّ اعتذاراً بارداً ميتاً لا يساوي الحبر الذي كتب به، ولهوانه وسقوطه وركته لم أحفل به فلا أدري أأعاده الرسول لصاحبه أو بقي عندي والغالب أن الكتاب قد ضاع ولو وجدته لفضحته به) (1)
وهكذا راح يقص قصته الطويلة في الصراع معه، والتي تدل على ذلك الصراع الشديد في تعامل السلفية بعضهم مع بعض.
هذا مجرد مثال، وبناء عليه سنحاول في هذا الفصل أن نذكر المدارس الكبرى للسلفية، ونماذج عن صراع بعضها مع بعض، بل تكفير بعضها لبعض.
وقد رأينا أنه يمكن تقسيم المدارس السلفية بناء على تكفير بعضها بعضا إلى قسمين كبيرين: السلفية العلمية والسلفية الحركية.. ثم تنقسم السلفية العلمية إلى أقسام كثيرة أشهرها: الجامية والحدادية.. وأما السلفية الحركية، فتنقسم إلى قسمين كبيرين: المسلحة والحزبية.. وكلاهما ينقسم أقساما كثيرة.. وكلهم يضلل بعضهم بعضا، بل يصل التضليل أحيانا كثيرة إلى حد التكفير.
وقد أشار إلى بعض هذه الأقسام محمد عمارة في كتابه (السلفية.. واحدة؟.. أم سلفيات؟) تناول فيه قضية التنوع والتناقض بين المدارس السلفية على الساحة السياسية والإعلامية في العالم الإسلامي، بل على مستوى العالم ككل.
__________
(1) انقضاض الشهب السلفية على أوكار عدنان الخلفية (ص: 3)
كلكم كفرة (480)
وقد خلص في نتيجة بحثه إلى أن السلفية (قد توزعتها العديد من التوجهات، فطرأ عليها الكثير من الانشقاقات فمنها ما يسمى بالسلفية العلمية التي تحاول استلهام المشروع التجديدي لابن تيمية.. ومنها السلفية الجهادية التي سلكت طريق العنف والتغيير.. ومن هذه السلفية المعاصرة فصيل بلغ في الغلو والجمود حدوداً فاقت الخيال حتى لقد كتب بعضهم في تفكير أئمة السلفية مثل ابن القيم الذي قالوا عنه: (إنه زائغ مبتدع كذاب وقح بليد غبي جاهل ضال مضل خارجي ملعون كافر)، وقال أحد كتاب هذه السلفية الظلامية عن ابن تيمية: (إنه لا تؤخذ منه أحكام الولاء والبراء، ولقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين) (1)
وفي موضع آخر عبر عن النتيجة التي يدل عليها الواقع الدعوي والسياسي المعاصر، فقال: (وهكذا نجد أنفسنا تاريخياً وحديثاً أمام عدد من السلفيات، وليس أمام سلفية واحدة كما يحسب كثير من السلفيين ومن خصوم السلفيين) (2)
وهكذا ذكر باحث آخر في دراسة عن الحركة السلفية في مصر وتنوعها، وهي دراسة ميدانية صنفت الحركات السلفية المصرية إلى أربع سلفيات: السلفية التقليدية، والسلفية العلمية، والسلفية الحركية، السلفية الحديثية (أهل الحديث) (3)
فالسلفية التقليدية: وتهدف – بحسب دعاتها – إلى تنقية الدين مما يرونه من البدع خاصة المرتبطة بالتصوف والأضرحة، وكذلك منع المسلمين من الإفتتان بالحضارة الغربية ومرتكزاتها الفكرية المخالفة للإسلام.. ووسيلة التغيير عندهم تنحصر في الدعوة عبر خطب الجمعة والدروس الدينية في المساجد بالإضافة إلى الدعوة الفردية.
__________
(1) محمد عمارة، السلفية.. واحدة؟.. أم سلفيات؟، ص 75.
(2) محمد عمارة، السلفية.. واحدة؟.. أم سلفيات؟ ص 77.
(3) انظر: موقع التغيير، ولم أجد هذه الدراسة منشورة.
كلكم كفرة (481)
السلفية العلمية: وهي السلفية التي تعتمد مهج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وتتلخص رؤيتها في أن ما لحق بالمسلمين من تدهور حضاري سببه الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات والآراء الفقهية التي تخالف الحديث الصحيح.
السلفية الحركية: وقد نشأت في نفس الوقت الذي نشأت فيه السلفية العلمية (منتصف السبعينات من القرن العشرين الميلادي) بقيادة عدد من الدعاة الشباب حينذاك، ولم يختلف هذا الرافد السلفي عن السلفية العلمية إلا في شيء واحد وهو الاعلان عن كفر الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة الاسلامية باسمه أيا كان اسمه.
سلفية أهل الحديث: وقد ظهر هذا الاتجاه – وإن كان في أصله تابع للسلفية العلمية – في أوائل الثمانينات، فانجرف بعض السلفيين نحو دراسة المصطلح وعلم العلل ومعرفة الصحيح من الضعيف، بالاضافة لإلقاء الخطب والدروس الوعظية والعلمية للعامة وللخاصة، ومن هؤلاء أبو إسحاق الحويني، ومصطفى العدوي، وأسامة القوصي، ومحمد سعيد رسلان وغيرهم.
وقد عقب كاتب الدراسة على كلامه هذا بقوله عند ذكر بعض التيارات السلفية: (هذا الكلام قبل أحداث ثورة 25 يناير، ولنا كتاب (الدولة السلفية) نبين فيه التحولات السياسية والفكرية عند هذا الفصيل السلفي)
هذان نموذجان عن التصنيفات التي صنفت بها المدارس السلفية الحديثة، وهناك نماذج أخرى كثيرة، ذلك أن الانشاق بين السلفية يحصل كل حين، ولأتفه الأسباب، وبما أننا لا نستطيع أن نحصي خلافاتهم وما كتبوه في تضليل بعضهم بعضا، فسنقتصر على ذكر نماذج متنوعة من مواقفهم وفتاواهم وكتبهم لنرى بذلك مبلغ التكفير السلفي.
أولا ـ تكفير المدارس السلفية العلمية
المراد بالسلفية العلمية السلفية التي تركز جل اهتماماتها على مطالعة التراث السلفي
كلكم كفرة (482)
وتدريسه ودعوة الناس إليه من غير أن يكون لها أي اهتمام بالوصول إلى السلطة لا عن طريق السلم، ولا عن طريق العنف.
وهم أقسام كثيرة، والصراع بينهم شديد جدا، لا يمكن الإحاطة به هنا، ولذلك سنكتفي بذكر نموذجين عن تكفيرهم من طرف أصحاب المدرسة الحركية، أحدهما من المدرسة السلفية الحركية المسالمة أو الحزبية، كما يطلقون عليها.. والثاني من المدرسة السلفية الحركية ذات الطابع المسلح، أو الجهادية كما يطلقون على أنفسهم.
النموذج الأول كتب الدكتور عبدالرزاق بن خليفة الشايجي
وهو من السلفية الحركية المسالمة، والذين يطلق عليهم مخالفوهم لقب [السرورية]، وهو تلميذ عبد الرحمن عبد الخالق، وله عدة رسائل في الرد على الشيخ المدخلي والسلفية العلمية، منها: (الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية)، و(أضواء على فكر دعاة السلفية الجديدة)، و(البديع في بيان منهج د. ربيع.. دراسة نقدية وثائقية تكشف اللثام عن حقيقة د. ربيع بن هادي المدخلي في الحكم على الكتب والطوائف والرجال والجماعات)، وقد رد عليه الشيخ ربيع المدخلي برسالة مضادة.
وقد قال الشيخ الشايجي في خطاب مفتوح إلى الشيخ ربيع: (هل هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف الذي ادعيتموه يا شيخ ربيع، وكتبتم فيه، ودعوتم إليه. لا شك أن هذا المنهج الذي يقوم على الظلم وتكفير المسلمين هو منهج الخوارج في تكفير المسلم، بل إن الخوارج لم يقولوا مثل هذا في الذين يكفرونهم، وهذا يوضح جليا الأصل الأول الذي ذكرناه عن الطائفة التي أدخلت في السلفية ما ليس فيها: أنهم خوارج مع الدعاة، مرجئة مع الحكام، رافضة مع الجماعات، قدرية مع اليهود والنصارى والكفار)
ومن أقوال الشيخ ربيع المدخلي في الرد عليه: (يدافع عن أهل البدع والباطل ويطعن
كلكم كفرة (483)
بأهل السنة. منهجه فاسد. يخدم أهل البدع، ويخدم أهل الفتن. كل أساليبه مغالطات وكلامه فارغ وكله كذب، وأخس من أهل البدع. شيطان يعرف الحق ويحاربه، ويحارب أهله وينصر الباطل... سلفيته ما هي إلا مجرد لباس لضرب الحق وإيذائه. رجل لا خير فيه. مصيبة على الإسلام. يجب هجره ويفعل فيه أكثر من الهجران. رجل يكذب ويبالغ ما يصلح للمناظرة جاهل. هذا الرجل ليس له شيء من السلفية. ألف في أهل السنة كتابا فيه ثلاثون أصلا كلها قامت على الفجور والكذب والافتراء، وجعلتهم أخبث الفرق، وجمعوا شر ما عند الفرق. يلبس السلفية خداعا لتضليل الشباب. أساء إلى السلفيين أكثر من أهل البدع. يتبع بكتاباته أسلوب المنافقين فهم يظهرون الإسلام وهو يظهر السلفية، ثم يحارب أشد من المنافقين.. فالمنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يضعوا ثلاثين أصلا، هذا هو النفاق ويظهر السلفية ثم يكر على أهل السنة والمنهج السلفي ويحطمه. متستر يدافع عن أهل البدع ويلمعهم ويشوه أهل السنة. أخطر على الإسلام وعلى السلفية من أهل البدع الواضحين. يلبس لباس السلفية ثم يضرب في أهلها ضربا شديدا، ثم يمدح أهل البدع والضلال، ويدافع عنهم بقوة ثم لا يترك شرا في أهل البدع... أي جناية على الإسلام أشد من هذه؟!) (1)
وهذه الرسائل والكتب المتبادلة تدل على جزء بسيط جدا من الصراع السلفي الذي طفا على السطح، وإلا فالصراع بينهم أشد وأبلغ.
ومن بين الكتب التي ألفها الشيخ الشايجي، والتي لها أهميتها الكبرى في نقد السلفية العلمية وبيان الأصول التي تعتمد عليها والتي تقربها من الخوراج وغيرهم من الطوائف التي يكفرها السلفية كتاب [الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية]
وأهمية الكتاب تكمن في كونه صدر من البيت الداخلي للسلفية، وهو أعرف بطرقهم
__________
(1) نقلا من مقال بعنوان: الانشقاقات الوهابية: محاولة للتأريخ.
كلكم كفرة (484)
ومناهجهم، ولذلك كان حديثه عنهم، ونقده لهم أهم من حديث غيره أو نقده.
ولهذا لقي الكتاب ردود فعل شديدة من طرف أصحاب السلفية العلمية، فألفوا في الرد عليه، ومن تآليفهم في ذلك كتاب [بيننا وبينكم يوم الجنائز: كشف أباطيل كتاب (الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة)] لمؤلفه د. عبدالعزيز بن إبراهيم بن عبدالرحمن الجبرين.
