الكتاب: القرآن.. والعزاء والشفاء
الوصف: رواية حول العزاء القرآني للنفوس المتألمة
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1443 هـ
عدد الصفحات: 561
ISBN: 978-620-4-72127-9
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
هذا الكتاب هو المقدمة السابعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثانية من خصائص القرآن الكريم، خاصية العزاء والسلوى وشفاء ما في الأنفس والصدور، والتي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، إضافة إلى أن الله تعالى يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بكونها رسالة بشارة، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا ورحمة للعالمين.. وهذا المعنى هو نفسه المعنى الذي يحمله العزاء والسلوى والشفاء.
وبناء على هذا حاولنا في هذه الرواية أن نحصي الآلام الكبرى التي تعتري النفوس، ثم الأدوية القرآنية التي تُعالج بها، مع تبسيطها وتيسيرها وتوضيحها بالمشاهد والشواهد التي تيسر التعامل معها.
وقد قسمنا الكتاب بحسب الآلام التي تعتري النفوس إلى خمسة أقسام، هي:
1. المتألمون، سواء كانوا مرضى، أو ممن فقدوا أحباءهم، وغيرهم.
2. الفقراء والمساكين الذين يتألمون بسبب فاقاتهم وحاجاتهم المادية.
3. المستضعفون الذين يتألمون بسبب ضعفهم وهوانهم وتسلط المتكبرين عليهم.
4.المخطئون الذين يتألمون بسبب أخطائهم، وقد يتوهمون أنها لا تُغفر.
5.المحبطون واليائسون والمكتئبون، والذين يتألمون بسبب كل ذلك.
وبما أن أمثال هذه المعاني تحتاج إلى المبلّغ والمبيّن الذي يستطيع أن يستعمل الأدوية القرآنية بطريقة صحيحة، فقد جعلنا بطل هذه الرواية هو من يقوم بذلك.. والرواية تحمل الكثير من المشاهد التي رآها تلميذ القرآن في رحلته إلى تلك البلاد التي عاين فيها أولئك المتألمين، وكيف تحولوا إلى سعداء بفعل تعليمات ومواعظ معلمهم الكاظم، والتي كان يستقيها من القرآن الكريم.
القرآن.. والعزاء والشفاء (9)
هذا الكتاب هو المقدمة السابعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثانية من خصائص القرآن الكريم، خاصية العزاء والسلوى وشفاء ما في الأنفس والصدور، والتي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44]، ففي الآية الكريمة جمع بين خاصيتين من خصائص القرآن الكريم، أولاهما: خاصية هدايته العقول والقلوب إلى الحق، وهداية الأنفس إلى القيم التي تمثله، وهي التي عرضنا لها في الكتاب السابق.. وثانيهما خاصية الشفاء، والتي من مضامينها علاج ما في الأنفس من آلام، وهي تعتمد على خاصية الهداية، فلولا الهداية ما تحقق الشفاء، ولذلك قُدمت الهداية على الشفاء.
وهكذا نجد ارتباط الشفاء والرحمة بالقرآن الكريم، وهو ما يؤكد علاقة الشفاء بعلاج الآلام النفسية، كما قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]
ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث المروي في المصادر السنية والشيعية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب
القرآن.. والعزاء والشفاء (10)
الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا)(1)
فهذا الحديث يتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم من وصفه بالشفاء والرحمة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحقق ذلك، مرتبط أيضا بما ورد في القرآن الكريم من كون القرآن لا يزيد الظالمين إلا خسارا، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا في هذا الدعاء أن نطلب من الله تعالى أن يوفر فينا القابلية للرحمة والعزاء القرآني، حتى تتحول حياتنا جميعا بسببه إلى ربيع كما ورد في الحديث.
إضافة إلى هذا، فإن الله تعالى يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بكونها رسالة بشارة، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا.. وهذا المعنى هو نفسه المعنى الذي يحمله العزاء والسلوى والشفاء.
وبناء على هذا حاولنا في هذه الرواية أن نحصي الآلام الكبرى التي تعتري النفوس، ثم الأدوية القرآنية التي تُعالج بها، مع تبسيطها وتيسيرها وتوضيحها بالمشاهد والشواهد التي تيسر التعامل معها.
ولذلك، فإن هذا الكتاب مثل الكتاب السابق يدخل فيما أطلقنا عليه لقب [التأويل العملي]، والمقصود منه الاستفادة من القرآن الكريم، سواء في تحقيق الهداية أو في تحقيق العزاء والسلوى والشفاء، فكلاهما مما يحتاج إليه الإنسان، لأنه لا يمكن أن يعيش في ضلالة، ولا يمكن أن يعيش في شقاء، فالشقاء والألم قد يحجبه عن الهداية.
وكذلك، فإن رحمة الله بعباده لا تتوقف عند دعوتهم للإيمان به، أو الالتزام بما دعا إليه، وإنما تشمل كل جوانب الحياة، لتملأها بالسكينة والأمان والطمأنينة، وهو ما تشير
__________
(1) رواه أحمد: 2/ 168، صحيح ابن حبان: 3/ 253، الحاكم: 1/ 690؛ الدعوات: ص 54، بحار الأنوار: 95/ 279.
القرآن.. والعزاء والشفاء (11)
إليه الآيات الكثيرة في وصف تأثير القرآن الكريم في الأنفس، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]
وقد قسمنا الكتاب بحسب الآلام التي تعتري النفوس إلى خمسة أقسام، هي:
1. المتألمون، سواء كانوا مرضى، أو ممن فقدوا أحباءهم، وغيرهم.
2. الفقراء والمساكين الذين يتألمون بسبب فاقاتهم وحاجاتهم المادية.
3. المستضعفون الذين يتألمون بسبب ضعفهم وهوانهم وتسلط المتكبرين عليهم.
4.المخطئون الذين يتألمون بسبب أخطائهم، وقد يتوهمون أنها لا تغفر.
5.المحبطون واليائسون والمكتئبون، والذين يتألمون بسبب كل ذلك.
وقد قسمنا فصول الرواية بحسب هذه الأقسام، وذكرنا الأدوية القرآنية لكل صنف من هذه الأصناف، مع توضيحها وتيسير معانيها، وانتقاء التفاسير المبسطة لها، لأن الغرض ليس البحث العلمي فيما تحويه الآيات الكريمة من معان وقضايا، وإنما بيان دورها وأثرها في علاج النفس من آلامها، مع العلم أننا سنتطرق إلى نفس تلك الآيات الكريمة في محالها المناسبة لها في السلسلة للبحث في القضايا المرتبطة بها.
ولهذا اخترنا أيسر التفاسير وأسهلها لغة وأسلوبا، بحيث يستطيع عوام الناس وغير المتخصصين فهمها بسهولة، ولذلك تصرفنا فيها وفي عباراتها، حتى لا تحجب عن المعاني المراد تبليغها في هذا الكتاب، لأن المقصود أن تصل إلى الجميع لتحقق هدفا مهما من أهداف القرآن الكريم هدف الرحمة والعزاء، والذي قد يكون وسيلة بعد ذلك للهداية الشاملة.
وبما أن أمثال هذه المعاني تحتاج إلى المبلّغ والمبيّن الذي يستطيع أن يستعمل الأدوية
القرآن.. والعزاء والشفاء (12)
القرآنية بطريقة صحيحة، فقد جعلنا بطل هذه الرواية هو من يقوم بذلك، وقد أطلقنا عليه لقب [المعلم الكاظم]، وقد اخترنا هذا الاسم لدلالته على الإمام موسى بن جعفر الكاظم، والذي امتحن بأنواع البلاء، فصبر ورضي، بل كان يعيش الجنة وهو ظلمات السجن.. بالإضافة إلى أن كلمة الكاظم نفسها لها هذه الدلالة النفسية.
والرواية تحمل الكثير من المشاهد التي رآها تلميذ القرآن في رحلته إلى تلك البلاد التي عاين فيها أولئك المتألمين، وكيف تحولوا إلى سعداء بفعل تعليمات ومواعظ معلمهم الكاظم، والتي كان يستقيها من القرآن الكريم.
وبما أنه لا يمكن الإحاطة بكل ما في القرآن الكريم من العزاء والسلوى والشفاء، فقد اخترنا نماذج وشواهد عن كل ناحية من النواحي، بحيث تدل على غيرها.
القرآن.. والعزاء والشفاء (13)
بداية هذه الرحلة الجديدة كانت مؤلمة جدا بالنسبة لي.. فقد مرضت فيها مرضا شديدا، جعلني مقعدا في الفراش لا أستطيع الكتابة ولا المطالعة ولا البحث.
وصادف أن حصل لي معها فاقة مادية، جعلتني أضطر إلى الاقتراض من ناس لم أكن أتصور أنهم سيذلونني بذلك الشكل عندما مددت يدي إليهم طالبا أن يعيروني بعض النقود، لأشتري ما يلزمني من دواء، وحاجات أساسية.
ولم يكتفوا بذلك الإذلال الذي مارسوه معي عند إعطائي ما طلبته منهم، بل أضافوا إليه إذلالا جديدا عندما راحوا يدقون بيتي بعد أسبوع واحد، وقبل حلول موعد الأداء، يطلبون مني أن أعيد لهم ما أقرضوني إياه، وأنهم مضطرون إليه، فاعتذرت إليهم بعدم توفر المال لدي حينها، لكنهم رفضوا أن يقبلوا عذري، بل جمعوا علي الجيران، وراحوا يلطخون كل ما وفره الله لي من سمعة طيبة لدى جيراني.
وقد زاد من ألمي أن أحد أولئك الجيران، والذي كنت أقف معه في كل شدة، راح يصيح في بصوت عال: لم نكن نظنك هكذا.. ألهذه الدرجة تحتال على أموال الناس، وتأخذها من غير حق؟.. ويل لك من ربك.
وراح آخر يقرأ علي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34]، ثم يردفها بشرح مفصل يجمع فيه بيني وبين هؤلاء الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
وراح آخر يذكّرني بالآخرة، ويقول لي بكل قسوة: ماذا تقول لربك، وأنت تأكل
القرآن.. والعزاء والشفاء (14)
أموال الناس بالباطل؟.. هيئ نفسك لنيران جهنم التي ستحرقك، وتحرق معك كل ذلك الرياء الذي كنت تتظاهر به أمامنا إلى أن كشفك الله على حقيقتك.
وهكذا تحول الجميع إلى خطباء وواعظين، وتحولت معهم إلى أبي جهل أو أبي لهب أو ابن أبي أو بلعم بن باعوراء..
والمشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل إني عند ذهابي للمسجد، ومع كونه بعيدا عن بيتي إلا أني وجدت الجميع ينظر إلي باحتقار وازدراء.. وعندما انتهينا من الصلاة، أخبرني بعضهم أن الإمام ينتظرني.. فذهبت إليه، وكنت أتصور أنه سيسألني عن سر ما حصل.. لكني وجدته يخاطبني بكل قسوة، وأمام الكثير من المصلين قائلا: لم نكن نظن أبدا أنك هكذا.. ألا تعلم أن الصلاة الحقيقية هي التي ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وأن أكل أموال الناس بالباطل ظلم واعتداء، ومصيره جهنم.. ألم تسمع حديث المفلس؟.. أم أنك تريد أن تكون من المفلسين يوم القيامة؟
وهكذا راح يلقي خطبة طويلة أمام الملأ من الحاضرين، دون أن يتيح لي أن أنبس ببنت كلمة لأبين ما حصل، ووجه الضرورة التي جعلتني أقترض، والموعد الذي حددناه لإرجاع القرض.
بعد أن أصابني كل ذلك المرض والألم والحاجة والضعف والخذلان.. سرت هائما على وجهي، لعلي أنسى بعض ما أصابني من آلام.. ولم أدر كم سرت، ولا أين ذهبت إلى أن وجدت نفسي في محل غريب، وبين قوم غرباء، لم أرهم إلا في ذلك اليوم.. وهنا بدأت رحلتي إلى [القرآن.. والعزاء والشفاء]
القرآن.. والعزاء والشفاء (15)
أولا ـ القرآن.. وعزاء المتألمين
كان أول من صادفته في هذه الرحلة شيخا كبيرا، ممتلئا وقارا، كان يجلس تحت ظل شجرة، وكان يبدو عليه الإعياء والألم، فقد كان يتنفس بصعوبة شديدة.. وعندما رآني أشار إلي بيده، فذهبت إليه، فقال لي: هل لك يا بني أن تسير بي إلى بيتي؟.. هو قريب من هنا.. لكني كما ترى لا أستطيع السير إلا بمعونة من يأخذ بيدي.
مددت يدي إليه، وسرت به حيث أشار لي، وعندما دققت الباب فتح لي شاب، وقال لي بأدب: شكرا جزيلا لإحضارك لجدي.. لقد شغلتني جدتي ببعض شؤونها عنه وعن إحضاره.
ثم طلب مني أن أدخل بيتهم، لكني رفضت، فقبض الشيخ على يدي، وهو يقول: ما كان لتلميذ القرآن الكريم أن يرفض مؤمنا يدعوه إلى الدخول إلى بيته.
تعجبت من قوله هذا، وقلت: هل تراك تعرفني؟
فابتسم، وقال: دعك من السؤال عما لا يعنيك.. وهيا ادخل البيت، ولا تنس أن تسجل كل ما تراه وتسمعه.. فقد بدأت رحلتك الجديدة.
دخلت البيت، وهناك رأيت أحفاده وأولاده، يرحبون بي، وكأنهم يعرفونني سابقا، أو أنهم معي على ميعاد.. وكان بيتهم متواضعا جدا.. لكنه مع ذلك كان مليئا بالفرح والسعادة، فقد كانوا يتبادلون أطراف الحديث بينهم بأدب جم، وبلباقة عالية.
سألت أكبرهم عن الشيخ المريض، فقال: هذا والدي كاظم.. وهو مريض منذ فترة طويلة جدا، لكنه ـ كما ترى ـ صابر محتسب، لا يشكو حاله لأي أحد.. وعلى الرغم من الآلام الكثيرة التي مر بها في حياته، إلا أنا لم نر منه إلا الابتسامة المشرقة، والفرح الدائم.
القرآن.. والعزاء والشفاء (16)
قلت: هل تراه يتناول عشبة من الأعشاب المفرحة التي تجعل صاحبها يفرح ويبتسم من دون سبب؟
ابتسم، وقال: أجل.. هو يتناول القرآن الكريم كل يوم.. فهو يجمعنا في الغدو والآصال، ويطلب منا أن نقرأ له شيئا من القرآن الكريم، ثم يعقب عليه بما يجعلنا نعيش تلك المعاني التي نقرؤها.. ومن خلالها عرفنا سر سعادته وفرحه وعدم تأثير مرضه فيه، فهو على الرغم من أن الأطباء أخبرونا قبل أكثر من عشرين سنة، أنه لن يعيش أكثر من شهر واحد.. لكن ها أنت كما تراه لا يزال حيا يُرزق، وبكامل وعيه وعقله.. بل إنه استطاع أن ينوب عنا في تربية أولادنا وتوجيههم، بل توجيه أهل بلدتنا جميعا وغيرهم، بما لا يستطيعه غيره.
ما انتهى الولد الأكبر من حديثه هذا، حتى رأينا جميع أهل البيت، نساء ورجالا وشبابا وأطفالا يحلقون حول الكرسي الذي يجلس عليه الشيخ الكبير، ثم رأيت الشيخ يقول ـ وهو يلتفت لولد صغير ـ: لقد وصلت الدورة إليك البارحة يا حسن، فاقرأ لنا آية أو آيات من القرآن الكريم لنعيش بعض معانيها، مع ضيفنا هذا، والذي هو مثلكم تلميذ من تلاميذ القرآن الكريم.
قرأ حسن بصوت جميل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف:31]
قال الشيخ: حسبك ما قرأت.. أخبروني.. ما الذي تفهمونه من الآية الكريمة؟
القرآن.. والعزاء والشفاء (17)
قال أحدهم (1): الآية الكريمة واضحة، فهي تذكر أنه لما سمعت امرأة العزيز بغيبة النسوة إياها واحتيالهن في ذمها، أرسلت إليهن تدعوهن لزيارتها، وهيأت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد، وما يأكلنه من الطعام، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن الطعام، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن، فلما رأينه أعظمنه وأجللنه، وأخذهن حسنه وجماله، فجرحن أيديهن وهن يقطعن الطعام من فرط الدهشة والذهول، وقلن متعجبات: معاذ الله، ما هذا من جنس البشر؛ لأن جماله غير معهود في البشر، ما هو إلا ملك كريم من الملائكة.
قال الشيخ: فما تفهمون من الآية الكريمة غير هذا؟
قال أحدهم، وهو أكبرهم (2): في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإكبار والإعظام ـ وهو كناية عن اندهاشهن وغيبتهن عن شعورهن وإرادتهن ـ بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع ـ طبقا للناموس الكوني العام ـ وهو خضوع الصغير للكبير وقهر العظيم للحقير؛ فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته وكبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد والأفكار فأنساها.. ولذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها.
قالت امرأة (3): لقد ذكرت لنا مرة ـ يا أبي ـ أن في الآية الكريمة إشارة إلى أنه إذا جاز هذا في حق البشر، فلأن يجوز عند استيلاء عظمة الله على القلب أولى، لأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك الملك تمنع القلب عن الشعور بهم، فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازي فلأن يجوز في
__________
(1) التفسير الميسر (ص 239)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي (11/ 80)
(3) مفاتيح الغيب (1/ 214)
القرآن.. والعزاء والشفاء (18)
حق خالق العالم أولى.
قالت أخرى (1): ولذلك، ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الحب إذا كان على ظاهر القلب، ولم يخرق شغافه، كان العبد مع دنياه، وآخرته، بين ذكر، وغفلة، فإذا دخل سويداء القلب، وخرق شغافه نسي العبد دنياه وأخراه، وغاب عن نفسه وهواه، وضل في محبة مولاه.. ولذلك قيل لعاشقة يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: 30] أي: في استغراق في المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها، وقد قال الشاعر معبرا عن ذلك:
تالله ما طلعت شمس ولا غربت... إلا وذكرك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم... إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا شربت لذيذ الماء من ظمإ... إلا رأيت خيالا منك في الكاس
إن كان للناس وسواس يوسوسهم... فأنت والله وسواسي وخناسي
لولا نسيم بذكراكم أفيق به... لكنت محترقا من حر أنفاسي
وقال الشاعر الآخر:
خيالك في وهمي، وذكرك في فهمي... ومثواك في قلبي، فأين تغيب؟
قال آخر: لقد كنت تقول لنا دائما يا أبي ـ إذا ما أصابنا أي ألم ـ: (أول ما تكسرون به سورة الأنين الذي قد يتخذه الشيطان رماحا تحاربون بها ربكم هو أن تغيبوا عن الأنين برب الأنين.. فتتخذوا من هذا الذي أراد الشيطان أن يجعله نصبا ليستل عقولكم وقلوبكم وأرواحكم ليضمكم إلى حزبه، معراجا تعرجون به إلى ربكم)
قال آخر: وكنت تذكر لنا قول بعض الحكماء: (كلما استعظمتَ المصائب المادية عظُمَت، وكلما استصغرتَها صغُرت)(2)، وضرب لذلك مثلا، فقال: (كلما اهتم الإنسان بما
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 594)
(2) اللمعة الثانية، ص 17.
القرآن.. والعزاء والشفاء (19)
يتراءى له من وهْم ليلاً يضخم ذلك في نظره، بينما إذا أهمله يتلاشى.. وكلما تعرض الإنسان لوكر الزنابير ازداد هجومُها وإذا أهملها تفرقت)، ثم قال: (فالمصائب المادية كذلك، كلما تعاظمها الإنسان واهتم بها وقلق عليها تسربت من نافذة الجسد إلى القلب واستقرت فيه، وعندها تتنامى مصيبةٌ معنوية في القلب وتكون ركيزةً للمادية منها فتستمر الأخيرة وتطول.. ولكن متى ما أزال الإنسانُ القلقَ والوهم من جذوره بالرضا بقضاء الله، وبالتوكل على رحمته، تضمحل المصيبةُ المادية تدريجياً وتذهب، كالشجرة التي تموت وتجف أوراقُها بانقطاع جذورها)(1)
قال آخر: وذكرت لنا قوله: (إن الإنسان مثلما يخفف حدة خصمه باستقباله بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سورة العداوة وتنطفئ نار الخصومة، بل قد تنقلب صداقة ومصالحة، كذلك الأمر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهب أثره)(2)
قالت أخرى: وحكيت لنا عن بعض الصالحين أنه أخبر عن القدرة العجيبة التي يتحملها المنشغل بالله، لما سئل: هل يجد المحب ألم البلاء؟ فقال: لا، قيل: وإن ضرب بالسيف قال: (نعم وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة، ضربة على ضربة)
قال آخر: وذكرت لنا ـ نقلا عن بعضهم ـ مثلا يشرح سبب بطلان إحساس المحبين بالآلام، وهو الرجل المحارب، فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه الجراح، وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه.. ثم بين علة هذه الحالة وقانونها الذي لا يختص بالمحبين لله، فقال: (وكل ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتمّ
__________
(1) اللمعة الثانية، ص 17.
(2) اللمعة الثانية، ص 17.
القرآن.. والعزاء والشفاء (20)
له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه، هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه؟)(1)
قال آخر (2): وذكرت لنا عن بعضهم أنه قال: مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيدا منهم، فتقدمت إليه فأردت أن أكلمه فقال: ذكر الله تعالى أشهى فقلت: أنت وحدك؟ فقال: معي ربي وملكاي فقلت: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له، فقلت: أين الطريق؟ فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال: أكثر خلقك شاغل عنك.
قال آخر (3): وذكرت لنا عن بعض الصالحين أنه قال يحكي عن نفسه: مررت برجل وقد ضُرب ألف سوط ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر.
قال الشيخ: بورك فيكم أبنائي.. وقد صدقتم في كل ما ذكرتموه، ولذلك فإن أعظم عزاء يقدمه الله تعالى لعباده لينسوا كل آلامهم، هو ملء قلوبهم بمحبته حتى لا ينشغلوا به عن سواه.. فالحب يحرق كل ما عداه.. ولذلك فإن القرآن الكريم هو العزاء الأكبر للمؤمنين، لأنهم يسمعون فيه كلام ربهم، وأعظم سعادة للمحب أن يسمع كلام محبوبه.
قلت من حيث لا أشعر: لكن سيدي.. أخشى إن سجلت كل ما ذكرتموه أن يتوهم قومي أن مرادكم بالانشغال عن البلاء عدم مواجهته.
قال الشيخ: لا يا بني.. ومعاذ الله أن نقصد هذا، لأنه يخالف ما أمرنا الله تعالى به من إعداد العدة لكل طارئ، لكن مرادنا عدم الاستغراق في البلاء، والغفلة عن المصالح
__________
(1) إحياء علوم الدين: 4/ 347.
(2) إحياء علوم الدين: 4/ 399.
(3) إحياء علوم الدين: 4/ 348.
القرآن.. والعزاء والشفاء (21)
الكثيرة التي قد يفوتها ذلك الانشغال، وأهمها ترك الرسالة التي كُلف بها الإنسان لأجل ما حصل لمطيته من عطب.
قلت: فهلا ضربت لي على ذلك مثالا أشرح لهم به هذا؟
قال: أجبني.. من كُلف بمهمة خطيرة يتوقف عليها مصير حياته جميعا، فحصل لمطيته في الطريق ما منعها من السير السليم، فماذا يفعل؟
قلت: هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يتوقف مشتغلا بإصلاحها، منشغلا عن المهمة الخطيرة التي كُلف بها، ولو أدى ذلك إلى فناء عمره في إصلاحها.. وإما أن ينظر إلى مدى استعدادها للإصلاح، فإن أطاق إصلاحها أصلحها، لأنها ستختصر له الكثير من مشاق الطريق، فإن أبت الإصلاح تركها، واعتمد على وسائل أخرى يصل بها إلى تحقيق مهمته.
قال: وهكذا حال المنشغل عن بلائه والمنشغل به، فالمنشغل به ضيع مصلحتين: مطيته التي قد لا يفيده إصلاحها، ومهمته التي لا تساوي معها مطيته شيئا.. أما المنشغل عنها، فإنه وإن ضيع مطيته، فقد حفظ مهمته، بل قد يُرزق بالسعي ما يعوضه عما فاته.
قال أحد الأبناء: بالإضافة إلى ما ذكر سيدي الوالد؛ فإن هناك ثمارا أخرى جليلة لما ذكروه، فالأطباء ـ في كل الأزمنة ـ ينصحون بالانشغال عن الداء، ويعتبرونه أسلوبا حكيما من أساليب الشفاء، فخطر أكثر الأمراض هو ما تسببه لصاحبها من أنواع الإزعاج، وهو ما يؤثر بعد ذلك على الصحة، فإذا ما انشغل المريض عن مرضه بأي شاغل كان ذلك علاجه أو مقدمة لعلاجه.
قال الشيخ: بورك فيك يا بني، لقد ذكرتني ببعض الصالحين كان له أخ، وكان يقربه ويقبل عليه، فاعتل، فعاده، فقال:
مرض الحبيب فعدته... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني... فبرئت من نظري إليه
فالنظر إلى الحبيب والانشغال به كاف في إعادة القوة الحافظة للصحة، وفيه انشغال عن الأوهام التي يسببها فراغ القلب.
قلت: صدقت.. وقد ذكرني هذا بقول بعضهم معبرا عن هذا المعنى:
لقد هاج الفراغ عليك شغلا... وأسباب البلاء من الفراغ
وقول آخر، وهو يبين قدرة الروح على ترميم أدواء الجسد:
دواؤك فيك وما تشعر... ودواؤك منك وما تبصر
وتحسب أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا.. والآن.. واصل يا حسن القراءة.
قرأ الحسن قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 33 ـ 34]
قال الشيخ: حسبك يا بني.. هل رأيتم أبنائي، كيف فضل يوسف عليه السلام السجن الذي يجمع بين كل أنواع البلاء على ما هو فيه الرخاء.. لكونه في السجن سيكون مع محبوبه، من غير أن يصرفه أي حجاب عنه، ولذلك لم يهتم بالبلاء، بل راح يطلبه.. لأن البلاء مع القرب خير من الرخاء مع البعد.
ما إن قال الشيخ هذا، حتى سمعنا المؤذن يؤذن بالصلاة، فهرعنا إليها، وقد رأيت من حال الشيخ في صلاته ما يفوق العجب.. ثم رأيته بعدها يمسك المصحف بتعظيم شديد، ثم يقرأ بعض آياته بخشوع، ثم التفت إلي، وقال: أخبر قومك أن القرآن الكريم هو
القرآن.. والعزاء والشفاء (22)
العزاء الأكبر للمؤمنين المحبين لربهم.. فهم لا يقرؤون الحروف والكلمات فقط، وإنما يعيشونها، فقد تجلى الله لعباده في كلماته ليروه بقلوبهم من خلالها.
وبعد أن تناولنا وجبة العشاء، جلس مع أولاده وأحفاده يتبادلون أطراف الأحاديث حتى النكت منها، وكانوا يضحكون ملء قلوبهم، وبسعادة تغمرهم جميعا.
وعندما أوى كل واحد منا إلى فراشه، وفي جوف الليل، رأيته يقوم من نومه، ويتوضأ وضوء خفيفا، ثم يهرع إلى الصلاة، وبخشوع عظيم.. وبعد أن صلى بعض الركعات، رفع يديه إلى السماء، وراح يدعو بمناجاة المحبين المروية عن الإمام السجاد، قائلا (1): إلهي، من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا، إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك، وبوأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهلته لعبادتك، وهيمته لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك، وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيرته من صالحي بريتك، واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كل شي ء يقطعه عنك.
ثم قال (2): إلهي، يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة، يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال المحبين، أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائدا عن عصيانك، وامنن بالنظر إليك علي، وانظر بعين
__________
(1) بحار الأنوار: 94/ 150.
(2) بحار الأنوار: 94/ 148.
القرآن.. والعزاء والشفاء (23)
الود والعطف إلي، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الإسعاد والحظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين.
ثم بكى بكاء شديدا، وراح يردد بتضرع: يا رب.. لقد حان الوقت الذي وعدتنيه، فعجل لي بلقائك، فإن قلبي يتفطر إليك شوقا.
ثم رأيته يسجد سجدة طويلة، جعلتني أتخوف عليه، فذهبت إلى أكبر أبنائه، وأيقظته، وأخبرته بما سمعت، وما رأيت، فبكى، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.. لقد حقق الله له طلبه.
فذهبنا إليه، وحركناه، فوجدناه ميتا، والعجب أن جميع أهله بعد أن علموا، لم يحدثوا أي ضجة، بل بكوا بكاء رقيقا، وهم يرددون: الحمد لله، لقد حقق الله له أمنيته بلقائه.. وكما طلب.
كان ذلك هو المشهد الأول في رحلتي، والذي عرفت من خلاله تأثير القرآن الكريم في غيبة الإنسان عن كل الآلام التي تحيط به، نتيجة حبه لله تعالى، والذي يجر بالضرورة إلى حب كلامه.. وبذلك يصبح القرآن الكريم هو المحل الذي يلتقي فيه المؤمن مع من يحبه، وهل يمكن لمن يسمع كلام محبه ألا يتعزى؟
لقد ذكر لي أحد أبناء الشيخ هذا، وقال: لقد عاش والدنا عمره جميعا يلهج بمحبة الله، ولذلك كان دائم السعادة، وكان يقول لنا: إن كان يعقوب عليه السلام قد عاد إليه بصره وسعادته بقميص حبيبه يوسف عليه السلام، فكيف لا نمتلئ بالسعادة، وكتاب ربنا وكلماته المقدسة بين أيدينا.. فبقدر حبنا لها، يكون حبنا له؟
القرآن.. والعزاء والشفاء (24)
أما المشهد الثاني، فقد تعلمت منه دور الرضى في علاج الآلام، وكيف علمنا القرآن الكريم ودربنا على أن نكون راضين بالله، كم قال تعالى عن خير البرية: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 8]
ويبدأ المشهد من المقبرة التي اجتمع فيها أهل تلك البلدة ليؤبنوا ذلك الشيخ الفاضل، والذي لم أكن أتصور أن له تلك المكانة، ولا ذلك التأثير.
وحتى يتجلى المشهد واضحا، لنعرف من خلاله دور المعاني الوجدانية السامية في السمو بالحياة في كل مجالاتها، فسأنقل بعض ما ذكره أهل تلك البلدة أثناء الإدلاء بشهاداتهم في ذلك المجلس الذي جمعهم عند تأبينه.
قال أحدهم: بما أنكم جميعا أثنيتم على معلمنا الفاضل الذي جعله الله تعالى سببا لهدايتنا، وحبنا للقرآن الكريم وتعلقنا به، فاسمحوا لي أن أذكر لكم أني لولاه لكنت الآن ربما في مستشفى الأمراض العقلية.. لقد مررت بأزمات حادة، جعلتني أكاد أفقد صوابي، لكنه جاء، وبكل لطف وحنان، وقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 ـ 157]، ثم أخبرني أن كل ما نزل بي من بلاء إنما هو اختبار إلهي ليمتحن صدقي ووفائي لإيماني.
ثم راح يرغبني بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة في فضل الرضى عن الله، والجزاء العظيم للراضين عنه كما قال تعالى عن النفس المطمئنة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 ـ 30].. وهكذا
القرآن.. والعزاء والشفاء (25)
بقي يسليني ويعزيني بالآيات القرآنية الكثيرة إلى أن زال كل ما بي من ألم، وتحولت إلى الطمأنينة التي استطعت بها أن أتدارك كل ما فاتني، وأن أعيش الحياة بصورتها الجميلة، لا بصورتها الممتلئة بالآلام.
قال آخر: ومثلك أنا.. فقد رآني مرة متألما من بلاء نزل بي، فحدثني بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)(1)، ثم قال لي: أول جزاء للراضي عن الله أن يرضى الله عنه ويرضيه، فإذا أرضاه الله رزقه من السعادة والسرور ما يهون أمامه كل ألم.. ثم حدثني بما ورد في أخبار موسى عليه السلام أن بني إسرائيل قالوا له: سل لنا ربك أمرا إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فقال موسى عليه السلام: (إلهي قد سمعت ما قالوا)، فقال: (يا موسى قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم)
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(2).. ثم ذكر لي أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) دليل على أن الخيرية والتي تعني الرضا والسرور لا ينالها إلا من تحقق بحقيقة الإيمان.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني عن بعض العباد أنه قال: إني أذنبت ذنبا عظيما، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة ـ وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب ـ فقيل له: وما هو؟ قال: (قلت مرة لشيء كان، ليته لم يكن)، وذكر لي أن الصالحين لا يهمهم شيء مما قد يصيب وجودهم في الدنيا بقدر ما تهمهم علاقتهم بربهم.. وذكر لي أن همة الصالحين
__________
(1) أبو نعيم في الحلية (1/ 106)
(2) مسلم (2999)، وابن حبان (2896)
القرآن.. والعزاء والشفاء (26)
منصرفة للبحث عن رضوان الله، والخوف من سخطه، ولا يهمها بعد ذلك ما يحل بها، فهي تبحث عن رضى الله عنها لا عن رضاها هي على الله.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قلت له مرة: يا معلم.. كيف أتحقق بهذا الرضى الذي يمسح عن قلبي كل الآلام؟.. وكيف ألتحق بركب الأولياء الشاربين من هذه العين؟.. فقال: بترتيل أسماء لطفه، والنظر في جميل صنعه، والاستغراق في سابق إحسانه، والأمل في جميل أفضاله.. فقلت: فكيف أستعمل هذا العلاج؟.. فقال: أرأيت لو أحسنت إلى أحدهم دهرك جميعا بمعشار ما أحسن الله إليك، بل بمعشار المعشار، أترضى أن يسخط عليك.. قلت: كلا.. فهذا فعل الجحود.. قال: فكيف لا ترضى على من لا خير إلا منه، ولا فضل إلا في يديه الكريمتين؟
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد ذكر لي مرة قول بعض الصالحين: إن الله تعالى من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم، فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه؟ قيل: نعم، قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه.. ثم ذكر لي أن الرضى عن الله هو ما يوجبه حسن الخلق مع الله، ولو تأمل المعترض على ربه حقيقته لوجدها أهون من أن تعارض الحق، فكيف يجسر على ذلك، وهو لا يعدو أن يكون حفنة تراب؟
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي مرة: إذا اشتقت أن تلبس لباس الرضى، وتسكن مع الراضين في جنة الأمن والفرح والسرور، فردد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء الذي يسأل الله فيه أن يرزقه بالرضى بالقضاء فلا ينال ما عند الله إلا من يد الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب
القرآن.. والعزاء والشفاء (27)
والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)(1).. وردد معه: (اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر)(2).. ثم قال لي: إن صدقت في دعائك، وألححت فيه كما يلح الغريق طالبا النجدة، فسسيرزقك الله فهم حقيقة الرضا، والشرب من شرابه.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني مرة عن بعض الصالحين الذين لقيهم في بعض أسفاره، فقال (3):خرجت وأنا أريد الرباط، حتى إذا كنت بعريش مصر، أو دون عريش مصر، إذا أنا بمظلة وإذا فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وإذا هو يقول: اللهم إني أحمدك حمدا يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا، فقلت: والله لأسألنه أعلمه أم ألهمه إلهاما؟.. فدنوت منه، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: إني سائلك عن شيء أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده عليها؟ أم على أي فضيلة من فضائله تشكره عليها؟ قال: أليس ترى ما قد صنع بي؟ قلت: بلى قال: فوالله لو أن الله سبحانه صب علي السماء نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت له إلا حبا، ولا ازددت له إلا شكرا.
ثم ذكر لي أن هذا الرجل الصالح قال له: إن لي إليك حاجة، بني لي كان يتعاهدني لوقت صلاتي، ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، انظر هل تحسه لي؟ قال:
__________
(1) النسائي في المجتبى 3/ 55، وفي الكبرى (1229)
(2) الطبراني في كتاب الدعاء (3/ 1456 رقم 1406) والبزار في مسنده (4/ 57 رقم 3187)
(3) الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (ص 68)
القرآن.. والعزاء والشفاء (28)
فقلت: إن في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله، فخرجت في طلبه، حتى إذا كنت بين كثبان من رمال، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف آتي هذا العبد الصالح من وجه رفيق فأخبره الخبر، فأتيته، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت: إني سائلك عن شيء أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به، قلت: أنت أكرم على الله منزلة أم أيوب عليه السلام؟ قال: بل أيوب عليه السلام كان أكرم على الله مني، وأعظم منزلة عند الله مني.. قلت: أليس ابتلاه الله فصبر، حتى استوحش منه من كان يأنس به وصار غرضا لمرار الطريق؟ قال: بلى.. قلت: فإن ابنك الذي أخبرتني من قصته ما أخبرتني، خرجت في طلبه، حتى إذا كنت بين كثبان من رمال، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام يأكله، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ثم شهق شهقة فمات رحمه الله.
ثم ذكر لي معلمنا كيف يسر الله تكفينه ودفنه، ثم قال: بت في مظلته تلك الليلة أنسا به فلما مضى من الليل مثل ما بقي منه، إذا أنا بصاحبي في روضة خضراء، عليه ثياب خضر، قائما يتلو القرآن الكريم، فقلت: ألست أنت صاحبي؟ قال: بلى، قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قال: وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.
وعندما أبديت تعجبي مما حكاه لي، قال لي (1): ما تنكر من حال هذا الولي؟.. والاه، ثم ابتلاه فصبر، وأعطاه فشكر؟.. والله لو أن ما حنت عليه أقطار الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار، وأتى عليه الليل والنهار، أعطاه الله أدنى خلق من خلقه، ما نقص ذلك
__________
(1) الصبر والثواب عليه لابن أبي الدنيا (ص 68)
القرآن.. والعزاء والشفاء (29)
من ملكه شيئا.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني مرة، وقد بلغت حالا شديدة من البلاء، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36]، ثم قال لي: إن لم تستطع أن تبلغ تلك الدرجات الرفيعة التي نزلها الأولياء، فنالوا بها الفرح والرضوان، فلا تنزل إلى دركات المعرضين المعارضين لله، فتخسر خسارتين عظيمتين: تخسر ربك الذي لا يرضى أن يعارَض في ملكه أو يعقب عليه في تدبيره.. وتخسر صحتك وراحتك التي لن يعوضها اعتراضك.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني مرة، وقد بلغت حالا شديدة من البلاء، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد:22]، ثم قال لي (1): للحياة نظامها المتوازن الخاص في حركة النظام الكوني وفي واقع الإنسان، على مستوى الفرد والجماعة، فلكل ظاهرة سببها، ولكل موجود قانونه الخاص، مما يجعل من حركة الأحداث في حياة الأفراد والجماعات حالة محسوبة في كل أوضاعها من حيث ظروفها المحيطة بها، ومن حيث الإرادة التي تديرها.. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يحمل الإنسان في وعيه الفكرة التي توحي بخضوع كل أوضاعه وأفعاله للتقدير الإلهي الذي يقدر لكل شيء حركة وجوده في علاقة المسببات بأسبابها، فليست هناك حالة طارئة، وليست هناك صدفة في أوضاع الحياة وهذا ما تؤكده هذه الآية الكريمة.
ثم قال لي (2): فقوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ﴾
__________
(1) من وحي القرآن (22/ 41)
(2) من وحي القرآن (22/ 41)
القرآن.. والعزاء والشفاء (30)
[الحديد: 22] أي من أحداث الحياة التي تثير الآلام وتحرك الأحزان وتربك المشاعر، مما يصيب الإنسان في نفسه وأهله وماله إلا فيما يكتبه الله في اللوح المحفوظ أو نحوه مما يسجل فيه أحداث الوجود، أو فيما يقدره الله في علمه الغيبي المنفتح على الأشياء قبل وجودها لأنه هو الذي يمنحها الوجود، فيحيط بها في كل أسرارها وأوضاعها، فتكون كلمة الكتاب كناية عن العلم الإلهي، وقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: 22] أي قبل خلقها في تقديره لكل حدود وجودها.. وقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22] أي فيما ينظم به الحياة في تقديره الذي لا تتخلف فيه إرادته عن المراد، من خلال قدرته المطلقة التي لا يعجزها أي شيء.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قرأ علي قوله تعالى مخبرا عن أثر هذه المعرفة في النفس الإنسانية: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:23]، ثم قال لي (1): عدم الفرحة بما آتاهم من صفات المتحررين من رق النفس، فقيمة الرجال تتبين بتغيرهم ـ فمن لم يتغير بما يرد عليه ـ مما لا يريده ـ من جفاء أو مكروه أو محنة فهو كامل، ومن لم يتغير بالمسار كما لا يتغير بالمضار، ولا يسره الوجود كما لا يحزنه العدم ـ فهو سيد وقته)، ثم قال لي: إذا أردت أن تعرف الرجل فاطلبه عند الموارد فالتغير علامة بقاء النفس بأي وجه كان.
وعندما سألته أن يوضح لي أكثر، قال لي (2): إن من شأن المؤمن بالله أن يرضى الرضا المطلق بكل ما يصيبه من محبوب أو مكروه.. فالإيمان، ولاء، ورضى، وتسليم، ولا يجتمع إيمان واعتراض على حكم أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وذلك هو عزاء المؤمن عند كل
__________
(1) لطائف الإشارات، القشيري (3/ 543)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 783)
القرآن.. والعزاء والشفاء (31)
مصيبة، وروح نفسه عند كل كرب.. وهو لطف من لطف الله بعباده المؤمنين، الذين تخفّ عندهم المصائب، ويستساغ لديهم طعم المكاره.. أما غير المؤمنين، أو من في قلوبهم مرض من المؤمنين، فإن وقع المصائب عليهم أليم، ونزول المكاره بهم بلاء لا يحتمل.. وهذا من العقاب المعجّل في الدنيا لمن لا يؤمنون بالله.. فإن أي مكروه يصيبهم في الدنيا ـ وهيهات أن يسلم أحد من مكارهها ـ يقطع نفوسهم حسرة، ويملأ قلوبهم كمدا.
ثم قال لي (1): هذا في مقام المكروه، أما في مقام المحبوب، فإن المؤمن إذا أصابه خير، ولبسته نعمة، لم يحمله ذلك على الزهو والاختيال، ولم ينظر إلى ما أصابه من فضل إلّا على أنه ابتلاء من الله، وأنه مطالب بحقّ الشكر على ما أنعم به عليه، كما قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40]، أما غير المؤمن، أو المؤمن الذي في قلبه مرض، فإن النعمة التي تقع ليده من عند الله، تفتح له طرقا إلى الاستعلاء والزهو، فيخيل إليه أن ذلك لمزيّة فيه، ولتفرده بصفات ليست لغيره، وأنه بهذا مالك أمر نفسه، قادر على أن يملك أكثر مما ملك، ويبلغ من الحياة والسلطان أكثر مما بلغ.. فلا يرضى بما أصاب، ولا يقنع بما حصّل، ولو ملك الدنيا جميعا.
ثم قال لي (2): وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 23] إشارة إلى أن هذا الذي لا يضيف وجوده إلى الله، ولا يقف بالنعم التي يسوقها الله إليه في محراب الحمد والولاء لله، هو في معرض التعرض لسخط الله وغضبه، وحسبه بهذا شقاء وبلاء.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قرأ علي قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن:11]، ثم قال لي: إن العوض الإلهي في
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 784)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 784)
القرآن.. والعزاء والشفاء (32)
هذه الآية عن النقص الذي جلبته المصيبة هو الهداية المرتبطة بقلب الإنسان، وهي الهداية الحقيقية التي تجر إلى المعرفة التي لا يشوبها الجهل، وإلى العلم الذي لا يختلط مع الأهواء.
وعندما طلبت منه توضيحا أكثر، قال لي (1): المؤمن الحقيقي هو الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيبه من خير ومن شر فهو بإذن الله.. وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها، ذلك أنها أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها.. ولذلك يحس المؤمن بالله في كل حدث، ويرى بقلبه الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء.. يصبر للأولى ويشكر للثانية.. وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال.
وعندما سألته عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن:11]، ذكر لي أن معناها أنه يفتح قلبه على الحقيقة اللدنية المكنونة، ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها.. ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح، ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور.. ولهذا عقب الله تعالى عليها بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].. فهي هداية إلى شيء من علم الله، يمنحه لمن يهديه، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب، وكشف الأسرار.. بمقدار.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3588)
القرآن.. والعزاء والشفاء (33)
[البقرة: 155 ـ 157]، ثم قال لي (1): ابتلاهم بالنعمة ليظهر شكرهم، وابتلاهم بالمحنة ليظهر صبرهم، فلما أدخل المعلوم من حالهم في الوجود، ورسمهم بالرقم الذي قسمه، وأثبتهم على الوصف الذي علمه، ابتلاهم بالخوف وفيه تصفية لصدورهم، وبالجوع وفيه تنقية لأبدانهم، وبنقص من الأموال لتزكو به نفوسهم، وبمصائب النفوس يعظم بها عند الله أجرهم، وبآفة الثمرات يتضاعف من الله خلفهم.. ثم قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155] يعنى الذين لا اعتراض لهم على تقديره فيما أمضاه.
وعندما سألت عن زيادة توضيح، قال (2): يقال للصادقين عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق: والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشئ من إذاية الخلق وتضييق الرزق، وذهاب الأموال، وضعف الأبدان بالمجاهدة.. ليظهر الصادق في الطلب بالثبوت في أحكام العبودية، حتى تشرق عليه أنوار الربوبية، من الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات، والركون إلى الرخص والتأويلات، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155] الثابتين في الطلب، بالظفر بكل ما أمَّلُوا، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية، وتعلقوا بقوة الربوبية، فرجعوا إلى الله في كل شيء، فآواهم إليه من كل شيء، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب.
وعندما طلبت منه زيادة تفصيل، قال: لولا قيمة الصبر وتبعيته للرضا عن الله، لما ذكر في القرآن الكريم في أكثر من سبعين موضعاً، ولذلك، فإن كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]
ثم قال لي: لقد ذكر الله للصابرين ثماني كرامات: أولها: المحبة، فقال: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ
__________
(1) لطائف الإشارات، القشيري (1/ 139)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 187)
القرآن.. والعزاء والشفاء (34)
الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146].. والثانية: النصر، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]، والثالثة: غرفات الجنة، فقال: ﴿يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الفرقان: 75]، والرابعة: الأجر الجزيل، فقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، فمنها البشارة، كما قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]، والصلاة والرحمة والهداية، فقال: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 157]
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد كنت بحمد الله صاحب نعمة ورخاء، لكن الله تعالى ابتلاني ببعض البلاء، فصرت محبطا مكتئبا، وتوقفت عن كثير من الأمور التي كنت أقوم بها، وقد لقيني حينها، وقال لي: استعذ بالله من أن تكون من أهل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]، ثم قال لي (1): الواجب على العبد أن يكون عبدا لله في جميع الحالات، لا يختار لنفسه حالا على حال، ولا يقف مع مقام ولا حال، بل يتبع رياح القضاء، ويدور معها حيث دارت، ويسير إلى الله في الضعف والقوة، وقد قال بعض الصالحين: سيروا إلى الله عرجى ومكاسير.. وقال آخر: لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء.. وقال آخر في مناجاته لربه: (إلهي قد علمت، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء)
ثم قال لي: كن عبد المحول، ولا تكن عبد الحال، فالحال تحول وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدا لله، ولا تكن عبدا لغيره.
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 518)
القرآن.. والعزاء والشفاء (35)
ثم أنشدني قول الشاعر:
لكل شيء، إن فارقته، عوض... وليس لله، إن فارقت من عوض
ثم قال لي (1): من الناس من يعبد الله على حرف على طرف من الدين، غير متمكن فيه، فإنه أصابه خير، وهو ما تسر به النفس من أنواع الجمال، اطمأن به، وإن أصابته فتنة، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال، انقلب على وجهه.
ثم قال لي (2): من الناس من يكون على جانب، غير مخلص.. لا له استجابة توجب الوفاق، ولا جحدا يبين الشقاق، فإن أصابه أمن وخير ولين اطمأن به وسكن إليه، وإن أصابته فتنة أو نالته محنة ارتدّ على عقبيه ناكسا، وصار لما أظهر من وفاقه عاكسا.. ومن كانت هذه صفته فقد خسر في الدارين، وأخفق في المنزلتين.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني أعترض على بلاء نزل بي، فقال: لا تعترض.. فالاعتراض يجمع الجهل بأشكاله وألوانه.. والمعترض يجهل نفسه ومصيره، وعواقب أموره، والله الذي يدبر أمورنا، علام الغيب: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام:59]
ثم قال لي: لا تعترض.. فإن ما تراه مما تكرهه رحمة من رحمات الله، ولطف من خفي ألطافه ساقه إليك في ثوب ما تكره ليمتحن عبوديتك، ويملأ قلبك بحسن الظن به:
رب أمر تتقيه... جر أمرا ترتضيه
خفي المحبوب منه... وبدا المكروه فيه
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:216]
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 518)
(2) لطائف الإشارات (2/ 532)
القرآن.. والعزاء والشفاء (36)
وعندما سألته توضيحا لهذا المعنى، قال (1): الآية الكريمة تتمة لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، وتعني أن الله تعالى فرض الله على المؤمنين الجهاد في سبيل الله، بعد أن منعهم منه مدة من الزمن في مرحلة قاسية كانت مصلحة الدعوة فيها الأخذ بأسباب الصبر، والدفع بالكلمة الطيبة، والبعد عن رد التحدي بمثله حتى يمتد الإسلام في ساحته، ويستعد لتركيز قواعده في موقع قوة جديد، بحيث لا يملك الآخرون إسقاطه بقوتهم، لأنه يملك آنذاك قوة الرد في ساحة المجابهة.
ثم ذكر لي أن الطبيعة الإنسانية لا تنسجم مع كل الأعمال الشاقة أو الخطرة التي قد تؤدي إلى الألم أو الجرح أو الموت، لأن الإنسان مفطور على حب الراحة والحياة، فيكره ـ بطبيعته ـ كل ما يسلبه ذلك.. ولذلك فإن هذه الكراهة الذاتية لا تتنافى مع رغبة المؤمنين بالجهاد طلبا لمرضاة الله، وطمعا في الحصول على ثوابه، لأن الإنسان يرغب في الأعمال الشاقة، أو الأسفار الخطرة، أو نحو ذلك، من أجل تحصيل المزيد من المال أو الجاه أو السلطة، أو القرب من الله تغليبا للمصلحة الراجحة أو الملزمة على المفسدة المرجوحة أو غير الملزمة.
ثم ذكر لي أن الله تعالى عقب على ذلك بهذه القاعدة العامة، فقال (2): ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، وفيها عزاء للنفوس ومواساة لها في حمل هذا المكروه، وإساغة ما فيه من مرارة، إذ ليس كل ما تستقبل النفوس من مكروه شرا لا خير فيه، وليس كل ما تستقبل من محبوب خيرا لا شر معه، فقد يركب المرء المكروه فيحمله إلى مواقع الخير، ويركب المحبوب فيسوقه إلى مهاوى الردى. والأمور دائما بخواتيمها،
__________
(1) من وحي القرآن (4/ 181)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 239)
القرآن.. والعزاء والشفاء (37)
المحجبة وراء الغيب، والكائنة في علم الله، والمحكومة بقضائه وقدره.. وما فرضه الله علينا فالخير كله فيه، وإن اقتضانا جهدا، وحملنا أعباء، فإنه لا أجر بلا عمل، ولا عمل إلا ببذل، وعلى قدر المشقة يكون الجزاء.
ثم ذكر لي السر في ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، ففيها (1): يؤكد الله تعالى بشكل حاسم أنه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكموا أذواقهم ومعارفهم في الأمور المتعلقة بمصيرهم، لأن علمهم محدود من كل جانب ومعلوماتهم بالنسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر، وكما أن الناس لم يدركوا شيئا من أسرار الخلقة في القوانين التكوينية الإلهية، فتارة يهملون شيئا ولا يعيرونه اهتماما في حين أن أهميته وفوائده في تقدم العلوم كبيرة، وهكذا بالنسبة إلى القوانين التشريعية فالإنسان لا يعلم بكثير من المصالح والمفاسد فيها، وقد يكره شيئا في حين أن سعادته تكون فيه، أو أنه يفرح لشيء ويطلبه في حين أنه يستبطن شقاوته.
ثم ذكر لي أن هؤلاء الناس لا يحق لهم ـ مع الالتفات إلى علمهم المحدود ـ أن يعترضوا على علم الله اللامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهية، بل يجب أن يعلموا يقينا أن الله الرحمن الرحيم حينما يشرع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحج فكل ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.
ثم ذكر لي أن هذه الحقيقة تعمق في الإنسان روح الإنضباط والتسليم أمام القوانين الإلهية وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه بالعالم اللامحدود، والمتمثل في علم الله تعالى.
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 102)
القرآن.. والعزاء والشفاء (38)
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد رآني مرة أعترض على بعض ما نزل علي من بلاء، فقال: لا تعترض؛ فإن كل مقادير الله خير لك إن استقبلتها ببصيرة الإيمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر وكان خير له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(1)
ثم قال لي: لا تعترض.. وكن كذلك العبد الصالح الذي لم تغره مباهج جنة صاحبه، وقال في ثقة المؤمن: ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾ [الكهف:40]
ثم قال لي: لا تعترض.. فإن من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره، فإن العارفين يشهدون المنن في المحن، والعطايا في البلايا.. ومن تمام عبوديتك أن تجري عليك مقادير الله بأنواعها، وتهب عليك رياح البلاء لتمتحن عبوديتك.
ثم قال لي: كيف تعترض، وأنت لن ترقى في مقامات العبودية إلا بهذا الذي تعترض عليه؟.. وكيف تعترض، وأنت لن تكون صابرا، ولا متوكلا ولا راضيا ولا متضرعا ولا مفتقرا ولا ذليلا ولا خاضعا إلا باستقبالك لمقادير الله ببصيرة الإيمان؟.. وكيف تعترض، وأنت تعلم أن رضاك عن ربك زرع لرضى ربك عنه، بل رضاك عن ربك علامة على رضا ربك عنك، فلو لم يرض عنك لم ترض عنه.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال يدعوني للرضى عن الله تعالى: لا تعترض.. فإن جميع ما يحدث في الكون أثر من آثار أسماء الله وصفاته، وفيض من فيوضات مشيئته وحكمته، فإن لم ترض بمقادير الله خاصمت أسماء الله وصفاته، وخاصمت الله بمخاصمتها؟
__________
(1) مسلم (2999)، وابن حبان (2896)
القرآن.. والعزاء والشفاء (39)
ثم قال لي: لا تعترض.. فإن حكمه تعالى فيك ماض، وقضاؤه فيك عدل، كما أخبرك الناصح الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ماض في حكمك عدل في قضاؤك)(1).. وكيف لك أن تعترض، وأنت تعلم أنه لا تبديل لكلماته ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؟.. وكيف لك أن تعترض، وقد علمت كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره؟
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: لا تعترض، وسلم لربك، فقد فوضت أمرك إليه، ومن ضرورات التفويض الرضى التام باختيارات المفوض.. وكيف لك أن تعترض، وأنت عبد محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل يتلقاها بالرضى به وعنه؟.. وكيف لك أن تعترض، وأنت تدعي محبته، والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه؟
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: لا تعترض.. فإنك باعتراضك تعبد الله على حرف، فتتلون كما تتلون رياح المقادير، والعبد الكامل ثابت على عبودية سيده، لا تزعزعه الرياح، ولا تجتثه عن غايته الأعاصير.
ثم ذكر لي أن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم حصاد نبات الاعتراض، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم عليه السلام.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: لا تعترض.. فإن اعتراضك عن اختيار الله لك ناشئ من جهلك بالله، فكلما قويت معرفتك صرت كالريشة في مهب الرياح، تقلبها الرياح كما شاءت، فلا تعترض ولا تختار.
__________
(1) مسند أحمد (6/ 247)
القرآن.. والعزاء والشفاء (40)
ثم ذكر لي أن من عرف أن البلايا من مولاه وسيده الذي هو أرحم به من والدته ووالده، كيف يبقى له بالألم إحساس؟.. أم كيف لا يتلذذ به كما يتلذذ بالنعمة سائر الناس؟
ثم أنشدني قول الشاعر:
وخفف عني ما ألاقي من العنا... بأنك أنت المبتلي والمقدر
وما لامرئ عما قضى الله معدل... وليس له منه الذي يتخير
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد قال لي: ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأنه سبحانه هو المبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدار، هو الذي عودك حسن الاختيار.
ثم قال: كيف تعترض، والله يراك ويسمعك، وهو ما أنزل عليك البلاء إلا ليختبر موقفك، فهل ترضى أن تسقط في الاختبار؟
ثم قال (1): لا تعترض.. فإن السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجود وخير، فالحياة تتكامل بالحركة، وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات الاسماء، وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلما متحركا لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الأجر الأخروي.
ثم قال (2): اعلم انه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، وعليك الصبر؛ لأن وجودك واعضاءك وأجهزتك ليست بملكك أنت، فأنت لم تصنعها بنفسك، وأنت لم تبتعها من أية شركة أو مصنع ابتياعا، فهي ملك لآخر. ومالك تلك الأشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء.
وعندما طلبت منه أن يوضح لي ذلك، قال (3): هب أن صانعا ثريا ماهرا يكلف
__________
(1) المكتوب الثاني عشر: 54.
(2) المكتوب الثاني عشر: 54.
(3) الكلمات: الكلمة السادسة والعشرون: 554.
القرآن.. والعزاء والشفاء (41)
رجلا فقيرا لقاء أجرة معينة ليقوم له لمدة ساعة بدور النموذج، لإظهار صنعته الجميلة وثروته القيمة، فيكلفه بلبس القميص المزركش الذي حاكه، والحلة القشيبة المرصعة التي نسجها، ويطلب منه أن يظهر أوضاعا وأشكالا شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقص ويبدل، ويطول، ويقصر، وهكذا.. فهل يحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: (إنك تتعبني وترهقني وتضيق علي بطلبك مني الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وأنك تشوه الجمال المتألق على هذا القميص الذي يجمل هندامي ويزين قامتي بقصك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟)
ثم قال: هكذا الأمر بالنسبة للصانع الجليل سبحانه وتعالى ـ ولله المثل الاعلى ـ الذي ألبسك قميص الجسد، وأودع فيه الحواس النورانية المرصعة كالعين والأذن والعقل، فلأجل إظهار نقوش أسمائه الحسنى، يبدلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في أوضاع مختلفة، فكما أنك تتعرف على اسمه (الرزاق) بتجرعك مرارة الجوع، تتعرف على اسمه (الشافي) بمرضك.
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد حدثني مرة عن بعضهم أنه قال أمام بعض الصالحين: اللهم ارض عني، فقال له: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقيل له: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قال: (إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة)
ثم عقب عليه بقوله: لقد أشار إلى أن للمصيبة سرورا عند العارف كما أن للنعمة سرورا، لأن ما يلحظه العارف في ثنايا المصيبة يبدد الظلمات التي ينفخها الحزن واليأس.
وقد سألته حينها قائلا: فهل للرضى من لذة؟
فقال: أجل هي لذة لا تقل عن لذة الحب، بل إنه لا يمكن أن يرضى من لا يحب،
القرآن.. والعزاء والشفاء (42)
كما لا يحب من لا يرضى، ألم تعلم بأن الرضوان أعلى الدرجات؟.. ألم تعلم أن الصادقين مع ربهم، لا يزال رضاهم بالله ورضاهم عنه رائد علاقتهم بربهم إلى يوم يلقونه، كما قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة:119]
ثم قال: بل نجد في القرآن الكريم أن كل الآيات التي تتحدث عن الرضوان المتبادل بين الله تعالى وعباده الصالحين مرتبطة بالجنة، وكأنها تشير إلى أن الرضوان جنة أخرى من جنان الله، وهي جنة لا تختص بالآخرة، بل تعجل للمؤمنين في الدنيا.
ثم ذكر لي سبب ارتباط الرضوان بالجنة في قوله تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة:8] فقال: (ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما)(1)
ثم استدل بذلك بقوله تعالى ـ وهو يخاطب النفس المطمئنة التي لا تُقبض انتزاعا ـ كما تقبض أرواح المتمردين على الله ـ وإنما تُقبض بأمرها بالرجوع إلى بارئها فتطير شوقا إليه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ [الفجر:27،28]، وقوله ـ وهو يخبر عن حزبه الذي اعتبر رضوانه فوق كل رضوان ـ: ﴿، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 469)، والفخر الرازي يخالف ـ بهذا ـ الأسلوب الجاف الذي يتعامل به المتكلمون عادة مع مثل هذه الأمور، وقد عقب على قوله هذا بقوله: (وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له)، وقد بين الغزالي علة إنكار بعض المتكلمين للرضى بقوله: (اعلم أنّ من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصوّر؟ فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة، فأما إذا ثبت تصوّر الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أنّ الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب)، إحياء علوم الدين: 4/ 347.
القرآن.. والعزاء والشفاء (43)
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا مْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:22]
قال آخر: ومثلكم أنا.. فقد ذكر لي أن الرضى عن الله شامل لكل ما جاء عن الله تشريعا كان أم قضاء، فلا فرق بينهما، فكلاهما مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
واستدل للأول بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب:36]
واستدل للثاني بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:164]، وقوله في أول السورة: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:14] أي معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.
بهذا الحديث انتهى المشهد الثاني ليبدأ المشهد الثالث، والذي تعلمت منه دور الرغبة والطمع في فضل الله في العزاء والمواساة والتسلية، بل قد رأيت ذلك رأي العين، ورأيت معه الجزع والاضطراب الذي يصيب من لم يتحققوا بهذا العلاج القرآني.
ويبدأ المشهد من تلك المقبرة نفسها.. فقبل انصراف الناس منها، وسماعهم لما فيها من المواعظ المرتبطة بتأبين الشيخ، قال أحدهم بصوت عال: أرجو ممن وصلت النوبة إليه في عيادة المريض أن يذهب إلى مصحة البلدة، فهناك بعض المرضى ممن يحتاجون إلى عزائكم ومواساتكم وتشجيعكم.. وأنتم تعلمون فضل عيادة المريض، ولا حاجة لتذكيري لكم بذلك.. فاذهبوا واحتسبوا ذلك عند الله.. ولا تنسوا أن تطبقوا كل ما ورد في الوصايا من
القرآن.. والعزاء والشفاء (44)
آداب العيادة.
التفت إلى رجل كان بجانبي، وسألته عن معنى النوبة التي ذكرها، وهل يمكن أن تكون عيادة المريض نوبة؟ فقال: هذا وضع خاص بنا في هذه البلدة، وهو من السنن الحسنة التي سنها لنا معلمنا الكاظم رحمه الله، وقد رأينا جدواها.. ولذلك نحاول الحفاظ عليها، فإذا مرض أي شخص منا، نتداول على زيارته جميعا، وذلك حتى ننال جميعا أجر العيادة من غير أن نضيق عليه.
قلت: فهلا دللتني على ذلك لأتشرف بالزيارة مثلكم.
قال: أجل.. بل هو واجب عليك.. فأنت لم تأت إلى عالمنا إلا لتسمع حديثنا وتسجله، لعل قومك يشعرون بعظمة القرآن الكريم، فيلجؤوا في كل حال يداوون به جراحهم، ويسعدوا به حياتهم.
سرت معه، ومعنا جمع من الناس إلى مصحة البلدة، وهناك وجدنا رجلين يرقدان في غرفة من غرفها.. أما أحد الرجلين، فقد كان مستبشرا فرحا مسرورا، وكأنه في متنزه لا في مصحة.. وأما الثاني فكان قلقا مضطربا مكتئبا، وكأنه يرى الموت بعينيه.. والعجيب أننا عندما سألنا الطبيب عن كليهما، أخبرنا أن الأول المستبشر يعاني من أمراض كثيرة، وهو يعلم بها، وبأضرارها، بينما الثاني داؤه بسيط محدود، وقد تعجب هو كذلك من ذلك التناقض البادي بينهما.. لكنه بعد سماعه لحديث المريض، أدرك السبب، وأخبرنا أنه سيستعمله وسيلة من الوسائل التي يعالج بها مرضاه.
وحتى لا أثقل عليكم، فسأذكر بعض الحوار الذي جرى بيننا وبين المريض المؤمن المحتسب، وخصوصا ما يرتبط بالرغبة ودورها في مواساة المتألمين.
لقد بدأ حديثه بقراءة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [النحل:18]، ثم
القرآن.. والعزاء والشفاء (45)
قال: أنا مشغول في هذه الأيام عن عد أمراضي التي يخبرني بها الأطباء بعدّ النعم العظيمة التي أفاضها الله علي، ولا يزال يفيضها.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: إن حالي يشبه حال تلك المرأة الصالحة، حين عثرت، وانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.. وأنا مثلها أعد جوائز فضل الله تعالى علي في هذا المرض أو في هذه الأمراض، ولذلك لا أبالي بكثرتها، لأن لكل مرض ثوابه، ولكل ألم جزاؤه.
قلنا: فكم عددت منها؟
قال: هي كثيرة كما ذكر ربنا، ولا يمكن إحصاؤها.. ولهذا ترون أن الله تعالى أمر بتبشير الصابرين، فقال: ﴿وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ﴾ [البقرة:155 ـ 157]، وأنتم تعلمون أن البشارة لا تكون إلا على نعمة وفضل.
سكت قليلا، ثم قال: ولهذا ذكر الله تعالى كثرة الخير المخزن في طيات ما نكره، فقال: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء:19]، وقد قال بعضهم تعليقا على الآية: (لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك)
وقد حدثني معلمي الكاظم الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي كان يبشر فيها المبتلين بأنهم سيكونون موضع غبطة الخلق يوم القيامة عندما يعاينون ما أعد الله لهم من جزاء، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن
القرآن.. والعزاء والشفاء (46)
جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)(1)
ثم ذكر لي حديث بعض الصالحين، وهو يشير إلى بعض تلك النعم: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني)
وحدثني عن بعض الصالحين أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس، وهنؤوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال: (إن في العلل لنعما لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد، الخيار)
قلنا: فهلا ذكرت لنا بعضها، أو مجامعها.
قال: أجل.. ويسرني ذلك، سأذكر لكم نعمتين كبيرتين، كان معلمي الكاظم كثيرا ما يحدثني عنهما لمواساتي وعزائي.. أولاهما نعمة التطهير، والثانية نعمة الثواب.
قلنا: فحدثنا عن النعمة الأولى.. نعمة التطهير؟
قال: أنتم تعلمون أن الله تعالى برحمته ولطفه يحب عباده المتطهرين، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، فلذلك يهيء لهم من أسباب الطهارة ما يغسل به الأدران عنهم.. ولذلك قال تعالى في المطر الذي أنزله يوم بدر: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [لأنفال:11]، وقال في الصدقات: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
__________
(1) الترمذي كتاب الزهد رقم (2403)
القرآن.. والعزاء والشفاء (47)
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:103]، وقال في المحسنين: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر:35]
وأذكر في هذا أن معلمنا الكاظم، مر بي ذات يوم، وأنا مهموم حزين، فقال لي: هل يحزن من به قذارة وأوساخ إذا ما أتاح الله له من يطهره؟
فقلت: مجنون من يفعل ذلك.. وهل هناك عاقل يرغب عن الطهارة؟
قال: فإن الله تعالى ينزل على عباده من أسباب الطهارة ما يجعلهم أهلا لكل فضيلة.. والبلاء من هذه الأسباب.. ولهذا قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 11]، أي (إلا المؤمنين فإنهم لصبرهم على ما به أُمروا، وعما عنه زجروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزّلات.. لهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجر على إحسانهم.. والفريقان لا يستويان)(1)، كما قال أحدهم.
أحبابنا شتّان واف وناقص... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض
ثم حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)(2).. وذكر لي أنه عندما نزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ [النساء:123] بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها)(3)
وذكر لي أنه عندما دخل عبد الله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه وجده وهو يوعك وعكا شديدا، فقال: إنك لتوعك وعكا شديدا، إن ذاك بأن لك أجرين، قال: (أجل ما من
__________
(1) لطائف الإشارات (2/ 127)
(2) مسلم (2573)، والبيهقي 3/ 373.
(3) مسلم (2574)، والترمذي (3038)
القرآن.. والعزاء والشفاء (48)
مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر)(1)، ثم قال: ولذلك يتخلص المؤمن في مرضه ـ بقدر سعة صبره ورضاه ـ من كل الذنوب التي رانت على قلبه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل المريض إذا برأ وصح كالبردة تقع من السماء في صفائها ولونها)(2)
ثم حدثني عن بعضهم أنه قال: (تقول الملائكة: يا رب، عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه قالوا: يا رب، لا يضره ما أصابه من الدنيا، قال: ويقولون: عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، فإذا رأوا عقابه قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا)(3)
ثم ذكر لي أن هذا هو السبب في ورد النهي عن سب المرض، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم السائب، فقال: (ما لك يا أم السائب تزفزفين؟) قالت: (الحمى، لا بارك الله فيها)، فقال: (لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)(4)
ثم ختم حديثه بقوله: إن البلاء رحمة من رحمات الله.. ولا ينبغي أن يسب عاقل رحمة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبشر المرضى، فقد عاد صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من وعك كان به فقال: (أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار)(5).. وعاد أم العلاء، وهي مريضة فقال: (أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة)(6)
__________
(1) البخاري (7/ 149 (5647)
(2) الترمذي: 4/ 411.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 166)
(4) ابن ماجه (2887)، وأبو يعلى (198)، والطبري 2/ 310.
(5) الترمذي (2088)، وابن ماجه (3470)، والحاكم 1/ 345
(6) أبو داود (3092)
القرآن.. والعزاء والشفاء (49)
سألته حينها عن سر كون البلاء مطهرا من الذنوب، فقال: لأجل ما يحدثه في القلب من ترفع عن الدنيا، وعدم تعلق بها، ونوع من الزهد فيها، فحب الدنيا رأس كل خطيئة.
فقلت له: البلاء نعمة من هذا الوجه يجب الفرح بها.. ولكن الألم مع ذلك موجود؟
فابتسم، وقال (1): أجل.. هو ضروري، وهو يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجانا، أو يسقيك دواء نافعا بشعا مجانا، فإنك تتألم، وتفرح، فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح، فكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذى يؤلم في الحال وينفع في المآل.. وعكس ذلك من دخل دار ملك للنظر فيها، وعلم أنه يخرج منها لا محالة، فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار.. فإن ذلك وبال عليه وبلاء..
فقلت: لم؟.. فقد رأى حسنا.
فقال: لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه، ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه، فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه، وهكذا الدنيا، فهي (منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم، وهم خارجون عنها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة)(2)
قلنا: حدثتنا عن النعمة الأولى.. فحدثنا عن النعمة الثانية.. نعمة الثواب؟
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 130)
(2) إحياء علوم الدين: 4/ 130.
القرآن.. والعزاء والشفاء (50)
قال: أجل.. فهي النعمة التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96]، أي (1): الذي عندكم عرض حادث فان، والذي عند الله من ثوابكم في مآلكم نعم مجموعة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.. أو ما عندكم أو ما منكم أو ما لكم أفعال معلولة وأحوال مدخولة، وما عند الله فثواب مقيم ونعيم عظيم.. أو ما منكم من معارفكم ومحابكم آثار متعاقبة، وأصناف متناوبة، أعيانها غير باقية وإن كانت أحكامها غير باطلة، والذي يتصف الحقّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفات أزلية ونعوت سرمدية.
ثم سكت قليلا، وكأنه يتذكر شيئا، ثم قال: لقد قال لي معلمي الكاظم يوما: حين تزاح الغشاوة التي تكسو العيون في الدنيا، فتفسد بسببها المقاييس يدرك الخلق الكنوز التي كان يخفيها البلاء، فيودون ما أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)(2)
فسألته عن مظاهر هذا الثواب، فقال: ثلاثة.. وهي بحسب حال المبتلى من الرضى والصبر والتوكل.. فسألته عن أولها، فقال: أولها تخفيف حسابهم يوم القيامة إن صبروا واحتسبوا، وهذه نعمة عظيمة، ذلك أن أعظم ما يخافه كل مؤمن هو الحساب.. أن تنشر صحفه، فيعاين جرائمه.. أو يفضح بين الخلائق.. وهو موقف صعب جدا.. فأحدنا لا يطيق الوقوف في محكمة الدنيا ليحاسب، فكيف يطيق الوقوف في محكمة الآخرة؟
ثم ذكر لي بعض ما ورد من البشارات لأهل البلاء الحاصلين على هذا النوع من الثواب، ومنها روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها لمم فقالت: (يا رسول الله، ادع الله أن
__________
(1) لطائف الإشارات (2/ 318)
(2) الترمذي (2403)
القرآن.. والعزاء والشفاء (51)
يشفيني) قال: (إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)، قالت: (بل أصبر ولا حساب علي)(1).. ومنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويُصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم)(2)
أذكر أني قلت له حينها: هذه بشارة عظيمة ترفع المبتلى إلى درجات تفوق درجات الشهداء والمتصدقين.
فقال: وليس ذلك على الله بعزيز، فإن من المبتلين من يموت في اليوم مائة مرة، بينما الشهيد لا يموت إلا مرة واحدة، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن (الطاعون شهادة لكل مسلم)(3)
فسألته مستغربا: أهذا احتقار للشهادة؟
فقال: معاذ الله أن أقول ذلك.. فلولا عظمة الشهادة ما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف.
فسألته عن سر هذا الجزاء، فقال: لأن البلاء الذي يقع على المؤمن المحتسب يطهره من ذنوبه، فلذلك إن عظم البلاء، وصبر عليه المبتلى، لقي الله وليس عليه ذنب يحاسبه عليه، وقد روي في هذا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعود زيد بن أرقم وهو يشتكي عينيه فقال له: (يا زيد، لو كان بصرك لما به كيف كنت تصنع؟)، قال: (إذا أصبر وأحتسب)، قال: (إن كان بصرك لما به ثم صبرت واحتسبت لتلقين الله عز وجل
__________
(1) ابن حبان (2909)، والبغوي (1424)
(2) البيهقي في السنن 3/ 375، وفي الشعب (9921)
(3) الدارمي 2/ 207، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (777)، والطبراني في الكبير (7328)
القرآن.. والعزاء والشفاء (52)
وليس لك ذنب)(1)
حينها سألته عن الثواب الثاني، فقال: الثواب الثاني هو الجنة.. دار السعادة الأبدية، فقد قرن الله تعالى الصبر بالجنة، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22 ـ 24]، أي (2): والذين صبروا على مشاق الطاعة وترك المخالفة.. أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى.. فعلوا ذلك ابتغاء وجه ربهم طلبا لرضاه، لا فخرا ولا رياء، ولا طلبا لحظ نفساني.. وأقاموا الصلاة المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال فرضا ونفلا، سرا وعلانية إن تحقق الإخلاص.. أو سرا لمن لا يعرف بالمال، وجهرا لمن يعرف به لئلا يتهم، أو ليقتدى به.. ويدرؤن بالحسنة السيئة أي يدفعون الخصلة السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان امتثالا لقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96]
ثم ذكر لي أن هؤلاء الذين قاموا بكل هذا، هذا هو جزاؤهم: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22]، أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلها، وهي: الجنة التي فسرها بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ [الرعد: 23] أي: إقامة، يدخلونها مخلدين فيها، فيدخلونها ومن صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ في العمل مبلغهم، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم.