وقد قال الشايجي في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه: (هذه هي الطبعة الثانية من الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية، جمعنا فيها مجموعة أخرى من أصول هذه المجموعة التي ظهرت على المسلمين بالتبديع والتفسيق والتجريم والتكفير، واستعملت كل ألفاظ التنفير والتحقير مع دعاة الإسلام خاصة، كوصفهم بالزندقة، والإلحاد، والخروج... وقصرت عملها الدعوي على حرب الدعاة إلى الله وتصنيفهم، ومن نظر في أصولهم التي ابتدعوها أدرك يقينا أن هؤلاء هم الشرع والحكم، فكما وجد في الفرق الإسلامية معطلة الصفات وهم الجهمية، ومن نحا نحوهم ممن اخترعوا أصولا باطلة أدت بهم إلى تعطيل صفات الرب عز وجل، فقد جاءت هذه الطائفة الجديدة وباسم السلفية لتضع أصولا باطلة تفضي إلى تعطيل الحاكمية التي اختص الله بها {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] فزعموا أن توحيد الحاكمية ليس من التوحيد، بل وليس هو من أصول الدين والإيمان، بل هو من الفروع، وتعطيل الشرع كله ما هو إلا كفر دون كفر، وكل من اعتنى بهذا الأصل فهو عندهم مبتدع يحمل فكر الخوارج، ولقبوه بكل وصف قبيح لمجرد مطالبته الأمة بالعودة إلى حكم الله ورسوله، وقد تفرع عن هذا الأصل الباطل عندهم وجوب ترك الحكام وشأنهم، وعدم التعرض لهم وإن صدر منهم ما صدر من الكفر البواح، وتمكين أعداء الإسلام ووجوب ترك الاشتغال بفقه الواقع وترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر - كما صرح به أحد كبارهم - وهذه هي العلمانية بعينها، ومن ثم شنعوا على
كلكم كفرة (485)
كل مجاهد في سبيل الله، وقدموا حربه على حرب أعداء الله فكانوا بذلك من دعاة التعطيل، وهم المعطلة للحاكمية والشرع كما كان الجهمية معطلة للصفات والأسماء) (1)
وهكذا تحول السلفية العلمية إلى معطلة مثلهم مثل الجهمية تماما، وهذا يذكرنا بكتاب ألفه أبو محمد المقدسي بعنوان [تبصير العقلاء بتلبيسات أهل التجهّم والإرجاء]، حكم فيه على السلفية العلمية بمثل ما حكم به السلف الأول على المرجئة.
وقد ذكر الشايجي أسباب اعتبار السلفية العلمية معطلة، فقال: (.. وقام مذهبهم على التعطيل: تعطيل الجهاد، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بإذن الإمام - حسب زعمهم - وتعطيل الدعوة إلى الله، وتعطيل النظر في حال الأمة، وإشغالها بحرب الصالحين، وتتبع عوراتهم وزلاتهم، وتنفير الناس عنهم) (2)
ولم يكتف الكاتب بوصفهم بالمعطلة، بل راح يقارنهم بغيرهم من الفرق التي اتفقوا على تكفيرها، فهم ـ كما يقول ـ (خوارج مع الدعاة، مرجئة مع الحكام، رافضة مع الجماعات، قدرية مع اليهود والنصارى والكفار، وأنهم جمعوا شر ما عند الفرق، فهم مع الدعاة إلى الله خوارج يكفرونهم بالخطأ ويخرجونهم من الإسلام بالمعصية، ويستحلون دمهم ويوجبون قتلهم وقتالهم.. وأما مع الحكام فهم مرجئة يكتفون منهم بإسلام اللسان ولا يلزمونهم بالعمل، فالعمل عندهم بالنسبة للحاكم خارج عن مسمى الإيمان.. وأما مع الجماعات فقد انتهجوا معهم نهج الرافضة مع الصحابة وأهل السنة، فإن الرافضة جمعوا ما ظنوه أخطاء وقع فيها الصحابة الكرام ورموهم جميعا بها، وجمعوا زلات علماء أهل السنة وسقطاتهم واتهموا الجميع بها.. وهم مع الكفار من اليهود والنصارى قدرية جبرية يرون أنه لا مفر من تسلطهم ولا حيلة للمسلمين في دفعهم، وأن كل حركة وجهاد لدفع الكفار عن صدر
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 3.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 5.
كلكم كفرة (486)
أمة الإسلام فمصيره الإخفاق، ولذلك فلا جهاد حتى يخرج الإمام) (1)
ثم ختم هذه المقارنات بقوله: (فوا عجبا كيف جمع هؤلاء بدع هذه الفرق، وكيف استطاعوا أن يكيلوا في كل قضية بكيلين، فالكيل الذي يكيلون به للحكام غير الكيل الذي يكيلون به لعلماء الإسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله) (2)
وقد ذكر من أصولهم التي حولتهم إلى خوارج وتكفيريين اعتبارهم (كل من وقع في الكفر كافر، وكل من وقع في البدع مبتدع.. دون نظرا في أن يكون قد قال هذا الكفر أو وقع منه خطأ أو تأولا أو جهلا أو إكراها.. وكل مسلم وقع في بدعة أو ما يتوهمونه بدعة، فهو مبتدع دون اعتبار أن يكون قائل البدعة أو فاعلها متأولا أو مجتهدا أو جاهلا.. وهم أحق الناس بوصف المبتدع باختراعهم هذا الأصل الذي هو من أصول أهل البدع وليس من اصول أهل السنة والجماعة) (3)
ومن أصولهم التي ذكرها، والتي تلحقهم بالخوارج اعتبارهم (من لم يبدع مبتدعا فهو مبتدع.. فإذا حكموا على رجل أنه مبتدع أو على جماعة دعوية أنها جماعة بدعة، ولم تأخذ برأيهم وحكمهم الفاسد فأنت: مبتدع، لأنك لم تبدع مبتدعا.. وهو أصل وقائي فإما أن تكون معنا أو تكون منهم، وهم على شاكلة من قبلهم في التكفير الذين قالوا: (من لم يكفر الكافر - عندهم - فهو كافر)، فإذا حكموا على رجل مسلم أنه كافر ولم توافقهم على ذلك فأنت كافر أيضا لأنك لم ترض باجتهادهم، فما أشبه هذا القول بقول الخوارج) (4)
ومن أصولهم الخطيرة التي ذكرها (استدلالهم بمنهجهم الفاسد في التبديع والتفسيق والهجر والتحذير من المبتدعة بقولهم أن الله سبحانه ذكر أخطاء الأنبياء.. وهذا من
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 8.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 8.
(3) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 9.
(4) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 9.
كلكم كفرة (487)
عظائمهم ومصائبهم الكبيرة.. فأين القياس في هذا يا أهل العقول، هل أصبح الأنبياء هم المبتدعة، الذين يجب التحذير منهم، مع العلم أن هذا الأصل لا يجوز تطبيقه عليهم من خلال إظهار مثالب دعاتهم وشيوخهم فيجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم ومن انتقدهم فقد انتقد السلف بأكملهم.. فهل أصبحوا في مقام الرب الذي يرشد الأنبياء.. وهل أراد الله سبحانه وتعالى بإرشاد أنبيائه- إلى بعض ما خالفوا فيه الأولى - تحذير الناس منهم كما يفعلون هم بالدعاة المهتدين.. وهل أراد الله من ذكر أخطاء الأنبياء - حسب قولهم - تنقيصهم، وتحقيرهم كما يفعلون هم بالدعاة إلى الله) (1)
ومن أصولهم الخطيرة التي ذكرها عدم حملهم المطلق على المقيد، ولا المجمل على المفسر (حتى يحكموا بالكفر والبدعة على من شاءوا من الدعاة، فبمجرد أن يجدوا في كلامه كلمة موهمة، أو عبارة غامضة، أو قول مجمل يمكن أن يحمل على معنى فاسد فإنهم يسارعون بحمل هذا القول على المعنى الفاسد الذي يريدون، ولا يشفع عندهم أن يكون قائل هذا القول المجمل قد فسره في مكان آخر تفسيرا صحيحا، أو قال بخلاف المعنى الفاسد المتوهم في مواضيع أخرى.. وهذا تصيد وترقب للخطأ من المسلم، وتحميل لكلام المسلم مالا يحتمله، وتفسير له بما يخالف نيته وقصده، مع استثنائهم لمشايخهم وأتباعهم) (2)
ومن أصولهم التكفيريهم التي تلحقهم بالخوارج ـ كما يذكر ـ (اعتبارهم أن الإنسان - أي إنسان عالما كان أم جاهلا بأمور الأحكام ومسائل الشريعة - لا يغتفر له جهله أو خطؤه في أصول الدين.. وقد جاء أصلهم هذا بناء على فهمهم السقيم لما ذكر العلماء من أن الاجتهاد لا يقبل في العقيدة.. ففهموا بفهمهم الباطل الخارجي أن من وقع في الخطأ في مسائل العقيدة فإنه غير مغفور له.. وبذلك أخرجوا علماء الأمة من الملة من حيث يشعرون
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 11.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 12.
كلكم كفرة (488)
أو لا يشعرون) (1)
ومن أصولهم التكفيريهم التي تلحقهم بالخوارج ـ كما يذكر ـ (إطلاق لفظ الزنديق على المسلم بلا دليل سوى الهوى.. والزنديق لا يطلق في لغة أهل العلم- في الأغلب - إلا على الكافر المظهر للإسلام، وبالخصوص على الثنوية والقائلين بإلهين، ومدعي النبوة والرسالة، والفرق الباطنية الذين يحملون معاني القرآن على عقائدهم الوثنية.. وقد تساهل أصحاب هذا الكفر الجديد بإطلاق لفظ الزنديق على المسلم المتبع للقرآن والسنة بخطأ أخطأ فيه) (2)
ومن أصولهم التكفيريهم التي تلحقهم بالخوارج ـ كما يذكر ـ اعتبارهم (إقامة الحجة لا تكون إلا في بلاد بعيدة عن الإسلام.. أما بلاد المسلمين فلا حاجة لمن وجد فيها إلى أن تقام الحجة عليه، وعلى هذا الأصل الخارجي يكون كل من وقع في الكفر أو الشرك وهو في بلاد التوحيد فهو مشرك كافر، ولا حاجة عند ذلك إلى إقامة الحجة عليه.. باستثناء الحكام فهم عندهم بحاجة لإقامة الحجة لينطبق عليهم الكفر من عدمه، أما العامة فلا حاجة عندهم لإقامة الحجة عليهم) (3)
ومن أصولهم ومكاييلهم المزدوجة التي ذكرها (تحريمهم العمل الجماعي والتنظيم الدعوي على الجماعات الإسلامية وإباحته لأنفسهم وأشياعهم، فمع أن هؤلاء افتوا بحرمة العمل الجماعي والتنظيم الدعوي بحجة أنه يدعو إلى الحزبية لكن أعمالهم جاءت مخالفة لفتواهم، فلديهم عمل منظم كالأسابيع الثقافية والمخيمات الربيعية وطبع الكتب والتواصل الفكري والتنظيمي بينهم في بقاع مختلفة، وبين قيادتهم المدينة المعروفة إلى غير ذلك مما لا
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 13.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 14.
(3) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 14.
كلكم كفرة (489)
سبيل إلى إنكاره) (1)
ومن أصولهم اهتمامهم (بجمع الأخطاء والمثالب التي وقع فيها بعض أفراد الجماعات الدولية لا لغرض تنبيه أفرادها وتبصيرها للنصح لهم، لكن من أجل هدمها والتنفير عنها وتبديعها بل تكفير المنتسبين إليها، وقد عمدوا في سبيل ذلك إلى ضرب الجميع بأخطاء البعض، فإذا كان في جماعة التبليغ أفراد من الصوفية أصبح كل تبليغي صوفي، وإذا كان في أفراد الاخوان من يوالي الروافض فكل الإخوان المسلمين كذلك وهكذا.. وهم يعلمون أنه ليس كل من ينتسب إلى جماعة التبليغ يدخل في الصوفية ضرورة، وهل إذا أساء بعض أهل بلد كان كل أهل البلد جميعهم مسيئين بسببه) (2)
ومن أصولهم التي تلحقهم بالخوارج ـ كما يرى المؤلف ـ اعتبارهم (أن الجماعات الإسلامية ماهي إلا امتداد للفرق الضالة من معتزلة وأشاعرة وخوارج وقدرية وجهمية، تنتهج منهج الخلف في العقيدة، فأصبح بدل أن يقال هؤلاء أشاعرة وهؤلاء معتزلة صار يقال هؤلاء إخوان، وهؤلاء تبليغ) (3)
ومن أصولهم التكفيرية ـ كما يذكر ـ اعتبارهم (أن الجماعات الدعوية أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى وأنه يجب تقديم حربهم على حرب اليهود والنصارى وجمع مثالبها من أجل هدمها، حتى زعم بعضهم أن هذه الجماعات هي جماعات ردة، وزعموا أن جميعها انحرفت عن المنهج الحق وأخذت بمنهج الخلف وعقيدتهم ودخلت إلى الساحة باسم جماعات الدعوة وجماعات خير وهي تسعى في الحقيقة إلى الإطاحة بدعوة التوحيد ومحاربته) (4)
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 16.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 17.
(3) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 18.
(4) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 19.
كلكم كفرة (490)
ومن أصولهم التي تشبههم بالمعتزلة ـ كما يذكر ـ استعانتهم (بسوط السلطان لإسكات مخالفيهم بدلا من الحجة والبرهان.. فلا يتورع القوم عن تأليب السلطان على مخالفيهم في القضايا الاجتهادية، وذلك من خلال تصوير هؤلاء المخالفين بأنهم خطر على الدولة وبالتالي يجب اقتلاعهم، ومن هؤلاء من كتب مؤلبا في صفحات الجرائد العامة، ومنهج السلف مع السلاطين معروف، فهم يتجنبون أبواب السلطان، وإن كان عادلا مقسطا.. فكيف إذا كان يعمل بالنميمة ويرسل التقارير والأشرطة المسجلة، ليصطاد عبارة موهمة، أو يتجسس على شيخ ليتقرب بدمه عند السلطان.. وهؤلاء لا سلف لهم في أسلوبهم التحريضي إلا المعتزلة أيام المأمون والمعتصم حين استعانوا بسوط السلطان على أهل السنة، وحكايتهم مع الإمام أحمد مشهورة معلومة) (1)
ومن الأصول التكفيرية التي ذكرها (للطائفة التي اتخذت سب الدعاة إلى الله دينا: أن أهل البدع الكبرى كالرفض والتجهم والإرجاء واللادينيين يقولون عنهم: هؤلاء معروف أمرهم، ظاهر فعلهم ولذلك فلا يجوز أن ننشغل بهم بل يجب أن ننشغل بالدعاة إلى الله لنبين أخطاءهم لأنها تخفى على الناس.. فانظر كيف عمى هؤلاء عن حرب المحاربين للإسلام وانشغلوا بحرب أولياء الرحمن والدعاة إلى الله ونهش لحومهم وتفضيل جهادهم بدلا من مؤازرتهم والنصح لهم، وتسديد أخطائهم) (2)
ومن أصولهم التي ذكرها (التعبد لله بسب الصالحين وشتمهم ولعنهم. فالمسلم الداعية الذي يمكن أن يكون قد أخطأ تأولا أو جهلا يصبح وقوعه في هذا الخطأ الاجتهادي سببا في استحلال عرضه بل دمه.. وقائمة السباب عند هؤلاء الجراحين طويلة فـ (الخبيث)، و(الخنيث)، و(الزنديق)، و(المبتدع) أوصاف سهلة على ألسن هؤلاء
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 28.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 28.
كلكم كفرة (491)
الجراحين يقولونها في كل مناسبة، ويطلقونها على الصالحين من عباد الله دون أي تأثم أو مراجعة للنفس، بل بصدر منشرح، ويظنون أن هذا أرجى أعمالهم عند أعمالهم عند الله) (1)
ومن أصولهم التي ذكرها (أن هذه الفئة التي اتخذت سب المسلمين دينا أرادت أن تستدل لمنهجها في تجريح أهل الإسلام وتبديعهم وتفسيقهم واستباحة أعراضهم، ووجوب مفارقة الصالحين منهم وهجرهم، وتعطيل دعوتهم، أرادت أن تستدل لهذا المنهج الفاسد من القرآن... فاستدلت بالآيات النازلة في الكفار، وأن الرسل جاءوا للتفريق بين الأب وأبيه والزوج وزوجته، والأخ وأخيه، ويستدل بعضهم في دروسه بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء فرقا بين الناس أو قد فرق بين الناس، ويجعلون هذا الحديث دليلا على وجوب التفريق بين المسلمين، فالسلفي غير الإحواني غير التبليغي... ويعقدون الولاء والبراء بين السلفيين وهؤلاء، كما هو الولاء والبراء مع الكفار) (2)
ومن أصولهم التي ذكرها أن (همهم الأول في الدعوة إلى الله هو الوقوف على أخطاء الدعاة، وجمع مثالبهم، وحفظ سقطاتهم برقم الصفحة، ونص كلامهم... والاهتمام بنشر هذه المثالب والسقطات بقصد تنفير الناس منهم لا بقصد تحذير الناس من الوقوع فيها، أو النصح لمن وقعوا فيها، وإنما بقصد أن ينفروا الناس عن الداعي إلى الله ويبطلوا جميع جهاده وكل حسناته، ويهدموا كل ما بناه، ويحرموا المسلمين من جميع مؤلفاته وعلمه ولو كان نافعا صالحا.. وهذا تخريب عظيم وسعي للإفساد في الأرض، فلو أن ساعيا سعى في جميع مثالب الأئمة والفقهاء لوجد الكثير، ولو أن جامعا جمع سقطات الفقهاء لجمع شيئا لا يحصى.. ولا يوجد عالم لم يتكلم فيه، ولو تذكر له جرحة أو سقطة إلا من رحم الله.. وهؤلاء الجراحون أنفسهم لو جمع جامع بعض سقطاتهم وزلاتهم من شريط أو شريطين أو كتاب
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 29.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 30.
كلكم كفرة (492)
أو كتابين أو محاضرة أو محاضرتين لكفت في إسقاط عدالتهم، وتبديعهم وتكفيرهم على حسب أصولهم الفاسدة في التبديع والتفسيق والتجهيل والتكفير) (1)
ومن أصولهم التي ذكرها (إنزالهم أنفسهم منزلة أئمة أهل السنة الكبار في تبديع مخالفيهم، ومن ذلك استدلالهم بكلام الثوري والأوزاعي في تبديع أحد الأئمة المشهورين على جواز ما يفعلونه من تبديع وتضليل لمخالفيهم، وهو بلا ريب قياس مع الفارق فإنما ساغ ذلك للثوري وغيره من أئمة السلف بسبب ما أوتوه من علم وعمل وقبول بين الناس، وشتان ما بين أحوال أولئك الأئمة وأحوال هؤلاء الطائشين المتعجلين) (2)
ومن أصولهم التي ذكرها اختراعهم (ليس على منهج السلف) أو (ليس على منهج أهل السنة والجماعة) (وهي عبارة مجملة ترقى عنهم إلى التكفير والإخراج من أهل السنة والجماعة، والفرقة الناجية.. ويطلقون هذه الكلمة على مجرد مخالفة يسيرة في أمر اجتهادي يسوغ فيه الخلاف، كالمشاركة في المجالس النيابية، بقصد الإصلاح ودفع الشر، وكالقول بأن وسائل الدعوة ليست توقيفية، وهذه الكلمة كلمة كبيرة، واصطلاح خطير لأنه أدى بكثير من هؤلاء الجراحين إلى التكفير بغير مكفر، والتبديع بغير مبدع للمسلمين الذين يؤمنون بالقرآن والسنة ولا يخرجون على إجماع الأمة ويعتقدون عقيدة السلف في الإيمان بالأسماء والصفات وسائر أمور الغيب ولا يقدمون قول أحد على قول الله ورسوله، ولكنهم قد يخالفون هؤلاء في أمر فرعي اجتهادي يسوغ فيه الخلاف.. فيطلق عليهم هؤلاء هذه الكلمة الكبيرة (ليس على منهج السلف) أو (ليس على منهج أهل السنة والجماعة)، وهذه الكلمة لا تطلق إلا على من وضع أصولا تخالف أصول أهل السنة كإنكار السنة أصلا أو الدخول في بدعة عقائدية كالخروج والرفض والإرجاء والتجهم والقدر، أو تقديم
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 32.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 41.
كلكم كفرة (493)
العقل والهوى على النصوص من القرآن والسنة، أو الفصل بين الدين والسياسة... ونحو ذلك من البدع العقائدية التي تهدم الدين أو جزءا منه) (1)
ومن أصولهم التي ذكرها اعتبارهم (هجر المبتدع وسيلة شرعية للإصلاح تخضع للمصالح والمفاسد وهو من أصول أهل السنة والجماعة.. وهؤلاء الجراحون استخدموا الهجر سلاحا لقتل الإسلام، وتفريق المسلمين فجعلوا كل صغير لم يصل الحلم جراحا وحاكما على الناس بالبدعة والسنة، وأمروا بهجر كل الدعاة والجماعات، وكل من أخطأ خطأ في نظرهم، فلم يبق أحد من المسلمين من أهل السنة والجماعة - إلا من رحم الله - إلا استحق عندهم الهجر، ثم كروا على أنفسهم فبدع بعضهم بعضا وهجر بعضهم بعضا وهكذا ارتد سلاحهم عليهم... وبهذا حول هؤلاء الجراحون سلاح هجر المبتدع الذي استعمله أهل السنة في محاربة البدعة إلى سلاح يحاربون به الإسلام والسنة) (2)
ومن أصولهم التي ذكرها (حملهم أقوال السلف في التحذير من أهل البدع على الدعاة المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة.. وعلى أساس منهجهم الفاسد في أن (كل من وقع في البدعة فهو مبتدع) فإنهم أخرجوا أناسا كثيرين من أهل السنة والجماعة لم يكونوا دعاة لبدعة وإن كانوا قد تلبس ببعضهم بها خطأ، وتأولا كالحافظ ابن حجر والإمام النووي من الأئمة الأعلام رحمهما الله، وغيرهما.. ولما رأى بعضهم خطورة ذلك وأنهم ربما يبدعون بذلك عددا كبيرا من علماء الأمة رجعوا عن تبديع هؤلاء الأقدمين، واستمروا في تبديع الدعاة المعاصرين، علما أن هؤلاء الدعاة وقعوا في بعض الأخطاء التي لا تخرجهم من عموم أهل السنة والجماعة، وهي أهون مما وقع فيه الحافظ ابن حجر والإمام النووي.. ومنهم من اتخذ التقية، دينا فكان يبدع هؤلاء الأقدمين سرا أو أمام خاصته، وينفي عنهم البدعة
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 41.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 43.
كلكم كفرة (494)
علنا) (1)
ومن أصولهم التي ذكرها (امتحان الدعاة إلى الله بالموقف من بعض أهل العلم.. فمن لم يقل بقولهم أخرجوه من السلفية، ومن قال بقولهم فهو السلفي الحقيقي عند هؤلاء القوم.. وبذلك أصبح للسلفية مقاييس خاصة عند هذه الطائفة) (2)
ومن أصولهم التي ذكرها (موقفهم المتناقض من فتاوى أئمة أهل السنة والجماعة.. فإذا وجد هؤلاء فتوى لأحد من علماء السنة - قديما وحديثا - يشتم منها رائحة الموافقة لبعض آرائهم طاروا بها فرحا، وألزموا الناس بها من باب توقير أهل العلم والرجوع إلى أقوالهم.. أما إذا جاءت الفتوى ناسفة لأصولهم الكاسدة.. فإنهم يردونها ولو كانت من نفس العالم الذي طبلوا من قبل لفتاويه الأخرى) (3)
ومن أصولهم التي ذكرها (تعليم صغار طلاب العلم والمبتدئين سب الناس وتجريحهم قبل أن يعرف الشاب المبتدئ أركان الأيمان، وأصول الأخلاق، وأحكام العبادات... فهم يبدأون مع الشاب الذي بدأ في الالتزام والهداية فيعلمونه أن فلانا أخطأ في كذا، وابتدع كذا، وهذا العالم زنديق لأنه قال كذا، وذاك ضال لأنه فعل كذا، وهذه أمور تضره في دينه وتقسي قلبه، وهم مع ذلك يوهمونه أنه بذلك يكون كإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، والناقد الخبير يحيى بن معين، وأئمة الجرح والتعديل الذين جلسوا لتمييز الرواة، وجرح المجروحين، والذب عن الدين) (4)
ومن أصولهم التي ذكرها أنه (لما كانت حركة الابتداع الجديدة هذه تقوم في بعض جوانبها على مناصرة الحكام أيّا كانوا، وإبطال فريضة الجهاد وبعض صور الأمر بالمعروف
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 44.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 45.
(3) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 47.
(4) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 48.