ثم حدثني بما ورد في الأحاديث الشريفة مما يؤكد ذلك، ويبين أن البلاء الذي
__________
(1) مسند أحمد (20/ 42)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 22)
القرآن.. والعزاء والشفاء (53)
يصاحبه الرضا والصبر يقود صاحبه إلى الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه)(1)
ومثل ذلك ما روي عن عطاء قال، قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها)(2)
ومثلهما ما روي عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة الخولاني، فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد)(3)
بعدها سألته عن الثواب الثالث، فقال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132]، أي (4): لكل درجاتهم ومنازلهم عند الله، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة،.. ولا يظلم ربك أحدا.. فـ (المحسن في روح الثواب متنعّم، والمذنب في نوح العذاب متألم)(5).. ومثل ذلك ما أشارت إليه الآيات الكثيرة كقوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 162 ـ 163]، وقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
__________
(1) البخاري (5/ 2140)
(2) البخاري (5652)، ومسلم (2576)
(3) ابن حبان (2948)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (581)
(4) التفسير القرآني للقرآن (13/ 279)
(5) لطائف الإشارات، القشيري (1/ 504)
القرآن.. والعزاء والشفاء (54)
وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75]، وقوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الأحقاف: 19]
حينها سألته عن علاقة البلاء برفع الدرجات، فذكر لي الحديث الذي يبين ذلك، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى)(1)، وقوله: (ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيصبر إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة)(2)
ومثل ذلك ما روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)(3)
ثم حدثني ببعض ما ورد في الأخبار الإسرائيلية التي لا تتعارض مع القرآن الكريم، ومنها ما روي أن رجلا قال لموسى عليه السلام: يا موسى، سل الله لي حاجة يقضيها لي هو أعلم بها؛ ففعل موسى؛ فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله؛ فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: (يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة)(4)
ثم حدثني بما وردت به الأحاديث الشريفة من استمرار ثواب المبتلين، حتى ولو لم
__________
(1) أبو داود (3090)
(2) أمالي المحاملي رواية ابن يحيى البيع (ص 332)
(3) عبد بن حميد (146)، والدارمي (2783) والحاكم 1/ 41.
(4) تفسير القرطبي (16/ 31)
القرآن.. والعزاء والشفاء (55)
يعملوا، ما دامت نياتهم مرتبطة بالعمل، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 91 ـ 92]
ومن تلك الأحاديث التي ذكرها لي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه اغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له)(1)
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل، ما دام محبوسا في وثاقي)(2)
ومثله ما ورد في الأثر الإلهي: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح)(3)
وذكر لي ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن مجرد الاسترجاع عند تذكر المصيبة له ثوابه عند الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب)(4)
سكت قليلا، ثم قال: أذكر حينها أني ذكرت له ما ورد في الأحاديث والروايات
__________
(1) شعب الإيمان (7/ 181)
(2) مسند أحمد (11/ 423) وابن أبي شيبة 3/ 230.
(3) المعجم الأوسط للطبراني (5/ 74)
(4) ابن ماجه (1600)، وأبو يعلى (6777) و(6778)
القرآن.. والعزاء والشفاء (56)
الشريفة من أمثال قول الإمام علي: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار)(1)
ومثله قول الإمام الصادق: (العبّاد ثلاثه: قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ خوفا، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلبا للثّواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّا له فتلك عبادة الأحرار)(2)
ومثلهما قول الإمام الباقر: (إنّ الناس يعبدون اللّه على ثلاثة أوجه، فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفا من النار، فتلك عبادة العبيد وهي رهبة، ولكنّى أعبده حبّا له عزّ وجلّ فتلك عبادة الكرام)(3)
فقال لي بهدوء: أئمة الهدى أعظم وأشرف من أن يخالفوا ما ورد في القرآن الكريم من الإخبار عن طمع المؤمنين والصالحين في فضل الله.. فالطمع في فضل الله لا يتنافى مع محبته ولا صدقه ولا إخلاصه.
فسألته عن كيفية التوفيق بين ما ذكره وما ورد في تلك الروايات، فقال: الإخلاص والتجرد لا يتنافيان مع الرغبة والطمع في حد ذاتهما، وإنما باعتبار موقف المتحلي بهما؛ فإن كان قصده من العمل الرغبة والطمع المجردين، بحيث لو لم يوفر له ما يرغب فيه يترك العمل؛ فإن ذلك قادح في الإخلاص ومؤثر فيه؛ فقصد العمل في الحقيقة ليس ذات الذي طلب منه العمل، وإنما تلك المطامع والأجور التي وفرها له.
ثم ذكر لي أن أئمة الهدى أنفسهم يذكرون الجنة ورغبة الصالحين وطمعهم في أن ينالهم فضل الله، فيدخلونها، ومن ذلك ما روي عن الإمام في وصفه للمتقين، حيث قال:
__________
(1) نهج البلاغة ج 2 ص 197.
(2) اصول الكافي، ج 2، ص 84.
(3) علل الشرائع، ج 1، ص 41.
القرآن.. والعزاء والشفاء (57)
(عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون)(1)
ومثل ذلك قوله في أول خطبة في خلافته: (الفرائض، الفرائض! أدوها إلى الله تؤدكم إلى الجنة)(2).. وقوله في بعض خطبه: (عباد الله، أوصيكم بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة)(3)
ثم قرأ لي ما ورد في القرآن الكريم من وصف الله تعالى للمؤمنين ذوي المراتب العالية بالطمع في فضل الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]، وقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104]، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]
ومثل ذلك حدثني بما ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة، والتي يذكر فيها الجزاء الذي أعده الله للمؤمنين أصحاب الأعمال الصالحة، ولو كان ذلك قادحا في الإخلاص لما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال لي ناصحا: لا تصغ لمن يحتقرون الجنة ونعيمها، ويتوهمون أن ذلك من الكمال؛ فما كان للكامل أن يحقر ما عظم الله، أو يجحد فضل الله على عباده بما أعده لهم من النعيم.. والكامل هو الذي يتعامل مع كل صفة أو فعل إلهي بما يقتضيه؛ فإن ذكر النعم
__________
(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم (193)
(2) نهج البلاغة، الخطبة رقم (167)
(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم (191)
القرآن.. والعزاء والشفاء (58)
شكرها، وإن ذكر البلاء تعوذ منه، وصبر عليه إن نزل به، وإن ذكر الله أحبه وعبده وأخلص له.
ثم ضرب لي مثالا يقرب ذلك، فقال: أرأيت إن كان لك أستاذ تحبه وتحترمه كثيرا، وتشعر أنك تستفيد منه.. فكلفك بالقيام بحل مسألة من المسائل الصعبة، وأخبرك أن حلك لها سيفيدك كثيرا في مستقبلك العلمي.. وأخبرك أنك من خلالها يمكنك أن تنتقل إلى مركز من مراكز الأبحاث الكبرى، وقد تنال هناك الجوائز الكثيرة، فرحت ـ بناء على ما ذكره ـ تقوم بحل تلك المسألة، وتفرح بتكليفه لك بها، وأنت تشعر أنك ستقوم بذلك، حتى لو لم يعدك بما وعدك به.. فيكفي عندك أن يطلب منك ذلك.. لكنك في نفس الوقت فرحت بطلبه، وزاد في تشجيعك، لأنه يتيح لك فرصا أخرى للعلم والبحث.. فهل ترى ذلك قادحا في إخلاصك لأستاذك؟
ثم طبق هذا المثال على ما سألته، فقال: هكذا الأمر بالنسبة للمؤمنين المخلصين الذين يشعرون أن عبادتهم لله ليست لطلب العوض، وإنما لكونه يستحق العبادة.. ولكن ذلك لا يعني احتقار الهدايا التي وعدهم بها، لأن في احتقارها إساءة لمن أهداها.. بالإضافة إلى أن طمع المؤمنين في الجنة ليس لما أتيح فيها من النعيم الحسي فقط، بل لما فيها من النعيم المعنوي، وأولها الظفر بالقرب الإلهي، ومعية الصالحين والأولياء.. فالجنة ليست مرقصا كما يتوهم الغافلون، بل هي مسجد لعبادة الله والتعرف عليه والتواصل معه.. ولذلك فإن حنين الصالحين إليها لا يختلف عن حنينهم للمساجد في الدنيا.. بل حنينهم لها أشد، لأنهم يلاقون فيها كل أنبياء الله وأئمة الهدى الذين امتلأت قلوبهم شوقا إليهم.
ثم قرأ علي من القرآن الكريم ما يبين دور الرغبة في فضل الله تعالى في تزكية النفس والارتقاء بها في سلم الكمال، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ
القرآن.. والعزاء والشفاء (59)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 82]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 124]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [العنكبوت: 58]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [هود: 23]، وقوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [مريم: 60]، وقوله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [الزمر: 74]، وقوله: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: 72]، وقوله: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 63]
وغيرها من الآيات الكثيرة التي تعتبر العمل الصالح شرطا من شروط دخول الجنة، وهو يطلق على كل المكارم التي تتحلى بها النفس المطمئنة، سواء كان القصد منها الترقي في درجات التحقق، أو درجات التخلق.
وهكذا حدثني معلمي الكاظم عن الكثير من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث لا نكاد نجد عملا صالحا إلا وله الجزاء الخاص به؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمارس دوره التربوي في هذه الأمة من خلال التبشير والإنذار الذي اعتبره الله تعالى من وظائفه المكملة والمساعدة على وظيفة التزكية، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث بعض أصحابه عنه، قال: شهدت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ثم قرأ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ
القرآن.. والعزاء والشفاء (60)
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 16، 17])(1)، فهذا الحديث يبين منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التزكية، وتوظيفه لنعيم الجنة في ترغيب المؤمنين في الأعمال الصالحة.
ومثل ذلك حدثني بما ورد من الأحاديث في الدعوة لتعميق الحقائق الإيمانية في النفس كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)(2)
ومثله ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: دلني على عمل أعمله، يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار قال: (تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك) فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تمسك بما أمر به دخل الجنة)(3)
ومثله ما ورد في الدعوة لقراءة القرآن الكريم أو بعض آياته وسوره، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)(4)، وقوله: (سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية، خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، وهي سورة تبارك)(5)، وقوله: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)(6)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للسجود، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار)(7)
__________
(1) البخاري (6/ 230)، و(8/ 396)، ومسلم (2824)
(2) البخاري (3435) ومسلم (28)
(3) مسلم (13)
(4) النسائي في سننه الكبرى (9848)
(5) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127): الطبراني في الصغير والأوسط.
(6) ابن حبان (167) والطبراني في الكبير (9/ 132 رقم 8655)، (10/ 198)
(7) مسلم (81)
القرآن.. والعزاء والشفاء (61)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للطهارة وإسباغها، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من مسلم يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)(1)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للاستغفار، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)(2)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لبعض الأذكار، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح في دبر كل صلاة عشرا ويحمد عشرا، ويكبر عشرا، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمس مائة في الميزان، ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويسبح ثلاثا وثلاثين، فذلك مائة باللسان وألف في الميزان)(3)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لذكر الله في محال الغفلة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له بيتا في الجنة)(4)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لطلب العلم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه
__________
(1) مسلم (234)
(2) البخاري (6306)
(3) أبو داود ((5065) والنسائي ((1347) والترمذي (3410)
(4) الترمذي (3428 ـ 3429) والحاكم (1/ 538 ـ 539)
القرآن.. والعزاء والشفاء (62)
علما سهل الله له به طريقا في الجنة)(1)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للصلاة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة)(2)، وقوله: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة)(3)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة لبعض القيم الروحية والاجتماعية، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)(4)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للصيام والترغيب فيه، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجنة بابا، يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد)(5)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للحج والعمرة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة)(6)
ومثل ذلك ما ورد في الدعوة للجهاد في سبيل الله، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)(7)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي يقترن فيها العمل الصالح بالفضل الإلهي،
__________
(1) مسلم ((2699)
(2) البخاري (574) ومسلم (635)
(3) أبو داود ((1420) وابن ماجه ((1401) وابن حبان (1729) وأحمد (5/ 315) والبيهقي (1/ 361)
(4) الترمذي ((2485) وابن ماجه (3251)
(5) البخاري ((1896) ومسلم ((1152)
(6) البخاري (1773) ومسلم (1349)
(7) البخاري (2787) ومسلم (1876)
القرآن.. والعزاء والشفاء (63)
ولولا تأثير ذلك الترغيب في النفس، ومساهمته في تزكيتها وترقيتها، ما استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ختم معلمي الكاظم حديثه هذا بقوله: لذلك احذر من أولئك الذين يسخرون من مثل هذا، وهم في نفس الوقت قد يتصارعون على فتات الدنيا القليل.. فالعجب ممن يزهد في جنة الله التي هي دار أنبيائه وأوليائه في نفس الوقت الذي يتكالب فيه على الدنيا، ويتوهم أنه من العارفين الحكماء.
ما إن انتهى المريض من حديثه، وسرد ذكرياته عن معلمه الكاظم، حتى سمعنا المريض الثاني، والذي كان إلى جواره، يبكي بكاء شديد، ثم يقوم من مكانه، ويقبل رأس المريض الذي حدثنا، ويقول له: أرجوك.. سلمني المصحف الذي كنت تقرأه دائما.. أظن أنه العلاج الأكبر الذي يشفيني من همومي وأحزاني.. فالداء الذي تسلط على جسدي لا يساوي شيئا أمام ذلك الداء الذي أصاب روحي ونفسي.. وويل لي إن لقيت ربي، وأنا بهذه الحال.
وقد سر المريض الأول كثيرا بهذا الطلب، وسلمه مصحفا كان لديه، وسلم الطبيب مثله، وقد تعجبنا لوجود مصاحف كثيرة لديه، وسألناه عن سر صحبتها له، فقد كان يكفيه أن يكون لديه مصحف واحد، فقال لنا: منذ ملأ معلمي الكاظم نفسي بتلك المعاني، ومنذ أصبح القرآن الكريم ربيع روحي وأنسها، صرت أحمل المصاحف دائما، وكل ما رأيته مهموما أو مبتلى أو حزينا، طلبت منه أن يقرأه، ليعالج به كل آلامه.. فالقرآن هو كتاب الهداية الأعظم، كما أنه كتاب العزاء الأعظم.
وقد أخبرنا الطبيب بعد أن التقيت به قبل عودتي إلى أهلي بأن المريض الثاني، قد تحسن بعد ذلك المشهد كثيرا، ثم لم يلبث أن غادر المصحة، وهو بكامل صحته، بل أضاف
القرآن.. والعزاء والشفاء (64)
إليها صحة جديدة كان يفتقدها.
هذا هو المشهد الثالث، والذي لا يزال تأثيره الكبير في نفسي إلى الآن، وأما المشهد الرابع، والذي تعلمت منه دور الابتلاء والمحن في التربية والهداية والإصلاح، ومن ثم دوره في العزاء والمواساة والتسلية، فقد بدأ بعد مغادرتي للمصحة، حيث صادفت في الطريق مقهى مكتوبا عليه [مقهى التأديب والتذكر]، فتعجبت في سبب اختيار صاحب النادي لهذا الاسم.
وعندما دخلت إليها وجدت ناسا كثيرين مجتمعين، يرتشفون القهوة والشاي، وفي نفس الوقت يستمعون لأحاديث بعضهم بعضا.. وهو ما أثار استغرابي كثيرا، فلم أعهد ذلك في مقاهي قريتنا، ولا ما أعرفه من المدن.. وسأحكي لكم ما سمعته مما يرتبط بهذا الجانب.
قال أحدهم: أما وقد جاء دوري، فسأحدثكم عما ذكره لي معلمنا الكاظم رحمه الله عندما رآني مهموما حزينا بعد بلاء شديد نزل بي، لقد قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الانبياء:87]، ثم قال لي (1): من تحققت له سابقة العناية لا تبعده الجناية، ولا تخرجه عن دائرة الولاية، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله، على قدر الجناية وعلو المقام، ثم يرد إلى مقامه.
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 493)
القرآن.. والعزاء والشفاء (65)
فسألته عن توضيح ذلك، وسره، فقال: إن الله تعالى له عناية خاصة بأهل الخصوصية من عباده، حيث يؤدبون على أقل شيء لشدة قربهم، ثم يُردون إلى مقامهم.. ولهذا، فإن يونس عليه السلام خرج من غير إذن خاص، فأدبه ربه، ثم رده إلى النبوة والرسالة.
ثم ذكر لي أن هذا التأديب هو الذي وقع لآدم عليه السلام بعد أكله من الشجرة التي نهي عنها.. فقد ابتلي ليؤدب أمام أوامر ربه، وليعرف مدى عداوة الشيطان له، فكان ظاهر بلائه نقمة، وباطنه رحمة، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [لأعراف:22]
أذكر أني حينها قلت له مستغربا: ولكنه ـ مع ذلك ـ وللأسف ـ خرج من الجنة.
فقال: نعم.. وقد كان من أكبر نعم الله عليه أنه خرج من الجنة.
فتعجبت، وقلت: ما هذا ـ يا معلم ـ أكانت الجنة نارا حتى يكون خروجه منها نعمة؟
فقال: لم تكن نارا، ولكن سكونه إليها هو النار.. لقد انقلب آدم عليه السلام بعد خروجه من الجنة شخصا آخر.. فعندما خرج منها بأسياف البلاء ـ تحقق فيه ما أريد منه من منصب الخلافة العظيم الذي خلق له.
ثم ذكر لي كلاما لبعضهم على لسان الحضرة الإلهية يقول فيه مخاطبا آدم عليه السلام: (يا آدم لا تجزع من قولي لك: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [لأعراف:24]، فلك ولصالح ذريتك خلقتها.. يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.. يا آدم لا تجزع من قولي لك: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾ [البقرة:216]، يا آدم! لم أخرج إقطاعك إلى غيرك، إنما نحيتك عنه؛ لأكمل عمارته لك،
القرآن.. والعزاء والشفاء (66)
وليبعث إلي العمال نفقة ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ﴾ [السجدة: 16])(1)، ثم قال: (تالله ما نفعه عند معصيته عز ﴿اسْجُدُوا﴾ [الفرقان: 60] ولا شرف ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ﴾ [البقرة: 31]، ولا خصيصة ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، ولا فخر ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ [ص: 72]، وإنما انتفع بذل ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23])(2)
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة في حالة شديدة، فحدثني بما ورد في القرآن الكريم من الإخبار بابتلاء الله لعباده بسبب الذنوب التي يقعون فيها، وذكر لي أن هذا الابتلاء يشبه تماما تقريع المعلم لتلميذه رادعا له ومؤدبا.
ثم قرأ لي قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، وقال (3): إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره.. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص لم يستوحش منها، بل يفرح بها إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح لعلمه أن ذلك زيارة وترقية.
ثم قال لي: إن الآية الكريمة تبيّن بوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي إلا ما كان من البلاء المتعلق بالمقربين من الأنبياء والصديقين، فله نواح أخرى غير هذا.
ثم ذكر لي ما روي في الحديث من أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من
__________
(1) الفوائد:35.
(2) الفوائد:36.
(3) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 221)
القرآن.. والعزاء والشفاء (67)
اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر)(1)
وأذكر أني حينها سألته عن وجه كون التأديب نعمة، فقال: لقد كانت ملاحظة الصديقين لهذا سبب سرور عظيم، فقد لحظوا عناية الله بهم وتأديبه لهم، وغابوا بهما عن ألم الأنين الذي حل بهم، ولهذا قال الإمام على: (ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، ثم قال: (يا علي ما أصابكم من مرض أوعقوبة أوبلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه)(2)
وأذكر أني حينها قلت له: إني أرى البلاء لا ينزل على الأفراد فقط، بل هو يعدوها إلى المجتمعات، فهل هو من التأديب؟
فقال: أجل.. فإن الله برحمته ولطفه وحكمته يرسل تنبيهاته للمجتمعات حتى تعود إلى ربها وتتأدب بين يديه.
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]، ثم قال (3): إن كل هذا الفساد الذي ظهر على هذه الأرض، وشمل برها وبحرها، هو من صنع الناس، لأنهم هم الخلفاء عليها، وهم أصحاب الإرادات العاملة فيها.. إن كل ما على هذه الأرض من كائنات، إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها، دون أن تخرج عليها.. ولهذا كان كل نوع من الكائنات على طريق واحد، لا اختلاف فيه بين فرد وفرد.. والإنسان وحده،
__________
(1) البيهقي في شعب الإيمان (9356)
(2) مسند أبي يعلى (1/ 352)
(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 529)
القرآن.. والعزاء والشفاء (68)
هو الذي يعيش في الجماعة الإنسانية ذاتا مستقلة، لها تفكيرها، ولها أسلوبها في الحياة.. ومن هنا كان التغيير والتبديل في المجتمعات الإنسانية، وكانت الحروب الدائرة بينها، وكانت هذه الانحرافات والضلالات في العقائد والمعاملات، من كفر بالله، وكذب، وغش، وخداع، ونفاق.. إلى غير ذلك مما تمتلئ به دنيا الناس من مساوئ ومقابح.
ثم ذكر لي أن في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41] تنبيه إلى أن العلة في ذلك ليس الانتقام وإنما التأديب.
ثم استدل لذلك بقوله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ [النساء:147]، ثم قال (1): هذه الآية الكريمة من الآيات التي توجب حسن الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين: الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوّن السبيل على العبد حين رضي منه بقالته وحالته.
ثم قال (2): ربنا الكريم العظيم يخاطبنا في تلك الآية الكريمة، ويذكر لنا أنه لا حاجة له في عذابنا، فلا يشفى به غيظا ولا يدفع به ضررا، أو يستجلب به نفعا لأنه غني عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض، فإن زال بالإيمان والشكر، ونقى منه قلبه، تخلص من تبعته.. وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعم أولا فيشكر شكرا مبهما، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به.
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة في حالة شديدة، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ
__________
(1) لطائف الإشارات (1/ 380)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 581)
القرآن.. والعزاء والشفاء (69)
بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [لأنفال:53]، ثم قال (1): إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها.. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر.
وعندما سألته عن زيادة توضيح لما ذكره، قال: لقد وردت هذه الآية الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 52]، وتعني (2): أن عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك، في استمرارهم على الكفر والمعاصي، كعادة آل فرعون والذين مضوا من قبلهم، ثم فسر دأبهم فقال: ﴿كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 63] الدالة على توحيده، المنزلة على رسله، ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [غافر: 21] كما أخذ هؤلاء، ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 52] لا يغلبه في دفعه شيء.
ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي حل بهم، بسبب ذنوبهم وكفرهم لأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم فيبدلها بالنقمة، ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [لأنفال:53] أي: حتى يبدلوا ما بأنفسهم، من حال الشكر إلى حال الكفر، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية.
ثم ذكر لي أن هذه سنة اجتماعية قرآنية لا يمكن تخلفها، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في آية أخرى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 340)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 340)
القرآن.. والعزاء والشفاء (70)
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11]، أي (1): إن لهذا الإنسان الذي يسر القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار في ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس في وضح النهار، موكل به من قبل الله، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كل نفس يتنفسه، وكل خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. وقوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11].. أمر الله هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54] والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير الله، وحكمه، وقضائه في عباده.
فسألته عن سر الجمع بين ذكر الله تعالى لنعمة المعقبات الحفظة وتغيير الله للنعم بحسب أحوال عباده، فقال (2): في قوله تعالى في أول الآية: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11] ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من الله، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع في نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفية أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هي أشبه بالآلات المصورة، أو المسجلة.. تصور ما يقع، وتسجل ما يحدث، دون أن تتدخل في مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد.. ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 80)
(2) التفسير القرآني للقرآن (7/ 81)
القرآن.. والعزاء والشفاء (71)
ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه.. وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان حرية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه الله سبحانه وتعالى له.. فالناس يبذرون الحب.. والله سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرا..
ثم قال لي (1): وفي تعليق تغيير أحوال الناس بتغير ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هي جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها هي السلطان الآمر للإنسان، والموجه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيرت النفس اتجاه مسيرها، تغير تبعا لذلك سير الإنسان في الحياة.. وفي إضافة التغيير إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة الله سبحانه وتعالى هي التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هي التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير.. ومعنى هذا، أن إرادة الله سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل في محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، في محيط إرادة الله العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج في تحركها وعملها عن إرادة الله، كما قال تعالى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: 4]، وقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة في حالة شديدة، فقال لي: المحن آداب الله عز وجل لخلقه، وتأديب الله يفتح القلوب والأسماع والأبصار.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 82)
القرآن.. والعزاء والشفاء (72)
ثم قال: إن الله تعالى ليمتحن العبد، ليكثر التواضع له، والاستعانة به، ويجدد الشكر على ما يوليه من كفايته، ويأخذ بيده في شدته، وإن دوام النعم والعافية، يبطران الإنسان، حتى يعجب بنفسه، ويعدل عن ذكر ربه.
ثم أنشدني قول الشاعر:
لا يترك الله عبدا ليس يذكره... ممن يؤدبه أو من يؤنبه
أو نعمة تقتضي شكرا يدوم له... أو نقمة حين ينسى الشكر تنكبه
ثم قال: البلاء مدرسة من مدارس الله لتأديب عباده.. ألا تراهم يدربون الجنود بالجوع والعطش؟.. ألا ترى كيف درب الله تعالى موسى عليه السلام برعي الغنم.. ودرب يوسف عليه السلام بالسجن؟.. فكذلك رحمة الله اقتضت أن يذيقنا بعض البلاء ليتربى في نفوسنا ما يعجز الترف على تربيته.
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر:37]، ثم قال: من الأقوال في تفسيرها أن المراد بالنذر الأمراض (1)، وقد ورد في الحديث: (الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض)(2)
ثم قال (3): وقد ورد في الآثار ما يدل على هذا المعنى، فقد روي أن بعض الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت عليه السلام: أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغير السمع والبصر، فإذا لم يتذكر من نزل به ولم يتب، فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولا بعد رسول ونذيرا بعد نذير؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي
__________
(1) القرطبي: 14/ 354.
(2) المرض والكفارات لابن أبي الدنيا (ص 73)
(3) ذكره القرطبي في التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (199)
القرآن.. والعزاء والشفاء (73)
ليس بعدي نذير، فما من يوم تطلع فيه شمس ولا تغرب إلا وملك الموت ينادي: يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة وأعضاؤكم قوية شداد.. يا أبناء الخمسين قد دنا وقت الأخذ والحصاد.. يا أبناء الستين نسيتم العقاب وغفلتم عن رد الجواب فما لكم من نصير: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ [فاطر:37]
أذكر أني سألته حينها قائلا: ما وجه كون التذكير بهذا نعمة؟
فقال: إذا علم المؤمن بقرب أجله سارع إلى المبادرة، قبل أن يفوت الأوان.. وليس ذلك فقط، بل إن البلاء في صوره المؤلمة يجعل صاحبه يقلع عما هو فيه من الغي، فلا يلقى الله وهو في سكرات غيه.
ثم حكى لي عن بعضهم قوله: إن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من وفيات هنا وهناك، تقطر ذلك الألم المرير إلى نفس كل إنسان، وتنذره دوما بمصيره المحتوم، فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيم معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم ذلك العذاب الأليم (1).
ثم قال لي (2): أيها المسكين الشاكي من المرض.. إن المرض يغدو كنزا عظيما لبعض الناس، وهدية إلهية ثمينة لهم.. وباستطاعة كل مريض أن يتصور مرضه من هذا النوع، حيث أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الأجل مجهولا وقته، إنقاذا للإنسان من اليأس المطلق أو من الغفلة المطلقة، وإبقاء له بين الخوف والرجاء، حفظا لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الخسران.. أي أن الأجل متوقع مجيئه كل حين، فإن تمكن من الإنسان
__________
(1) الكلمة الثالثة عشرة، ص 158
(2) اللمعة الخامسة والعشرون: 326.
القرآن.. والعزاء والشفاء (74)
وهو سادر في غفلته يكبده خسائر فادحة في حياته الأخروية الأبدية.. فالمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكر بالآخرة ويستحضر الموت في الذهن فيتأهب له.. بل يحدث أن يربحه ربحا عظيما، فيفوز خلال عشرين يوما بما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة.
وكعادة معلمنا الكاظم في ضرب الأمثال، فقد حكى لي مثالا رائعا، قال فيه (1): كان هناك فَتَيان ـ يرحمهما الله ـ ورغم كونهما أميين من بين طلابي، فقد كنت ألحظ بإعجاب موقعهما في الصف الأول في الوفاء والصدق وفي خدمة الايمان، فلم أدرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت أنهما كانا يعانيان من دائين عضالين، وبإرشاد من ذلك المرض أصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم، فنسأل الله أن تكون سنتا المرض والمعاناة اللتان قضياهما في الحياة الدنيا قد تحولتا الى ملايين السنين من سعادة الحياة الأبدية.
ثم سكت برهة، وقال (2): ومالي أذهب إلى أصحابي.. سأحدثك عن نفسي.. حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدها قد اعتلت أيضا فاتفقت الشيخوخة والمرض معا على شن الهجوم علي، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عني.. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت أن عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثت صائحا مثلما صاح نيازي المصري:
__________
(1) اللمعة الخامسة والعشرون: 326.
(2) اللمعة السادسة والعشرون: 345.
القرآن.. والعزاء والشفاء (75)
ذهب العمر هباء، لم أفز فيه بشيء
ولقد جئت أسير الدرب، لكن
رحل الركب بعيدا وبقيت
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني مرة حزينا متألما، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155 ـ 157]، ثم قال لي: لقد أخبر الله تعالى عن صلاته ورحمته بهؤلاء الصابرين، فهل تعرف معنى ذلك وقيمته؟
فأجبته بالنفي، فقد كنت أمر على هذه الآية الكريمة مرور الكرام، من غير أن أتأمل معناها أو أعيشه، فقال لي: هذا الجزاء هو فوق الأجزية.. بل لا تعدله أي جائزة أخرى.
فسألته عن سبب ذلك، فقال: لأن صلاة الله على عباده تعني تقريبه لهم، وهو ما يعني تطهيرهم وتأديبهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الحجاب إلى المشاهدة، وهل هناك جزاء أعظم من ذلك؟
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ [الأحزاب:43]، وقال: البلاء نافذة عظيمة من نوافذ التعرف على الله والتقرب منه، والتعرف على الله هو النور الذي يرفع كل الظلمات، والحق الذي يقضى به على كل باطل.
ثم ذكر لي الحكمة التي تقول: (إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها أن قل عملك؛ فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك.. ألم تعلم أن التعرف هو مورده
القرآن.. والعزاء والشفاء (76)
عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك)(1)
وعندما طلبت منه توضيحها قال لي (2): إذا تجلى لك الحق تعالى باسمه الجليل أو باسمه القهار وفتح لك منها بابا ووجهة لتعرفه منها، فاعلم أن اللّه تعالى قد اعتنى بك، وأراد أن يجتبيك لقربه ويصطفيك لحضرته، فالتزم الأدب معه بالرضا والتسليم وقابله بالفرح والسرور ولا تبال بما يفوتك بها معها من الأعمال البدنية، فإنما هي وسيلة للأعمال القلبية، فإنه ما فتح هذا الباب إلا وهو يريد أن يرفع بينك وبينه الحجاب.. ألم تعلم أن التعرفات الجلالية هو الذي أوردها عليك لتكون عليه واردا، والأعمال البدنية أنت مهديها إليه لتكون إليه بها واصلا، وفرق كبير بين ما تهديه أنت من الأعمال المدخولة والأحوال المعلولة وبين ما يورده عليك الحق تعالى من تحف المعارف الربانية والعلوم اللدنية.
ثم قال لي (3): فطب نفسا أيها المبتلى بما ينزل عليك من هذه التعرفات الجلالية والنوازل القهرية، ومثل ذلك كالأمراض والأوجاع والشدائد والأهوال وكل ما يثقل على النفس ويؤلمها كالفقر والذل وإذية الخلق وغير ذلك مما تكرهه النفوس، فكل ما ينزل بك من هذه الأمور فهي نعم كبيرة ومواهب غزيرة تدل على قوة صدقك إذ بقدر ما يعظم الصدق يعظم التعرف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أشدّكم بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل)(4)
ثم قال لي (5): إذا أراد الله أن يطوي مسافة البعد بينه وبين عبده سلط عليه البلاء حتى إذا تخلص وتحرر صلح للحضرة كما تصفي الفضة والذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك، ولذلك ما زال الصالحون يفرحون بهذه النوازل، ويستعدون لها في كسب المواهب،
__________
(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 45.
(2) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 45.
(3) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 46.
(4) عبد بن حميد (146)، والدارمي (2783) عن أبي نعيم، والحاكم 1/ 41.
(5) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.
القرآن.. والعزاء والشفاء (77)
وقد كان بعض شيوخنا يسميها ليلة القدر، ويقول: (كل الخيرة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر)، وذلك لأجل ما يجتنيه العبد منها من أعمال القلوب التي الذرة منها أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
ثم قال لي (1): اعلم أن هذه التعرفات الجلالية هي اختبار من الحق، ومعيار للناس، وبها تعرف الفضة والذهب من النحاس.. فكثير من المدعين يظهرون على ألسنتهم المعرفة واليقين، فإذا وردت عليهم عواصف رياح الأقدار ألقتهم في مهاوي القنوط والإنكار.. ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.. والعجب كل العجب ممن يطلب معرفة اللّه ويحرص عليها فإذا تعرف له الحق تعالى هرب منه وأنكره.
ثم ذكر لي أقسام الناس تجاه هذا النوع من التعرفات الجلالية، وهي ثلاثة: قسم عقوبة وطرد.. وقسم تأديب.. وقسم زيادة وترقّ.
وقد سألته عن أولها، فقال (2): ذلك جزاء من يسيء الأدب فيعاقبه الحق تعالى، ويجهل فيها فيسخط ويقنط وينكر، فيزداد من اللّه طردا وبعدا.
وسألته عن الثاني، فقال: هو الذي يسيء الأدب فيؤدبه الحق تعالى، فيعرفه فيها وينتبه لسوء أدبه وينهض من غفلته فهي في حقه نعمة في مظهر النقمة.
وسألته عن الثالث، فقال: هو الذي تنزل به هذه التعرفات من غير سبب، فيعرفه فيها ويتأدب معها ويترقى بها إلى مقام الرسوخ والتمكين.
ثم قال لي (3):إذا أردت أن يسهل عليك الجلال فقابله بضده وهو الجمال، فإنه ينقلب جمالا في ساعته، وكيفية ذلك أنه إذا تجلى باسمه القابض في الظاهر، فقابله أنت بالبسط في
__________
(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.
(2) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.
(3) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.
القرآن.. والعزاء والشفاء (78)
الباطن فإنه ينقلب بسطا، وإذا تجلى لك باسمه القوي فقابله أنت بالضعف، أو تجلى باسمه العزيز فقابله بالذل في الباطن.. وهكذا يقابل الشي ء بضده قياما بالقدرة والحكمة.
ثم حكى لي عن بعض شيوخه أنه قال (1): ما هي إلا حقيقة واحدة إن شربتها عسلا، وجدتها عسلا، وإن شربتها لبنا، وجدتها لبنا، وإن شربتها حنظلا وجدتها حنظلا، فأشرب المليح ولا تشرب القبيح.
__________
(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 47.
القرآن.. والعزاء والشفاء (79)
ثانيا ـ القرآن.. وعزاء الفقراء
هذه هي المشاهد الأربعة التي تعلمت فيها بعض ما ورد في القرآن الكريم من العزاء الخاص بالمبتلين والمتألمين والمرضى.. وهي تشمل غيرهم أيضا.
بالإضافة إليها وجدت في تلك البلدة المملوءة بالبصيرة والسلوى معاني أخرى ترتبط بالعزاء والشفاء.. وكان منها هذه المشاهد الخاصة بعزاء الفقراء.
وأولها المشهد الذي رأيت فيه نعمة الافتقار والاضطرار رأي العين، وقد بدأ هذا المشهد بعد خروجي من مقهى التدريب والتذكير، حينها رأيت كهلا يحمل على ظهره بعض الحطب، وهو يقول لي: هل يمكنك أن تعينني إلى حمله خارج أطراف البلدة.. فمسكني هناك؟
قلت: تمنيت لو تمكنت من ذلك، لكني مشغول بمهمة كُلفت بها، ولذلك لا أستطيع أن أترك أقلامي وقراطيسي لأحمل معك حطبك، ولو كنت في وضع آخر لسعيت إلى ذلك من دون تردد.
أخرج لي كيسا من جيبه، وقال: ضع أقلامك وقراطيسك هنا.. ثم سر معي.. فتلاميذ القرآن لا يرفضون أي دعوة مهما كانت الظروف.
عندما ذكر لي تلمذتي للقرآن الكريم استحييت من نفسي، وتذكرت كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رسول رب العالمين صاحب المهام والتكاليف الكثيرة، ومع ذلك كان يحمل عن الكّل كَله، من دون أن يصرفه عنه ما كلف به.
القرآن.. والعزاء والشفاء (80)
وقد شاء الله أن يكون ذلك الحمال صاحب أول مشهد من مشاهد العزاء الخاص بالفقراء والمحتاجين.. وهو مشهد الافتقار والاضطرار.
وقد بدأ حواري معه بعد أن رأيته يعلق على جبهته قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق:6 ـ 7]، فتعجبت من وضعه لها، فسألته عنها، فقال: هذه الآية الكريمة هي المفتاح الذي بدأت به حياتي الجديدة، والتي منّ الله علي بها بعد لقائي بمعلمنا الكاظم.. وهي أول ما سمعته منه من القرآن الكريم، وبعدها صار المصحف رفيقي الدائم، بل صار أشد ضرورة لي من الهواء الذي أتنفسه، والماء الذي أشربه.
قلت: عهدي بهذه الآية الكريمة تتلى على الطاغين المستكبرين، لا على المتواضعين من أمثالك.
قال: أنت تراني الآن فقيرا متواضعا.. لكني لم أكن كذلك قبل لقائي بمعلمنا الكاظم.. كنت حينها غنيا مترفا مستكبرا متجبرا.. وقد ظلمت أهل البلدة جميعا، بعد أن استوليت على أموالهم وأراضيهم، ثم سخرتهم في خدمة جشعي.. وحينها جاء معلمنا الكاظم بنفسه، ومن دون أن يحمل أي سيف أو عصا، بل كان يحمل المصحف فقط.. وراح يذكرني بالله، ويقرأ لي القرآن الكريم، ويعلمني من الحكمة ما جعلني أتنازل عن كبريائي، وأرجع لأهل البلدة أراضيهم، بل دفعت لهم لأجل إبراء ذمتي كل ما لدي من المال، واكتفيت من الحياة بما تراه الآن مني.
قلت: لقد كان في إمكانك أن تحتفظ ببعض المال، لتعيش حياة أرفه وأسعد.
قال: لقد رأيت ما فعله البطر والرفاه بي، فصرت أتحسس منه.. خشية أن أعود إلى ما كنت عليه.
قلت: فهلا حدثتني عن لقائك بمعلمك الكاظم، وكيف استطاع أن يؤثر فيك كل
القرآن.. والعزاء والشفاء (81)
ذلك التأثير؟
قال: لقد صرت بحمد الله بعد ذلك المجلس أحد تلاميذه المقربين.. ونلت منه علوما ومواجيد كثيرة.. لكني لن أحدثك منها إلا بما أُذن لي فيه.
قلت: وما أذن لك فيه.
قال: الافتقار والاضطرار، فهما أول نعم الله على الفقراء والمساكين والمحتاجين.. لكن منهم من يرى هذه النعمة، ومنهم من لا يراها، بل يفضل عليهم البطر والتجبر والتكبر.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد أخبر الله تعالى بأن رؤية الإنسان لغناه، تجعله طاغية ظالما متعديا لحدوده، ولذلك يكون الافتقار، وكل ما يؤدي إليه نعمة من النعم تخلص الإنسان من الطغيان، وتعيده إلى وضعه الطبيعي.
وقد ذكر لي معلمي الكاظم ما ورد في القرآن الكريم مما يدل على اعتباره سنة من السنن التي لا تبديل لها.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى:27]، وقد قال لي بعد قراءته للآية الكريمة (1): إن عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته.. ثم ذكر لي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله يحمي عبده المؤمن ـ أي: مما يضره الدنيا وغيرها ـ كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (5/ 216)
القرآن.. والعزاء والشفاء (82)
الهلكة)(1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء)(2)
وعندما سألته عن مزيد توضيح، قال (3): المراد ببسط الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج، بل كل إنسان مكفول له الرزق الواسع، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره، ويبدو في ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد مجتمع سعيد، يعيش في رفه ورغد، ويحيا في سلام وأمن.. إذ ماذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسد مطالبه وتقضى حوائجه.. ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى ـ إذا كان له وجود ـ تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كل حاجة الإنسان في أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحب التملك والسلطان.. والإنسان في سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسد جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه، فهو لا يرضيه أبدا أن يكون في مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو في سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع.
ثم قال لي بأسف وحزن (4): وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هي موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتص
__________
(1) البيهقي فى شعب الإيمان (ح 10451)
(2) الترمذي (3036) والبيهقي فى الشعب (ح 1450)
(3) التفسير القرآني للقرآن (13/ 53)
(4) التفسير القرآني للقرآن (13/ 54)
القرآن.. والعزاء والشفاء (83)
البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس في أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء، لا لشيء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. كما قال الشاعر العربي الجاهلى، الذي ضرب المثل بقبيلة (بكر) حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت:
إن الذئاب قد اخضرت براثنها... والناس كلهم بكر إذا شبعوا
ثم قال (1): فكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم، فوسع على بعض، وضيق على بعض، حتى يعمر الكون، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، وحتى يشغلوا بمطالب العيش، وحتى يكون في هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على بعض إلى السعى والعمل في وجوه الأرض.. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى في طلب الرزق، لكان شغلهم كله، هو البغي والعدوان.. فالذين بسط الله سبحانه وتعالى لهم الرزق، هم غالبا مثار بغى وعدوان، وقليل منهم من يشكر الله، ويذكر فضله، فيرعى حق الله فيما خوله من نعم، وبسط له من رزق.
وعندما طلبت منه أن يضرب لي مثلا على ذلك قال (2): لقد ضرب الله سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم، بقارون، فقد قال تعالى في حقه: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: 76]، كما ضرب مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود عليه السلام، حيث قال تعالى على لسان أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 55)
(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 55)
القرآن.. والعزاء والشفاء (84)
الْخِطَابِ﴾ [ص: 23]
وعندما سألته عن قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: 27]، قال (1): أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ [العنكبوت: 62]، ولهذا عقب الله تعالى عليها بقوله: ﴿إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]، وفي ذلك إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده، لأنه خبير عليم بهم، بصير مقدر لما هو أصلح لهم.. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا في الأرض، ولما صلح لهم أمر فيها.
ثم قال (2): وفي هذا التقدير في توزيع الرزق بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس، أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، ولا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين ونماء رزقهم على ذلك، فإن هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة، وهي سنة الابتلاء والامتحان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15] وسنة أخرى وهي سنة المكر والاستدراج، كما قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: 44 ـ 45].. فسنة الإصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [آل عمران: 154]، أو يغير النعمة ويكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]
أذكر أني حين قال هذا سألته قائلا: لكن يا معلمنا.. لو كان تقسيم الأرزاق وفق هذه السنن، فلماذا إذن نرى أشخاصا لهم رزق وفير، وقد أفسدوا وطغوا كثيرا في الدنيا، ولم
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 55)
(2) تفسير الميزان، ج: 18، ص: 56 ـ 57.
القرآن.. والعزاء والشفاء (85)
يمنعهم الخالق، سواء على مستوى الأفراد، أو الدول الناهبة والظالمة؟
وقد أجابني بقوله (1): إن بسط الرزق أحيانا قد يكون أسلوبا للامتحان والاختبار، لأن جميع الناس يجب أن يُختبروا في هذا العالم، فقسم منهم يختبرون بواسطة المال، وقسم يختبرون في صحتهم، وآخرون يختبرون في محال أخرى.. ولذلك قد يكون بسط الرزق لبعض الأفراد لكي يعلموا بأن الثروة لا تجلب السعادة، فعسى أن يعثروا على الطريق ويرجعوا إلى خالقهم، ولذلك نرى بعض المجتمعات غرقى بأنواع النعم والثروات، وفي نفس الوقت شملتهم مختلف المصائب والمشاكل، كالخوف، والقتل، والتلوث الخلقي، والقلق بأنواعه المختلفة.. فأحيانا تكون الثروة غير المحدودة نوعا من العقاب الإلهي الذي يشمل بعض الناس، فإذا نظرنا إلى حياتهم من بعيد نراها جميلة، أما إذا تفحصناها عن قرب فسوف نشاهد التعاسة بأدنى حالاتها.
حينها سألته متعجبا: هل يعني هذا أنه متى ما كان الإنسان فقيرا، فإن عليه ألا يسعى للتوسع في الرزق، لأن الله تعالى جعل مصلحته في هذا الفقر؟
فأجابني بقوله (2): إذا كانت قلة الرزق بسبب كسل الإنسان وتهاونه، فإن هذا النقص والحرمان ليس ما يريده الله حتما، بل بسبب أعماله، ولهذا، فإن القرآن الكريم يدعو الجميع إلى الجهد والجهاد والمثابرة.. ولكن عندما يبذل الإنسان منتهى جهده، ورغم ذلك تُغلق الأبواب في وجهه، فعليه أن يعلم بأن هناك مصلحة معينة في هذا الأمر، فلا يجزع، ولا ييأس، ولا ينطق بالكفر، ويستمر في محاولاته ويستسلم لرضا الله تعالى.
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 529)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 530)
القرآن.. والعزاء والشفاء (86)
في طريقنا مررنا على شجرة، وأمامها بعض الحجارة، فطلب مني الحمال أن نجلس قليلا، فجلسنا، ثم راح يواصل حديثه قائلا: لقد كنت كثير السؤال لمعلمنا الكاظم، وكان يجيبني برحابة صدر، ولم يضق بأسئلتي أبدا على الرغم من أني كنت حينها متعجرفا مستكبرا، لم أرد للناس حقوقهم.. ولا تبت من استغلالي لأراضيهم بغير حق.
وأذكر من أسئلتي حينها قولي له: لماذا لم تُهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟
وقد أجابني حينها بقراءة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21]، ثم قوله (1): في هذه الآية الكريمة يخاطبنا ربنا ويقول لنا: ليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك، وإنما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون، ولكن الحكمة اقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعا لحساب دقيق، حتى الأرزاق إنما تنزل إليكم بقدر..
ثم قال لي (2): من عرف أن خزائن الأشياء عند الله تقاصرت خطاه عن التردد على منازل الناس في طلب الإرفاق منهم، وسعى في الآفاق في طلب الأرزاق منها، قاطعا أمله عن الخلق، مفردا قلبه لله متجردا عن التعلّق بغير الله..
ثم قال (3): عرف القسمة من استراح عن كد الطلب فإن المعلوم لا يتغير، والمقسوم لا يزيد ولا ينقص، وإذا لم يجب عليه شيء لأحد فبقدرته على إجابة العبد إلى طلبته لا يتوجب عليه شيء، ولهذا يقال: أراح قلوب الفقراء من تحمل المنة من الأغنياء مما يعطونهم، وأراح الأغنياء من مطالبة الفقراء منهم شيئا، فليس للفقير صرف القلب عن الله سبحانه
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (8/ 52)
(2) لطائف الإشارات (2/ 267)
(3) لطائف الإشارات (2/ 267)
القرآن.. والعزاء والشفاء (87)
إلى مخلوق واعتقاد منة لأحد، إذ الملك كله لله، والأمر بيد الله، ولا قادر على الإبداع إلا الله.
بعد أن استرحنا قليلا تحت ظل الشجرة، وقف الحمال، وقال: هيا بنا نكمل المسير، وسأقص عليك بعض ما ذكره لي معلمنا الكاظم.
قلت: أرى أن الطريق صعبة جدا، فكيف تتحملها؟
قال: منذ امتلأت بالمعاني التي ملأ معلمي الكاظم بها قلبي صرت أراها كالجنة، بل أسجد لله تعالى شكرا لأنه جعلني أسير هذه الطريق الصعبة، بدل تلك الطريق التي كنت أسير عليها، والتي كانت نهايتها جهنم.
قلت: ولكني أراها طريقا مليئة بالحجارة القاسية.
قال: ولكني أراها مثل الزهور والرياحين.. فالله تعالى حماني بهذه الطريق من أن أصبح وقودا للنار، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]؟.. لقد اخترت عمدا أن أمر كل يوم على هذه الطريق، حتى أتذكر هذه الآيات الكريمة، فترتدع نفسي عن كل ما قد ينحرف بها.
قلت: لكن ذلك متعب شاق؟
قال: وهو كذلك محدود من كل الجهات.. من جهة محله.. أو من جهة الزمن الذي يستمر فيه؛ فالله تعالى برحمته لم يبتل مني في هذا السير الشاق إلا أعضاء محدودة، أو محال محدودة، ورزقني بدله من العوض ما يهون علي ذلك الألم، أو ما أستأنس به بدل ذلك المفقود.
القرآن.. والعزاء والشفاء (88)
أذكر أني كنت مرة عند معلمي الكاظم، وكانت المرة التي أعلنت فيها توبتي بين يديه، وقد كان يردد حينها قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء:104]، ثم قال مخاطبا أصحابه (1): القوم شاركوكم في إحساس الألم، ولكن خالفوكم في شهود القلب، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون، فلا ينبغى أن تستأخروا عنهم في الجد والجهد.
ثم قال (2): لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم، ولا تفشلوا عن السير إلى حضرة ربكم، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها، فإنها تألم مثلكم، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم، فإذا ارتاضت وتحلت صار المر عندها حلوا، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها، فدوموا على سياستها ورياضتها، فإنكم ترجون من الله الوصول، وبلوغ المأمول، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات، فاعكسوا مراداتها، حتى تطمئن في حضرة ربها، فتأمن غوائلها، فليس بعد الوصول رجوع، ولا إلى العوائد نزوع، والله غالب على أمره.
وقد سأله بعضهم حينها قائلا: ما وجه الإشارة في الآية الكريمة؟
فقال: لقد رزق الله المؤمنين الرجاء عوضا عن الألم الذي أصابهم، وهو ما يخفف من حدة البلاء، ويجعله محدودا لا يتجاوز إلى أرواحهم التي هي محل الرجاء.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155]، وعقب عليها بقوله: فقد ذكر الله تعالى أن البلاء يكون بشيء من الخوف والجوع، أي بقليل منهما، وبنقص من الأموال والأنفس
__________
(1) لطائف الإشارات (1/ 359)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 556)
القرآن.. والعزاء والشفاء (89)
والثمرات، أي ذهاب بعضها فقط وبقاء البعض الآخر.
ثم قال: إن الله تعالى ذكر في الآية أمرين: ذكر الابتلاء بصيغة المحدودية، وذكر التبشير بصيغة الإطلاق، فلم يحدد الجوائز المرتبطة بالبشارة.. وذلك لينمحق البلاء في البشارة، بالإضافة إلى انمحاقه في محدوديته.
ثم ضرب لنا مثالا على ذلك، فقال: إذا جاز أن نمثل البلاء بشيء، فإن أقرب شيء إليه هو الحفرة التي تدمل الأرض بالجراح.. فإذا كانت الحفرة محدودة من حيث حجمها، ثم ملأناها بأكياس.. لا من الرمل.. بل من الذهب الخالص.. بل بما هو أشرف من الذهب وأغلى قيمة.. أيبقى للحفرة وجود؟
قلنا: لو أن الأمر كذلك لتمنى صاحب الحفرة أن تكون حفرته أخدودا عظيما، بل بحرا عميقا، بل محيطا لا حدود له.
قال: الأمر كذلك.. ولكنكم لا تبصرون.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة:124]، ثم عقب عليها بقوله: لقد أخبر الله تعالى بأنه ابتلى إبراهيم عليه السلام بكلمات، أي ببعض البلاء، لا بكل البلاء، ومثل ذلك ما ذكر من أنواع البلاء التي حصلت للأنبياء عليهم السلام، فهي كلها من البلاء المحدود، والذي ينتهي غالبا بالفرج والتوسعة.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، ثم قال: لقد أخبر الله تعالى أن من أسباب المصائب الذنوب، وأنه برحمته لا يعاقب على كل الذنوب، بل لو عاقب عليها لما ترك على ظهرها من دابة، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر:45]
القرآن.. والعزاء والشفاء (90)
ثم قال: أنتم ترون أن كل بلاء الدنيا من مرض وفقر وحاجة يصبح محدودا غاية المحدودية عندما ننظر بهذه النظرة.. لأننا لا نقارنه ببلاء مثله، وإنما نقارنه بقدرة الله التي لا تحد، مع مشيئته النافذة في خلقه، فالله مع كونه ابتلانا إلا أنه ابتلانا بشيء محدود لا قيمة له بجنب ما صرفه عنا.
ثم حكى لنا حكاية رجل الصالح، فقال (1): كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحا فقال: عسى أن يكون خيرا، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيرا، ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال عسى أن يكون خيرا، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدره الله تعالى.
ثم قال لنا: فقد كانت هذه المصائب كبيرة لحظة نزولها، لكنها كانت بدلا عن مصائب أكبر، فنابت المصائب الصغيرة عن الكبيرة.
ثم قرأ علينا قوله تعالى في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام حين خرق السفنية، كما قال تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف:79]، ثم قال: لقد كانت هذه المصيبة صغيرة، وأقل بكثير من أن يسلبوا السفينة، وهكذا حين قتل الغلام، وهي مصيبة كبيرة في نفسها، لكنها صغيرة إذا ما قورنت بنتيجتها، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 349)
القرآن.. والعزاء والشفاء (91)
فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ [الكهف:80 ـ 81]
قال ذلك، ثم نظر إلي، وأنا لا أزال على حالتي من التعنت والكبر، وقال: ولذلك فإن الصالحين يعتبرون أن من نعم الله تعالى عليهم في البلاء والفاقة أنها كانت في الدنيا، ولم تكن في الدين.. وكانت في الجسد، ولم تكن في الروح.. وتعلقت بالدنيا، ولم تتعلق بالآخرة.
ثم قال: لا يفقه سر هذا إلا من عرف نسبة الدين إلى الدنيا، ونسبة الروح إلى الجسد، ونسبة النشأة الأولى إلى النشأة الآخرة..
ثم ضرب لنا مثالا يقرب لنا هذا، فقال: صاحب المطية الذي تعرض لحادث، مات فيه من مات لكنه نجا، وتأثرت مطيته، فإن هذا وإن تأسف على ما أصابها، إلا أنه يحمد الله على أن المصيبة حلت بالمطية، ولم تحل به.
ثم قال (1): إن المصيبة التي تعد مصيبة حقا والتي هي مضرة فعلا، هي التي تصيب الدين، فلابد من الالتجاء الى الله سبحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع.. أما المصائب التي لاتمس الدين فهي في حقيقة الأمر ليست بمصائب، لأن قسما منها تنبيه رحماني يبعثه الله سبحانه الى عبده ليوقظه من غفلته.. أما القسم الآخر من المصائب فهو كفارة للذنوب، وقسم آخر أيضا من المصائب هو منحة إلهية لتطمين القلب وإفراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسان، وإشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.
ثم قال لنا: وهناك ناحية أخرى مهمة يمكن الاعتبار منها هنا تخفف من البلاء وتجعله محدودا، بل تكاد تلغيه.. وهي محدودية آلام الدنيا مهما عظمت بآلام الآخرة ومصائبها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا
__________
(1) اللمعة الثانية: ص 16.
القرآن.. والعزاء والشفاء (92)
يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء:25 ـ 207]، أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأمهلناهم برهة من الدهر وحينا من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم؟.. لأنهم في ذلك الحين يدركون قصر عمر الدنيا التي كانوا يتفانون من أجلها.
ثم قرأ علينا ما يؤكد ذلك من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغ﴾ [الاحقاف:35]، وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات:46]
ومثله ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك من نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)(1)، فلحظة واحدة في الجنة تنسي أشد الناس بؤسا في الدنيا كل ما عاناه فيها.
ما إن وصل الحمال في حديثه إلى هذا الموضع حتى بدا لنا مسكنه البسيط المتواضع، وقد رأينا أمامه جمعا من الناس، ينتظرونه.. لكنه عندما رآهم تغير تغيرا شديدا، فتصورت أن هؤلاء دائنين، يشبهون ذلك الذي دق علي باب بيتي بقسوة.. لكني علمت أن الأمر مختلف عن ذلك تماما.. وهنا يبدأ المشهد الثاني من مشاهد العزاء والسلوي المرتبط بالفقراء
__________
(1) مسلم (8/ 135)
القرآن.. والعزاء والشفاء (93)
والمحتاجين.
سألته عنهم، فقال: هؤلاء هم الذين كنت قد ظلمتهم بأكل حقوقهم والاستيلاء على أراضيهم.. وكلما رأيتهم أتألم ألما شديدا.
قلت: ولكنك ذكرت أنك أرجعت لهم حقوقهم وأراضيهم.. فكيف ظلوا يطالبونك؟
قال: لا.. هم لا يطالبونني.. هم أكرم من ذلك.. إنما يأتون كل حين ليتفقدوني، ويقدموا لي مما منّ الله عليهم به من رزقه ما أجدني أتعفف عنه، ولا أحتاج إليه، لكنهم يصرون علي أن أقبل منهم.. بل يعتبرونه حقا لي.
عندما وصلنا إليهم، بادروا بتحيته ومعانقته بحرارة شديدة، ثم قال أحدهم، وهو أكبرهم: أرجو ألا تلومنا، فنحن نعمل بوصايا معلمنا الكاظم.. أم أنك تعتبره معلمك وحدك؟
قال: معاذ الله.. فأين أنا وأين أنتم.. فأنتم السابقون، وأنا الضعيف المقصر اللاحق بكم؟
قالوا: لكنك سبقتنا.. وأنى لنا أن ندركك.. وقد سمعنا من معلمنا من الثناء عليك ما جعلنا نغبطك، بل نتبرك بك.
لم يجد الحمال ما يقول، لكنه أدخلهم بيته، وقدم لهم بعض اللبن، ثم شكرهم على ما قدموه له من الهدايا، ثم قال: أعظم هدية تقدمونها لي أن تُسمعوني بعض ما فاتني من كلام معلمنا الكاظم، ليسمعه معنا تلميذ القرآن، ويسجله لقومه.
قال أحدهم: أجل.. وما جئنا إلا لذلك، فقد علمنا بتشرفه بالحضور إلى بيتك.
القرآن.. والعزاء والشفاء (94)
قال آخر: لقد كان معلمنا يعزينا كثيرا بذكر المقارنات بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ويقول لنا: الفقير الحقيقي هو الذي يبقى أبد الآباد على فقره، أما الذي يفتقر لسنين معدودة، ثم يتحول إلى الغنى الأبدي، فهو ليس فقيرا، بل هو الغني الحقيقي.
وكان يستشهد لنا على ذلك بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:156]، وعندما سألناه عن وجه الإشارة فيها، قال: كلمة الاسترجاع تحمل دلالة عظيمة على محدودية الحياة الدنيا، والبلاء المرتبط بها؛ فالمؤمن المبتلى عندما يتذكر أنه سيرجع إلى ربه، وستنتهي برجوعه كل أصناف البلايا.. يحس بعزاء عظيم.
ثم ضرب لنا مثالا على ذلك، فقال: أرأيتم لو أن مسجونا سجن أياما معدودة.. وكان آمر السجن رحيما، فكان يرسل له كل يوم من يملؤه بالبشر، ويقول له: (إن هي إلا أيام وتعود إلى أهلك ومالك) ألا يستبشر هذا المسجود ويستأنس؟.. قلنا: بلى.. قال: فالله تعالى المبتلي لم يرسل لنا من يؤنسنا بذلك، بل هو الذي ملأنا بالأنس، فأخبرنا برجوعنا إليه ليمسح عنا كل دمعة، ويبرئ لنا كل جرح.
ثم قال لنا: لهذا المعنى التفت السحرة إلى المدة التي يمكن لفرعون أن يعذبهم فيها، وقد وجدوها قصيرة لا تساوي شيئا أمام ما عند الله، فقالوا له عندما وضعهم في ذلك الخيار الصعب: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه:72]
ثم قال: ولهذا يعبر الله تعالى عن عذاب الآخرة وبلائها بكونه: ﴿أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه:127] ليملأ القلوب المتألمة بالأنس بانتهاء عذابها المحدود.
أذكر أني حينها قلت له: لا ـ يا معلم ـ فهي آية تخويف لا تأنيس.
فابتسم، وقال: هي تخويف وتأنيس.. هي كالزرع الذي يسقى بماء واحد، ويفضل
القرآن.. والعزاء والشفاء (95)
بعضه على بعض في الأكل، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد:4]، فذلك مطره النازل إلى الأرض، وهذا مطره النازل على القلوب.
ثم ذكر لنا ما حدث به الأحنف بن قيس قال: ما سمعت بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن من كلام أمير المؤمنين علي حيث يقول: (إن للنكبات نهايات، لا بد لكل أحد إذا نكب من أن ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها)(1)
قال آخر: بورك فيك أخي الكريم.. واسمحوا لي أن أسرد لكم بعض ذكرياتي مع معلمنا الكاظم.. لعلكم لا تعلمون أني قبل أن يمن الله علي بالهداية على يد معلمنا، كنت من المستغرقين في حب الدنيا، والحزن على ما فاتني منها، لدرجة أني تأثرت ببعض الطوائف التي تدعو إلى صراع الأغنياء مع الفقراء، وتصور التاريخ كله صراعا بينهما، وتلغي الأديان لأجل ذلك، وتعتبرها أفيونا للشعوب.
لكني ما إن جلست مع معلمنا، حتى تغيرت أفكاري تماما، وصرت أعيش السعادة بكل معانيها.. ذلك لأن الحياة الدنيا صغرت في عيني، وصار كل همي الدار الآخرة، وما أعد الله فيها للصالحين من عباده، ولهذا لم أعد أبالي بالغنى والفقر، ولا بالأغنياء وثرواتهم، ولم أعد أحسدهم عليها، لأن الدنيا أقل من أن يُحسد عليها.
__________
(1) شعب الإيمان (7/ 223)
القرآن.. والعزاء والشفاء (96)
لقد كان معلمنا يقوم بمقارنات كثيرة بين الدنيا والآخرة، ليرفع هممنا إلى الدار الآخرة.. وقد سمعته مرة يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 32]
وقد سألناه حينها عن سر وصف الحياة الدنيا باللعب واللهو، فقال (1): لأن كل شيء فيها يدل على ذلك.. فمدة اللهو واللعب قليلة سريعة الانقضاء والزوال، ومدة هذه الحياة كذلك.. واللعب واللهو لا بد وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره، ولذات الدنيا كذلك.. واللعب واللهو، إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور، وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور، لا يبقى اللعب واللهو أصلا، وكذلك اللهو واللعب، فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين، أما العقلاء والحصفاء، فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو، فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل، إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور، أما الحكماء المحققون، فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور، وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة.. بالإضافة إلى ذلك، فإن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة.. وكل هذا يدل على أن اللذات والأحوال الدنيوية مجرد لعب ولهو، وليس لهما حقيقة معتبرة.
ثم سألناه عن سر وصف الآخرة بكونها خيرا للمتقين، فقال (2): كل خيرات الدنيا مهما عظمت خسيسة، وكل خيرات الآخرة حتى لو قلت شريفة.. فخيرات الدنيا ليست إلا قضاء شهوات محدودة، وهي في نهاية الخساسة، بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان، فالجمل أكثر
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 515)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 515)
القرآن.. والعزاء والشفاء (97)
أكلا، والذئب أقوى على الفساد والتمزيق، والعقرب أقوى على الإيلام.. ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف، فكان يجب أن يكون الإنسان الذي وقف كل عمره على الأكل أشرف الناس، وأعلاهم درجة، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك، بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتا مستقذرا مستحقرا يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس، ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال ببعض شهواتهم يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس، وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص.
ثم قال لنا (1): ومما يؤكد ذلك أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعا وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر.. بالإضافة إلى أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء.
وعندما سألناه عن لذات الآخرة، قال (2): أول ما يدلكم على شرف تلك اللذات هي أنه حتى لو تساوت الدنيا والآخرة في الفضل والمنقبة، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في القيامة معلوم قطعا، وأما الوصول إلى الخيرات الموعودة في الدنيا فغير معلوم، بل ولا مظنون، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم، وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة، ثم أمسى أسيرا حقيرا.
ثم قال لنا (3): حتى لو فرضنا أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوما آخر في الدنيا، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا؟ أما كل ما
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 516)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 516)
(3) مفاتيح الغيب (12/ 516)
القرآن.. والعزاء والشفاء (98)
جمعه من موجبات السعادات، فإنه يعلم قطعا أنه ينتفع به في الدار الآخرة.. وحتى لو فرضنا أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خاليا عن شوائب المكروهات، وممازجة المحرمات المخوفات، ولذلك قيل: من طلب ما لم يُخلق أتعب نفسه ولم يرزق.. وحتى لو فرضنا أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل.
ثم أنشدنا قول الشاعر:
أشد الغم عندي في سرور... تيقن عنه صاحبه انتقالا
ثم قال لنا (1): بالإضافة إلى ذلك كله، فإن السعادات الروحانية سعادات شريفة عالية باقية مقدسة، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد تشرفت بالجلوس معه ذات يوم، وكنت حينها مستغرقا في الحياة منشغلا بها عن كل شيء، فقال لي (2): من وطّن النفس على الدنيا وبهجتها غرته بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها، ثم إنها تخفى الصّاب في شرابها، والحنظل في عسلها، والسراب في مآربها تعد ولا تفى بعداتها، وتوفى آفاتها على خيراتها.. نعمها مشوبة بنقمها،
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 516)
(2) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)
القرآن.. والعزاء والشفاء (99)
وبؤسها مصحوب بمأنوسها، وبلاؤها في ضمن عطائها، والمغرور من اغتر بها، والمغبون من انخدع فيها.
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، ثم قال (1): من اعتضد بعتاده، واغترّ بأولاده، ونسى مولاه في أوان غفلاته.. خسر في حاله، وندم على ما فاته في مآله.
ثم قال لي (2): زينة أهل الغفلة في الدنيا بالمال والبنين، وزينة أهل الوصلة بالأعمال واليقين.. فهؤلاء زينتهم لظواهرهم، وهؤلاء زينتهم لعبوديته، وافتخارهم بمعرفة ربوبيته.
وعندما استوضحته عما ذكره، قال (3): ما كان للنّفس فيه حظّ فهو من زينة الحياة الدنيا، ويدخل في ذلك الجاه وقبول المدح، وكذلك تدخل فيه جميع المألوفات والمعهودات على اختلافها وتفاوتها.. وكل ما كان للإنسان فيه شرب ونصيب فهو معلول.. إن شئت في عاجله وإن شئت في آجله.. ولذلك لا يبقى إلا ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ [الكهف: 46]، وهي ما كان خالصا لله تعالى غير مشوب بطمع، ولا مصحوب بغرض..
ثم قال (4): كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية لبقائهما كمالا فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه.
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
__________
(1) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)
(2) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)
(3) لطائف الإشارات، القشيري (2/ 398)
(4) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 275)
القرآن.. والعزاء والشفاء (100)
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]، وقال (1): في هذه الآية الكريمة يكشف الله تعالى عن الصورة الحقيقة لهذه الدنيا، التي ينخدع لها الناس، ويفتنون بها، ويبيعون من أجلها آخرتهم، ويقطعون بسببها كل صلة تصلهم بالله رب العالمين.. فهذه الدنيا، وما يموج فيها من ألوان الزخارف والمتع، وصور الجاه والسلطان، لا تعدو أن تكون زرعا، زها واخضر، وأزهر، وأثمر، ثم جاء الوقت الذي يُحصد فيه.. فإن لم يُحصد، قطعت الأرض صلتها به، فصار هشيما، وحطاما تذروه الرياح كما تذرو التراب، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45] فيخرج الحى من الميت، ويخرج الميت من الحى، ويقيم من الأرض الجديب جنات وزروعا، ويحيل الجنات والزروع إلى جدب وقفر.. وكذلك يخلق الناس من تراب، ثم يعيدهم ترابا، ثم يردهم بشرا سويا.
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني متأسفا على بعض ما فاتني من حطام الحياة الدنيا، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: 7، 8]، ثم قال (2): في هذه الآية الكريمة يكشف الله تعالى عن حقيقة الحياة الدنيا التي صرفت الغافلين عن النظر في آخرتهم، وأن هذا المتاع الذي في هذه الدنيا، إنما جعله الله سبحانه وتعالى زينة لها، حتى يكون للناس نظر إليها، واشتغال بها، وعمل جاد نافع فيها.. وفي هذا ابتلاء لهم، وامتحان لما يحصلون منها.. فالذين يأخذون حظهم من الدنيا ولا ينسون نصيبهم من الآخرة، هم الفائزون، والذين يجعلون
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 626)
(2) التفسير القرآني للقرآن (8/ 584)
القرآن.. والعزاء والشفاء (101)
الدنيا همهم، دون التفات إلى الآخرة، هم الذين خسروا أنفسهم، وباعوها بالثمن البخس.. فهذه الدنيا وما عليها، ومن عليها.. كل هذا إلى زوال، ولا يبقى من ذلك إلا ما ادخره المؤمنون المحسنون من زاد طيب في دنياهم، ليوم الحساب والجزاء.
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [القصص: 60، 61]، ثم قال (1): ربنا العظيم الكريم العالم بمصالحنا يقول لنا في هذه الآية الكريمة: أي شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياما قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، وما عند الله من النعيم الدائم في الدار الباقية ثوابا لأعمالكم خير من ذلك لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة..
ثم قال لي (2): ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا﴾ [القصص: 60] فهي مجرد حاجة طارئة تعيش مع الناس برهة من الزمن، فيما يستمتعون به منها من شهوات، وما يتزينون به من زينة، ثم تتبخر الشهوات مع الموت، فتموت، وتزول الزينة، مع كل غبار العمر ورياح الفناء.. ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الشورى: 36] لأنه النعيم الخالد في جنة الرضوان وفي رحمة الله ورضوانه، فليس هناك موت يفني النعمة، وليست هناك طوارئ تزيل الزينة وتفسدها، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: 138] لتفكروا كيف تختارون مواقعكم فيما تختارونه من مواقفكم، وكيف تميزون بين ما تبقى تبعته وتزول لذته، وبين ما يفنى تعبه وعناؤه ويبقى أجره وثوابه!؟
ثم قال (3): وليست المسألة هي أن تتركوا طيبات الحياة، كأساس للقرب عند الله،
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 265)
(2) من وحي القرآن (17/ 320)
(3) من وحي القرآن (17/ 321)
القرآن.. والعزاء والشفاء (102)
ولكن المسألة هي أن لا تتركوا الإيمان في فكره وحركته، لتأخذوا بالشهوات وتفضلوها عليه على أساس النظرة الحسية التي ترتبط بالأشياء بشكل مباشر من خلال السطح، بدلا من النظرة المعنوية الرسالية التي تنفذ إلى عمق الأمور، فتنفتح على الخير كله في رحاب الله.
ثم قال (1): ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ﴾ [القصص: 61] فيما أردناه منه من الإيمان والعمل الصالح والالتزام بالرسالة والرسول، ليحصل على الجنة والرضوان فيما يلتقيه في يوم القيامة، ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 61] فذاق من لذائذها وشهواتها، واستمتع بزينتها وزخارفها، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، وترك الإيمان وخط التقوى، ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [القصص: 61] الذين يقفون بين يدي الله ليحاسبهم على مواقفهم في الكفر والعصيان، فلا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا، فكيف يفكر هؤلاء الكافرون؟ وكيف يفضلون النتائج الزائلة على النتائج الدائمة!؟
قال آخر: ومثلكم أنا، فقد رآني متأسفا على الاستعلاء الذي يمارسه الأغنياء بسبب غناهم على الفقراء، وذل الفقراء أمام الأغنياء بسبب حاجتهم، فقرأ علي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 31 ـ 32]، ثم قال (2): إن هؤلاء الذين وصفتهم يشبهون هؤلاء الذين وصفتهم هاتين الآيتين الكريمتين، فهؤلاء الجاهلون الجاحدون قالوا: إن منصب الرسالة منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال
__________
(1) من وحي القرآن (17/ 321)
(2) تفسير المراغي (25/ 85)
القرآن.. والعزاء والشفاء (103)
عظيم الجاه، ومحمد ليس بذاك، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف، فأنكر الله عليهم ذلك وجهلهم وعجب من حالهم بقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: 32] أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم؟.. أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها؟ فهم ليسوا لها بأهل، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون.
ثم ذكر لي ما رد به الله تعالى على هذا الجهل الذي وقع فيه المشركون، فقال (1): لقد بين الله تعالى خطأهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32] أي إننا في هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوينا بينهم فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغير نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.. وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك في أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا في منصب الرسالة؟.. ثم علل ما سلف بقوله: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32] أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل، خير مما يجمعون من حطام الدنيا، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.
لست أدري كيف اعترضت عليه حينها، وقلت: ولكن مع ذلك يظل للدنيا جمالها
__________
(1) تفسير المراغي (25/ 86)
القرآن.. والعزاء والشفاء (104)
الذي لا نستطيع أن ننكره، قال: أجل.. ولكنه جمال لا يساوي شيئا أمام جمال الدار الآخرة، ولذلك قال تعالى رادا على الجاهلين الذين بنوا أحكامهم ومقاييسهم على الحياة الدنيا: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا﴾ [الزخرف: 33 ـ 35] أي (1): لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر، ويرغبوا فيه، إذا رأوا سعة الرزق عندهم، لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة، ومصاعد من فضة، وسررا من فضة، عليها يتكئون، وزينة في كل ما يرتفق به من شئون الحياة، ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد، سريعة الزوال، فهى متاع الحياة الفانية فقال: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 35] أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عد ولا إحصاء، أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي، وعمل بطاعته، وآثر الآخرة على الدنيا.
بهذا الحديث انتهى المشهد الثاني من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الثالث، والذي تعلمت منه المفهوم الحقيقي للغنى والثروة، وللأغنياء والأثرياء، وهو مفهوم قضى على كل تصوراتي البدائية نحوهما.
ويبدأ المشهد من دق شديد لباب بيت الحمال، حيث كنا نجتمع مع أولئك النفر الطيبين، فاستأذننا الحمال، ثم خرج، وعاد بعد فترة قصيرة، وهو يقول لنا: أظن أننا
__________
(1) تفسير المراغي (25/ 86)
القرآن.. والعزاء والشفاء (105)
محتاجون للذهاب إلى بيت جارنا، فقد سمع بكم، وطلب حضوركم إليه.. وهو جار كريم، وأنا لا أستطيع أن أرفض له أي طلب.
فسألوه عنه، فقال: إنه مضحك البلدة.. ذلك الذي يوزع الضحكات والابتسامات والنكات في كل محل يكون فيه.
لست أدري كيف نطقت حينها، وقلت: يمكنكم الذهاب، أما أنا فلا أظنني محتاجا لمن يضحكني أو يلقي علي النكت، فبين قومي منها الكثير.. وما حضرت إلى هنا إلا لأسجل العزاء والسلوى، لا الغفلة والضحك.
ابتسموا جميعا، وقال أحدهم: نعم هو مضحك البلدة، وزارع الابتسامات بين أهلها، ولكنه مع ذلك رجل صالح تقي.. يضحك أمام الناس، ويبكي إذا ما خلا مع ربه.
قال آخر: أجل.. هو لا يضحك الناس إلا احتسابا لوجه الله، لأنه يعلم الأجر العظيم الذي يناله من يدخل السرور على المؤمنين.
قال آخر: ولذلك كان معلمنا الكاظم يحبه كثيرا، ويستمع إلى نكاته ويضحك لها، ولم ينهه أبدا عن ترديدها.
عندما قالوا هذا لي، استحييت من نفسي، ثم خرجت معهم، لأفاجأ بما لم يكن في حسباني، فقد كان البيت الذي يسكن فيه هذا الذي ملأ حياته وحياة الناس ضحكا وابتسامة بيت متواضع جدا، وليس فيه شيء من الأثات ولا المتاع.. وكانت ثياب هذا المضحك أيضا بسيطة جدا ومتواضعة، وقد قلت في نفسي حينها: لو كان هذا الرجل بين قومي لما عرف فمه الابتسامة ولا الضحك.
لكنه عندما حدثنا عن ذكرياته مع معلمه، وحدثنا عن المعاني التي تحول إليها بعد صحبته له، عرفت السبب، وعرفت معه دور القرآن الكريم في ملأ حياة المؤمنين الصادقين
القرآن.. والعزاء والشفاء (106)
بالسعادة.
وقد بدأ المضحك حديثه بقوله: شكرا جزيلا لحضوركم.. والشكر الخاص لتلميذ القرآن الكريم.. وفي الحقيقة بمجرد أن سمعت أنه في بيتكم طلبت من ولدي أن يدعوه، ويدعوكم معه.. فربما تكون قصتي صالحة ومناسبة لما يكتبه.
ثم قال: لعل أكثركم لا يعلم أني في فترة حياتي السابقة، والتي لم أتشرف فيها بصحبة معلمنا الكاظم، كنت امرؤا شديد الاكتئاب، وكنت ثقيلا مع كل من أجلس إليه، لأني فشلت في كل المشاريع التجارية التي دخلت فيها، وسرعان ما أصابني الإفلاس، وأصابتني معه الكآبة.. لكن جلسات محدودة لي مع معلمنا غيرتني تماما.
فقد قال لي في أول جلوس لي معه: أرأيت إن كان لك جار.. هو فقير.. ربما يكون أفقر منك.. ثم جاء بجوهرة مغشوشة، فعلقها في جيد امرأته، أو جاءك بكنز يلمع كالذهب، ولكنه ليس ذهبا، ثم ذهب يتعالى عليك، ماذا كنت تفعل؟
قلت له حينها: أرحمه، أو أضحك عليه.
فقال: أكنت تتمنى أن يكون لك مثله؟
قلت: لا، لأنه لا يملك إلا السراب والهباء، ثم يغالط نفسه به.
قال: كيف يغالط نفسه به؟
قلت: لأنه إذا جاء وقت الحاجة لن يغني عنه ذهبه شيئا.
قال: إذن هو كذلك السراب الذي ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ [النور: 39]
قلت: أجل.. هو كذلك.
القرآن.. والعزاء والشفاء (107)
قال: فكل أغنياء العالم الذين تمتلئ قلوب الفقراء حسدا أو نقصا عند رؤاهم، هل تغنيهم أموالهم وذراريهم وقصورهم شيئا وقت الحاجة.
قلت: أما في الدنيا، فنعم.
قال: ما الدنيا إلا أيام تروح وتنقضي.. فبعد الدنيا.
قلت: لا تنفعهم، فلم أر أحدا تُدفن كنوزه معه.
قال: أرأيت لو دفنت كنوزه معه، هل تغني عنه من أمره شيئا؟
قلت: كيف تغنيه، وهو لن يطول به المقام حتى يأكله الدود، فيصير هيكلا عظميا ينخره التراب؟
قال: أرأيت لو حنطوه، وحفظوا جثته وزينوها بالحلي والحلل التي جمعها، أكان ذلك يغني عليه شيئا؟
قلت: كيف يغني عليه، وهو رمة بالية، والحمار يظل حمارا، ولو كسي وزين ما زين؟
قال: فخبرني ما فائدة هذا المال الذي لا تجده أحوج ما تكون إليه؟
لم أجد ما أجيبه به، لكني قلت: لكن.. ما البديل؟
قال: أن تبحث عن المال الذي تجده في كل وقت.
قلت: لكن.. ما الفرق بينهما؟
قال: الأول سراب، والثاني ماء، ومن أجهد نفسه مع السراب لن يصل إلى الماء.
قلت: وكيف أصل إلى الماء؟
قال: بالبحث عن رب الماء، ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور:39]
القرآن.. والعزاء والشفاء (108)
ثم قال لي: هل تعلم تأويل هذه الآية؟
قلت: هذه الآية الكريمة تشبه قوله تعالى عن الغافلين الجاحدين: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103 ـ 104]، وقوله: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30]، وقوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 37]، وقوله: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [المجادلة: 18].. وكل هذه الآيات الكريمة تشير إلى أنه ليس كل ما نعتقد صحته صحيحا فعلا، فقد يكون الواقع خلاف ذلك تماما.
قال: أحسنت.. فالأوهام التي تسيطر على عقل الإنسان هي التي تجعله يتخيل أن صفائح الحديد المحماة، هي سبائك ذهب.. وإلا فإنه لو أبصر بعقله لفرق بينهما.
قلت: لم أفهم ما تقصد؟
قال: ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: 34 ـ 35]؟
قلت: بلى.. ولكني أعلم أن معناها الظاهر هو (1): إن الذين يمسكون الأموال، ولا يؤدون زكاتها، ولا يخرجون منها الحقوق الواجبة، فبشرهم بعذاب موجع.. فيوم القيامة
__________
(1) التفسير الميسر (ص 192)
القرآن.. والعزاء والشفاء (109)
توضع قطع الذهب والفضة في النار، فإذا اشتدت حرارتها أحرقت بها جباه أصحابها وجنوبهم وظهورهم، وقيل لهم توبيخا: هذا مالكم الذي أمسكتموه ومنعتم منه حقوق الله، فذوقوا العذاب الموجع؛ بسبب كنزكم وإمساككم.
قال: أجل.. وهي تدعونا من خلال ذلك إلى أن ننظر إلى كل مال جاءنا من غير طريق حلال، وكأنه نار خالصة، وعذاب ليس فوقه عذاب.. وتدعونا كذلك إلى أن نقدس نظرتنا إلى الأثرياء عن الحسد والمطامع، لأنهم بين أن يكونوا صالحين، فعلينا حينها أن نتبرك بهم، أو يكونوا منحرفين، فحينها ننظر إليهم بشفقة وحزن، لأن أموالهم ليست سوى سجون وزنازن يعتقلون فيها.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [الكهف:42]، فقلت: هذه قصة هلاك مال رجل غره ماله.
قال: لم يغره ماله فقط، بل استعبده من دون الله، ألم تسمع قوله بعد ندمه: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ [الكهف:42]؟.. فالآية الكريمة تدعونا إلى أن ننظر إلى كل ما نمتلكه ونغتر به بأنه فان أو سيفنى.
ثم قال: وهذه حقيقة من حقائق الأبد، فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص:88]، وقال: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ [الرحمن:26 ـ 27]
ثم نظر إلي، وقال: لا يتعلق بالهالك إلا هالك.. ولا يتعلق بالفاني إلا الفاني.. فارفع همتك لتطلب الباقي الذي لا يفنى، والخالد الذي لا يبيد، فلا خير في شيء يفنى ويبيد.
القرآن.. والعزاء والشفاء (110)
كنت لا أزال حينها متثاقلا إلى الحياة الدنيا، فلذلك قلت: بما أننا كلنا هالكون، فلذلك ترانا نتعلق بالهالكين.. فهل علينا لوم في ذلك؟
فابتسم، وقال: نحن هالكون، ولكن فطرنا مملوءة بحب الحياة، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ [طه:120]، فلولا أن الله ملأ فطرة الإنسان بحب الخلود ما جاءه الشيطان من هذا الباب.
ثم قال: ولهذا.. فإن من أراد الحياة الخالدة يحتاج إلى التعلق بالخالد الذي لا يموت، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان:58]، ففي الآية الكريمة دعوة لأن نخرج من سجون الأكوان لنتحرر بالعودة إلى رب الأكوان.
قلت: ألهذا نرى الله تعالى يخبر عن هلاك الأموال، وذهاب العز عن أهله، كقوله تعالى عن أصحاب الجنة: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [القلم:19 ـ 20] أي (1): أنهم بعد أن دبروا هذا التدبير السيء، وأكدوه بالقسم، أوقع الله بهم العقاب الذي استحقوه بتدبيرهم السيء هذا.. فطاف على جنتهم طائف من الله سبحانه، وهم نائمون، يحلمون بلقاء جنتهم مصبحين، يقطفون كل ثمارها غير مبقين على شيء، وإذا هي وقد عريت من كل ثمر، وفي قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ [القلم: 19] إشارة إلى أن هذا الطائف المرسل إليها من عند الله، قد وضع يده عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلم يبق مما مرت عليه يده من ثمارها شيئا.
قال: أجل.. فقد كان ما حل بتلك الجنة من أكبر نعم الله عليهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1095)
القرآن.. والعزاء والشفاء (111)
قلت: كيف تقول هذا؟.. هذه عقوبة، وليست نعمة.
قال: كل نعمة تحجبك عنه عقوبة.. وكل عقوبة توصلك إليه نعمة.. فلولا أن الله تعالى ابتلاهم بهذا البلاء، لما قالوا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [القلم: 29]، وغلة هذه المقولة أعظم من كل غلة كان يمكن أن يظفروا بها.
لقد كان ذلك هو اللقاء الأول لي به، ولم أكن أفكر أبدا أن ألتقي به ثانيا، لكني وبعد أن عدت إلى بيتي بتلك الأحزان والكآبة رحت أتأمل ما قاله، فوجدت أنه لا يتكلم إلا عن الحقيقة التي نهرب منها إلى الواقع الذي يكذب علينا..
بعدها ذهبت إليه، وقد صحبني بعض الأثرياء، فسألته عن سر زيارته له، فقد كنت أتصور أنه يعزي الفقراء والمحتاجين فقط، فقال: نحن جميعا بحاجة إلى العزاء.. نعم نحن لدينا الأموال، ولكنا نفتقر إلى ما يفتقر إليه كل الناس من الطمأنينة والراحة والحرص على المستقبل الطيب.. وقد تعلمت منه بحمد الله أن أكون خادما لإخواني في مالي، لا خادما لمالي.. وهو لم ينهني أبدا عن الكسب الحلال، بل نهاني أن يوقعني حرصي على الكسب في الحرام.
وعندما دخلنا إليه، وجدناه مع نفر من الناس، وهو يقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 79 ـ 80]، ثم قال (1): هذا المشهد يصور مواقف البشر جميعا.. لا موقف
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2713)
القرآن.. والعزاء والشفاء (112)
المعاصرين لقارون فقط.. فهم ينقسمون بين طائفة تقف أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت.. وطائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله.. وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه.. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى، ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
ثم سكت قليلا، وقال (1): فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفسا، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد.. وهؤلاء هم ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [سبأ: 6].. العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم.. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص: 80]، أي ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون.. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون.. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم.. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها.. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون.. وعند ما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة.. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2713)
القرآن.. والعزاء والشفاء (113)
ثم نظر إلي، وقال (1): وعند ما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل القدرة الإلهية لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما، ولذلك قال تعالى تعقيبا على تلك الآيات الكريمة: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81].. هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة ابتلعته الأرض، وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا، وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.. وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس وردتهم الضربة القاضية إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال.
كان معلمنا الكاظم يحكي لنا قصة قارون التي تعودنا سماعها من القصاص بطريقة مؤثرة حية جعلتنا نشعر وكأن كل واحد منا يمكن أن يكون قارونا من حيث لا يشعر.
وقد طلبنا منه حينها أن يكمل لنا الحديث عما ورد في القرآن الكريم من المشهد الأخير لقصة قارون، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 82]، فقال (2): لقد وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما آتى قارون، وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة.. وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله، فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب، ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف، إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء.. وعلموا أن الكافرين لا
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2713)
(2) في ظلال القرآن (5/ 2713)
القرآن.. والعزاء والشفاء (114)
يفلحون. وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين.
ثم قال (1): وهكذا تنتهي قصة قارون، ويسدل الستار على مشاهدها بانتصار القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة، والتي رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان.. ولذلك عقب الله تعالى على تلك المشاهد بقوله: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].. أي تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم ـ العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية ـ تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق، تلك الدار الآخرة ﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾ [القصص: 83].. فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله، ومنهجه في الحياة.. أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا، ولا يبغون فيها كذلك فسادا، أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة، تلك الدار العالية السامية.. ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83] الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه.. وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه، الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها، والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [القصص: 84]
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2714)
القرآن.. والعزاء والشفاء (115)
سكت المضحك قليلا، ثم قال: سأحكي لكم ذكرى أخرى من ذكرياتي معه.. وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم.. لكني أشعر بأنس عظيم كلما تذكرت تلك المجالس التي جلست فيها إليه، ولهذا ترون أني أحكيها لكل من ألتقي به.. حتى أولئك الذين أجلس إليهم لأضحكهم، فإني أتحين كل فرصة لأذكر لهم لقاءاتي به، لتبدد ما قد سربته لهم من الغفلة.
لقد ذهبت إليه مرة، فسمعته يقرأ قوله تعالى عن السامري: ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ﴾ [طه: 97]، ثم قال للجالسين حوله، وقد كانوا من الفقراء البائسين: نعم هذه الآية الكريمة تتحدث عن عقوبة السامري.. ولكنها مع ذلك تمتلئ بالسلوى للفقراء، والتربية للأغنياء.. انظروا.. لقد عاقب الله تعالى السامري بمرض يحرمه من المجتمع.. فهو لا يود أن يمس أحدا، أويلاقي أحدا.. وهذا يعني أنه عندما أراد الله أن يعاقب السامري بما تقتضيه فطرته من مخالطة المجتمع، هل أزال المجتمع وحرمه منه؟
قلنا: لا.. المجتمع كان موجودا على مرمى بصره.
قال: فهل قبض الله روحه ليحرمه من رؤية المجتمع؟
قلنا: لا.. بل بقي حيا وموجودا.
قال: لكن كيف حُرم من المجتمع مع أنه كان في المجتمع؟
قال أحدنا: لقد ذكرت أنه ابتلي بمرض يحرمه من المجتمع مع أنه في وسطه وبين أفراده.
قال: لقد حدثتكم سابقا أن المال الذي استعبد الأغنياء والفقراء إما أن يذهب أو يذهب بصاحبه.. وهذه الآية الكريمة تضيف إلى ذلك سلوى جديدة، حيث تقول للذي ألهاه غناه: نعم قد تبقى مع المال.. ولكنه لن ينفعك.. بل ستمتلئ حسرة وأنت تنظر إليه..
القرآن.. والعزاء والشفاء (116)
ستصير كالعيس في البيد يقتلها الظمأ، ولو كان الماء فوق ظهورها محمول.
ثم قال: لعلكم تلاحظون أن الأشياء قد تكون موجودة أحياء، وبوفرة.. ولكنا مع ذلك لا نجد أي متعة، ونحن نتناولها.. وسبب ذلك أن التلذذ ليس بالأشياء.. وإنما بما يخلقه الله فينا من السكينة التي تستقبل التلذذ وتتمتع به.. واللذة من الله لا من الأشياء.. ولهذا قد نأكل كسرة يابسة، ويضع الله في ألسنتنا من التلذذ بها ما لا نجده في أشهى المأكولات.
ثم سكت قليلا، وقال: وهذه حقيقة أشار إليها، بل يصرح بها قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الانبياء:69].. فالله تعالى لم يطفئ النار، وإنما جعل في إبراهيم عليه السلام من السكينة والإيمان ما تتحول به النار بردا وسلاما.
ثم قال: ويشير إلى هذه الحقيقة العظمى كذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لأنفال:43]،فالله تعالى جعل في هذه الرؤيا ما يطمئن القلوب ويملؤها بالثقة.. وليس الأمر قاصرا على الرؤى، بل هو شامل للواقع.. لكل واقع.. ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [لأنفال:44]
قلنا: وعينا هذا.. وهو عزاء عظيم.
قال: فاعبروا منه إلى سائر الحواس.. فالله الذي يتصرف في الأعين يتصرف في اللسان والآذان وفي كل جوارح الإنسان ولطائفه.. ولذلك فإن الله تعالى الكريم مع كل عبادة، يرزق الفقراء الراضين المسلّمين أمرهم إلى ربهم من الراحة واللذة والسلوان ما لا يجده الأغنياء، وفي كل الترف الذي يتناولونه، والذي قد يصير حجابا بينهم وبين السعادة الأبدية.
القرآن.. والعزاء والشفاء (117)
ثم قال لنا المعلم: الخلق خلق الله.. واللذات نعم من نعمه، يوزعها لمن يشاء، وكيف يشاء.. وهي في حقيقتها لا علاقة لها بالأشياء.. ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:33 ـ 35]؟
قلنا: بلى.. سمعناها.. فما علاقتها بهذا؟
قال: إن الله يخبرنا بأن السعادة ليست في الأشياء.. وهي مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124]، وقد عبر عن هذا الضيق بالضنك ليشير إلى أن حياة هؤلاء قد تكون واسعة من حيث الأشياء.. ولكنها ضيقة، بل ضيقة جدا من حيث بركات الأشياء، وما فيها من أصناف اللذات.
طلبنا منه مزيد توضيح للآية الكريمة، فقال (1): الحياة التي تكون مقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع.. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه.. ضنك الحيرة والقلق والشك.. ضنك الحرص والحذر.. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت.. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله، وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان.
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2355)
القرآن.. والعزاء والشفاء (118)
سألناه حينها عن تتمة الآيات الكريمة، وهي قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 124 ـ 127]، فقال (1): أي أن ذلك الذي عاش حياته في ضنك، لا يهتدي الطريق إلى الجنة، لأن الطريق مسدود أمامه، بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله..
وذلك لأن (النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، والذي نألفه في الطبيعة، وكون البصير مبصرا لكل مبصر، والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي، لا دليل على عمومه للنظام الأخروي، فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك، فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة، وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة، وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها)(2)
بهذا الحديث انتهى المشهد الثالث من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الرابع، والذي تعلمت منه معنى الوجدان والفقد، وأثرهما في العزاء والسلوى، لا للفقراء فقط، بل لكل الناس.
ويبدأ المشهد من ذلك المجلس نفسه، لكن ليس من أولئك الحاضرين معنا، وإنما من عجوز كانت في البيت، هي أم المضحك.. فقد طلب منا أن نستمع لحديثها، لأنها كانت في
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 169)
(2) تفسير الميزان، ج: 14، ص: 226.
القرآن.. والعزاء والشفاء (119)
يوم من الأيام تلميذة من تلامذة الكاظم النجباء.
جاءت الأم، وكان اسمها مريم، وقالت: لقد استمعت لحديث ابني.. وأنا أريد أن أحدثكم أيضا بحديثي.. وفي حضور تلميذ القرآن، حتى ينقله لقومه لعلهم يستفيدون منه.
ولا أخفيكم أني كنت قبل أن أتشرف بالتلمذة على معلمي الكاظم مثل سائر الناس مشغولة بالدنيا، وأحب أن أنال منها كل شيء.. لكني بعد مجلس واحد من مجالس معلمي، وفي المسجد الذي كان غاصا بالرجال والنساء تغيرت نظرتي للحياة تماما.
لقد قرأ علينا حينها قوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران:37]، ثم قال: أرأيتم لو أن ملكا يملك كل مزارع الدنيا ومصانع أغذيتها طلب من فلاحيه وعلمائه أن يأتوه بفاكهة واحدة من الفواكه التي كانت تأكلها مريم عليها السلام وهي في محرابها، أكانوا يطيقون؟
قلنا: كلا، فطعامهم من الشهادة، وذلك من الغيب، وما أبعد البون بين الغيب والشهادة.
قال: فمريم عليها السلام إذن كانت أغنى منهم جميعا؟
قلنا: في هذه الحالة، يمكن أن نقول: نعم.
قال: وفي غيرها، يمكنكم أن تقولوا: نعم أيضا، لأن الذي أعطى الطعام يمكن أن يعطي غيره.
ثم قال: سأضرب لكم مثلا يوضح هذا: لو رأيتم بستانا جميلا، فيه من الفواكه
القرآن.. والعزاء والشفاء (120)
والثمار ما فيه، ونازعتكم نفوسكم إلى ثماره، فما هو أقرب طريق إلى ذلك؟.. ستقولون: أقرب طريق إلى ذلك أن نستأذن صاحبه في الأخذ منه.. وهذا صحيح.. لكن.. لو أنكم تقربتم من صاحبه من غير أن تطلبوا منه شيئا، ثم وفرتم من الأسباب ما يجعلكم أحباء في عينيه وقلبه.. أليس يغدق عليكم حينها ثمارا كثيرة وفواكه لذيذة.
قلنا: بلى.. ذلك صحيح.
قال: فلو كان تقربكم أعظم، وكان هذا البستان الذي يملكه ذلك الغني جزءا من مائة ألف جزء من بساتينه؟
قال أحدنا: حينها سيعطيني البستان جميعا، بل ربما يعطيني بساتين أخرى أفضل وأعظم.
قال: فهكذا فعلت مريم عليها السلام.
قال أحدنا: وماذا فعل الأغنياء الذين يتيهون بغناهم؟
قال: لقد اغتنموا ظلام الليل، فسطوا على شجرة من أشجار ذلك البستان، فاقتطفوا ثمرة من ثمارها، ثم اقتتلوا فيما بينهم أيهم يملكها، وقد كان في إمكانهم أن يأخذوها في ضوء النهار، وبدون أن يقتتلوا؟
سكتت قليلا، ثم قالت: وهكذا سمعته في بعض المجالس يقص علينا قصة امرأة فرعون، وقولها: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ﴾ [التحريم: 11]، ثم أنشد قول الشاعر (1):
إنى لأحسد جاركم لجواركم... طوبى لمن أضحى لدارك جارا
يا ليت جارك باعني من داره... شبرا لأعطيه بشبر دارا
__________
(1) لطائف الإشارات (3/ 609)
القرآن.. والعزاء والشفاء (121)
ثم قال (1): لقد كانت امرأة فرعون في موقع السلطة العليا التي يملكها زوجها، فكانت في مقام الملكة لشعبها، وكانت الدنيا بكل زخارفها وزينتها وشهواتها ولذاتها، تحت قدميها، ولكنها رفضت ذلك كله عند ما اكتشفت الإيمان بالله، وعاشت في خط العبودية له، وذاقت طعم مناجاته في حالة الخشوع الروحي والخضوع الجسدي في لحظات السجود الذي كان يرتفع بروحها إلى الدرجات العليا الروحانية في رحاب الله، فاحتقرت زوجها وملكه، وكل هؤلاء الخاضعين له، المتزلفين له، اللاهثين وراء ماله وسلطانه، ليحصلوا على شيء منهما، ورأت نفسها غريبة بينهم، لأنها تعيش غربة الروح والفكر والشعور عن كل أوضاعهم وعاداتهم ومنطقهم الكافر، ونظرت إلى الدار الواسعة التي هي في رحابة القصور الملكية التي تحيط بها الجنائن النضرة وتجري الأنهار من تحتها، فشعرت بالاختناق الروحي فيها، فصرخت فيما يشبه الاستغاثة في خلوتها الروحية بين يدي الله الذي كانت تراه بعين إيمانها القلبي، ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ [التحريم: 11]
ثم راح يسألنا: هل تعلمون سر ذلك؟..
لم ينتظر منا أن نجيبه، بل قال (2): لأنه البيت الذي تعيش فيه في جنة رضوان الله، وتحس فيه بسعادة الروح إلى جانب نعيم الجسد، فلا تحس بأي حزن مما يحس به الناس في الدنيا، لأنه لا يوجد هناك أي حرمان يوحي بالألم أو بالحزن الداخلي.. هذا هو الحلم الكبير الذي تطلعت من خلاله امرأة فرعون إلى السعادة المطلقة.
ثم طلبت من الله أن ينجيها من فرعون وعمله، فقالت: ﴿وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ [التحريم: 11] في علوه الاستكباري، وفي ظلمه للمستضعفين من الناس، وفي طغيانه
__________
(1) من وحي القرآن (22/ 329)
(2) من وحي القرآن (22/ 330)
القرآن.. والعزاء والشفاء (122)
على الحياة والحقيقة، وفي تمرده على الله، فإني لا أطيق الحياة معه، لأني أتصوره كما يتصور الإنسان الوحش إذا أقبل عليه أو عاش معه، ولذا، فإن نجاتي منه هي حلم حياتي الكبير.. ﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11] الذين يمثلون المجتمع الفرعوني الذين يزينون له طغيانه وجبروته، ويضخمون له شخصيته، ويدعمون ظلمه واستكباره، ليكونوا قاعدة الظلم الذي يمارسه فيما يشرعون له من قوانينه، وفي ما ينفذونه من خططه ومشاريعه.
سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا نجد في هذه المرأة المؤمنة التي عاشت في أعلى درجات السلم الاجتماعي، التي يضعف الأقوياء أمامها فيسقطون وتسقط معهم مبادئهم، المثال الحي للمرأة القوية التي تجمعت فيها كل عناصر القوة، من الروحية العالية، والإرادة الحديدية، والوعي العميق لكل خلفيات الواقع الفاسد الذي يحيط بها، لتعطي الدرس الكبير لكل الذين يتعللون في تبرير انحرافهم بالبيئة الفاسدة التي يعيشون فيها، فلا يملكون إلا الخضوع لضغوطها الشديدة، لتقول لهم بأنهم لم يبلغوا في انحراف مجتمعهم ما بلغه مجتمعها الخاص والعام من خطورة الانحراف، ولم يعيشوا في قلب الإغراء كما عاشت فيه، ولكن الفرق بينها وبينهم، أنهم عاشوا الانبهار بالواقع المحيط بهم، عند ما استغرقوا فيه، فسقطوا في أوحاله، أما هي فقد ارتفعت بروحها وعقلها عنه، وحدقت فيه تحديقة الإنسان الواعي الذي يريد أن يرى العمق الداخلي ليكتشف ما في داخله من أوساخ وأدران ونقاط ضعف، ليتخذ موقفه من خلال وعي العمق، لا من خلال سذاجة السطح، وبذلك، استطاعت أن تتجاوز الضعف الأنثوي، لترتفع إلى درجة القوة الإنسانية الإيمانية التي تتقدم فيها على الرجال في إرادتها القوية وقرارها الحاسم، لتكون أمثولة للرجال والنساء
__________
(1) من وحي القرآن (22/ 331)
القرآن.. والعزاء والشفاء (123)
من المؤمنين، ليرتفعوا إلى مواقع السمو التي بلغتها من خلال الوعي الإيماني في شخصيتها الإنسانية.
سكت قليلا، ثم قال: هل تعلمون سر طلبها الجار قبل الدار؟
قلنا: أجل.. وقد كان ذلك من أدبها.
قال: ليس ذلك من الأدب فقط.. بل قد عبرت عن حقيقة من الحقائق الكبرى.. ذلك أنه لا لذة للجنة.. ولا لأي شيء من غير الله.. فلولا الله، وحضور الله لكانت الجنة خرابا على أهلها، ولهذا يتوعد الله تعالى الجاحدين بالحجاب، فيقول: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:15]، ولهذا قال العارفون: (ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء، ومهربنا من الحجاب)
قال أحدنا: أهم يستهينون بالجنة، أم تراهم يحتقرون النار؟
قال: معاذ الله أن يفعلوا ذلك.. ولكنهم انشغلوا بالله عن كل شيء، فلم يتصوروا سعادة من دون الله.. ألا ترون المحبين كيف يغفلون عند رؤية محبيهم عن الآلام التي تحيط بهم!؟.. ولذلك يذكرون أن نار الفراق إذا استولت على القلب غلبت النار المحرقة للأجسام، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام.. وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد.. وليس هذا في الآخرة فحسب، بل في الدنيا شهادات كثيرة عليه، (فقد رؤي من غلب عليه الوجد، فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه، وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب، واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث إنه يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر
القرآن.. والعزاء والشفاء (124)
برابطة التأليف الممكن في الأجسام، فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطه تأليف أشد إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاماً)(1)
بهذا الحديث انتهى المشهد الرابع من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الرابع، والذي تعلمت منه معنى النظر والعناية، وأثرهما في العزاء والسلوى، لا للفقراء فقط، بل لكل الناس.
وقد بدأ هذا المشهد بدق باب المضحك، ثم خروجه، ثم عودته إلينا، وهو يقول: لقد اجتمع الجيران جميعا في الساحة، وهم يطلبون منا أن نحضر إليهم، ويبدو أنهم قد سمعوا بحضور تلميذ القرآن، ويودون الحديث إليه.
فخرجنا جميعا، وقد وجدنا جمعا كبيرا من الناس، يتحلقون في حلقة كبيرة، فجلسنا إليهم، وما لبثنا أن سمعنا أحدهم، وهو أكبرهم يقول: لقد سمعنا بحضور تلميذ القرآن إلى حينا البسيط هذا، ونحن نريد أن ندلي له ببعض الشهادات التي قد يراها نافعة لينشرها بين قومه.. وبما أني أكبركم سنا، فاسمحوا لي أن أبدأ أنا.
ثم سكت قليلا، وقال: منذ كنت صغيرا، وحارتنا هذه مشهورة بكونها حارة الفقراء والمعدمين والمساكين.. وذلك ليس بسبب كسلنا أو كسل آبائنا وأجدادنا، وإنما لأن حرفنا التي تعلمناها لم تكن تسمح لنا بتجاوز هذه الحال البسيطة التي نعيشها.
ولذلك كان الأثرياء من قريتنا أو من غيرها يفدون إليها بصنوف الصدقات
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 25)
القرآن.. والعزاء والشفاء (125)
والهدايا، والتي كنا نتقبلها منهم، ونشكرهم عليها.. لكن أعظم الهدايا التي قدمت إلينا كانت هدايا معلمنا الكاظم، فهو عندما قصدنا كان خاوي اليدين من أي هدية أو صدقة.. فهو لم يكن ثريا ولا صاحب مال، ولذلك جاء فقط بالكلمات.. والتي لم نلق لها بالا في البداية، لكنا بعد ذلك عرفنا أن تلك الكلمات أفضل من جميع كنوز الدنيا، فهي التي جعلتنا نتخلص من فقرنا.. بل نشعر أننا أغنياء في فقرنا.. وسأقص عليكم أنا باعتباري أكبركم بعض ما ذكر لنا، ثم يقص عليكم غيري من الذين تنوروا بكلماته ما سمعوه منه.
في أول زيارة له إلينا قرأ قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى:3]، ثم قال: اقرؤوا هذه الآية الكريمة، وكأنها أنزلت عليكم.. فالله تعالى يخاطبكم جميعا بأنه يعلم حالكم، وأن حالكم لا تدل على أنه قلاكم أو ترككم..
ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام:52]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة إشارة إلى المجتمع الذي يريد الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل عليه بالدعوة إليه، وليس المجتمعات الغنية اللاهية المستكبرة التي أغلقت قلوبها عن كل النداءات التي ترهق الإحساس، وتحرك الشعور، وتقود الإنسان إلى خط المسؤولية النابضة بحركة الحياة المسؤولة، والتي ابتعدت عن كل الأجواء الروحية التي تدفع الخطوات في طريق السلام الأمين.. فإن هذه المجتمعات لا تمثل في حساب الدعوة، القيمة الكبيرة، فيما يتداوله الناس من حسابات القيم، لأن الإسلام لا يعطي القيمة للجهات المنتفخة بالكبرياء والخيلاء، بل يعطيها لتلك الجهات الجدية المنفتحة على المستقبل
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 120)
القرآن.. والعزاء والشفاء (126)
في قلق الإنسان أمام قضية المصير، لذا رأينا الله يوجه رسوله، وكل داعية يسير في خط الرسالة إلى أن ينظر الى الناس من خلال ما يحملونه في داخلهم من الخوف على المصير، فمن كان سائرا في أجواء اللامبالاة أمام ذلك، فلا مجال للحديث معه إلا لإقامة الحجة عليه، أو إخراجه من هذا الجو اللامسؤول، فلا يتوقف الداعية أمامه طويلا، لأن في ذلك تضييعا للجهد بلا فائدة، فقد أغلق هذا الإنسان قلبه عن كل شيء.
ثم قال لنا (1): أما الذين يعيشون إشراقة الخوف من الله، عند ما يذكر أمامهم اسمه، أو تخطر في أفكارهم فكرة الوقوف بين يديه، ويتصورون خطورة الموقف الذي يشعرون معه بالوحدة الموحشة التي لا يملكون معها وليا ولا شفيعا من دون الله.. فلا بد للرسول وللداعية من أن يشعر بأن أمثال هؤلاء هم الذين تتحرك الدعوة في حياتهم، لأن الخوف من الله، يربطهم بالكلمات المنطلقة من وحيه في عملية تأمل وتدبر وتفكير ويدفعهم ذلك إلى القناعة والالتزام الدقيق بالخط العملي للفكر الإسلامي العميق.
سكت قليلا، ثم قال (2): من هم هؤلاء؟ إنهم الفقراء الطيبون، الذين لم يرهقهم ترف الغنى بمغرياته وانفعالاته، ولم يحجب قلوبهم عن البساطة الطاهرة التي تلتقي بالحقيقة والعفوية والطهر، هؤلاء الذين لا يشعرون بأن الرسالة تفقدهم الامتيازات التي يملكونها كما يتصور الأغنياء المترفون، بل يحسون بأنها تمنحهم فرصا لم تكن لهم وتفتح لهم أبوابا كانت مغلقة عليهم، وتوحي لهم بالمعاني الجديدة لإنسانيتهم، وبالآفاق الرحبة لوجودهم.. وبذلك تبرز الرسالة في وعيهم، كمنطلق للإشراق الروحي والانساني فيما يشبه الحلم الوردي الجميل، وهذا ما يفسر أن جنود الرسالات في بدايات الدعوة، هم
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 121)
(2) من وحي القرآن (9/ 121)
القرآن.. والعزاء والشفاء (127)
الفقراء والبسطاء في الأغلب، لأنهم يفهمونها جيدا من خلال ارتباطها بالجانب الإنساني والروحي للحياة.. أما الآخرون من الأغنياء والمستكبرين، فإنهم يقفون في خط المواجهة المضاد الذي يشعر بالرسالة، كما لو كانت الخطر الزاحف على كل وجودهم بالموت.
ثم راح يسألنا قائلا: ما تفهمون من نهي الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن متابعة المشركين، وأمرهم له بالحرص على هؤلاء الفقراء، ووصيته بهم وثنائه عليهم، ولو على حساب بعض المكتسبات الظرفية؟.. ألا يدل على شيء؟
قلنا: على ماذا غير ما ذكرت، وما ذكر المفسرون؟
قال: ما محل الشخص الذي تحرصون عليه، وتغيروا أن يُطرد أو يهان أو يرمى، ولو كان في ذلك حصول مضرة لكم؟.. ألستم تفعلون ذلك مع أحب الناس إليكم؟
أجبناه بالإيجاب، فقال: ولذلك فإن الله تعالى الذي يوصي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بهؤلاء، ويأمره بالحرص عليهم، ينطبق عيه ما قلنا.
قال أحدنا، وكان أعقلنا: إن في هذا إشارة جميلة.
قال: بل سلوى عظيمة تطرب لها نفوس الفقراء، وأغنية جميلة تبشرهم بأنهم، وإن رموا وطردوا فإنهم عند الله بمكان.
قال آخر: وأذكر أنه قرأ لنا في ذلك المجلس ما ورد في القرآن الكريم من النهي عن طرد الضعفاء والفقراء، كقوله تعالى في قصة لسان نوح عليه السلام: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا
القرآن.. والعزاء والشفاء (128)
أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: 111 ـ 115]، ثم عقب عليها بقوله (1): في هذه الآيات الكريمة ثناء عظيم على هؤلاء المحتقرين المطرودين، فهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام.. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة.. ومن ثم فهم الملبون السابقون؛ فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم، القائمة على الأوضاع المزيفة، المستمدة من الأوهام والأساطير، التي تلبس ثوب الدين، ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة، قيمة الإيمان والعمل الصالح، قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين، بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم.
سكت قليلا، ثم قال (2): ولذلك أجابهم نوح عليه السلام الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ويحدد اختصاص الرسول، ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون.. والكبراء يقولون دائما عن الفقراء: إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف، ولذك، فإن نوحا عليه السلام يقول لهم: إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان.. وقد آمنوا.. فأما عملهم قبله فموكول إلى الله، وهو الذي يزنه ويقدره، ويجزيهم على الحسنات والسيئات، وتقدير الله هو الصحيح ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: 113] بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله. وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: 115]
التفت إلينا ليرى تأثير كلماته فينا، ثم قال (3): فلما واجههم نوح عليه السلام بحجته
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2607)
(2) في ظلال القرآن (5/ 2608)
(3) في ظلال القرآن (5/ 2608)
القرآن.. والعزاء والشفاء (129)
الواضحة ومنطقه المستقيم وعجزوا عن المضي في الجدل بالحجة والبرهان، لجأوا إلى ما يلجأ إليه الطغيان كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان.. لجأوا إلى التهديد بالقوة المادية الغليظة التي يعتمد عليها الطغاة في كل زمان ومكان، عند ما تعوزهم الحجة، ويعجزهم البرهان: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116].. وأسفر الطغيان عن وجهه الكالح، وكشف الضلال عن وسيلته الغليظة، وعرف نوح عليه السلام أن القلوب الجاسية لن تلين.. هنا توجه نوح إلى الولي الوحيد، والناصر الفريد، الذي لا ملجأ سواه للمؤمنين: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 117 ـ 118].. وربه يعلم أن قومه كذبوه، ولكنه البث والشكوى إلى الناصر المعين، وطلب النصفة، ورد الأمر إلى صاحب الأمر: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ [الشعراء: 118] يضع الحد الأخير للبغي والتكذيب: ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 118].. واستجاب الله لنبيه الذي يتهدده الطغيان بالرجم، لأنه يدعو الناس إلى تقوى الله، وطاعة رسوله، لا يطلب على ذلك أجرا، ولا يبتغي جاها ولا مالا: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ﴾ [الشعراء: 119 ـ 120].. وهكذا في إجمال سريع. يصور النهاية الأخيرة للمعركة بين الإيمان والطغيان في فجر البشرية، ويقرر مصير كل معركة تالية في تاريخ البشرية الطويل.
سكت قليلا، ثم قال: هل رأيتم القيمة التي يحتلها أولئك الفقراء الذين اتهمهم قومهم بكونهم أراذل؟.. لقد كانوا هم العقلاء الوحيدين من قوم نوح عليه السلام، ولذلك منّ الله تعالى عليهم بالنجاة، بل بصحبة نبيه، وشرفهم بعد ذلك بذكرهم في القرآن الكريم لنتذكرهم دائما، ولا نطردهم كما يفعل البغاة والظلمة.
قرأ عليه أحدنا ـ وكان متعلما ـ حينها قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿وَيَا
القرآن.. والعزاء والشفاء (130)
قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود:30]، فقال معلمنا يسأله: أتعلم وجه الإشارة فيها؟
قال الرجل: في هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى عن مقالة نبيه نوح عليه السلام، وأنه قال: (من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه إن طردتهم وأبعدتهم عني؟)، فالاستفهام هنا للإنكار، أي لا ينصرني أحد من ذلك، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم.
قال المعلم: أتدري السلوى التي يحملها هذا الكلام لقلوب الفقراء؟
قال: ما هي غير ما ذكرت؟
قال المعلم: هل تعرف الدرجة التي يحتلها النبي في سلم الكمال؟
قال: هي درجة عظيمة لا يمكن تصورها.
قال المعلم: أيمكن تشبيهها بدرجة الوزراء!؟
قال: وأين تقع الوزارة أمام النبوة؟
قال المعلم: فإذا أرسل الملك إلى وزيره يهدده بالعزل أو بالسقوط والانهيار أو بالهزيمة بسبب عامي من الناس، ألا يكون لذلك العامي محلا عظيما في نفس الملك!؟
قال: أجل، لأن تفريط الملك في وزيره الذي هو ساعد من سواعده لا يكون إلا بسبب وجيه، وأمر خطير.
قال المعلم: فكذلك هذا، ولله المثل الأعلى.. واحذر رعونة التشبيه وأكداره، فقد أرسل الله ملك الملوك إلى الأنبياء عليهم السلام الذين يعملون بأمره يحذرهم من المساس بهؤلاء البسطاء.. وذلك لا يكون إلا للمكانة العظيمة التي أقامها الله لهم، مقابل المكانة التي وضعها البشر لهم، فقد قال تعالى عن موضع الفقير في دنيا البشر على لسان نوح عليه
القرآن.. والعزاء والشفاء (131)
السلام: ﴿وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 31]، فقد أخبر الله تعالى أن موقف البشر من هؤلاء المحرومين هو الازدراء، وهو الاحتقار، وقد نسب الازدراء إلى الأعين، مع أن الحاسة لا يتصور منها أن تعييب أحدا، لأنها سبب الازدراء، فلرؤيتهم لهم بتلك الحالة احتقروهم، فالإنسان عندهم مكرم لمظهره، ومنبوذ به.. وذلك يدل على أن المزدرين من هؤلاء الأغنياء لا ينظرون إلى الحقائق، بل يكتفون بالخيوط الواهية التي تكفن بها الحقائق.
ثم قال لنا: وفي ذلك دعوتان.. للفقير والغني.. أما الفقير، فهي دعوة له لئلا ينشغل بما هو فيه من الفقر الذي ازدراه الناس بسببه، بل يبحث عن مواطن الغنى التي لا يبصرونها.. وأما الغني، فلئلا يجعل حكمه على الناس قاصرا على ما تمليه عينه، فقد تدله أذنه أو جوارحه الأخرى أو قلبه على كمالات في الفقير ينتفع بها في الدنيا والآخرة.
قال آخر: أما أنا، فبعد أن سمعت منه تلك الكلمات التي رفعت عني كل الآلام النفسية التي كنت أعانيها بسبب فقري وحاجتي، رحت إليه في مدرسته، لأجلس بين تلاميذه البسطاء، وقد سمعته يسألهم عن بعض الأحكام الشرعية، وقد كنت أتصور في البدء أنه سيتحدث عن أحكامها، لكنه لم يكتف بأحكامها، بل راح يملؤهم بالعزاء والسلوى من خلالها.. سأحكي لكم بعض ما جرى في ذلك المجلس، وهو مما لا يمكنني أن أنساه.
لقد قال لهم سائلا: ما كفارة الظهار؟
قال أحدهم: لقد نص عليها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ
القرآن.. والعزاء والشفاء (132)
اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة:4]
قال المعلم: فما كفارة من حنث في اليمين المعقدة؟
قال أحدهم: لقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة:89]
قال المعلم: فما كفارة صيد المحرم؟
قال أحدهم: لقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [المائدة:95]
وبعد أن تحدث عن الأحكام الشرعية المرتبطة بتلك الآيات الكريمة، قال: إن الله تعالى بكرمه ولطفه يوزع العزاء والسلوى في كل محل، حتى ضمن الأحكام الشرعية.. ففي هذه الآيات الكريمة تنبيهات تحمل تنظيمات تشريعية تخلص الفقراء من العزلة التي قد يضربها عليهم الأغنياء.. فقد كان في إمكان الله تعالى أن يرتب غرامة مالية على كل ذنب من الذنوب تدفع لبيت المال الذي يتولى دفعها للفقراء.. أو كان في إمكانه أن يجعل نفس العقوبة، ولكن يجعلها في مسكين واحد.. ولكن شاء الله أن يجعل تلك الكفارات إطعام ستين مسكينا ليكون البحث عن المساكين المستحقين جزءا من الكفارة.
قال أحدهم: فما فائدة ذلك العناء الذي يجعل الشخص يبحث عن هؤلاء المساكين؟
قال المعلم: في بحثه عنهم تعرف منه عليهم.. وفي تعرفه عليهم وتكافله معهم
القرآن.. والعزاء والشفاء (133)
تخليص لهم من العزلة التي قد تفرض عليهم.
لست أدري كيف قلت له حينها أعبر عما في نفسي: سيدي.. إن الفقير في الحقيقة لا يؤلمه فقره، بقدر ما تؤلمه نظرات الناس.. ولا يؤلمه جوعه وبرده فقد يصيب الغني من الجوع ما يصيب الفقير، وقد يصيب الفقير من الشبع ما يصيب الغني.. لكن تؤلمه زنازن العزلة التي يرى نفسه قد وضع فيها.
قال المعلم: ولذلك إن رُفع هذا الوهم، وقيل للفقير: فقرك ليس علامة إبعاد.. كما أن غنى جارك ليس علامة ود، فكلاهما ابتلاء رباني لتمحيص القلوب، حينها ستزول كل المعاناة النفسية.. فكل معاناتنا بسبب ما نحمله من أوهام.
ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر:16]، ثم قال (1): فهذه الآية الكريمة تقول لنا: إن الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه في الظاهر، يقول ربي أكرمني، ويبطر ويتكبر، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، ويقنط ويتسخط.. كلا لينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما، وليعلما أنه اختبار من الحق، فمن شكر النعم، وأطعم الفقير والمسكين، وأبر اليتيم والأيم، كان من الأبرار، وإن عكس القضية كان من الفجار، ومن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومن عكس القضية كان من البعداء.. فمن نظر الإنسان القصير ظن النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسط الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوان، وقبضها عنه إحسان، وقد قال الحكيم: (ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك)
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (7/ 301)
القرآن.. والعزاء والشفاء (134)
وعندما سألناه توضيحا أكثر لذلك قال (1): الله تعالى يعرفنا بحقائق الوجود، والقيم التي تحكمه، حتى لا نقع أسرى لغفلتنا والقيم التي ننسجها بأوهامنا، كما قال تعالى في صفة الكفار الجاحدين: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ [الحج: 11]
ثم قال (2): وهذا خطأ كبير، ومن وجوه كثيرة.. أولها: أن سعادة الدنيا وشقاوتها في مقابلة ما في الآخرة من السعادة والشقاوة كالقطرة في البحر، فالمتنعم في الدنيا لو كان شقيا في الآخرة فذاك التنعم ليس بسعادة، والمتألم المحتاج في الدنيا لو كان سعيدا في الآخرة فذاك ليس بإهانة ولا شقاوة، إذ المتنعم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالسعادة والكرامة، والمتألم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالشقاوة والهوان.. وثانيها: أن حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام فيها لا يدل على الاستحقاق، فإنه تعالى كثيرا ما يوسع على العصاة والكفرة، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وإما يحكم المصلحة، وإما على سبيل الاستدراج والمكر، وقد يضيق على الصديقين لأضداد ذلك، فلا ينبغي للعبد أن يظن أن ذلك لمجازاة.. وثالثها: أن المتنعم لا ينبغي أن يغفل عن العاقبة، فالأمور بخواتيمها، والفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر، فلا ينبغي أن يقضي على نفسه بالإهانة مطلقا.. ورابعها: أن النفس قد ألفت هذه المحسوسات، فمتى حصلت هذه المشتهيات واللذات صعب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها، أما إذا لم يحصل
__________
(1) مفاتيح الغيب (31/ 155)
(2) مفاتيح الغيب (31/ 155)
القرآن.. والعزاء والشفاء (135)
للإنسان شيء من هذه المحسوسات رجعت شاءت أم أبت إلى الله، واشتغلت بعبودية الله فكان وجدان الدنيا سببا للحرمان من الله، فكيف يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا، مع أن ذلك أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات.. وخامسها: أن كثرة الممارسة سبب لتأكد المحبة، وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق، فكل من كان وجدانه للدنيا أكثر وأدوم كانت محبته لها أشد، فكان تألمه بمفارقتها عند الموت أشد، والذي بالضد فبالضد، فإذن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت، وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت، فكيف يقال: إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة؟
ثم قال لنا (1): لا يمكنكم أن تفهموا هذه الوجوه، أو أن تعيشوا معانيها، ما لم تمتلئ قلوبكم بالإيمان باليوم الآخر، ولهذا يقرن الله تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، كما قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113 ـ 114]، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8]، وقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: 177]
ثم قال: فالإيمان باليوم الآخر ركن من أركان العزاء والسلوى، ولولاه لتشوهت معرفتنا بالله، لأننا قد لا نرى عدالته ورحمته وحكمته في هذا العالم، بقدر ما نراها في ذلك العالم.
__________
(1) مفاتيح الغيب (31/ 156)
القرآن.. والعزاء والشفاء (136)
قال آخر: أما أنا، فقد سمعته في بعض مجالسه التي شرفنا بها في حارتنا هذه يقرأ قوله تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود:27]، ثم قال لنا: الله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبر عن الشبهات التي وقفت حجابا بين الملأ المتمالئين على الأنبياء عليهم السلام، الذين ملأوا القلوب هيبة، والمجالس أبهة، وبين الوصول إلى الحق.. وأول تلك الشبهات كون نوح عليه السلام بشرا مثلهم.. والثانية كونه ما أتبعه إلا أراذل القوم.. والثالثة كونهم لا يرون لهم فضلا، لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل (1).
ثم راح يسألنا قائلا: هل تعلمون بالجواب الذي رد به نوح عليه السلام على هذه الشبه؟
ثم أجاب نفسه قائلا: لأهمية ذلك الجواب، ولكل المؤمنين، وفي كل الأجيال قصه علينا القرآن الكريم، فقد أخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده، ولا يسألهم على ذلك أجرا.. وأنه مكلف بأن يدعو الشريف والوضيع، فمن استجاب له فقد نجا.. وأخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس هو بملك من الملائكة، بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات.. وأخبرهم بأن ما في نفوس من تصوروهم أراذل من قومه فاحتقروهم وازدروهم لا يعلم حالهم عند الله فإن كانوا مؤمنين، فلهم جزاء الحسنى.
ثم قال: إن أول من يستنشق الروائح العطرة لهذه الآيات الكريمة هم الفقراء
__________
(1) مفاتيح الغيب (17/ 337)
القرآن.. والعزاء والشفاء (137)
والمستضعفون.. فانشغال النبي بالدفاع عنهم، وبيان قيمتهم وحرمتهم ومكانتهم عند الله، يدل على الموضع الذي يحتله هؤلاء!؟
قلنا: لم نفهم بعد.. وضح ما تريد.
قال: ألا تستشهدون باقتران العمل الصالح مع الإيمان في أكثر آي القرآن الكريم على فضل العمل الصالح لاقترانه بالإيمان الذي هو أشرف الأعمال؟
قلنا: بلى.
قال: ألا تستشهدون بعظم حق الوالدين لاقترانهما بتوحيد الله وعبوديته؟
قلنا: بلى، كثيرا ما نفعل ذلك.
قال: فكذلك هنا.. فاقتران ذكر الأنبياء عليهم السلام بذكر المستضعفين يدل على أنهم محل نظر وعناية خاصة من الله تعالى.
سكت قليلا، ثم قال: هل تعرفون كم لبث نوح عليه السلام في قومه؟
قال أحدنا: هو ما نص عليه القرآن الكريم، فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً﴾ [العنكبوت: 14]
قال: فكم المدة التي كان يتكلم فيها مع قومه؟
قال أحدنا: وهذا أيضا وارد في القرآن الكريم، فقد قال تعالى حاكيا عنه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً﴾ [نوح:5]، وكأنه عليه السلام لاجتهاده في الدعوة إلى الله لا يسكت ليلا أو نهارا.
قال: فكم ترى يكون قد تكلم من الكلمات؟
قال أحدنا: لو كتب كلامه كتبا لملأ بها سهول الأرض وجبالها.
قال: فاختيار الله تعالى لهذه الكلمات المدافعة عن المنبوذين ليذكرها في القرآن
القرآن.. والعزاء والشفاء (138)
الكريم، ألا يدلكم على المكانة التي هيأها لهم، وشرفهم بها؟.. لا عند نوح عليه السلام فحسب، بل عند الله، لأن القرآن الكريم لم ينزل ليؤرخ لقوم نوح عليه السلام، وإنما أنزل ليذكر الحقائق العظمى التي ينبني عليها الوجود.
رحت حينها أسأله قائلا: ولكن ما سبب إقبال الفقراء على الحق وإعراض الملأ أغنياءهم وكبراءهم عنه؟.. ولماذا يكون هؤلاء الأراذل المستضعفون أسرع الناس إلى الحق، فقد قال تعالى في الآيات السابقة: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْي﴾ [هود: 27]؟
التفت إلي، وقال: لأن الفضل صدقة الله، والصدقات لا تكون إلا للفقراء والمساكين، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60]؟
قلت: بلى.. ولكن ما وجه الإشارة في الآية الكريمة، فإني لا أفهم منها إلا أنها تعدد أصناف المستحقين للزكاة؟
قال: هي كذلك، ولكن الذي قالها يتصدق أيضا.. ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نام عن حزبه وقد كان يريد أن يقوم به، فإن نومه صدقة تصدق الله بها عليه، وله أجر حزبه)(1)
ثم قال: الأغنياء الذين سماهم القرآن الكريم [ملأ] امتلأوا بغناهم وما لديهم من أشياء، فلذلك لا يستطيعون تقبل صدقات الله التي تمتلئ بها خزائنه، والتي تفيض على كل الوجود، بينما الفقراء، يشعرون بفاقتهم الذاتية، وفراغهم العظيم، فلذلك كانوا مستعدين لصدقات الله، ولذلك بمجرد أن يشع نور من أنوار الله يكونون أسرع الناس إليه.
__________
(1) الموطأ لابن وهب (ص 108)
القرآن.. والعزاء والشفاء (139)
قلت: هنيئا إذن للفقراء بهذا الفضل الإلهي.. وواحسرتاه على الأثرياء لحرمانهم منه.
قال: لا تقل هذا.. فالله تعالى لم يحرم الأثرياء من فضله.. لكن فيهم من يحرم نفسه، مثلما يفعل الفقراء الذين يحرمون أنفسهم من فضل الله، فيجمعون بين الحرمانين.
قلت: لم أفهم.
قال: ليست العبرة بكون الثري ثريا، بل العبرة بشعوره بثرائه، فقد ترى الفقير مستعليا، وترى الغني متواضعا، ولهذا قد يتحقق الغني بالافتقار الذي يؤهله لدخول قصور فضل الله، وقد يحرم الفقير الذي ملأ عيني قلبه بما عجز عن تحقيقه لجيوبه.. فعينه بصيرة، ويده قصيرة.
ثم قال: ويدل لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولاينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)(1)
قال آخر: أما أنا، فقد سمعته في بعض مجالسه يرتل بصوته الجميل الخاشع قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام:53]، ثم قال (2): كان أكثر ما دخل على زعماء قريش وسادتها الذين آثروا الكفر على الإيمان، واستحبوا العمى على الهدى، وصدهم عنها، أن سبقهم إليها جماعات ممن لم يكونوا أصحاب سيادة أو رياسة فيهم، بل كانوا من الفقراء والمستضعفين والأرقاء من الرجال والنساء.. فأنف هؤلاء السادة أن ينضموا إلى ركب العبيد، وحسبوا أن الدين والدنيا على سواء، وأن من كان عزيزا في الدنيا، فهو سيد وعزيز في الدين، وبدا لهؤلاء
__________
(1) مسلم (107)، وأبو عوانة 1/ 40، والبيهقي 8/ 161.
(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 194)
القرآن.. والعزاء والشفاء (140)
السادة أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه ما يرفع من مقام السادة، أو حتى يحتفظ لهم بمكانهم الذي هم فيه.. وإذن فزهدهم في هذا الدين، وصرف وجوههم عنه هو الموقف، الذي ينبغى عليهم أن يلتزموه، وأن يدعو هذا الدين للعبيد والإماء، ومن هو مثلهم ضعفا وفقرا، فلن يزيدهم هذا الدين، إلا فقرا وضعفا.. هكذا كان تقدير السادة والزعماء من مشركى قريش، وهكذا كان تصورهم للرسالة الإسلامية، وما تحمل من هدى ونور.
سكت قليلا، ثم قال (1): وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: 11].. ولهذا، فإن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: 53] هو بيان لهذا الموقف الذي وقفه سادة قريش وكبراؤها من دعوة الإسلام، وأنهم إنما ضلوا الطريق إلى الإيمان بالله بسبب أن جماعة من المستضعفين والفقراء قد سبقوهم إليه، فقد كان ذلك فتنة لهم، وكان لسان حالهم يقول ما حكاه القرآن عنهم: ﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: 53] يقولونها تهكما وسخرية.. إذ كيف يختار الله لدينه منهم من هم أنزل الناس منزلة فيهم؟.. وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].. فالله سبحانه وتعالى هو الذي اختار هؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام، ودعاهم إلى مائدته، وأقامهم في الصفوف الأولى منها، لما علم سبحانه وتعالى من قبولهم لدعوته، وشكرهم لفضله ونعمته.. أما هؤلاء السادة المتكبرون، فليسوا أهلا لأن يدعوا من الله، ولا أن يكونوا في السابقين إلى مائدة الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23]
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 195)
القرآن.. والعزاء والشفاء (141)
سألناه حينها عن العزاء الذي تحمله هذه الآية الكريمة ومثيلاتها لأمثالنا من الفقراء والمساكين، فقال: الله تعالى في الآية الكريمة يخبر عن القصد من بلائه واختباره لعباده، فهو يبتليهم بالفقر والغنى، ومن النتائج التي تنتج عن ذلك البلاء أن يقول المستكبرون المتعالون: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام:53]، فرد الله تعالى عليهم بكونه أعلم بالشاكرين.. أي إن الله تعالى يعلل مننه على عباده الذين قربهم بكونهم من الشاكرين.
قلت: فلم يكون فضل الله وجميل اختياره مرتبطا بالشاكرين؟
قال: أرأيت لو أنعمت على بعض إخوانك بنعم، وقدمت لهم خدمات أرهقتك، فنظر بعضهم إليك شزرا، وانصرف.. وقال بعضهم: (ما هذه الخدمات الحقيرة، والعطايا الصغيرة؟).. وجاء بعضهم فقبل يديك، ومسح على رجليك، وقال الثاني: (نحن في خدمتك، فجزيت عنا كل خير).. أي هؤلاء تفضله بعد ذلك بالعطاء إذا سنحت لك السوانح، ودر عليك اللطف؟
قلت: الشاكرين.. لا شك في ذلك، فكيف يمتد عطائي للجاحدين، بل إني لو استطعت أن أسلبهم ما أعطيتهم، وأخرج طعامي من بطونهم أو أحوله سما لفعلت.
قال: وكذلك الحق تعالى مع كرمه العظيم، فإنه قد يسلب هؤلاء نعمهم، كما قال تعالى عن قرى سبأ لما أعرضوا عن شكر الله: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ:16]
قال أحدنا: فما علاقة ذلك بالمستضعفين، أليس الشكر مطلوبا من الأغنياء، والصبر مطلوبا من الفقراء؟
قال: بل الشكر والصبر مطلوب منهما جميعا.. لأن الشكر والصبر عبادتان لا تختلفان عن الصوم والصلاة، فهل قال أحد: إن الصلاة خاصة بالأغنياء، والصوم خاص بالفقراء؟
القرآن.. والعزاء والشفاء (142)
قلت: لا.. لم يقل أحد بذلك.. ولكن على ماذا يصبر الأغنياء والنعم لديهم متوافرة؟
قال: على عدم استفزاز النعم لهم استفزازا يجعلهم يعبدون أنفسهم ولا يعبدون الله.
قلت: وماذا يشكر الفقراء؟
قال: أقل شيء يشكرونه أن الله لم يجعل لهم من الغنى ما يحول بينهم وبين تبصر الحق.. ولذلك عقب الله تعالى الآية السابقة بقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام:53]، فالغني قد ينشغل بالنعم وما تتطلبه عن شكرها.
سكت قليلا، ثم قال: ولذلك، فإن الله تعالى ذكر مواجهة المترفين لأنبيائهم في مواضع عدة من القرآن الكريم، كقوله تعالى مبينا سنة ذلك: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ:34].. ومثل ذلك ربطه بين مصير القرى والمترفين، بل يبين أن المترفين هم سبب هلاك الأمم والحضارات، كما قال تعالى مبينا هذا القانون: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ [الاسراء:16]
قلت: ما السبب الذي جعل الترف حائلا بين المترفين والحق؟
قال: الترف.. فالمترف مستغرق في ترفه مستعبد له، وقد قال تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود:116]، فالمترفون استهواهم ترفهم، فاستعبدهم من دون الله، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط تعس وانتكس، وإذا شيك فلا
القرآن.. والعزاء والشفاء (143)
انتقش)(1).. ثم عقب على ذلك بذكر نواحي الفضل التي يحتويها الفقر والحاجة المصاحبة للإيمان، فقال: (طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)
ثم راح يسألنا قائلا: أتدرون ما سر هذا الاقتران؟
ثم أجاب نفسه بقوله: أما الأول، فإنه لانشغاله بترفه، وما يتطلبه ترفه عمي عن الكون جميعا، وعمي عن رسالته في هذا الوجود، وأما الثاني الذي لا يملك شيئا، فقد كان فقره سببا في رؤيته الأشياء على حقيقتها.
طلبت منه أن يوضح ذلك بمثال، فقال: أرأيت إن وضع مترف من المترفين في قصر عظيم، له في كل لحظة زينة جديدة، وطعام جديد، فهو دائما في ظل الجديد، أكان يمكنه أن يجد الوقت لرؤية السماء، أو شعاب الوادي، أو فيافي الصحراء، أو تأمل النجوم في الليل؟
قلت: لا يمكنه ذلك، فلن يخرج من قصره العامر ليصيبه غبار الفيافي.
قال: فكذلك هؤلاء المترفين الذين عصبوا عيونهم بخيوط الحرير، وكبلوا أقدامهم بقيود الذهب، ووضعوا على رقابهم أغلال اللآلئ.. أما المستضعفون، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي يمثلهم أحسن تمثيل، وهو ذلك الأشعث الأغبر الذي إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، فهو لا يبالي بشيء، ولا يخاف شيئا.. ولهذا كانت رؤية الفقير للحقائق أيسر.. ولهذا يقول تعالى لهؤلاء المترفين في الآخرة مستهزئا: ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ [الانبياء:13]، ويقول معللا
__________
(1) البخاري (3/ 1057)
القرآن.. والعزاء والشفاء (144)
سر ما حصل لهم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ [الواقعة:45]
بهذا الحديث انتهى المشهد الخامس من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد السادس، والذي تعلمت منه معنى التعفف والاستغناء، وأثرهما في العزاء والسلوى، والأسباب التي تجعل المؤمن عفيفا مستغنيا.
وقد بدأ هذا المشهد من ذلك المحل نفسه، وقد تحدث فيه إمام الحارة التي كنا فيها، والتي تُجمع عنده الصدقات، ثم يقوم بتفريقها بين أهل الحارة، وقد بدأ حديثه بقوله: اسمحوا لي أن أتحدث أنا أيضا، لا باعتباري من تشرفت بإمامتكم في الصلوات، ولكن بكوني تلميذا بسيطا لمعلمي الكاظم، وللتلاميذ الذين تتلمذوا على يديه.
وقبل أن أبدأ حديثي أود أن أذكر لكم، بأني في هذه الحارة ـ قبل أن يزورنا المعلم ـ كنت أعاني كثيرا في توزيع الهدايا والصدقات التي يجلبها لي بعض الناس، حيث كنت أتعرض للعتاب بل التوبيخ من الكثيرين، لأني قدمت غيرهم عليهم، لكن الأمر اختلف تماما بعد زيارة المعلم، حيث كنت أحتار فيمن يقبلها، لأن الكل كان يطلب مني أن أسلمها لغيره، ويخبرني أنه أولى بها منه.
وسأذكر لكم ما ذكره لي أربعة من الذين كنت أتلقى منهم قبل زيارة المعلم جميع أنواع التوبيخ بسبب عدم تقديمي لهم على غيرهم، وقد سألتهم جميعا عن سر ذلك التغير الذي حصل لهم.. وكل منهم ذكر لي ناحية من نواحي ضعف البشر، والتي تطهر القلب من الذل لهم.
القرآن.. والعزاء والشفاء (145)
وأولها: الفقر.. فالبشر جميعا فقراء.. والفقير لا يمد يده لفقير مثله.. وثانيها: البخل، فالأغنياء يكنزون أموالهم، ويخافون إهدارها على المحتاجين.. وثالثها: الظلم.. فالكرماء قد يضعون كرمهم في المواضع التي لا تصيب المحتاجين.. ورابعها: العجز، فحاجات الإنسان أكثر من أن يسدها فقير وظالم وبخيل وعاجز.
أما الأول، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد قرأ علي عند جلوسي إليه أول مرة قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل:62]، ثم قال: من أكبر نعم الله عليك أن لا تحتاج إلا إليه، وأن لا تمد أعناق همتك إلا إليه، وأن (لا تتعد نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال)
ثم قال: هل تعلم من هو الكريم الحقيقي.. ذلك الذي ينبغي أن نمد أيدينا إليه؟
سكتُّ، فقال (1): إنه الله الكريم المطلق، فهو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولا لمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجا، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء.. ولا يتحقق هذه الصفات بكمالها أحد من خلق الله.. فمثل هذا الكرم لا يمكن أن يكون إلا ممن خزائنه لا تنفذ.. أما خزائننا فسريعة النفاذ.. ولو امتلأت ففينا من البخل ما يمنع التكرم بها.
ثم قال: لقد قال لي بعض شيوخي عندما رآني أمد يدي إلى بعض الأثرياء: (لا ترفعن
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 117)
القرآن.. والعزاء والشفاء (146)
إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعا؟ من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه، فكيف يستطيع أن يكون لها عن غير رافعا؟)
ثم دعاني إلى قراءة ما ورد في القرآن الكريم عند ذكر الله تعالى للإنسان، والسلبيات الكثيرة التي يتصف بها، والتي تجعله غير مؤهل لأن يصبح غوثا لغيره، وكيف يكون كذلك، وهو ليس غوثا لنفسه.. فقد ذكر الله تعالى أنه كثير النسيان، وناكر للجميل، وأنه موجود ضعيف، وأنه ظالم وكافر، وأنه بخيل قتور، وأنه عجول، وأنه مجادل خصيم، وأنه موجود قليل التحمل والصبر، يبخل عند النعمة، ويجزع عند البلاء، وأنه طاغية عند الغنى.
ثم قال لي: ويجمع كل ذلك كون البشر جميعا ـ أغنياءهم وفقراءهم ـ فقراء.. فالفقر ليس خاصا بفلان من الناس، ولا بدولة من الدول، بل هو سمة الكون جميعا.. أما الغني الوحيد في هذا العالم فهو الله تعالى.
ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15]، ثم قال (1): إن ربنا الكريم يقول لنا في هذه الآية الكريمة: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله في دقيق الأمور وجليلها، وفي كل لحظة.. لا يستغني أحد عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، إذ لا قيام للعبد إلا به، فهو مفتقر إلى الله، إيجادا وإمدادا.. ولهذا جاء لفظ [الفقراء] معرفا للمبالغة في وصف فقرهم، وكأنهم لشدة افتقارهم، وكثرة احتياجهم، هم الفقراء دون غيرهم، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به.
ثم حكى لنا عن بعضهم أنه قال: الخلق محتاجون إلى الله في كل نفس، وطرفة، ولحظة، وكيف لا، ووجودهم به، وبقاؤهم به؟.. والله هو الغني عن الأشياء كلها، الحميد
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 529)
القرآن.. والعزاء والشفاء (147)
المحمود بكل لسان.
ثم قال لنا (1): ولم يسم الله تعالى عباده بالفقر تحقيرا لهم، بل سماهم بذلك تعظيما لهم، لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني أغناه عن أشكاله وأمثاله.. ولهذا وصف الله تعالى نفسه بكونه حميدا ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كل غني نافعا بغناه، إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم، حمده المنعم عليهم.
ثم ذكر لنا السر في تعقيب الآية الكريمة بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر: 16]، فقال: لما ذكر الله تعالى افتقارهم إلى نعمة الإيجاد، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد، بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ [فاطر: 16] أي: إن يشأ يفنيكم كلكم، ويردكم إلى العدم فإن غناه بذاته، لا بكم، ويأت بخلق جديد يكون أطوع منكم، أو بعالم آخر غير ما تعرفون.. وما ذلك الإفناء والإنشاء على الله بعزيز بممتنع.. ولهذا كان فقر الخلقة عاما لكل أحد، في أول حال وجوده ليبديه وينشيه، وفي ثاني حال بقائه ليديمه ويبقيه.. وقد أشار إلى ذلك بعض الحكماء، فقال: (نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل موجود منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، أنعم أولا بالإيجاد، وثانيا بتوالي الإمداد)
ثم حدثنا عن أنواع الفقر، فذكر أنه على أربعة أقسام: فقر من الدين، وفقر من اليقين، وفقر من المال، وفقر مما سوى الله.. فالأولان مذمومان، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع، حتى لو ملك صاحبهما الدين ومن فيها.. والثالث: إن صحبه الرضا فممدوح، وإلا فمذموم.. والرابع: هو مطلب القاصدين والعارفين، وهو الغيبة عما سوى الله، والغنى بالله.. وهو ينشأ عن التحقق بالفقر ظاهرا وباطنا لأن الفقر من وصف العبد،
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 529)
القرآن.. والعزاء والشفاء (148)
والغنى من وصف الرب، فمن تحقق بوصفه أمده الله بوصفه، كما قال بعض الحكماء: (تحقق بوصفك يمدك بوصفه، تحقق بفقرك يمدك بغناه، تحقق بذلك يمدك بعزه)
وقد حكى لنا في هذا الكثير من حكم الحكماء الناتجة عن تدبر القرآن الكريم، ومنها قول بعضهم (1): (لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى، ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى، حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه.. فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا بالسر إليه، ومنقطعا عن الغير إليه، حتى يكون عبوديته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع)، وقال آخر: (من استغنى بالله لا يفتقر، ومن يتعزز بالله لا يذل)، وقال آخر: (الفقر خير للعبد من الغنى لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال)، وقال آخر: (صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء)
ثم ذكر لي أنه التقى به في مجلس آخر، فسمعه يقول (2): إن البشر في حاجة دائمة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم، وهو المحمود بذاته، وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسير.
وعندما سئل عن سبب ذلك، قال (3): الناس في حاجة إلى أن يُذكّروا بهذه الحقيقة، لئلا يركبهم الغرور، وهم يرون أن الله جل وعلا يعنى بهم، ويرسل إليهم الرسل ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور.. ويركبهم
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 530)
(2) في ظلال القرآن (5/ 2937)
(3) في ظلال القرآن (5/ 2937)
القرآن.. والعزاء والشفاء (149)
الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله، وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئا في ملكه تعالى، والله هو الغني الحميد، وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته، ويفيض عليهم من رحمته، ويغمرهم بسابغ فضله، بإرسال رسله إليهم، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء.. إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلا وكرما ومنا، لأن هذه صفاته.. لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئا بهداهم، أو ينقصون من ملكه شيئا بعماهم، ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل.
ثم قال (1): إن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه، حين يرى نفسه، وهو الصغير الضئيل الجاهل القاصر، الضعيف العاجز، ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل.. والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض، والأرض تابع صغير من توابع الشمس، والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم، والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة ـ على ضخامتها الهائلة ـ متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده.. وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله، ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية.. ينشئه، ويستخلفه في الأرض، ويهبه كل أدوات الخلافة ـ سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته ـ لكن هذا المخلوق يضل ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره، فيرسل الله إليه الرسل، رسولا بعد رسول، وينزل على الرسل الكتب والخوارق، ويطّرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2937)
القرآن.. والعزاء والشفاء (150)
الأخير للبشر قصصا يحدث بها الناس، ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم، ويحدثهم عن ذوات أنفسهم، ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات، ومن عجز وضعف، بل إنه ـ سبحانه ـ ليحدث عن فلان وفلان بالذات، فيقول لهذا: أنت فعلت وأنت تركت، ويقول لذاك: هاك حلا لمشكلتك، وهاك خلاصا من ضيقتك.. كل ذلك، وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض، التابعة الصغيرة من توابع الشمس، التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس، والله ـ سبحانه ـ هو فاطر السماوات والأرض، وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة.. بمجرد توجه الإرادة.. وهو قادر على أن يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة..
ثم قال (1): البشر خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته، وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران.. فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية، إلى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة.. والقرآن الكريم يلمس بالحقائق قلوب البشر لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس، ولأنه هو الحق وبالحق نزل، فلذلك لا يتحدث إلا بالحق، ولا يقنع إلا بالحق، ولا يعرض إلا الحق، ولا يشير بغير الحق.
ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر، يقول: الفقر في حقيقته هو الحاجة، وهي ليست مختصرة فيما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاجات، بل هي كل شيء وهبه الله تعالى لعباده ابتداء من وجودهم، وانتهاء بالأرزاق التي تفاض عليهم في كل حين.
ثم ذكر لهم أصناف الحاجات التي يحتاج الخلق إلى سدها.. وهي كثيرة جدا، ففي
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2938)
القرآن.. والعزاء والشفاء (151)
الإنسان من الحاجات بحسب عدد خلاياه.. بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه.. لأن الفقر هو الحاجة.. وفي كل ذرة حاجة من الحاجات.. وفاقة تستدعي أن تسد.
ثم قال: إن كل تلك الثروات التي يمتلكها الأغنياء.. والخزائن التي يوصدونها.. والأموال التي يرصدونها لا يسدون بها إلا حويجات قليلة.. بل في الحقيقة لا يسدون شيئا.
ثم ذكر لهم موعظة بعضهم لبعض الأمراء، حين دخل عليه، وبيده كوز ماء يشربه، فقال له: عظنى، فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه؟.. قال: نعم.. فقال: لو لم تعط إلا بملكك كله، فهل كنت تتركه؟.. قال: نعم.. قال: فلا تفرح بملك لا يساوى شربة ماء.
أما الثاني، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد حدثنا عن البخل الذي يتصف به البشر، حتى لو وفر الله تعالى لهم بعض الغنى.. ولذلك فهم لا يستحقون أن نذل لهم، أو نمد أيدينا إليهم.
ثم ذكر لي أنه سمعه في بعض مجالسه يذكر أن الله بحكمته أعطى الأغنياء بعض ما قد تمس إليه حاجة الفقير ليبتلي الغني بالفقير، والفقير بالغني، ثم استدل ذلك بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام:165]، ثم عقب عليها بقوله (1): في هذه الآية الكريمة بيان لنعمة من نعم الله الكبرى على بنى آدم خاصة، إذ جعلهم ﴿خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 165] وفي هذا ما فيه من تكريم لهم، وإحسان إليهم، ففي قوله تعالى:
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 358)
القرآن.. والعزاء والشفاء (152)
﴿خَلَائِفَ﴾ [فاطر: 39] إشارة إلى مكانة الإنسان، وسمو قدره، وأنه ليس مكرما في جنسه وحسب، بل هو مكرم في كل فرد من أفراده.. فكل إنسان هو خليفة الله في هذه الأرض، وأنه ـ وإن كان عضوا في المجتمع الإنسانى ـ فليس ذلك بالذي يذهب بشيء من مقومات شخصيته، أو يجور على هذا الوضع الكريم الذي وضعه الله فيه.. فهو خليفة الله، أيا كان مكانه في المجتمع.. غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا، قويا أو ضعيفا.. إنه خليفة الله في الأرض، ومن واجبه أن يعمل بمقتضى هذه الخلافة، ويجمع إلى يديه أسبابها ومقوماتها..