كلكم كفرة (495)
والنهي عن المنكر، وتشويه صورة كل داع إلى الحكم بشريعة الله، فإنهم عادوا المطالبة بتحكيم شرع الله في الأرض واعتبروا ما اصطلح على تسميته بتوحيد الحاكمية ابتداعا في الدين، وأنه لا يوجد نوع من التوحيد يسمى توحيد الحاكمية، وأن الأولى أن يدرج في أبواب الفقه، وجهل هؤلاء أن الصحابة أنفسهم لم يقسموا التوحيد اصطلاحا إلى ربوبية وألوهية والأسماء والصفات، وإنما هذا اصطلاح حادث) (1)
ومن أصولهم التي ذكرها والتي تقربهم من الجهمية (قول بعضهم أن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب، وهو بعينه قول جهم بن صفوان وبشر المريسي وابن الرواندي والصالحي، وغيرهم من الجهمية، ولهذا لما طبقوا هذا الأصل على الواقع صار حكم من نبذ الشريعة كلها وحكم بقوانين الكفار بحذافيرها وحارب من يدعو إلى تحكيم الشريعة وبالغ في أذاهم وتشويه دعوتهم أنه لا يكفر) (2)
ومن أصولهم التي ذكرها (إطلاق لفظ الخارجي على من أنكر منكر الإمام باللسان.. وأنه لا أمر بمعروف إلا بإذن الإمام) (3)
هذه بعض الأصول التي ذكرها في كتابه المهم والخطير والذي شن عليه السلفية حملتهم الشديدة، وهي تؤكد كل ما ذكرناه سابقا من كون السلفية أكبر مصدر للتكفير في الأمة.
وقد يتصور البعض أن هذا الداعية الذي ذكر هذا بمنأى عن التكفير.. وذلك غير صحيح، فالتكفير ركن من أركان التمذهب بمذهب السلف.. ولا يصير السلفي سلفيا إلا به.. وإنما ذكر الكاتب ما ذكره هنا من انتقادات وتهم لأصحاب التوجه السلفي العلمي من
__________
(1) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 49.
(2) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 51.
(3) الخطوط العريضة لأصول أدعياء السلفية الجديدة، ص 55.
كلكم كفرة (496)
باب الدفاع عن النفس ضد تكفيرهم له.. وليس ضد التكفير مطلقا.
وقد أشار إلى ذلك في رسالة مفتوحة للشيخ ربيع المدخلي جاء فيها: ويقول: (ولما كان الشيخ ربيع بن هادي ينزع في نقده لي وفي غيري من طلبة العلم والدعاة إلى المنهج الذي اخترعه في النقد والذي سماه: (منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف)، وكان قد خرج على المسلمين بهذا المنهج الظالم الذي نسبه إلى سلف الأمة، وأهل السنة والذي يقوم على التعدي والظلم واتهام الناس بالباطل، وإخراج المسلمين من الإسلام، ورميهم بالبدعة والزندقة... فإنني رأيت دفعا للظلم الواقع علي، ودفاعا عن نفسي، والدفاع عن النفس مشروع بل واجب أحيانا لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، وكذلك دفاعا عن منهج أهل السنة والجماعة الحق في النقد والنصح لكل مسلم... رأيت أن أوجه هذا الخطاب إلى الشيخ ربيع بن هادي خاصة وللمسلمين عامة) (1)
النموذج الثاني كتب أبي محمد المقدسي
وهو محمد عاصم بن محمد البرقاوي المقدسي (ولد 1378 هـ)، صاحب الكتاب التكفيري المشهور [ملة إبراهيم]، وغيره من الكتب، وله أتباع كثيرون سواء من الملتحقين به في الجماعات المسلحة، أو غيرهم.
وهو يرى كفر المدرسة السلفية العلمية التي يسميها [الجامية والمدخلية] بسبب وقوفها مع الطغاة وعدم إنكارها عليهم، وأنهم بذلك وقعوا في نفس نواقض الإيمان التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ومن كتبه التي ألفها في تكفير السلفية العلمية كتاب [تحذير البرية من ضلالات الفرقة الجامية والمدخلية]، والذي قال في مقدمته: (حقيقة الفرقة المدخلية أنها فرقة من
__________
(1) من مقال به بعنوان: [أدعياء السلفية وتنفيذهم للمخططات الامريكية: خطاب مفتوح إلى ربيع المدخلي]
كلكم كفرة (497)
حزب الولاة المتولين للطواغيت المعادين لأهل الحق من المجاهدين وأنصار الدين؛ فرقة تعتقد أن في رقبتها بيعة للطاغوت المحارب لدين الله تواليه وتظاهره على المجاهدين وتعادي كل من طعن فيه وتسميهم بالخوارج والتكفيريين والفئة الضالة.. وهم كما قلت في رسالة لي قديمة بعنوان (تحذير البرية من ضلالات الفرقة الجامية والمدخلية): إن هؤلاء الجامية والمداخلة ومن سار على نهجهم ما هم في الحقيقة إلا لفيف من الضلال المارقين الموالين لحكام بلادهم عموما، ولآل سعود خصوصا فهم مجموعة من مشايخ السلطان ودعاته بل وكثير منهم من مخابراته ومباحثه وأنصاره وأوليائه) (1)
وقد نقل من أقوال السلف ما يدل على منهج التعامل معهم، فنقل عن سفيان بن عيينة قوله لما سئل عن الإرجاء: (الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم، ولا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم) (2)
وقد علق على هذا النص التكفيري بقوله: (لا شك أن أولئك أقل خبثا من هؤلاء المداخلة؛ لأنهم رغم تعريفهم الفاسد للإيمان لم يظاهروا المشركين على الموحدين ولم يتولوا الطواغيت ولا رقعوا للمشرعين وأعداء الدين كما يفعل هؤلاء الخوالف من المداخلة الذين دخلوا في ولاية الطواغيت، وزادوا على ذلك فعلة لم يفعلها حتى غلاة المرجئة من الجهمية الذين لم يوالوا الروم ولا انحازوا إلى صف الصليبيين ضد المسلمين؛ أما هؤلاء الخوالف الضلال؛ فلم يكتفوا بالجدال عن طواغيت الحكم، بل انبروا يدافعون ويجادلون عن أحلافهم من الصليبيين ويثنون عليهم بل ويدعون لهم، حتى نعب خطباؤهم على منبر المسجد الحرام قائلين (جزى الله أمريكا عنّا خيراً!!) وفي مقابل هذا كله تراهم يشنون
__________
(1) تحذير البرية من ضلالات الفرقة الجامية والمدخلية، ص 3.
(2) رواه الطبري في تهذيب الآثار (2/ 181)
كلكم كفرة (498)
غاراتهم على الموحدين ويطيلون ألسنتهم في الدعاة المعارضين للتحالف مع الصليبين والاستنصار بهم ويبيحون دماء المجاهدين لهم ويؤيدون طواغيت الحكم ويظاهرونهم ويؤزونهم ويحرضونهم علي قتلهم وإعدامهم) (1)
بناء على هذا راح يذكر رؤوسهم، ومواقف السلفية الحركية منهم، فمنهم (2) ـ وعلى رأسهم ـ محمد أمان الجامي الذي قال فيه: (هو أثيوبي قدم إلى المدينة المنورة، وسهل له التدريس في المسجد النبوي، والجامعة الإسلامية وهو صاحب التقارير الشهيرة للسلطان في المشايخ وطلبة العلم وقد هلك)
ومنهم (ربيع بن هادي المدخلي المدرس في الجامعة الإسلامية المتفرغ والمتفنن في الطعن في كل داعية محارب للطواغيت)
ومنهم (فالح بن نافع الحربي شيخ المباحث السعودية كما يعرفه إخواننا في الحجاز)
ومنهم (محمد بن هادي المدخلي ذنب أمراء آل سعود وشاعر بلاطهم؛ المحاضر في الجامعة الإسلامية.. وقد شابه الخوارج في ترحيبه باستباحة دماء المسلمين ومباركة قتلهم، وتحريم دماء الكفرة والمشركين وله شعر في ذلك.. وشعره هذا يشبه شعر عمران بن حطان من الخوارج الأزارقة)
ومنهم (علي الحلبي صاحب الفتوى الشهيرة في وجوب التبليغ عن الدعاة والمجاهدين الذين يسميهم هو ومقلدته بالتكفيريين؛ حيث وُجِّه إليه السؤال التالي: هل يجوز أن يُبلغ أمر هؤلاء التكفيريين إلى السلطان في هذا الزمان؟ فأجاب الحلبي بجواب ملخبط وحمّال أوجه بقوله: (إذا كان هنالك يترتب عليهم من الضرر، والإفساد للأمة، والتضليل لها، وبعث الشر فيها، فهذا واجب)، ثم سُئل بتاريخ 2 ربيع الأول 1420 عن
__________
(1) تحذير البرية من ضلالات الفرقة الجامية والمدخلية، ص 5، فما بعدها.
(2) تحذير البرية من ضلالات الفرقة الجامية والمدخلية، ص 7.
كلكم كفرة (499)
فتواه هذه، فأنكرها بشدة، مدعياً بأن ديدن هؤلاء الكذب على الدعاة، فأُحضر الشريط الذي عليه السؤال والجواب بصوت الحلبي، فبُهِتَ أمام جمعٍ من الذين سمعوا إنكاره قبل دقائق وفي نفس الجلسة؛ التي تمت في بيت أحد الإخوة في مدينة الزرقاء (الأردن) بعد صلاة العشاء وحضرها قُرابة 40 شخصاً، فانقلب يُدافع عن فتواه هذه بحرارة، وبأنه قصد الذين يُفسدون على الأمة منهج سلفها الصالح.. فسئل: هل كُتب وآراء الشيخ سفر الحوالي، والشيخ سلمان العودة، والشيخ عمر عبد الرحمن وأمثالهم، هل هي تُفسد الشباب المسلم عن منهج السلف؟ فأجاب دون خجلٍ ولا وجلٍ: (هي باب للفساد لا شك ولا ريب)، وقد وافق بذلك فرقة اليزيدية من فرق الخوارج، وذلك في قولهم بتولي من شهد أن محمدا رسول الله ولو لم يدخل في دينه؛ مع تبرئهم من الموحدين واستباحتهم لهم، ولكن هناك فرق بينه وبين اليزيدية؛ وهو أن اليزيدية استباحوا الموحدين بالمعاصي، أما هؤلاء المارقة المعاصرين فقد استباحوهم بالطاعات مثل الجهاد والصدع بكلمة الحق والبراءة من الطواغيت وتكفيرهم ونحوه)
ومنهم (سليم الهلالي صاحب اللسان الطويل على المجاهدين والدعاة وصاحب السرقات الشهيرة من كتب الدعاة والعلماء)
ومنهم (سعد الحصين المستشار في السفارة السعودية في الأردن وهو سعودي الجنسية والولاء حتى النخاع يتتبع خطى الجاميين والمداخلة)
ومنهم (محمد بن عبد الرحمن المغراوي ولا يتورع من التهديد برفع أمور مخالفيه من الدعاة إلى السلاطين)
ومنهم (الجزائري عبد المالك بن أحمد رمضاني صاحب كتاب (مدارك النظر في السياسة..) وهو من أسوء وأردأ ما كتب في هذا الباب وحقيقته أنه يدعو إلى سياسة انبطاحية معيشية إرجائية مع الطغاة خارجية مع الدعاة؛ فهو يعتبر حكام الجزائر ولاة أمره
كلكم كفرة (500)
الشرعيين فلا يجيز الخروج عليهم ولو باللسان والكلام إذ هو وللآن لم يبصر لغشاوة على بصره وطمس على بصيرته شيئا من الكفر البواح والشرك الصراح والحرب المعلنة على الدين التي يمارسها ولاة أمره هؤلاء، وفي مقابل هذا التعامي عن كفر الطواغيت والترقيع له؛ ترى هذا الغليم القُزَيّم على منهاج شيخه ربيع المدخلي يشن غارته على المجاهد العملاق سيد قطب فلا يعذره بتأويل ولا ينبّه على تراجعه عن كثير من الهنّات التي يصرّ هذا وأمثاله على إلصاقها به ولا يوردون على كلامه شيئا من ترقيعاتهم الواسعة لطوام الطواغيت)
وهكذا راح يذكر الكثير منهم، ويبين وجوه تضليله وتبديعه وتكفيره، وهو لم يكتف بالجاميين فقط، بل ضم إليهم الحركيين من السلفية الذين لم يوافقوا على العمل المسلح، ولم يكفروا الحكام، فقال: (في الكويت يسميهم إخواننا هناك بأصحاب المنهج الأنبطاحى لتخذيلهم عن الدعاة والمجاهدين وانبطاحهم لولاة الخمور، وينقسمون إلى قسمين؛ حزبيين وغير حزبيين؛ يتفاوتون بدرجة الأنبطاح لكنهم يلتقون على نفس الفكر والمنهج) (1)
ومن كتبه التكفيرية التي لقيت ردود فعل واسعة، وألفت في الرد عليها الكثير من الكتب كتابه [الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية]، والذي صرح فيه، وفي مواضع كثيرة على كفر كل السلفيين ـ وخصوصا العلماء منهم ـ ممن لم يؤمنوا بالسلفية الحركية المسلحة، وهو يستند في ذلك إلى نفس ما يستند إليهم السلفية في تكفير المدارس العقدية والصوفية وغيرها، بل يستعمل نفس أسلحتهم التي أشهروها على خصومهم.