ثم قال (1): هذا هو الإنسان كما ينظر إليه القرآن الكريم.. إنسان كريم على الله، خلع عليه خلع الخلافة، وتوجه بتاجها، وجعل درة هذا التاج هو عقله الذي يستطيع به أن يبلغ من السمو ما يشاء.. وإنه لمن ظلم الإنسان لنفسه، ومن استصغاره لوجوده، أن يسف وينحدر عن هذا المستوي الكريم الذي رفعه الله إليه، فيتحول إلى كائن حيوانى ذليل، يُقاد فينقاد، ويستذل فيذل، حتى لينعزل عن العالم الإنسانى، ويصبح على غير الخلق السوى الذي خلقه الله عليه.. ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: 4 ـ 5]
ثم قال (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165] إشارة إلى أن هذا المستوى الكريم الذي وضع الله سبحانه الإنسان فيه، ليس على درجة واحدة، وإنما هو درجات، بعضها فوق بعض، وإن كان أدنى هذه الدرجات لا ينزل بالإنسان عن درجة الخلافة التي أعده الله لها، فإن نزل الإنسان عن هذه الدرجة فقد نزل عن إنسانيته، وتحلى عن مكانه بين الناس.. أما هذا التفاوت الذي بين الناس فهو في مراتب الفضل، ابتداء من درجة الخلافة، إلى جميع الكمالات التي تمكن من
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 359)
(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 359)
القرآن.. والعزاء والشفاء (153)
أسبابها وتؤكد من سلطانها.. وفي هذا التفاوت الذي بين الناس، وفي درجات التفاضل المقسومة بينهم، يتحرك الناس، فيلحق المتأخر بالمتقدم، ويسعى المتقدم ليلحق بمن تقدم عليه وفضله، أو ينزل عن مكانه الذي هو فيه ليأخذه غيره.. وهكذا يتحرك الناس في الحياة صعودا وهبوطا، ويتبادلون المواقف، ويتنازعون منازل الفضل، وبهذا تظل ريح الحياة في حركة دائمة مجددة. يتنفس فيها الناس أنفاس الأمل، والقوة، والحياة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165] أي ليمتحنكم فيما أودع في كل منكم من قوى، هي رصيد كل منكم في سوق الحياة، وفي هذه السوق يكون العمل، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.
ثم قال (1): وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 167] إشارة إلى أن كل عمل يحمل جزاءه معه، جزاء معجلا، يجده الإنسان في الدنيا، قبل أن يلقى الجزاء عليه في الآخرة.. فالأعمال الطيبة تفوح منها ريح طيبة على صاحبها، فيجد فيها رضى النفس، وراحة الضمير، وحسن الأحدوثة، وسلامة العاقبة.. والأعمال الخبيثة تهب منها على صاحبها ريح خبيثة تزكم أنفه، وتخنق صدره، وتفسد حياته، وتضل سعيه.. هذا هو الجزاء السريع العاجل في الدنيا لكل عمل.. ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ [الأعراف: 167].. أما في الآخرة، فهناك الحساب والجزاء، لأعمال الإنسان جميعها، حيث تسوى أعماله خيرها وشرها، ويوفى الجزاء العادل عليها، وهذا الجزاء المعجل والمؤجل معا، تحفه مغفرة الله، وتمسه رحمته، ولولا ذلك لهلك الناس جميعا، ولما نجا منهم أحد.. ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 360)
القرآن.. والعزاء والشفاء (154)
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]، وكون الله بصيرا بعباده، يقتضى أنه عالم بما فيهم من ضعف إنساني، إن لم تمسسهم رحمة الله، وتحف بهم مغفرته لم يكن للناس جميعا سبيل إلى الخلاص والنجاة، وهذا ما يكشف عنه سر الجمع بين ما عند الله من عقاب سريع، وما عنده من مغفرة ورحمة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 167]
ثم ذكر لي أنه عندما طلب منه توضيحا أكثر لذلك، قال له: إن قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 165] يدل على أن الله تعالى جعل في أيدي بعض الناس ما يوصلون به الفضل الإلهي لعباده، فهم خلفاء في توصيل هذا الفضل، بدليل قوله تعالى بعدها: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الأنعام: 165]، أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ [الزخرف: 32]، وقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ [الاسراء:21].. لكن أكثر الخلائق يحبسون هذا الفضل، لما في طبعهم من البخل، كما قال تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: 128]، أي أن الشح طبع فيهم يغذونه بسلوكهم المنحرف.
ثم أخبرني أنه سأله عن سر ذلك، وقال: لكن لماذا غذوا بالشح الفطري، لماذا لم يغذوا بالكرم الفطري؟.. فأجابه المعلم بقوله: لأن الكرم الذاتي من صفات الغني، وليس ذلك إلا الله، أما الخلائق فلفقرهم وحاجاتهم اللامتناهية يخشون دائما نفاذ ما عندهم، فيبخلون على الخلائق به.
ثم ذكر لي أنه حدثه عن الفرق بين كرم الصالحين، وكرم غيرهم، فقال: الصالحون يكرمون من خزائن الله لا من خزائنهم، فلذلك لا يعرفون البخل.. لأن البخيل يبخل بما
القرآن.. والعزاء والشفاء (155)
يملك، وهم يعتقدون أنهم لا يملكون شيئا مع الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا)(1)، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التفت إلى عرش الله العظيم، فظهرت له الأرض جميعا كشيء لا وجود له.. ولذلك وصف الله تعالى بصاحب العرش، ليذكر بلالا بأنه لا ينفق من عنده، وإنما ينفق من عند الله.
ثم قال: وفي هذا عزاء عظيم.. فالفقير الذي ينشغل برؤية عرش الله، وخزائن الله لا يمد يده لأي أحد من الناس، بل يكتفي بمدها لله، فماذا يساوي الخلق جميعا أمام أبسط مخلوقات الله.. وهذا أيضا يجعل الفقير يشعر بفقر الخلق جميعا، فلا يحسدهم ولا يسألهم، ولا يتمنى أن يحصل له ما حصل لهم، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء:32]، لأن التمني يبدأ بجحود فضل الله، وينتهي بتمني زوال فضل الله، فلذلك نُصحوا بدل الغرق في أودية الأماني أن يتوجهوا إلى المعطي والمتفضل، فمن أعطى أولا يعطي آخرا، ومن أعطى لفلان لا يعجز عن العطاء لفلان، وهذا أكبر علاج للحسد الذي يقع من الفقراء للأغنياء، بل هو أكبر علاج لأمراض الطبقية الاجتماعية، فالطبقية ليست محصورة في الغنى والفقر.
أما الثالث، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد تعلمت منه ما أترفع به عن مد يدي للخلائق، لأنهم ـ إضافة إلى فقرهم وبخلهم ـ قلما يعرفون مواضع الحاجات، فيضعونها فيها، ولهذا وصف الله تعالى الإنسان بالظلم، فقال: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً
__________
(1) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص 118)
القرآن.. والعزاء والشفاء (156)
جَهُولاً﴾ [الأحزاب:72]
وعندما سألته عن معنى الآية، قال (1): الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمن قام بهاتين الخصلتين كان أمينا، وإلا كان خائنا.. والمعنى: إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبت وأشفقت واستعفت منها، مخافة ألا تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب.
وعندما سألته عن الظلم والجهل الذي وصف به الإنسان، قال (2): إن هذا الوصف ليس واقعا على الإنسان في جنسه كله، وإنما هو واقع على من خان الأمانة من بني الإنسان، ونزل عن هذا المقام الرفيع الذي له في الكائنات، وبهذا استحق أن يوصف بأنه (ظلوم) أي عظيم الظلم، لأنه ظلم نفسه، فلم يقدرها قدرها، ولم يحفظ عليها مكانتها.. وإنه ليس أظلم ممن يظلم نفسه، ويبخسها حقها، وهو (جهول) لأنه لم يعرف قدر نفسه، ولم يحتفظ بهذا السلطان الذي له في هذا العالم.. ومن جهل نفسه فهو أجهل الجاهلين..
ثم قال (3): فوصف الإنسان بأنه ظلوم جهول، هو في الواقع إشارة إلى تلك الخسارة العظيمة، التي خسرها الإنسان بتضييع الأمانة التي كانت بين يديه، والتي ـ حين تخلى عنها ـ فقد كل شيء، ونزل من القمة إلى القاع.. وهذا أسلوب من أساليب البلاغة في إظهار عظمة الشيء، بذم من فرط فيه وقصر في حفظه، وحراسته.. كما يقال عن إنسان كانت بين يديه فرصة عظيمة مسعدة، فأضاعها بإهماله وتواكله، فلا يجد إلا من يلوم ويقرع بمثل هذه
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 468)
(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 768)
(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 768)
القرآن.. والعزاء والشفاء (157)
الكلمات: غبى.. جاهل.. وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72] تعقيبا على قوله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ [الأحزاب: 72].. وإنما هو تعقيب على محذوف، تقديره: (وحملها الإنسان فلم يحسن حملها، ولم يؤدها على وجهها.. وإنه بهذا التقصير كان ظلوما جهولا)
ثم استدرك قائلا (1): ويمكنك أن تقول: إنه كان ظلوما جهولا، أي كان من شأنه الظلم والجهل، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48] أي من شأنها ذلك، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل، فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه، وبعضهم ترك الظلم، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: 82]، وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، وقال في حق المؤمنين عامة: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: 7] وقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]
ثم ذكر لي أنه التقى به في مجلس آخر، وهو يذكر التبريرات التي يستعملها الظلمة للفرار مما وجب عليهم من حقوق، ومنها ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يّس:47]، ثم قال (2): لقد وردت هذه الآية الكريمة بعد آيات تبين السبب في مقولتهم الخاطئة هذه، وأولها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [يس: 45] أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزل الله من الآيات: احذروا ما
__________
(1) مفاتيح الغيب (25/ 188)
(2) تفسير المراغي (23/ 16)
القرآن.. والعزاء والشفاء (158)
مضى بين أيديكم من نقم الله ومثلاته التي حلت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله، ﴿وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ [يس: 45] أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات.. أعرضوا ونأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين.. ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم فقال: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [يس: 46] أي وما تجيء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان به، ومعرفة صدق رسوله.. والخلاصة: إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.
ثم قال (1): وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يّس:47]، وهذا جواب خبيث ماكر، يكشف عن كفر غليظ، فهم في سبيل الغلب بالمماحكة والجدل، يؤمنون بالله، ويؤمنون بمشيئته في خلقه، وبتصريفه المطلق لكل أمر.. فيقولون ردا على قول الله أو الرسول أو المؤمنين لهم: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ [يس: 47] يقولون: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس: 47] أي: (إن تلك هي مشيئة الله في هؤلاء الجياع الذين ندعى إلى إطعامهم.. إن الله أراد لهم أن يجوعوا، ولو
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 938)
القرآن.. والعزاء والشفاء (159)
أراد أن يطعمهم لأطعمهم.. فإنه قادر، وخزائنه لا تنفد، فلم يدعوننا نحن إلى إطعامهم، وهو القادر، ونحن العاجزون، وهو الغنى ونحن الفقراء؟ إن أنتم أيها المؤمنون ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 47] لا تعرفون الله، ولا تقدرونه قدره).. وهذا الرد من المشركين الظالمين، هو رد من خذله الله، وأضله على علم.. فهم إذ يدعون إلى الإيمان بالله، لا يسمعون، ولا يعقلون.. وهم إذا دعوا إلى ما تقتضيه دواعى المروءة الإنسانية، من الإحسان إلى إخوانهم الفقراء، يقيمون من الله، ومن علمه وقدرته حجة كيدية، يبطلون بها الدعوة التي يدعون إليها.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، معترفين بمشيئته في خلقه، لاستجابوا لما يدعوهم الله إليه، من الإنفاق في سبيل الله.
ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر يستدل على الظلم الذي يقع فيه العباد بإرشاد الله تعالى لهم إلى المستحقين للزكاة، كما قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:273]، ثم قال (1): إن الله تعالى يحدد في هذه الآية الكريمة خمس صفات لمن يستحقون أن يُتصدق عليهم.. وأولها: الإحصار في سبيل الله، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها، وحبسوا أنفسهم لها، وحينها تجب نفقتهم في بيت المال.. وثانيها: العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 273].. وثالثها: التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدى الناس،
__________
(1) تفسير المراغي (3/ 49)
القرآن.. والعزاء والشفاء (160)
فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: 273].. ورابعها: أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع، ولا برثاثة في الثياب، فرب سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رث الثياب، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه، وحسن بزة فتحكم عليه في لحن قوله، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس، وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [البقرة: 273].. وخامسها: ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية، وقد يكون المعنى أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)(1)، ولذلك فإن السؤال محرم لغير ضرورة، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)(2)، والمِرة القوة، والسوى هو السليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم)، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: (ما يغديه أو يعشيه)(3)
ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر يستدل على الظلم الذي يقع فيه العباد بإرشاد الله
__________
(1) البخاري، 1479.
(2) عبد الرزاق (7155)، والطيالسي (2271)، والترمذي (652)، والدارمي 1/ 386.
(3) ابن حبان (545) و(3394)، والبيهقي 7/ 25.
القرآن.. والعزاء والشفاء (161)
تعالى لهم إلى الآداب التي ينبغي عليهم مراعاتها عند التصدق على الفقراء والمحتاجين، وقد كان في مجلسه حينها بعض الأغنياء، وقد قال مخاطبا له: أرأيت لو زرت طبيبا ليعالج جرحا طفيفا أصابك، فأخذ هذا الجراح أدواته فداوى جرحك.. وعندما أردت أن تشكره أو تعطيه جزاء على خدمته، لم يطلب جزاء ماديا على ذلك، بل جعل جزاءه أن يمسك سكينه، ويضع في قلبك جرحا بدل الجرح الذي في يدك؟
قال الغني حينها: أقاتله إن هم بذلك، فإني أرضى أن تجرح يداي جميعا، بل جميع أطرافي، ولا أرضى أن يُجرح قلبي، فهو المحرك الذي يضخ الحياة لأعضائي وأجهزتي.
قال المعلم: وهكذا يفعل المتكرم الذي يضع بعض فضلاته في يد هؤلاء المساكين، ثم يمسك سكينه، ويقطع قلوبهم إربا إربا.. ولذلك اعتبر الله تعالى المن أخطر من الفقر، فالمن يصيب الروح والقلب والحقيقة الإنسانية، بينما الفقر لا يصيب إلا بعض أجزاء الإنسان الظاهرة.
ثم قال لنا: ولهذا اعتبر الله تعالى القول المعروف والكلمة الطيبة التي تقال للفقير تطمينا له واحتراما لشخصه أفضل من الصدقة التي يتبعها أذى، قال تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:263]، و(سبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى، ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء، فهناك جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب الإنفاع بعقاب الإضرار، وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار، فكان هذا خيرا من الأول)(1)
ثم قال (2): فقد وضع الله تعالى دستورا لحسن المعاملة بين الناس في هذه الآية
__________
(1) مفاتيح الغيب (7/ 43)
(2) تفسير المراغي (3/ 32)
القرآن.. والعزاء والشفاء (162)
الكريمة، واعتبر أي كلام حسن ورد جميل على السائل، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى، لأنه وإن خيب رجاءه فقد أفرح قلبه وهون عليه ذل السؤال.. أما الصدقة التي يتبعها أذى فهى مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء، ومن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء.
ثم قال: ولهذا نهى الله تعالى عن المن والأذى، واعتبره محبطا للصدقات، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:264]، فقد شبه الله تعالى صدقاتهم بالتراب الذي يكون على صخر أملس، يراه الناس ترابا غنيا، ولكن مطر الأذى إذا نزل عليه تركه أملس يابساً، لا شيء عليه من ذلك التراب.. وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند اللّه، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب.
ثم قال: وهكذا شبه الله تعالى مآل أعمالهم، فقال: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة:266]، وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن يحسن العمل أولاً، ثم ينعكس سيره فيبدل الحسنات بالسيئات، فيبطل بعمله الثاني ما أسلفه من العمل الصالح، فيخونه سلوكه هذا أحوج ما يكون إليه.
أما الرابع، فقد قال لي: أنا مدين في هذا لمعلمنا الكاظم، فقد تعلمت منه ما أترفع به
القرآن.. والعزاء والشفاء (163)
عن مد يدي للخلائق، لأنهم ـ إضافة إلى فقرهم وبخلهم وظلمهم ـ ممتلئون بالعجز الذي يتصف به البشر جميعا، حتى لو وفر الله تعالى لهم بعض الغنى والكرم والعدل.. ولذلك فهم لا يستحقون أن نذل لهم، أو نمد أيدينا إليهم.. وعندما ذكرت له أن العجز، صفة المستضعفين، وهي بالفقراء ألصق، فهم إن لم يقعد بهم عجز قواهم الصحي قعد بهم عجز جيوبهم، فعيونهم بصيرة وجيوبهم قصيرة، قال لي: بل الخلق كلهم عاجزون، لا ينفعون ولا يضرون ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)(1)
ثم قال لي: إن شئت أن تعرف عجز الخلائق، فقارن قوتهم التي يتيهون بها، ويتصورون أن لهم القدرة على مصارعة الكون بها بما تراه من مظاهر القوة في الكون.
عندها قلت له: إن عقلي ليتيه عندما يحاول إجراء مثل هذه المقارنة، إن الكون أعرض بكثير، والإنسان أضعف بكثير.. إنه يُسحق سحقا.
فقال لي: ومع ذلك ظهر فيكم من يدعي القوة التي يستعلي بها على الله.. وقد قص الله تعالى علينا نماذج من ذلك، فذكر نموذج عاد، فقال: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، أي (2): أنهم كانوا يتمتعون بالقوة الجسدية التي غرتهم، ذلك
__________
(1) الترمذي (2516)، والطبراني (12988)
(2) من وحي القرآن (20/ 103)
القرآن.. والعزاء والشفاء (164)
أن الله زادهم بسطة في الجسد، ولهذا شعروا بالتفوق والعلو على الآخرين الذين كانوا أضعف منهم قوة، وهو ما جعلهم يتحسسون ضخامة الشخصية في مواقعهم وامتيازاتهم، كما يتحسس البعض ضخامة أجسادهم، فتحدث لديهم عقدة التفوق التي تدفعهم إلى الاستكبار والاستعلاء على الآخرين بما يخلقه ذلك من أنانية في الذات وفي الموقف الفكري والعقدي الذي لا يخشع لفكر الآخرين، وإن كان حقا، ولم يكتفوا بذلك، بل وقفوا وقفة استعراضية للقوة التي يملكون حتى خيل إليهم أنهم يملكون قوة المطلق فقالوا، وهم يتطلعون إلى من حولهم: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: 15].. ولكن المسألة ـ لديهم ـ مجرد وهم كبير لا أساس له.. فهم يملكون بعض القوة، ولكن من الذي منحهم تلك القوة؟.. ثم ما قيمتها أمام قوة الله التي هي سر القوة في كل شيء؟.. فلا قوة لأحد مهما كانت عظمته، بدون قوة الله، ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ [فصلت: 15] من العدم وأعطاهم نعمة الوجود بكل مفرداتها التفصيلية ﴿هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: 15] لأن قوته تمتد في كل شيء، وتتسع لكل شيء ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15]، وتلك هي مشكلتهم المعقدة وهي جحود الآيات الإلهية في الوجود والكلمة التي تطل على الحق في إشراقة الوضوح، ولكنهم لا يواجهونها بعمق وواقعية وانتباه.
ثم قال لي: وهكذا كان مصير كل من ادعوا القوة والقدرة واستكبروا لها.. هكذا كان مصير ثمود، وفرعون، والقرى الكثيرة التي أشار إليها القرآن الكريم من غير أن يسميها.. لقد هلكوا، ولم تنفعهم قواهم التي تاهوا بها على الله، كما قال تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
القرآن.. والعزاء والشفاء (165)
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة:69]، أي (1): أن هؤلاء وقعوا في الفتنة بالقوة، والفتنة بالأموال والأولاد.. فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض، لأنهم يخشون من هو أقوى، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته، وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد، فيحرصون على شكر نعمته، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته.. وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.. ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [التوبة: 69]، وبطلت بطلانا أساسيا، لأنها كالنبتة بلا جذور، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر.. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة: 69] الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل.
سكت قليلا، ثم قال: ثم ذكر الله تعالى نماذج عن هؤلاء الذين اغتروا بقوتهم، ولم يلتفتوا لعجزهم، ليدعو للعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون، فقال: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70]، أي (2): هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون.. هؤلاء ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [التوبة: 70] ممن ساروا في نفس الطريق؟ ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ [التوبة: 70] وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب ﴿وَعَادٌ﴾ [التوبة: 70] وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية ﴿وَثَمُودَ﴾ [التوبة: 70] وقد أخذتهم الصيحة ﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [التوبة: 70] وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم ﴿وَأَصْحَابُ
__________
(1) في ظلال القرآن (3/ 1674)
(2) في ظلال القرآن (3/ 1674)
القرآن.. والعزاء والشفاء (166)
مَدْيَنَ﴾ [التوبة: 70] وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتُ﴾ [التوبة: 70] قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين.. ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [التوبة: 70] فكذبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70]
ثم قال (1): إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر، وتعميها النعمة فلا تنظر، وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف، ولا تتوقف، ولا تحابي أحدا من الناس.. وإن كثيرا ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين، عندئذ تحق عليهم كلمة الله، وعندئذ تجري فيهم سنة الله، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وهم في نعمائهم يتقلبون، وبقوتهم يتخايلون، والله من ورائهم محيط.
ثم ذكر لي أنه التقى به في مجلس آخر، وهو يقول ـ مخاطبا الملتفين حوله ـ: لقد ضرب الله لكم أمثالا عن عجز الخلائق، حتى لا تذلوا لهم من دون الله.. ومنها هذا المثل الذي يعبر عن الواقع بكل دقة.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج:73]
ثم قال (2): انظروا كيف استعمل الله تعالى الذباب بدل غيره ليضرب به الأمثال.. والذباب صغير حقير، ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون ـ ولو اجتمعوا
__________
(1) في ظلال القرآن (3/ 1674)
(2) في ظلال القرآن (4/ 2444)
القرآن.. والعزاء والشفاء (167)
وتساندوا ـ على خلق هذا الذباب الصغير الحقير، وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل.. لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة، فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل.. لكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل، دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير.. ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري، فيقول: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: 73].. والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا.. وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده، وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير، وهو في الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس: يسلب العيون والجوارح، وقد يسلب الحياة والأرواح.. إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد.. ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير.
سكت قليلا، ثم قال (1): وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز.. ولو قال: وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها.. لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف، والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب، ولكنه الأسلوب القرآني العجيب، ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73] ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب، وفي أنسب الظروف.. والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار لضعف الآلهة المدعاة يندد بسوء تقديرهم لله، ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2444)
القرآن.. والعزاء والشفاء (168)
[الحج: 74].. ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به تلك الآلهة الكليلة العاجزة التي لا تخلق ذبابا ولو تجمعت له، بل لا تستنقذ ما يسلبها الذباب إياه! ما قدروا الله حق قدره، وهم يرون آثار قدرته، وبدائع مخلوقاته، ثم يشركون به من لا يستطيعون خلق الذباب الحقير.. ما قدروا الله حق قدره، وهم يستعينون بتلك الآلهة العاجزة الكليلة عن استنقاذ ما يسلبها إياه الذباب، ويدعون الله القوي العزيز.. إنه تقرير وتقريع في أشد المواقف مناسبة للخشوع والخضوع.
ثم ذكر لي أنه سمعه في مجلس آخر، وهو يردد قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:41]، ثم قال (1): أي مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء يبتغون عندهم النصرة، ويطلبون منهم الرعاية والحماية، ويريدون منهم جلب النفع ودفع الضرر، ليكونوا لهم قوة يركنون إليها، وقاعدة يرتكزون عليها، وملجأ يلجأون إليه، كمثل العنكبوت اتخذت بيتا لتأوي إليه، وتحمي نفسها مما حولها من الأخطار، لكنه لا يحمل من البيت إلا اسمه، ذلك أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون، ويفكرون بعقولهم، لأنه لا يملك أساسا، ولا يدفع حرا ولا بردا، ولا يمنع من شيء، فالشوكة تمزقه، والريح تنسفه.. وهكذا هو موقع هؤلاء الأولياء من دون الله، فهم لا يرتكزون على أية قوة ذاتية من أية جهة من الجهات، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا وحياة ولا نشورا، فكيف يملكونه لغيرهم.. وإذا كان الأمر على هذا المستوى، فقد تأخذ القضية طبيعة القاعدة العامة التي تشمل كل جوانب الحياة، في كل مواطن الولاية التي يركن الناس فيها
__________
(1) من وحي القرآن (18/ 55)
القرآن.. والعزاء والشفاء (169)
إلى بعض الأشخاص الذين لا تلتقي ولايتهم بولاية الله والرسول، بل تلتقي بمواطن الكفر والضلال، فيما تتخذه لسيطرتها من مواقع ووسائل وأهداف.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [العنكبوت: 42] ويعلم طبيعته، ولا يجهل أمره، لأنه هو الذي خلقه، وهو الذي يدبره، ويمنحه ما يحتاج إليه فيما هو شرط امتداد وجوده، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 42] الذي لا يغلبه شيء ويتقن تدبير خلقه بأفضل طريقة، وأحسن تدبير.
ثم ذكر لي أنه سأله حينها قائلا: فكيف أتخلص من خيوط العنكبوت التي أرتبط بها، ويرتبط الضعفاء بها؟
فقال المعلم: بأن تعلم بأنها خيوط عنكبوت.. أرأيت لو وقعت في البحر، وحام بك الموت ليلتهمك، فرأيت حبلا متينا مرتبطا بسفينة ضخمة فيها كل وسائل الإنقاذ، أكنت تتعلق بذلك الحبل الذي يوصلك إلى سفينة النجاة، أم تتعلق بخيوط عنكبوت تراها من بعيد كما يرى الظمآن السراب؟
بهذا الحديث انتهى المشهد السادس من مشاهد العزاء المرتبط بالفقراء والمساكين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد السابع، والذي تعلمت منه معنى الإحسان والتفضل، وأثرهما في العزاء والسلوى، والأسباب التي تجعل المؤمن محسنا ومتفضلا.
وقد بدأ هذا المشهد بعد استيقاظي صباحا في بيت المضحك، حيث سمعت صبيين يتحدثان، قال أحدهما: الحمد لله رب العالمين، لقد تمكنت اليوم من جمع المبلغ اللازم لشراء
القرآن.. والعزاء والشفاء (170)
خمسة دفاتر، ومثلها من الأقلام، لأسلمها لمعلمي ليضعها في خزانة القسم، لكل من يحتاج إليها.
قال الثاني: ولكنك أنت أيضا محتاج، فلم لا تشتريها، ثم تحتفظ بها في بيتك، لتستعملها حال الحاجة إليها؟
قال الأول: وأين ثواب الإحسان؟
قال الثاني: الإحسان يكون من المحسنين الذي يملكون ما يكفيهم.
قال الأول: فأين الإيثار؟.. فقد أخبر الله تعالى عن الصالحين، وكونهم ممن يؤثرون على أنفسهم ولو كانوا فقراء معوزين، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]
قال الأول: بورك فيك، وما أعظم ما استدللت به، لكن كيف فهمت هذا المعنى من الآية الكريمة؟
قال الثاني: لقد سمعت تفسيرها قبل فترة من معلمنا الكاظم، وفي زيارة له إلى حارتنا، ومنذ ذلك الحين، وأنا أحاول كل جهدي أن أحيي هذه السنة العظيمة التي مارسها أولئك الصالحون.
قال الأول: فهلا حدثتني بما سمعت.
قال الثاني: أجل.. فقد بدأ معلمنا الكاظم حديثه بقراءة تلك الآية الكريمة، ثم قال (1): أي والذين سكنوا المدينة، وأُشرب قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك
__________
(1) تفسير المراغي (28/ 43)
القرآن.. والعزاء والشفاء (171)
المهاجرين، لهم صفات كريمة، وشيم جليلة تدل على كرم النفس، ونبل الطباع.
ثم ذكر أول صفاتهم، وهي أنهم يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وبينهم، وأسكن المهاجرين في دور الأنصار معهم، وقد روي أن بعض المهاجرين قال: (يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة في قليل، ولا حسن بذل في كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم)(1)
ثم ذكر صفتهم الثانية، وهي أنهم لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون، ويقدمون ذوى الحاجة على أنفسهم، ويبدؤون بسواهم قبلهم، وقد روى في ذلك عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: والله ما عندى إلا قوت الصبية، قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة)(2)، وأنزل فيهما ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]
ثم ذكر لنا بأن الله تعالى عقب الآية الكريمة بما يبين سوء عاقبة الشح فقال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16] أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، وروى لنا في
__________
(1) أحمد (20/ 361)، وابن أبي شيبة 10/ 191.
(2) البخاري (3/ 1382)
القرآن.. والعزاء والشفاء (172)
ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم)(1)
قال الأول: هنيئا لكم هذا المجلس.. فهل سمعته يذكر فيه غير ما ذكرت؟
قال الثاني: أجل.. فقد سمعته يقرأ قوله تعالى في وصف الأبرار وصفاتهم: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 8 ـ 10]، ثم عقب عليها بقوله (2): يذكر الله تعالى من صفات هؤلاء الأبرار أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. فالطعام الذي عليه قوام الحياة وملاكها، لا يؤثرون أنفسهم به، بل يجعلون لمن يعوزهم هذا الطعام نصيبا منه، ولو كانوا هم أنفسهم في أشد الحاجة إليه.
ثم ذكر لنا أن في قوله تعالى: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8] إشارة إلى أن هذا الطعام ليس شيئا رخيصا مبتذلا، كشأنه في أحوال الرخاء، ووفرة حاجات النفوس منه، وإنما هو الطعام في أحوال القحط، والجدب، وفي أزمان المجاعات التي تكون فيها لقمة الطعام أعز ما يملك الناس، وأثمن ما يحرصون عليه من مال ومتاع، حتى إن المرء ليسترخص كل عزيز يملكه، في سبيل شيء منه، كما قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] ولهذا استحق هؤلاء المطعمون لهذا الطعام أن يكونوا في الأبرار، لأنهم أنفقوا مما يحبون، ومما تشتد رغبة النفس إليه، وحرصها عليه.
وعندما سألناه عن سر ذكر المسكين واليتيم والأسير، قال (3): لأن المسكين، واليتيم، والأسير، هم أضعف أعضاء الجسد الاجتماعى، وهم الذين يتلقون أول الضربات وأقساها
__________
(1) أحمد (3/ 323)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1362)
(3) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1363)
القرآن.. والعزاء والشفاء (173)
وأفعلها، في أزمان المحل، والجدب، فيكونون أول حطب تشتعل فيه نار المجاعات.. فالمسكين قد أضرعه الفقر، وأذله الحرمان، حتى في أوقات الرخاء واليسر، وهو في حال القحط والمجاعة أشد ضراعة، وأكثر ذلة وضعفا وحرمانا.. واليتيم ـ والمراد به اليتيم الفقير ـ قد اجتمع عليه اليتم والفقر معا، فذهب اليتم بالجناح الذي كان يظله، وقص الجناح الذي كان يطير به، على حين ذهب الفقر بكل حبة كانت في عشه.. والأسير، سجين في قيد الأسر.. إن كان ذا غنى فهو لا سبيل له إلى ما يملك، وإن كان قويا ذا حول وحيلة، فقد عطل الأسر كل قواه، وسلبه كل ماله من حول وحيلة.. ومثل الأسير كل من انقطعت وسائله المتاحة له، وحيل بينه وبين مصادر رزقه، وعمله، كالمرضى والمساجين، وأبناء السبيل، وذوى العاهات، ونحوهم.
وعندما سألناه عن سر قوله تعالى حكاية لقول الأبرار: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]، قال (1): لأنهم إنما يطعمون من يطعمون ابتغاء وجه الله، لا يريدون على ما أطعموا جزاء، ولا شكورا ممن أطعموهم.. ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم فضل، ولما استحقوا عند الله أجرا، لأنهم استوفوا جزاء ما عملوا، ممن صنعوا بهم هذا الصنيع.
ثم ذكر لنا أن هذا القول من الأبرار ليس بلسان المقال (2)، يواجهون به من أطعموهم، فإنهم لو فعلوا، لكان ذلك من باب المن والأذى، الذي يحبط الأعمال، ويمحق الإحسان، وإنما هو بلسان الحال، ومما انطوت عليه ضمائرهم، وانعقدت عليه نياتهم، وقد روي عن بعضهم أنه إذا بعث بالصدقة إلى أهل بيت من الفقراء، سأل من بعثه: ماذا قالوا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1364)
(2) قال مجاهد، وسعيد بن جبير (والله ما قالوا ذلك بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم، ليرغب فى ذلك راغب)
القرآن.. والعزاء والشفاء (174)
لك؟ فإن ذكر أنهم دعوا له، أخذ بالدعاء لهم، ليبقى عمله خالصا لوجه الله.
وعندما سألناه عن سر قوله تعالى حكاية لقول الأبرار: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10]، قال (1): وهذا أيضا مما يقوله الأبرار المتصدقون، بلسان الحال، لا بلسان المقال.. فهم إنما فعلوا ما فعلوا ابتغاء وجه ربهم، وخوفا من لقائه يوم القيامة، حيث مزدحم الأهوال، وحيث يكثر العويل، والبكاء، وصرير الأسنان.. ووصف اليوم بأنه هو العبوس القمطرير، لأنه يطلع على الناس أغبر متجهما، يرمى بالنذر والمهلكات.. وإنه على صفحة الأيام والليالى تنطبع أحوال الناس، فالحزين يرى الحزن مخيما على وجه أيامه ولياليه، والمتوجع الشاكي، لا يسمع من أصداء الزمن إلا توجعا وأنينا، على حين يجد الخلى المغتبط، الأيام والليالى، تغازله بالبسمات، والضحكات.. وهكذا تتلون ساعات الزمن بألوان النفوس، وتصطبغ بما فيها من مساءات أو مسرات.
ثم ذكر لنا الجزاء العظيم المعد لهؤلاء الذين آثروا على أنفسهم، والذي ورد في قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان: 11]، فقال (2): إن هؤلاء الأبرار، الذين خافوا هذا اليوم، وأعدوا العدة له، قد وقاهم الله شره، ودفع عنهم مكارهه، وألقى عليهم نضرة النعيم، وبهجة الرضوان، ففاضت نفوسهم مسرة وحبورا، ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان: 12]، أي وجعل الله سبحانه جزاءهم عنده أن أدخلهم الجنة، وكساهم فيها خير ما يُكسى به أهل النعيم في الدنيا، وهو الحرير، ولكنه حرير الجنة الذي لا يعلم صفته إلا الله تعالى.
ثم ختم حديثه بما ورد من الجزاء العظيم المعد لهؤلاء، وهو قوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1365)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1365)
القرآن.. والعزاء والشفاء (175)
بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان: 12 ـ 22]، وقد فصل لنا معلمنا الكاظم المعاني الواردة في هذه الآيات الكريمة مما زادنا ترغيبا في الاتصاف بتلك الصفات العظيمة.
قال الأول: هنيئا لكم هذا المجلس.. أهذا ما سمعته منه في هذه المعاني مما رغبك في الإيثار أم سمعت غيرها؟
قال الثاني: بل سمعت منه كذلك الكثير من الأحاديث الشريفة في فضل الإيثار، سواء تلك الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أئمة الهدى من بعده..
ومن ذلك ما حدثنا به عن عائشة قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)(1)
ومثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)، وفي رواية: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام
__________
(1) مسلم (2630)
القرآن.. والعزاء والشفاء (176)
الأربعة يكفي الثمانية)(1)
ومثل ذلك ما حدثنا به عن الإمام علي أنه رأى جماعة فقال: (من أنتم؟) قالوا: نحن قوم متوكلون، فقال: (ما بلغ بكم توكلكم؟) قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: (هكذا يفعل الكلاب عندنا؟) فقالوا: كيف نفعل يا أمير المؤمنين؟ فقال: (كما نفعله، إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا)(2)
ومثل ذلك قوله: (كان الإيثار من شعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وروي أن موسى بن عمران قال: يا رب، أرني بعض درجات محمد وأمته، قال: يا موسى، إنك لن تطيق ذلك، لكني أريك منزلة من منازله، جليلة عظيمة، فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال: فكشف له عن ملكوت السماوات، فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله، فقال: يا رب، بما ذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال تعالى: بخلق اختصصته به من بينهم، وهو الإيثار يا موسى، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء)(3)
وروى لنا عنه أن أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده، ويتصدق بالأجرة ويشد على بطنه حجرا (4).
وذكر لنا من حكمه وكلماته القصار قوله: (الإيثار أعلى مراتب الكرم، وأفضل الشيم)(5)، وقوله: (الإيثار سجيّة الأبرار، وشيمة الأخيار)(6)، وقوله: (عند الإيثار على النفس تتبيّن جواهر الكرماء)(7)
__________
(1) البخاري (5392)، ومسلم (2058، 2059)
(2) مستدرك الوسائل 1/ 540 عن تفسير أبي الفتوح.
(3) جامع السعادات 2/ 119.
(4) بحار الأنوار: 9/ 92، شرح نهج البلاغة: 1/ 7.
(5) غرر الحكم (395)
(6) غرر الحكم (395)
(7) غرر الحكم (395)
القرآن.. والعزاء والشفاء (177)
ومثل ذلك حدثنا عن الإمام الصادق أنه سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد المقلّ، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]؟)(1)
وروى لنا أنه سئل عن الرجل ليس عنده إلا قوت يومه، أيعطف من عنده قوت يومه على من ليس عنده شيء، ويعطف من عنده قوت شهر على من دونه، والسنة على نحو ذلك أم ذلك كله الكفاف الذي لا يلام عليه؟ فقال: (هو أمران، أفضلكم فيه أحرصكم على الرغبة والأثرة على نفسه، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، والأمر الآخر لا يلام على الكفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول)(2)
بعد أن انتهى الأول من حديثه عن الإيثار وفضله، قال للثاني: أنا أعلم أنك أنت أيضا قد جلست مع معلمنا الكاظم، وأنك أيضا تريد أن تكون من المحسنين، فما الباب الذي تريد أن تدخل معهم منه؟
قال الثاني: الأبواب التي يمكنني الدخول معهم إليها كثيرة جدا، وأنت تشاركني فيها، بل يشاركني فيها جميع من يرغب، فالله تعالى وفّر أبواب الخير لعباده، ليسارعوا إليها بما أطاقوا.
قال الأول: فاذكر لي أحدها.
قال الثاني: لقد سمعت معلمي الكاظم مرة يقرأ قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
__________
(1) جامع السعادات 2/ 119.
(2) الكافي 4/ 18.
القرآن.. والعزاء والشفاء (178)
وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، ثم قال (1): لقد أمر الحق ـ جل جلاله ـ بحفظ حرمة عباده كيف كانوا، فالخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، فيجب على العبد كف أذاه عنهم وحمل الجفا منهم، وألا ينتقم لنفسه ممن آذاه منهم، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء، بل إن وسع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان، ودعا لعدوه بصلاح حاله حتى يأخذ الله بيده، وهذا مقام الصديقية العظمى والولاية الكبرى، وهذا غاية البر والتقوى الذي أمر الله تعالى بالتعاون عليه، والاجتماع إليه، دون الاجتماع على الاثم والعدوان، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء، فإن هذا من شأن الذين هم في طرف مقام الإسلام.
وعندما سألناه عن توضيح ذلك قال (2): التعاون هو الشعار الإسلامي للحياة والناس، المرتكز على البر الذي يمثل الخير في العقيدة والعمل، وذلك فيما يوحيه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177] فإنها اعتبرت القاعدة الفكرية العقدية مظهرا من مظاهر البر، لأن الانحراف عن الخط الصحيح، والابتعاد عن القاعدة الصلبة للفكر، يؤديان إلى اهتزاز الحياة وتحولها عن أهدافها السليمة، وينتهي بها ـ بالتالي ـ إلى الوقوع في قبضة الباطل والشر، لأن بداية الشر فكرة شريرة، كما أن منطلق الباطل خاطرة فاسدة، وبهذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 5)
(2) من وحي القرآن (8/ 25)
القرآن.. والعزاء والشفاء (179)
والكتاب والنبيين منطلق خير للحياة بما يمثله من تخطيط للمشاريع الخيرة المنفتحة على الله في دوافعها وخطواتها وآفاقها الواسعة، ومن تشريع يستهدف بناء الشخصية الإسلامية الإنسانية على الصورة التي يحبها الله للإنسان، ويوحي بالتالي بالاطمئنان الروحي والنفسي والثقة بالحاضر والمستقبل في حركة الحياة.
ثم ذكر لنا أن التعاون على البر لا يقف عند حدود الفكر، بل إنه ينطلق في خط العمل فيما تحدثت عنه الآية الكريمة من إيتاء المال على حبه لكل من يحتاج إليه من الفئات المحرومة، ومن إقامة الصلاة التي توصي بطهارة الروح والقلب والجسد، وإيتاء الزكاة التي تمثل روحية العطاء في شخصية الإنسان، والوفاء بالعهد بما يمثله من الالتزام بالكلمة والموقف، والصبر في جميع الحالات الذي يرتكز على صلابة الإرادة وقوة العزيمة وثبات الموقف، والصدق الذي ينطلق من قاعدة الإخلاص للحقيقة، والتقوى التي تنفتح آفاقها على المراقبة الدقيقة لله، وبذلك ينفتح البر على آفاق حياة الإنسان الداخلية والخارجية.
ثم ذكر لنا الكثير من مظاهر ذلك التعاون، وأورد لنا الكثير من الأحاديث التي تدل عليها، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عز وجل عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن سر مسلما سره الله تعالى يوم القيامة)(1)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر مسلما ستره الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ومن فك عن مكروب كربة، فك الله عز وجل عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)(2)
__________
(1) نزهة الناظر/41.
(2) عوالي اللآلئ 1/ 375.
القرآن.. والعزاء والشفاء (180)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكرم أخاه المؤمن بكلمة يلطفه بها، أو قضى له حاجة، أو فرج عنه كربة، لم تزل الرحمة ظلا عليه ممدودا ما كان في ذلك من النظر في حاجته.. ألا أنبئكم لم سمي المؤمن مؤمنا؟ لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم. ألا أنبئكم من المسلم؟ من سلم الناس يده ولسانه، ألا أنبئكم بالمهاجر؟ من هجر السيئات وما حرم الله عليه، ومن دفع مؤمنا دفعة ليذله بها، أو لطمه لطمة، أو آتي إليه أمرا يكرهه، لعنته الملائكة حتى يرضيه من حقه ويتوب ويستغفر، فإياكم والعجلة إلى أحد، فلعله مؤمن وأنتم لا تعلمون وعليكم بالأناة واللين، والتسرع من سلاح الشياطين، وما من شيء أحب إلى الله من الأناة واللين)(1)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه اثنتين وسبعين كربة من كرب الآخرة واثنتين وسبعين كربة من كرب الدنيا أهونها المغص)(2)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سرورا، ومشى مع أخ مسلم في حاجة أحب إلى الله تعالى من اعتكاف شهرين في المسجد الحرام)(3)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ)(4)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام: يا داود إن العبد ليأتيني بالحسنة يوم القيامة فأحكمه بها في الجنة.. قال داود: يا رب وما هذا العبد الذي يأتيك بالحسنة يوم القيامة فتحكمه بها في الجنة؟ قال: عبد مؤمن سعى في حاجة أخيه المؤمن
__________
(1) علل الشرائع/523.
(2) أمالي الصدوق/422.
(3) الأشعثيّات ص 193.
(4) مكارم الأخلاق ص 15.
القرآن.. والعزاء والشفاء (181)
أحب قضاءها، قضيت له أم لم تقض)(1)
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل شيء حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع خصال: مسح رؤوس اليتامى، والتعطف على الأرامل، والسعي في حوائج المؤمنين، والتفقد للفقراء والمساكين..)(2)
ومثل ذلك حدثنا عن بعضهم قال: كنا عند الإمام الصادق اذ تذاكروا عنده الفتوة فقال: (ما الفتوة، لعلكم تظنون أنها بالفسوق والفجور.. كلا إنما الفتوة طعام موضوع ونائل مبذول ويسر مقبول وعفاف معروف وأذى مكفوف، وأما تلك فشطارة وفسوق)(3)
__________
(1) أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 229.
(2) الفضائل لابن شاذان ص 153.
(3) أمالي الطوسي 1/ 307.
القرآن.. والعزاء والشفاء (182)
ثالثا ـ القرآن.. وعزاء المستضعفين
هذه هي المشاهد السبعة التي تعلمت فيها بعض ما ورد في القرآن الكريم من العزاء الخاص بالفقراء والمساكين والمحرومين.. وهي تشمل غيرهم أيضا.. بالإضافة إليها يسر الله لي في هذه الرحلة التعرف على معاني أخرى ترتبط بالعزاء والشفاء.. وكان منها هذه المشاهد الخاصة بعزاء المستضعفين والمظلومين.
وأولها المشهد الذي رأيت فيه نعمة التمحيص والتمييز رأي العين، وقد بدأ هذا المشهد بعد خروجي من بيت المضحك، ومن تلك الحارة التي كان يسكن فيها أولئك الفقراء الطيبون، فقد ودعوني في صباح ذلك اليوم منصرفين إلى أعمالهم.
ولم أدر حينها أين أسير لكن أحدهم، قال لي، وهو منصرف إلى عمله: لعلك تتصور أن معلمنا الكاظم لم يكن يهتم سوى بنا، وبعزائنا.. لا.. فقد كانت مهامه أكبر وأكثر.. وإن شئت أن تتعلم المزيد منها، فعليك أن تسير خلف هذا الجبل، فستجد قوما من الناس، وهم كثيرون جدا، وهم يدينون بحياتهم وسلامتهم لمعلمنا، ويمكنك أن تسمع منهم الكثير من الأحاديث التي حدثهم بها معلمنا.
فسرت في الطريق التي وصفها لي، وكانت طريقا شاقة جدا، والجبل كان في غاية التحصين.. وقد كان أول من التقيته رجلان كانا يحرسان في ذلك الجبل، وعندما رأياني، أسرعا إلي، فخفت منهما، بسبب السلاح الذي يحملانه، لكن أحدهما قال لي: لا تخف يا تلميذ القرآن، فقد كنا ننتظرك.. ولنا إليك حديث نريد أن نبثه إليك.
القرآن.. والعزاء والشفاء (183)
قلت: كلي آذان صاغية.. فحدثاني بما شئتما.
قال أولهما: سأحدثك أولا عن قصتي مع معلمي الكاظم، ثم يحدثك رفيقي عن قصته.. ولعلك تجد فيها ما يصلح لكتابك هذا.
قلت: يسرني الاستماع إليكما.. لكن أنتما تعلمان أني لا أسجل إلا ما يرتبط بالقرآن الكريم، فلذلك لا تتحدثا عن التفاصيل التي لا علاقة لها به.
قال أولهما: معاذ الله.. أن نفعل ذلك.. فنحن أيضا قد فنينا عن كل شيء إلا عن كلام ربنا، فلذلك ترانا منشغلين به عن كل شيء.
ثم سكت قليلا، وقال: لقد كنت مثل قومي مستضعفا محتقرا أعاني الظلم بكل ألوانه، وقد جرني ذلك لا إلى اتهام من ظلمني بالعتو والتجبر، وإنما إلى اتهام ربي سبحانه وتعالى بعدم عدالته بين عباده.. وقد جعلني ذلك من حيث لا أشعر فريسة لكثير من وساوس شياطين الإنس والجن.. إلى أن جاء اليوم الذي تشرفت فيه بلقاء سرّي عقده معلمنا الكاظم في بعض هذه الجبال.
لقد حدثنا حينها عن أن الهدف من البلاء الذي حصل لنا ليس العقوبة، وإنما تمييز الصادقين من الكاذبين، والخبثاء من الطيبين، وأخبرنا أننا لن نخرج من ضعفنا، ما لم نضع أنفسنا في المحل المناسب لها.. محل الطيبين أو محل الخبثاء.
وكان أول كلمة لها قالها لنا: احمدوا الله على أنكم مظلومون، ولستم ظالمين.. فالمظلوم إن عرف كيف يتعامل مع ما وقع فيه من البلاء سيكون صاحب مكانة رفيعة في الدنيا والآخرة.
ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
القرآن.. والعزاء والشفاء (184)
مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:142]، ثم قال (1): لقد أنزل الله هذه الآية الكريمة بعد غزوة أحد، وقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة، وأصابهم القتل والهزيمة، حيث أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير، فقد قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشُج وجهه الشريف، وأرهقه المشركون، وأُثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى قال بعض المسلمين حين أصابهم ما أصابهم: (أنى هذا؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون!؟)، كما قال تعالى يحكي عنهم: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165]
وبعد أن ذكرنا بأن واقعنا لا يختلف كثيرا عن ذلك الواقع الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فترة من الزمن، قال (2): والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعاً في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم ذكر لنا بعض السنن التي ذكّر الله بها المسلمين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 478)
(2) في ظلال القرآن (1/ 478)
القرآن.. والعزاء والشفاء (185)
صالحة للتذكير بها في كل العصور، فقال (1): والسنن التي تشير إليها الآيات الكريمة، وتوجه أبصار المؤمنين إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ.. ومداولة الأيام بين الناس.. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 140 ـ 141]، وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعدائهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى.
وعندما سألناه عن معنى التمحيص، قال (2): التمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، فهو عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب، فكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير، وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.
ثم ضرب لنا أمثلة على ذلك، فقال (3): قد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 478)
(2) في ظلال القرآن (1/ 482)
(3) في ظلال القرآن (1/ 482)
القرآن.. والعزاء والشفاء (186)
والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف ـ على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية ـ أن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط، ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة.
وعندما سألناه عن معنى هذا السؤال الاستنكاري الذي افتتح الله تعالى به الآية الكريمة حين قال (1): ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، قال: الله تعالى يصحح تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء، ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص.. وصيغة السؤال الاستنكارية يُقصد بها التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت، فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان، إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي، وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.
ثم قال (2): ولذلك فإن الآية الكريمة تشير إلى أنه لا يكفي أن يجاهد المؤمنون، إنما عليهم الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً، والتكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان، فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يُطلب لها
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 483)
(2) في ظلال القرآن (1/ 482)
القرآن.. والعزاء والشفاء (187)
الصبر، ويختبر بها الإيمان.. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان، والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية.. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر، والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات، والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال، والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها، في الطريق المحفوف بالمكاره، طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان.
ومنذ قال لنا المعلم هذه الكلمات، صرت أحن إلى كلماته، وأشعر أنها العلاج الوحيد الذي يخرجني من الضعف والفتنة، وقد سمعته في مناسبة أخرى يقرأ قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة:16]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة تنبيه للمؤمنين إلى أن الإيمان ليس مجرد عقيدة يعتقدها المؤمن، في الله وكتبه ورسله، ثم يعيش بهذه المعاني مضمرة في كيانه، كما تضمر الحبة في باطن الأرض، لا يصيبها وابل أو طل، ولا يحركها شوق إلى كشف وجهها، ومصافحة أضواء الوجود.. وإنما الإيمان هو وصل هذه الحقائق بالحياة، وصوغها في صورة سلوك وأعمال، من عبادات ومعاملات، ومن جهاد في سبيل الله، وحماية لراية الإيمان أن تسقطها يد البغاة المعتدين، من أهل الشرك والضلال.. فللإيمان أعباؤه وتكاليفه، وفي الوفاء بهذه الأعباء وتلك التكاليف، تتحد مواقف المؤمنين، وتكون منازلهم ودرجاتهم.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 714)
القرآن.. والعزاء والشفاء (188)
ثم قال (1): وفي قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا﴾ [التوبة: 16] دعوة إلى استبعاد هذا الشعور الذي يداخل بعض المؤمنين من أن يكون حسبهم من إيمانهم ما تنطوى عليه صدورهم من حقائقه.. كلا فإنهم مبتلون بما يكشف عن معدن هذا الإيمان الذي في قلوبهم، كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2 ـ 3].. ففى الإيمان شريعة، وفي الشريعة أوامر ونواه، والمؤمن مطالب بأن يمتثل الأوامر ويأتيها، ويتجنب النواهي ويحذر التلبس بها.. والإيمان عقيدة وعمل.. ولا معتبر لعقيدة إذا لم يزكها العمل، ويحقق المعاني المضمرة فيها.
ثم قال (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 16] ما يكشف عن تبعات المؤمنين، أي أحسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا هكذا من غير ابتلاء واختبار، حتى يكون ذلك موضع علم واقع منكم، من جهاد في سبيل الله وابتلاء في أموالكم وأنفسكم.. بمعنى أنه لم يظهر منهم بعد هذا العمل، ولم يدخلوا في تلك التجربة، ويصبروا على ما يصيبهم منها.. أما علم الله سبحانه وتعالى فهو علم شامل لكل ما وقع وما لم يقع.. فالمراد بعلم الله هنا، هو علمه الواقع على حال المؤمنين في هذا الوقت الذي يخاطبون فيه بهذا الخطاب.. وفي قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 16] إشارة إلى أن علم الله وإن كان محيطا بكل شيء، قبل أن يقع.. من المكلفين إلا أن المكلفين لا يحاسبون على ما يقع منهم إلا بعد أن يقع.. وبهذا يُحاسب المكلف على ما وقع منه فعلا، وصار علما واقعا له، بعد أن كان في علم الله..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 715)
(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 715)
القرآن.. والعزاء والشفاء (189)
وعندما سألناه عن معنى قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ [التوبة: 16]، قال (1): الوليجة هي الملجأ، والمعتمد، الذي يلجأ إليه الإنسان، ويتخذ منه جنة ووقاية له.. والمعنى، أن المطلوب من المؤمن هو الجهاد في سبيل الله، وموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والاعتماد على كفاية الله ورسوله والمؤمنين له، دون أن يقوم بينه وبين المشركين ولاء، فلا يدخل معهم في حلف، ولا يلج لهم أمرا يلتمس منه خيرا لنفسه، أو سلامة مما يتوقع من بلاء.. فإذا لم يقع منه هذا، لم يكن أهلا لأن يدخل الجنة التي وعدها الله المتقين من عباده.. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 16] تحذير للمؤمنين الذين في صدورهم شيء من هذه المشاعر، التي تقيم بينهم وبين المشركين صلة على حساب دينهم، أو على حساب الجماعة الإسلامية، وأمنها وسلامتها.
وعندما سألناه عن سر تمحيص الله لعباده وتمييزه لهم، قال: الله تعالى بحكمته جعل هذه الدار محلا لاختبار عباده، لينزل كل واحد منهم ـ في النشأة الآخرة ـ المحل الذي ينسجم مع طبيعته، وتبرزه أهليته، فلذلك كانت هذه الدار هي دار التمييز التي يتميز فيها المحسن من المفسد، والراضي من الساخط، كما قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37]
وقال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179]، أي (2): ما كان الله ليترككم على ما أنتم عليه من اختلاط، لا يعرف مخلصكم من منافقكم، بل لا بد أن يختبركم حتى يتميز المنافق
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 716)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 441)
القرآن.. والعزاء والشفاء (190)
من المخلص، بالوحي أو بالتكاليف الشاقة، التي لا يصبر عليها إلا المخلصون، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر به بواطنكم، ويستدل به على عقائدكم، وما كان الله ليطلعكم على الغيب حتى تعرفوا ما في القلوب من كفر أو إيمان، أو تعرفوا: هل تغلبون أو تُغلبون.. ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء، فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها، فآمنوا بالله الذي اختص بعلم الغيب الحقيقي، وآمنوا برسله الذين اختارهم لأسرار الغيوب، لا يعلمون إلا ما علمهم.
ثم قال (1): من سنة الله في المتوجهين إليه إذا كثروا، وظهرت فيهم دعوى القوة، أن يرسل عليهم ريح التصفية، فيثبت الصحيح، والخاوي تذروه الريح، وما كان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار، حتى يميز الخبيث من الطيب، أي: من همته الله ومن همته سواه.
ثم سكت قليلا، وقال (2): هذه سنة إلهية دائمة أن يعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبدا، بل لابد في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه، وهذا الأمر يتحقق ـ طبعا ـ عندما يكون أتباع الحق في مستوى كاف من التضحية والوعي.
قلنا: فما الفرق بين الخبيث والطيب؟
قال (3): الخبيث ما لا يصلح لله، والطيب ما يصلح لله.. والخبيث ما حكم الشرع بقبحه وفساده، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه.. والخبيث ما شغل صاحبه عن
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 441)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 422)
(3) لطائف الإشارات (1/ 624)
القرآن.. والعزاء والشفاء (191)
الله، والطيّب ما أوصل صاحبه إلى الله.. والخبيث ما يأخذه المرء وينفقه لحظّ نفسه، والطيب ما ينفقه بأمر ربه.. والخبيث عمل الكافر الجاحد يصوّر له ويعذّب بإلقائه عليه، والطيّب عمل المؤمن يصور له في صورة جميلة فيحمل المؤمن عليه.
قلنا: فلم لم يتح للخبيث ما أتيح للطيب؟
قال: الله أعدل من أن يتيح لبعض عباده ما لم يتح لغيرهم.. كرم الله وعدالته تأبى ذلك.. ولذلك قال بعد قوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37]: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 38]
ثم سكت قليلا، وقال (1): أي إن كبحوا لجام التمرد، وأقلعوا عن الركض في ميدان العناد والتجبر أزلنا عنهم صغار الهوان، وأوجبنا لهم روح الأمان.. وإن حلوا نطاق العناد أطلقنا عنهم عقال البعاد.. وإن أبصروا قبح فعالهم جدنا عليهم بإصلاح أحوالهم.. وإن جنحوا للاعتذار ألقينا عليهم حالة الاغتفار.. وإن عادوا إلى التنصل أبحنا لهم حسن التفضل.
ثم راح ينشد بصوت جميل:
أناس أعرضوا عنا... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا... فهلا أحسنوا الظنا
فإن كانوا لنا كنا،... وإن عادوا لنا عدنا
وإن كانوا قد استغنوا... فإنا عنهم أغنى
قال أحدنا: لكن الله يعلم بأحوال عباده محسنهم ومسيئهم، وراضيهم وساخطهم..
__________
(1) لطائف الإشارات (1/ 624)
القرآن.. والعزاء والشفاء (192)
فكيف يختبرهم ليعلم ذلك؟
قال: الله تعالى ـ لعدله ـ لا يكتفي بعلمه، بل يجعل من أعمال العباد حجة لهم أو عليهم.
قلنا: فما وجه كون التمييز نعمة؟
قال (1): دخل جماعة على بعض الصالحين، وهو في مارستان قد حُبس فيه، وقد جمع بين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي، إن صدقتم فاصبروا على بلائي.
ثم سكت برهة، وكأنه يتذكر شيئا، ثم قال: سمعت معلمنا رحمه الله ذات ليلة، يحكي لي أنه ورد في بعض الآثار أن الله تعالى قال: (خلقت الخلق فكلهم ادعى محبتي، وخلقت الدنيا فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، وخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء، فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين: معي، لا الدنيا أردتم، ولا الجنة أخذتم ولا من النار هربتم، فماذا تريدون، قالوا: إنك تعلم ما نريد، فقلت لهم: فاني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي أتصبرون؟ قالوا: إذا كنت أنت المبتلي لنا، فافعل ما شئت.. فهؤلاء عبادي حقا)(2)
قلت: لا يزال عقلي كالا دون فهم وجه كون التمييز نعمة.
قال: لقد قال بعض الصالحين يذكر علة ذلك: (الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه)
__________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 440)
(2) صفة الصفوة (1/ 501)
القرآن.. والعزاء والشفاء (193)
ثم قال: أرأيت لو جاورك في بيتك الأدنى من لا تطيق عشرته.. أترضى بذلك؟
قلت: لا.. بل إني سأرحل عنه.
قال: ولو خسرت مالك.
قلت: ولو خسرت مالي..
قال: لم؟
قلت: طلبا للراحة منه.
قال: فهذا منزل محدود.. لأمد معدود.. فكيف بالمجاورة المستمرة الدائمة التي لا حدود لها.
قلت: الكامل لا يرضى صحبة الناقص، والطيب لا يطيق معاشرة الخبيث.
قال: ولذلك كان التمييز الذي يحصل في الآخرة بين الأجناس والأنواع نعمة من النعم العظمى التي يستشعرها المؤمنون، فلا يدخل الجنة إلا الطيبون، بل إنهم في نفس الجنة متميزون بحسب مراتبهم ودرجاتهم.. ولهذا يبين القرآن الكريم المواقف المختلفة من أنواع البلاء، ففي موقف الخوف مثلا يخبر تعالى عن صنفين من الناس: أما الأول، وهو الناجح في الاختبار، فيذكر تعالى وقوفه كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]، وأما غيرهم من الجبناء الساقطين في الاختبار فقد قال تعالى في شأنهم: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة:52]
سكت قليلا، ثم قال: وقد أخبر الله تعالى عن الناجحين في الاختبار بأنه من المنعم عليهم، كما قال تعالى: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ
القرآن.. والعزاء والشفاء (194)
فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:23]، وهذا في مقابلة الساقطين الجبناء الذين قالوا: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة:22]، وقالوا بكل تبجح: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:24]، وهكذا في كل المواقف، نجد المؤمنين الصادقين الناجحين فيما أنعم به عليهم من البلاء، ونجد الراسبين الساقطين في الامتحان الذين قال تعالى في شأنهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج:11]، فهذا الخاسر لا يعبد الله في الحقيقة وإنما يعبد أهواءه التي قد تتفق أحيانا مع ما يأمر به الله، فيتوهم الخلق أنه يعبد الله، فلذلك يبتلى بما يظهر حقيقته، ويكشف عن سريرته.
بعد أن انتهى الأول من حديثه، قال الثاني: أما أنا فقد كان أول ما سمعته من معلمي الكاظم قراءته لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 139 ـ 140]، ثم قال: لقد أخبر الله تعالى أن العلة في البلاء الذي حصل للمؤمنين هو تمحيصهم، كما أن علة البلاء الحال بغيرهم هو محقهم.. وكأنها تقول من باب الإشارة (1): إن يمسسكم يا معشر المتألمين قرح كمرض أو حبس أو ضرب أو سجن أو حرج أو جلاء، فقد مس العموم مثل ذلك، غير
__________
(1) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 413)
القرآن.. والعزاء والشفاء (195)
أنكم تسيرون به إلى الله تعالى لمعرفتكم فيه، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم.. أو إن يمسسكم قرح فقد مس القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم، ففيهم أسوة لكم، وهذه عادة الله في أوليائه، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا، ثم يديل لهم، وإنما أديل عليهم أولا ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا، وليعلم الصادق في الطلب من الكاذب، فإن محبة الله مقرونة بالبلاء.
ثم قال (1): لذلك قال تعالى بعدها: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142]، أي إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللناس، أنهم مؤمنون حقا، وأنهم أدوا حق هذا الإيمان، بلاء وجهادا.. وفي الآية الكريمة عزاء جميل من الله سبحانه وتعالى للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين بعدما أصابهم ذلك البلاء العظيم يوم أحد.. وهي تقول لنا من باب الإشارة (2): أم حسبتم يا معشر المؤمنين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم.
ثم قال: لقد قال لي معلمي ذات مرة، وقد رآني أشكو بعض ما حصل لي من ظلم: العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره.. ثم ذكر لي الحكمة التي تقول: (إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قل عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟)
حينها سأله أحدنا، فقال: قد عرفنا أن التمحيص هو التنقية والتطهير والتمييز لتظهر
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 601)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (1/ 414)
القرآن.. والعزاء والشفاء (196)
أهلية كل واحد منهم ما يستحقه من جزاء.. فما يظهر تلك الأهلية؟
قال: لا تبرز الأهلية إلا بأسياف البلاء، ورياح الفتن، وأنواع التمحيص، فالدعاوى سهلة، ولكن الصعب إثباتها، ولذلك رد الله تعالى على من حسبوا الأمر سهلا، تكفي فيه مجرد الدعاوى، فقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214]
سكت قليلا، ثم قال (1): ما قرأت هذه الآية الكريمة إلا شعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.. في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. تلك سنة الله في الدعوات.. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
قلنا: لم كان الأمر كذلك؟
قال (2): ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2036)
(2) في ظلال القرآن (4/ 2036)
القرآن.. والعزاء والشفاء (197)
رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً، أو تكلفه القليل.. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً، لأنها قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء.. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة.
قال أحدنا: ولكن هذه الآية نزلت في محل خاص.
قال: أجل.. ولكنها في حقيقتها تفسر سنة الله في تمحيص عباده ليبرز كل شخص ما في صدره من تسليم أو اعتراض، أو عبودية أو ربوبية، كما قال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران:154]، فالقلب كالمجتمع كلاهما يحتاج إلى أنواع البلاء والمحن والفتن التي تميز الطيب عن الخبيث، والطاهر من النجس.
قلت: ألهذا كان الألم علاجا مشخصا للأدواء؟
قال: أجل.. وهو في ذلك كتلك المحاليل الكاشفة التي تميز أنواع العناصر، ليتبين الأصيل من الدخيل، وتتميز الصحة عن المرض.. ولا يمكن العلاج إلا بالتشخيص، فمن السهل ادعاء الصبر، ومن الصعب التحقق به، فلذلك كان التمحيص مقدمة للتأديب.
بهذا الحديث انتهى المشهد الأول من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشهد الثاني، والذي تعلمت منه
القرآن.. والعزاء والشفاء (198)
معنى الثبات والمواجهة، وأثرهما في العزاء والسلوى، والأسباب التي تجعل المؤمن صامدا ثابتا لا يتزعزع ولا يضعف ولا يركن.
وقد بدأ هذا المشهد، بعد سماح ذينك الرجلين لي بالمرور إلى أرضهم، وقد كان أول ما صادفته فيها، وبعد أن سرت خطوات قليلة جمعا من الشباب يتدربون على بعض الفنون القتالية، وعندما رأوني طلب منهم مدربهم أن يتوقفوا، ثم راح يقدمهم لي قائلا: وأخيرا جاء تلميذ القرآن الذي وعدتكم سابقا بحضوره وزيارته لكم.. ومجيئه دليل على أنكم تسيرون في الخط الصحيح، خط القرآن الكريم الذي تعلمناه من معلمنا الكاظم.
ثم طلب من الجميع الجلوس، وقال: لعل خير استقبال لهذا التلميذ، أن تخبروه بما استفدتموه من المعلم، والذي جعلكم تتركون أهليكم وما تنعمون به من الراحة، وتلتحقون بهذا الجبل، وتتدربون هذه التدريبات القاسية.
قام أحدهم، وقال: ائذنوا لي أنا أن أتحدث، فأنا أكبركم.. وأنا أول من التقى المعلم، وبحمد الله، كنت أول من دللتكم عليه.. سأقص عليكم قصتي مع المعلم، وفيها عبرة لنا ولكل المستضعفين.. وعسى أن ينتفع بها من يكتب لهم تلميذ القرآن كتابه هذا.
لقد كنت أول من التقى المعلم في أرضنا هذه، لقد جاء متخفيا، وعندما رآني، وكنت أحمل أثقالا شديدة، لأوصلها لبعض المستكبرين، الذين كانوا يسخروننا في كل شيء، من غير أن يعطونا ما نستحقه من الأجور.. حينها ناداني باسمي نوح، فتعجبت كثيرا أن يعرف اسمي، فقلت: من أنت؟ وكيف عرفت اسمي؟
قال: لقد تذكرت برؤيتي لصبرك وجلدك نوحا عليه السلام، فلذلك رجوت أن تهتدي به، وتقتدي.
القرآن.. والعزاء والشفاء (199)
قلت: أنا أهتدي بالذي أمرنا الله تعالى بالاهتداء به، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]
قال: أجل.. وقد قال تعالى كذلك: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، وقال بعد ذكره للأنبياء عليهم السلام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]، وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35].. ولولا أنه في قصة نوح عليه السلام ما يستحق الاهتداء والاقتداء لما وردت سورة كاملة باسمه.
أعجبني حديثه كثيرا، فطلبت منه أن يزور بيتي، لنتبرك بحضوره، وهناك جمعت الأهل والأولاد، وبعض الجيران، وراح يقص علينا قصة نوح عليه السلام، والعزاء الذي فيها لأمثالنا من المستضعفين.
وقد بدأ حديثه بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة صورة من صور الصراع بين الحق والباطل، لتواجه بهذه الصورة الصراع القائم بين المؤمنين والمعتدين الظالمين، وفي كل الأجيال.. وفي هذه الصورة، يرى المعتدون أنفسهم في قوم نوح عليه السلام، الذي طول مقامه فيهم حتى بلغ ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم ينفعهم هذا الزمن الطويل، الذي وقفوا فيه إزاء دعوة الحق، ولم تلتق طريقهم مع طريقه.. فكان أن أخذهم الطوفان، وهم متلبسون بكفرهم، يحملونه معهم إلى يوم الجزاء.. أما نوح عليه السلام ومن آمن معه، فقد نجاهم الله، وكان في نجاته آية للعالمين..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 414)
القرآن.. والعزاء والشفاء (200)
ثم قال (1): وقصة نوح عليه السلام تمثل الدور الأول من المواجهة مع المشركين المعتدين في مكة قبل الهجرة.. فهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مع أصحابه، كانت أشبه بسفينة نوح، حيث وجد المسلمون في المدينة أمنا وسلاما، وحيث غرق المشركون في موقعة بدر، ومن لم يغرق منهم في ميدان القتال، مات غرقا في بحر الكفر والضلال، قبل أن يدركه الإسلام يوم الفتح.
ثم قرأ علينا مشاهد مما ورد في القرآن الكريم من قصة هذا النبي العظيم، لنتعلم من خلالها الثبات والمواجهة مع المعتدين، مهما طال الزمن، مع استعمال كل الوسائل والأساليب المؤدية لذلك، ومن ذلك قراءته لقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 5 ـ 9]، ثم قال تعقيبا عليها (2): لقد دعا نوح عليه السلام قومه، فلم يسمعوا له، ولم يحفلوا به، فجاء إلى ربه شاكيا عنادهم، طالبا من الله أخذهم بالعذاب الذي هم أهل له.. فالقوم بلغوا في السفاهة غايتها، وركبوا من الجهل أشرس مطاياه وألأمها.. فهم كلما سمعوا صريخ النذير، ازدادوا فرارا منه، وقربا من موقع الخطر الذي يحذرهم منه.. وهم كلما سمعوا صريخ هذا النذير، جعلوا أصابعهم في آذانهم، كأنما يسمعون منكرا، يسدون عليه المنافذ أن يصل إلى آذانهم، وهم لم يقفوا عند هذا، بل غطوا وجوههم، ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: 7] أي جعلوها غاشية تحجبهم عن أن ينظروا في وجه هذا النذير، حتى لا يروا منه أية إشارة تشير إليهم، وتحذرهم من الخطر الزاحف عليهم..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 415)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1195)
القرآن.. والعزاء والشفاء (201)
وفي قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح: 7] إشارة إلى ما وقع في نفوسهم من جفاء لهذا النذير، وإلى ما أضمروا من عداوة له.. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم في أحلام اليقظة، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه، إلا بحجز حواسهم عنه، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه، من بصر أو سمع.. إنهم يغطون وجوههم بثيابهم، ويدخلون رؤوسهم في جيوبهم، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع في سماء ليلهم المظلم البهيم.
ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 8 ـ 9]، وقال تعقيبا عليها (1): في هاتين الآيتين الكريمتين بيان للأساليب المختلفة التي اتخذها نوح عليه السلام، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم، وأبصارهم.. فهو تارة يدعوهم جهارا، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصم لا يسمع، حتى يخترق بصراخه العاصف، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم.. فلما لم تنفع هذه الوسيلة، معهم، أمسك لسانه، وزم شفتيه، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف عن الحديث إليهم، همس إليهم همسا خافتا، لا يكاد يسمع، لعل كلمة عابرة تصل إلى أسماعهم من هذه النذر التي ينذرهم بها.. فهذا إعلان في إسرار..
ثم قال (2): وفي العطف بـ[ثم] في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: 8 ـ 9] ما يشير إلى أن كل حال من تلك الأحوال كانت تستغرق وقتا طويلا، يقف فيه نوح عليه السلام، حتى يمل الوقوف، وحتى يستيئس من أن أحدا يسمعه.. إنه ينادى أمواتا، ويهتف بعوالم من الجماد..
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1196)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1197)
القرآن.. والعزاء والشفاء (202)
مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10 ـ 12]، ثم قال (1): هذا بيان لما كان يدعو نوح عليه السلام قومه إليه، ويهتف فيهم به.. إنه يناديهم، ويسر إليهم القول أن يستغفروا ربهم، إنه كان غفارا، يغفر لمن يستغفره، ويرجع إليه تائبا نادما.. وإنهم إن فعلوا هذا رزقهم الله رزقا حسنا، وأرسل السماء عليهم مدرارا، أي بالمطر الكثير، حيث تخصب الأرض، وتكثر الثمرات والخيرات، فحيث كان الماء، كان الخصب والخير الكثير في الأموال والأنفس.
ثم ذكر لنا إنكار نوح عليه السلام الشديد على الخرافات التي تعلق بها قومه، وذلك عند بيانه لمعنى قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 13 ـ 14]، حيث قال (2): هو من دعوة نوح عليه السلام قومه، إلى الإيمان بالله.. وهو في هذا الاستفهام ينكر عليهم ما هم فيه من غفلة عن الله، واستخفاف بجلاله وعظمته.. إنهم لا يوقرون له، ولا ينظرون إليه نظر من يرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. إنهم لا يعرفون الله، ولا يقدرونه قدره.. وقوله: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 14] جملة حال، من لفظ الجلالة.. أي ما لكم لا توقرون الله، والحال والشأن أنه قد خلقكم أطوارا.. أي خلقا من بعد خلق.. إذ كنتم نطفة في بطون أمهاتكم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسيت هذه العظام لحما.. ثم خرجتم من بطون أمهاتكم أطفالا.. ثم لبستم خارج أرحام أمهاتكم أطوارا من الحياة، فتنقلتم من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة.. وهكذا كانت يد القدرة القادرة تنتقل بكم من طور إلى طور، وبين الطور الأول والأخير مراد فسيح لذوى الأبصار، يرون فيه قدرة الخالق، وعظمته وحكمته، فتخشع الأبصار لجلاله، وتعنوا الجباه
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1197)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1198)
القرآن.. والعزاء والشفاء (203)
لقدرته.
ثم حدثنا عن شكوى نوح عليه السلام إلى ربه طغيان قومه وتجبرهم وعدم استجابتهم لكل الحجج والبراهين التي أتاهم بها، وذلك عند بيانه لمعنى قوله تعالى: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة شكوى ضارعة من نوح عليه السلام إلى ربه، يشكو فيها قومه، الذي أصموا آذانهم عنه، وأعرضوا عن الاستجابة له، على حين أنهم استجابوا لمن يدعونهم إلى الغواية والضلال، من أولئك الذين لا يزيدهم ما يمدهم الله به من نعمه، وما يزدادون به أموالا، وأولادا، إلا خسرانا، وضلالا، وبعدا عن طريق الهدى، ومحادة لله، ولأولياء الله.
ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نوح: 22]، وقال (2): يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة كيف كان قوم نوح عليه السلام يخططون بكل ما لديهم من أساليب شيطانية للإجهاز على الرسالة وصاحبها، وأثاروا الكثير من التهاويل حولها، وامتدت الحيل والمؤامرات لتحاصر كل وجودها، لأنهم شعروا بالمنطق الإيماني يمتد إلى عقول الناس البسطاء الطيبين، فأرادوا بالمكر الكبير جدا أن يعطلوا ذلك الامتداد، ويبطلوا تأثيره على صعيد الواقع الجديد.
وذكر لنا من تلك الأساليب محاولة الإثارة العاطفية التي تستثيرهم للدفاع عن أصنامهم التي ارتبطوا بها بوحي الألفة والعادة، لأنهم عاشوا طفولتهم في رحاب عبادتهم إياها، وخضوعهم لها، ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ [نوح: 23] التي تمثل الآلهة الكبار التي هي في موقع الأهمية الكبيرة، ﴿وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23]،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1201)
(2) من وحي القرآن (23/ 134)
القرآن.. والعزاء والشفاء (204)
وهذه الخمسة ظلت تعبد إلى عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن ودا كان لقبيلة كلب، وسواعا لهذيل، ويغوث لغطيف، ويعوق لهمدان، ونسرا لحمير، بالإضافة إلى ما استحدثوه من هبل واللات ومناة والعزى.. وهكذا كان أسلوبهم العاطفي يستهدف الوقوف ضد الأسلوب التأملي الهادئ المتوازن الذي كان نوح عليه السلام يطرحه على هؤلاء لينطلقوا في أوضاعهم الفكرية والعملية، في محاكمة عقلية واعية، من أجل تصحيح الخط المنحرف في حياتهم، وتقويم العادات العوجاء في تاريخهم، كما هي قضية الرسالات الإلهية التي تريد أن تقود الإنسان إلى مصيره من خلال مسئوليته عما يفكر ويعمل بعيدا عن تفكير الآخرين وسلوكهم، لأن المسؤولية في دائرة الإيمان فردية ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الزمر: 7]، ولا يكسب الإنسان عمل غيره، إلا من الناحية التي يمثل فيها مقدمة لعمل الآخرين.