وقد بدأ كتابه هذا بما ذكره القحطاني في نونيته من أبيات حول تهديد الأشاعرة وغيرهم، كقوله:
والله صيرني عليكم نقمة... ولهتك ستر جميعكم أبقاني
أنا في حلوق جميعهم عود الحش... اعيى أطبتكم غموض مكاني
أنا همكم أنا غمكم أنا سقمكم... أنا سمكم في السر والإعلان
وقد قال في مقدمته مشيرا إلى الأدوار التلبيسية التي يقوم بها آل سعود مع من يساندهم من مشايخ السلفية: (أماّ هذه الدّولة الخبيثة، فهي من أشدّ الدّول اليوم ممارسة لسياسة التّلبيس على العباد والاستخفاف بهم واللّعب بعقولهم مدّعية تطبيق الشّريعة الإسلامية ونبذ القوانين الوضعية. ولقد أجادت هذه الدّولة الخبيثة أساليب التّلبيس والتدليس وأحكمتها حتّى انطلى هذا على كثير ممّن ينتسبون للعلم والدّعوة، فشاركوا في التّلبيس والتّرقيع لها، فتجد كثيراً منهم يتكلّمون في الدّول الأخرى وطغيانها ويهاجمون تحاكمها للقوانين الوضعية ويصدرون الكتب والمؤلّفات في هذا الكفر والشّرك المستبين، بل وتقوم هذه الدّولة بطباعة هذه الكتب وتوزيعها على الخلق مجّاناً، حتى يتوهم ويظن المتابع لحماسهم في تلك الكتابات أن حكومتهم التي تطبع لهم تلك الكتب وتوزّعها حكومة تحارب القوانين وتنبذها وتأبى تطبيقها أو التّحاكم إليها) (2)
ثم قال مخاطبا علماء السلفية الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سدنة وكهنة لآل سعود: (فيا قرّة عين طغاة آل سعود بأمثالكم ويا فرحتهم بأفهامكم وأفكاركم، فوالله لو اطّلعوا عليكم ووجدوا سبيلاً إليكم لشروكم بالملايين.. هذا والله من أعجب العجب) (3)
ومن الفصول التكفيرية التي عقدها في الكتاب لتكفير علماء السلفية العلمية فصل بعنوان [السعودية مقبرة العلماء وسجن الدعاة] بين فيه دور العلماء في كل ما تقوم به الحكومة السعودية من مواقف، فقال: (كثير من الكتاب والسياسيين عندما يتكلّمون عن
__________
(1) تحذير البرية من ضلالات الفرقة الجامية والمدخلية، ص 9.
(2) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 6.
(3) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 6.
كلكم كفرة (501)
هذه الدولة الخبيثة وركائزها ودعائهما وما تقوم عليه، يذكرون عدّة أمور أساسية من أهمّها وفي مقدمتها (فئة من العلماء والمشايخ تتخذهم هذه الدولة ستاراً وحاجزاً وركيزة من ركائز القوة فيها) نعم.. ووالله لقد أصابوا كبد الحقيقة وصدقوا في هذا، فإن ستار العلماء الذي وضعته هذه الحكومة الخبيثة أو تهيّأ لها بنفسه ورغبته.. يقدم لها دون شك خدمة عظيمة ومجهوداً جباراً في تثبيت أركانها.. بل إنّه يؤدي في هذا المجال دوراً هو أعظم وربّ الكعبة من دور القوات المسلّحة والحرس الوطني أو الملكي والقواعد الأمريكية وطائرات الواكس ومعاهدات الدفاع المشترك والمعاهدات الأمنية. فهو جهاز تخدير وتنويم وتلبيس وتدليس على الشعوب يعطي الصبغة الشرعية لكل ما تقوم به الحكومة وتفعله، ما دام هؤلاء العلماء في أحضانها.. فالنّاس يثقون بهم وينظرون إليهم ويقلّدونهم) (1)
ثم بين الأساليب والإغراءات التي يستخدمها حكام آل سعود لجلب العلماء والخطباء لنشر الفكر السلفي فقال: (فكم سمعنا عن عالم أو خطيب أو داعية صادق صادع كان في بلده قبل أن يستقدم إلى هذه الدولة الخبيثة، تهتز به المنابر وتسير إلى مجالسه وحلقه وخطبه الركبان، فما يلبث أن يتعاقد للتدريس عندنا فيدخل (ثلاجة) العلماء، فما تكاد تسمع له بعد ذلك حسا فمنهم من يخنس وينكب على المشاغل الكثيرة والتكليفات الواسعة التي يشغلونه ويلبسون عليه بها.. وينسى الصدع والدعوة وبيان الحق للناس وفضح الطغاة وطغيانهم، ويضيع ما تبقى من العمر في خدمة مؤتمرات أو إن شئت فسمّها مآمرات السلاطين وندواتهم ولجانهم وأوقاتهم وهيئاتهم وروابطهم التي هي في الحقيقة شيء قليل مما يلبس به الطّغاة على هذه الأمّة أمر دينها لصبغ دولتهم صبغة دينية شرعية، وفي الوقت نفسه يوجهون الناس إلى الدين الممسوخ الذي يريدونه هم، لا الذي يريده الله عزّ وجلّ والذي بعث من أجله رسله والذي أصل أصوله (لا إله إلا الله) توحيد الله وموالاة أوليائه
__________
(1) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 231.
كلكم كفرة (502)
الحقيقيين والبراءة من الشرك – جميع صور الشرك وأنواعها - وعداوة أهلها.. فمن أولئك المشايخ والدّعاة من يبقى على هذه الحال يفني عمره خادماً مطيعاً وكلباً أليفاً وجندياً وفياً للطغاة ومخططاتهم شعر أو لم يشعر.. قصد أو لم يقصد.. فهذا هو واقع الحال) (1)
ثم بين الأدوار والوظائف التي صار علماء السلفية العلمية يتولونها لخدمة الحكام، فقال: (فهذا هو الحاصل اليوم وهذا هو الواقع لا يجادل في ذلك إلا مطموس البصيرة.. فإنّ القلب والله ليذوب حسرة وكمداً على ما آل إليه حال العلم والعلماء في هذا الزمان، وها نحن نرى طلبتهم يملؤون البقاع لا هَمَّ لهم إلا الجدال عن الطّغاة والوقوف في وجه من يكفّرهم ويحرّض على حربهم وقتالهم.. فبئست الثمرة هذه إن كانت هي ثمرة العلم المزعوم.. وانشغلت طائفة أخرى بتحقيق المخطوطات حتى أمسى ذلك العمل ترفاً قاتلاً.. يحققون وينقحون ولا يعملون.. انشغلوا بالأسانيد وغفلوا أو تغافلوا عن المتون.. يجلس الواحد منهم شهوراً في تحقيق أحاديث غربة أهل الإسلام في آخر الزمان، ومنهجه ومسلكه المنحرف تجاه الطغاة من أعظم الدلائل على غربة الإسلام وغربة أهله العارفين له حق المعرفة.. ثم هو يستغرب ويتعجب بل ينكر ويهاجم كل من تكلم في شرك العصر، شرك الحكام والأحكام.. هذا حال طلبة العلم.. ولا غرابة من حالهم إذا كان مشايخهم على الحال التي عرفت) (2)
وتحدث المقدسي عن تلك التناقضات التي فرق أصحاب السلفية فيها بين شرك القبور وشرك القصور، فقال: (وقد قدمنا لك من ضلالات أبي بكر الجزائري ومجازفاته ما فيه الكفاية.. وأمثاله كثير ممن ليس لهم هم إلا الدفاع عن الطغاة وحكمهم والهجوم على الموحدين المعادين لهذه الدولة ورميهم ووصفهم بنعوت الخوارج والتكفير ليصرفوا الناس
__________
(1) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 233.
(2) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 233.
كلكم كفرة (503)
عن هذا الطريق القويم طريق التوحيد الحق، طريق الولاء والبراء إلى توحيد لا يغضب ولا يزعج أسيادهم من طغاة آل سعود ولا يؤثّر في سياساتهم ومناهجهم.. فالشرك عندهم هو عبادة القبور والأصنام ودعاء غير الله والنذر لغير الله والذبح لغير الله ومن حقق هذا كان موحداً كاملاً حق على الله أن يدخله الجنّة وإن والى أعداء الله وعادى أولياء الله ولبس الصليب وتحاكم إلى الطاغوت محلياً وإقليميا وعربيا ودوليا.. فالحكم والتشريع ونصرة الكفار على اختلاف مللهم بالنفس والمال ومودتهم وتوليهم وحرب الدين وأهله لا دخل لذلك كلّه – عند مشايخ آل سعود - بالشرك والكفر والتوحيد) (1)
وقد ضرب الأمثلة عن بعضهم، فقال: (فهذا أحدهم يكتب كتاباً يوزّع على عوام الناس بالآلاف، يخصّص فيه صفحة كاملة بعنوان (العقيدة أولاً أم الحاكمية) فاصلاً فيه عن العقيدة قضية هي من أهم قضايا العقيدة وتوحيد الألوهية.. فما الثمرة من هذا غير الجدال عن الطّغاة وصدّ كل من يعمل أو يتكلّم ضدّهم.. وذاك دكتور يشغل منصب رئيس قسم السند بالدراسات العليا في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة يؤلف كتابا كاملاً لأجل هذه الغاية، سمّاه (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل) ويشن فيه الغارة بحكمته وعقله المعيشي المداهن على كل من يحارب كفرة الحكام ويجاهدهم.. وحاول بكل ما أوتي من جهد أن يبين أن طريقهم هذا خلاف منهج الأنبياء في الدّعوة إلى الله) (2)
المراد بالسلفية الحركية السلفية التي حاولت أن تمزج بين توجهها السلفي والعمل الحركي لإقامة الدولة الإسلامية، متأثرة في ذلك ـ بالدرجة الأولى ـ بما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناءه وأحفاده من بعده من تأسيسهم مع آل سعود للدولة السعودية،
__________
(1) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 234.
(2) الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية، ص 235.
كلكم كفرة (504)
ومتأثرة كذلك بالإخوان المسلمين، وخصوصا بما كتبه سيد قطب مما يعتبرونه تكفيرا للحكام والأنظمة والمجتمعات، ولهذا يطلق عليهم المخالفون لهم لقب القطبيين والحزبيين وغيرهما من الألقاب.
وهؤلاء أيضا انقسموا إلى من ينتهج المنهج السلمي في الدعوة، ومنهم من ينتهج العنف وسيلة لذلك.. وهؤلاء جميعا سلميهم وحربيهم انقسموا أقساما كثيرة.
وأحكام هؤلاء جميعا تتراوح عند أصحاب السلفية العلمية بين الكفر، باعتبارهم خوراج، وبين اعتبارهم من أهل فرق الضلال الخارجين من أهل السنة والجماعة.
ولكثرة ما كتب فيهم، فسأكتفي هنا بذكر بعض النماذج من الفتاوى والتصريحات التي تدل على موقف السلفية العلمية منهم، من خلال المبحثين التاليين.
1 ـ موقف السلفية العلمية من السلفية الحركية
لا يمكننا إحصاء ما كتبه أصحاب الاتجاه السلفي العلمي بفروعه المختلفة في تبديع وتضليل وتكفير الجماعات السلفية الحركية.. وذلك لكثرة الجماعات من كلا الطرفين، ولكثرة المؤلفين في كل جماعة.. ذلك أن الجميع يعتبرون هذه الجماعات الحركية من أهل البدع المعاصرة الكبرى التي لا تقل عن الفرق التي واجهها سلفهم الأول.. وهم يريدون أن يتقربوا إلى الله بالرد عليهم، استنانا بسنة سلفهم.
ولكن مع ذلك، فسأكتفي هنا بنموذجين في الرد على شخصيتين كبيرتين في المدرسة السلفية الحركية، ولكليهما أتباع كثيرون فيها.