ثم قال لنا (1): ولم تكن مشكلة نوح عليه السلام هؤلاء الرؤساء المترفين عند أنفسهم، بل كانت المشكلة هي وقوفهم حجر عثرة في طريق الدعوة.. ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: 24] من الناس بضلالهم، فمنعوهم من الاستجابة للحق لما جاءهم، فظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، مما جعل نوحا يدعو عليهم ربه، ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ [نوح: 24] أي هلاكا فيما تختزنه كلمة الضلال من معنى الهلاك بلحاظ ما تؤدي إليه، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 47]
بعد أن انتهى نوح من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا إبراهيم.. وقصتي يمكنها أن تكون تكملة لقصة أخي وصديقي وجاري نوح، فقد حدثني بمجرد
__________
(1) من وحي القرآن (23/ 135)
القرآن.. والعزاء والشفاء (205)
أن غادر معلمنا أرضنا عن زيارته له، والأحاديث التي حدثهم بها، وقد جعلني هذا أجتمع مع جمع من الرفاق للسؤال عن هذا المعلم، وبمجرد أن عرفنا البلدة التي جاء منها، أسرعنا إليه من غير أن يفطن قومنا، وقد كان لقاؤنا به في بيته المتواضع، مقدمة للقاءات كثيرة، حيث كان يبث إلينا معارفه القرآنية، وكنا بدورنا نلقيها بين قومنا، ونجتهد أن نوصلها، كما أخبرنا بها من غير أن نزيد أو ننقص.
وأذكر جيدا أنه في أول لقاء لنا به قص علينا قصة إبراهيم عليه السلام، وكيف استطاع لوحده أن يواجه جبروت قومه، حتى استحق أن يصفه ربه بأنه أمة وحده، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [النحل: 120 ـ 122]، وقد قال معلمنا في بيانه لمعناها (1): إن إبراهيم عليه السلام كان أمة، أي كان مجتمعا وحده، يؤمن بالله، بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر.. فهو بهذه الصفة يمثل أمة مميزة عن غيرها، بالإيمان، تقابل تلك الأمم التي تمثل الكفر.. فهو الإنسان المؤمن، الذي يقابل بإيمانه الكفر والكافرين جميعا، وكان مع إيمانه بالله قانتا، أي خاشعا لله، مسلما أمره له.. وكان حنيفا مائلا عن طرق الضلال والكفر.. ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120] أي لم يشرك بالله أبدا، ولم تستجب فطرته لأن يعبد ما كان يعبد أبوه وقومه، فنشأ مجانبا لهذه الضلالات، عازفا عنها.
ثم قال (2): وفي وصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان حنيفا، إشارة إلى أن المجتمع الذي كان يعيش فيه إبراهيم كان مجتمعا يسير على طرق الكفر والشرك، حتى لكأن ذلك
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 391)
(2) التفسير القرآني للقرآن (7/ 392)
القرآن.. والعزاء والشفاء (206)
هو وجهة الحياة في زمنه، وحتى لكأن الخروج على هذه الوجهة، يعد ميلا وانحرافا.. وهذا مما يعظم من شأن إبراهيم عليه السلام، ويرفع قدره في العالمين، بين أتباع الحق، وأهل الإيمان.. فقد خرج إبراهيم عليه السلام بإيمانه عن هذا الإجماع المطلق، وشق لنفسه ثقبا في هذا الحائط الصفيق، المضروب حوله من الكفر، ونفذ إلى عالم النور، ولهذا استحق بأن يوصف هذا الوصف الكريم من ربه، بأن كان حنيفا.. والحنيف هو المائل.. ولكنه ميل إلى الحق والهدى والإيمان.. ولهذا أيضا اختص بهذا الوصف دون سائر الأنبياء.. إذ كان أمة وحده.. (واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة.. ويحتمل أنه كان إماماً يقتدى به في الخير.. وهما قريبان، فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد)(1)
سكت قليلا، ثم قال (2): ثم ذكر الله تعالى فضله عليه، فذكر أنه اجتباه واختاره للنبوة كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 51].. وأنه هداه إلى صراط مستقيم، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه.. وأنه حببه إلى جميع الخلق، فجميع أهل الأديان، مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به، وكفار قريش لا فخر لهم إلا به، وقد أجاب الله دعاءه في قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84].. وإنه في الآخرة في زمرة الصالحين، وهو معهم في الدرجات العلى من الجنة، إجابة لدعوته، كما قال تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 83]
ثم قال (3): بعد أن وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات الشريفة التي
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2201)
(2) تفسير المراغي (14/ 159)
(3) تفسير المراغي (14/ 160)
القرآن.. والعزاء والشفاء (207)
بلغت الغاية في علو المرتبة أخبر أنه أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم باتباعه فقال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123] أي ثم أوحينا إليك أيها الرسول وقلنا لك: اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة البريئة من عبادة الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما تبرأ إبراهيم من مثلها من قبل، فأنت متبع له وسائر على طريقه، وقومك ليسوا كذلك، لأنهم يحللون ويحرمون من عند أنفسهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 161]
وبعد أن انتهى معلمنا الكاظم من ترغيبنا في اتباع إبراهيم عليه السلام، راح يحكي لنا قصته مع قومه، وكيف استطاع أن يواجههم من غير خوف، ولا وجل، وقد بدأ ذلك بقراءة قوله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 80 ـ 82]، ثم قال (1): وبعد أن يئس قومه منه، حاولوا التأثير عليه بأساليب التخويف من غضبة الأصنام عليه، كما يوحي جوابه في الآية، وما يظهر من الكلام الذي نقله الله ـ في آية أخرى عنهم ـ ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ [هود: 54]، وربما يبدو من جو هذه الآيات أنهم لا ينكرون وجود الله، بل كانوا يشركون به في العقيدة والالتزام، إذ كانوا يريدون له أن يتفادى النتائج السلبية من كفره بالأصنام، بالانتقال إلى الإيمان بها كشركاء لله.
ثم ذكر لنا كيف وقف إبراهيم عليه السلام يناقشهم من موقع القوى في العقيدة
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 192)
القرآن.. والعزاء والشفاء (208)
والالتزام، فهو لا يعتبر قضية توحيد الله قضية فكرية تأخذ مجالها في الحوار والنقاش، بل هي قضية وجدانية يحس بها الإنسان في فكره كما يحس ببديهيات الأمور ويعيشها في إحساسه، كما يحس بالأشياء من حوله، لأنها تتحرك في كيانه كإشراقة النور في العيون، لا تحتاج إلا إلى الفطرة السليمة التي تواجه الأشياء من دون حجاب أو تعقيد، لتوازن في يقظة وجدانية بين ما هو الفقر المطلق في كل الموجودات، والغنى المطلق في ذات الله، لتخرج بنتيجة واضحة أنه هو الخالق للكل، من دون أن يكون له منازع يعادله ولا شبيه يشاكله ولا ظهير يعاضده، هو مصدر الحياة والقوة في كل شيء.
ثم ذكر لنا المعلم الفرق بين إبراهيم عليه السلام، وقوة الإيمان التي يحملها مقارنة بقومه، فقال (1): وفي ضوء هذا، أراد إبراهيم عليه السلام أن يوحي إليهم بأن توحيده لله، لا يمكن أن يرقى إليه الشك، ليدخل في حوار حوله، لأن سبيله في الإيمان، ليس سبيل التقليد اللاواعي، بل هو سبيل المعاناة الفكرية والروحية التي عاشت الهدى كله لله في وعيها للحقيقة المطلقة.. أما هم فمشكلتهم أنهم لم يهتدوا لأنهم عطلوا إحساسهم عن الالتقاء ببديهيات الأفكار، وأغلقوا وجدانهم عن الحقيقة القادمة إليهم ببساطة، وجمدوا فطرتهم عن الحركة في آفاق الحياة، ولذلك فإن عليهم الرجوع إلى فطرتهم، ورفع الغشاوة عن بصيرتهم، والانطلاق إلى الحقيقة بصفاء، ليجدوا الهدى بانتظارهم في بداية الطريق، لا في نهايته، وبذلك يكون قوله: ﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: 80] واردا على سبيل الإيحاء بالوضوح الذي يعيشه في مواجهة الضباب الذي يحيط بهم.
ثم ذكر لنا ثباته وخوفه أمام تهديدات قومه له بالأصنام، وكونها تضر وتنفع،
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 193)
القرآن.. والعزاء والشفاء (209)
فقال (1): أما الخوف من الأصنام، فهو من الأمور التي لم ترد في حسابه، لأنه يعرف جيدا طبيعتها الخالية من كل حياة، أو إحساس، أو قوة.. ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: 80]، فهي لا تملك لنفسها أية قوة إيجابية أو سلبية، فكيف تملك الإضرار بالآخرين؟.. وهكذا يواجه موضوع التخويف باحتقار واستهانة ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ [الأنعام: 80]، ولكنه يخاف الله من خلال إدراكه لعظمته المطلقة ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأنعام: 80].. ولهذا أراد أن يوحي بأن هذا الإحساس بالأمن أمام الأصنام وغيرها لا ينطلق من الشعور بالقوة الذاتية، بل من الإحساس بالرعاية الإلهية التي تحميه من كل ما يمكن أن يكون مصدرا للضرر، بشكل واقعي أو افتراضي من خلال ما يتوهمه الناس، فإذا أراد الله الإضرار به من خلال أي شيء منها، فلا مجال للدفاع، فهو مصدر الأمن عند إحساس الإنسان بالأمن، وهو مصدر الخوف فيما يمكن أن يكون أساسا للخوف، لأنه المحيط بكل شيء، فيعرف منها ما لا نعرف، فيسلطها على من يشاء، ويمنعها عمن يشاء، وهكذا نجد في هذا الاستثناء ما يشبه الاستثناء المنقطع الذي لا يرتبط بمدلول الكلمة بل يتصل بإيحاءاتها بما حولها من الأشياء والقضايا ﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: 4]
ثم ذكر لنا الأسلوب الذي استعمله إبراهيم عليه السلام في مواجهة قومه بالحقيقة وببيان المخاوف الحقيقية التي عليهم مراعاتها، فقال (2): ثم يختم الفكرة، بالدعوة إلى أن يتذكروا من خلال التفكير الواعي المستقل غير الخاضع للتقاليد، ليلتقوا بالحقيقة من أقرب طريق.. ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ [الأنعام: 81]، ثم يبدأ عملية الهجوم بإثارة الخوف من غضب الله الذي لا تقوم له السماوات والأرض فيما أشركوا به، وفي ما تمردوا عليه، ليوحي
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 193)
(2) من وحي القرآن (9/ 194)
القرآن.. والعزاء والشفاء (210)
إليهم بأن القضية عكسية ﴿وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ﴾ [الأنعام: 81]، فهم الذين يجب أن يخافوا، لا هو، لأنهم قد أشركوا بالله ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ [الأنعام: 81]، من دون حجة ولا برهان، أما هو، فقد آمن به وأطاعه، فمن الذي يحميهم من الله، ومن هو الذي يعيش الإحساس بالأمن؟ هل هو الذي يرتبط بمصدر القوة المطلقة، أو هم الذين لا يرتبطون بأية قوة؟ وتنتهي الآية بالاستنكار: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 81]
ثم ذكر لنا القاعدة المستنتجة من هذه القصة، وهي التي نص عليها قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، فقال (1): لقد حدد الله تعالى الفريق الآمن، إنهم الذين آمنوا بالله ولم يخلطوا إيمانهم بظلم.. هؤلاء هم أصحاب الإيمان الصافي الذي لا يشوبه شيء.. والظلم هنا في الآية ينطلق من خلال مفهومه العام الذي يمثل التصرف الذي لا يملك الإنسان معه أي حق أو شرعية، وبهذا أطلق الظلم على الشرك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وأطلق على المعصية وعلى العدوان، لأن كل هذه الأمور تمثل التعدي على ما لله من حق في التوحيد وفي الطاعة، كما تمثل التعدي على حقوق العباد، أما مصداقه هنا ـ في موضوع الآية ـ فهو الشرك، ولكن الآية توحي بالمعنى الأوسع الذي يحتوي الموقف الإيماني كله فيما يريده الله من الصفاء والنقاء في العقيدة وفي العمل، فهذا هو الذي يوحي بالأمن، وهو الذي يلتقي بخط الهدى.
وفي مجلس آخر، اجتمع فيه معه الكثير من قومنا الذين هاجروا للتلمذة على يديه، ذكر لنا مواجهته للملك المتجبر الطاغية من دون خوف ولا وجل، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 194)
القرآن.. والعزاء والشفاء (211)
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]، ومما ذكره لنا في بيانه لمعناها (1): إن ذلك الجبار تملكه الغرور والكبر وأسكره الملك ﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258].. وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعية أفرادا معتدلين ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروة فإنهم ينسون كل شيء، ويسحقون كل المقدسات..
ثم ذكر لنا كيف سأل ذلك الجبار إبراهيم عن ربه، أي: من هو الإله الذي تدعوني إليه؟.. فأجابه إبراهيم عليه السلام بقوة ورباطة جأش: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]، والواقع أن أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم الله وقدرته.. لكن نمرود الجبار اتخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إن قانون الحياة والموت بيدي ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: 258].. ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما، وأمر بقتل الآخر، ثم قال لإبراهيم عليه السلام والحاضرين: أرأيتم كيف أحيي وأميت؟.. لكن إبراهيم عليه السلام قدم دليلا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك من إغفال الناس فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 258] وهنا ألقم هذا المعاند حجرا ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]، وبهذا أسقط في يدي العدو المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم الحي،
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 268)
القرآن.. والعزاء والشفاء (212)
وهذا أفضل طريق لاسكات كل عدو عنيد.
ثم قال (1): بالرغم من أن مسألة الحياة والموت أهم من قضية حركة الشمس وشروقها وغروبها من حيث كونها برهانا على علم الله وقدرته، ولهذا السبب أورده إبراهيم دليلا أول، ولو كان في ذلك المجلس عقلاء ومتفكرون لاكتفوا بهذا الدليل واقتنعوا به، إذ أن كل شخص يعرف أن مسألة اطلاق سراح سجين وقتل آخر لا علاقة لها بقضية الإحياء والإماتة الطبيعيتين أبدا، ولكن قد يكون هذا الدليل غير كاف لأمثال هؤلاء السذج، ويحتمل وقوعهم تحت تأثير سفسطة ذلك الجبار المكار، فلهذا قدم إبراهيم عليه السلام دليله الآخر وهو مسألة طلوع وغروب الشمس لكي يتضح الحق للجميع.. وما أحسن ما صنع إبراهيم عليه السلام من تقديمه مسألة الحياة والموت كدليل على المطلوب حتى يدعي ذلك الجبار مشاركة الله تعالى في تدبير العالم، ثم طرح مسألة طلوع وغروب الشمس بعد ذلك ليتضح زيف دعواه ويحجم عن دعوى المشاركة.
وهكذا ذكر لنا في ذلك المجلس مواجهة إبراهيم عليه السلام لكل المشركين، وكيف عانى في ذلك الأمرين إلى أن نصره الله تعالى عليهم، وجعله قدوة لكل الصالحين، وفي جميع الأجيال، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]
بعد أن انتهى إبراهيم من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا أيضا كنت من الذي تشرفوا بالتلمذة على معلمنا الكاظم، وتشرفوا كذلك بالدعوة لما دعا إليه،
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 269)
القرآن.. والعزاء والشفاء (213)
وتشرفوا بعد ذلك بأن أصيبوا ببعض آثار مواجهتنا مع الظالمين والمستبدين.
وقد كان من أوائل ما سمعت منه مما ملأني بالقوة والإيمان، ما رواه لنا من قصة أصحاب الأخدود المذكورة في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: 4 ـ 9]، والتي ذكر الله تعالى فيها جزاء الفريقين من الظالمين والمظلومين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 10 ـ 11]
ومما أذكره من أحاديثه في هذا قوله (1): أصحاب الأخدود، هم قوم كافرون بالله، كان لهم موقف مع المؤمنين بالله، شأنهم في هذا شأن كل الكافرين مع المؤمنين في كل زمان ومكان.. لكن أصحاب الأخدود هؤلاء، قد جاءوا بمنكر لم يأته أحد من إخوانهم من أهل الضلال، ولهذا كانت جريمتهم أشنع جريمة، يستدعى لها الوجود كله، ليشهد محاكمتهم، وليسمع حكم الله عليهم.. لقد خدوا أخاديد في الأرض، أي حفروا حفرا عميقة في الأرض، وملؤوها حطبا، وأوقدوا فيها النار، حتى تسعرت، وعلا لهيبها، واشتد ضرامها، ثم نصبوا كراسى حولها يجلسون عليها، وجاءوا بالمؤمنين بالله يرسفون في أغلالهم يعرضونهم على النار واحدا بعد واحد، ويلقونهم فيها مؤمنا إثر مؤمن.. والمؤمنون يرون هذا ويقدمون عليه، دون أن ينال هذا العذاب من إيمانهم، أو يردهم عن دينهم الذي ارتضوه.. وفي هذا شاهد من شهود الإيمان المتمكن من القلوب، الراسخ في النفوس.. إنه
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1513)
القرآن.. والعزاء والشفاء (214)
أقوى من الجبال الراسيات، لا تنال منها الأعاصير، ولا تزحزحها عاتيات العواصف.
ثم ذكر الله تعالى سبب هذه الجريمة العظيمة التي ارتكبوها، فقال: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج: 8 ـ 9]، أي (1): أنه ليس بين أصحاب الأخدود هؤلاء، وبين المؤمنين، من ذنب يأخذونهم به، إلا إيمانهم بالله العزيز الحميد.. إنهم يؤمنون بالله الذي لاقوة إلا قوته، ولا عزة إلا عزته، وأن ما يملكه أصحاب الأخدود من قوة، وما يجدونه في أنفسهم من عزة، هو شيء محقر مهين إلى جانب عزة الله، التي يلوذ بها المؤمنون.. وهم ـ أي المؤمنون ـ يحمدون الله على السراء كما يحمدونه على الضراء، فهو سبحانه المستحق وحده للحمد في جميع الأحوال.. وهو سبحانه، له ملك السموات والأرض وما فيهن، من عتاة وجبارين ومتكبرين، وهو يرى ويعلم كل شيء، فينتقم لأوليائه، ويأخذ لهم بحقهم ممن اعتدى عليهم..
وعندما طلبنا من أن يقص علينا قصتهم كما ذكرها المفسرون، قال (2):لقد كثرت الأقوال في أصحاب الأخدود، وفي الزمان الذي كانوا فيه، والوطن الذي ينتسبون إليه.. وكثرة هذه الأقوال وتعارضها يفقدها الأثر الذي لها، ويجعل كل قول غيرها ـ ولو كان من واردات الظن والافتراض ـ مثلها تماما في النظر إليه عند تصور الحدث.. والقرآن الكريم، لا يذكر أسماء الأشخاص، أو تحديد الأماكن أو الأزمان، إلا إذا كان للشخص دلالة خاصة في ذاته، لا ترى في غيره، وإلا إذا كان للمكان أو الزمان، أثر خاص في الحدث الذي حدث فيه، أو صفات لا توجد في مكان آخر، أو زمن غير هذا الزمن، أما حين لا يكون للشخص
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1514)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1515)
القرآن.. والعزاء والشفاء (215)
أو المكان أو الزمان وزن خاص في ميلاد الحدث، وفي تكوين صورته، وطبعه بطابعه الخالص، فلا يعنى القرآن بذكر ذات الشخص، ولا موضع المكان، ولا حدود الزمان.. وذلك ليكون الحدث مطلقا من أي قيد، ليعطى دلالة وحكمة، حيث يلتقى بما يشبهه من ذوات الأشخاص، وملامح الزمان والمكان.
بعد أن انتهى الشاهد الثالث من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا أيضا تشرفت بما تشرف به رفاقي الذين جعلهم الله تعالى سببا لخروج بلدتنا من نير المستضعفين، وتنعمها بالانضمام لصفوف المنتصرين بربهم.
وقد سمعت في أول لقاء لي بمعلمنا الكاظم ما ذكره عن قصة السحرة الذين استطاعوا أن يواجهوا فرعون الطاغية بكل قوة، وكيف كان إيمانهم سببا في ذلك، مع كونه لم يتجاوز عمره حينها اللحظات.
لقد قال لنا بطريقته الخاصة في تصوير المشاهد القرآنية (1): لقد ألقى موسى عليه السلام ما في يده، فإذا هي حية تسعى تتحرك باتجاه ما صنعوا، فأكلت كل الحبال والعصي، فلم يبق منها شيء.. وحدقت عيون السحرة بها، ثم بدأوا يمسحون عيونهم.. هل هناك غشاوة عليها؟ أو أن ما يرونه حقيقة؟.. إن هذا ليس سحرا، فهم يعرفون جيدا فنون السحر فيما يعلمونه منه أو يعلمونه للناس.. وبدأوا يستذكرون كلامه عن الله وعن الإيمان به، وعما ينتظره المفترون عليه من العذاب، وبدأت عملية المقارنة بين ما سمعوه منه في البداية، وما رأوه الآن، فآمنوا بأن هذا الرجل رسول من الله، وليس ساحرا مثلهم، وتعاظم شعورهم
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 132)
القرآن.. والعزاء والشفاء (216)
بالإيمان، وبالمستقبل وبالمصير، وأعلنوا الموقف بشكل مفاجئ سريع.
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾ [طه: 70]، ثم قال (1): أمام هذه الآية الواضحة العظيمة الدالة على أنها من عند الله، لا من البشر، ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ [طه: 70]، وكفرنا بفرعون وبما يأمرنا به من عبادة غير الله.. وفوجئ الطاغية الجبار، وأسقط في يديه، فقد أراد أن يسخر من موسى عليه السلام بإظهار ضعفه أمام قوة السحرة، ليدفع الناس بعيدا عنه من خلال ذلك.. لقد أراد أن يربح الشوط على موسى عليه السلام في ساحة المعركة، فإذا بموسى يربح المعركة كلها عليه، وها هو يفقد قوته أمام الشعب كله، ويخشى أن يفقد موقعه الألوهي أو الملكي على الأقل، فيتحرر العبيد من هذا الشعب، ويتجرأ السادة الأحرار عليه، ولهذا أراد أن يقوم بعملية استعراض للسلطنة أمام هؤلاء السحرة الذين أعلنوا إيمانهم قبل أن يستأذنوه، فهو كان يعتقد أن كل شيء لا بد أن يمر بساحته وأن يحظى بموافقته، لأنه يملك الفكر والإنسان والحياة، فلا بد أن يمنح الإذن الرسمي للمؤمنين ليكون إيمانهم شرعيا قانونيا، وإلا فقد صفته الشرعية، واستحق على ذلك العقاب الأليم.
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: 71]، ثم راح يصور لنا ذلك وكأننا نراه رأي العين، فقال (2): لقد قال لهم فرعون الطاغية: (كيف فعلتم ذلك؟.. إنها الجرأة على الإله السيد العظيم الذي لا يجوز لأحد مهما كانت رتبته أن يقوم بأي عمل، أو يعلن أي موقف يتعلق بنفسه أو بالآخرين، إلا بعد أن يحصل على موافقته، فهو الذي يحدد لهم ما يصلحهم، وما يفسد حياتهم، لأنه الذي يعرف من ذلك ما لا يعرفون من أمور
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 133)
(2) من وحي القرآن (15/ 134)
القرآن.. والعزاء والشفاء (217)
الحياة).. ثم حاول أن يغطي فشله وضعفه، ويمنع تأثر الناس بموقف السحرة الإيماني أمام موسى عليه السلام، فحاول أن يهرب من المسألة بتصويرها بصورة الحالة التآمرية الخفية الحاصلة بين موسى وبين السحرة للقيام بهذه التمثيلية المسرحية، للإيقاع بفرعون، وإضعاف ملكه، وإخراج أهل مصر من مصرهم.. و﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طه: 71]، وبذلك كان دوركم دور التلاميذ الذين يخضعون لأستاذهم فيما يأمرهم به، وينهاهم عنه، وفي ما يوجههم إليه. وهكذا أوحى أن دورهم كان امتدادا لدوره.
ثم ربط ذلك بواقع المستبدين الذي كنا نعيشه، والذي كان المستبدون يمثلون فيه دور فرعون بكل براعة، فقال (1): وبذلك حاول أن يستوعب مشاعر الجماهير لمصلحته، تماما كالكثيرين من الطغاة الذين يحاولون أن يدرسوا مع الأجهزة الإعلامية الفنية ما هي أفضل الواجهات التي يثيرونها أمام الفئات المعارضة التي تهدد سياستهم وحكمهم، ليلصقوا بهم مختلف التهم التي تحاصرهم في الساحة الجماهيرية لتخفف من تأثيرهم على الآخرين.. وبذلك ينجحون في عزلهم عن الأمة مستغلين عجزها عن فهم ألاعيبهم وأسرارهم، وهذا ما يجعلنا نستوحي من هذا الأسلوب الفرعوني كيف نواجه أسلوب الكثيرين من الفراعين المعاصرين والمستقبلين فيما يضللون به شعوبهم تجاه التحديات التي توجه إليهم من المصلحين الرساليين.
ثم ذكر لنا التهديدات التي تعرض لها السحرة المؤمنين، فقال (2): ثم بدأت عملية التهديد بالعقاب، في محاولة فرعونية لدفعهم إلى التراجع عن موقفهم، والابتعاد عن موسى، ليضمن بذلك الحصول على بعض ما فقده من القوة المعنوية أمام الجماهير..
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 134)
(2) من وحي القرآن (15/ 135)
القرآن.. والعزاء والشفاء (218)
﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه: 71] أنا أو موسى، لتعرفوا من هو الأقوى، ومن هو الأبقى.. وستندمون لأن موسى لا يملك أي شيء من سلطة الدنيا وسطوتها، فلن تحصلوا منه على شيء، بينما أملك كل شيء من حولي وكل مواقع القوة والنفوذ، فأعطى من أشاء وأمنع من أشاء، وأقتل من أريد، وأعفوا عمن أريد.
ثم ذكر لنا ثبات السحرة المؤمنين، وأسباب ذلك الثبات، فقال (1): لكن القوم قد دخلوا في عالم آخر.. فقد التقوا بالله في روحية الإيمان به، وقد انفتحوا من خلاله على عالم القدس والطهارة، وعاشوا مع عالم الغيب المطلق الذي لا تحده أية حدود، ولم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء في غناها وفقرها، ورفعتها وضعتها، وقوتها وضعفها، بل أصبحت الآخرة أكبر همهم وأفضل طموحاتهم، ولذلك كانت مواجهتهم له من موقع القوة الكبيرة المتحدية في روحيتهم الهادئة الصافية المطمئنة.
ثم حكى لنا مقولتهم، وراح يفصل ويطنب فيها، وكأنه يريد منا أن نحفظ ذلك ونتعلمه لنخاطب به الطغاة الذين استبدوا بنا.. لقد قال (2): ولذلك ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ [طه: 72] الواضحة التي تؤكد لنا الحقيقة من دون شك أو شبهة، فكيف نتنكر لها، ونتركها من دون أساس؟.. وماذا تمثل أنت لنا أمام حقيقة الإيمان؟.. وماذا تمثل طريقتك في الحياة؟.. ما هي قيمك؟.. وما هي شريعتك؟.. وما هي مفاهيمك؟.. هل تثبت بالمقارنة أمام قيم الإيمان وشرائعه ومفاهيمه؟.. إن الحقيقة تفرض نفسها علينا وهي ان شريعة الله هي الشريعة الحقة، وأن شريعة البشر هي شريعة الباطل،
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 135)
(2) من وحي القرآن (15/ 135)
القرآن.. والعزاء والشفاء (219)
ولن نؤثر الباطل على الحق، مهما كانت الإغراءات، ومهما كانت التهديدات، ولن نؤثرك على الله ربنا ﴿وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ [طه: 72] وخلقنا وأوجدنا، وما زال يرعى حياتنا بنعمه ولطفه ورحمته.. فمن أنت أمام الله؟.. وما حجمك، وما قيمتك؟.. وما هي قوتك؟.. وما دورك بالنسبة إلينا وإلى بقية الناس، ليكون لك علينا وعلى الناس حق الطاعة؟.. من أنت؟.. إنك مجرد مخلوق ضعيف لا تملك لنفسك نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا موتا إلا بالله. وما قدرتك؟.. ومن أين لك كل هذه الإمكانات والوسائل؟.. إنها من الله، فقد أعطاك إياها لحكمة، وسيسلبك إياها في أي وقت، فماذا تريد وماذا تستطيع أن تفعل؟.. إنك قد تملك السيطرة الغاشمة على أجسادنا، ولكنك لن تملك السلطة على أفكارنا وأرواحنا ومشاعرنا التي ترفضك وترفض كل طريقتك وكل الواقع المنحرف الكافر الذي تتحرك فيه وتتحكم به، ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: 72] هل تريد أن تقتلنا؟.. هل عندك أكثر من التمثيل والصلب والقتل؟.. إننا لن نخسر الكثير، إنها حياتنا الدنيا نفقدها، ونفقد شهواتها ومنافعها وملذاتها، ونخسرها، ولكنها لن تكون الخسارة الكبيرة، فهناك الدار الآخرة التي تنتظر المؤمنين، لهم فيها رحمة الله فيما أعد لهم من نعيم الجنة وسعادة الرضوان.
ثم ذكر لنا ما ذكروه من الرغبة في الله، وفيما عنده من الفضل العظيم، فقال (1): لقد قالوا بلسان حالهم ومقالهم: ﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا﴾ [طه: 73] التي أسلفناها في ماضي حياتنا في ممارستنا الذاتية تجاه أنفسنا، وفي معاونتنا لك في تضليل الناس وحرفهم عن صراط الحق، وها نحن نتوب إليه من موقع الإيمان به والالتزام بخطه المستقيم في الحياة،
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 136)
القرآن.. والعزاء والشفاء (220)
ليغفر لنا ذلك كله، ﴿وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ [طه: 73] الذي كان أداة من أدوات الخداع والحيلة والضلال، واستعراض القوة لمصلحتك، ولكننا كنا مستكرهين فيما فرضته علينا من سلطة، وأغرقتنا فيه من ضلال، وحددته لنا من دور، وهددتنا به من قوة غاشمة، وأغريتنا به من مال وجاه وسلطة.. وها نحن نضرع إلى الله أن يغفر لنا واقعنا المنحرف كله، وستزول أنت، وسيزول ملكك إن عاجلا أو آجلا، وسيزول كل هؤلاء الذين من حولك، ممن يزينون لك الباطل ويشوهون لك الحق، ويساعدونك في ظلم الناس، ويمنعونك عن العدل، ويبقى الله.. ويبقى ملكه.. ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 73] للإنسان في الدنيا والآخرة، لأنه الرب العظيم الذي يرحم خلقه ويرعاهم، ويهيئ لهم سعادة الدنيا والآخرة إذا أطاعوه وعملوا بما يحب.
ثم ذكر لنا ما ذكروه من اهتمامهم بالمصير الذي سيصيرون إليه، والذي لا تساوي الدنيا أمامه شيئا، فقال (1): لقد قالوا بلسان حالهم ومقالهم: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ [طه: 74] عاصيا منحرفا من دون أن يتوب إلى الله من ذنوبه، أو يصحح طريقه، ﴿فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [طه: 74] لأنه لن يذوق فيها لذة الحياة، ولن يستريح فيها في هدأة الموت وراحته، بل يظل في عذاب متحرك بين الموت والحياة، جزاء على تمرده على الله وانحرافه عنه من دون حجة ولا هدى.. ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ﴾ [طه: 75] فكان إيمانه متحركا في مواقع الفكر والروح والشعور، ومتجسدا في حركة الواقع العملي في حياته وحياة الناس من حوله، بما يصلح أمره وأمرهم، ويرفع مستوى حياته وحياتهم، طاعة لله، وطلبا لرضاه، ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75] التي أعدها الله لعباده
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 136)
القرآن.. والعزاء والشفاء (221)
المؤمنين الصالحين، تبعا لدرجاتهم في الايمان والتقوى والالتزام، فكل درجة في الآخرة تقابل درجة في الإيمان في الدنيا، ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ [طه: 76] وطهر فكره وروحه من كل أرجاس الباطل والشهوات والمطامع والضلال، وذلك هو الفوز العظيم.
ثم ختم حديثه عنهم بقوله (1): وهكذا استطاع هؤلاء أن يقفوا الموقف الذي يؤكدون من خلاله إيمانهم وتمردهم على كل التهديدات القاسية التي وجهها إليهم فرعون، لأنهم ارتفعوا بإيمانهم بالله، وانفتاحهم على عالم الغيب، عن كل مواقع الخوف ونقاط الضعف، وانطلقوا مع قوة الله التي لا قوة فوقها أو معها.. إلا من خلالها..
ثم قال لنا، وكأنه يدعونا إلى إعادة تلك المشاهد القرآنية إلى الحياة (2): وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه القرآن للمجاهدين الذين قد يقفون مثل هذا الموقف أمام طغاة زمانهم، فيواجهون التهديد بالسجن والقتل والصلب، ليتنازلوا عن مواقفهم، وليتركوا مواقعهم، وليسقطوا أمام التجربة الصعبة، فيتعلمون من هؤلاء السحرة الذين رفضوا كل الامتيازات التي كانوا يملكونها في حكم فرعون من مال وسطوة وجاه، لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، والتزموا بالله وتركوا فرعون، فلم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء، أمام الآخرة التي تمثل لهم كل شيء.
بعد أن انتهى الشاهد الرابع من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء دوري، فأنا أيضا تشرفت بما تشرف به رفاقي الذين جعلهم الله تعالى سببا لخروج بلدتنا من نير المستضعفين،
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 137)
(2) من وحي القرآن (15/ 138)
القرآن.. والعزاء والشفاء (222)
وتنعمها بالانضمام لصفوف المنتصرين بربهم.
وقد سمعت في أول لقاء لي بمعلمنا الكاظم ما ذكره عن قصة أصحاب الكهف الذين استطاعوا أن يواجهوا طغاة زمانهم بكل قوة، وكيف كان إيمانهم سببا في ذلك.
لقد قال لنا بطريقته الخاصة في تصوير المشاهد القرآنية (1): إن هذه القصة تعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة، كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس، وكيف يرعى الله هذه النفوس المؤمنة، ويقيها الفتنة، ويشملها بالرحمة.
وعندما سألناه أن يذكر لنا من التفاصيل ما لم يرد في القرآن الكريم، قال (2): في القصة روايات شتى، وأقاويل كثيرة، فقد وردت في بعض الكتب القديمة بصور شتى.. ونحن نقف فيها عند حد ما جاء في القرآن الكريم، فهو المصدر الوحيد المستيقن، ونطرح سائر الروايات والأساطير التي اندست في التفاسير بلا سند صحيح، وبخاصة أن القرآن الكريم قد نهى عن استفتاء غير القرآن فيها، وعن المراء فيها والجدل رجما بالغيب.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: 9 ـ 12]، ثم قال (3): هذا تلخيص يُجمل القصة، ويرسم خطوطها الرئيسية، فنعرف أن أصحاب الكهف فتية ـ لا نعلم عددهم ـ آووا إلى الكهف وهم مؤمنون، وأنه ضرب على آذانهم في الكهف ـ أي ناموا ـ سنين معدودة ـ لا نعلم عددها ـ وأنهم بعثوا من
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2260)
(2) في ظلال القرآن (4/ 2261)
(3) في ظلال القرآن (4/ 2261)
القرآن.. والعزاء والشفاء (223)
رقدتهم الطويلة، وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم، ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء، وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله، وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم.
سكت قليلا، ثم قال (1): وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ القرآن الكريم في التفصيل، ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة، وهو الحق اليقين: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 13 ـ 16].. هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ [الكهف: 13].. ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13] بإلهامهم كيف يدبرون أمرهم، ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [الكهف: 14] فإذا هي ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت، معتزة بالإيمان الذي اختارت ﴿إِذْ قَامُوا﴾ [الكهف: 14].. والقيام حركة تدل على العزم والثبات، ﴿فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الكهف: 14]، فهو رب هذا الكون كله ﴿لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا﴾ [الكهف: 14].. فهو واحد بلا شريك، ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: 14].. وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب.. ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة: ﴿هَؤُلَاءِ
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2261)
القرآن.. والعزاء والشفاء (224)
قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: 15]، فهذا هو طريق الاعتقاد: أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول، وإلا فهو الكذب الشنيع، لأنه الكذب على الله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: 15]
سكت قليلا، ثم قال (1): وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما، لا تردد فيه ولا تلعثم.. إنهم فتية، أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما عليه قومهم.. ولقد تبين الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة، ولا بد من الفرار بالعقيدة.. إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل، إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداروهم، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله، والأرجح أن أمرهم قد كشف، فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 16]..
ردد الآية الكريمة مرات متعددة، وكأنه ينبهنا إلى التدبر الجيد فيها، ثم قال (2): وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2262)
(2) في ظلال القرآن (4/ 2262)
القرآن.. والعزاء والشفاء (225)
إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة، ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الكهف: 16] ولفظة ﴿يَنْشُرْ﴾ [الكهف: 16] تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق.. إنه الإيمان.. وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟.. إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن، عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان.
ثم راح يردد بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 17 ـ 18]، ثم قال (1): هذا مشهد تصويري عجيب، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف، كما يلتقطها شريط متحرك، والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة، ولفظ ﴿تَزَاوَرُ﴾ [الكهف: 17] تصور مدلولها وتلقي ظل الإرادة في عملها.. والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه، وقبل أن يكمل نقل المشهد العجيب يعلق على وضعهم ذاك بأحد التعليقات القرآنية التي تتخلل
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2262)
القرآن.. والعزاء والشفاء (226)
سياق القصص لتوجيه القلوب في اللحظة المناسبة ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الكهف: 17].. وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعتها وتقرب منهم بضوئها، وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون.. ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: 17].. وللهدى والضلال ناموس، فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه وهو المهتدي حقا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضل، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أضله الله إذن، ولن تجد له من بعد هاديا.
سكت قليلا، ثم قال (1): ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب، وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة، فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود، وكلبهم ـ على عادة الكلاب ـ باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم، وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم، إذ يراهم نياما كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون، وذلك من تدبير الله كي لا يعبث بهم عابث، حتى يحين الوقت المعلوم.. وفجأة تدب فيهم الحياة، فلننظر ولنسمع: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 19 ـ 20]
قرأ الآيتين الكريمتين بصوت خاشع، ثم قال (2): إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة، فيعرض هذا المشهد، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس.. إنهم يفركون أعينهم، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل: كم لبثتم؟
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2263)
(2) في ظلال القرآن (4/ 2263)
القرآن.. والعزاء والشفاء (227)
كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل، ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل، ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [المؤمنون: 113] ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها، ويدعوا أمرها لله ـ شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله ـ وأن يأخذوا في شأن عملي، فهم جائعون، ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة: ﴿قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ﴾ [الكهف: 19].. أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه.. وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجما ـ بوصفهم خارجين على الدين لأنهم يعبدون إلها واحدا في المدينة المشركة ـ أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب.. وهذه هي التي يتقونها، لذلك يوصون الرسول أن يكون حذرا لبقا: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 19 ـ 20].. فما يفلح من يرتد عن الإيمان إلى الشرك، وإنها للخسارة الكبرى.
سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم، حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد كرت، وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالا قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيرت معالمها، وأن المتسلطين الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فروا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف وأن الأقاويل حولهم متعارضة حول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم.. وهنا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر، وبين المشهدين فجوة متروكة في السياق القرآني.. ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون، فهم شديد
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2264)
القرآن.. والعزاء والشفاء (228)
والحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فروا بدينهم منذ عهد بعيد.
ثم راح يحاول بكل جهده يصور لنا ما حصل، فقال (1): ولنا أن نتصور ضخامة المفاجأة التي اعترت الفتية، بعد أن أيقن زميلهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها وأن الدنيا قد تبدلت من حولهم فلم يعد لشيء مما ينكرونه ولا لشيء مما يعرفونه وجود، وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون، وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسهم، فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين، وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد.. كله قد تقطع، فهم أشبه بالذكرى الحية منهم بالأشخاص الواقعية.. فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم.. لنا أن نتصور هذا كله، أما السياق القرآني فيعرض المشهد الأخير، مشهد وفاتهم، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم: على أي دين كانوا، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال، ويعهد مباشرة إلى العبرة المستقاة من هذا الحادث العجيب: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21].. إن العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس، يقرب إلى الناس قضية البعث، فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق، وأن الساعة لا ريب فيها.. وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم وأعثر قومهم عليهم.
ثم ختم حديثه عنهم بقوله (2): ويسدل الستار على هذا المشهد، ثم يرفع لنسمع
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2264)
(2) في ظلال القرآن (4/ 2265)
القرآن.. والعزاء والشفاء (229)
الجدل حول أصحاب الكهف ـ على عادة الناس يتناقلون الروايات والأخبار، ويزيدون فيها وينقصون، ويضيفون إليها من خيالهم جيلا بعد جيل، حتى تتضخم وتتحول، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22].. فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه، وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة، أو أكثر.. وأمرهم موكول إلى الله، وعلمهم عند الله، وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة، فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم، والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير، لذلك يوجه القرآن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ترك الجدل في هذه القضية، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم، تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد، وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق، وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله، فليترك إلى علم الله.
بهذا الحديث انتهى المشهد الثاني من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الثالث، والذي تعلمت منه معنى البذل والتضحية، وأثرهما في العزاء والسلوى.
وقد بدأ هذا المشهد، بعد انتهائي من الاستماع لأحاديث أولئك الفتية الذين كانوا يتدربون، وقد طلبوا مني بعدها أن أسير إلى بلدتهم لنلتقي من نشاء من أهلها، وقد كان
القرآن.. والعزاء والشفاء (230)
أول ما مررت به مقبرة كُتب على بابها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]
فدخلت إليها، وقمت بما ورد في السنن من الآداب المرتبطة بها، ثم اقتربت من أحد القبور، فسمعت امرأة تخاطب ابنها الشهيد بقوله: لست أدري ما أقول لك يا بني.. هل أفرح بك، أم أحزن عليك؟
ثم مسحت بعض الدموع من عينيها، وقالت: وكيف أحزن عليك، وأنت الذي كنت سببا في تغيير حياتي وحياة من حولي من الناس.. لقد كانت دماؤك ودماء رفاقك الزكية، هي سبب ما ننعم به من رحمة وعدالة وإحسان.. لقد صرنا نمارس شعائر ديننا بكل حرية، وصرنا نجني ثمار زرعنا من غير أن يشاركنا فيه أحد ما عدا الفقراء والمساكين والمحرومين الذين استشهدت واستشهد رفاقك، وأنت تدافع عنهم.
سكتت قليلا، ثم قالت: نسيت أن أخبرك أن معلمنا الكاظم، زارنا بعد استشهادك بفترة قصيرة.. زارنا في بيتنا.. وعزانا فيك، وكان مناسبة لأن نسمع منه الكثير من المعاني التي كانت العزاء الأكبر لنا.
لقد قرأ علينا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171]، ثم قال (1): الله تعالى يعزينا ويعزيكم في هذه الآيات الكريمة،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 640)
القرآن.. والعزاء والشفاء (231)
ويخبرنا بأن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله، قد استوفوا آجالهم في الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قُتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند الله.. ثم إن هؤلاء القتلى (شهداء) أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت.. وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين.. وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون بالله، فلا يرون في الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره في الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من دار إلى دار.. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء.
ثم ذكر لنا الفرق بين المؤمنين وغيرهم في هذا، فقال (1): ومن أجل هذا يستخف المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعد لعباده الله الصالحين.. أما غير المؤمنين بالله، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم.. ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم ـ كما يتصورن ـ هو الذي ينتظرهم بعده.. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم ـ حسب معتقدهم ـ لا يلتقون به أبدا.
ثم ذكر لنا الحقيقة الجميلة التي يدلنا عليها القرآن الكريم، والتي تجعلنا لا نحزن للشهداء، بل نستبشر ونفرح بهم، فقال (2): هذه هي الحقيقة.. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء في العالم الآخر.. والقرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 641)
(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 641)
القرآن.. والعزاء والشفاء (232)
كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلا ما يبعث في قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169] فيجدون هؤلاء القتلى أحياء في العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: 170].. فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشف، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها، هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم الله من فضله، وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة.. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزى به، ويستبشر المؤمنون.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة، بل هم في حياة قوية كاملة، بحيث تشمل عالمهم العلوى الذي نقلوا إليه، وعالمهم الأرضى الذي انتقلوا منه.. فهم في هذا العالم العلوي، إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم في فضل من الله ونعمة، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم في سبيل الله، وباستشهادهم في هذه السبيل، يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد، فيستبشرون لذلك، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 642)
القرآن.. والعزاء والشفاء (233)
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 171].. فكما وفي الله هؤلاء الذين استشهدوا في سبيل الله، سيوفى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، ولا يبخس ثواب المجاهدين.
ثم حدثنا بالكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تؤكد ذلك، وتفصله، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في الجنة، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة؛ لئلا يزهدوا في الجنة، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171])(1)
ثم حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 ـ 171] فقال: (أرواحهم تسرح من الجنة حيث شاءت، فقال لهم ربهم: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل، ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد، أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، وتقرأ نبينا السلام وتخبره أن قد رضينا ورضي عنا، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(2)
__________
(1) أبو داود (2520)
(2) مسلم (1887)
القرآن.. والعزاء والشفاء (234)
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة)(1)
وأخبرنا عن رضوان الله ومحبته التي تنال الشهداء، حيث حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله)(2)
ثم ذكر لنا الجوائز العظيمة التي ينالها الشهيد بمجرد شهادته، فقال: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)(3)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحبا بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة يكسى من كسوة الجنة، والرابعة تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة أن يرى منزله، والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت، والسابعة أن يرضى الله عنه وإنها لراحة لكل نبي وشهيد)(4)
ومن تلك الجوائز هذه الجائزة العظيمة التي جعلتنا نفرح ونستبشر، وهي ما عبر عنه
__________
(1) البخاري (2817)، ومسلم (1877)
(2) الترمذي (1669)
(3) الترمذي (1663)
(4) التهذيب 6/ 121/208.
القرآن.. والعزاء والشفاء (235)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)(1).. لقد جعلتنا هذه الجائزة نشعر بأن اليد التي مددتها إلينا في الدنيا لتنقذنا بها، ستمدها إلينا أيضا في الآخرة، حين يأذن الله لك أن تشفع في عباده.
وهكذا سمعنا منه الأحاديث الكثيرة في فضل الشهداء، والتي جعلتنا نشعر بالفرح والسرور والسعادة، بدل الآلام والأحزان.
بعد أن استمعت إلى تلك المرأة، وحديثها مع ابنها، اقتربت من قبر آخر، وجدت فيه بعض الفتية يقفون أمام قبر، وفي حالة تجمع بين الحزن والفرح، وقد قال أحدهم مخاطبا الشهيد صاحب القبر: هنيئا لك يا رفيق دربنا.. لقد آثرك الله علينا، واختارك إلى جواره، وتركنا للمسؤوليات العظيمة التي تنوء لها الجبال.. فنحن مطالبون بأن نظل أوفياء لدمائك التي سقيت بها شجرة حريتنا.
قال آخر: لا نزال نذكر جيدا موقفك البطولي أمام الطغاة والظلمة، من غير أن تخافهم، ولا أن تحسب لهم أي حساب، لذلك لم يجدوا سوى أن يصلبوك كما صُلب من قبلك الكثير من الشهداء والصالحين.
قال آخر: إن كلماتك التي قلتها، وأنت على الصليب، وبمرأى جميع الناس، كانت وقودا أحرق عروشهم وممالكهم واستبدادهم.. لقد رددت حينها ما قاله الإمام الحسين: (ليس شأني شأن من يخاف الموت.. ما أهون الموت على سبيل نيل العز وإحياء الحق، ليس الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حياة معه..
__________
(1) أبو داود (2522)
القرآن.. والعزاء والشفاء (236)
أفبالموت تخوفني هيهات طاش سهمك وخاب ظنك، لست أخاف الموت، إن نفسي لأكبر من ذلك، وهمتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفا من الموت، وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟.. مرحبا بالقتل في سبيل الله ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزي وشرفي، فإذا لا أبالي بالقتل)(1)
ثم خاطبت جموع الحاضرين بما قاله الإمام علي: (أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش)(2).. وقوله في بعض خطبه: (إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه.. وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالإسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.. وأديل الحق بتضييع الجهاد وغضب الله عليه بتركه نصرته وقد قال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7])(3)
وقد بادر الطواغيت حينها إلى قتلك في غير الموعد المحدد لذلك، بعد أن رأوا تأثير كلماتك في الحاضرين.. فقد طلبوا منهم أن يحضروا ليملؤوهم بالمخافة، لكنهم ملؤوهم بالشجاعة والقوة.
قال آخر: بعد شهادتك بأيام زارنا معلمنا الكاظم، وراح يربط واقعنا بالواقع الذي عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قدم لذلك بقراءة قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) إحقاق الحق 11/601، أعيان الشيعة 1/581.
(2) الكافي 5/ 53/4.
(3) الكافي 5/ 4/6، التهذيب 6: 123/ 216.
القرآن.. والعزاء والشفاء (237)
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 22 ـ 24]، ثم قال (1): لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في غزوة الأحزاب ـ والتي لا تختلف عن الأهوال التي تواجهونها ـ من الضخامة، وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة، وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا، كما قال عنهم أصدق القائلين: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 11].. لقد كانوا ناسا من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية وبشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق.. على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.. لكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].. وها هم أولاء يزلزلون، فنصر الله إذن منهم قريب، ومن ثم قالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: 22].. ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22].. ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب:
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2843)
القرآن.. والعزاء والشفاء (238)
22].. هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق، وعدنا عليه النصر.. فلا بد أن يجيء النصر: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: 22].. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها.. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22]
ثم قال لنا (1): لقد كانوا ناسا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر.. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ولا أن يخرجوا من اطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته، فلهذا خلقهم الله.. خلقهم ليبقوا بشرا، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرا.. كانوا ناسا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة، ولكنهم كانوا ـ مع هذا ـ مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. ولهذا، فإن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.
ثم حدثنا عن نموذج لهؤلاء الصادقين، وهو ما حدث به ثابت قال: (عمي أنس بن النضر لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع، فهاب أن يقول غيرها.. فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو.. أين واها لريح الجنة.. إني أجده دون أحد.. فقاتلهم حتى قُتل.. فوجد
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2844)
القرآن.. والعزاء والشفاء (239)
في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه، فنزلت هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23]
ثم قال (1): وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق، لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن.. ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء، وعاقبة النقض والوفاء وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 24].. ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد، ليرد الأمر كله إلى الله، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع، فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة.. إنما تقع وفق حكمة مقدرة، وتدبير قاصد، وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب، وفيها تتجلى رحمة الله بعباده، ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 24]
قال آخر: وفي ذلك المساء، عقدنا مجلسا للعزاء، وبعدما قرأ القارئ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]، قال المعلم (2): هكذا تكون الحياة في كل مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئا، إلا لتأخذ شيئا مقابلا له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما.
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2845)
(2) من وحي القرآن (1/ 156)
القرآن.. والعزاء والشفاء (240)
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف: 10 ـ 11]
ثم قال: وفي مقابل هؤلاء يذكر الله تعالى الخسارة العظيمة للضالين المنحرفين، فيقول: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15]، ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 36 ـ 37]
ثم قال: وقد حدثنا الله تعالى عن الفوز في الآخرة كمقياس يتميز به الفائزون من الخاسرين، فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، وقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72]
بعد أن قرأ هذه الآيات الكريمة جميعا قال (1): هناك عملية بيع وشراء مع الله، فالمؤمن هو البائع الذي باع نفسه وماله لله، والله هو المشتري الذي جعل الجنة عوضا عن ذلك.. وإذا كان الله يملك الإنسان في ماله ونفسه، فكيف نتصور مسألة البيع هذه؟..
__________
(1) من وحي القرآن (11/ 216)
القرآن.. والعزاء والشفاء (241)
ويمكن الجواب عن ذلك بأن الله أراد الإيحاء للإنسان بأنه يترك له الحرية فيما يتصرف به من ماله ونفسه، ليحدد هو طبيعة تصرفاته فيهما، ولمن يكون البيع، هل هو للمالك الأصلي الحقيقي؟.. أو هو للمالكين الطارئين الذين لا يملكون شيئا من نفسه وماله؟.. وفي هذا الجو، يتمثل إيمان الإنسان، في مدلوله العميق، بيعا للمال والنفس، لله تعالى، وهذا ترجمة لمعنى العبودية الحقة لله تعالى، هذا المعنى الذي يؤكد معنى المملوكية المطلقة لله، حيث لا يملك العبد، في جنب الله، حرية التصرف في ماله ونفسه وكل ما تحت يديه في غير المجال الذي أراده الله منه، وهو خط الجهاد، وفي المقابل، فإن العبد سيفوز بالجنة لقاء ما يدفعه ثمنا لها.
سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا تكون الحياة في كل مجالاتها وصراعاتها، عملية بيع وشراء مع الله أو مع الشيطان، فلا تعطي شيئا، إلا لتأخذ شيئا مقابلا له، وهي في ذلك، قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري، وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما، وعلى ضوء ذلك، نعرف طبيعة تجارة الطواغيت والمجرمين، فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة، والذي يضعهم في تيه لا نهاية له من الحيرة والتمزق، وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة، وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح، في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق، مما جعلهم في ضياع دائم وتخبط مستمر، وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجر من أعماق القلوب المؤمنة السابحة أبدا في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من روح الله.
__________
(1) من وحي القرآن (1/ 156)
القرآن.. والعزاء والشفاء (242)
ثم التفت إلينا، ينبهنا إلى استعمال هذا الأسلوب القرآني في إقناع الناس بضرورة الثورة على الطغاة، فقال (1): من هنا، ينبغي عليكم أن تتوفروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملكم الدعوي إلى الله، فقد تلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة، فتحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خط الله أو ابتعادهم عنه، ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا، ثم الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة، كمجال حيوي من المجالات التي تتحرك فيها حسابات الربح والخسارة، والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك، كما حدثنا الله عن ذلك في مواضع مختلفة من القرآن الكريم.
سكت قليلا، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 1 ـ 5]، ثم قال (2): هذا مثال قرآني على ذلك.. فأبو لهب، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية، التي واجهتها الدعوة الإسلامية، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ، وضلال مبين.. ومع أنه كان عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب، ظالما أو مظلوما، كما كان ذلك شأنهم، فإن هذا الشقي كان من أسفه السفهاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأشدهم عدوانا عليه، وأكثرهم أذى له، حتى إنه ـ وعلى غير تقاليد الجاهلية ـ يدخل معه امرأته في هذه العداوة، ويجرها جرا إلى تلك المعركة التي يخوضها ضد النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا كان الرجل الوحيد من قريش الذي ذكره القرآن باسمه، وأعلن في العالمين عداوته لله، وغضب الله عليه، ووقوع بأسه وعذابه به، وذلك ليكون لعنة على كل لسان إلى يوم الدين، لا يذكر
__________
(1) من وحي القرآن (1/ 157)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1703)
القرآن.. والعزاء والشفاء (243)
اسمه إلا ذُكر مدموغا باللعنة، مرجوما بالشماتة والازدراء، تتبعه امرأته مشدودة إليه بحبل من مسد، كما كانت مشدودة إليه في الدنيا بحبل عداوتهما للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وحسدهما له..
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد: 1]، ثم قال (1): هذا دعاء على أبى لهب من الله سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكنة له من الشر والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كان اليد دائما هي مظهر آثار الإنسان، بها يأخذ، وبها يعطى.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسرى مقامها، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزا عن أن يحصل خيرا، أو يتناول خيرا، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَبَّ﴾ [المسد: 1] أي هلك هو، بعد أن قطعت يداه.
سكت قليلا، ثم قال (2): بل هذا خبر على حقيقته، وهو خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال، لقد ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه، ولا سلامة لسائر فيه، وكذلك امرأته التي ركبت معه هذا الطريق، وعلقت فيه حبالها بحباله.. والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة تحقق وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم.. وفي هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس.. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد: 2]، ثم قال (3): هذا تعقيب
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1704)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1704)
(3) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1705)
القرآن.. والعزاء والشفاء (244)
على هذا الخبر، فقد هلك أبو لهب، ونزل به ما نزل من هوان وخسران، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه، واعتز به، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم.. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه.. إنه في قيد الهلاك وهو بين أيديهم.. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته؟.. إنه بين مخالب عقاب محلق به في السماء.. إن سقط من بين مخالبه هلك، وإن مضى به هلك.. وقد قيل: إن أبا لهب قد أصيب بداء يسمى العدسة ـ ولعله الطاعون ـ وكانت العرب تخشى هذا الداء، وتتحاشى المصاب به، وكان ذلك بعد غزوة بدر ببضعة أيام، فلما مات بدائه هذا، لم يقترب أحد من أبنائه لمواراته في التراب، خوفا من هذا الداء، بل ألقوا عليه الحجارة من بعيد حتى أخفوا جثته، وكأنهم يرجمونه، ويشيعونه بهذه الرجوم، وهم يذرفون الدمع الحزين عليه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 3].. ثم قال (1): هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب في الآخرة، بعد أن عرف مصيره في الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه في الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر، وكيف قُتل صناديدها، وأسر زعماؤها.. وفي وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنى بها (أبو لهب)، فقد ولد، وهو يلبس هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقودا يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها في الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4].. ثم قال (2): حمالة الحطب،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1706)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1706)
القرآن.. والعزاء والشفاء (245)
هي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة، وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتهيج عداوة المشركين له.. فقد كانت امرأة أبى لهب ـ واسمها أم جميل بنت حرب، أخت أبى سفيان ـ من أشد نساء قريش عداوة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وسلاطة لسان، وسوء قالة فيه، كما كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشركى قريش كلهم.. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة، وتتزاوج، وتتوافق، وتتجاذب.
ثم قال (1): تأملوا جيدا في وصف امرأة أبى لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله، لا بد أن يشتعل يوما، وقد كان.. فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم.. وتأملوا مرة أخرى إلى هذا الإعجاز في التفرقة بين أبى لهب وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطبا، وحسب.. وهذا الحطب ـ وإن كان من وقود النار ـ إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها، ويعلق بها.. وأما وقد خالطها أبو لهب فلا بد أن تشتعل، وتحترق.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد: 5] ثم قال (2): في تعليق هذا الحبل في جيد أم جميل، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفي تشويه خلقها.. فما أبشع (جيد) امرأة كان من شأنه أن يتحلى بعقد من كريم الجواهر، يشد إليه حبل من ليف.. إنه إهانة لعزيز، وإذلال لكريم.. وإن الإهانة للعزيز، والإذلال للكريم، لأقتل للنفس، وأنكى للقلب، من إهانة المهين، وإذلال الذليل! فكلمة (جيد) هنا مقصودة لذاتها، إنه يراد بها ما
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1707)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1708)
القرآن.. والعزاء والشفاء (246)
لا يراد بلفظ رقبة، أو عنق.. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش، ومن بيوتاتها المعدودة فيها، لتلقى بها في عرض الطريق، وهى تحمل على ظهرها حزم الحطب، وتشدها إلى جيدها بحبل من ليف.. ولهذا فزعت المرأة، وولولت حين سمعت هذا الوصف الذي وصفها القرآن الكريم به، فخرجت ـ كما يقول الرواة ـ في جنون مسعور، تستعدى قريشا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هجاها ـ كما تزعم ـ هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ.
بهذا الحديث انتهى المشهد الثالث من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الرابع، والذي تعلمت منه معنى الاستعاذة والاستعانة، وأثرهما في العزاء والسلوى.
وقد بدأ هذا المشهد بعد انتهائي من الاستماع لحديث تلك الأم، وأولئك الفتية في مقبرة الشهداء.
وقد كان أول ما صادفني بعد مغادرتي لها دارا كبيرة كُتب عليها [دار الحكمة]، وقد سألت بعض المارين عنها، فقال: كانت هذه الدار في عهد المستبدين والظلمة يُطلق عليها [دار الندوة]، حيث كان أكابر المجرمين يجتمعون فيها ليتسلطوا على الضعفاء والمحرومين.. وقد رأى حكماؤنا الذين حقق الله على أيديهم التخلص من كل أولئك الطغاة، الإبقاء عليها كما هي مع تبديل اسمها إلى [دار الحكمة]، وقد كان أول من افتتحها بهذا الاسم الجديد معلمنا الكاظم.
قلت: فمتى تفتح لأرى الحكماء الذين يتولون إدارتها؟
ابتسم، وقال: وهل يمكن لباب الحكمة أن يُغلق.. هذه الدار مفتوحة ليل نهار..
القرآن.. والعزاء والشفاء (247)
وليس لها مدير ولا مسؤول، بل كل من آتاه الله شيئا من العلم والحكمة يأتي إليها لينير أصحابه بما علمه الله، وقد يصححوا له، أو يوجهوه.
قلت: فهل يمكنني أن أدخل إليها؟
قال: بل يجب أن تدخل إليها.. ألست تلميذ القرآن الذي كُلف بأن يعرف العزاء الذي وفره الله لنا ولأمثالنا في القرآن الكريم؟
قلت: أجل.. فكيف عرفتني؟
قال: لا تسأل عما لا يعنيك.. وادخل إلى الدار.. ولا تنس أن تكتب كل ما تسمع، فلن تسمع فيها إلا الحكمة التي لا يمكن أن ينال العزاء ولا السلوى إلا من شرب من منابعها الصافية.
دخلت الدار، فوجدت شيوخا وكهولا وشبابا وصبية مجتمعين.. يستمع بعضهم لبعض.
قال أحدهم، وكان شيخا كبيرا: اسمحوا لي أن أشهد لكم بأني كنت من أكثر المتأخرين عن إجابة معلمنا الكاظم، لا لشكي في علمه ودينه ونصحه، ولكن لخوفي من أولئك الطغاة الذين كانوا يتسلطون علينا، فقد كانوا لا يرحمون أحدا.
لكني، وفي المجلس الأول من المجالس التي تشرفت بالجلوس إليه فيها، زال عني كل ذلك الخوف، لأني أيقنت أن الله تعالى لن يضيع المظلومين ولا المستضعفين إن جدوا في مواجهة من ظلمهم واستضعفهم.
وقد كان أول ما سمعت منه قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]، ثم قال: هذه الآية تخبر عن موقف موسى عليه السلام
القرآن.. والعزاء والشفاء (248)
عندما خرج بصحبة بني إسرائيل، فاشتد حنق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:61]، وذلك لأنهم (عاشوا القهر والاستعباد من فرعون حتى تأصل الخوف في نفوسهم، وتعمق الرعب منه في قلوبهم، ففقدوا الثقة بأنفسهم، وابتعدوا عن التفكير في قوة الله)(1)
ثم قال لنا (2): حينها قال موسى عليه السلام: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].. كلا، في شدة وتوكيد.. كلا لن نكون مدرَكين.. كلا لن نكون هالكين.. كلا لن نكون مفتونين.. كلا لن نكون ضائعين.. ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62] بهذا الجزم والتأكيد واليقين.. وفي اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: 63]، ولا يتمهل السياق القرآني ليقول إنه ضرب بعصاه البحر، فهذا مفهوم، إنما يعجل بالنتيجة: ﴿فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: 63]، ووقعت المعجزة، وتحقق الذي يقول عنه الناس: مستحيل، لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور.. والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عند ما يريد.. وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق، ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم، واقتحم بنو إسرائيل، ووقف فرعون مع جنوده مبغوتا مشدوها بذلك المشهد الخارق، وذلك الحادث العجيب.. ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتا فأطال الوقوف ـ وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف ـ قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب..
__________
(1) من وحي القرآن (17/ 118)
(2) في ظلال القرآن (5/ 2599)
القرآن.. والعزاء والشفاء (249)
ثم قال، والبسمة تعلو محياه (1): وتم تدبير الله، فخرج بنو إسرائيل من الشاطئ الآخر، بينما كان فرعون وجنوده بين فرقي الماء أجمعين، وقد قربهم الله لمصيرهم المحتوم: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: 64 ـ 66]، ومضت آية في الزمان، تتحدث عنها القرون، فهل آمن بها الكثيرون؟.. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 190]، فالآيات الخارقة لا تستتبع الإيمان حتما، وإن خضع لها الناس قسرا، إنما الإيمان هدي في القلوب.. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 191]
بعد أن انتهى الشيخ من حديثه، قام آخر، وقال: لقد ذكرني حديثك هذا بحديث آخر سمعته منه، لكن ليس مرتبطا بموسى عليه السلام، وإنما بإبراهيم عليه السلام، والمكايد التي دبرها له قومه ليقتلوه ويحرقوه، لكن الله نجاه منهم.
لقد ذكر لنا ذلك في بعض زياراته لنا، وقدم له ـ كعادته ـ بقراءته بصوته الخاشع لقوله تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 68 ـ 73]
ثم ألقى نظرة حانية علينا جميعا، ثم قال (2): ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 68].. هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2599)
(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 917)
القرآن.. والعزاء والشفاء (250)
أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه.. لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: ﴿حَرِّقُوهُ﴾ [العنكبوت: 24].. هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه.. اهجموا عليه.. حرقوه.. وفي قولهم: ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: 68] تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم في هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده في وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحل به من بلاء.. وفي قولهم: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 68] تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم.. أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم.. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر.. وهكذا أمضى القوم حكمهم في إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها..
سكت قليلا، ثم قال (1): لكن رحمة الله التي أدركت موسى عليه السلام فنجا من فرعون هي نفسها التي تداركته، وأحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه.. ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69].. وفي قوله تعالى: ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات: 109].. بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير، تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه..
ثم قال (2): انظروا إلى قدرة الله.. النار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم في لهيبها المتضرم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه، فكان قوله تعالى: ﴿وَسَلَامًا﴾ [الفرقان: 75] هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشى بعد نهار قائظ.. ثم
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 918)
(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 918)
القرآن.. والعزاء والشفاء (251)
عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 70].. أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء، فنجاه الله منهم، وألبسهم ثوب الخسران في الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعد الله لهم في الآخرة عذابا عظيما.. ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71].. أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]، وقد نجى الله معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 26]
سكت قليلا، ثم قال (1): ثم يذكر الله تعالى كيف صب النعم على عبده إبراهيم عليه السلام صبا، فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 72]، أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن نجى إبراهيم من قومه، أكرمه الله تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثره، فكان أمة.. وفي قوله تعالى: ﴿نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: 72] إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب.. وفي قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 72] إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد الله الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين.. ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 73]، أي ولم يكونوا صالحين في أنفسهم وحسب،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 919)
القرآن.. والعزاء والشفاء (252)
بل كانوا دعاة صلاح، وأئمة هدى، يدعون الناس إلى الخير، ويهدونهم إلى طريق الفلاح.
نظر المعلم إلى بعض شبابنا الصغار، وقال (1): لقد جاء في بعض كتب التفسير أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار لم يكن عمره يتجاوز ست عشرة سنة، وذكر آخرون أن عمره عند ذاك كان (26) سنة.. على كل حال فإنه كان في عمر الشباب، ومع أنه لم يكن معه أحد يعينه، فإنه رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حاميا للطواغيت الآخرين، وهبّ بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك، واستهزأ بكل مقدسات المجتمع الخيالية الواهية، ولم يدع للخوف من غضب وانتقام الناس أدنى سبيل إلى نفسه، لأن قلبه كان مغمورا بعشق الله، وكان اعتماده وتوكله على الله تعالى فحسب.. أجل.. هكذا هو الإيمان، أينما وجد وجدت الشهامة، وكل من حل فيه فلا يمكن أن يقهر.
ثم قال (2): إن أهم الأسس التي ينبغي علينا جميعا الاهتمام بها لمقارعة القوى الشيطانية الكبرى في دنيا اليوم المضطربة، هو هذا الأساس والرأسمال العظيم، وهو الإيمان، وقد قال الإمام الصادق في هذا: (إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغير قلبه)(3)
افتر ثغر المعلم عن ابتسامة جميلة، ثم قال (4): لقد جاء في بعض كتب التاريخ أنه عندما ألقوا إبراهيم عليه السلام في النار، كان نمرود على يقين من أن إبراهيم قد أصبح رمادا، أما عندما دقق النظر ووجده حيا، قال لمن حوله: إني أرى إبراهيم حيا، لعلي يخيل إلي.. فصعد على مرتفع ورأى حاله جيدا فصاح نمرود: يا إبراهيم إن ربك عظيم، وقد أوجد بقدرته حائلا بينك وبين النار.. ولذلك فإني أريد أن اقدم قربانا له، وأحضر أربعة
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 199)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 200)
(3) سفينة البحار، ج 1، ص 37.
(4) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 200)
القرآن.. والعزاء والشفاء (253)
آلاف قربان لذلك، فأعاد إبراهيم القول عليه بأن أي قربان ـ وأي عمل ـ لا يتقبل منك إلا أن تؤمن أولا.. غير أن نمرود قال: فسيذهب سلطاني وملكي سدى إذن، وليس بإمكاني أن أتحمل ذلك..
سكت قليلا، ثم قال: طبعا.. نحن لا نصدق هذا، ولا نكذبه.. لكن هذا يدل على أن من أعظم نعم الله علينا تشريفنا بكوننا عبيدا له.. فمن كان عبدا لله، كان موضع عناية تامة، وفي كل الأحوال، وإن فاتته بعض شؤون الدنيا الحقيرة، فلن تفوته الآخرة، ولهذا قال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 59]
بعد أن انتهى الشاهد الثاني من حديثه، قام آخر، وقال: لقد ذكرني حديثكم هذا بحديث آخر سمعته منه، لكن ليس مرتبطا بموسى ولا بإبراهيم عليهما السلام، وإنما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حدثنا معلمنا الكاظم بتفصيل عن الكثير من الآلام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنقذه الله تعالى منها.
ومن ذلك حديثه عن أحرج المواقف التي مر بها، حين كان في غار ثور، ولو أن أحدا من الشركين رمى ببصره لرآه.. ذلك الموقف العظيم الذي قصه الله تعالى علينا فقال: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:40]
فقد قرأ معلمنا الكاظم هذه الآية الكريمة، ثم قال (1): إننا نحتاج كثيرا إلى التدبر في
__________
(1) من وحي القرآن (11/ 115)
القرآن.. والعزاء والشفاء (254)
المعنى الإيماني العميق الذي يوحيه الإيمان بالله، فيما ينصر به رسله، ويدعم به رسالاته، فالله لا يحتاج إلى أي عبد من عباده في تحقيق إرادته بالنصر، لأنه ولي القوة في الحياة كلها، فلا قوة لأحد إلا بإرادته، ولا سبب للقوة إلا منه.. وقد يكون السبب متصلا بالنواميس الطبيعية التي أودعها في الأشياء، وقد يكون مرتبطا بالأوضاع غير المألوفة في حركة الأسباب.. وبذلك، فلا مجال لأحد أن يتصور، أن الناس إذا ابتعدوا عن نصرة النبي، فإنه يفقد مبررات النصر، ليبقى في جميع الظروف تحت رحمة الناس، فيستطيعون من خلال ذلك ممارسة كل ألوان الضغط المادي والمعنوي عليه فيما يريدون منه، وما لا يريدون، فإن الله قادر على أن يحقق القوة من أكثر من سبب غير مألوف، لأنه هو الذي أعطى للأسباب المألوفة سببيتها.. وهذا ما أكده في كثير من المواقف التي نصر الله بها نبيه في ساعات الشدة، في الوقت الذي كانت كل الظروف العادية منطلقة في أجواء الهزيمة.
ثم قال (1): وهذا ما تثيره هذه الآية الكريمة في حديثها عن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة الهجرة، فقد حاصرته قريش من كل جانب، وسدت عليه كل نوافذ الخروج من بيته بعيدا عن رقابتهم من أجل أن تقضي عليه، ولكن الله أنقذه منهم بطريقة غير عادية، عند ما خرج من بيته، تاركا ابن عمه عليا يبيت في فراشه، ليوهمهم أنه لا يزال هناك، فأغلق الله أبصارهم عنه، عند ما رمى التراب فوق رؤوسهم وقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9]، ومر من بينهم فلم يبصره أحد.. وسار بعد ذلك حتى دخل الغار ـ غار ثور ـ في الطريق إلى المدينة، وردهم الله على أعقابهم خاسرين، من خلال ما دبره الله من أسباب غير مألوفة.
__________
(1) من وحي القرآن (11/ 116)
القرآن.. والعزاء والشفاء (255)
ثم قال (1): ولهذا قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾ [التوبة: 40] أي إن امتنعتم عن نصره، فإن الله لا يعجز عن ذلك، كما فعل في ليلة الهجرة، ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: 40] وخلصه من أيدي قريش التي أطبقت على بيته وانتظرت الصباح لتهجم عليه ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: 40] من موطنه ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ [التوبة: 40]، فقد كان معه أبو بكر الذي تواعد وإياه على الخروج معا حتى دخلا الغار، وأقبلت قريش حتى وقفت على بابه، وبدأ الحوار فيما بينهم، بين قائل يحثهم على الدخول، وقائل يدفعهم إلى الرجوع.. وحينها اشتد الضغط على مشاعر أبي بكر.. لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعيش آفاق النصرة التي وعده الله بها، والله لا يخلف وعده، فكان يشجع أبا بكر على الثبات في الموقف، وعلى الاطمئنان لنصر الله ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40] فلو كان الناس بأجمعهم مع الإنسان وكان الله ضده، لم ينفعه ذلك شيئا، ولو كان الله معه وكان الناس ضده لم يضره ذلك شيئا.
سكت قليلا، ثم قال (2): لأن الله هو الذي يملك القوة كلها، فلا قوة لأحد إلا من خلال ما أعطاه، فهو الذي يملك من الإنسان ما لا يملكه الإنسان من نفسه، فإذا أراد رعاية عبد من عباده، برحمته وقوته ولطفه، فإنه يأخذ بكل أسباب القوة من خلال الله، وتلك هي الأجواء الروحية التي تطوف بالإنسان في ملكوت الله عند ما تشتد عليه الأهوال، وتضيق عليه السبل، وتكثر حوله التحديات، ويهجم عليه أهل البغي والطغيان، فإذا أحس من نفسه ضعفا أمام ذلك كله، وشعر بالحزن يزحف إلى قلبه، وبالخوف يسيطر على روحه، رجع إلى الله في روحية العبد الخاشع، وذهنية الإنسان الملتجئ إليه المعتصم به، فعاش معه في ابتهالاته ودعواته وروحية الصلاة في ضميره، فإذا بالضعف يتبدل إلى القوة،
__________
(1) من وحي القرآن (11/ 116)
(2) من وحي القرآن (11/ 117)
القرآن.. والعزاء والشفاء (256)
وبالخوف يتحول إلى شعور بالأمن، وبالحزن ينطلق إلى الفرح الروحي، ليوحي لنفسه بأن الله معه، ليثبت أمام الزلزال، وليقول لإخوانه الذين يعيشون الاهتزاز الروحي والفكري والعملي أمام عواصف المحنة والبلاء: لا تحزنوا إن الله معنا.