النموذج الأول الموقف من السلفية السرورية
تعتبر السلفية السرورية من أوسع التيارات السلفية الحركية في العالم الإسلامي في العصر الحديث، وقد أسسها الشيخ محمد سرور زين العابدين الذي كان كان من الإخوان المسلمين ثم انشق عنهم، وحاول أن يجمع بين فكرهم وبين المدرسة السلفية العلمية.
كلكم كفرة (505)
وقد نشأت هذه المدرسة في البداية في السعودية. ثم انتشرت بعد ذلك في كثير من دول العالم الإسلامي، وهي تتفق مع السلفية الجهادية في كثير من مواقفها المتشددة من الحكومات الإسلامية.. كما تتفق مع السلفية العلمية في أطروحاتها المتشددة من الطوائف الإسلامية.
وللسلفية العلمية مواقف متشددة منها لاتقل عن مواقفها من الجماعات السلفية الجهادية، باعتبار فكرها يؤهل ويهيئ لظهور الجماعات المسلحة.
والسلفية العلمية ينقلون في التحذير منها وتكفيرها أقوال كبارهم أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز الذي سئل عن مقولة لشيخ السرورية يقول فيها: (نظرت في كتب العقيدة فرأيت أنها كتبت في غير عصرنا، وكانت حلولاً لقضايا ومشكلات العصر الذي كتبت فيه، ولعصرنا مشكلاته التي تحتاج إلى حلول جديدة، ومن ثم فأسلوب كتب العقيدة فيه كثير من الجفاف، لأنه نصوص وأحكام، ولهذا أعرض معظم الشباب عنها وزهدوا بها) (1)
فأجاب ابن باز بقوله: (هذا غلط عظيم... كتب العقيدة: الصحيح أنها ليست جفاء، قال الله قال الرسول؛ فإذا كان يصف القرآن والسنة بأنها جفاء فهذا ردة عن الإسلام، هذه عبارة سقيمة خبيثة)، وسئل عن حكم بيع الكتاب فقال: (إن كان فيه هذا القول فلا يجوز بيعه، ويجب تمزيقه) (2)
وقال الألباني في وصف سرور لكتب العقيدة بالجفاف: (وهل يقول هذا مسلم) (3)
وقال الشيخ حماد الأنصاري: (مجلة السنة لسرور زين العابدين رأيتها بيد بعض الناس فأمرتهم بإحراقها، وقلت قولي هذا قبل أن اعرف هذا الرجل) (4).
__________
(1) منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله 1/ 8.
(2) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة ص 50.
(3) المقالات السلفية ص 25..
(4) المجموع في ترجمة الشيخ حماد الأنصاري 2/ 574.
كلكم كفرة (506)
وقال الشيخ أحمد النجمي: (إن المنهج الإخواني بجميع فصائله من سرورية وقطبية وجماعة تكفير وحزب جهاد وتحرير وغير ذلك كلها تتفق على الفكرة الحركية الحزبية الثورية، كلهم يدعون إلى التخطيط السري والخروج المفاجئ عندما يرون قوتهم قد اكتملت، وإن كانوا يدعون أنهم من أهل السنة والجماعة) (1).
وقال الشيخ صالح الفوزان إجابة على سؤال يقول: (قرأت كتاباً اسمه: منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله لمؤلفه: محمد سرور بن نايف زين العابدين، قال فيه: (نظرت في كتب العقيدة فرأيت أنها كتبت في غير عصرنا، وكانت حلولا لقضايا ومشكلا ت العصر الذي كتبت فيه، ولعصرنا مشكلاته التي تحتاج إلى حلول جديدة، ومن ثم فأسلوب كتب العقيدة فيه كثير من الجفاف؛ لأنه نصوص وأحكام، ولهذا أعرض معظم الشباب عنها وزهدوا بها) فما هو تعليق فضيلتكم على هذا الكلام؟)، فأجاب بقوله: (لماذا نستورد أفكارنا من الخارج.. لماذا لا نرجع إلى الكتب التي بين أيدينا، من كتب السلف الصالح، وكتب علماء التوحيد التي صدرت عن علماء، ولم تصد ر عن كاتب أو مثقف لا يد ري عن مقاصده؟ ولا يدري أيضا ـــ عن مقدار علمه؟.. الرجل ـ محمد سرور -بكلامه هذا يضلل الشباب، ويصرفهم عن كتيب العقيدة الصحيحة وكتب السلف، ويوجههم إلى الأفكار الجديدة، والكتب الجديدة، التي تحمل أفكارا مشبوهة كتب العقيدة آفتها عند محمد سرور أنها نصوص وأحكام، فيها: قال الله وقال رسوله، وهو يريد أفكار فلان وفلان، لا يريد نصوصاً وأحكاماً. فعليكم أن تحذ روا من هذه الدسائس الباطلة، التي يراد بها صرف شبابنا عن كتب سلفنا الصالح) (2)
وقال الشيخ مقبل الوادعي: (الحزبيون غير موفّقين في دعوتهم بل يعتبرون نكبة على
__________
(1) المورد العذب الزلال ص 237.
(2) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة.
كلكم كفرة (507)
الدعوات، هذا وقد احترق عبدالرحمن عبدالخالق بحمد الله، واحترق عملاؤه في اليمن بحمد الله، واحترق محمد سرور الذي كان صاحبنا قبل قضية الخليج، وأصبح وحفنة من أتباعه يحاربون العلماء، وينفرون عن العلماء، فتارة يطعن هو وأتباعه في الشيخ الألباني وأخرى في الشيخ ابن باز، وانهما لا يفهمان الواقع وأما عند التّحيل من أجل التزكيات ومن أجل المال فيأتون إلى الشيخ ابن باز ويقولون فعلنا وفعلنا) (1)
و سئل: (هل هناك أحد من الدعاة في السعودية تابع محمد سرور على نهجه؟)، فأجاب: (وجد من يتابعه بكثرة، وأيّدوا فكرته الخاطئة أنه لا يجوز الاستعانة بأمريكا على رد المعتدي صدام البعثي.. فهناك من تابعه على فكرته وتأثر بها، مثل سلمان العودة، وكذلك سفر الحوالي، لكن سفرًا أقل تأثرًا بها، ولو جالس سفرًا إخوان صالحون فما أظنه إلا سيرجع، أما سلمان فقد خبّط خبْط عشواء، وفي اليمن أيضًا تابعه بعض المخذولين من أصحاب جمعية الإحسان) (2).
ومن الرسائل المؤلفة في الرد على السرورية رسالة بعنوان [عشرون مأخذا على السرورية]، وهي من تأليف الشيخ محمد بن عبدالوهاب الوصابي العبدلي، وهي في أصلها محاضرة ألقاها في سنة 1419 هـ في دار الحديث السلفية بدماج، في التحذير من السروريين.
ومن المآخذ التي أخذها عليهم، وبدعهم على أساسها (ولاؤهم لمحمد سرور، وقد قال: كلمة (الكفر)، وهذه الكلمة هي التي ذكرها في كتابه [منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله].. وهذه الكلمة لما سُئل عنها الشيخ ابن عثيمين قال هذه الكلمة كفر، ولما سئل عنها الشيخ الفوزان قال: (هذا كفر، من قال هذا، قالوا: هذا محمد سرور قال: هذا رجل خبيث)، ولما سئل عنها الشيخ ابن باز – إلا أنها حرفت على السائل – بكلمة (جفاء) بدل
__________
(1) إعلام الإخوان.
(2) تحفة المجيب.
كلكم كفرة (508)
(جفاف) فقال: (هذه (ردة) و(كلمة خبيثة) قالوا يا شيخ ما حكم بيع هذا الكتاب والقراءة فيه؟! قال: (يحرم بيعه ويجب تمزيقه).. وقوله في علماء العقيدة بأنهم عبيد عبيد عبيد العبيد وسيدهم الأخير نصراني، وبأنهم (كذبة) و(منافقون) و(جواسيس)، حيث طعن طعنات متعددة في كتب العقيدة وعلماء التوحيد كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، والشيخ ربيع وغيرهم من علماء التوحيد) (1)
النموذج الثاني الموقف من عبد الرحمن عبد الخالق ومدرسته
يشكل عبد الرحمن عبد الخالق وأتباعه الكثيرون عقبة كأداء بالنسبة للسلفية العلمية، ذلك أنه مع موافقته لهم في كل مواقفهم من الصوفية والشيعة وغيرهم إلا أنه مع ذلك ينتقدهم ويرد عليهم، بل ويتعامل معهم بالمنهج الذي يتعاملون به مع المبتدعة، وذلك ما أغاظهم، فهم يريدون أن ينتقدوا، ولا ينتقدوا، ويكفروا غيرهم، ولا يكفرهم أحد، لأن لحوم غيرهم حلال، ولحومهم مسمومة.
ولهذا تظهر اللهجة الحاقدة في حديثهم معه وعنه، مثلما تظهر مع الصوفية والشيعة وغيرهما، ومن أمثلة ذلك أن الشيخ مقبل الوادعي سئل: (هل عبدالرحمن عبدالخالق مبتدع؟)، فأجاب: (نعم مبتدع، ما دام يدعو إلى الحزبية.. وإذا كان من أهل العلم من يقول: أن المتعصب للمذاهب الأربعة أو لواحد منها يعد مبتدعًا.. فالتعصب لهذه الحزبيات الساقطة تعتبر بدعة، وكذلك محاربته لإخوانه أهل السنة وتنقصه لهم، واعترافه بالديمقراطية، والذي ينكر على أهل السنة أنّهم لا يقولون بالعمل الجماعي، فهو صاحب هوس، وإلا فمن الذي ينكر العمل الجماعي.. لكن في حدود الكتاب والسنة، وليس كما يقال: أمرنا الأمير أن نحلق لحانا فنحن نحلقها.. أو أمرنا الأمير أن نتصور فنتصور، وغيرها من المحرمات، وإنني أحمد الله على الخير الذي حققه على يدي الدعاة إلى السنة من
__________
(1) انظر: عشرون مأخذا على السرورية، ص 7، فما بعدها.
كلكم كفرة (509)
أهل السنة في اليمن، اخرجوا إلى إخوانكم الذين تزوّدونهم بالدنانير تجدوهم أمواتًا غير أحياء وما يشعرون متى يسقطون، فهم يتوقعون السقوط، بخلاف دعوة أهل السنة.. فالحمد لله دعوة أهل السنة منتشرة في اليمن وفي غير اليمن، وأبشركم أنّها تأتيني أسئلة من بريطانيا ومن أمريكا ومن ألمانيا ومن كثير من البلاد يسألون عن عبدالرحمن عبدالخالق وعن جمعية إحياء التراث، ونحذرهم غاية التحذير من الوقوع في شباكهم) (1)
وقال: (فيجب على عبد الرحمن عبد الخالق أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يترك الدعوة إلى الله، فأنا أرى أن مثله ينبغي أن يتقاعد، وإن كان صغير السن، فقد صار ضرره أعظم من نفعه، وينبغي أن يحجر عليه؛ لكثرة فساده على الدعوات القائمة على الكتاب والسنة؛ وتنفيذ ما يريده أعداء الإسلام. وننصحه قبل هذا أن يتوب إلى الله تعالى ويبتعد عن هذه الحزبيات المغلفة) (2)
وهكذا ردوا عليه بشدة قوله: (وقد عجبت أشد العجب أن ينكر بعض تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يتنكروا لطريقة أستاذهم، ويقولوا كما يقول أعداء دعوته، كل من أسس جماعة للدعوة والجهاد فهو خارجي معتزلي. وليس النظام من دين الله، والتحزب ليس من الإسلام. والعجب كل العجب أن بعض هؤلاء أعطوا الأئمة من أشباه المسلمين حقوق لم تعطى للصديق، ولا الفاروق، ولا عرفها المسلمون في كل تاريخهم. ولا دونها حسب علمي عالم موثوق في شيء من كتب العلم، وأنه لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بإذن الإمام. ولا يجوز رد العدوان عن ديار المسلمين إلا بأمر السلطان، وهؤلاء وللأسف أعطوا الحاكم صفات الرب سبحانه وتعالى) (3)
__________
(1) تحفة المجيب على أسئلة الحاضر والغريب، ص 143.
(2) فضائح ونصائح، للشيخ مقبل الوادعي ص (53 - 54)
(3) نقلا عن: العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 13.