ثم قال (1): وهذا هو الشعار الذي ينبغي لنا أن نثيره في وعينا وحياتنا ومسيرتنا في إحساس عميق بحضور الله في كل وجودنا، بالمستوى الذي تتمثل لنا فيه عناصر القوة كأروع ما تكون، في تحركاتنا ومنطلقاتنا، انطلاقا من وعي الرسالة في الرسول، وقوة الإيمان في النبي، وحركة القوة في الموقف النبوي المتجسد روحا وشعورا وحياة في أجواء الرسول العظيم.
سكت قليلا، ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 40]، ثم قال (2): هذا هو جزاء من كان الله معه.. لقد أنزل الله تعالى عليه السكينة فيما تمثله من طمأنينة روحية، وسكون نفسي، وهدوء شعوري، فلا اهتزاز ولا خوف ولا ضياع، بل هو الثبات والأمن والهدى الواضح.. إنها سكينة الإيمان الواثق بالله من موقع الإحساس بالحضور الإلهي في كل زمان ومكان كما لو كان يحسه ويراه. ويتقلب في ألطافه ورضوانه ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ [التوبة: 40] بسبب ما أرسله إليه من ملائكته أو من القوى الخفية التي تدعمه وتقويه وتحميه، مما لم نعلمه من خلال ما نملك من أدوات المعرفة الحسية، ولكن الله يعلمه من خلال قدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم.. و﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115]، وانتصر الرسول في مسيرته، ووصل إلى شاطئ النجاة في رحلته وأحبط كل كيد الكافرين، وحطم كل مكائدهم ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) من وحي القرآن (11/ 117)
(2) من وحي القرآن (11/ 118)
القرآن.. والعزاء والشفاء (257)
السُّفْلَى﴾ [التوبة: 40] لأنهم لا يملكون أية وسيلة يرتفعون بها إلى الأعلى أمام إرادة الله فيما يريده من النزول بها إلى الأسفل، إذ ليس ثمة كلمة أخرى تعلو كلمته، مهما حاول الكافرون وتآمر المتآمرون ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التوبة: 40] في مضمونها ومدلولها وآفاقها وحركتها وسموها، لأنها تحمل في داخلها كل المعاني الكبيرة التي أراد الله للحياة أن تنطلق بها وتعيش معها، في سماوات الوحي والإبداع التي تحلق بالإنسان إلى الأعلى فتنقذه من وهدة السقوط ومن وحل الانحطاط، ليعيش مع الله في رحابه الواسعة وآفاقه العليا، ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40] فإذا أراد شيئا أوجده وخلقه، وإذا أراد شيئا، فإنه يصنعه بحكمته على خير ما يمكن أن يكون الوجود وبأفضل ما تنطلق به الحياة، سبحانه وتعالى عما يشركون.
سكت قليلا، ثم قال: أتعلمون قدر البشارات التي يحملها قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ [التوبة: 40]
قلنا: إنها بشارة عظيمة ولا شك.
قال: لكن لا يمكن تصورها.. إنها جواز حماية من الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان الله معه كانت جنود الدنيا جميعا معه، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [الفتح:7]
قال أحدنا: ما أكثر ما يملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذن من جنود.
قال: بل ما أعظم ما يملك كل مستغن بالله فقير إلى الله من جنود، ألم تسمعوا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7]؟
قلنا: بلى.. ومن كان الله في نصرته لا يغلب.
قال: أجل.. ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران:160].. ومن تخلى الله عنه لا ينصر، ولو ملك
القرآن.. والعزاء والشفاء (258)
جميع جيوش الأرض.. ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ [الملك:20]
بهذا الحديث انتهى المشهد الرابع من مشاهد العزاء المرتبط بالمستضعفين والمظلومين، والذي يمكن أن يشمل غيرهم أيضا.. ليبدأ المشاهد الخامس، والذي تعلمت منه مكافأة الله تعالى لعباده المستضعفين بالنصر والتأييد العاجل أو الآجل، وأثرهما في العزاء والسلوى.
وقد بدأ هذا المشهد بعد انتهائي من الاستماع لأولئك الطيبين الذين اجتمعوا في [دار الحكمة]، ليتحدثوا عن التعاليم التي تعلموها من القرآن الكريم، وعلى يد معلمهم الذي عرف كيف يصل إلى قلوبهم بحكمته ولينه وأنواره.
وعند خروجي، وسيري في تلك البلدة الجميلة التي اجتمع فيها الجمال الحسي مع الجمال المعنوي، مررت على ميدان كبير، قد علقت في وسطه راية كُتب عليها قوله تعالى: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: 13]
فسألت عنها بعض المارة، فقال لي: في هذا المحل صُلب الشهداء الذين كتب الله بدمائهم نصرنا على جميع الطواغيت.. فلذلك اعتبرنا هذا الميدان ميدانا للنصر.. وأهل البلدة يزورونه كل حين، ليتذكروا نعمة الله تعالى عليهم بالنصر.
قلت: أهذه الكراسي الكثيرة الملتفة حول هذه الراية، مجالس لكم إذن؟
قال: أجل.. فهذا المكان مقدس عندنا، ونحن نوفر فيه بالتعاون مع بعضنا كل ما يزيد التحامنا وألفتنا؛ فلولاهما لم يتحقق لنا النصر على أعدائنا.
القرآن.. والعزاء والشفاء (259)
قلت: لكني أراها الآن فارغة.
قال: انتظر لحظات فقط، وسترى كيف تمتلئ بأهل هذه البلدة.. وستسمع منهم ما يمكنك تسجيله في كتابك، فلا يمكن لأحد يريد أن يتحدث عن العزاء الإلهي، ألا يتحدث عن النصر الإلهي.
ما هي إلا لحظات، حتى رأيت جموعا تجتمع، لتجلس على تلك الكراسي، المحيطة براية النصر.. ثم ما لبثت أن رأيت أحدهم يقرأ بصوت خاشع جميل قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 1 ـ 3]
ثم قام أحدهم، وهو يمسح الدموع من عينيه، وقال: كلما قرأت هذه السورة الكريمة تذكرت معلمنا الكاظم، فقد كان كثير التذكير لنا بها، وفي أعز الأزمات وأشدها، وكان يقول لنا (1): هذه السورة القصيرة.. كما تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، وكما توجهه حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.. تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة، وحقيقة هذا المنهج، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص، والانطلاق والتحرر.. هذه القمة السامقة الوضيئة، التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام، ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم.
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3994)
القرآن.. والعزاء والشفاء (260)
ثم قال (1): في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث، وما يقع في هذه الحياة من حوادث، وعن دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودور المؤمنين في هذه الدعوة، وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الأمر.. هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر: 1].. فهو نصر الله يجيء به الله في الوقت الذي يقدره، وفي الصورة التي يريدها، وللغاية التي يرسمها.. وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا لأصحابه من أمره شيء، وليس لهم في هذا النصر يد، وليس لأشخاصهم فيه كسب، وليس لذواتهم منه نصيب، وليس لنفوسهم منه حظ.. إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم، وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حراسا، ويجعلهم عليه أمناء.. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا.
سكت قليلا، ثم قال (2): بناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه بإزاء تكريم الله لهم، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم، إن شأنه ـ ومن معه ـ هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار.. التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه، وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم، بعد العمى والضلال والخسران.. والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل.. الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء، وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري، فمن هذا يكون الاستغفار.. والاستغفار مما قد
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3996)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3996)
القرآن.. والعزاء والشفاء (261)
يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر.. من ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصر، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214] فمن هذا يكون الاستغفار.. والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره، فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان.. ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18].. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار.
ثم حلق إلى الأفق البعيد، وكأنه يتذكر شيئا، ثم قال (1): هناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار.. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز، فأولى أن تطامن من كبريائها، وتطلب العفو من ربها، وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور.. ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين، ليرقب المنتصر الله فيهم، فهو الذي سلطه عليهم، وهو العاجز القاصر المقصر، وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو، والنصر نصره، والفتح فتحه، والدين دينه، وإلى الله تصير الأمور.
سكت قليلا، ثم قال (2): إنه الأفق الوضيء الكريم، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه، وترقى في مدارجه، على حدائه النبيل البار، الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه، وترف فيه روحه طليقة لأنها تعنو لله.. إنه الانطلاق
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3997)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3997)
القرآن.. والعزاء والشفاء (262)
من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله، ليس لها حظ في شيء إلا رضاه، ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة، بانية عادلة خيرة..، الاتجاه فيها إلى الله.
ثم قال (1): وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته، مقيد برغباته، مثقل بشهواته، عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده.. وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما.
ثم ذكر لنا ما ذكره القرآن الكريم عن الأنبياء عليهم السلام وآدابهم مع نصر الله تعالى لهم، وبدأ بيوسف عليه السلام، فقال (2): كان هذا هو أدب يوسف عليه السلام في اللحظة التي تم له فيها كل شيء، وتحققت رؤياه، كما قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100].. ففي هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].. وهنا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3997)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3997)
القرآن.. والعزاء والشفاء (263)
يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين عنده، من فضله ومنه وكرمه،.
ثم ثنى بسليمان عليه السلام، فقال (1): وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]
ثم ثلث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال (2): وهذا كان أدب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته كلها، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له.. انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة.. مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة.. فلما أن جاءه نصر الله والفتح، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار.. وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق.
بعد أن انتهى الشاهد الأول من حديثه عن ذكرياته مع معلمه الكاظم، قام آخر، وقال: لقد ذكرني حديثك هذا بسورة القمر التي كان يقرؤها لنا معلمنا الكاظم كثيرا ليعزينا بها، ويبشرنا بنصر الله الذي لن يتخلف.. وعندما سألناه عن سر ذلك قال (3): هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر، بقدر ما هي
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3997)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3997)
(3) في ظلال القرآن (6/ 3424)
القرآن.. والعزاء والشفاء (264)
طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة.. وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 30]، ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 40]
ثم قال لنا (1): وفي السورة عرض سريع لمصارع قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه.. وهي تعرضها عرضا خاصا، يحيلها جديدة كل الجدة، فهي تعرضها عنيفة عاصفة، وحاسمة قاصمة يفيض منها الهول، ويتناثر حولها الرعب، ويظللها الدمار والفزع والانبهار.. وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة، يشهدها المكذبون، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسون إيقاعات سياطها، فإذا انتهت الحلقة، وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا.. وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق، فيطل المشهد الأخير في السورة، وإذا هو جو آخر، ذو ظلال أخرى، وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة، وهو مشهد المتقين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54 ـ 55] في وسط ذلك الهول الراجف، والفزع المزلزل، والعذاب المهين للمكذبين: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48].. فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من مصير؟
ثم قال (2): وبعد انتهاء مطلع السورة الكريمة بدأت جولة قرآنية في تاريخ الأمم السابقة، التي كذبت رسلها فنالت عذابها من الله جزاء على ذلك، وأولها قوم نوح عليه
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3425)
(2) من وحي القرآن (21/ 283)
القرآن.. والعزاء والشفاء (265)
السلام، كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ [القمر: 9] نوحا فيما جاءهم به من رسالة الله الداعية إلى توحيده وإلى الاستقامة على خط التقوى، فتمردوا عليه، وواجهوه بمختلف الأساليب المتعسفة اللامعقولة، ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ [القمر: 9] فاتهموه في عقله، لأنه دعاهم إلى ما لم يألفوه، أو أنكر عليهم ما ألفوه من عبادة الأصنام، ليبطلوا تأثيره في النفوس، وهذا ما يفعله المترفون في كل زمان ومكان عند ما تواجههم الدعوات التغييرية والإصلاحية، لاختصار الرد بذلك، باعتبار أن المعقول لديهم هو ما يلتزمونه ويتبنونه، ﴿وَازْدُجِرَ﴾ [القمر: 9] أي ازدجره القوم وردعوه عن الانطلاق في رسالته، فلم يتمكن من الوصول إلى النتيجة الحاسمة.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ﴾ [القمر: 10]، ثم قال (1): بعد أن استنفد نوح عليه السلام كل تجاربه في دعوتهم إلى رسالته، فلم يزدادوا إلا عنادا وإصرارا على الكفر، إلى درجة أن شيئا لم يبق لديه ليقوله، وبالتالي أصبحت تجربة الحديث معهم مجددا تجربة عبثية، لذا نادى ربه بأني مغلوب، فيما أملكه من قدرات استنفدتها في حياتي معهم، وفي ما واجهوني به من قهر وغلبة وتعسف وإنذار، ﴿فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: 10] لي فإنك ناصر من لا ناصر له، لا سيما إذا كان المغلوب المستضعف من رسلك.
ثم رفع صوته، وكأنه يحكي لنا دعاء نوح عليه السلام، فقال (2): لقد قال: رب.. انتهت طاقتي، انتهى جهدي، انتهت قوتي، وغلبت على أمري، ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: 10].. انتصر أنت يا ربي، انتصر لدعوتك، انتصر لحقك، انتصر لمنهجك، انتصر أنت، فالأمر أمرك، والدعوة دعوتك، وقد انتهى دوري.
__________
(1) من وحي القرآن (21/ 283)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3429)
القرآن.. والعزاء والشفاء (266)
سكت قليلا، ثم قال (1): ما تكاد هذه الكلمة تقال، وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة.. فتدور دورتها المدوية المجلجلة: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 11 ـ 12]، وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة، تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة: ﴿فَفَتَحْنَا﴾ [القمر: 11] فيحس القارئ يد الجبار تفتح ﴿أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾ [القمر: 11].. بهذا اللفظ وبهذا الجمع، ﴿بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ [القمر: 11].. غزير متوال، وبالقوة ذاتها وبالحركة نفسها.. ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر: 12].. وهو تعبير يرسم مشهد التفجر وكأنه ينبثق من الأرض كلها، وكأنما الأرض كلها قد استحالت عيونا.. والتقى الماء المنهمر من السماء بالماء المتفجر من الأرض.. ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: 12].. التقيا على أمر مقدر، فهما على اتفاق لتنفيذ هذا الأمر المقدر، طائعان للأمر، محققان للقدر.. حتى إذا صار طوفانا يطم ويعم، ويغمر وجه الأرض، ويطوي الدنس الذي يغشى هذا الوجه، وقد يئس الرسول من تطهيره، وغلب على أمره في علاجه، امتدت اليد القوية الرحيمة إلى الرسول الذي دعا دعوته، فتحرك لها الكون كله، امتدت له هذه اليد بالنجاة وبالتكريم: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 13 ـ 14]، وظاهر من العبارة تفخيم السفينة وتعظيم أمرها، فهي ذات ألواح ودسر، توصف ولا تذكر لفخامتها وقيمتها، وهي تجري في رعاية الله بملاحظة أعينه، ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 14]، وجُحد وازدجر، وهو جزاء يمسح بالرعاية على الجفاء، وبالتكريم على الاستهزاء، ويصور مدى القوة التي يملك رصيدها من يغلب في
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3429)
القرآن.. والعزاء والشفاء (267)
سبيل الله، ومن يبذل طاقته، ثم يعود إليه يسلم له أمره وأمر الدعوة ويدع له أن ينتصر.. إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته، والله من ورائها بجبروته وقدرته.
سكت قليلا، ثم قال (1): وعلى مشهد الانتصار الهائل الكامل والمحق الحاسم الشامل، يتوجه الله تعالى إلى القلوب التي شهدت المشهد كأنها تراه، يتوجه إليها بلمسة التعقيب، لعلها تتأثر وتستجيب: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 15]، أي أن هذه الواقعة بملابساتها المعروفة، تركناها آية للأجيال ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 15] يتذكر ويعتبر؟.. ثم سؤال لإيقاظ القلوب إلى هول العذاب وصدق النذير: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 16].. ولقد كان كما صوره القرآن، كان عذابا مدمرا جبارا، وكان نذيرا صادقا بهذا العذاب.
ثم رفع المصحف بيده، وقال (2): وهذا هو القرآن حاضرا، سهل التناول، ميسر الإدراك، فيه جاذبية ليقرأ ويتدبر، فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة، واستجاشة الطبع، لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد، وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، وهذا هو التعقيب الذي يتكرر، بعد كل مشهد يصور.. ويقف السياق عنده بالقلب البشري يدعوه دعوة هادئة إلى التذكر والتدبر، بعد أن يعرض عليه حلقة من العذاب الأليم الذي حل بالمكذبين.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3429)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3431)
القرآن.. والعزاء والشفاء (268)
عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 18 ـ 22]، ثم قال (1): هذه هي الحلقة الثانية، أو المشهد الثاني من مشاهد التعذيب العنيف والمصرع الذي يقف عليه بعد وقفته على مصرع قوم نوح، أول المهلَكين.. ويبدأ بالإخبار عن تكذيب عاد، وقبل أن يكمل الآية يسأل سؤال التعجيب والتهويل: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 18].. أي كيف كان بعد تكذيب عاد؟ ثم يجيب: كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر: 19 ـ 20].. والريح الصرصر: الباردة العنيفة، وجرس اللفظ يصور نوع الريح.. والنحس: الشؤم، وأي نحس يصيب قوما أشد مما أصاب عاد، والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم، فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها.. والمشهد مفزع مخيف، وعاصف عنيف، والريح التي أرسلت على عاد هي من جند الله، وهي قوة من قوى هذا الكون، من خلق الله، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره، وهو يسلطها على من يشاء، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله، صاحب الأمر وصاحب الناموس: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 21]، يكررها بعد عرض المشهد، والمشهد هو الجواب.. ثم يختم الحلقة بالتعقيب المكرر في السورة وفق نسقها الخاص: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 22]
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3431)
القرآن.. والعزاء والشفاء (269)
شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 23 ـ 32]، ثم قال (1): وثمود كانت القبيلة التي خلفت عادا في القوة والتمكين في جزيرة العرب.. كانت عاد في الجنوب كانت ثمود في الشمال، وكذبت ثمود بالنذر كما كذبت عاد، غير معتبرة بمصرعها المشهور المعلوم في أنحاء الجزيرة.. ﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: 24 ـ 26]، وهي الشبهة المكررة التي تحيك في صدور المكذبين جيلا بعد جيل: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [القمر: 25]؟ كما أنها الكبرياء الجوفاء التي لا تنظر إلى حقيقة الدعوة، إنما تنظر إلى شخص الداعية: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾ [القمر: 24]!؟ وماذا في أن يختار الله واحدا من عباده.. والله أعلم حيث يجعل رسالته.. فيلقي عليه الذكر ـ أي الوحي وما يحمله من توجيهات للتذكر والتدبر ـ ماذا في هذا الاختيار لعبد من عباده يعلم منه تهيؤه واستعداده، وهو خالق الخلق، وهو منزل الذكر؟ إنها شبهة واهية لا تقوم إلا في النفوس المنحرفة، النفوس التي لا تريد أن تنظر في الدعوى لترى مقدار ما فيها من الحق والصدق ولكن إلى الداعية فتستكبر عن اتباع فرد من البشر، مخافة أن يكون في اتباعها له إيثار وله تعظيم، وهي تستكبر عن الإذعان والتسليم.. ومن ثم يقولون لأنفسهم: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 24].. أي لو وقع منا هذا الأمر المستنكر!.. وأعجب شيء أن يصفوا أنفسهم بالضلال لو اتبعوا الهدى، وأن يحسبوا أنفسهم في سعر ـ لا في سعير واحد ـ إذا هم فاءوا إلى ظلال الإيمان، ومن ثم يتهمون رسولهم الذي اختاره الله ليقودهم
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3432)
القرآن.. والعزاء والشفاء (270)
في طريق الحق والقصد، يتهمونه بالكذب الطمع: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: 25].. كذاب لم يلق عليه الذكر، أشر: شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة، وهو الاتهام الذي يواجَه به كل داعية، اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستارا لتحقيق مآرب ومصالح، وهي دعوى المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس ومحركات القلوب.
سكت قليلا، ثم قال (1): وبينما يجري السياق على أسلوب الحكاية لقصة غيرت في التاريخ.. يلتفت فجأة وكأنما الأمر حاضر، والأحداث جارية، فيتحدث عما سيكون، ويهدد بهذا الذي سيكون: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: 26] وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصص، وهي طريقة تنفخ روح الحياة الواقعية في القصة، وتحيلها من حكاية تحكى، إلى واقعة تعرض على الأنظار، يترقب النظارة أحداثها الآن، ويرتقبونها في مقبل الزمان.. ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ﴾ [القمر: 26].. وسيكشف لهم الغد عن الحقيقة، ولن يكونوا بمنجاة من وقع هذه الحقيقة، فستكشف عن البلاء المدمر للكذاب الأشر.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ [القمر: 27 ـ 28]، ثم قال (2): يقف القارئ لهذه الآيات الكريمة يترقب ما سيقع، عند ما يرسل الله الناقة فتنة لهم، وامتحانا مميزا لحقيقتهم، ويقف الرسول ـ رسولهم عليه السلام ـ مرتقبا ما سيقع، مؤتمرا بأمر ربه في الاصطبار عليهم حتى تقع الفتنة ويتم الامتحان، ومعه التعليمات.. أن الماء في القبيلة قسمة بينهم وبين الناقة ـ ولا بد أنها كانت ناقة خاصة ذات خصائص معينة تجعلها آية وعلامة ـ فيوم لها ويوم لهم ـ
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3432)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3432)
القرآن.. والعزاء والشفاء (271)
تحضر يومها ويحضرون يومهم، وتنال شربها وينالون شربهم.
سكت قليلا، ثم قال (1): ثم يعود السياق إلى أسلوب الحكاية، فيقص ما كان بعد ذلك منهم: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر: 29]، وصاحبهم هو أحد الرهط المفسدين في المدينة، الذين قال الله تعالى عنهم في سورة النمل: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [النمل: 48].. وهو الذي قال عنه في سورة الشمس: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس: 12]، وقيل: إنه تعاطى الخمر فسكر ليصير جريئا على الفعلة التي هو مقدم عليها، وهي عقر الناقة التي أرسلها الله آية لهم وحذرهم رسولهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم.. ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [القمر: 29] وتمت الفتنة ووقع البلاء.. ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 30]، وهو سؤال التعجيب والتهويل، قبل ذكر ما حل من العذاب بعد النذير: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر: 31].. ولا يفصل القرآن هذه الصيحة، وإن كانت في موضع آخر في سورة (فصلت) توصف بأنها صاعقة، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13].. وقد تكون كلمة صاعقة وصفا للصيحة، فهي صيحة صاعقة، وقد تكون تعبيرا عن حقيقتها، فتكون الصيحة والصاعقة شيئا واحدا، وقد تكون الصيحة هي صوت الصاعقة، أو تكون الصاعقة أثرا من آثار الصيحة التي لا ندري من صاحبها.. وعلى أية حال فقد أرسلت على القوم صيحة واحدة، ففعلت بهم ما فعلت، مما جعلهم ﴿كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ [القمر: 31]
أذكر جيدا أنا سألناه حينها عن معناها، فقال (2): المحتظر صانع الحظيرة، وهو
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3433)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3433)
القرآن.. والعزاء والشفاء (272)
يصنعها من أعواد جافة، فهم صاروا كالأعواد الجافة حين تيبس وتتحطم وتصبح هشيما.. أو أن المحتظر يجمع لماشيته هشيما تأكله من الأعواد الجافة والعشب الناشف، وقد صار القوم كهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة.. وهو مشهد مفجع مفزع، يعرض ردا على التعالي والتكبر، فإذا المتعالون المتكبرون هشيم، وهشيم مهين.. كهشيم المحتظر!.. وأمام هذا المشهد العنيف المخيف، يرد قلوبهم إلى القرآن ليتذكروا ويتدبروا، وهو ميسر للتذكر والتدبر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 32]
سكت قليلا، ثم قال (1): ويسدل الستار على الهشيم المهين، وفي العين منه مشهد، وفي القلب منه أثر، والقرآن يدعو من يذكر ويتفكر، ثم يرفع الستار عن حلقة جديدة تالية ـ بعد ذلك ـ في التاريخ، في محيط الجزيرة العربية كذلك: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 33 ـ 40]
ثم قال (2): وقصة قوم لوط عليه السلام وردت مفصلة في مواضع أخرى من القرآن الكريم، والمقصود بعرضها هنا ليس تفصيلاتها، وإنما العبرة من عاقبة التكذيب، والأخذ الأليم الشديد، من ثم تبدأ بذكر ما وقع منهم من تكذيب بالنذر: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر: 33].. وعلى إثر هذه الإشارة يصف ما نزل بهم من النكال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 34 ـ 35]
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3433)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3433)
القرآن.. والعزاء والشفاء (273)
وعندما سألناه عن معناها، قال (1): الحاصب: الريح تحمل الحجارة، وفي مواضع أخرى ورد أنه أرسل إليهم حجارة من طين.. ولفظة الحاصب ذات جرس كأنه وقع الحجارة، وفيه شدة وعنف تناسب جو المشهد، ولم ينج إلا آل لوط ـ إلا امرأته ـ نعمة من عند الله جزاء إيمانهم وشكرهم.. ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 35]، فننجيه وننعم عليه في وسط المهالك والمخاوف.
ثم قال (2): والآن وقد عرض القصة من طرفيها: طرف التكذيب وطرف الأخذ الشديد، فإنه يعود لشيء من التفصيل فيما وقع بين الطرفين.. وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصة حين يراد إبراز إيحاءات معينة من إيرادها في هذا النسق، وهذه التفصيلات هي: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر: 36 ـ 38].. فطالما أنذر لوط عليه السلام قومه عاقبة المنكر الشاذ الذي كانوا يأتونه، فتماروا بالنذر، وشكوا فيها وارتابوا، وتبادلوا الشك والارتياب فيما بينهم وتداولوه، وجادلوا نبيهم فيه، وبلغ منهم الفجور والاستهتار أن يراودوه هو نفسه عن ضيفه ـ من الملائكة ـ وقد حسبوهم غلمانا صباحا فهاج سعارهم الشاذ الملوث القذر، وساوروا لوطا يريدون الاعتداء المنكر على ضيوفه، غير محتشمين ولا مستحيين، ولا متحرجين من انتهاك حرمة نبيهم الذي حذرهم وأنذرهم عاقبة هذا الشذوذ القذر المريض.. عندئذ تدخلت يد القدرة، وتحرك الملائكة لأداء ما كلفوه وجاءوا من أجله: ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: 37] فلم يعودوا يرون شيئا ولا أحدا ولم يعودوا يقدرون على مساورة لوط ولا الإمساك بضيفه.. والإشارة إلى طمس أعينهم لا ترد
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3434)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3434)
القرآن.. والعزاء والشفاء (274)
إلا في هذا الموضع بهذا الوضوح، ففي موضع آخر ورد: ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ [هود: 81].. فزاد هنا ذكر الحالة التي صارت تمنعهم من أن يصلوا إليه، وهي انطماس العيون.. وبينما السياق يجري مجرى الحكاية، إذا به حاضر مشهود، وإذا الخطاب يوجه إلى المعذبين: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 39].. فهذا هو العذاب الذي حذرتم منه، وهذه هي النذر التي تماريتم فيها، وكان طمس العيون في المساء.. في انتظار الصباح الذي قدره الله لأخذهم جميعا: ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾ [القمر: 38]، وهو ذلك العذاب الذي عجل بذكره في السياق، وهو الحاصب الذي طهر الأرض من تلك اللوثة ومن ذلك الفساد.
سكت قليلا، ثم قال: ومرة أخرى تتغير طريقة العرض، ويستحضر المشهد كأنه اللحظة واقع، وينادى المعذبون وهم يعانون العذاب: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: 39]، ثم يجيء التعقيب المألوف، عقب المشهد العنيف: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 40]؟
لقد كان حديث المعلم مؤثرا جدا.. ولذلك طلبنا منه أن يواصل الحديث عن السورة، فقال (1): وتختم هذه الحلقات بحلقة خارج الجزيرة، ومصرع من المصارع المشهورة المذكورة، في إشارة سريعة خاطفة: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 41 ـ 42].. وهكذا تختصر قصة فرعون وملئه في طرفيها: مجيء النذر لآل فرعون وتكذيبهم بالآيات التي جاءهم بها رسولهم، وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، والإشارة إلى العزة والاقتدار تلقي ظلال الشدة في الأخذ وفيها تعريض
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3435)
القرآن.. والعزاء والشفاء (275)
بعزة فرعون واقتداره على البغي والظلم، فقد ضاعت العزة الباطلة، وسقط الاقتدار الموهوم.. وأخذه الله ـ هو وآله ـ أخذ عزيز حقا مقتدر صدقا، أخذهم أخذا شديدا يناسب ما كانوا عليه من ظلم وغشم وبطش وجبروت.. وعلى هذه الحلقة الأخيرة على مصرع فرعون الجبار، يسدل الستار على آخر مشهد من مشاهد العذاب والنكال، والمكذبون يشهدون ويتلقى حسهم إيقاع هذه المشاهد.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 43 ـ 53]، ثم قال (1): الآن والمصارع المتتالية حاضرة في خيالهم، ضاغطة على حسهم يتوجه إليهم بالخطاب يحذرهم مصرعا كهذه المصارع، وينذرهم ما هو أدهى وأفظع.. إنه الإنذار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة وإسقاط كل شبهة وكل شك في صدق هذا الإنذار وسد كل ثغرة وكل طمع في الهرب والفكاك أو المغالطة في الحساب والفرار من الجزاء.. تلك كانت مصارع المكذبين، فما يمنعكم أنتم من مثل ذلك المصير؟ ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾ [القمر: 43]؟.. وما ميزة كفاركم على أولئكم؟ ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر: 43] تشهد بها الصحائف المنزلة، فتعفوا إذن من جرائر الكفر والتكذيب؟.. لا هذه ولا تلك، فلستم خيرا من أولئكم، وليست لكم براءة في الصحائف المنزلة، وليس هنالك إلا لقاء المصير الذي
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3435)
القرآن.. والعزاء والشفاء (276)
لقيه الكفار من قبلكم في الصورة التي يقدرها الله لكم.. ثم يلتفت عن خطابهم إلى خطاب عام، يعجب فيه من أمرهم: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ [القمر: 44]، وذلك حين يرون جمعهم فتعجبهم قوتهم، ويغترون بتجمعهم، فيقولون: إنا منتصرون لا هازم لنا ولا غالب؟.. هنا يعلنها عليهم مدوية قاضية حاسمة: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: 45]، فلا يعصمهم تجمعهم، ولا تنصرهم قوتهم، والذي يعلنها عليهم هو القهار الجبار.
ثم راح يردد قوله تعالى: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: 46]، ويكررها مرات متعددة، ثم يقول (1): أدهى وأمر من كل عذاب رأوه أو يرونه في هذه الأرض، وأدهى وأمر من كل مشهد رأوه مرسوما فيما مر.. من الطوفان، إلى الصرصر، إلى الصاعقة، إلى الحاصب، إلى أخذ فرعون وآله أخذ عزيز مقتدر.. ثم يفصّل كيف هي أدهى وأمر، يفصل هذا في مشهد عنيف من مشاهد القيامة: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 47 ـ 48].. في ضلال يعذب العقول والنفوس، وفي سعر تكوي الجلود والأبدان.. في مقابل ما كانوا يقولون هم وأمثالهم من قبل: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 24]، ليعرفوا أين يكون الضلال وأين تكون السعر، وهم يسحبون في النار على وجوههم في عنف وتحقير، في مقابل الاعتزاز بالقوة والاستكبار، وهم يزادون عذابا بالإيلام النفسي، الذي كأنما يشهد اللحظة حاضرا معروضا على الأسماع والأنظار: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48]
سكت قليلا، ثم قال (2): وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة، وإلى القوم خاصة، ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره.. إن ذلك الأخذ
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3436)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3436)
القرآن.. والعزاء والشفاء (277)
في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة، وما كان قبلهما من رسالات ونذر، ومن قرآن وزبر.. وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود.. إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة، لا شيء جزاف، لا شيء عبث، لا شيء خلقناه بقدر.. كل شيء.. كل صغير وكل كبير، كل ناطق وكل صامت، كل متحرك وكل ساكن، كل ماض وكل حاضر، كل معلوم وكل مجهول، كل شيء.. ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].. قدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه، ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء، وتأثيره في كيان هذا الوجود.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50]، ثم قال (1): ومع التقدير والتدبير، القدرة التي تفعل أعظم الأحداث بأيسر الإشارات.. فهي إشارة واحدة، أو كلمة واحدة يتم بها كل أمر: الجليل والصغير سواء، وليس هنالك جليل ولا صغير، إنما ذلك تقدير البشر للأشياء.. وليس هنالك زمن ولا ما يعادل لمح البصر، إنما هو تشبيه لتقريب الأمر إلى حس البشر، فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشئ من دورة أرضهم الصغيرة، ولا وجود له في حساب الله المطلق من هذه التصورات المحدودة.. واحدة تنشئ هذا الوجود الهائل، وواحدة تبدل فيه وتغير، وواحدة تذهب به كما يشاء الله، وواحدة تحيي كل حي، وواحدة تذهب به هنا وهناك، وواحدة ترده إلى الموت، وواحدة تبعثه في صورة من الصور، وواحدة تبعث الخلائق جميعا، وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب.. واحدة لا تحتاج إلى جهد، ولا تحتاج إلى زمن، واحدة فيها القدرة ومعها التقدير، وكل أمر معها مقدر ميسور.. وبواحدة كان هلاك المكذبين على مدار القرون، وفي
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3441)
القرآن.. والعزاء والشفاء (278)
هذه يذكرهم بمصير أمثالهم من المكذبين.
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 51 ـ 53]، ثم قال (1): فهذه مصارع المكذبين، معروضة في الحلقات التي تضمنتها السورة من قبل.. ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 51]، يتذكر ويعتبر.. ولم ينته حسابهم بمصارعهم الأليمة، فوراءهم حساب لا يفلت منه شيء: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ [القمر: 52].. مسطر في الصحائف ليوم الحساب.. ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 53].. لا يُنسى منه شيء وهو مسطور في كتاب.
ثم ختم حديثه عن السورة بقوله (2): وعند هذا الحد من العرض والتعقيب، يلتفت السياق إلى صفحة أخرى غير صفحة المكذبين، ويعرض صورة أخرى في ظل وادع أمين، صورة المتقين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54 ـ 55]، ذلك بينما المجرمون في ضلال وسعر، يسحبون في النار على وجوههم في مهانة، ويلذعون بالتأنيب كما يلذعون بالسعير: ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 48]، وهي صورة للنعيم بطرفيه: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ [القمر: 54]، ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].. نعيم الحس والجوارح في تعبير جامع شامل: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ [القمر: 54] يلقي ظلال النعماء واليسر حتى في لفظه الناعم المنساب.. وليس لمجرد إيقاع القافية تجيء كلمة ﴿نَهَرٍ﴾ [القمر: 54] بفتح الهاء، بل كذلك لإلقاء ظل اليسر والنعومة في جرس اللفظ وإيقاع التعبير.. ونعيم القلب والروح، نعيم القرب والتكريم: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].. فهو مقعد ثابت مطمئن، قريب كريم، مأنوس بالقرب، مطمئن بالتمكين، ذلك أنهم المتقون،
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3442)
(2) في ظلال القرآن (6/ 3442)
القرآن.. والعزاء والشفاء (279)
الخائفون، المترقبون.. والله لا يجمع على نفس خوفين: خوفها منه في الدنيا، وخوفها يوم القيامة، فمن اتقاه في العاجلة أمنه في الآجلة، ومع الأمان في أفزع موطن، يغمره بالأنس والتكريم.
ثم قال (1): وعند هذا الإيقاع الهادئ، في هذا الظل الآمن، تنتهي السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير، فإذا للظل الآمن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح.. وهذه هي التربية الكاملة، تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب، وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شيء بقدر، وهو اللطيف الخبير.
ما انتهى معلمنا الكاظم من قراءته للسورة الكريمة وبيانه لمعانيها، وتطبيقه لها على واقعنا، حتى رأيت الجموع الحاضرة، كلها تبكي متأثرة.. وقد كانت تلك الدموع التي ذرفت في ذلك اليوم طوفانا كاسحا قضى على الطواغيت والمستبدين الذين كانوا يهيمنون علينا.
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3442)
القرآن.. والعزاء والشفاء (280)
رابعا ـ القرآن.. وعزاء المخطئين
هذه هي المشاهد الخمسة التي تعلمت فيها بعض ما ورد في القرآن الكريم من العزاء الخاص بالمستضعفين والمظلومين.. وهي تشمل غيرهم أيضا.. بالإضافة إليها يسر الله لي في هذه الرحلة التعرف على معاني أخرى ترتبط بالعزاء والشفاء.. وكان منها هذه المشاهد الخاصة بعزاء المخطئين والمسرفين على أنفسهم.
وأولها المشهد الذي رأيت فيه نعمة العفو والتوبة رأي العين، وقد بدأ هذا المشهد بعد انتهاء جولتي في بلدة المستضعفين التي تحولت بفضل الله تعالى، وبسبب تمسكها بالقرآن الكريم إلى بلدة الأقوياء المنتصرين.
وقد بدأ هذا المشهد بعد خروجي إلى بعض الحدائق في تلك البلدة الجميلة، وهناك وجدت رجلا يطلب مني أن أحمل معه حقيبته، وهو يقول لي: أنا من مدينة المخطئين، وأريد أن أعود إليها، فإن شئت أن تسير معي إليها، فهيا أعني لنتداول على حمل هذه الحقيبة.. لعلك تنال معي بعض الأجر.
قلت: لا مشكلة لدي في إعانتك.. لكن المشكلة في الوجهة التي تريد أن تسير إليها.. فأنا تلميذ قرآن، وجئت هنا لأتتلمذ على هؤلاء الصالحين، ولا علاقة لي بالمخطئين المسرفين على أنفسهم.. فقد أُمرنا نحن الضعفاء أن نتجنبهم حتى لا يزيغوا بنا إلى ما اختاروه لأنفسهم.
قال: إن كنت تلميذا حقيقيا للقرآن فهلم معي.. فالله تعالى ما خاطب الصالحين
القرآن.. والعزاء والشفاء (281)
فقط، بل خاطب المخطئين والخطائين أيضا.
قلت: لك الحق في هذا.. لكن كيف أعرف أنه قد أُذن لي في المسير إليهم؟
قال: معلمنا الكاظم.. لقد أخبرني في مجلس من المجالس أنه سيفد إلينا بعض تلاميذ القرآن، وأمرنا أن نحسن استقبالهم.
قلت: فكيف ظللتم مخطئين إذن مع كون الكاظم معلمكم، أم أنكم تلاميذ سوء، تأخذون العلم، ولا تأخذون العمل؟
قال: فهل شققت على قلوبنا لتعرف ذلك؟
قلت: ألست قد ذكرت لي أن مدينتكم هي مدينة المخطئين؟
قال: بلى.. هي تُسمى كذلك، لأنها كانت كذلك.. والاسم لا يضر بالمسمى حتى لو لصق به.. وقد لصق بنا هذا الاسم من قديم.
قلت: فهي مدينة التائبين إذن.. لا مدينة المخطئين؟
قال: هكذا كان يسميها معلمنا الكاظم، ويدعونا إلى تسميتها بذلك.. لكن اسمها القديم غلب علينا، ولم نستطع استبداله بعد.. وربما يكون ذلك لحاجتنا للمزيد من المجاهدات حتى تصدق توبتنا، ويصدق معه هذا الاسم العظيم عليها.
قلت: لكن ما علاقتها بمدينة المستضعفين؟
قال: لقد جعل الله مدينتنا بعد أن منّ عليها بالتوبة سندا صالحا لأهل هذه المدينة في مواجهة أعدائهم المستكبرين.. وقد كان لمعلمنا الكاظم دور كبير في ذلك.. فهو الذي كان يشرف على التنسيق بيننا وبينهم إلى أن تم القضاء عليهم.
قلت: ما دمت قد ذكرت هذا.. فأنا الآن مستعد تماما للسير معك حيث أردت.. وأرجو أن تشرح لي في الطريق كيف استطاع معلمكم الكاظم أن يغيركم إلى هذه الحال.
القرآن.. والعزاء والشفاء (282)
قال: يمكنني أن أشهد لك عن نفسي فقط.. وكيف استطاع معلمنا الكاظم أن يخلصها من الحجب التي كانت تحول بينها وبين التوبة.. وعندما تصل إلى مدينتنا ستجد غيري ممن يوفر لك المزيد من الشهادات.
قلت: فأسمعني شهادتك.. فكلي آذان صاغية.
قال: فاحمل الحقيبة عني، ليتيسر لي الحديث بسهولة.. وهيا بنا نسير ونتحدث.
حملت حقيبته، وكانت خفيفة جدا على عكس ما توقعت.. وراح يحدثني قائلا: قبل أن ألتقي بمعلمي الكاظم كنت امرؤا مسرفا على نفسي مثل أكثر أهل مدينتي.. وقد كان الحائل بيني وبين التوبة إلى الله، خوفي ألا يقبلني، ولذلك كانت كل أحاديث معلمي معي حول قبول الله لتوبة عباده.
وقد كان أول ما سمعته منه قراءته الخاشعة لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54]، ثم قال (1): تأملوا جيدا قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54].. فالله سبحانه هو المالك الذي لا ينازعه منازع، لكنه ـ فضلا منه ومنة ـ كتب على نفسه الرحمة.. كتبها بإرادته ومشيئته لا يوجبها عليه موجب ولا يقترحها عليه مقترح ولا يقتضيها منه مقتض إلا إرادته الطليقة، وإلا ربوبيته الكريمة.
ثم قال (2): والرحمة قاعدة قضاء الله تعالى في خلقه، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا
__________
(1) في ظلال القرآن (2/ 1048)
(2) في ظلال القرآن (2/ 1048)
القرآن.. والعزاء والشفاء (283)
والآخرة.. والاعتقاد بهذه القاعدة يدخل في صلب الإيمان، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء.. فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.. والرحمة في هذا كله ظاهرة.. على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال، فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة..
سكت قليلا، ثم قال (1): والذي يستوقف النظر في هذا هو تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده.. بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة.. مكتوبة عليه.. كتبها هو على نفسه وجعلها عهدا منه لعباده.. بمحض إرادته ومطلق مشيئته.. وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة.. بالإضافة إلى ذلك التفضل.. هناك تفضل آخر يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه ـ سبحانه ـ على نفسه من رحمته، فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر، لا يقل عن ذلك التفضل الأول، فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟.. إلا أنه الفضل العميم، الفائض من خلق الله الكريم!؟.. إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه، ومثل هذه الحقائق، وما تثيره في القلب من مشاعر ليس موكولا إلى التعبير البشري ليبلغ
__________
(1) في ظلال القرآن (2/ 1049)
القرآن.. والعزاء والشفاء (284)
شيئا في تصويره وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه، لا لتعريفه.
ثم قال (1): ورحمة الله تفيض على عباده جميعا، وتسعهم جميعا وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم.. وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات.. وهي تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.. وفي تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته.. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.. وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته.. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.. وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ولم يسمع صوت النذير، ولم يصغ للتحذير، وهو على الله هين، ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
ثم نظر إلينا بحنان، وقال (2): وتتجلى في تجاوز الله ـ سبحانه ـ عن سيئات الإنسان إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.. وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء.. ومحو السيئة بالحسنة.. وكله من فضل الله، فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة
__________
(1) في ظلال القرآن (2/ 1049)
(2) في ظلال القرآن (2/ 1050)
القرآن.. والعزاء والشفاء (285)
بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته.
ثم قال (1): بناء على هذه المعاني اقرؤوا الآية الكريمة، ففيها بيان لوجه كريم من وجوه تعامل الإسلام مع المخالفين له، بل المحاربين.. فالله تعالى يخبر أنه لا يصد أحدا يرد شريعته، ويريد الارتواء منها.. حتى أولئك الذين وقفوا من النبى صلى الله عليه وآله وسلم ومن أصحابه ذلك الموقف العنادي العنيف.. لن يغلق الإسلام بابه دونهم، ولن يقبض الله يد رحمته عنهم.. بل هم حيث طرقوا باب الإسلام فتح لهم على مصراعيه، واستقبلتهم على عتباته رحمة الله ومغفرته، فمحت كل ما علق بهم من آثام وسيئات، وإذا هم مواليد جدد في الإسلام، يدخلونه وصفحات كتابهم بيضاء لم يمسسها سوء.. وأنهم منذ اليوم هم الذين يملون ما يكتب في هذه الصفحات، من خير أو شر.
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54]، ثم قال (2): في هذه الكلمات النورانية استدعاء لأولئك الذين تخلفوا عن الإسلام، وحث لخطاهم على أن يسبقوا حتى لا يكونوا في مؤخرة الركب.. وهذا هو السر في التعبير بقوله تعالى ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 54] الذي يدل على الحال المتجددة في المستقبل الممتد.. وفي قوله تعالى: ﴿فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 54] هو التحية الطيبة المباركة التي يلقاهم بها الله على لسان رسوله، وهم على عتبة الإسلام.. وفي هذا الترحيب بهم أنس لهم، وطمأنينة لمستقبلهم، فهم في أمن وسلام، وفي خير وعافية: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 54].. أي سلام يشتمل عليكم، ظاهرا وباطنا.. فإذا أنسوا لهذه التحية الكريمة، تلقوا تحية أعظم وأكرم.. ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54] فهذه الرحمة
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 195)
(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 196)
القرآن.. والعزاء والشفاء (286)
التي أوجبها الله على نفسه، رحمة منه وكرما وفضلا، هي التي تضفي على الداخلين في الإسلام الأمن والسلام، بالتجاوز عما اقترفوا من قبل من آثام.. فهم أبناء لإسلام منذ اليوم الذي دخلوا فيه، ولا شيء عليهم مما اقترفوه من قبل.
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54]، ثم قال (1): وهذا السوء الذي فعلوه بجهالة، هو ما كان منهم من حرب على الإسلام، وأذى للمسلمين، الأمر الذي جعلهم يدخلون الإسلام وأشباح هذه المنكرات تقض مضاجعهم، وتكاد تفسد عليهم حياتهم مع الدين الذي دخلوا فيه.. فكانت هذه الآية الكريمة هذا ردا لاعتبارهم، وتصحيحا لوجودهم، وسكنا لنفوسهم، وبردا وسلاما على قلوبهم.
وعندما تعجبنا من كلماته هذه، والتي تخالف ما عرفناه من شدة بعض الخطباء والواعظين، قال (2): من شأن الأكابر من الأولياء، الداعين إلى الله، إكرام من أتى إليهم بحسن اللقاء وإظهار المسرة والبرور، وخصوصا أهل الانكسار فيؤنسونهم، ويوسعون رجاءهم، ويفرحونهم بما يسمعون منهم من سعة فضل الله وكرمه، وقد كان بعض شيوخي إذا دخل عليه أحد من أهل العصيان، قام إليهم، وفرح بهم، وأقبل عليهم، وإذا أتى إليه غيرهم لم يعتن اعتناءهم بالأولين، فقيل له في ذلك، فقال: (أهل العصيان يأتوننا فقراء منكسرين من أجل ذنوبهم، لا يرون لأنفسهم مرتبة، فأردت أن أجبر كسرهم، وهؤلاء أهل الطاعة يأتوننا أغنياء معتمدين على طاعتهم، فلا يحتاجون إلى ما عندنا)
ثم ضرب لنا المثل على ذلك بإبراهيم عليه السلام واستغفاره لقريبه، كما قال تعالى:
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 196)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 124)
القرآن.. والعزاء والشفاء (287)
﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: 47] على الرغم من أنه هدده قبل ذلك بقوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: 46]
ما إن قال ذلك، حتى صادفنا في طريقنا رجل، كان يسير هو الآخر إلى مدينة المخطئين التي تحولت إلى مدينة للتائبين، وعندما رآنا قصدنا، وهو يقول: مرحبا بتلميذ القرآن.. نحن مشتاقون جدا إليك.. إن أذنت لي أن أسمعك أول ما سمعت من معلمنا الكاظم، فعلت.
قلت: مرحبا بك.. ويسرني ذلك كثيرا.
قال: في أول لقاء لي به سمعته يقرأ علينا بعض ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمة الدالة على مغفرة الله تعالى لعباده، كقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة:225]، وقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]، وقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:129]، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:34]، وقوله: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:39]، وقوله: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:74]، وقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:98]، وقوله: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام:54]، وقوله:
القرآن.. والعزاء والشفاء (288)
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [لأنفال:70]، وقوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:27]، وقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:102]، وقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [:15]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد:28]
ثم قال لنا: انظروا كيف يخلص الله تعالى عباده من كل حرج.. إنه لا يطلب منهم أن يلجأوا لأي كاهن ولا لأي رجل دين ليعترفوا بذنوبهم.. بل يكفيهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه.. فليس لأحد سلطان المغفرة إلا لله.. كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة:104]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى:25]، أما البشر.. فإن سلطانهم الوحيد الذي أتيح لهم في هذا الباب أن يستغفر بعضهم لبعض.. ويعفو بعضهم عن بعض.. لقد خول الله تعالى ذلك لرسول الله كما خوله لكل مؤمن بغض النظر عن رتبته ووظيفته، قال تعالى يخاطب رسوله في شأن أصحابه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159]، وقال يخاطبه في شأن أعدائه: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13].. بل إن الله تعالى قد منع رسوله مع عظيم مرتبته وقربه من حق الاستغفار في بعض المحال، فقال تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
القرآن.. والعزاء والشفاء (289)
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:80]، ومثلما ذلك أخبر عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]
ثم ذكر لنا الكثير من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تدل على سعة رحمة الله تعالى ومغفرته لعباده، وعدم رده لمن جاء منهم تائبا، ومنها ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: (يكتب عليه) قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: (يغفر له ويتاب عليه)، قال: فيعود فيذنب، قال: (فيكتب عليه)، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: (يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا)(1)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتّى تعلو قلبه وهو الرّان الّذي ذكر الله ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14])(2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يبسط يده باللّيل ليتوب مسي ء النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسي ء اللّيل، حتّى تطلع الشّمس من مغربها)(3)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أخطأتم حتّى تبلغ خطاياكم السّماء، ثمّ تبتم لتاب عليكم)(4)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان لابن آدم واد من ذهب أحبّ أنّ له واديا آخر، ولن يملأ فاه إلّا التّراب، والله يتوب على من تاب)(5)
__________
(1) الطبراني في الكبير، المجمع (10/ 200)
(2) الترمذي (3334)
(3) مسلم (2759)
(4) ابن ماجة (4248)
(5) البخاري (6439)، ومسلم (1048)
القرآن.. والعزاء والشفاء (290)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (للجنّة ثمانية أبواب، سبعة مغلقة وباب مفتوح للتّوبة حتّى تطلع الشّمس من مغربها)(1)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمستغفر عن الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربّه ومن أذى مؤمنا كان عليه مثل ما أنبت النيل)(2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تاب العبد تاب الله عليه وأنسى الحفظة ما علموا منه، وقيل للأرض وجوارحه اكتموا عليه مساويه ولا تظهروا عليه أبدا)(3)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ للّه عزّ وجلّ فضولا من رزقه ينحله من يشاء من خلقه، والله باسط يديه عند كلّ فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له)(4)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صباح إلا وملكان يناديان يقولان: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر انته، هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، هل من مغموم فيكشف عنه؛ فهذا دعاؤهما حتى تغرب الشمس)(5)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله سبحانه يقول: أهل ذكري في ضيافتي وأهل طاعتي في نعمتي وأهل شكري في زيارتي وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي إن تابوا فأنا أجيبهم وإن مرضوا فأنا طبيبهم أداويهم بالمحن والمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب)(6)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة)(7)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله أفرح بتوبة العبد من الضمآن الوارد، والمضل الواجد، والعقيم
__________
(1) أبو يعلى والطبراني الترغيب والترهيب (4/ 89)
(2) تنبيه الخواطر 1/ 6.
(3) لب اللباب (المستدرك) 2/ 347.
(4) ثواب الأعمال/214.
(5) روضة الواعظين 2/ 329.
(6) إرشاد القلوب/58.
(7) عيون الأخبار 2/ 29.
القرآن.. والعزاء والشفاء (291)
الوالد)(1)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة) قيل له: وكيف ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: (يكون ذلك الذنب نصب عينيه تائبا منه فارا إلى الله عز وجل حتى يدخل الجنة)(2)
وحدثنا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم تندم فأرسل إلى قومه سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنّ فلانا قد ندم وإنّه أمرنا أن نسألك هل له من توبة؟ فنزلت ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أولئك جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 86 ـ 89]، فأرسل إليه فأسلم)(3)
وحدثناعن الإمام الباقر أنه قال: (كان غلام من اليهود يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا حتى أستخفه (استحقه) وربما أرسله في حاجة، وربما كتب له الكتاب إلى قوم فافتقده أياما فسأل عنه فقال: له قائل تركته في آخر يوم من أيام الدنيا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناس من أصحابه، وكان بركة لا يكاد يكلم أحدا إلا أجابه فقال: يا فلان ففتح عينيه وقال: لبيك يا أبا القاسم قال: أشهد أن لا إله الا الله وإني رسول الله فنظر الغلام إلى أبيه فلم يقل له شيئا ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثانية وقال له: مثل قوله الأول فالتفت الغلام إلى أبيه فلم يقل له شيئا ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثالثة فالتفت الغلام إلى أبيه فقال أبوه: إن شئت فقل وأن شئت فلا،
__________
(1) أصول الكافي 2/ 436.
(2) مكارم الأخلاق/462.
(3) النسائي (7/ 107)
القرآن.. والعزاء والشفاء (292)
فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وانك محمد رسول الله ومات مكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه: اخرج عنا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أغسلوه وكفنوه، وائتوني به أصلي عليه، ثم خرج وهو يقول: الحمد لله الذي أنجى بي اليوم نسمة من النار)(1)
وحدثنا أن حبيب بن الحارث جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل معرض للذنوب، قال: (فتب إلى الله يا حبيب) قال: يا رسول الله إني أتوب ثم أعود؟ قال: (فكلما أذنبت فتب) قال: إذا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكثر ذنوبي قال: (عفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث)، وقال: (ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله تبارك وتعالى في أول الصحيفة خيرا، وفي آخرها خيرا إلا قال: للملائكة اشهدوا إني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة)(2)
في طريقنا إلى مدينة التائبين التقينا رجلا ثالثا، وقد رحب بي هو الآخر، وكأنه يعرفني من زمن طويل، ثم قال: شهادتي لا تختلف عن شهادة أصدقائي في التوبة.. وقد كان سببها منة الله العظمى علينا بزيارة معلمنا الكاظم لمدينتنا على الرغم من سمعتها السيئة حينذاك، وعندما سألناه عن ذلك قال: لست خيرا من لوط عليه السلام ذلك النبي الكريم الذي أرسله الله تعالى إلى تلك البلدة الظالمة القاسية، فلم يتردد في الذهاب إليها خشية على سمعته، بل أدى كل ما طلب منه، وبإخلاص وصدق..
ثم ابتسم، وقال: ومعاذ الله أن أقصدكم بحديثي هذا، فأنتم أشرف وأكرم، وحتى لو وقعتم في بعض الذنوب، فإن إيمانكم بالله وباليوم الآخر هو الذي سيطهركم منها.
__________
(1) أمالي الصدوق/397.
(2) مشكاة الأنوار/120.
القرآن.. والعزاء والشفاء (293)
ثم قرأ علينا قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، ثم قال (1): من العقبات التي تقف عائقا في طريق التوبة والهداية، إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جراء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة، إذ أن الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله، أنه كيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.. وهذا التفكير يبقى كابوسا يرافقه كالظل، فكلما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى، تحدثه نفسه: ما الفائدة من التوبة، فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته؟.. ولذلك، فإن القرآن الكريم يحل هذه المشكلة عندما يذكر أن التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للانفصال عن الماضي، وبدء حياة جديدة، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشروطها.
سكت قليلا، ثم قال (2): ولهذا، فإن الله تعالى يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتحة أمام كل الناس مهما كانت ظروفهم، والمثال على ذلك هذه الآيات الكريمة التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله، وتعدهم بإمكانية محو الماضي، لأن الهدف الرئيسي هو التربية والهداية وليس الانتقام والعنف.
ثم أعاد قراءة الآية الكريمة، ثم قال (3): التدقيق في كلمات وعبارات هذه الآية الكريمة يبين أنها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنها الإمام علي: (ما في القرآن آية أوسع من ﴿يَا عِبَادِيَ
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 123)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 123)
(3) مفاتيح الغيب (27/ 464)
القرآن.. والعزاء والشفاء (294)
الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ [الزمر: 53]).. والدليل على ذلك واضح من وجوه كثيرة.. منها أنه سمى المذنب بالعبد، والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج.. ومنها أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا﴾ [الزمر: 53]، وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب.. ومنها أنه تعالى قال: ﴿أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: 53]، ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه، بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم.. ومنها أنه قال: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53]، حيث نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمرا بالرجاء والكريم، وإذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم.. ومنها أنه تعالى قال أولا: ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ [الزمر: 53] وكان يمكن أن يقول: (لا تقنطوا من رحمتي)، لكنه ترك هذا اللفظ وقال: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53] لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل.. ومنها أنه لما قال: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53] كان يمكن أن يقول: (إنه يغفر الذنوب جميعا)، ولكنه لم يقل ذلك، بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة [إن] المفيدة لأعظم وجوه التأكيد، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمة.. ومنها أنه لو قال: ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ﴾ [الزمر: 53] لكان المقصود حاصلا، لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال ﴿جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53]، وهذا أيضا من المؤكدات.. ومنها أنه وصف نفسه بكونه غفورا، ولفظ الغفور يفيد المبالغة.. ومنها أنه وصف نفسه بكونه رحيما والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله إنه هو الغفور إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، وقوله الرحيم إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب.. ومنها أن قوله ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53] يفيد الحصر، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة.. فهذه الوجوه العشرة مجموعة
القرآن.. والعزاء والشفاء (295)
في هذه الآية، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران.
ثم حدثنا بما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بخواتيمها، والليل والنهار مطيتان، فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة، واحذروا التسويف، فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة])(1)
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن الله تعالى: (من تقرب إلى الله عز وجل شبرا تقرب إليه ذراعا ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا ومن أقبل إلى الله عز وجل ماشيا أقبل إليه مهرولا والله أعلى وأجل والله أعلى وأجل والله أعلى وأجل)(2).. وفي حديث آخر قال: (قال الله عز وجل يابن آدم قم إلي أمش إليك وامش إلي أهرول إليك)(3)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى تخرج إلى الأرض)(4)
في طريقنا إلى مدينة التائبين التقينا رجلا رابعا، وقد رحب بي هو الآخر، وكأنه يعرفني من زمن طويل، ثم قال: شهادتي لا تختلف عن شهادة أصدقائي في التوبة.. وقد كان سببها أني التقيت بمعلمنا الكاظم لأول مرة، وكنت مسرفا على نفسي، وكان يعلم ذلك
__________
(1) الترغيب والترهيب لقوام السنة (1/ 442)
(2) أحمد (35/ 301)، والطبراني في الكبير (1646)
(3) أحمد (25/ 273)
(4) ابن المبارك في الزهد (170)
القرآن.. والعزاء والشفاء (296)
مني، لكنه لم يتعامل معي بأي قسوة أو شدة، كما كان يفعل غيره، بل قابلني بكلام طيب ووجه بشوش، بل رحب بي في ذلك المجلس الذي كان يضم صالحي مدينتنا.
وكان مما سمعته فيه قراءته لقوله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، ثم قال مخاطبا من معه: نحن لم نُطالب أبدا بأن نقسو على المخطئين، بل أمرنا بالتعامل اللين معهم، حتى لا نكون حجابا بينهم وبين ربهم، ومن أدرانا.. لعلهم يتوبون ويصلح حالهم، ونصبح نحن أنفسنا محتاجين إلى شفاعتهم ومواعظهم.
ثم روى لنا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له الأثر الكبير في نفسي، فقد قال فيه: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار] (1)
ثم قال: هل رأيتم تأثير تلك المواقف المتشددة في مصير صاحبها.. فلا تستهينوا بذلك، ولا تتوهموا أن ذلك مخالف للعدالة؛ فلا يقول ذلك إلا من لا يعرف العدالة؟.. فأول الجرائم التي ارتكبها ذلك المتألي على الله، المحتقر لأخيه ادعاؤه أنه الديان، وأنه من يملك المغفرة والرحمة، والجنة والنار، وبذلك يكون قد انتحل منصبا لا يستحقه، وليس أهلا له، بل جعل نفسه شريكا لله تعالى.. وثاني الجرائم هو النظر إلى أخيه بعين الاتهام، لا
__________
(1) أبو داود (4/ 275)
القرآن.. والعزاء والشفاء (297)
بعين الرحمة، ولو أنه نظر إليه باعتباره جاهلا يحتاج إلى تعليم، وعاصيا يحتاج إلى دعوة، ومريضا يحتاج إلى طبيب، لما وقف منه ذلك الموقف.. وثالث الجرائم وأخطرها هو أنه أعطى صورة سيئة للدين والتقوى والصلاح، تجعل النفوس تنفر منها.. فالفطرة الإنسانية مجبولة على القبول من أصحاب اللين والرفق، والنفور من التشدد والمتشددين، ولهذا دعا الله تعالى موسى عليه السلام إلى التعامل باللين مع فرعون، على الرغم من قسوة فرعون وشدته، بل ادعاؤه الألوهية نفسها.. فهل نحن أفضل من موسى، أم هؤلاء الذين ندعوهم إلى التوبة أقسى من فرعون؟
ثم ذكر لنا أن أعرابيا بال في المسجد، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقعوا فيه.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة.. ولذلك عالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم.. وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل.. لذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله، ونهى أصحابه أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه).. ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ بكل رِفق، وبكل سهولة، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)(1)
ثم حدثنا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما
__________
(1) أبو داود (4885)، والطبراني في الكبير (1667)
القرآن.. والعزاء والشفاء (298)
شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)(1)
ثم قال لنا: لقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)(2)
ثم قال لنا: لتتعمق في نفوسكم هذه المعاني عليكم أن تعلموا أن الهداية هبة إلهية، وفضل رباني، وأن الذي أعطاها يمكن أن يمنعها، وأن أولى الناس بالحرمان منها أولئك الذين يستكبرون بها، ولا يتواضعون لها، فلذلك كان أدبكم مع ربكم، أن تتركوا عباده له؛ فكما هداكم يمكن أن يهديهم، وكما أصلحكم يمكن أن يصلحهم.. لقد قال الله تعالى ذلك.. لا لي.. ولا لكم.. وإنما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك السراج المنير الحريص على هداية الخلق.. لقد قال الله له: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [قّ:45]، وقال: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية:22]، وقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام:107].. وقد حصر القرآن الكريم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه على البلاغ، قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [المائدة:99].. ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ﴾ [الشورى: 48]، ففي هذه الآيات تصريح بأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) مسلم (537) وص 1749، وأبو داود (930)
(2) مسلم (537) وص 1749، وأبو داود (930)
القرآن.. والعزاء والشفاء (299)
مقصور على التبليغ، وأنه أرسل مبلغا، ولم يرسل حفيظا عليهم، مسؤولا عن إيمانهم وطاعتهم، حتى يمنعهم عن الإعراض، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه؛ فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووظيفته، فكيف حالنا نحن؟
سكت قليلا، ثم قال: لنفرض أننا لم نُكلف بالتبليغ فقط، وإنما كلفنا بالهداية أيضا؛ فهل ترون أن ذلك التشدد يمكنه أن يؤدي دوره في إصلاحهم، أم أنه سيتحول إلى حجاب بينهم وبين الهداية؟.. وهل ترون أن الدعاء لهم بالهداية والصلاح أولى أم الدعاء عليهم بالويل والثبور، والذي لن يزيدهم إلا بعدا عن ربهم الذي تريدون أن تقربوهم منه، وقد روي في الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له ـ بعد الأذى الشديد الذي أصابهم من ثقيف ـ: (يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم)، فقال: (اللهم اهد ثقيفا)(1).. وروي أنهم طلبوا منه أن يدعو على المشركين، ويلعنهم، فقال: (إني إنما بعثت رحمة، ولم أبعث لعانا)(2)
ثم حكى لنا عن بعض الصالحين أنه مر بجانبه زورق فيه شباب يظهر عليهم المجون، وكانوا يغنون ويرقصون، وقد لعبت الخمر برؤوسهم، فقال له أصحابه ـ وكان مستجاب الدعوة ـ: ادع عليهم؛ فرفع الصالح كفه، وقال: (اللهم كما أفرحتهم في الدنيا فأفرحهم في الآخرة)؛ فصاح به أصحابه معترضين، يقولون له: نقول لك ادع عليهم فتدعوا لهم، فقال لهم: (وما يضيركم.. إن أفرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا)
وعندما رأى في وجوه من يحدثهم بعض التغير قال لهم: لا بأس.. إن استشكلتم هذه الحكاية، ورحتم تلومون صاحبها، فاقرؤوا قصة إبراهيم عليه السلام مع قريبه، وكيف
__________
(1) الترمذي رقم (3937)
(2) مسلم رقم (2599)
القرآن.. والعزاء والشفاء (300)
كانت معاملته له، ولولا أنه نهي عن الدعاء له والاستغفار لما كف عن ذلك.. ومثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعرف المنافقين ومع ذلك ظل يدعو ويستغفر لهم إلى أن نهاه الله عن ذلك.
ثم قال: وإن لم يكفكم كل هذا، فاذكروا قصة أولئك السحرة الذين دخلوا على فرعون، وهم يقولون: ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ [الشعراء: 44] لكنهم ما لبثوا حتى صاروا يقولون لفرعون بكل عزة وإيمان: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 72، 73]، في نفس الوقت الذي تحول فيه ذلك الصحابي الذي صحب موسى عليه السلام، وكان مقربا منه إلى داعية للضلالة والشرك.. لاشك أنكم تعرفونه.. إنه السامري.. ذلك الذي استغل غياب موسى عليه السلام ليخلفه شر خلافة، كما قال تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ [طه: 85 ـ 89]، بل إن الأمر لم يكن قاصرا على ذلك السامري، ولا على أولئك النفر الذين اتبعوه، بل إن الله تعالى أخبر عن بني إسرائيل أنهم بعد أن اجتازوا البحر ﴿أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 138]
ثم قال: ولهذا أخبر الله تعالى عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع المخطئين والمنحرفين، فقال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6]، وقال: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر:8]، وقال: ﴿وَلا تَحْزَنْ
القرآن.. والعزاء والشفاء (301)
عَلَيْهِمْ﴾ [النحل:127]، وقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء:3].. فتعلموا هذا الحزن الصادق الممتلئ بالرحمة من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو القدوة والأسوة.. وليس أولئك الغلاظ الشداد الذين نصبوا أنفسهم دعاة للخلق من غير إذن إلهي، ولا بصيرة إيمانية.. فراحوا يصرفون الناس عن الدين، وهم يظنون أنهم يدعونهم إليه.
ثم ختم حديثه بقوله: واعلموا أنكم لن ترتقوا إلى المقامات التي أتيحت للصالحين ما لم تكن فيكم هذه الخلة النبوية، فلن يقرب الله أحدا إلا إذا كان يسير على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وعلى منهاجه منهاج النبوة التي هي رحمة للعالمين.. كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الانبياء:107]، بل إن الله تعالى سماه باسمين من أسماء رحمته، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128].. ومما ييسر لكم هذا أن تنظروا إلى العاصين مثل قوم اقتربت النيران من بيوتهم، تريد أن تحرقهم؛ فلذلك تقتضي الرحمة أن تسرعوا إليهم لتنقذوهم، لا أن تنظروا إليهم بشماتة وحقد.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا، ونبه إليه عند التعامل مع المنحرفين والمخطئين؛ فقال: (إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب)(1)
ثم حكى لنا ما ورد في في السنة النبوية عن أول رجل أقيم عليه الحد في الإسلام، حيث أُتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: (يا رسول الله، إن هذا سرق)، فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمادا، فقال بعضهم: مالك يا رسول الله، فقال: (وما يمنعني؟ وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، والله عز وجل عفو يحب العفو، ولا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحد إلا أقامه، ثم
__________
(1) أحمد (7/ 127)، وأبو يعلى (5288)
القرآن.. والعزاء والشفاء (302)
قرأ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22])(1)
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر، قال: اضربوه، فأمر بإقامة الحد عليه، فلما انصرف، قال بعض القوم: (أخزاك الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)(2)
ما انتهى الشاهد الرابع من حديثه حتى وصلنا إلى تلك البلدة التي تعجبت كثيرا من إطلاق لقب المخطئين عليها على الرغم من مظاهر الإيمان والتقوى العظيمة التي كانت تسود بين أرجائها، وعندما سألت أحدهم عن سر ذلك، قال: نعم.. لقد كان معلمنا الكاظم يطلق على بلدتنا [مدينة التائبين] لكنا مع ذلك، أصررنا على الحفاظ على لقبها القديم، لا لحبنا للخطايا، ولكن حتى لا نغتر بالتوبة.
فقلت: ولكنكم تعصون معلمكم بذلك.
قال: معاذ الله أن نعصيه.. ولكنا عندما سمعناه يردد يوما في خلوته دعاء الإمام الحسين يوم عرفة، وهو يبكي بخشوع وخضوع وتضرع: (أنا يا إلهى المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأت، أنا الذي أغفلت، أنا الذي جهلت، أنا الذي هممت، أنا الذي سهوت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذى تعمدت، أنا الذي وعدت، أنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت، أنا الذي أقررت، إلهى أعترف بنعمتك عندي، وأبوء بذنوبي فاغفر لي يا من لا تضره ذنوب عباده، وهو الغني عن طاعتهم، والموفق من عمل منهم صالحا بمعونته ورحمته، فلك الحمد إلهى أمرتني فعصيتك، ونهيتني فارتكبت نهيك، فأصبحت لا ذا براءة فأعتذر، ولا
__________
(1) أحمد (7/ 84)، الطبراني في الكبير (8572)، والبيهقي 8/ 331.
(2) البخاري، 6777.
القرآن.. والعزاء والشفاء (303)
ذا قوة فأنتصر، فبأي شئ أستقبلك يا مولاي، أبسمعى أم ببصري أم بلساني أم برجلي؟ أليس كلها نعمك عندي، وبكلها عصيتك يا مولاي، فلك الحجة والسبيل علي، يا من سترني من الاباء والامهات أن يزجروني، ومن العشائر والاخوان أن يعيروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني ولو اطلعوا يا مولاي على ما اطلعت عليه مني، إذا ما أنظروني ولرفضوني وقطعوني)(1)
وقوله: (يا من قلّ له شكري فلم يحرمني، وعظمت خطيئتي فلم يفضحني، ورآني على المعاصي فلم يخذلني)(2)
وقوله في تلك القطعة المنسوبة إليه من دعاء عرفة: (إلهي منِّي ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك.. إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني أوصافي اطمعتني مننك.. إلهي مَن كانت محاسنه مساوئ فكيف لا تكون مساوئه مساوئ، ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى؟)(3)
ومثل ذلك قوله في دعائه بالكعبة: (إلهي نعّمتني فلم تجدني شاكراً، وأبليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة لترك الشكر، ولا أدمت الشدة لترك الصبر، إلهي ما يكون من الكريم إلاّ الكرم)(4)
ومثل ذلك قول الإمام السجاد في دعائه: (أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على معاصي الدليل الرُشى، أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت عليَّ فما استحييت وعملت بالمعاصي
__________
(1) البلدالأمين ص: 255.
(2) البلدالأمين ص: 255.
(3) بحار الأنوار، 95/ 227.
(4) إحقاق الحقّ، 11/ 595.
القرآن.. والعزاء والشفاء (304)
فتعديت)(1)
عندما سمعنا منه هذه الأدعية الرقيقة، سألناه عنها، قال: هذه الأدعية الواردة عن أئمة الهدى لا تدل على وقوعهم في الخطايا والمعاصي؛ فذلك يستحيل على أهل بيت الطهارة، الذين جعلهم الله قدوة وأسوة للناس، وإنما تعني شفافية أرواحهم وعظم أدبهم مع الله إلى الدرجة التي يشعرون فيها أنهم مقصرون في حقه غاية التقصير.. وهم يطبقون بذلك ما ورد في القرآن الكريم عن الأنبياء عليهم السلام، والذين اتفقت الأمة على عصمتهم، ومع ذلك نراهم يبتهلون إلى الله، ويتضرعون إليه أن يغفر لهم، كما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام قوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً﴾ [نوح:28]، وحكى عن إبراهيم عليه السلام قوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [ابراهيم:41]، وحكى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:285]
حينها استأذناه في أن يبقى اسم مدينتنا القديم.. حتى نسعى لأن نكون ناصحين في توبتنا وصادقين فيها.. وحتى نتذكر دائما تقصيرنا في حق ربنا، فنعود إليه كل حين.
بعد أن سمعت منه هذا الحديث مررت على بعضهم، وهو يقود عربة، يضع فيها كل ما يراه من قاذورات في الطريق، وكلما رأى شجرة تحيط بها الحشائش الضارة أخذ معولها، وراح يطهرها منها.. فتصورت في البداية أنه مثل عمال النظافة عندنا، لكني علمت بعد ذلك أنه من أكبر أثرياء المدينة، وهذا ما دعاني إلى الاقتراب منه وسؤاله عنه، فقال: شكرا جزيلا يا تلميذ القرآن لتشريفك لي بالحديث معي.. فأنا أقل من أن يُذكر اسمي في كتابك..
__________
(1) البلدالأمين ص: 209.
القرآن.. والعزاء والشفاء (305)
لكني مع ذلك سأحكي لك حكايتي مع معلمي الكاظم الذي أخرجني من تيهي وغروري وكبريائي إلى ما تراه الآن من حالي.
سكت قليلا، ثم قال: في الوقت الذي التقيت فيه بمعلمي الكاظم، كنت مثل قارون تماما، أخرج بين قومي بكامل زينتي، وكان كبريائي يجعلني أستقذر الناس جميعا.. وأتصور أني وحدي النظيف بينهم.. مع أني كنت أملأ الشوارع بقاذوراتي الحسية والمعنوية.. لقد كنت مهتما فقط بمظهري الحسي، ولم أكن أهتم أبدا بتلك الحيات والعقارب والمزابل التي تملأ باطني، وتسد كل منافذ الهداية من أن تتسرب لي.
وكان أول ما سمعته منه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]
كان لقراءته الخاشعة لهذه الآية الكريمة وحدها التأثير الكبير في نفسي، لكنه لم يكتف بها، بل راح يقول لي وللملتفين حوله (1): في الآية الكريمة دعوة إلى المؤمنين عامة، أن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا إليه كلما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه، بما اقترفوا من آثام، وما اجترحوا من سيئات، فإن التوبة تغسل الحوبة، وهى الأسلوب الذي يصالح به العبد ربه، ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه.. والتوبة النصوح، هي التوبة الصادرة عن قلب مفعم بالندم، وعن ضمير مثقل بما خالطه من إثم، ومن وراء ذلك عزيمة صادقة، ونية منعقدة على عدم العودة لما كان منه التوبة.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 1033)
القرآن.. والعزاء والشفاء (306)
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: 8]، ثم قال (1): عسى، وإن كانت أسلوبا يفيد الرجاء، فإن هذا الأسلوب إذا تعلق بالله سبحانه وتعالى، كان معناه الوجوب، والوقوع.. لأن الرجاء إنما يكون في حق من لا يقدر، والله سبحانه قادر على كل شيء.. أما استعمال أسلوب الترجى في جانب الله سبحانه وتعالى، فهو منظور فيه إلينا، وإلى أنه ينبغى أن نقيم أمرنا مع الله على رجاء، فلا يأس من رحمته، ولا قطع بالنجاة من عذابه، وبهذا يكون العبد المؤمن على صلة دائمة بالله، يرجو رحمته، ويخشى عذابه، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8]، ثم قال (2): ونفى الخزي عن النبى والذين آمنوا معه، هو إدخالهم الجنة، وعرضهم يوم القيامة في معرض التشريف والتكريم، حيث يعرض الكافرون معرض الخزي والهوان.. وقد كان من دعاء المؤمنين ما أشار إليه تعالى في قوله: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: 194]، وهو الدعاء الذي دعا به إبراهيم عليه السلام ربه في قوله تعالى على لسانه: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 87 ـ 89]
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]، ثم قال (3): هو حال من أحوال المؤمنين في
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 1033)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 1034)
(3) التفسير القرآني للقرآن (14/ 1034)
القرآن.. والعزاء والشفاء (307)
هذا اليوم، وذلك أنهم وهم سائرون إلى الجنة، يتقدمهم نور يسعى بين أيديهم، ونور يشع في أيمانهم، وهو الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم، فكانت تلك الأعمال ـ لحسنها ـ نورا يسعى بين أيديهم.. ثم إنهم وهم في طريقهم إلى الجنة، مع هذا النور الذي يسعى بين أيديهم كما يسعى الخدم بين يدى الضيوف القادمين على مضيف كريم ـ إنهم وهم في الطريق إلى الجنة، يكونون على إشفاق من أن ينقطع عنهم النور الهادي، فيسألون ربهم قائلين: ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ [التحريم: 8] ما نجد في صحف أعمالنا من سيئات، فإنك على كل شيء قدير، وإن من شأن القادر العفو والصح، والمغفرة.. وقد غفر الله لهم، وأتم لهم نورهم، فمضى معهم نورهم إلى أن دخلوا جنات النعيم.
حينها راح بعض الحاضرين يرفع صوته بالاستغفار، فقال له المعلم: بورك فيك وفي استغفارك.. لكن الاستغفار باللسان وحده لا يكفي.. بل نحن نحتاج إلى أن نحرك جوارحنا جميعا لتطبق ذلك الاستغفار في الواقع.. فالكلام وحده لا يجدي شيئا.
ثم حدثنا عن الإمام علي، وأنه قال لقائل قال بحضرته أستغفر الله: (ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى.. والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا.. والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.. والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.. والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.. والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله)(1)
__________
(1) نهج البلاغة، حكمة 409/ 1281.
القرآن.. والعزاء والشفاء (308)
وحدثنا عنه أنه قال: (التوبة على أربعة دعائم: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم أن لا يعود، وثلاث من عمل الأبرار: إقامة الفرائض، واجتناب المحارم، واحتراس من الغفلة في الدين)(1)
وأنه قال: (التوبة ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود)(2)
وأنه قال: (التائب إذا لم يستبن عليه أثر التوبة فليس بتائب، يرضي الخصماء، ويعيد الصلوات، ويتواضع بين الخلق، ويتقي نفسه عن الشهوات، ويهزل رقبته بصيام النهار، ويصفر لونه بقيام الليل، ويخمص بطنه بقلة الأكل، ويقوس ظهره من مخافة النار، ويذيب عظامه شوقا إلى الجنة، ويرق قلبه من هول ملك الموت، ويخفف جلده على بدنه بتفكر الآخرة، فهذا أثر التوبة، وإذا رأيتم العبد على هذه الصفة فهو تائب ناصح لنفسه)(3)
وأنه قال: (ستة أشياء حسن، ولكن من ستة أحسن العدل حسن وهو من الأمراء أحسن، والصبر حسن وهو من الفقراء أحسن، والورع حسن وهو من العلماء أحسن، والسخاء حسن وهو من الأغنياء أحسن، والتوبة حسنة وهي من الشاب أحسن، والحياء حسن وهو من النساء أحسن، وأمير لا عدل له كغيم لا غيث له، وفقير لا صبر له كمصباح لا ضوء له، وعالم لا ورع له كشجرة لا ثمرة لها، وغني لا سخاء له كمكان لا نبت له، وشاب لا توبة له كنهر لا ماء له، وامرأة لاحياء لها كطعام لا ملح له)(4)
ثم حدثنا عن الإمام الصادق أنه قال: (رحم الله عبدا لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه، وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، ودليل إلى
__________
(1) بحار الأنوار 75/ 81 عن كشف الغمّة.
(2) غرر الحكم، 194.
(3) جامع الأخبار/87.
(4) إرشاد القلوب/193.
القرآن.. والعزاء والشفاء (309)
الهدى، وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التوبة، قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أنفسهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه بالتوبة والإقلاع عمّا حرّم الله، فإنّه يقول: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة)(1)
لست أدري كيف كان لكلماته ذلك التأثير العجيب في نفسي، فبعد أن عدت إلى بيتي رحت أتذكرها حرفا حرفا.. ومنذ ذلك اليوم عقدت العزم على التوبة النصوح، ورحت أرد الحقوق إلى أصحابها، وأسأل الله أن يكون قد تقبلها مني.
قلت: لكن لم ترهق نفسك بهذا العمل.. وأنت لست بحاجة إليه.
قال: أنا أقوم بهذا العمل، لعل الله يكافئني على تطهيره لأرضه بتطهير قلبي.. لقد سمعت حكاية في هذا من معلمي، حيث حدثنا أنه كان في عصر الإمام الكاظم في بغداد رجل معروف يقال له بشر، وكان ممن يشار إليه بالبنان، وحدث يوما أن كان الإمام الكاظم مارا من أمام بيت بشر، فاتفق أن فتح بعضهم باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمى بها في الطريق سأله الإمام قائلا: يا جارية هل صاحب الدار حر أم عبد!؟.. فأجابه: بل هو حر.. فقال الإمام: (صدقت لو كان عبدا لخاف من مولاه).. ثم ذكر لي كيف أثرت تلك الكلمة في بشر عندما أُخبر بهذا، وأنه ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر،
__________
(1) تفسير العيّاشي ج 1 ص 198
القرآن.. والعزاء والشفاء (310)
ثم حكى لي بلسان حاله قوله: (سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبدا، ولكن عبدا لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانية في، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب وأغدو أسيرا لها، لا أريد أن تؤسر في الفطرة السليمة والعقل السليم، من هذه الساعة أريد أن أصبح عبدا لله ولله وحده، حرا تجاه غيره)(1)
وحدثنا أنه أصاب في الطريق كاغدا مكتوبا فيه اسم الله عز وجل، قد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية، فطيب بها الكاغد، وجعلها في شق حائط، فرأى فيما يرى النائم كأن قائلا، يقول له: (يا بشر، طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة)(2)
سرت في تلك البلدة المضمخة بعطر التوبة، وقد تعجبت من صلاح حالها، فليس هناك أي ثغرة، ولا أي عيب في أي محل من المحال.. بل رأيتهم يتزاحمون على إصلاح العيوب، وسد الثغرات، ومن المشاهد التي رأيتها في هذا..
في طريقي، رأيت محلا كبيرا مزينا بكل ألوان الزينة، وكان يشبه نوادي الألعاب الفخمة، لكن لم يكن رواده من تعودت أن أراهم في تلك النوادي، وإنما شباب يقفون أمام سبورة، وأستاذ يعلمهم.
لم أشأ أن أضيع وقت الطلبة، ولا وقت أستاذهم، وإنما رحت إلى الواقف أمام
__________
(1) الهجرة والجهاد، مطهري (ص 2)
(2) الرسالة القشيرية (1/ 48)
القرآن.. والعزاء والشفاء (311)
الباب، والذي كان يرحب بكل داخل، أسأله عن سر هذا النادي، فقال: هذا النادي لي.. وهو واحدة من مجموعة نواد كثيرة كانت تنتشر في هذه المدينة لتنشر الغفلة والخراب بين أهلها.. لكني بحمد الله بعد توبتي حولتها جميعا إلى أقسام تدرس كل أصناف العلوم.
قلت: لقد أحسنت صنعا.. فتجارة التدريس أهم من تجارة الألعاب، والمدرسون الخصوصيون عندنا ينالون فوائد أكثر بكثير من فوائد أصحاب نوادي الألعاب.
قال: سامحك الله يا تلميذ القرآن.. ما كنت أظنك تسيء الظن بأخيك.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]؟
قلت: أستغفر الله.. وأنا لم أعاتبك على ما فعلت.. فحتى لو نويت التجارة، وربحت منها، فأنت مأجور عند الله كذلك، لأنك تنشر المعرفة والعلم، بدل الغفلة واللهو.
قال: ما أفعله هو جزء بسيط مما توجبه علي توبتي.. ذلك أني كنت مساهما في الغفلة واللهو، وسببا في فشل الطلبة ورسوبهم، ولهذا رحت أعوض عن ذلك الإفساد بنشر العلم والمعرفة، وخاصة بين الذين كنت سببا في فشلهم في دراستهم.. والحمد لله، فهؤلاء الطلبة وغيرهم يدرسون بالمجان، بل أنا ـ بما فتح الله علي من رزقه ـ أشجعهم بإعطاء جوائز للممتازين والمتميزين منهم.. والحمد لله، لقد نجح الكثير منهم، وبتفوق، ومن الذين كانوا قد رسبوا سابقا.. فأرجو أن أكون قد عوضت عما فعلته من جرائم.
قلت: فكيف بدا لك أن تتغير إلى هذه الحال؟
قال: الله أكرم من أن يتركني ونفسي.. فعندما أذن بتوبتي وهدايتي أرسل إلي معلمي الكاظم الذي مر على هذا النادي، وهو مملوء بالصياح والضجيج، وقال: ما شاء الله.. ليت هذا النادي تحول إلى مركز من مراكز العلم والمعرفة.. إذن لأفاد الناس كثيرا.. ولنال صاحبه أجرا وفيرا.. وأكثر بكثير مما يناله الآن.
القرآن.. والعزاء والشفاء (312)
ضحكت حينها ساخرا من مقولته.. لكنه لم يأبه بضحكتي.. وراح يستمر في سيره، لينشر النور والهداية.. حينها تبعته إلى أن جلس في بعض المجالس، وراح يقرأ قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 86 ـ 89]، ثم قال (1): أي كيف يسلك الله بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة؟.. وشهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه.
ثم قال (2): وفي الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس للنبى صلى الله عليه وآله وسلم من إيمانهم، فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدى إلى المطلوب، وقد مكن لهم الله من كل هذا من قبل، ومن ثم آمنوا به.. ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 86] أي إن الله لا يهدى أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكبوا عن الطريق القويم وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات.. ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [آل عمران: 87] أي هؤلاء يستحقون سخط الله وغضبه،
__________
(1) تفسير المراغي (3/ 206)
(2) تفسير المراغي (3/ 206)
القرآن.. والعزاء والشفاء (313)
وسخط الملائكة والناس، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: 25].. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [آل عمران: 88] أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد.. ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [آل عمران: 88] أي لا ينقصون من العذاب شيئا، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا.
سكت قليلا، ثم قال (1): ومع ذلك يذكر الله تعالى أنه فتح الباب لتوبتهم، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 89] أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وثابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر الذي دنسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذى الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات.
نظر إلينا بجد، وقال (2): وفي هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتد بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات، لأن التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شئونهم، وتقويم المعوج من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته، والفوز برحمته.
__________
(1) تفسير المراغي (3/ 207)
(2) تفسير المراغي (3/ 207)
القرآن.. والعزاء والشفاء (314)
سكت قليلا، ثم راح يقرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 4 ـ 5]، وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 145 ـ 146]
ثم قال: الآيات الكريمة صريحة وواضحة، فهي لم تكتف بالتوبة وحدها، وإنما اشترطت الإصلاح.. فمن أفسد شيئا، فتوبته أن يصلحه.. وإلا فإن توبته مجرد كلمات جوفاء، ومشاعر كاذبة.
بعد استماعي لشهادته، سرت في طريقي في مدينة التائبين، فوجدت أثناء سيري رجلا يهرول بسرعة نحو اثنين يتخاصمان، ثم يقول لهما: أنا مستعد لفعل أي شيء لأجل أن تتصالحا.. إن كان لأحدكما دين على أخيه، فأنا أتحمله دونه.. أو كان أي شيء أنا مستعد لأتحمله.. فقط أرجو أن تتصالحا.
وهكذا بقي يستعمل كل الأساليب والوسائل حتى وصل الأمر به إلى تقبيل رأسيهما ويديهما، إلى أن تصالحا.. وقد أهداهما بمناسبة صلحهما بعضا من ماله.. وقد تعجبت كثيرا، إذ رأيت المتخاصمين يسيران، ويتركانه ليستأنف طريقه، وكأنه لا يعرفهما ولا يعرفانه.
فاقتربت منه، وقلت: هل هذان الخصمان من أقربائك؟
قال: لا.. لم أرهما إلا اليوم.
قلت: ولكنك كنت شديد الحماس لإقامة الصلح بينهما، بل إنك بذلت مالك
القرآن.. والعزاء والشفاء (315)
ووجهك في سبيل ذلك.. فما الداعي لذلك؟
قال: لقد قمت بذلك رجاء أن يغفر الله خطاياي الكثيرة.. فأنا قبل توبتي التي أرجو أن يتقبلها الله مني، كنت حمال حطب ومشاء بالنميمة، ولذلك أخبرني معلمي الكاظم أن وفاء توبتي أن أقضي حياتي في إصلاح ذات البين ما استطعت إلى ذلك سبيلا.. وقد بدأت بالذين أسأت إليهم.. ثم صرت لا أجد فرصة للإصلاح في بلدتي أو غيرها إلا أسرعت إليها.. وأرجو أن أكون قد كفرت بذلك عن بعض سيئاتي، لأترك باقيها لكرم الله ولطفه.
قلت: فكيف استطاع معلمك أن يؤثر فيك هذا التأثير؟
قال: لقد وفدت إليه مع بعض الرفاق تائبا إلى الله، بعد أن سمعت بعض مواعظه حول الجنة والنار.. والتي جعلتني أراهما رأي العين.. وقد كنت أتوهم أن التوبة مجرد ألفاظ تُردد، لكنه قرأ علي من القرآن الكريم ما جعلني أشعر بأنها تعني تغيير الحياة تماما، لتتوافق مع مقتضيات الإيمان.
ثم سمعته في بعض المجالس يقول، مخاطبا بعض التائبين الذين تجمعوا بين يديه، طالبين منه أن يعظهم (1): من علامة صدق التوبة أن تتمكن مرارة الذنوب من قلب التائب بدلاً عن حلاوتها، فيستبدل بالميل كراهية، وبالرغبة نفرة.. وقد روي أن الله تعالى قال لبعض أنبيائه ـ وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم ير قبول توبته ـ: (وعزتي وجلالتي لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه)
حينها قال له بعض الحاضرين لذلك المجلس: الذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 34)
القرآن.. والعزاء والشفاء (316)
مرارتها؟
فرد عليه معلمنا (1): من تناول عسلاً كان فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه، ثم مرض وطال مرضه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه، فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة، فهل تنفر نفسه عن ذلك العسل أم لا؟
قال الرجل: لا شك أن نفسه تنفر منه.. بل إن نفسه ربما تنفر عن العسل الذي ليس فيه سم لشبهه به.
قال المعلم: فهكذا الأمر مع التائب.. فإن كل ذنب ذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم، ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان.
قال الرجل: فحدثني كيف أطهر نفسي من ذنوبي الماضية؟
قال المعلم (2): لقد ذكر الناصحون أن التائب الناصح هو من يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه، ويفتش عما مضى من عمره سنة سنة وشهراً شهراً ويوماً يوماً ونفساً نفساً، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها؟ وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها؟ فإن كان قد ترك صلاة أو صلاها في ثوب نجس أو صلاها بنية غير صحيحة لجهلة بشرط النية فيقضيها عن آخرها، فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن أنه داء ويقضي الباقي وله أن يأخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد.. وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمداً أو نسي النية بالليل ولم يقض؛ فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه.. وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه ـ لا من زمان البلوغ فإن الزكاة واجبة في مال الصبي ـ فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته.
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 34)
(2) إحياء علوم الدين (4/ 34)
القرآن.. والعزاء والشفاء (317)
قال الرجل: هذا طريق التفتيش عن الطاعات وتداركها.. فكيف أفتش عن المعاصي؟
قال المعلم (1): يجب على التائب الناصح في توبته أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله وسائر جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها، فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد، كنظر إلى غير محرم واعتقاد بدعة، وشرب خمر وغير ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذاً من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتق الله حيث كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها)(2).. بل من قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، فيكفر سماع الملاهي الفاسقة بسماع القرآن وبمجالس الذكر، ويكفر الرغبة عن المسجد بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة، ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه.
ثم ذكر لنا السر في ذلك، فقال (3): وسر ذلك أن المرض إنما يُعالج بضده، فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، والمتضادات هي المتناسبات، فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها، فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة.
وعندما سمعت كل هذه الأحاديث عقدت العزم على أن أبذل كل جهدي لأتحقق بالتوبة النصوح، فرحت أبحث عن ذنوني، وقد رأيت أن أخطرها وأعظمها هو ما كنت أقوم به من
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 35)
(2) الترمذي (1904)
(3) إحياء علوم الدين (4/ 35)
القرآن.. والعزاء والشفاء (318)
نميمة وإفساد للعلاقات الاجتماعية.
قلت: فكيف عرفت أن ذلك أخطر ذنوبك؟
قال: بعد أن امتلأ قلبي بالمخافة من الله تعالى، ومن ملاقاته بذنوبي الكثيرة، سرت إلى البلدة التي يقيم فيها معلمي الكاظم.. وقبل أن أصل إليه، سألت الله تعالى أن يجعل حديثه خاصا بتحقيق حاجتي وإتمام توبتي.
وبمجرد أن دخلت مجلسه سمعته يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [القلم: 10 ـ 12]، ثم قال (1): هذه ملامح، وصفات، تشين من يتصف بها، وتحط من قدره في الناس، فلا يوزن بميزان الإنسان السوى، الذي يطمئن إليه الناس، ويتعاملون معه في ثقة واطمئنان.. إنه لا يتصف بهذه الصفات إنسان له على ميزان الإنسانية وزن.. وهى صفات تجتمع وتتفرق في هؤلاء المشركين الضالين..
سكت قليلا، ثم قال: وسواء اجتمعت هذه الصفات كلها في شخص واحد، أو ظهرت عليه أعراض بعضها، فإن أي صفة منها تدعو إلى غيرها، إذ هي جميعها لا تصدر إلا من طبع لئيم، ولا تنضح إلا من نفس خبيثة فاسدة.. فكثير الحلف: كذوب، منافق.. يدارى كذبه ونفاقه بهذا الستار الأسود، من كثرة الأيمان الكاذبة الفاجرة.. ولهذا وصف بأنه مهين، أي حقير دنيء، لأنه لا يحترم نفسه، ولا يرتفع بها عن أن يبيعها بهذا الثمن البخس، حيث يعرضها في سوق النفاق والكذب، سلعة رخيصة، لا تجد من ينظر إليها إلا إذا جلجلت من حولها صيحات الأيمان الكاذبة..
ثم نظر إلي مبتسما، وقال (2): والهماز المشاء بالنميم، هو وجه قبيح من وجوه أهل
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1085)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1086)
القرآن.. والعزاء والشفاء (319)
الكذب والنفاق، حيث يهمز الناس أي يعيبهم، وينالهم بالسوء، في غيبتهم، ومن وراء ظهورهم.. فهو جبان، مهين، لا يجرؤ على أن يلقى الناس مواجهة.. وهو إذ يرمى الناس بالمساءات من وراء ظهورهم، يمشى كذلك بينهم بالنميمة، فينقل إليهم من المقولات ما يوقع العداوة والبغضاء بينهم، سواء أكان ما ينقله حقا أو باطلا..
ثم قال (1): والمناع للخير: شخص مهين ذليل، ممسك بما في يده، ضنين به، لأنه يرى أنه في وجه الهلاك والضياع، إن هو لم يحصن نفسه بالمال، ولم يقم عليها حارسا منه.. إن ذاتيته أضعف من أن تحمى ذاتها، ومن ثم كان لا بد لها من شيء آخر تحتمى به، وهو المال، وكل ما يمكن أن يكون مصدر نفع مادى.. وهذا شأن النفوس الضعيفة المهينة، كما هو شأن ضعاف الحيوان، كالنمل والذر.. إنها تختزن طعامها لأيام وشهور، وربما لسنين، كما أنها تجر كل ما يصادفها إلى بيتها، سواء أكانت في حاجة إليه أم لم يكن لها به حاجة..
ثم قال (2): والمعتدي الأثيم، هو هذا الكذوب، المنافق، الهماز، المشاء بالنميم، الضنين بالخير، لأنه في كل هذه الصفات يحمل عدوانا، ويقترف إثما.. عدوانا على الناس بالكذب عليهم، ونهش أعراضهم من وراء ظهورهم، والسعى بالنميمة بينهم، وبالضن بما لهم من حق فيما بين يديه من خير.. وإثما على نفسه، بما حمل من أوزار بهذا العدوان على الناس.. والعتل: هو الجافي، الغليظ الطبع الوحشى الطبيعة، الذي ينهش في أعراض الناس، ويقطع أواصر الأخوة بينهم، دون أن تتأثر لذلك مشاعره، أو تألم لذلك نفسه، شأنه في هذا شأن الحيوان المفترس.
حينها طلب منه بعض الحاضرين أن يروي له من الأحاديث ما يردع عن النميمة،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1086)
(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1086)
القرآن.. والعزاء والشفاء (320)
فروى لنا بعض الأحاديث في ذلك.. والتي صرت أرددها كل يوم، لأصلح كل ما قمت به من أخطاء.
ومن تلك الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سائلا أصحابه: (ألا أخبركم بشراركم؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (المفسدون بين الأحبة المشاؤون بالنميمة الباغون للبرآء العنت)(1)
وقوله: (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)(2)
وقوله: (لا يدخل الجنة نمام)(3)
وقوله بعد أن مر على قبرين: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. ثم قال: (بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة. وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)(4)
وقوله: (تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)(5)
ثم قال: وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا تنطبق على أحد من الناس كما تنطبق على أولئك الذين ينشرون الكراهية بين الأفراد والجماعات.
ثم ذكر لنا ما ورد في الحكم مما يردع عن ذلك، ومنها ما رواه عن لقمان عليه السلام قال لابنه: (يا بني، أوصيك بخلال، إن تمسكت بهن لم تزل سيدا: ابسط خلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك، وآمنهم من قبول قول ساع، أو سماع باغ، يريد فسادك، ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا
__________
(1) أحمد (6/ 459)
(2) أبو داود (4876)، والشاشي (205) و(208) و(230)، والطبراني (357)
(3) أحمد (38/ 351)، ومسلم (105)(168)
(4) البخاري: 3/ 1378، ومسلم (292)
(5) البخاري: 10/ 6058، ومسلم (2526)
القرآن.. والعزاء والشفاء (321)
فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك)(1)
ومنها ما رواه عن الإمام علي أن رجلا سعى إليه برجل فقال له: (يا هذا، نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك) فقال: (أقلني يا أمير المؤمنين)(2).. وأنه قال: (شراركم المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة المبتغون للبرآء المعايب)(3)
و منها ما رواه عن الإمام الباقر أنه قال: (الجنة محرمة على المغتابين والمشاءين بالنميمة)(4)
ومنها ما رواه عن بعض الحكماء أنه زاره بعض إخوانه، وأخبره بخبر عن غيره، فقال له الحكيم: (قد أبطأت عن الزيارة وأتيتني بثلاث جنايات بغضت إلي أخي وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة)
بعدها عدت إلى بلدتي، وقد تغيرت حياتي تماما بسبب ذلك المجلس.. والحمد لله رب العالمين.
بعد استماعي لشهادته، سرت في طريقي في مدينة التائبين، فوجدت أثناء سيري بناء فخما، فيه من كل المرافق، فتخيلت أنه قصر لبعض الأثرياء، لكني رأيت أولادا كثيرين في حديقته، يمرحون ويلعبون.. فدعاني ذلك إلى أن أسأل البواب عنه، فقال: هذا البناء من فضل الله علي، وقد كان قبل توبتي مسكنا يسكنه حرصي وجشعي وأنانيتي، لكنه تحول بعد توبتي إلى بيت لليتامى والمشردين، والذين لا يجدون كافلا يكفلهم.. لقد منّ الله علي بأن
__________
(1) إحياء علوم الدين، (3/ 167)
(2) المفيد في الاختصاص، ص 142.
(3) الكافي ج 2 ص 369.
(4) الكافي، ج 2 ص 369.
القرآن.. والعزاء والشفاء (322)
صرت أبا لهم جميعا.. وهم بحمد الله ينادونني بذلك.. وقد وجدت في ذلك سعادتي التي افتقدتها إبان سيطرة أنانيتي علي.
قلت: فكيف بدا لك أن تتوب؟.. ولماذا كانت توبتك بهذا الشكل؟
قال: الله يهدي من يشاء، ومتى يشاء.. فعندما أراد هدايتي هداني إلى مجلس من مجالس معلمنا الكاظم.. وقد رأيته حينها يتحدث عن اليتامى والمشردين، ويدعو إلى رعايتهم والإحسان إليهم.. ويخبر عن العقاب الشديد الذي ينال من ينهرهم أو يؤذيهم.. وقد جعلني ذلك أتذكر موقفا سيئا لي صفعت فيه بعض اليتامى المشردين، لكونه مد يده إلى بعض شؤوني، وقد تصورت أنه أراد سرقته، لكني اكتشفت أنه لم يكن ينوي ذلك..
وبعد تفكير طويل في موقفي، وفيما ذكرنا معلمنا الكاظم، قررت أن أحول قصري الذي كان محل فخري وكبريائي، إلى محل لهؤلاء الذين آذيتهم، وقد وفرت فيه من المعلمين والأساتذة والمربين، ما يجعل منهم أفرادا صالحين مؤمنين ناجحين في كل الشؤون.. والحمد لله أنا الآن أعيش أفضل أيام حياتي وأسعدها.. وأنا مدين فيها لذلك المجلس المبارك من مجالس معلمنا.
قلت: فهلا حكيت لي عنه..
قال: بكل سرور.. بل أنا كنت أنتظرك لأحكي لك حديثه، لعلك تجده مناسبا لكتابك.. فله ارتباط كبير بالقرآن الكريم، فلولا تعاليمه السامية لكنت الآن لا أزال سادرا في غيي.
سكت قليلا، ثم قال: عندما اقتربت منه في مجلسه، وهو يتحدث أشار يحييني
القرآن.. والعزاء والشفاء (323)
بابتسامة، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9]، ثم قال (1): هذا تعقيب على الإحسان الذي أفاضه الله وما سيفيضه على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والوارد في قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 3 ـ 8]، ومن حق هذا الإحسان أن يقابَل بالحمد والشكران لله رب العالمين.. وقد صرف الله سبحانه وتعالى هذا الحمد، وذلك الشكران إلى الضعفاء، والمحتاجين من عباده، فيكون حمده وشكره، بالإحسان إليهم، والرعاية لهم.. فلا نهر لليتيم، ولا كسر لخاطره، ولا ترك لمرارة اليتم تنعقد في فمه.. وإن أولى الناس برعاية اليتيم، وجبر خاطره، من عرف اليتم، ثم كفله الله.. وإنه لا نهر أي لا زجر للسائل، وهو من يقف موقف من يسأل، عما هو محتاج إليه، من طعام يسد به جوعه، أو علم يغذى به عقله، أو هدى يعرف به طريق الخلاص لروحه.. فإن السائل ضعيف أمام المسئول، ومن حقه على القوي أن يتلطف معه ويرفق به.. إنه أشبه بالضال الذي لا يعرف الطريق، والمسئول هو موضع أمله، ومعقد رجائه، في أن يخرجه من هذا الضلال، وأن يقيمه على الطريق المستقيم.
ثم قال (2): إن أطفال اليوم هم اللبنات الرطبة التي يشاد على كاهلها ـ في المستقبل ـ بناء المجتمع، هم رجال الغد، وبقدر ما يُبذل في تربيتهم وتقويمهم، بقدر ما يكون للأمة من مكانة وعزة، وبقدر ما يُهملون فتتمكن من قلوبهم أساليب الانحراف يكون للأمة من اختلال وضعف في القوى الموجهة لها، القائمة بشئونها.
ثم نظر إلي، وقال (3): واليتيم طفل من بين الأطفال قد فقد أباه، والعائل الذي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1602)
(2) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 68)
(3) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 68)
القرآن.. والعزاء والشفاء (324)
يرعاه.. فقد القلب الذي يحنو عليه، والروح الذي كان يحوطه ويرعاه فتقوى أعصابه وتنمو جوارحه، ويشرح صدره، وتبتسم له الحياة.. فقد بموت أبيه كل ذلك، وأسلمته المقادير إلى الكآبة وتشتت البال والحرمان.. فما أحوجه إلى عناية من الرؤوف الرحيم، تنتشله من تلك الوحدة، وتجعل له متنفسا يسري به عن نفسه ما أحوجه إلى تشريع حكيم، ووصية كريمة من رب رحيم، تحفظ عليه نفسه، وتحفظ له ماله، وتعده رجلا عاملا في الحياة، ليس كلا على غيره، ولا عبئا على أمته، ولا عنصر شر ينفث سمومه في أمثاله الأطفال.
ثم قال (1): لهذا كله، عنى القرآن الكريم بأمر اليتيم والحث على تربيته والمحافظة على نفسه وماله، وقد ظهرت عناية القرآن الكريم بشأن اليتيم منذ أن نزل، إلى أن أكمل الله دينه، وأتم على المؤمنين تشريعه، ظهرت في الآيات المكية حينما عاد الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن فتر عنه مدة طويلة، توجس الرسول منها أن يكون الله قد قلاه وأبغضه، فاجأه الوحي وهو في هذا التوجس مؤكدا له حسن رعاية الله إياه، وأخذ يثبت ذلك في نفسه، ويذكر بعناية الله له قبل النبوة وهو أحوج ما يكون إلى عطف الأبوة التي فقدها ولم يرها ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: 6]، ثم يطلب منه الشكر على تلك النعمة، وأن يكون شكرها من جنسها، عطف على اليتيم ورحمة به ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9].. وظهرت في المكي أيضا إذ جعل الله ازدراء اليتيم وإهمال أمره، آية من آيات التكذيب بيوم الدين، كما قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ [الماعون: 1 ـ 2] وإذ يجعل الوصية به إحدى الوصايا العشر التي لم تنسخ في ملة من الملل؛ وينظمها مع الإيمان بالله في سلك واحد ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 151] إلى أن يقول ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
__________
(1) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 68)
القرآن.. والعزاء والشفاء (325)
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الإسراء: 34]
سكت قليلا، ثم قال (1): وقد تأثرت نفوس المؤمنين بهذه الوصايا المكية التي جاءت في شأن اليتيم، وصاروا من أمره في حرج وحيرة؛ أيتركون القيام عليه فيفسد أمره ويختل شأنه، أم يقومون عليه ويعزلونه من أبنائهم في مأكله ومشربه فيشعر بالذلة والمسكنة أم يخالطونه فيعرضون أنفسهم لأكل شيء من ماله؟ أم ماذا يفعلون؟.. والتمست نفوسهم ما ينقذهم من هذه الحيرة، ويخفف عنهم عبء هذه المسؤولية التي ثقل بها كاهلهم، وعندئذ نزل قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220]، فأفهمهم أن المخالطة مع العدل والإصلاح من مقتضى ما بينهم من الأخوة الإنسانية والدينية والرحم.
ثم راح يذكر ما ورد في سور القرآن الكريم حول اليتامى، فقال (2): ثم جاءت سورة النساء وبرزت فيها عناية خاصة باليتيم في شأنه كله، ومهدت لهذه العناية بطلب تقوى الله والأرحام، وبيان أن الناس جميعا خُلقوا من نفس واحدة، فاليتيم حتى وإن كان من غير أسرتكم، أخوكم ورحمكم، فقوموا له بحق الأخوة وحق الرحم واحفظوا أمواله، وهذبوا نفسه، واحذروا اغتيالها وأكلها، واحذروا إهماله وإلقاء حبله على غاربه، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، ويقول: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
__________
(1) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 69)
(2) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 69)
القرآن.. والعزاء والشفاء (326)
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6]
سكت قليلا، ثم قال (1): هذا بعض ما نقرأ في القرآن من وجوه العناية باليتيم، في ماله وتربيته وتهذيبه.. وقد ورد في الهدي النبوي الوعود الكثيرة برفع الدرجات فيما يختص بكفالة اليتيم، والقيام بحقه وواجبه وحسب من كفل اليتيم ورعاه وقام بوصايا الله فيه، أن يكون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة صاحبا وقرينا، يتمتع بما فيها من النعيم، كما متع اليتيم برعايته، وحسن معاملته، والإشراف عليه.
ومن تلك الأحاديث التي رواها لنا، والتي لا أزال أحفظها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا (2).. وقوله: (من قبض يتيما من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه، أدخله الله الجنة البتة، إلا أن يكون قد عمل ذنبا لا يغفر)(3).. وقوله: (خير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يساء إليه)(4).. وقوله: (ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم شيطان)(5).. وقوله: (أربع من كن فيه بني الله له بيتا في الجنة: من آوى اليتيم، ورحم الضعيف، وأشفق على والديه، ورفق بمملوكه)(6).. وقوله: (ألا من كان في منزله يتيم فأشبعه أو كساه، ولم يؤذه ولم يضر به، يقبل منه عمله)(7).. وقوله: (من ضم يتيما بين أبوين مسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة البتة)(8)
ومن تلك الأحاديث التي جعلتني أفكر في القيام بما قمت به قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بكى اليتيم في الأرض قال الله عز وجل: من أبكى عبدي هذا اليتيم الذي غيبت أبويه أو أباه في
__________
(1) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 70)
(2) البخاري (5304)، وأبو داود (5150)، والترمذي (1918)
(3) الترمذي (1917)
(4) ابن ماجة (3679)
(5) الطبراني في الأوسط 7/ 163 ـ 164 (7165)
(6) من لا يحضره الفقيه 4/ 254.
(7) مشكاة الأنوار ص 167 و168.
(8) مشكاة الأنوار ص 167 و168.
القرآن.. والعزاء والشفاء (327)
الأرض؟ فتقول الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، فيقول الله عز وجل: أشهدكم ملائكتي أن من أسكته برضاه فأنا ضامن لرضاه من الجنة)، قيل: يا رسول الله، وما يرضيه؟ قال: (يمسح رأسه أو يطعمه تمرة)(1).. وقوله: (أشبع اليتيم والأرملة، وكن لليتيم كالأب الرحيم، تعط كل نفس تنفست في الدنيا قصرا في الجنة، كل قصر خير من الدنيا وما فيها)(2).. وقوله: (حث الله عز وجل على بر اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمن صانهم صانه الله، ومن أكرمهم أكرمه الله، ومن مسح يده برأس يتيم رفقا به جعل الله له في الجنة بكل شعرة مرت تحت يده قصرا أوسع من الدنيا بما فيها، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون)(3).. وقوله: (لكل شيء حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع: مسح رؤوس اليتامى، والتعطف على الأرامل، والسعي في حوائج المؤمنين، والتفقد للفقراء والمساكين)(4)
ومثل ذلك حدثنا بما روي عن أئمة الهدى من الدعوة لتلك الوصايا القرآنية والنبوية، ومنها قول الإمام علي: (من آوى اليتيم ورحم الضعيف وارتفق على والده ورفق على ولده ورفق مملوكه أدخله الله تعالى في رضوانه ويسر عليه رحمته، ومن كف غضبه وبسط رضاه وبذل معروفه ووصل رحمه وأدى أمانته جعله الله تعالى في نوره الأعظم يوم القيامة)(5)
وحدثنا عن الإمام الباقر أنه قال: (أربع من كن فيه كمل إسلامه، وأعين على إيمانه، ومحصت ذنوبه، ولقي ربه وهو عنه راض، ولو كان فيما بين قرنه إلى قدمه ذنوب حطها الله
__________
(1) مشكاة الأنوار ص 167 و168.
(2) مشكاة الأنوار ص 167 و168.
(3) بحار الأنوار ج 72 ص 12.
(4) فضائل ابن شاذان ص 153.
(5) الأشعثيّات ص 166.
القرآن.. والعزاء والشفاء (328)
تعالى عنه، وهي: الوفاء بما يجعل الله على نفسه، وصدق اللسان مع الناس، والحياء مما يقبح عند الله وعند الناس، وحسن الخلق مع الأهل والناس.. وأربع من كن فيه من المؤمنين أسكنه الله في أعلى عليين في غرف في محل الشرف، كل الشرف: من آوى اليتيم ونظر له فكان له أبا، ومن رحم الضعيف وأعانه وكفاه، ومن أنفق على والديه ورفق بهما وبرهما ولم يحزنهما، ولم يخرق لمملوكه وأعانه على ما يكلفه ولم يستسعه فيما لم يطيق به)(1)
ثم ختم حديثه بقوله (2): هذا هو إرشاد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في تهيئة اللبنات التي تبني المجتمع الإسلامي والتي يشاد عليها صرحه، فيرتفع بناؤه، ويعظم ظله، وتكثر ثماره، فيا أيها الأعمام، ويا أيها الأوصياء كونوا في الإشراف على اليتامى في حذر من غضب الله، واعلموا أن إهمال اليتيم لا يقف ضرره عند اليتيم، بل هو ضرر، تتفشى جراثيمه، وتنتشر سمومه في جسم الأمة كلها، فيعتريها الضعف والانحلال، وتبوء بالخزي والدمار، وشر بيت ـ كما يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ بيت فيه يتيم يساء إليه، والأمة بيت، فشر أمة، أمة فيها يتامى يساء إليهم فيهمل أمرهم، وتفسد أخلاقهم، وتنقطع صلتهم بخالقهم، ويكونون لبنات هزيلة في بناء الأمة، فتسقط من عليائها وتصبح أثرا بعد عين.
ثم نظر إلي، وقال (3): إن الدهر قُلّب، والناس في سفينة تتقاذفها أمواج الحياة ـ ترفعها تارة وتخفضها أخرى، ولا عاصم إلا من رحم الله، ولا يرحم الله إلا من امتثل أمره، واتبع هداه، ومن كان تحت يده يتيم فليذكر غيرة الله على اليتيم، وليذكر أن ما نزل بغيره فترك أولاده أيتاما قد ينزل به، فيترك أولاده هو الآخر أيتاما: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
__________
(1) أمالي الطوسي ج 1 ص 192.
(2) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 70)
(3) منهج القرآن في بناء المجتمع، محمود شلتوت، (ص 70)
القرآن.. والعزاء والشفاء (329)
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 9 ـ 10]
لم يقتصر التائبون من أهل تلك المدينة على تلك الأنواع من الإصلاح وشبيهاتها، بل تعداه إلى الإصلاح الفكري، حيث رأيت في كثير من المحال منشورات لأشخاص، يذكرون توبتهم من أفكار كانوا ينشرونها، أو آراء كانوا يصرحون بها.
ومن المشاهد ما رأيته عن رجل في الطريق، يضع على طاولة كتبا، تصورت في البداية أنه يبيعها، أو يعرف بها، لكني فوجئت به يحذر منها، فتقدمت إليه، وسألته عن صاحبها، فقال: أنا هو صاحبها.
قلت: قصدت مؤلفها.. ولم أقصد مالكها.
قال: أنا مؤلفها.
قلت: عجبا.. عهدي بالمؤلفين يرغبون في مؤلفاتهم، ويدعون القراء إلى قراءتها، ويستعملون كل الوسائل لذلك.
قال: لكني لست مؤلفا عاديا.. أنا مؤلف تائب.
قلت: ما تعني؟
قال: لقد نشرت بكتبي هذه الكثير من الشبهات والضلالات والبدع والأهواء.. فلذلك رحت أحذر منها قبل أن تتحول إلى نيران تحرقني.
قلت: لكنها أفكارك.. ولا بأس أن يتراجع الشخص عن بعض أفكاره.
قال: لا.. بل هي وساوس شيطانية، فلم يدفعني إليها لا بحث ولا نظر ولا عقل
القرآن.. والعزاء والشفاء (330)
ولا فكر.. وإنما رغبتي في الشهرة، وفي أن آتي بجديد يجعل لي من الجاه ما لم يتح للكتاب العاديين.
قلت: فكيف بدا لك أن تتوب؟
قال: الله تعالى هو الذي يسر لي ذلك.. وقد أرسل لي عبده الصالح معلمي الكاظم.. فسمعت منه من الكلمات النورانية ما راح يزيح الظلمات التي كنت أسكن فيها.. وأدعو غيري إلى السكن فيها.
قلت: فهلا حدثتني بحديثك معه.
قال: أجل.. فلعله إن رأيته مناسبا أن تضعه في كتابك.. ويكون ذلك كفارة لي عن بعض ذنوبي.
قلت: سأفعل إن شاء الله بشرط واحد، وهو أن يكون له علاقة بالقرآن الكريم، فأنا لم يؤذن لي في أن أسجل سوى ما يرتبط بالقرآن الكريم أو ما يبينه من الهدى والنور.
قال: معلمنا الكاظم لم يكن يحدثنا إلا بالقرآن الكريم، فكل أحاديثه تبدأ به وتنتهي إليه.. وقد كان أول مجلس حضرت إليه فيه بعد أن سمعت بحضوره لبلدتنا قراءته الخاشعة المؤثرة لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى أن كثيرا من الناس يثيرون الشبهات أمام أحكام الله وتعاليمه، لمجرد إرباك الموقف، وتضليل الخطى.. وهي شبهات تثار على أساس الأهواء والشهوات، ولا مجال لإدارة الحوار حولها، لأنها لا تستند إلى أساس للأخذ والرد، بل كل ما يحمله دخولها هو المزيد من الأوهام والضباب والدخان،
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 303)
القرآن.. والعزاء والشفاء (331)
الذي يحجب الرؤية قليلا، ثم يضيع في الهواء.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: 3]، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: 8 ـ 10]، ثم قال (1): هذه الآيات الكريمة تتحدث عن صنفين من المجادلين بغير علم.. أما أولهما، فهو من يتصدى بجهله، لكل رأى، ويدخل في كل قضية، آخذا الطرف المنحرف منها، دون أن يكون له رأى نظر فيه بعقله، وهدى إليه بتفكيره، وإنما هو الخلاف عن هوى وعمى، ليثبت وجوده أمام نفسه، ويعلن عن ذاته بأنه من أصحاب الرأى، وأنه إذا كان للعلماء ما يقولون، فإن له هو ما يقول.
سكت قليلا، ثم قال (2): أما الصنف الثاني، فهو يشمل من يجادلون بغير علم من أنفسهم، أو بهدى من غيرهم، أو عن كتاب صحيح في أيديهم، ليجمع الواحد منهم هذه الضلالات كلها.. فيكون جاهلا في نفسه، ثم يكون متأبيا على من يدعوه إلى العلم، ثم يكون مع هذا غير ناظر في كتاب صحيح.. ومع هذا فهو يجادل في الحق، ويدفعه بيديه دفعا، وقد يجادل أحدهم وهو جاهل لا علم عنده، ولكنه يردد كلمات سمعها من غيره دون أن يعقلها، ويتعرف إلى ما فيها من هدى وضلال.. ثم يتخذ من هذه الكلمات مادة للجدل.. وقد يستند أحدهم في جدله إلى كتاب قد دخل عليه الافتراء والكذب، فاختلط فيه الحق بالباطل، وفي ذلك تعريض بأهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ الذين زيفوا التوراة، ثم استقبلوا بها النبى صلى الله عليه وآله وسلم يجادلونه، ويحاجونه بما فيها من أحكام وأخبار، وهذا ما يشير إليه قوله
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 992)
(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 992)
القرآن.. والعزاء والشفاء (332)
تعالى: ﴿وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان: 20].. فالكتاب الذي كان منحرفا، غير ملتزم طريق الحق، كان قوة عاتية من قوى الضلال والفساد. إنه يقود إلى الضلال والظلام.
عندها سأله بعض الحاضرين عن معنى قوله تعالى: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: 9]، فقال (1): إن هذا المجادل الجهول، يجادل، وهو ثان عطفه، أي مائل بجنبه، تيها وكبرا، واستنكافا عن أن يسمع دعوة الحق، وهو مقبل عليها بوجهه، بل يعطيها ظهره، أو يلقاها بجنبه، إمعانا في الكبر، ومبالغة في العناد.. وفي قوله تعالى: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: 9] إشارة إلى أنه بفعله هذا قد أراد أمرا، هو إضلال نفسه، وإبعادها عن الخير.. إنه يحسب أنه يكيد بهذا لمن يدعوه إلى الله، وهو في الواقع إنما يكيد لنفسه، ويوردها موارد الهلال، كما يورد الذين اتبعوه هذا المورد.. ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ [الحج: 9] وذلك بما يرى من إعزاز الله للنبى والمؤمنين، ومن خذلانه سبحانه وإذلاله لجبهة الكافرين والمشركين، الذين كان هذا الضال مظاهرا لهم، ومحاربا في جبهتهم.. ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: 9] وكما أنه لم يكن يقع في حسابه أن يجيء اليوم الذي تنهار جبهة الكفر، وتتعفر فيه جباه الكافرين بالتراب، وقد جاء هذا اليوم الذي أخزاه وأذله، كذلك لم يكن يقع في تقديره أن يُبعث، وأن يجيء يوم القيامة، وأن يحاسب على ما قدم من آثام ـ ألا فليعلم أن هذا اليوم آيات لا ريب فيه، وسيلقى العذاب المهين في الآخرة، كما لقى الخزي والهوان في الدنيا.
ثم راح يقرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: 10]، ثم قال (2): أي أن ذلك العذاب الذي يساق إليه هذا الضال وأمثاله، إنما هو
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 993)
(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 994)
القرآن.. والعزاء والشفاء (333)
بسبب ما قدمت يداه من سوء، فوجد هذا السوء حاضرا، ينتظره على مشارف جهنم.. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: 10].. بل يجزيهم بما عملوا من حسن أو سوء: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31].. وفي نفى المبالغة في الظلم عن الله في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: 10] إشارة إلى أن ما يلقى الضالون، والآثمون من عذاب في الآخرة، جزاء ما عملوا هو عذاب شديد، وبلاء عظيم، لم يعرفه الناس في حياتهم الدنيا.. وحتى أن الناظر إلى سوء هذا العذاب ليستكثره، ويرى أن لا ذنب ـ وإن عظم ـ يستحق به صاحبه بعض هذا العذاب، وحتى ليقع في نفسه أن ظلما شديدا وقع على هذا الإنسان المنكود، الذي يشوى بنار جهنم، هكذا على مدى السنين والدهور.. لا يموت فيها ولا يحيا.. وكلا، فإنه لا ظلم، ولا مبالغة في ظلم، وإنما هو الحق، والعدل، وإن كان عذاب السعير، والخلود في هذا العذاب.
وعندها سألناه عن مصدر تلك الضلالات، قرأ قوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: 3]، ثم قال (1): هذه الآية الكريمة تشير إلى أن هذا الصنف من الناس، لا يسعى إلى تحصيل علم في الأمر الذي يجادل فيه، وهو البعث، وكأنه أمر لا يعنيه، ولا يريد أن يدخل على نفسه أى شعور به، يزحزح تلك المشاعر التي ارتبط بها بالدنيا.. فهو منقاد لهواه، متبع لشيطانه.. وهو شيطان قوي بالنسبة لهذا الإنسان الأحمق، الذي التقى هواه مع هوى الشيطان.. ولهذا قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 4]، هو وصف للشيطان، وهو أنه قد كتب عليه، أي حكم عليه من الله سبحانه وتعالى ألا يتولاه، ويستجيب له، إلا الضالون الخاسرون من عباده، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 974)
القرآن.. والعزاء والشفاء (334)
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42]، وقال: ﴿اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا﴾ [الإسراء: 63]
ثم ذكر لنا نماذج كثيرة عن تلك الأهواء التي كان المضللون يستعملونها لحجب الهداية، وقد كنت أحدهم، وقد شعرت أن كل كلمة يقولها كانت موجهة لي شخصيا.
ومن ذلك قراءته الخاشعة لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النحل: 24 ـ 26]، ثم قال (1): هذه الآيات الكريمة تتحدث عن منطق المستكبرين المضللين في مواجهتهم للحقائق.. وهي تذكر أنه إذا قيل لهم: ما ذا أنزل ربكم؟.. وهل فكرتم في مضمونه؟.. وهل حاولتم الانفتاح عليه من موقع التأمل والحوار لتصلوا إلى الحقيقة الكاملة الكامنة فيه؟.. فالانطلاق من موقع الحوار أو التأمل يؤمن للفكرة نضجا وعمقا وثباتا، وهو موقع مسؤول لم يعتمده المستكبرون المضللون في مواجهة الرسالة لعدم رغبتهم في التنازل عن مواقعهم الموروثة عن آبائهم، وعن تقاليدهم وعاداتهم المرتكزة على مفاهيم الجاهلية، الرافضة للتغيير، لذا فإنهم يواجهون الحقائق بمواقف انفعالية يعبرون عنها بسلوكهم وكلماتهم، حتى إذا ما سئلوا عما أنزل الله عليهم ـ من خلال رسوله ـ وعن قيمته الفكرية، ﴿قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [النحل: 24] فيما يقصه من حكايات تشبه الخرافات والأساطير، وما يذكره عن الآخرة، في نعيمها وجحيمها، وفي كل ما تشتمل عليه من أجواء ومواقف وقضايا
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 211)
القرآن.. والعزاء والشفاء (335)
ومفاهيم.
نظر إلي، وقال (1): لكن ما هو مفهومهم عن الأسطورة؟.. هل هي القصة أو الفكرة التي لا تتناسب مع مألوفاتهم، أو هي ما لا يتناسب مع مقاييس الواقع؟.. وما هي مفاهيمهم حول الغيب؟.. وهل يمكن اعتبار أية قضية غيبية خرافة، حتى لو كان للغيب أساس يقر العقل بواقعيته؟.. إنها علامات استفهام ترتسم أمام الذهن، عند ما يسمع مثل هذا الحكم الانفعالي السريع الذي يلتقي فيه أولئك المستكبرون، مع كثير ممن يطلقون على التفكير الديني، أو القصص الديني، صفة (الأسطورة) دون الدخول في حوار فكري حول مفهوم الكلمة، وطبيعة القصة ودائرة الفكر..
سكت قليلا، ثم قال (2): إنهم يطلقونها شتائم هدفها محاربة طروحات الرسالة، بإثارة الأجواء التي تهزم الفكرة عبر خلق حالة انفعال تثير الدخان الذي يحجب الفكرة عن أجواء الصفاء والهدوء.. وهذا هو الأسلوب السلبي الذي يحمل أصحابه المسؤولية أمام الله، لأنهم بذلك لا يخطئون في قضية شخصية ضد شخص آخر، بل يتحول الخطأ إلى جريمة في حق الأمة التي يبتعد بها هذا الأسلوب عن الوعي والروحية والشرعية التي تحكم حركة الواقع للناس، وهذا ما أرادت الآية التالية تقريره بشكل حاسم.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [النحل: 25]، ثم قال: ليتحملوا أوزار إساءتهم إلى أنفسهم في الانحراف عن خط الاستقامة في جانب العقيدة والعمل، ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: 25] فيما يبعدونهم عن الحق، فيتحولون ـ من خلال ذلك ـ إلى عناصر كافرة أو ضالة، بكل ما يمثله الكفر والضلال من
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 212)
(2) من وحي القرآن (13/ 212)
القرآن.. والعزاء والشفاء (336)
جريمة بحق مصيرهم في الدنيا والآخرة، من دون أن يرجع ذلك إلى أساس من علم، بما يقتضيه العلم من حجة تتحرك في خط الحوار أو برهان ينطلق في حركة العقل ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25] بما يعنيه الوزر من الثقل الذي يطبق بنتائجه السلبية، وبعواقبه الوخيمة، على الروح والحياة والمصير.. وأي وزر أكثر سوءا من هذا الوزر الذي يدفع بالإنسان إلى نار جهنم، وغضب الله وسخطه!؟
ثم راح يذكر المصير الذي ينتظر هؤلاء، والذي ملأني بالمخافة، بل جعلني أراه رأي العين.. لقد قرأ قوله تعالى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [النحل: 26 ـ 29]
ثم قال (1): أي إن حال من قبلهم وقد دبروا الحيل ونصبوا الحبائل ليمكروا بها رسل الله فأبطلها الله وجعلها سبيلا لهلاكهم، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فضعضعت أساطينه، وسقط عليهم السقف، فهلكوا تحته من حيث لا يشعرون بسقوطه، فما نصبوه من الأساطين وظنوه سبب القوة والتحصين في البنيان صار سبب الهلاك، كذلك هؤلاء كانت عاقبة مكرهم وبالا عليهم.. وبعد أن بين سبحانه ما حل بأصحاب المكر في الدنيا من العذاب والهلاك، بين حالهم في الآخرة فقال: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ﴾ [النحل: 27] أي ثم إن ربك يوم القيامة يخزيهم بعذاب
__________
(1) تفسير المراغي (14/ 71)
القرآن.. والعزاء والشفاء (337)
أليم، ويقول لهم حين ورودهم عليه على سبيل الاستهزاء والسخرية: أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا وتتولونهم، والولي ينصر وليه.. والمراد من المشاقة فيهم مخاصمة الأنبياء وأتباعهم في شأنهم وزعمهم أنهم شركاء حقا حين بينوا لهم ذلك، والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والاحتقار لشأنهم، إذ كانوا يقولون: إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا.
سكت قليلا، ثم قال (1): ثم ذكر الله تعالى مقال الأنبياء والمرسلين في شأنهم يوم القيامة، فقال: ﴿قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [النحل: 27]، أي قال الذين أوتوا العلم بدلائل التوحيد وهم الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنون الذين كانوا يدعونهم في الدنيا إلى دينهم، فيجادلون وينكرون عليهم: إن الذل والهوان والعذاب يوم الفصل على الكافرين بالله وآياته ورسله.. ومرادهم بهذه المقالة الشماتة وزيادة الإهانة للكافرين.. ثم بين أن الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم فقال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [النحل: 28] أي الكافرين الذين تقبض ملائكة الموت أرواحهم وهم ظالموا أنفسهم ومعرضوها للعذاب المخلد بكفرهم، وأي ظلم للنفس أشد من الكفر؟.. ثم ذكر حالهم حينئذ من الخضوع والمذلة فقال: ﴿فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: 28] أي فاستسلموا وانقادوا حين عاينوا العذاب قائلين: ما كنا نشرك بربنا أحدا، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة.. ثم أكذبهم سبحانه فيما قالوا فقال: ﴿بَلَى إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) تفسير المراغي (14/ 72)
القرآن.. والعزاء والشفاء (338)
عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 28] أي بل كنتم تعملون أعظم السوء وأقبح الآثام والله عليم بذلك، فلا فائدة لكم في الإنكار والله مجازيكم بأفعالكم.. ثم بين ما يترتب على قبيح أفعالهم فقال: ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [النحل: 29] أي فادخلوا طبقات جهنم، وذوقوا ألوانا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي ـ خالدين فيها أبدا، وبئس المقيل والمقام دار الذل والهوان لمن كان متكبرا عن اتباع الرسل والاهتداء بالآيات التي أنزلت عليهم، وما أفظعها من دار، وصفها ربنا بقوله: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: 36]
سكت الكاتب قليلا، ثم قال: وهكذا، ومنذ تلك الجلسة، صرت أحضر مجلسه كل حين، بل إني زرته في مدينته، واستضافني في بيته أياما.. وقد سمعت منه ما جعلني أقرر هذا القرار الذي تراني أفعله.. والحمد لله هو يؤتي أكله كل حين.. وأنا أشعر أني أكثر سعادة بكثير مما كنت عليه.. بل إني وجدت القراء أكثر احتراما لي، وأكثر إقبالا على الكتب الجديدة التي ألفتها، والتي لم يكن لها من دور سوى الرد على كتبي القديمة.. وأرجو أن يتقبل الله مني توبتي، ويغسل حوبتي.
ومن المشاهد التي صادفتها في الطريق في بلدة التوابين، أني رأيت رجلا يصيح بصوت عال، مختلط بحزن شديد: أرجو من كل شخص أفتيته في أي مسألة من مسائل الدين أو العلم، أن يتصل بي لأذكر له حقيقة الأمر.. فأنا قد كنت جريئا على الفتوى والعلم.. وأرجو أن تخبروا بذلك كل من تعرفون.. وستجدوني كل يوم في هذا المحل.. وكل من يأتيني لن أكتفي بتصحيح الخطأ الذي أوقعته فيه فقط، بل سأتكفل له بكل ما
القرآن.. والعزاء والشفاء (339)
انجر عن خطئي من مشاكل ومصائب.
بقيت أتبع الرجل، وهو يردد هذا الكلام مرات عديدة إلى أن تعب، وجلس تحت ظل شجرة، وهو يبكي، فاقتربت منه، وقلت: هون من شأنك، وامسح الدموع عن عينيك، فالله تعالى قد قبل توبتك ما دمت قد ندمت.. فالندم توبة.
غضب، وقال: ما تقول يا رجل.. لو كان الندم وحده توبة، لما قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160]، فقد كان يكفيه أن يذكر التوبة وحدها.
قلت: ولكني أراك بحمد الله تفعل ما لم أعهد من التائبين فعله؟
قال: فهل ترى تقصيرهم يعفيني من مسؤوليتي؟
قلت: لا.. ولكن طلبت منك فقط أن تحسن ظنك بربك.
قال: معاذ الله أن أسيء الظن بربي.. بل أنا أسيء الظن بنفسي.. وأطلب منها أن تصحح ما وقعت فيه من أخطاء.. فالتوبة ليست مجرد دعوى.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123 ـ 124]؟
قلت: بلى.. ولكن..
قال: أنت تذكرني بنفسي التي كانت تكثر دائما من قول (لكن) عندما تسمع الحقائق، فبدل أن تخضع لها تجادل فيها.
لم أجد ما أقول له، فقال: سأقص عليك قصتي، لتعذرني.. ولعلك تجدها صالحة لكتابك.. ولا تخف، فليس فيها إلا القرآن والنور والهدى.
القرآن.. والعزاء والشفاء (340)
قلت: يسرني ذلك كثيرا.
قال: لقد كنت امرؤا صاحب مال كثير، لكني رأيت أن المال وحده لا يجلب لي الجاه والعز والسلطان على القلوب، فلذلك رحت أدعي أني أجمع بين العلم والمال، وصرت أفتي في كل شيء.. حتى أني صرت قبلة للزوار، لست أدري هل كانوا يقصدون مالي الذي كنت أبذله لهم بسخاء، أم علمي الذي كنت أكذب به عليهم؟.. وقد ظللت على هذا مدة من الزمن إلى أن حضر معلمنا الكاظم لهذه المدينة.
وعندما سمعت به رحت لأتباهى أمامه بعلمي، فسمعته يقرأ قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر: 83]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى أن المنحرفين عن الهداية حين جاءتهم رسلهم بالبينات، استخفوا بهم وبما معهم، واغتروا بما في أيديهم من أباطيل، وفرحوا بها، واطمأنوا إليها.. فأحاطت بهم خطيئتهم، ووقع بهم البلاء، جزاء لاستهزائهم بهذه الآيات البينات.. وفي قوله تعالى: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر: 83] إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: 75]، فهم قد فرحوا بهذا الباطل الذي بأيديهم، وعدوه كل حظهم من الحياة، ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ [غافر: 84] أي: حين رأى هؤلاء المكذبون برسل الله نذر العذاب تطلع عليهم آمنوا بالله، وقالوا: آمنا بالله وحده، لا شريك، وكفرنا بتلك المعبودات التي كنا بسبب عبادتها مشركين بالله.. ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 85].. بهذه الآية
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1275)
القرآن.. والعزاء والشفاء (341)
تختم السورة الكريمة، وفي هذا الختام عرض لموقف الضالين جميعا، حين يرون بأس الله يحيط بهم.. إنهم إذ ذاك يقولون: آمنا بالله ولكن لا يقبل منهم هذا الإيمان، وقد حل بهم البلاء. فتلك هي سنة الله.. إنه لا ينفع إيمان في غير وقته، وإنما الذى ينفع هو حين يكون الإنسان في سعة من أمره، وفي قدرة على امتلاك الأمر فيما يختار من إيمان أو كفر، أما هذا الإيمان الذي يقع تحت حكم الاضطرار والقهر، فهو إيمان باطل، لا إرادة للإنسان فيه.. ومن ثم فلا يحسب له، ولا يعد من كسبه، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: 158]
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، ثم قال (1): هذه قاعدة قرآنية في منهج المعرفة الذي يكون أساسا للإيمان والعمل، في المجال السلبي الذي يتحول إلى المجال الإيجابي، وذلك بالابتعاد عن المجال الأول.. وقد أكد القرآن عليها في أكثر من آية، وواجه الكافرين والمنحرفين بالمسؤولية، من خلال انحرافهم عنها فيما ادعوه من إيمان، وفيما أثاروه من حركة، أو قاموا به من مشاريع، لأنهم لم يأخذوا بالوسائل المشروعة للمعرفة، بل ارتكزوا على ما لا قيمة له في حساب المسؤولية.
ثم نظر إلي، وقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، وكررها مرات متعددة، وكأنه يوجه الخطاب لي، ثم قال (2): أي لا تتبع في قولك أو عقيدتك أو عملك ما لم ترتكز فيه على أساس من علم يتمثل بالحجة التي تكشف الحقيقة، وتجلو الغموض، وتثبت الفكر، وتؤدي إلى الإيمان المستقر الثابت في عمق الفكر والشعور.. وهذا
__________
(1) من وحي القرآن (14/ 115)
(2) من وحي القرآن (14/ 116)
القرآن.. والعزاء والشفاء (342)
ما يتمثل في اليقين القاطع الذي لا مجال معه لأي احتمال مضاد، أو في الاطمئنان النفسي أو الفكري للفكرة بحيث لا يمثل الاحتمال المضاد شيئا مهما أمام المستوى الكبير من الرجحان في جانب الإيجاب، أو في الوسائل العقلانية أو الشرعية التي اعتمدها العقلاء أو صاحب الشريعة كأساس للمعرفة، بحيث تمثل الحجة المقبولة أمام الله.
سكت قليلا، ثم قال (1): ولعل هذا هو المراد من كلمة (العلم) ـ فيما جاء في القرآن من هذه الكلمة ـ فقد لا يكون المقصود بها القطع الذي لا يحتمل الخلاف، بل الوعي للفكرة بالمستوى الذي لا قيمة فيه لهذا الاحتمال، إما لضعفه بحيث لا يعتنى به في حركة الوجدان، وإما لقيام الدليل في بناء العقلاء وفي تعليمات الشرع، على عدم الالتفات إليه، ويقابله الشك والظن اللذان أطلقا على ما لا حجة فيه من ناحية ذاتية أو جعلية.. وإذا لم يكن ما قلنا مضمونا وضعيا للكلمة، فلا أقل من أن يكون اللفظ منصرفا إليه، لكثرة استعماله فيه.
ثم قال (2): وعلى ضوء ذلك، أنكر القرآن العلم على الملحدين والمشركين والمنكرين للنبوة والرافضين للمعاد، لأنهم لم يرتكزوا في أفكارهم ورفضهم على أساس من الحجة التي تثبت أمام النقد، وتكشف الحقيقة، وتواجه الفكرة المؤمنة بالفكر العلمي المنفتح، بل اعتمدوا في ذلك على بعض الوسائل التي لا تمثل شيئا في حساب القيمة العلمية، كالاستناد إلى عقائد الآباء الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، والارتكاز على عنصر الاستبعاد لبعض الأفكار التي لم يألفوها لأنها لا تدخل في نطاق الحس في الوقت الذي تؤكدها المعادلات العقلية، أو الوقوف أمام الأفكار الجديدة التي يثيرها الأنبياء أمامهم، بشأن مسألة النبوة أو الوحي أو المضمون الفكري أو التشريعي للرسالات، من دون أن يدرسوا البراهين التي
__________
(1) من وحي القرآن (14/ 116)
(2) من وحي القرآن (14/ 116)
القرآن.. والعزاء والشفاء (343)
يقدمها الأنبياء، والحجج التي يدعمون بها رسالاتهم ويدعون الناس إلى الدخول معهم في حوار حولها ليتأملوا فيها، أو يفكروا بها، وليناقشوها من موقع الفكر والوعي، فيرفضون ذلك كله، ويبادرون إلى الرفض والإنكار والمواجهة، ويجمدون عقولهم وأبصارهم وأسماعهم عن الحركة في هذا الاتجاه.. ولهذا عبر القرآن عنهم بأنهم لا يعلمون، لأنهم لا يملكون أساس العلم فيما يؤمنون به أو فيما يرفضون، فليست المشكلة لديهم هي الحجة المضادة، بل هي عدم استنادهم في الأمرين معا إلى الحجة البالغة الواضحة.
سكت قليلا، ثم قال (1): ومقصود الآية الكريمة هو توجيه الإنسان إلى الأخذ بأسباب العلم، من خلال النهي عن اتباع ما ليس له به علم، فإن نفي الأخذ بالسلب يؤكد ضرورة الأخذ بالإيجاب.. وهذا ما ينبغي أن يلتزمه المسلمون في فكرهم العقدي والعملي على مستوى المفاهيم العامة والتشريعات العملية والأسس والأخلاقية، بحيث يؤكدون على الأساس العلمي الذي يمثل جانب الحجة المقنعة أو الدامغة، تماما كما لو كانت المسألة مسألة فتوى شرعية بالوجوب أو بالتحريم، لأننا لا نجد فرقا بين الحديث عن الحكم الشرعي والحديث عن المفهوم الإسلامي العقيدي والأخلاقي في اعتباره حكما إسلاميا على مستوى الفتوى، غير أن تلك فتوى في التشريع، وهذه فتوى في العقيدة والأخلاق، فهما سواء في مسئولية انتساب الرأي إلى الله ورسوله، مما لا يجوز إلا بحجة قوية واضحة، وربما كان التسامح في تفاصيل العقيدة أو في مفردات الأخلاق أكثر خطورة وتأثيرا على الإسلام من التسامح في حكم شرعي جزئي على مستوى بعض المجالات العبادية الخاصة.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:
__________
(1) من وحي القرآن (14/ 117)
القرآن.. والعزاء والشفاء (344)
36]، ثم قال (1): وذلك باعتبار أن هذه هي وسائل المعرفة الحسية والعقلية التي تعتبر الحجة على الحقيقة، فيسأل السمع عما سمع، وكيف سمع، وما النتائج الصحيحة لذلك؟ ويسأل البصر، عما رأى، وكيف رأى، وما النتائج؟ ويسأل الفؤاد ـ وهو العقل ـ عما وعاه من حقائق الحياة التي ترصدها الحواس الخمس وتكتشفها الملاحظة، وكيف كانت تفاصيل وعيه، وكيف استطاع أن يحتوي ذلك كله ليحوله إلى معادلة عقلية ثابتة كأساس للمعرفة والإيمان؟
ثم التفت لي، وقال (2): إن الله سيسأل هذه الوسائل الداخلية والخارجية عن طبيعة النتائج التي اختزنها الإنسان في وعيه، مما يتصل بدورها في عالم المعرفة لديه، فهل هو صادق فيما يملكه من مصادر المعرفة، أو غير صادق في ذلك؟ وستجيب بالحقيقة الموضوعية في حياته، وتتحدد ـ من خلال ذلك كله ـ طبيعة التقييم لقناعته، ونوعية المسؤولية التي يواجهها على هذا الأساس، ولن يستطيع أن ينكر شيئا من ذلك، لأن الشهادة لا تأتيه من الخارج، بل من الداخل الذي يصرخ بالحقيقة من أقرب طريق.
وهكذا التقيت به في مجلس آخر، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 21]، وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: 93]، وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى
__________
(1) من وحي القرآن (14/ 119)
(2) من وحي القرآن (14/ 120)
القرآن.. والعزاء والشفاء (345)
إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 37]، وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [العنكبوت: 68]، وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 32]، وقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الصف: 7]
ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة تهديد ووعيد للذين افتروا على الله الكذب، فحرفوا كلماته، وبدلوا آياته، وقالوا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كتابه ما شاءت لهم أهواؤهم.. وهي تنطبق على كل من يتكلم في دين الله بغير علم.
ثم ذكر لنا ما ورد في الأحاديث النبوية مما يدل على ذلك، ويحذر منه، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا سئلت عن علم لا تعلمه فقل لا أعلمه تنج من تبعته، ولا تفت الناس بما لا علم لك به تنج من عذاب يوم القيامة)(2).. وقوله: (من أفتى بفتيا من غير تثبت ـ وفي لفظ: بغير علم ـ فإنما إثمه على من أفتاه)(3).. وقوله: (أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار)(4).. وقوله: (من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده من الدين أكثر مما يصلحه)(5).. وقوله: (أشد الناس عذابا يوم القيامة: رجل قتل نبيا أو قتله نبي، أو رجل يضل الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل)(6).. وقوله: (من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السموات والأرض)(7).. وقوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 147)
(2) أمالي الطوسي ج 2 ص 140.
(3) منية المريد ص 137.
(4) منية المريد ص 137.
(5) عوالي اللّئالي ج 4 ص 76.
(6) منية المريد ص 137.
(7) عيون الأخبار ج 2 ص 46.
القرآن.. والعزاء والشفاء (346)
العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)(1)
ومن المشاهد التي صادفتها في بلدة التوابين، أني رأيت رجلا يختلى باكيا في بعض الساحات، وهو يردد بصوت خافت جدا: يا رب.. هل تراك غفرت لي، أم لا زلت تحاسبني على تفريطي وتقصيري؟.. يا رب.. أعوذ بك أن تجعلني كبلعم بن باعوراء، أو كأولئك الذين لم يعملوا بما علموا، فلم ينفعهم علمهم شيئا؟.. يارب.. أتوب إليك فاقبلني.. لقد قمت بكل ما طلبه مني معلمي الكاظم، فتبرأت من كل أفعالي الشنيعة، التي كان يقتدي بي فيها غيري، بحجة أني من أهل العلم، فلم أترك بيتا إلا طرقته وحذرتهم من كل سلوكاتي الماضية المتنافية مع قيم الدين الفاضلة الكريمة.
ثم رفع يديه عاليا إلى السماء، وأخذ يرفع صوته بقوله: يا رب.. فأرسل لي تلميذ القرآن، لأحكي له حكايتي، لعله يسجلها في كتابه، فيحذر غيري من أن يقع في نفس فعلي.. وأكون بذلك قد أديت بعض ما يجب علي من النصح.
ما قال هذا الكلام، حتى شعرت بقشعريرة تسري في بدني، ثم اقتربت منه، وقلت: إن كنت تقصدني، فها أنذا بين يديك.. أمل علي ما شئت.
مسح بيديه على وجهه، ثم قال: الحمد لك يا رب على استجابتك لدعائي.. فاجعلني أهلا لمرضاتك وقبولك وقربك.
ثم أقبل علي، وقال: لن أطيل عليك.. حكايتي تبدأ من نفسي الأمارة بالسوء، والتي
__________
(1) البخاري (100)، ومسلم (2673)، والترمذي (2652)
القرآن.. والعزاء والشفاء (347)
حسنت لي طلب العلم، لا لابتغاء الأجر العظيم الذي هيأه الله لأهله.. وإنما لأكون ممن أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (من تعلم علما ليماري به السفهاء أو يجادل به العلماء أو ليدعو الناس إلى نفسه فهو من أهل النار)(1)، وقوله: (لا تطلبوا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار، ولكن تعلّموه للّه وللدار الآخرة)(2)، وقوله: (من طلب علما ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة)(3)
لكن الله تعالى تداركني بلطفه، حيث حضرت مجلسا لمعلمي الكاظم، وقد بدأه بقراءة قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 175 ـ 177]
ثم نظر إلي، وقال (4): أي اتل عليهم ما نقص عليك من خبر هذا الإنسان الذي أسمعناه آياتنا، فعرف وجه الحق فيها، واطلع على علو متنزلها، وأنها من الله رب العالمين.. فآمن بها، وسجد بين يديها، ولكن التوفيق لم يكن رفيقه، إذ سرعان ما نكص على عقبيه، وأسلم نفسه لشياطين قومه، فاستجاب لما دعوه إليه، وانسلخ من آيات الله بعد أن كانت مستولية عليه.. ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 175] أي جرى وراءه، يوسوس له بالضلال، ويزين له الباطل، ويغويه بالكفر.. ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الأعراف: 175].. ﴿وَلَوْ شِئْنَا
__________
(1) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 254.
(2) تنبيه الخواطر ونزهة النواظر ج 2 ص 215.
(3) أمالي الطوسي ج 2 ص 140.
(4) التفسير القرآني للقرآن (5/ 523)
القرآن.. والعزاء والشفاء (348)
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الأعراف: 176].. أي لصق بالأرض، ونزل منزل الحشرات والهوام فيها، ولم يرد أن يسمو بنفسه، ويرتفع بوجوده ويعلو بإنسانيته.. ولو أنه فعل لأعانه الله على ذلك، وسدد خطاه، وأمسك به على الطريق المستقيم، الذي وضع قدمه عليه.. فمطلوب من الإنسان أن تكون له إرادة عاملة، تلتقى مع إرادة الله.. فإن أراد خيرا، وعمل له، وتمسك به، أراد له الخير، وأعانه عليه، ووفقه له.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11]
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف: 176]، ثم قال (1): ذلك هو مثل أهل الزيغ والضلال.. لا يجيء منهم إلا ما هو شر وضلال.. إنهم على تلك الحال دائما.. لو لم يدعهم أحد إلى الضلال لدعواهم أنفسهم إليه.. فحالهم كحال الكلب: يلهث دائما، ويدلق لسانه في كل حال.. سواء أترك لشأنه فلم يعرض له أحد بسوء، أو طارده أحد وأجهده.. إنه كهذا.. يلهث دائما.. في سكونه واستقراره، أو في جريه وجهده.. والتشبيه للإنسان الضال بالكلب، تشبيه يصيب كبد الحقيقة منه.. ظاهرا وباطنا.. فهو كلب في خسار سعيه، وضياع جهده، حيث يرى في صورة الكلب يلهث دائما كأنه موكل بعمل مثمر.. ولكنه يلهث، ولا عمل، ويعمل ولا ثمرة لعمل.. ﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: 176] أي ذلك المثل، هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، حيث كل ما يعملون إلى تباب وضياع.. ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176]،ففى هذا القصص عبرة لمن تفكر واعتبر.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 524)
القرآن.. والعزاء والشفاء (349)
ثم سمعته في مجلس آخر يقرأ قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 13 ـ 14]، ثم قال (1): هذه الآية الكريمة تدل على الجهل العظيم الذي يقع فيه من لا يعلمون بمقتضيات علمهم.. فمع أن آيات الله تعالى كثيرة العدد، كاشفة عن الحق، حتى ليبصره كل من له عينان.. ومع هذا فقد قالوا عنها: إنها سحر مبين.. قالوا ذلك لا عن اقتناع به، ولا عن شبهة فيه إنما قالوه ﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14] وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه: ﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل: 14] قالوا جحودا ومكابرة، لأنهم لا يريدون الإيمان، ولا يطلبون البرهان.. استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم.