كلكم كفرة (510)
فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز تعليقا على هذا: (هذا كلام باطل، وغلط منه، ولم يقل به أحد، ولا يقول به مؤمن) (1)
وقال فيه الشيخ محمد صالح بن عثيمين: (كذب من وجه، وضلال من وجه.. لا أنصح الشباب أن يرتبطوا بمثل هؤلاء، يحذر منه، ويحقق معه) (2)
وقال الشيخ صالح الفوزان: (هذا الكلام يدل على حقد في قلبه على علماء الدعوة الموجودين الآن، وهذا قليل من كثير مما قاله-يعني: عبد الرحمن عبد الخالق-عليه مسئوليته أمام الله... على الطلبة أن يحذروا منه) (3)
وقال في قوله (أعطوا الحاكم صفات الرب): (هذا فيه تكفير للعلماء.. أنصح أن هؤلاء يحاربون) (4)
وقد انتقدوه بشدة في قوله: (تجد طائفة العلماء لا يحسنون العقيدة إلا ما تكلم به الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي قضايا توحيد الألوهية والنهي عن عبادة القبور والتوسل بها.. مع العلم أن البيئة والقرى التي يتكلمون فيها هذا الكلام لا تجد فيها إنسان يقول بمثل هذا، لكن نشأ أفكار جديدة مثل الإلحاد والتشكيك في الدين.. لكن هم-يعني: العلماء-في عماء تام وجهل تام عن هذه المشكلات الجديدة إذاً هذه السلفية التقليدية لا تساوي شيئاً) (5)
فقد رد الشيخ صالح بن غصون على ذلك بقوله: (كلامه يصل إلى الكفر؛ لأنه يصف الحق أنه لا شيء، ويصف الاستقامة أنها لا شيء.. أنصح أن هؤلاء يحاربون، أما صاحب
__________
(1) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 14.
(2) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 15.
(3) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 18.
(4) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 19.
(5) نقلا عن: العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 19.
كلكم كفرة (511)
المقالة-عبد الرحمن عبد الخالق-مغرض إنسان خبيث فاجر مريض) (1)
ومن المسائل التي انتقدوه فيها بشدة قوله بالحاكمية، وقد قال في ذلك أبو أحمد السلفي مؤلف كتاب [العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق]: (يستند العلماء في نقد عبد الرحمن عبد الخالق التكفيري الخارجي على مضامين كتاب [الصراط] الذي أصدره مؤلفه في رمضان سنة 1417 هـ أجمل فيه المؤلف- كعادته كما في كتبه الأخرى - القول بأن كل من لم يحكم بما أنزل الله كافر، وأن التوحيد ينقسم إلى أربعة أقسام، منها الحاكمية. وساق أقوال العلماء دون تفصيل.. ويقول العلماء إن مسألة التكفير المطلق لدى عبد الرحمن عبد الخالق موجودة في كتبه الأخرى، ويورد العلماء نماذج من ذلك في كتب مختلفة مثل [أصول العمل الجماعي] و[مشروعية الدخول إلى المجالس النيابية]، ويتخوف الذين يحذرون من هذه الكتابات من بوادر فتنة جديدة، خاصة أن هذه الأفكار التي تتعلق بالتكفير والحاكمية صار لها واقع ملموس في بعض الدول) (2)
ومن المسائل التي انتقدوه فيها بشدة طعنه في كبار علماء السلفية، وفيهم بعض شيوخه، ومن ذلك قوله: (واليوم للأسف نملك شيوخاً يفهمون قشور الإسلام على مستوى عصور قديمة... لا نريد هذا الطابور من علماء المحنطين)، وذكر أن الشيخ ابن باز مضغوط عليه من الحكومة، وقال: (أقول لو أن الذين أفتوا بحرمة الجماعة والتجمع وأزالوا عن أعينهم غشاوة الجهل.. ما أقدموا عليه من الفتوى الباطلة والقول الجزاف)، وقال: (للأسف أن بعض الدعاة إلى الله قد لا يمارس من أساليب الدعوة إلا مجرد نشر كتاب أو إلقاء درس ويظن أنه سيخرج اليهود.. فهم مع ذلك ثرثارون متشدقون)، وقال: (أن يقتصدوا جداً في تعليم الطلاب: آداب الحاجة وشروط المياه و... كفانا إغراقاً في النوم وسعياً
__________
(1) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 20.
(2) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 6.
كلكم كفرة (512)
في الفوضى وعماية وجهالة... إننا نريد علماء على مستوى العصر)، ويقول في شيخه الشنقيطي: (مكتبة متنقلة ولكنها طبعة قديمة تحتاج إلى تنقيح وتصحيح) (1)
يقول الشيخ ربيع المدخلي في هذه التهمة بعد أن نقل نصوصا من أقواله: (هذه نظرة الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق إلى علماء الإسلام عموماً وإلى علماء السنة والتوحيد في المملكة العربية السعودية خصوصاً وإلى علماء الجامعة الإسلامية وعلى رأسهم الشيخ الإمام محمد الأمين الشنقيطي فهم: شيوخ لا يفهمون إلا قشور الإسلام على مستوى عصور قديمة.. وهم طابور من العلماء المحنطين الذين يعيشون بأجسادهم في عصرنا ولكنهم يعيشون بعقولهم وفتاواهم في غير عصورنا فهو لايريدهم.. ويضرب مثلاً بشيخه الإمام الشنقيطي ويدعي أنه ما كان يدرك جواب شبهة يوردها عدو من أعداء الله، مع أنه يشهد بأنه لم تقع عينه على أعلم بكتاب اللَّه منه؛ لكنه مكتبة متنقلة ولكنه طبعة قديمة تحتاج إلى تنقيح وتصحيح.. وأنه كان يدرس غيره عشرات في علوم الشريعة على هذا المستوى جهلا بالحياة وعلماً بالدين، ثم يقول: وهذا لا يكفي في عصرنا لا بد لنا من رجال يكونون على مستوى ثقافة وعلوم عصورهم ويكونون أيضاً على مستوى الفهم الجيد لكتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
ومن الردود التي رد بها علماء السلفية العلمية على تلك الأقوال السابقة قول ابن عثيمين: (من يدعي أن هناك قسماً رابعاً للتوحيد تحت مسمى [توحيد الحاكمية] يعدّ مبتدعاً، فهذا تقسيم مبتدع صادر من جاهل لا يفقه من أمر العقيدة والدين شيئاً) (3)
وقال الشيخ صالح بن غانم السدلان: (ومن جعل الحاكمية قسماً رابعاً من أقسام
__________
(1) نقلا عن كتاب: العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق.
(2) جماعة واحدة لا جماعات، ص 51.
(3) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص (45)
كلكم كفرة (513)
التوحيد فهذا إما جاهل وإما مبتدع) (1)
وقال الشيخ ناصر العقل: (الحاكمية من الألفاظ المحدثة، مثلها مثل ما أحدثه الجهمية والمعتزلة وأصل الكلام من ألفاظ مبتدعة.. ولا يخلو مفهومها عند المعاصرين من الغلو والمبالغة والتنطع والتعمق في المعنى المراد عندهم، فالأولى اجتنابها) (2)
وقال الشيخ عثمان بن عبد السلام نوح تحت عنوان [ماذا يريد السلفيون من السلفيين] عند حديثه عن عبد الرحمن عبد الخالق: (دعاة السلفية في الإسكندرية جعلوا من مؤلفاته منهاجاً يسيرون عليه في طريقة الدعوة- مثل: منهاج الدعوة السلفية، ولكن الرجل له نزعة إخوانية في الانهزامية أمام الضغوط العصرية وتطويع نصوص الشرع إلى الواقع العصري، ويميل أيضاً إلى الترخصات الإخوانية، ويبدو عليه الافتنان ببعض المبادئ الأوربية في السياسة وغيرها) (3)
وقد أعطى الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق لأعدائه من السلفية العلمية وغيرهم الفرصة لنقده بكل سهولة، لأنه لا يمكن أن يجمع أبدا بين المنهج السلفي وبين ما يدعو إليه.
ومن أمثلة تلك التناقضات أن الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وفي برنامج على قناة الرحمة يسمى (جبريل يسأل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيب)، وكان معه محمد حسان ومحمد عبد المقصود، وقد سأله المقدم هذا السؤال: بعض الناس بيسأل هل يجوز الاحتفال بيوم 25 يناير؟ فأجاب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ بهذه النبرة الدبلوماسية ـ: (لا شك أن هذه مناسبة سعيدة، احتفالنا بها ليس إثارة عيد يعني، وإنما تذكر هذا اليوم، كان يوم فاصل بين
__________
(1) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 49.
(2) العلماء يتولون تفنيد الدعاوى السياسية المنحرفة لعبد الرحمن عبد الخالق، ص 56.
(3) الطريق إلى الجماعة الأم، ص (178)
كلكم كفرة (514)
عهدين، بين عهد مضى عهد الظلم والاستبداد، وعهد آتي إن شاء الله تعالى عهد للاستقرار والحرية والشورى في المجتمع فذكرى هذه المناسبة هو يعني الاحتفال بها أرى أنه أمر مشروع)، إلى أن قال: (هذه مناسبة ينبغي أن نذكرها ونقف عندها كما نذكر كما مثلاً نذكر يوم بدر، فإن هذا اليوم من أيام الله تبارك وتعالى، ثم ذكر يوم عاشوراء وأن المسلمين كانوا يصومونه) (1)
بينما هو نفسه يقول في كتابه [الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة] كل ما قاله سلفه عن بدعية إحياء المناسبات المختلفة حتى لو ارتبطت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، فقد قال فيه: (ولقد أصل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أصلاً خطيراً، وهو تعمد مخالفة أهل الكتاب والأمم الأخرى، وذلك حتى تتحقق ميزة الأمة بالمنهج المستقل والأفعال المستقلة، وحتى لا تختلط أفعال الأمة وعباداتها بأفعال الأمم الأخرى وعباداتها.. ولهذا الأصل أدلة وشواهد لا تحصى كثرة، من أجمع الكتب المؤلفة في ذلك كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية والفصل الخاص بحرمة التشبه بالكفار من (حجاب المرأة المسلمة) للألباني، والمراد هنا التنبيه على أن الأمة الإسلامية يجب أن تكون أمة مستقلة في كل شيء: المنهج والعبادة، والسلوك والآداب والعبادات، وحتى اللباس والمظاهر والعادات) (2)
وقد علق بعض أصحاب المنهج التكفيري الصريح على التناقضات التي بدا بها الشيخ عبد الرحمن، فقال: (فإن المرء ليعجب أشد العجب عندما يرى هذا التقلب السريع لعبد الرحمن بن عبد الخالق، فبالأمس كان الحاكم لمجرد دخوله في معاهدة معينة مع بعض الكفار يكفر وأحكام هذه الهدنة ليست ملزمة، وإذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله فهذا مرتد بلا مثنوية، بل إذا انتسب الرجل لغير أبيه وهو يعلم فهو كافر كفراً أكبر كما في كتابه
__________
(1) عبد الرحمن عبد الخالق: يجوز الاحتفال بيوم 25 يناير وهو كيوم بدر وعاشوراء!. على شبكة سحاب السلفية.
(2) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (ص: 29)
كلكم كفرة (515)
(السياسة الشرعية)، واليوم يجب أن نرضى بمن أتت به الصناديق ولو أتت برئيس علماني، كما قال في لقاءه في جريدة الوطن الكويتية عندما سأله الصحفي قائلا: (لو جاءت نتائج الانتخابات برئيس او عضو برلمان علماني او ليبرالي او غير سلفي عموما، فقال عبد الرحمن عبد الخالق (مقاطعا): (لابد ان نقبل به، فنحن قبلنا بالنظام ولابد ان نرضى بنتائجه، ولتعزز صناديق الانتخابات من تفرزه فالانتخابات عقد وعهد وينبغي ان نفي بهذه العهود والعقود لكن على الاغلبية الا تلغي الأقلية، فإذا انتخبنا مجلس أمة وطرح عليه موضوع اقتصادي كأن نسير في إطار اقتصاد حر أو اقتصاد مقيد، فلابد أن نرضى بقرار الأغلبية ونحترم رؤية الأقلية)، قد رد عليه الصحفي بقوله: (حقيقة للمرة الأولى التي استمع فيها الى (سلفي ديموقراطي) فهل أنت سلفي بالفعل؟) (1)
وقد كانت هذه التناقضات دافعا لدعاة لمنهج السلفي الصريح لكتابة الردود الكثيرة عليه، ولا يمكننا أن نتحدث عن كل تلك الردود فهي كثيرة جدا، تمتلئ بها الكتب والمواقع وغيرها.. ولذلك سأكتفي بأهم ما كتب عنه، وهو كتاب [جماعة واحدة لاجماعات وصراط واحد لاعشرات: حِوَار مَع الشَّيْخ عَبْدالرَّحمَن بن عَبْدالخَالِق] الذي ألفه الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي، والذي أصبح مدرسة بحد ذاتها، فقد رد عليه، ورد على الرد، وهكذا.
ومن تلك الردود التي تكفي آحادها لتكفيره على حسب المنهج التكفيري السلفي قوله: (هذه دعوة من عبدالرحمن لإقرار الباطل والبدع والتصوف والتعطيل لأسماء الله وصفاته) (2)
وقال: (ونسي عبدالرحمن أنه بهذا الأسلوب يدافع عن نفسه وعن أهل البدع
__________
(1) عبد الرحمن عبد الخالق: يجوز الاحتفال بيوم 25 يناير وهو كيوم بدر وعاشوراء!. على شبكة سحاب السلفية.
(2) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 45.
كلكم كفرة (516)
والباطل أسلوب دحلان والكوثري وأمثالهما من أهل الباطل) (1)
وقال: (إن عبدالرحمن يحترم رؤوس أهل البدع المعاصرين ورؤوس أهل الفتن الحزبيين) (2)
وقال: (الخلاصة أن عبدالرحمن بن عبدالخالق شديد الحنق على علماء المنهج السلفي وطلابه، ومن هذا المنطلق كثر طعنه فيهم ظلماً واستمر على هذا الطعن والتهويش والتشويش ما يقارب ثلاثين عاماً) (3)
وقال: (لم يقتصر عبدالرحمن على السلفيين وتشويهه لهم بل تجاوز ذلك إلى تشويه السلفية نفسها) (4)
وقال: (فمنذ تسع وعشرين سنة يسدد ضرباته وطعونه إلى أتباع المنهج السلفي علماء كباراً وطلاباً، ويشهر بهم وينسب إليهم ما هم براء منه في عدد من كتبه وأشرطته) (5)
وقال: (فوا حسرتاه على عبدالرحمن عبدالخالق، وعلى من ينخدع بتصرفاته الباطلة التي تهز المنهج السلفي، وتؤذي أهله وتخدم البدع وأهلها، وتشيدها، وتلمع أهلها) (6)
وقال: (فهو يطعن ويسخر بعلماء أهل السنة وأتباعهم والمنهج السلفي منذ تخرج من الجامعة الإسلامية إلى يومنا هذا) (7)
قال: (ونرى أنه إلى الآن في مخاطبة الشيخ ابن باز وهيئة كبار العلماء لا يعترف
__________
(1) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 31.
(2) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 194.
(3) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 194.
(4) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 196.
(5) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 118.
(6) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 15.
(7) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 19.
كلكم كفرة (517)
بخطئه) (1)
وقال: (ثم إن اعتذارك عما ذكره لك الشيخ من شريط المدرسة السلفية لا يكفي فإن الطعن واسع وعميق وقام على أصول لو رآها الشيخ ابن باز وغيره ورأوا طعونك الأخرى في كتبك لما قبلوا عذرك السياسي) (2)
وقال: (وقد أعلن عبدالرحمن تراجعه وندمه بسبب ضغط الشيخ ابن باز وضغط الواقع من حوله، وإدراكه أن تصميمه علي رأيه في هذه المسألة وغيرها سيدمره ففي تراجعه نظر) (3)
وقال: (الآن يا عبدالرحمن تتواضع وتتنازل لهيئة كبار العلماء بعد أن كنت شامخ الأنف رافع الرأس لا تقبل نصح الناصحين) (4)
وقال: (فأخطاء عبدالرحمن كثيرة وخطيرة وليست مؤلفاته كلها ولا جلها في إطار المنهج السلفي) (5)
وقال: (وأقسم بالله لو أن شخصاً واحداً تفرغ يومين فقط لقراءة بعض كتبك لوجد فيها ما يدينك أشد الإدانة) (6)
ويقول: (فرأيت وسمعت ما تشيب له النواصي من تجنيه على السلفيين وتشويه السلفية نفسها ودفاع عن أهل الباطل) (7)
__________
(1) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 12.
(2) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 34.
(3) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 132.
(4) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 12.
(5) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 7.
(6) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 9.
(7) جماعة واحدة ولا جماعات، ص 5.
كلكم كفرة (518)
2 ـ موقف السلفية العلمية من السلفية الجهادية
على الرغم من أن السلفية المسلحة لم تكن سوى نتيجة لتلك الدعوات الكثيرة الصريحة من دعوة السلفية العلمية للجهاد في أفغانستان، بل كان ابن باز وهيئة كبار العلماء هم أنفسهم من يتولى توجيه من يسمونهم المجاهدين لحرب الروس.. لكنهم وبمجرد أن انتهت الحرب الأفغانية، وانتهى استعمالهم فيها، وبدأ السلفيون المسلحون الذين ربوهم على أعينهم يوجهون حروبهم للعدو الأمريكي الجديد.. هنا تغير الموقف السلفي العلمي بسبب تغير الموقف السياسي، وتحول المجاهدون في لحظة واحدة إلى خوارج ومفسدين في الأرض.
ولهذا فقد حصل ارتباك كبير في المجتمع السلفي بسبب الموقف المتجدد من أسامة بن لادن حتى انتشر بينهم خبر يذكر أن اللجنة الدائمة للإفتاء ترى أن أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة على الحق ظاهرين وأن التنظيم خلافة إسلامية، ولهذا سارعت هذه اللجنة بإصدار بيان يكذب هذا، جاء فيه: (اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من بعض السائلين والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (336) وتاريخ 6/ 3/1432 هـ حول ما نشر في بعض مواقع الشبكة العنكبوتية من فتوى مزورة ومكذوبة على اللجنة، وقد أعطيت رقماً وتاريخاً من فتوى أخرى ومهرت بتواقيع مركبة للأعضاء.? وقد تضمنت هذه الفتوى المكذوبة أن اللجنة الدائمة تذكر أن أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة على الحق ظاهرين، وأن التنظيم خلافة إسلامية، إلى آخر ما جاء في هذه الفتوى من البهتان والزور والكذب على اللجنة الدائمة. وبناء على ذلك فإن اللجنة الدائمة تبين الأمور الآتية:? أولاً: ما نسب إلى اللجنة في هذه الفتوى المزورة كذب وبهتان لا نقر به ولا نرضى عنه، والله حسيب وطليب من كتب هذه الفتوى وعمل على إخراجها.. ثانياً: لا يخفى حكم الشريعة فيمن تقول على شخص كلاماً
كلكم كفرة (519)
لم يقله، ونسب إليه ما لم يصدر عنه، وأنه بفعله هذا آثم مرتكب لجرم يستحق عليه العقاب الشرعي.. ثالثاً: تقرر الجنة أن ما جاء في هذه الفتوى المزورة المكذوبة - هو بحمد لله تعالى - ظاهر البطلان، بيّن الكذب، لا ينطلي على من له أدنى معرفة بالبيانات والقرارات الصادرة عن هيئة كبار العلماء وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعلماء هذه البلاد، فإن المدعو الضال أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة متقرر لدى العلماء ضلال مسلكهم، وشناعة جرمهم، وأنهم بأقوالهم وأفعالهم ما جرّوا على الإسلام والمسلمين إلا الوبال والدمار، وكل عاقل، فضلاً عن عالم، يدرك انحراف هذا المسلك، وأنه لا يجوز لمسلم أن ينتسب إلى تنظيم القاعدة، ولا أن يرضى بأفعاله، ولا أن يتكتم على المنتسبين إليه.. رابعاً: لا يجوز التساهل مع مروجي الأقوال الكاذبة والشائعات الباطلة لا سيما إذا كانت منسوبة إلى أهل العلم الذين يبينون الشرع، ويفتون السائلين لما يؤدي إليه هذا التساهل من آثار خطيرة وكبيرة على المسلم فرداً والمسلمين جماعة) (1)
وبعد ذلك نشرت بيانات وفتاوى ومنشورات كثيرة تكفر هذه الجماعات، وتعتبرهم خوارج، وليسوا مجرد بغاة، ومن ذلك قول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في أسامة بن لادن ـ الذي كان يباركه، ويعتبره مجاهدا ومضحيا ـ: (إن أسامة بن لادن من المفسدين في الأرض، ويتحرى طرق الشر الفاسدة وخرج عن طاعة ولي الأمر) (2)
وفي لقاء مع الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في جريدة [الرأي العام الكويتية] قال الشيخ مقبل الوادعي: (أبرأ إلى الله من بن لادن فهوشؤم وبلاء على الأمة وأعماله شر)
وسئل في اللقاء: (الملاحظ أن المسلمين يتعرضون للمضايقات في الدول الغربية بمجرد حدوث انفجار في أي مكان في العالم؟)، فأجاب: (أعلم ذلك، وقد اتصل بي بعض
__________
(1) فتوى رقم (25041) وتاريخ 6/ 3/1432 هـ.
(2) جريدة المسلمون والشرق الأوسط – 9 جمادى الأولى 1417 هـ.
كلكم كفرة (520)
الأخوة من بريطانيا يشكون التضييق عليهم، ويسألون عما إذا كان يجوز لهم إعلان البراءة من أسامة بن لادن، فقلنا لهم تبرأنا منه ومن أعماله منذ زمن بعيد، والواقع يشهد أن المسلمين في دول الغرب مضيق عليهم بسبب الحركات التي تغذيها حركة الإخوان المفلسين أو غيرهم، والله المستعان)
وسئل: ألم تقدم نصيحة إلى أسامة بن لادن؟، فأجاب: (لقد أرسلت نصائح لكن الله أعلم إن كانت وصلت أم لا، وقد جاءنا منهم إخوة يعرضون مساعدتهم لنا وإعانتهم حتى ندعو إلى الله، وبعد ذلك فوجئنا بهم يرسلون مالا ويطلبون منا توزيعه على رؤساء القبائل لشراء مدافع ورشاشات، ولكنني رفضت عرضهم، وطلبت منهم ألا يأتوا إلى منزلي ثانية، وأوضحت لهم أن عملنا هو دعوي فقط ولن نسمح لطلبتنا بغير ذلك) (1)
وهذا الحوار يشير إلى الدور الجهادي الذي كانت تقوم به السلفية العلمية قبل أن تولي ظهرها لهذه الحركات المسلحة، وإلا كيف يرسل الناس أموالا لشراء السلاح إن لم يكونوا قد وجهوا من قبل هذه الوجهة.. وكذلك في استئذانهم لإعلان البراءة من أسامة بن لادن، فذلك يدل أنهم كانوا قبل ذلك يقبلونه ويتولونه.
وسئل الشيخ أحمد النجمي: (أحسن الله إليك هذا سائل يقول قد صح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لعن الله من آوى محدثاً)، هل هذا الحديث ينطبق على دولة طالبان وخاصة أنهم يؤون الخوارج ويعدونهم في معسكر الفاروق الذي يشرف عليه أسامة بن لادن)، فأجاب الشيخ: (لا شك أن هؤلاء يعتبروا محدثين، وهؤلاء الذين آووهم داخلون في هذا الوعيد الذي قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم واللعنة التي لعنها من فعل ذلك، (لعن الله من آوى محدثاً) فلو أن واحداً قتل بغير حق وأنت أويته وقلت لأصحاب الدم ما لكم عليه سبيل ومنعتهم، ألست تعتبر مؤوياً
__________
(1) لقاء مع الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في جريدة الرأي العام الكويتية بتاريخ 19/ 12/1998 العدد: 11503.
كلكم كفرة (521)
للمحدثين!) (1)
نكتفي بهذه النماذج من أقوالهم لشهرة إنكار السلفية العلمية على السلفية المسلحة، واعتبارهم من الخوارج، ولذلك لا نحتاج إلى ذكر أي نماذج من الكتب الكثيرة المؤلفة في حقهم.
__________
(1) أقوال العلماء في أسامة بن لادن، ص 3.