سكت قليلا، ثم قال: وهكذا حال كل من يستقبلون القرآن، ويستيقنون أنه الحق، ولكنهم يجحدونه، ويجحدون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم إلى الله الواحد، أو يجحدون ما يقتضيه هذا الإيمان من العمل.. ذلك أنهم يريدون الإبقاء على عقائدهم وأهوائهم، لما وراءها من أوضاع تسندهم، ومغانم تتوافد عليهم، وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة، التي يحسون خطر الحق عليها، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم، وترتج في ضمائرهم.. ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب، وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه، بل لأنهم يعرفونه يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم، أو الخطر على أوضاعهم، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم، فيقفون في وجهه مكابرين، وهو واضح مبين.. ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 14]
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2630)
القرآن.. والعزاء والشفاء (350)
ثم حدثنا بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحاديث تحذر من علماء السوء، أولئك الذين لا يعملون بما يعلمون، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أبي يغترون أم علي يجترئون، فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا)(1)، وقوله: (مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه)(2)، وقوله: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، ثم يظهر قوم يقرؤون القرآن، يقولون من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟) ثم قال لأصحابه: (هل في أولئك من خير!)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (أولئك منكم، من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار)(3)، وقوله: (إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرؤون القرآن، ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم، ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا)(4)، وقوله: (من تعلم العلم ولم تعمل بما فيه حشره الله يوم القيامة أعمى، ومن تعلم العلم رئاء وسمعة يريد به الدنيا نزع الله بركته وضيق عليه معيشته ووكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله إلى نفسه فقد هلك، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110])(5)، وقوله: (العلم وديعة الله في أرضه، والعلماء أمناؤه عليه، فمن عمل بعلمه أدى أمانته، ومن لم يعمل بعلمه كتب في ديوان الخائنين)(6)
ثم حدثنا عن الإمام علي أنه قال في بعض خطبه: (أيها الناس إذا علمتم فاعملوا بما
__________
(1) الترمذي (2404)
(2) الطبراني 2/ 167 (1685)
(3) البزار (كشف الأستار) 1/ 98 ـ 99 (173)
(4) ابن ماجة (255)
(5) مكارم الأخلاق ص 451.
(6) بحار الأنوار ج 2 ص 36، كتاب الدرّة الباهرة.
القرآن.. والعزاء والشفاء (351)
علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله وكلاهما حائر بائر، لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا ولا تدهنوا في الحق فتخسروا، وإن من الحق أن تفقهوا ومن الفقه أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه، ومن يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخب ويندم)(1)
وقال في حديث آخر: (العلم مقرون بالعمل: فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)(2).. وقال: (تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا به لأن العلماء همتهم الرعاية، والسفهاء همتهم الرواية)(3).. وقال: (إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من علم بلا عمل)(4).. وقال: (العلم علمان علم باللسان وهو الحجة على صاحبه، وعلم بالقلب وهو النافع لمن عمل به وليس الإيمان بالثمن ولكنه ما ثبت في القلب وعملت به الجوارح)(5).. وقال: (لو أن حملة العلم حملوه بحقه، لأحبهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه، ولكنهم حملوه لطلب الدنيا، فمقتهم الله وهانوا على الناس)(6).. وقال: (العالم من شهدت بصحة أقواله أفعاله)(7)
ثم حدثنا في مجلس آخر عن تصنيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى للعلماء، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء رجلان عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى
__________
(1) اصول الكافي ج 1 ص 45.
(2) نهج البلاغة حكمة 358 ص 1256.
(3) عدّة الداعي ص 76.
(4) ارشاد القلوب ص 15.
(5) ارشاد القلوب ص 15.
(6) بحار الأنوار: 2/ 37، وكنز الكراجكي.
(7) غرر الحكم ص 45.
القرآن.. والعزاء والشفاء (352)
الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصدعن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة)(1)، وقوله: (علماء هذه الأمة رجلان رجل آتاه الله علما، فطلب به وجه الله والدار الآخرة وبذله للناس، ولم يأخذ عليه طمعا، ولم يشتر به ثمنا قليلا، فذلك يستغفر له من في البحور ودواب البر والبحر، والطير في جو السماء، ويقدم على الله سيدا شريفا، ورجل اتاه الله علما فبخل به على عباد الله وأخذ عليه طمعا، واشترى به ثمنا قليلا، فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار، وينادى ملك من الملائكة على رؤوس الاشهاد، هذا فلان ابن فلان آتاه الله علما في دار الدنيا فبخل به على عباده حتى يفرغ من الحساب)(2)
وحدثنا عن الإمام علي أنه قال: (طلبة هذا العلم على ثلاثة أصناف، ألا فاعرفوهم بصفاتهم وأعيانهم: صنف منهم يتعلمون للمراء والجهل، وصنف منهم يتعلمون للاستطالة والختل، وصنف منهم يتعلمون للفقه والعقل؛ فأما صاحب المراء والجهل تراه مؤذيا مماريا للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع، وتخلى من الورع، فدق الله من هذا حيزومه، وقطع منه خيشومه، وأما صاحب الاستطالة والختل فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، وقطع من آثار العلماء أثره. وأما صاحب الفقه والعقل تراه ذا كأبة وحزن، قد قام الليل في حندسه، وقد انحنى في برنسه، يعمل ويخشى خائفا وجلا من كل أحد إلا من كل ثقة من إخوانه، فشد الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه)(3)
وقال في حديث آخر: (من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل
__________
(1) اصول الكافي ج 1 ص 44.
(2) روضة الواعظين ج 1 ص 11.
(3) بحار الأنوار: 2/ 47، وأمالي الصدوق.
القرآن.. والعزاء والشفاء (353)
تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم)(1).. وقال: (إن أوضع العلم ما وقف على اللسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)(2).. وقال: (العالم من عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره.. وإن أبغض الرجال إلى الله العبد وكله الله إلى نفسه جائرا عن قصد السبيل سائرا، إن دعي إلى حرث الدنيا عمل، وإلى حرث الآخرة كسل، كأن ما عمل له واجب عليه، وكأن ما ونى فيه ساقط عنه)(3)
ومن المشاهد التي صادفتها في الطريق في بلدة التوابين، أني رأيت رجلا يجلس على كراسي بعض الحدائق يكتب بسرعة.. وأمامه كتب يرجع إليها كل حين.. فأهمني أمره كثيرا، خاصة وأنه كان مثل الطالب الذي يجري امتحانا، فهو لا يضيع دقيقة واحدة، وهذا ما جعلني أخشى أن أسأله عن شأنه.
لكنه فجأة نظر إلي، ووضع قلمه، وقال: مرحبا بك.. لي مدة وأنا أنتظرك.
قلت: من أنت؟.. ولم تنتظرني؟
قال: أنا أحاول أن أكون من الذين يفصحون عما كتموا، وينشرونه، حتى لا يلجموا بلجام النار يوم القيامة.. وأنا أنتظرك لأحكي لك قصتي، فلعلك تراها لائقة بكتابك.. ليكون ذلك رادعا لمن وقع فيما وقعت فيه، ليتوب بمثل ما تبت به.
قلت: فكلي آذان صاغية، ما دامت مرتبطة بالقرآن الكريم، فأنا تلميذ القرآن، ولا أسجل إلا ما له به علاقة.
__________
(1) بحار الأنوار: 2/ 56، والنهج.
(2) بحار الأنوار: 2/ 56، والنهج.
(3) بحار الأنوار: 2/ 58، والنهج.
القرآن.. والعزاء والشفاء (354)
قال: أجل.. وهل كان معلمي الكاظم يربينا بغير القرآن؟.. لقد قصدته في ذلك الحين، بعد أن رأيت كثرة التائبين في بلدتنا على يديه، وكثرة ما سمعت منهم من التذكيرات والمواعظ، وعندما دخلت عليه استقبلني بحفاوة شديدة، وقال: صدرك مخزن من مخازن العلم.. ليتك نشرته بين الناس، لينتفعوا به.
قلت: لكني أخاف على نفسي، فالكثير من معارفي قد تجلب لي من الأعداء ما لا طاقة لي بمواجهته.
قال: وتجلب لك مع ذلك محبة الله ورضوانه.. ومحبة الملائكة والصالحين.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 105]؟
قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟
قال: الله تعالى يدعونا إلى أن نكتفي بمشاهدته ومشاهدة الصالحين من عباده عن أي مشاهدة أخرى، فما ينفعنا من مواقف الناس منا، إن رضي الله عنا.
ما إن قال هذا حتى اجتمع لديه نفر كثيرون، فراح يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة أمر بترك الإغراء والإضلال، وإضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين، وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه، وإن كان ما سمعها، فإضلاله إنما يكون بإخفاء تلك الدلائل عنه، ومنعه من الوصول إليها.. ولذلك، فإن قوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 42] إشارة إلى القسم الأول،
__________
(1) مفاتيح الغيب (3/ 485)
القرآن.. والعزاء والشفاء (355)
وهو تشويش الدلائل عليه، وقوله: ﴿وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ﴾ [البقرة: 42] إشارة إلى القسم الثاني، وهو منعه من الوصول إلى الدلائل.
وعندما طلب منه بعض الحاضرين توضيحا أكثر، قال (1): هذه الآية الكريمة تتوجه بالدرجة الأولى إلى اليهود الذين كانوا يتبعون في مواجهة الإسلام أسلوبين.. أولهما أسلوب الخداع والتمويه، وذلك بتلبيس الحق بالباطل، وإثارة الشبهات والالتباسات في قضايا الإيمان والتشريع، حتى يجعلوا الحق خفيا على الناس، بحيث يقف الإنسان بين الحق والباطل، فلا يقدر على التمييز بينهما.. وهذا ما يحاوله من يمارسون أساليب التشكيك في فكر الإسلام وطبيعته، وفي انتصار الإسلام وإمكانيات وصوله إلى الهدف الكبير في الحياة.. وثانيهما: أسلوب كتمان الحقيقة وإخفائها، فقد كانوا يملكون الكثير من المعلومات والأدلة التي تؤكد صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته، ولكنهم كانوا يخفونها عن الناس لأنهم لا يريدون للإسلام أن يأخذ مكانه الطبيعي كقوة رسالية إلهية في الحياة، حسدا وبغيا من عند أنفسهم.. وهذا الأسلوب هو ما نواجهه تماما في صراعنا مع الكفر والإلحاد، عند ما ينكرون كثيرا من دلائل الحق التي يعلمونها، لئلا يكون منه حجة عليهم فيما يقبلونه وفي ما يرفضونه منه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 140]، ثم قال (2): أي أتقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم.. أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كانوا عليها، فإن كان هذا ما تدعون فأنتم
__________
(1) من وحي القرآن (2/ 16)
(2) تفسير المراغي (1/ 229)
القرآن.. والعزاء والشفاء (356)
كاذبون فيما تقولون، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، والعقل شاهد بكذبكم؟.. ﴿قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 140] أي أأنتم أعلم بالمرضي عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟.. لا شك أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدقه قبل أن تجئ اليهودية والنصرانية، فلماذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة؟
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 140]، ثم قال (1): أي لا أحد أشد ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيا من بنى إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل، وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطلع على التوراة، ويحرفون على المطلع عليها.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، ثم قال (2): أي إن هؤلاء الذين يجادلون النبى صلى الله عليه وآله وسلم ويكذبون به وبرسالته، من أهل الكتاب ـ وخاصة علماءهم ـ يعرفون صدق هذا النبى، إذ يجدون صفته في التوراة والإنجيل، بحيث لا يلتبس عليهم من أمره شيء، ولكنهم ينكرون هذا الحق الذي يعلمونه علم اليقين، حسدا وبغيا، وذلك ضلال ما بعده من ضلال، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾ [الجاثية: 23]، ولهذا عقبها الله تعالى بقوله: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94]، وفي ذلك تطمين
__________
(1) تفسير المراغي (1/ 229)
(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 171)
القرآن.. والعزاء والشفاء (357)
للنبى الكريم، وتثبيت له على ما عنده من آيات الله، فهى الحق من عند الله، فلا جدال فيها ولا امتراء، كما يجادل ويمارى الذين بأيديهم مثل هذا الحق من أهل الكتاب، ويكتمونه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159]، ثم قال (1): الله تعالى وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق، أي أن كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق.. وأي خيانة للعالم أكبر من كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية ولتضليل الناس.. وفي قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 159] إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء عليهم السلام وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب عظيم.. وقد تكرر الفعل (يلعن) في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار اللعن، ولهذا، فإن لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.. و(البينات) و(الهدى) المذكورتان في الآية الكريمة، لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ الناس..
التفت إلي، وقال (2): ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنه لايغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذنوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160].. وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160] جاء بعد قوله: ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: 160] للدلالة على كثرة محبة الله،
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 458)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 458)
القرآن.. والعزاء والشفاء (358)
وسبق عطفه على عباده التائبين.. أي: إن تبتم، وعدتم إلى نشر الحقائق، فأنا أعود أيضا إلى إغداق الرحمة والمواهب عليكم.
سكت قليلا، ثم قال (1): ومن الملفت للنظر، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب، بل قال: من تاب فأنا أيضا أتوب عليه، والفرق في التعبيرين واضح، فالثاني فيه من التودد والتحنن وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.. ثم استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يهدف إلى نوع من التودد وبيان الارتباط المباشر بين المتكلم والسامع، وخاصة اذا قال عظيم من العظماء: (أنا أتكفل لك بالعمل الفلاني)، حيث يختلف عما لو قال: (سنقوم نحن بانجاز العمل)، فالمحبة الكامنة في الأسلوب الأول غير خافية على أحد.. وكلمة (تواب) صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار اليأس عن سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى الرحمة الالهية الخاصة.
ثم حدثنا في ذلك المجلس عن مفاسد كتمان الحق، وكان مما قاله لنا (2): كتمان الحقائق من الأمور الخطيرة التي عانت منها المجتمعات البشرية على مر التاريخ، وكان لها دوما آثار سيئة عميقة استمرت قرونا واعصارا.. ويتحمل تبعة هذه المساويء دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.. ولهذا لم يهدد القرآن الكريم أو يذم فئة كما هدد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق.. ولم لا؟.. فإن عمل هؤلاء يجر أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح، فالبشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صد البشرية عن طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.. فلو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 459)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 459)
القرآن.. والعزاء والشفاء (359)
النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.
ثم التفت لي، وقال (1): وكتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النبوة والبشائر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع الناس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.. والسكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق، وذلك يكون في موارد يحتاج الناس فيها بشدة إلى فهم الحقائق، ويستطيع العلماء فيها أن يلبوا هذه الحاجة.
قال له بعض الحاضرين: سمعنا من بعضهم أن كتمان الحق قاصر على من سئل عن مسألة، فكتم الإجابة عنها.
قال المعلم (2): هذا غير صحيح.. فنشر الحقائق التي يحتاجها الناس لا يتوقف على السؤال، ولذلك، فإن القرآن الكريم لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل يتحدث عن تبيين الحقائق أيضا، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الانحرافات بحجة عدم وجود سائل يطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الإنحرافات، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، وجدير بالذكر أن إلهاء الناس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل الأساسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق، إذا لم يشمله فرضا تعبير (كتمان الحقائق) فهو مشمول حتما بملاك وفلسفة كتمان الحق.
وقد سمعته في مجلس آخر يردد قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 460)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 460)
القرآن.. والعزاء والشفاء (360)
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: 91]، ثم قال (1): هذا حديث مع اليهود، ومع جميع المنحرفين عن خط الاستقامة، فيما يثيرون من كلمات غير مسئولة، لا ترتكز على أي أساس من فكر وعقل.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: 91]، ثم قال (2): أي أنهم لغرورهم وكبرهم وقفوا من الله تعالى وقفة الذي لا يحس بأجواء العظمة فيما توحيه ذاته من الخشية والرهبة والخضوع، فكانوا ـ في موقفهم هذا ـ كمن يستهين بعظمة الله وسطوته وقوته وقدرته، فلم يشعروا بالمسؤولية فيما يواجهون به رسله من التحديات، أو يؤمنون به من أفكار، وفي ما يثيرونه من شبهات ويتخذونه من مواقف، ولم يخافوا من نتائج مواقفهم تلك.
ثم التفت لي، وقال (3): إن الذين يخافون الله هم الذين يقدرون تصرفاتهم لجهة ما يأخذون وما يتركون، تبعا للمواقع التي ينتظرونها في مواقفهم أمامه في اللحظات الحاسمة للحساب، أما الذين لا يبالون بما يصدر منهم من قول أو فعل، من حيث ارتباطه بحركة المسؤولية في حياتهم، فهم الذين لا يقدرون الله حق قدره، وهذا ما يتمثل في موقف هؤلاء ﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91]، لأن مثل هذا القول يدلل على افتقادهم للوعي المسؤول، لأنهم لا يملكون أية حجة عليه، مما يعرضهم لسخط الله وعذابه الذي توعد القائلين عليه بغير علم، بالعقاب والعذاب الأليم.
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 219)
(2) من وحي القرآن (9/ 220)
(3) من وحي القرآن (9/ 220)
القرآن.. والعزاء والشفاء (361)
سكت قليلا، ثم قال (1): وكيف يملكون الحجة على النفي، فيما لا يستطيعون الإحاطة به من فعل الله!؟.. فإن صعوبة إقامة الحجة على النفي تزيد كثيرا عن إقامتها على الإثبات، لأن الإيجاب محدود بحدود الفعل من حيث الزمان والمكان، بينما يشمل السلب المطلق كل آفاق الموضوع.. وربما كان المعنى أن تقدير الله حق قدره يفرض إيمانهم بحقيقة الألوهية في خصائصها الربوبية من حيث إرسال الرسل وإنزال الكتب التي تقود الناس إلى ما يصلح أمرهم وشؤونهم الروحية والأخلاقية، والمعارف العالية التي لا يملكون الحصول عليها إلا من خلال وحي الله، لأن الله هو الهادي الذي يهدي خلقه إلى طريق سعادتهم، فإذا لم يفعل ذلك، فإنه يكون مقصرا في حركة لطفه ورحمته، وفي ضوء ذلك فإن إنكار إرسال الرسل وإنزال الكتاب، يوحي بأن هؤلاء لا يعرفون قدر الله ومنزلته في مواقع رحمته وهدايته، والله العالم.
سكت قليلا، ثم قال (2): ويتابع القرآن الكريم الموقف لمواجهتهم بالاحتجاج المضاد، ولكن بصورة سؤال صارخ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: 91] فهم يؤمنون بالتوراة، أو هكذا توحي به الآية، وربما كان هؤلاء من اليهود الذين ينتسبون إلى التوراة، ولعل هذا ما جعل الآية تؤكد على هذا الكتاب دون الإنجيل الذي لا يؤمنون به، أو لأن النصرانية التي تتمسك بالإنجيل لم يكن لها تأثير في الذهنية العربية على أرض الدعوة، التي أراد القرآن أن يقتحمها ليغير تفكيرها أو طريقتها في التفكير.. وقد نستوحي من التأكيد القرآني على ما استهدفه توراة موسى عليه السلام، من النور الذي يضيء للناس آفاق المعرفة، والهدى الذي يدلهم على طريق الحق والإيمان،
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 220)
(2) من وحي القرآن (9/ 221)
القرآن.. والعزاء والشفاء (362)
أن الله يريد أن يوحي لهؤلاء بأن قضية الوحي ليست انتماء تقليديا لا يغير شيئا من واقع الشخصية، بل هي قصة الانفتاح على إشراقة الحق وهداه، التي تجعل من الإنسان كيانا واعيا جادا، فيما يخطط من طريق، ويسير إليه من هدف.
ثم قال (1): ولكن هؤلاء لم يحصلوا من ذلك على شيء، بل اتخذوه وسيلة لشهواتهم وأطماعهم وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾ [الأنعام: 91] فيما لا يضر مكاسبهم وامتيازاتهم، ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: 91] مما يكون حجة عليهم، مما يثبت صحة الإسلام وواقعية النبوة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن الواضح أن الذم لليهود لم يكن لكتابتهم التوراة في القراطيس، بل لأن المسألة تتصل بهذا النوع من توزيع آيات التوراة على القراطيس المتفرقة لا في كتاب واحد، مما يمكنهم من إبداء البعض وإخفاء الآخر إذا طالبهم الناس بالحجة على بعض ما يختلفون فيه معهم مما أثبتته التوراة وأنكروه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: 91]، ثم قال (2): فقد جاء الكتاب ليضع بين أيديهم الأسس الصحيحة للعلم الذي لا يملكون هم وآباؤهم فرصة ذاتية له، لأن هذه المعارف والعلوم والأخلاق والشرائع تنظم للإنسان حياته من خلال عمق مصالحه الحيوية التي يملك الإنسان بحسب تجاربه الذاتية أن يصل إليها، ولكن الوحي هو الذي يعلمهم ذلك بكل قواعده وتفاصيله.. لكنهم لم ينتفعوا بذلك، فيما توحي به كلماتهم هذه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: 91]، ثم قال (3): وفي هذا دعوة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يحدث هؤلاء المشركين عن الله، وأن يكشف لهم الطريق إليه..
__________
(1) من وحي القرآن (9/ 222)
(2) من وحي القرآن (9/ 222)
(3) التفسير القرآني للقرآن (4/ 238)
القرآن.. والعزاء والشفاء (363)
أي قل: هذا هو الله الذي أدعوكم إليه، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في ضلال، يخوضون فيه خوضا.. فذرهم في خوضهم يلعبون.
وهكذا صرت مدمنا على حضور مجالسه، لما رأيت من تأثيرها الكبير في نفسي، وقد سمعته في بعض مجالسه يردد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، ولا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43])(1)
ثم حدثنا عن الإمام علي أنه قال: (جمال العلم نشره، وثمرته العمل به، وصيانته وضعه في اهله)(2)، وقال: (ما أخذ الله سبحانه على الجاهل أن يتعلم حتى أخذ على العالم أن يعلم)(3)، وقال: (ملاك العلم نشره)(4)، وقال: (إن النار لا تنقصها ما أخذ منها ولكن يخمدها أن لا تجد حطبا وكذلك العلم لا يغنيه الاقتباس ولكن بخل الحاملين له سبب عدمه)(5)
ومنذ ذلك الحين، وأنا أكتب كل الحقائق التي كتمتها دهرا طويلا من عمري.. وأرجو أن يتقبل الله مني، ويعفو عني.
ما إن قال ذلك، حتى جاء رجل، وأخذ بعض ما انتهى من كتابته، فسألته عنه، فقال: هذا ناشر تائب.. كان قبل توبته ينشر من الكتب ما يدر عليه الأرباح الكثيرة، وقد جعله ذلك يقع فيما يقع فيه الكاتمون من عدم نشر الكتب النافعة.. وهو الآن يعوض عما فاته بنشر الكتب النافعة، بل إهداء الكثير منها لمن كان قد أضلهم سابقا بتوفير ما يضرهم.
__________
(1) الطبراني في (الأوسط) 5/ 298 (5365)
(2) غرر الحكم ص 44.
(3) غرر الحكم ص 44.
(4) غرر الحكم ص 44.
(5) غرر الحكم ص 44.
القرآن.. والعزاء والشفاء (364)
خامسا ـ القرآن.. وعزاء المحبطين
بعد أن رأيت تلك المشاهد الكثيرة في بلاد الخطائين التي تحولت إلى بلد للتوابين، بل الناصحين في توبتهم، رأيت في أطراف البلدة رجلا من بعيد يطلب مني أن أقترب منه، فلما اقتربت، قال: لقد زرتَ المتألمين والمساكين والمخطئين.. أفلا تفكر بزيارة المحبطين واليائسين؟
قلت: عهدي بالمحبطين واليائسين متقوقعين على أنفسهم، لا يكادون ينطقون بكلمة، وأنا جئت لأسجل الكلام النافع الذي يملؤنا بالعزاء والسلوى، لا الذي يملؤنا بالتشاؤم والألم.
قال: فهل رأيت في مدينة المخطئين خطائين، أم رأيت توابين صالحين؟
قلت: بل رأيت من التوابين ما لم أر مثلهم في حياتي جميعا.
قال: وكذلك إن سرت إلى بلدة المحبطين واليائسين والمكتئبين من المتفائلين والسعداء ما لم تر في حياتك جميعا.
قلت: فكيف حصل هذا؟
قال: الذي جعل المخطئين توابين هو نفسه الذي جعل المحبطين متفائلين ومطمئنين.
قلت: الله.
قال: الله الكريم الرحيم.. فقد أنزل علينا في كلماته المقدسة، ما يشفينا من كل داء، وما يرفع عنا كل بلاء، وما يجعلنا من السعداء.
قلت: ولكن الكثيرين يقرؤونه، ومع ذلك يظلون يتألمون.
قال: لأنهم يقرؤونه بألسنتهم لا بعقولهم، ولا بقلوبهم.. ولذلك يظل مثل الدواء
القرآن.. والعزاء والشفاء (365)
الذي نذكر اسمه بألسنتنا من غير أن نستعمله.
قلت: صحيح، وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]
قال: فهل ستسير معي؟
قلت: إن كان هناك عزاء وسلوى، فإني سأسير طبعا.. فأنا ما جئت هذه البلاد إلا لهذا الغرض.
قال: فهلم معي.. وفي الطريق سأحدثك عن شأني.. فأنا بحمد الله أمير بلدة المحبطين، ولا يصح أن تسمع حديث الرعية قبل أن تسمع أميرها.
سرت مع الأمير إلى البلدة التي ذكرها، وقد تعجبت كثيرا من جمال الطريق، وأصناف الأشجار والثمار التي كانت تحف بجانبيه.. والتي يكفي النظر إليها لتمتلئ النفس بكل ألوان الأمل والتفاؤل.
بعد أن قطعنا مسافة من الطريق دون أن يتحدث فيها كلمة واحد، رحت أسأله قائلا: عهدي بمن يطلبون السير معي أن يحدثوني في الطريق، ليخففوا عني حمل السير.
قال: كنت أنوي أن أفعل هذا، لكني عندما رأيتك تنظر إلى هذه المناظر الجميلة لم أشأ أن أقطع عليك عبوديتك.
قلت مستغربا: عبوديتي..
قال: أجل.. لقد كنت من حيث لا تشعر تطبق قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
القرآن.. والعزاء والشفاء (366)
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99]
قلت: أسأل الله أن أكون قد فعلت ذلك.. أخاف أن أكون من الذين انشغلوا بالظواهر عن الظاهر، وبالمبدعات عن البديع.
قال: ما دام الله موجودا، فكل ما تأمله موجود، لأن بيده كل شيء، ولذلك لن يعز عليه شيئ.. ولذلك تمنيت لو أنك بدل ذكر مخافتك أن تسأل ربك بأن يجعلك من الذين لا يشغلهم شيء عنه، بل يستدلون بكل شيء عليه.
قلت: صدقت.. فالإيمان بكرم الله هو الذي يجعلنا نعيش الأمل بكل معانيه.
قال: بل الإيمان بالله هو الذي يجعلنا نعيش الأمل بكل معانيه.
قلت: ما الفرق بين ما ذكرتُ أنا، وما ذكرتَ أنت؟
قال: الفرق عظيم جدا، أنت ربطت الأمل بكرم الله، وأنا ربطته بالله.. والله أعظم من أن تُختصر صفاته في الكرم وحده.
ما إن قال هذا حتى لاحت لنا قمة جبل عال، وقد كُتب عليها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]
فتعجبت من كتابتها على الجبل، وبذلك الوضوح والجمال، فسألته عنها، فقال: من تلك القمة تبدأ قصة مدينتنا.. فكل أهلها كانوا في يوم من الأيام من الذين ذهبوا أو هموا بالذهاب إليها.
قلت: أفيها من الجمال ما نراه هنا؟
قال: الجمال موجود في كل محل.. وفي تلك القمة من الجمال ما لا يقل عن الجمال
القرآن.. والعزاء والشفاء (367)
الموجود هنا، لكن الذين ذهبوا إليها أو هموا بالذهاب، كانوا يقصدونها حتى يحرموا أنفسهم من ذلك الجمال.
قلت: ولم؟
قال: لكل واحد وسواس خاص دعاه لذلك.. وبما أني أمير تلك البلدة، فقد كنت أسبقهم إلى تلك القمة، وكنت أيضا بفضل الله من الذين نذروا حياتهم لصرف كل من يريد الذهاب إليها عن الذهاب.
قلت: فكيف هممت بذلك؟.. وما الذي صرفك عن التنفيذ؟
قال: أما الذي دعاني إلى ذلك فهو هموم وآلام ركبتني، جعلتني أرى الحياة أقل من أن تحتاج إلى ذلك الألم.. وقد كنت حينها ضعيف الإيمان، بل أكاد أكون معدوم الإيمان.. وكنت متأثرا بفيلسوف يطلق عليه [شوبنهاور] المعروف بفيلسوف التشاؤم، وكنت أردد دائما مقولاته، بل أحفظها عن ظهر قلب، ومنها قوله: (حياة الإنسان كلها ليست إلا نضالا مستميتا من أجل البقاء على قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنه سيهزم في النهاية].. وقوله: (ينبغي أن ندمر في داخلنا، وبكل الأشكال الممكنة، إرادة الحياة، أو الرغبة في الحياة، أو حب الحياة).. وقوله: (يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن المزحة الثقيلة للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟)(1)
قلت: فكيف تخلصت من تأثير هذه المقولات فيك؟
قال: بل قل كيف خلصني الله منها.. لأني عندما أصغيت إلى نفسي وجدتها تطلب
__________
(1) عن: كيف تناظر ملحدا (ص 232)
القرآن.. والعزاء والشفاء (368)
مني أن أتخلص من الحياة، وزينت لي بأن أذهب إلى هذا الجبل لأرمي نفسي من قمته.. لكن الله قيض لي في طريقي معلمي الكاظم الذي استطاع أن يخرجني من كل تلك الوساوس.. وبكلمات معدودة.
لقد لقيته حينها في محل قريب من هنا، يصلي، فتعجبت من صلاته في مكان منقطع كهذا، ثم رأيته يرفع يديه إلى السماء، وبخشوع عظيم، ويقول (1): إلهي، أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك، وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء، وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالإهمال والتضييع، وأنت الرؤوف الرحيم، البر الكريم، الذي لا يخيب قاصديه، ولا يطرد عن فنائه آمليه، بساحتك تحط رحال الراجين، وبعرصتك تقف آمال المسترفدين، فلا تقابل آمالنا بالتخييب والإياس، ولا تلبسنا سربال القنوط والإبلاس.
ثم بكى بكاء شديدا، ثم قال (2): إلهي، تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إياي ثنائي ونشري، جللتني نعمك من أنوار الإيمان حللا، وضربت علي لطائف برك من العز كللا، وقلدتني مننك قلائد لا تحل، وطوقتني أطواقا لا تفل، فآلاؤك جمةٌ ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرةٌ قصر فهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر؟، فكلما قلت: لك الحمد وجب علي لذلك أن أقول: لك الحمد.
ثم راح يتضرع بصوت عال، وكأنه يريد أن يُسمعني دعاءه، قائلا (3): إلهي، كما
__________
(1) من دعاء الإمام السجاد في مناجاة الشاكرين، بحار الأنوار: 94/ 146.
(2) من دعاء الإمام السجاد في مناجاة الشاكرين، بحار الأنوار: 94/ 146.
(3) من دعاء الإمام السجاد في مناجاة الشاكرين، بحار الأنوار: 94/ 146.
القرآن.. والعزاء والشفاء (369)
غذيتنا بلطفك، وربيتنا بصنعك، فتمم علينا سوابغ النعم، وادفع عنا مكاره النقم، وآتنا من حظوظ الدارين أرفعها وأجلها عاجلا وآجلا، ولك الحمد على حسن بلائك، وسبوغ نعمائك، حمدا يوافق رضاك، ويمتري العظيم من برك ونداك، يا عظيم يا كريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عندما انتهى من دعائه، اقتربت منه، وقلت: ما أجمل هذا الدعاء.. لكن هل تراه يجدي عنك شيئا؟
قال: أجل.. هو يملؤني بالسعادة التي يئستَ من البحث عنها، وبالأمل الذي أوهمك الشيطان وتلميذه النجيب شوبنهاور أنه غير موجود.
تعجبت من ذكره لشوبنهاور، وقد كنت أتوهم أن شيخا مثله لا يمكن أن يعرفه، أو أن يخطر بباله.. لكنه قال لي: لو أنك اتخذت أستاذا غيره لما احتجت للذهاب لتلك القمة.. لأنك ستعيش حينها في أعلى قمة السعادة.. ومن كان يعيش في القمم لا يحتاج إلى أن يتعب قدميه في التنقل إليها.
تعجبت من أمره كثيرا، ومن معرفته بحالي وقصدي، فقلت: من أنت؟
قال: أنا عبد من عبيد الله.. لا هم لي إلا إرضاء ربي، لأن رضى نفسي متوقف على رضا ربي، فإن رضي عني ربي أرضاني.
قلت: فإن سخط عليك؟
قال: حينها سيسخط كل شيء علي، حتى جوارحي التي أتوهم أني أملكها.
قلت: فكيف تعرف رضا ربك؟
قال: عندما أرضى عنه أعلم أنه رضي عني.. لقد قال ربي في كلماته المقدسة عمن رضي عنهم من عباده: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ
القرآن.. والعزاء والشفاء (370)
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 7 ـ 8]
كان لقراءته الخاشعة تأثيرها الكبير في نفسي، وكأني لأول مرة أسمع القرآن الكريم، وهذا ما جعلني أستأنس كثيرا لحديثه، وأرى الفرق الكبير بينه وبين الأساتذة الذين كنت أتتلمذ على مستنقعاتهم الآسنة.
عندما آنس ذلك مني، قال لي: هل تأذن لي أن أسير معك إلى القمة.. فأنا أزورها كل سنة لأتنعم بجمال الكون، وأختلي هناك بالله تعالى أياما معدودات تأسيا بسيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يختلي في غار حراء.
قلت: يسرني ذلك كثيرا.. فهيا بنا.. لكن عليك أن تستمر في حديثك، فقد أشعرني بالكثير من الأنس.
قال: وهذا يدل على سلامة قلبك وطهارة نفسك.. وأن الذي عرض لك من أساتذتك ليس سوى طلاء سرعان ما يزول.. وإن شاء الله لن نصل إلى القمة حتى يزول.
ابتسمت، وقلت: لا بأس.. حتى لو لم يزل.. يكفي أني سأختم حياتي بهذه اللحظات الجميلة في صحبتك.
كان أول ما بدأني به، أن قرأ قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 2 ـ 3]، ثم قال: الفرق بيني وبين جميع أساتذتك مذكور في هذه الآية الكريمة، فأنا أؤمن بالغيب، بل أعيشه، وأراه رأي العين، وأساتذتك لا يؤمنون إلا بما تراه حواسهم، فلذلك يحجبون عن كل جمال في الكون، نتيجة رؤيتهم لبعض الدمامة.
القرآن.. والعزاء والشفاء (371)
ثم قال (1): إن كنتَ تريد أن تعرف مدى ما في الإيمان بالغيب من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع إلى هذه الحكاية القصيرة:
قلت: كلي آذان صاغية.
قال (2): خرج رجلان مثلنا في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة.. فمضى أحدهما وكان أنانيا شقيا إلى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد إلى جهة ثانية.. فالأناني المغرور الذي كان متشائما لقي بلدا في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاء وفاقا على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى ـ أينما اتجه ـ عجزة مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمرة، فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام، فلم يجد لنفسه علاجا لحاله المؤلم المظلم غير السكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدوا يتربص به، وأجنبيا يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاء يائسا مريرا.
شعرت كأنه يصور حالتي بدقة شديدة، فأردت أن أصرفه عن ذلك، فقلت: والرجل الآخر.. كيف كان ينظر إلى الأشياء.
قال (3): الرجل الآخر.. أقصد الرباني العابد لله، والباحث عن الحق، كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.. فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق، وفي كل طرف سرورا، وفي كل زاوية حبورا، وفي كل مكان محاريب ذكر.. حتى
__________
(1) الكلمات، النورسي، ص 10.
(2) الكلمات، النورسي، ص 10.
(3) الكلمات، النورسي، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (372)
لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقا صدوقا وقريبا حبيبا له، ثم يرى أن المملكة كلها تعلن في حفل التسريح العام هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء، ويسمع فيهم أيضا أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون إلى الخدمة والجندية.
قلت: فما الذي حصل لكليهما.. لا شك أن مشاكل الحياة التهمتهما جميعا ليأويا في الأخير إلى حفرة مثل جميع البشر.
لم يلتفت لكلامي، بل راح يقول (1): بينما كان ذلك الرجل الأول المتشائم منشغلا بألمه وآلام الناس كلهم، كان الثاني السعيد المتفائل مسرورا مع سرور الناس كلهم فرحا مع فرحهم، فضلا عن أنه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.. ولدى عودته إلى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه وعن أخباره، فيعلم كل شيء عن حاله فيقول له: (يا هذا لقد جننت!.. فإن ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك، بحيث أصبحت تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح وإجازة نهب وسلب، عد إلى رشدك، وطهر قلبك، لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك، وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج، فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وإن مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك.. لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)
ثم التفت إلي مبتسما، وقال (2): وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع إلى صوابه رويدا رويدا، ويفكر بعقله ويقول متندما: (نعم لقد أصابني جنون لكثرة تعاطي
__________
(1) الكلمات، النورسي، ص 10.
(2) الكلمات، النورسي، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (373)
الخمر.. ليرض الله عنك، فلقد أنقذتني من جحيم الشقاء)
سكت قليلا، ثم قال (1): إن شئت أن تعرف من هما هذان الرجلان، فاعلم أن الرجل الأول هو مثال عن أستاذك شوبنهاور، وكل تلاميذه، فهذه الدنيا في نظرهم بمثابة مأتم عام، وجميع الأحياء أيتام يبكون تألما من ضربات الزوال وصفعات الفراق.. أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته، وأما الموجودات الضخام كالجبال والبحار فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة، وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبها عذابا معنويا مريرا.
قلت: والثاني؟
قال (2): هو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار للإنس والجان، أما الوفيات كافة من حيوان وإنسان فهي إعفاء من الوظائف، وإنهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنويا، حيث إنهم ينقلون إلى عالم آخر غير ذي قلق، خال من أوضار المادة وأوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعا لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم.. أما المواليد كافة من حيوان وإنسان فهي سوقة تجنيد عسكرية، وتسلم سلاح، وتسنم وظائف وواجبات، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راض قانع، وأما الأصوات المنبعثة والأصداء المرتدة من أرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف
__________
(1) الكلمات، النورسي، ص 10.
(2) الكلمات، النورسي، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (374)
والشروع فيها، أو شكر وتهليل إيذانا بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته.. فالموجودات كلها في نظر هذا المؤمن خدام مؤنسون، وموظفون أخلاء، وكتب حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.
ثم التفت لي، وقال (1): وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جدا من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق، فالإيمان إذن يضم حقا بذرة معنوية منشقة من (طوبى الجنة)، أما الكفر فإنه يخفي بذرة معنوية قد نفثته (زقوم جهنم)
لست أدري كيف شعرت بأن هما ثقيلا ينزاح حينها عن صدري، ثم أشعر ببصري يرى من الجمال مالم يكن يراه، ويسمع من الألحان ما لم يكن يسمعه.
وعندما وصلنا إلى القمة، استأذنني في أن يختلي في بعض خلواتها.. ثم قرأ علي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]
حينها، وبدل أن أرمي نفسي من قمة ذلك الجبل، رحت أكتب هذه الآية الكريمة ليقرأها كل من يهم بمثل ما هممت به.. ولم أكتف بذلك، بل صرت أكرر ما كرره معي المعلم، حيث أستقبل كل يائس ومحبط ومكتئب، لأسمعه ما تتلمذت به لديه.. وعندما اجتمع نفر كثير من الناس، رحنا نبني بلدتنا بالشكل الذي يتناسب مع آمالنا وإيماننا، لأننا وجدنا أن للبيئة التي كنا نعيش فيها تأثيرها السيء علينا.. والحمد لله، لم تمض إلا مدة قصيرة، حتى أصبحت بلدتنا عامرة بالإيمان، حتى صار الجميع ينادونها [بلدة السعداء والمتفائلين]، بل إن بعضهم راح يطلق عليها لقب الجمهورية الفاضلة.. وقد اختاروني أميرا عليهم.. وإن كنت في الحقيقة لست سوى خادم لهم.
__________
(1) الكلمات، النورسي، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (375)
ما انتهى الأمير من حديثه إلى هذا الموضع حتى استأذنني في أن ينتقل إلى بعض القرى القريبة، وطلب مني أن أكمل سيري إلى البلدة..
وكان أول ما مررت به بعد فراقي رجل عجوز، يغرس أشجارا، وبإتقان شديد، فقلت في نفسي: ما أعجب حرص الإنسان.. إنه بدل أن يشغل قلبه ولسانه بذكر ربه، راح يشغل يديه بشؤون الدنيا.
عندها، سمعت الشيخ يناديني قائلا: تعال يا تلميذ القرآن.. فأنا أحتاجك.
اقتربت منه، وقلت: ها أنذا بين يديك.
قال: ألم تعلم أن الغيبة لا تكون باللسان فقط.. بل تحقق بالجنان أيضا؟
قلت: بلى.. وأنا أعتذر إليك بشدة، فقد اغتبتك في نفسي وسري، لكن أرجو أن تعذرني، فما رأيته منك لم أر في المشايخ الذين أعرفهم، والذين يحضرون أنفسهم في هذا العمر للقاء الله بكثرة التسبيح والذكر.
قال: وهذا من التسبيح والذكر.. والذي يشغله العمل عن الذكر ومعرفة ربه غافل استحوذ عليه الشيطان، وإلا فإن الذاكر الحقيقي هو الذي لا يغفل عن الله أبدا، وفي أي وضع يكون فيه.
قلت: فما سر اهتمامك بغرس الأشجار، وأنت في هذا العمر، ولن يمكنك أبدا أن تأكل من ثمارها؟
قال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةٌ
القرآن.. والعزاء والشفاء (376)
فليغرسها)(1)؟
قلت: بلى.
قال: فهل يرجو من يغرسها أن يأكل منها؟
قلت: يستحيل ذلك.. فالقيامة ستقوم، وحينها ستبدل الأرض غير الأرض والسموات.
قال: فلذلك نحن نقوم بعبادة ربنا، وأداء ما كلفنا به.. ثم نترك ما عدا ذلك لله تعالى.
قلت: أرى أن سكنك بهذه البلدة التي تمتلئ بالمحبطين لا يتناسب أبدا مع أملك العريض.
قال: أنا سكنت فيها مثل ما سكن فيها الجميع بعد أن بلغ بي الإحباط إلى الدرجة التي لم أعد أطيق فيها الحياة.. لكن الله أرسل لي حينها معلمي الكاظم، وكان بصحبته أميرنا الصادق.. وقد تلقيت عنه من المعارف ما جعلني أعيش الأمل، وأنا في نهاية عمري.. بل إن أملي يزداد كل يوم لأن ما عند الله خير وأبقى.
قلت: فهلا حدثتني بحديث من أحاديث معلمك.
قال: أجل.. ولي مدة وأنا أنتظرك.. لكني لم أيأس أبدا من حضورك.. فاكتب ما سأقصه عليك.
قلت: كلي آذان صاغية.
قال: لعلك تعرف قصة أرخميدس، وصيحته بعد أن اكتشف بعض الحقائق البسيطة (وجدتها.. وجدتها)
__________
(1) البزار كما في (كشف الأستار)(1251)
القرآن.. والعزاء والشفاء (377)
قلت: أجل.. لقد درسناها في مدارسنا، فقد ذكر لنا أساتذتنا أنه كان يغتسل في حمام عام، فلاحظ أن منسوب الماء ارتفع عندما انغمس في الماء، فخرج إلى الشارع يجري ويصيح (يوريكا. يوريكا)، أي وجدتها وجدتها، لأنه تحقق من أن هذا الاكتشاف سيحل معضلة التاج.. ذلك أنه كُلِّف بإثبات أن التاج الجديد لهيرون، ملك سيراكيوز، لم يكن من الذهب الخالص كما ادعى الصائغ.
قال: كذلك فعلت أنا عندما سمعت أحاديث معلمي الكاظم عن الله.. وهكذا يفعل من يسير إلى الله؛ فهو في كل خطوة يتقدم بها إليه يكتشف شيئا جديدا لم يكن يعرفه عنه، أو كانت معرفته به مجرد معلومة ذهنية لم تتمكن من نفسه؛ فإذا ما تمكنت امتلأ سرورا وطربا، وراح يصيح بوجدان عظيم معظما ربه، فرحا به.. ذلك أن الحياة كلها رحلة إلى الله هي رحلة اكتشافات.. لا لسنن الكون وقوانينه.. ولا لحجارة الأرض ومعادنها.. ولا لأفلاك السماء ونجومها، وإنما لمن يملك كل ذلك، ويدبر أمورها، وأمور كل شيء.. فهل يمكن أن يتسع صدر أحد من الناس لذلك الوجدان العظيم؟
لقد قال لي معلمي الكاظم، وهو يعظني: لعلك تذكر سؤال زكريا لمريم عليهما السلام عن سر الطعام الذي وجده عندها، والذي لم ير طعاما مثله من قبل، وقد أجابته بكل بساطة: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]
قلت (1): أجل.. وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه، والتواضع في الحديث عن هذا السر، لا التنفج به والمباهاة.
قال: في ذلك الحين امتزج الشعوران لدى زكريا عليه السلام: الشعور بقدرة الله
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 393)
القرآن.. والعزاء والشفاء (378)
المطلقة التي لا يقف في وجهها الزمن، ولا المستحيل، والشعور بفضل الله العظيم، فهو يرزق من يشاء بغير حساب.. وعندما امتزج الشعوران توجه لله طالبا ما كان يتصوره مستحيلا يستحي أن يسأل الله تحقيقه.
ثم قال: لقد قال تعالى مؤرخا لتلك اللحظة التي كانت فتحا عظيما على زكريا عليه السلام: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران:38]، وفي نفس تلك اللحظة التي اكتشف فيها زكريا عليه السلام ذلك الاكتشاف العظيم جاءته الملائكة عليهم السلام بالبشارة، وبتحقيق الأمل الذي كان حبيس القلب، واستحيا اللسان من إبرازه، كما قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران:39]
سكت قليلا، ثم قال: وحينها كذلك انحلت عقدة لسان زكريا عليه السلام متعجبا من هذا، لا منكرا له، فسأل الله عن كيفية ذلك كما سأله الخليل عليه السلام من قبل عن كيفية إحياء الموتى، فرده الله إلى مشيئته المطلقة، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران:40].. وحينها أجابه الملك: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران:40]
ثم راح يحكي لي ما جرى مع يعقوب عليه السلام، وولده، فقال: وهكذا ظل يعقوب عليه السلام منتظرا لولده، على الرغم من سخرية الجميع منه، لأنه كان يعرف عن الله ما لا يعرفونه، قال تعالى: ﴿قَالُوا تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 85، 86].. وعندما رد الله إليه ولده، قال لهم بلهجة الواثق المستيقن: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 96]
القرآن.. والعزاء والشفاء (379)
وهكذا التقيت به في مجلس آخر، وقد زار بلادنا، وأذكر جيدا أنا طلبنا منه حينها أن يحدثنا عن الله، فقرأ قوله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 59]، ثم قال (1): يأمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول الكلمة التي تليق أن يفتتح بها المؤمن حديثه ودعوته وجداله، وأن يختمه كذلك: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [لقمان: 25].. المستحق للحمد من عباده على آلائه، وفي أولها هدايتهم إليه، وإلى طريقه الذي يختاره، ومنهجه الذي يرضاه.. ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59] لحمل رسالته وتبليغ دعوته، وبيان منهجه.. وبعد هذا الافتتاح يأخذ في توقيعاته على القلوب المنكرة لآيات الله، مبتدئا بسؤال لا يحتمل إلا إجابة واحدة، يستنكر به أن يشركوا بالله هذه الآلهة المدعاة: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 59].. وما يشركون أصنام وأوثان، أو ملائكة وجن، أو خلق من خلق الله على أية حال، لا يرتقي أن يكون شبيها بالله ـ سبحانه ـ فضلا على أن يكون خيرا منه.. ولا يخطر على قلب عاقل أن يعقد مقارنة أو موازنة.. ومن ثم يبدو هذا السؤال بهذه الصيغة وكأنه تهكم محض، وتوبيخ صرف، لأنه غير قابل أن يوجه على سبيل الجد، أو أن يطلب عنه جواب.. ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر، مستمد من واقع هذا الكون حولهم، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم..
قرأ معلمي بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60]، ثم قال (2): والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها.. وهي أصنام أو
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2655)
(2) في ظلال القرآن (5/ 2656)
القرآن.. والعزاء والشفاء (380)
أوثان، أو ملائكة وشياطين، أو شمس أو قمر.. أو طبيعة أو صدفة.. فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء.. ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه، مخلوق بذاته، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة؛ فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها، كفيلا بإلزام الحجة، ودحض الشرك، وإفحام المشركين.. وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد، ويتضح فيه التدبير، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد، الذي تتضح وحدانيته بآثاره، ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه؛ فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة.. إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير.
سقطت حينها زخات من المطر، فقال معلمي (1): والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها، ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر، بهذا القدر، الذي توجد به الحياة، على النحو الذي وجدت به، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق، وبهذا التقدير المضبوط.. المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان.. هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ﴾ [الزمر: 6]، والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم. يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2656)
القرآن.. والعزاء والشفاء (381)
القائمة حيالهم وهم عنها غافلون: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ [النمل: 60].. حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة.. ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية.. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب.. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب.. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر.. وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث. فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر ـ وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر ـ: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ [النمل: 60]، وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس، سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان، فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول: كيف جاءت هذه الحياة، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان، ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور.
سكت قليلا، ثم قال (1): وعند ما يصل الإنسان العاقل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير، يهجم عليهم بسؤال: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل: 64].. ولا مجال لمثل هذا الادعاء ولا مفر من الإقرار والإذعان.. وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا، وهم يسوون آلهتهم المدعاة بالله، فيعبدونها عبادة الله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60].. ويعدلون، إما أن يكون معناها يسوون، أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة، وإما أن يكون معناها: يحيدون.. أي يحيدون عن الحق الواضح المبين بإشراك أحد مع الله في العبادة وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2656)
القرآن.. والعزاء والشفاء (382)
الخلق.. وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق.
مررنا حينها ببعض الأنهار، فقرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه﴾ [النمل: 61]، ثم قال (1): وهذه معادلة أخرى، يوازن فيها المشركون بين الله، وبين آلهتهم.. أي أحق بالألوهة، وأولى بالعبادة؟.. أآلهتكم تلك الخرساء الصماء، أم الله الذي جعل الأرض قرارا؟ أي موضعا صالحا لحياة الإنسان، واستقراره عليها، ﴿وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ [النمل: 61] أي وأجرى بين شعاب الأرض أنهارا، تخلل أجزاءها، بحيث يأخذ كل جزء منها حظه من هذه الأنهار ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾ [النمل: 61] أي جبالا راسية، تمسك بها أن تميد أو تضطرب.. ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾ [النمل: 61] أي فصل بين ماء البحار، وماء الأنهار، حيث يلتقيان، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. بل يبقى ماء الأنهار عذبا سائغا، ويظل ماء البحار ملحا أجاجا.. هذا هو صنع الله، وتلك آيات قدرته، وسوابغ رحمته.. فأين ما للآلهة التي تعبدونها، أيها المشركون الضالون؟.. ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل: 61].. أجيبوا.. وقد أجابوا جواب الذين لا حظ لهم من علم.. ولو أنهم كانوا على شيء من العلم، لأنار لهم علمهم الطريق إلى الحق، ولنطقوا بما ينبغى أن ينطق به أهل العلم، وهو أنه (لا إله إلا الله).. ولكن أتى لهم هذا، وهم في هذا الجهل المظلم.. ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: 61]
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]، ثم قال (2): ومعادلة ثالثة.. بين ما لله، وبين ما يكون لهذه المعبودات من دون الله.. أفهذه الآلهة، التي لا تملك
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 265)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 266)
القرآن.. والعزاء والشفاء (383)
ضرا ولا نفعا، أم الإله الواحد، القادر السميع، البصير، الذي تفزعون إليه ـ أيها الضالون المكذبون ـ عند كل كرب، وتدعونه عند كل شدة، فيستجيب لكم، ويكشف الضر عنكم؟.. كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 63 ـ 64].. أآلهتكم هذه؟ أم الله رب العالمين، الذي أعطاكم هذه الصورة البشرية السوية، ومنحكم العقل، والمنطق، وأقامكم على هذه الأرض خلفاء لله فيها؟.. ألا تذكرون فضل الله عليكم، ولا تنظرون إلى نعمه إليكم؟.. ألا تشكرون له أن أخرجكم من العدم إلى الوجود، ثم أعطاكم من الوجود الأرضى أحسن وأكرم ما خلق فيه؟.. أجيبوا.. أيها الضالون المكذبون، الجاحدون؟.. وقد أجابوا بما يجيب به كل جاحد لنعمة الله.. لا يذكر الله إلا عند الشدة، فإذا انجلى الكرب، وذهبت الشدة ﴿نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الزمر: 8].. ولهذا جاءت فاصلة الآية: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62] لتسجل عليهم هذا التنكر لنعمة الله عليهم، وإحسانه إليهم.. فهم لا يذكرون لله هذه النعمة، ولا يتذكرون هذا الإحسان..
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 63]، ثم قال (1): معادلة أو موازنة رابعة.. أآلهتكم هذه الجاثمة الجامدة، أم الله الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر، بما أقام لكم من معالم في السماء والأرض، تتعرفون بها وجهتكم، في تنقلكم على ظهر الأرض أو البحر؟.. أآلهتكم هذه المستخزية العاجزة، أم الإله الذي يرسل الرياح فتثير
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 268)
القرآن.. والعزاء والشفاء (384)
السحاب، وتدفعه إلى حيث ينزل ماء من السماء، فيحيى الأرض ومن عليها؟.. ماذا تقولون؟.. أجيبوا.. أيها اللاهون الغافلون.. ويجيبون بهذا الصمت الغبي.. ويجيب الوجود كله من حولهم، بهذا الجواب، الناطق بوحدانية الله، المنزه لله عن الشريك، والصاحبة والولد.. ﴿تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: 63]
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: 64]، ثم قال (1): وهذه معادلة أو موازنة خامسة.. أآلهتكم هذه العجماء، الصماء.. أم الله الذي يبدأ الخلق، وينشئه ابتداء على غير مثال، ثم يعيده خلقا آخر كما بدأه، بعد أن يبلى، وتذهب معالمه؟.. ماذا تقولون؟.. أتقولون بعد هذا.. إن مع الله إلها، يصنع ما يصنع الله، ويتصرف معه في هذا الوجود، أو يشاطره بعضا منه؟.. ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: 64].. فأين الحجة على ما بين أيديكم؟ وأين البرهان على ما تقولون من أن مع الله إلها أو آلهة أخرى؟.. إن القول بلا حجة يستند إليها، وبلا دليل يقوم عليه ـ هو كلام، لا معقول له، ولا حياة فيه، ولا نفع لمن يتعلق به: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117]
سكت قليلا، ثم قال (2): وفي هذا العرض الممتد، المختلف الصور والألوان، لآيات الله في الأرض وفي السماء، وفي البر والبحر، لا يجد المكابرون والمعاندون، سبيلا إلى الإفلات والهروب من الإقرار بوحدانية الله.. إذ كانوا كلما أخذوا وجها من وجوه الضلال، لقيهم معرض من معارض قدرة الله.. حتى إذا كان آخر المطاف كانت كل ظنونهم وأوهامهم في
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 268)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 269)
القرآن.. والعزاء والشفاء (385)
آلهتهم قد ضلت عنهم، وفرت من بين أيديهم، فوقفوا في حيرة، بين الاتجاه إلى الله الذي يحجبهم عنه كبرهم وعنادهم، وبين الجري وراء آلهتهم بعد أن انكشف لهم أمرها.. وهنا لا يطالبهم القرآن بأكثر من أن يستعملوا شيئا من العقل والمنطق، وأن يحترموا إنسانيتهم، فلا يؤمنوا إلا بما يقبله العقل، ويطمئن إليه القلب، وإلا بما يقوم للعقل منه برهان على أنه الحق!.. لقد أقامهم القرآن في هذا العرض مقام الشك، والشك ـ كما يقولون ـ أول مراتب اليقين.
بعد أن حدثني الشيخ بكل هذا، قال: لقد كانت لي مجالس كثيرة مع معلمي الكاظم، وقد وفقني الله لزيارته في بيته، وسمعت منه من أحاديث الإيمان ما جعلني لا أشعر بكل تلك الآلام التي يعيش فيها من هم في مثل سني.. وأصدقك القول بأني الآن أكثر شبابا مني في وقت شبابي، ذلك لأني حينها كنت مملوء بالتشاؤم الذي نشره في الإلحاد والجهل، وأنا الآن مملوء بالإيمان الذي نشره في الإيمان والعلم.
بعد أن انتهى من حديثه استأذنني في أن يعود لعمله، فأذنت له، وقد رحت أراقبه من بعيد لأرى مدى اهتمامه بعمله، فوجدت أنه لم يهتم بعمله فقط، بل كان يذكر الله بشوق عظيم عند كل حركة يقوم بها في عمله.
سرت في الطريق إلى أن بدت لي أطراف البلدة، وقد بدا لي من جمالها ما لم أعهد مثله، فقد كانت الحدائق موزعة في كل محل.. والبيوت بسيطة جدا، لكنها ممتلئة بالجمال.
وقد صادفت في طريقي مجموعة من الشيوخ، يتحدثون بحماس شديد، وقد تصورت في البداية أن حديثهم حديث لهو وتسلية، لكني وجدته غير ذلك تماما.
القرآن.. والعزاء والشفاء (386)
لقد قال أحدهم يخاطبهم (1): إخواني الشيوخ.. يا من بلغتم سن الكمال.. إنني مثلكم شيخ كبير، سأذكر لكم بعض ما مر علي من أحوال، وما وجدته بين حين وآخر من أبواب الأمل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في أنوار السلوة المشعة من تلكم الرجايا والآمال.
سكت قليلا، ثم قال (2): حينما شارفت على الشيخوخة، وفي أحد أيام الخريف، وفي وقت العصر، نظرت إلى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في أعماقي.. رأيت نفسي: أنني بلغت من العمر عتيا، والنهار قد غدا شيخا، والسنة قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزا عنيفا، فقد دنا أوان فراق الدنيا، وأوشك أوان فراق الأحباب أن يحل.. وبينما أتململ يائسا حزينا إذا بالرحمة الإلهية تنكشف أمامي انكشافا حول ذلك الحزن المؤلم إلى فرحة قلبية مشرقة، وبدل ذلك الفراق المؤلم للأحباب إلى عزاء يضيء جنبات النفس كلها.
سكت قليلا، ثم قال (3): نعم يا أمثالي من الشيوخ.. إن الله سبحانه وتعالى الذي يقدم ذاته الجليلة إلينا، ويعرفها لنا في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، بصفة (الرحمن الرحيم).. والذي يرسل رحمته بما يسبغ على وجه الأرض دوما من النعم، مددا وعونا لمن استرحمه من ذوي الحياة، والذي يبعث بهداياه من عالم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنعم لا تعد ولا تحصى، يبعثها إلينا نحن المحتاجين إلى الرزق، مظهرا بها بجلاء تجليات رحمته العميمة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا، فرحمة خالقنا الرحيم هذه
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 313.
(2) اللمعات، النورسي، ص 314.
(3) اللمعات، النورسي، ص 314.
القرآن.. والعزاء والشفاء (387)
أعظم رجاء، وأكبر أملا في عهد شيخوختنا هذه، بل هي أسطع نورا لنا.. إن إدراك تلك الرحمة والظفر بها، إنما يكون بالانتساب إلى ذلك (الرحمن) بالإيمان، وبالطاعة له سبحانه بأداء الفرائض والواجبات.
قال آخر (1): بورك فيك.. ومثلك أنا.. فحينما أفقت على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت إلى نفسي متأملا فيها، فوجدتها كأنها تنحدر نزولا من عل إلى سواء القبر، فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجرا إثر حجر على مر الأيام.. وآمالي التي كانت تشدني بقوة إلى الدنيا، بدأت أوثاقها تنفصم وتنقطع، فدب في شعور بدنو وقت مفارقة من لا يحصى من الأحبة والأصدقاء، فأخذت أبحث عن ضماد لهذا الجرح المعنوي الغائر، الذي لا يرجى له دواء ناجع كما يبدو.. وبينما كنت في هذه الحالة إذا بنور الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو رحمة الله على العالمين، ومثالها الذي يعبر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، وإذا بشفاعته، وبما أتاه من هدية الهداية إلى البشرية، يصبح بلسما شافيا، ودواء ناجعا لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتم الذي أحاطني إلى نور الرجاء الساطع.
قال آخر بحماس شديد (2): أجل، أيها الشيوخ.. إننا راحلون ولا مناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالمكوث هنا بمخادعة النفس وإغماض العين، فنحن مُساقون إلى المصير المحتوم، لكن عالم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الأوهام الناشئة من الغفلة، وبما قد يصوره أهل الضلالة، فليس هو بعالم الفراق، ولا بعالم مظلم، بل هو مجمع الأحباب، وعالم اللقاء مع الأحبة والأخلاء، وفي طليعتهم حبيب رب العالمين وشفيعنا عنده يوم
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 314.
(2) اللمعات، النورسي، ص 315.
القرآن.. والعزاء والشفاء (388)
القيامة صلى الله عليه وآله وسلم.. إننا راحلون إلى العالم الذي استنار بنور ذلك السراج المنير وبمن حوله من نجوم الأصفياء والأولياء الذين لا يحصرهم العد.
قال آخر: (1) لقد مرت بي في حياتي آلام كثيرة.. وعندما صرخت من أعماقي أطلب إمداد العون، وضياء الرجاء.. إذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدني، ويسعفني، ويفتح أمامي باب رجاء عظيم، ويمنحني نورا ساطعا من الأمل والرجاء يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه أن يبدد تلك الظلمات القاتمة من حولي.. نعم، أيها الشيوخ المحترمون، يا من بدأت أوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي.. إن الصانع ذا الجلال الذي خلق هذه الدنيا أكمل مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصر منيف، هل يمكن لهذا الخالق الكريم ألا يتكلم مع أحبائه وأكرم ضيوفه في هذه المدينة أو في هذا القصر؟.. وهل يمكن ألا يقابلهم؟.. فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظمه بإرادة، وزينه باختيار، فلابد أنه يتكلم؛ إذ كما أن الباني يعلم، فالعالم يتكلم، وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جميلة بهيجة، وهذه المدينة متجرا رائعا، فلابد أن يكون له كتب وصحف يبين فيها ما يريده منا، ويوضح علاقاته معنا.
قال آخر (2): أجل.. فلا شك أن أكمل كتاب من تلك الكتب المقدسة التي أنزلها، إنما هو القرآن الحكيم المعجز، والذي يُتلى في كل دقيقة بألسنة ملايين الأشخاص، والذي ينشر النور ويهدي السبيل، والذي في كل حرف من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الأقل، وأحيانا عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر، وهكذا يمنح من ثمار الجنة ونور البرزخ ما شاء الله أن يمنح، فهل في الكون أجمع كتاب يناظره في هذا
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 316.
(2) اللمعات، النورسي، ص 316.
القرآن.. والعزاء والشفاء (389)
المقام؟.. وهل يمكن أن يدعي ذلك أحد قط؟
رفع آخر المصحف بيده، وقال (1): ما دام هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين، وهو أمره المبلغ إلينا، وهو منبع رحمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السماوات والأرض ذي الجلال، من جهة ربوبيته المطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحمته المحيطة الواسعة، فاستمسكوا به واعتصموا، ففيه دواء لكل داء، ونور لكل ظلام، ورجاء لكل يأس.. وما مفتاح هذه الخزينة الأبدية إلا الإيمان والتسليم، والاستماع إليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.
قال آخر (2): لقد بحثت من خلال الحسرات الغائرة التي مررت بها عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلى بها نفسي، فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدني بنور باهر، إنه منحني نورا لا ينطفئ أبدا، ورجاء لا يخيب مطلقا.. أجل يا إخواني الشيوخ.. ما دامت الآخرة موجودة، وما دامت هي باقية خالدة، وما دامت هي أجمل من الدنيا، وما دام الذي خلقنا حكيما ورحيما؛ فما علينا إذن إلا عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لأن الشيخوخة المشربة بالإيمان والعبادة، والموصلة إلى سن الكمال، ما هي إلا علامة انتهاء واجبات الحياة ووظائفها، وإشارة ارتحال إلى عالم الرحمة للخلود إلى الراحة، فلابد إذن من الرضا بها أشد الرضا.
قال آخر (3): نعم، إن إخبار مائة وأربعة وعشرين ألفا من المصطفين الأخيار وهم الأنبياء والمرسلون ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كما نص عليه الحديث ـ عن وجود الدار الآخرة، وإعلانهم بالإجماع أن الناس سيساقون إليها، وأن الخالق سبحانه وتعالى سيأتي
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 317.
(2) اللمعات، النورسي، ص 318.
(3) اللمعات، النورسي، ص 318.
القرآن.. والعزاء والشفاء (390)
بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعدا قاطعا.. وكذا، فإن تجليات جميع الأسماء الحسنى لخالق الكون المتجلية في أرجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.. وكذا القدرة الإلهية وحكمتها المطلقة، التي لا إسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الأشجار الميتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لا تعد ولا تحصى على سطح الأرض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [غافر: 68] وتجعلها علامة على البعث بعد الموت، فتحشر مئات آلاف الأنواع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرة بذلك مئات الألوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.. وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الأرواح المحتاجة إلى الرزق، وتعيشها بكمال الرأفة عيشة خارقة للغاية، والعناية الدائمة التي تظهر أنواع الزينة والمحاسن بما لا يعد ولا يحصى، في فترة قصيرة جدا في كل ربيع، لا شك أنهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.
قال آخر (1): وكذا عشق البقاء، والشوق إلى الأبدية وآمال السرمدية المغروزة غرزا لا انفصام لها في فطرة هذا الإنسان الذي هو أكمل ثمرة لهذا الكون، وأحب مخلوق إلى خالق الكون، وهو أوثق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك أنه يشير بالبداهة إلى وجود عالم باق بعد هذا العالم الفاني، وإلى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الأبدية.
قال آخر (2): فجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة ـ إلى حد يستلزم القبول ـ وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا، فما دام أهم درس يلقننا القرآن إياه هو الإيمان بالآخرة، وهذا الدرس رصين ومتين إلى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيمان نور باهر ورجاء شديد
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 319.
(2) اللمعات، النورسي، ص 319.
القرآن.. والعزاء والشفاء (391)
وسلوان عظيم ما لو اجتمعت مائة ألف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء، وذلك السلوان النابع من هذا الإيمان؛ لذا علينا نحن الشيوخ أن نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: الحمد لله على كمال الإيمان.
قال آخر (1): ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمة الجبل التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا.. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحس به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط، فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثا عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلا من أن تسليني.. ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشا عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من أن يؤنسني.. ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.. فلما يئست من هذه الجهة أيضا، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إلي، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظرا إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلا رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 321.
القرآن.. والعزاء والشفاء (392)
اختلطا معا وامتزجا، وهما يداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داء من دون أن يمنحاني دواء.. ثم حولت نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبت هذه النظرة السم على جروحي بدلا من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.
سكت قليلا، ثم قال (1): ولما لم أجد في تلك الجهة خيرا ولا أملا، وليت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيدا، فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغرا فاه، يحدق بي، وخلفه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد، وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحا يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية، فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري، ولكن لما كان هذا السلاح ناقصا وقاصرا وعاجزا، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلا الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذب عني الأحزان ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عني الأهوال والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألا جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.
ثم ابتسم، وقال (2): وفيما كنت مضطربا وسط الجهات الست تتوالى علي منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز، تمدني وتضيء تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 322.
(2) اللمعات، النورسي، ص 323.
القرآن.. والعزاء والشفاء (393)
انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الأنوار كافية ووافية لإحاطته، فبدلت ـ تلك الأنوار ـ السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحولت كل المخاوف إلى أنس القلب، وأمل الروح الواحدة تلو الأخرى.. نعم، إن الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحولها إلى مجلس منور، وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين..
ثم قال بحماس شديد (1): إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو إلا مجلس ضيافة رحمانية أعدت في قصور السعادة الخالدة.. وحطم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.. والإيمان بصرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة، أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي ـ التي هي أهل للحياة الأبدية ومرشحة للسعادة الأبدية ـ من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.. والإيمان بين بأسراره أن عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاما حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.. والإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أن أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم ـ كما ظن في بادئ الأمر ـ بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 323.
القرآن.. والعزاء والشفاء (394)
الدنيا علم اليقين.
سكت قليلا، ثم قال (1): إن الإيمان قد أوضح لي بنور الآية الكريمة أن ذلك القبر الذي أحدق بي ناظرا ومنتظرا ليس هو بفوهة بئر، وإنما هو باب لعالم النور، وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقا ممتدا ومنتهيا بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سوي إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواء لدائي، ومرهما له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.. ثم، إن الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من الجزء الاختياري الذي يملك كسبا جزئيا للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري، ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني، وإن كان في حد ذاته ناقصا عاجزا قاصرا، إلا أنه إذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبذل في سبيله، ولأجله، يمكن أن ينال به ـ بمقتضى الإيمان ـ جنة أبدية.. مثل المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي أعمالا تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.
قال آخر (2): يا أيها الإخوان الشيوخ، يا من تتألمون مثلي من تعب المشيب.. ما دمنا والحمد لله من أهل الإيمان، والإيمان فيه خزائن حلوة نيرة لذيذة محبوبة إلى هذا الحد، وأن شيبنا يدفعنا إلى هذه الخزائن دفعا أكثر، فليس لنا التشكي من الشيخوخة إذن، بل يجب علينا أن نقدم ألف شكر وشكر إلى الله عز وجل، وأن نحمده تعالى على شيبنا المنور بالإيمان.
ما إن انتهوا من حديثهم هذا، والمملوء بالأمل والتفاؤل، حتى قال أحدهم: فهلم يا
__________
(1) اللمعات، النورسي، ص 324.
(2) اللمعات، النورسي، ص 325.
القرآن.. والعزاء والشفاء (395)
إخواني الشيوخ، نترحم على روح معلمنا الكاظم، فلولاه لعشنا في غياهب الظلمات والجهل.. لقد كانت أحاديثه الإيمانية لنا هي السبب في تخلصنا من كل تلك العقد النفسية التي كانت تستحوذ علينا، وتحيط بنا، وتمنعنا من كل أمل وسعادة.
قالوا ذلك.. ثم رفعوا أيديهم إلى السماء يدعون الله له، ويبكون ويتضرعون.
تركتهم، وسرت إلى داخل البلدة الجميلة، وكان أول ما صادفني فيها مسجد بسيط متواضع وفي منتهى الجمال.. فأردت أن أبدأ زيارتي لتلك المدينة بالصلاة فيه.. وعندما دخلت وصليت ما كتب الله لي.. رأيت جمعا من الناس، يلتفون حول بعض الشيوخ، وكأنه يحكي لهم ذكرياته، وقد سمعت منه قوله: في تلك الأيام الشديدة التي ضاقت علي فيها الدنيا على سعتها.. وأتيت قاصدا ذلك الجبل الذي لا يقصده إلا من يئسوا من كل شيء، وجدت معلمي الكاظم.. كان هناك يعبد الله، وبخشوع لم أر له نظيرا.
بعد أن انتهى من صلاته، ناداني، فهرعت إليه، فقال: قبل أن تفكر فيما أزمعت القيام به هل بحثت في وجود الله؟
قلت: لا.. لم أبحث.. بل أنا ورثت إيماني بالله.. ولم يتطرق إلي أبدا الشك فيه.
ابتسم، وقال: هنيئا لك وراثتك لإيمانك.. لكن هل تعلم معنى قولك هذا؟
قلت: ما معناه؟
قال: هو يشبه شخصا ورث أرضا واسعة صالحة للزراعة، فعندما سئل عنها، أخبرهم أنه ورثها.. فهل وراثتها تكفي لأن تنتج ما يحتاجه، أم أن عليه أن يحرثها ويزرعها ويعتني بها؟
قلت: بل عليه أن يفعل كل ذلك حتى ينال نتاجها.
القرآن.. والعزاء والشفاء (396)
قال: فهكذا الإيمان.. إنه ليس مجرد شيء نرثه، بل هو حياة نعيشها، ومشاعر نتذوقها.
قال ذلك، ثم أعاد السؤال علي: هل تعرف ما معنى كون الله موجودا؟
سكتّ، فقال (1): إن معنى أن الله موجود هو أن العدل موجود، والرحمة موجودة، والمغفرة موجودة.. معناه أن يطمئن القلب، وترتاح النفس، ويسكن الفؤاد، ويزول القلق.. فالحق لابد واصل لأصحابه.. معناه أنه لن تذهب الدموع سدى، ولن يمضي الصبر بلا ثمرة، ولن يكون الخير بلا مقابل، ولن يمر الشر بلا رادع، ولن تفلت الجريمة بلا قصاص.. معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود، وليس البخل.. وليس من طبع الكريم أن يسلب ما يعطيه.. فإذا كان الله منحنا الحياة، فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة.. وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت، ثم حياة أخرى بعد البعث، ثم عروج في السماوات إلى ما لا نهاية.
عندها تذكرت أصدقائي الذين كانوا يذكرون لي عبثية الحياة، فقال المعلم (2): معنى كون الله موجودا أنه لا عبث في الوجود، وإنما هناك حكمة في كل شيء.. وحكمة من وراء كل شيء.. وحكمة في خلق كل شيء.. في الألم حكمة.. وفي المرض حكمة.. وفي العذاب حكمة.. وفي المعاناة حكمة.. وفي القبح حكمة.. وفي الفشل حكمة.. وفي العجز حكمة.. وفي القدرة حكمة.
سكت قليلا، ثم قال (3): معنى كون الله موجودا ألا يكف الإعجاب، وألا تموت الدهشة، وألا يفتر الانبهار، وألا يتوقف الإجلال.. فنحن أمام لوحة متجددة لأعظم المبدعين.. معناه أن
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 7.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 7.
(3) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 8.
القرآن.. والعزاء والشفاء (397)
تسبّح العين وتكبّر الأذن ويحمد اللسان ويتيه الوجدان ويبهت الجنان.. معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر وتحتفل الأحاسيس بكل لحظة وتزف الروح كل يوم جديد كأنه عرس جديد.
التفت إلي بحنان، وقال (1): معنى كون الله موجودا ألا نعرف اليأس ولا نذوق القنوط.. وأن تذوب همومنا في كنف رحمة الرحيم ومغفرة الغفار.. وأن يذوب ضيقنا وألمنا وإحباطنا في فرج الله وفضله وكرمه.. ألم يقل لنا ربنا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 ـ 6]؟
طلب مني أن آخذ بيده ليقوم، فأخذت بها، ثم وضع يده على كتفي، وقال (2): لأن الله سبحانه واحد.. فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده.. ولن ننقسم على أنفسنا.. ولن تتوزعنا الجهات.. ولن نتشتت بين ولاء لليمين وولاء لليسار، وتزلف للشرق وتزلف للغرب، وتوسل للأغنياء وارتماء على أعتاب الأقوياء.. فكل القوة عنده، وكل الغنى عنده، وكل العلم عنده، وكل ما نطمح إليه ين يديه.. والهرب ليس منه، بل إليه.. فهو الوطن والحمى، والملجأ والمستند، والرصيد والباب والرحاب.. وذلك الإحساس معناه السكن والطمأنينة وراحة البال والتفاؤل والهمة والإقبال والنشاط والعمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل.. وتلك ثمرة (لا إله إلا الله) في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها، ويؤمن بها ويعيشها.. وتلك هي أخلاق المؤمن بلا إله إلا الله.. وتلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس، وتشفى كل علل العقول وتبرئ كل أدواء القلوب.. وتلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلال الأيدي والأرجل والأعناق.. وهي أيضا مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا، وكلمة السر التي تحرك الجبال وتشق البحور وتغير ما لا يتغير.
سكت قليلا، ثم قال (3): لم يخلق إلى الآن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 8.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 8.
(3) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 9.
القرآن.. والعزاء والشفاء (398)
الأثر في النفس.. وكل عقاقير الأعصاب تداوي شيئا وتفسد معه ألف شيء آخر.. وهي تداوي بالوهم وتريح الإنسان بأن تطفئ مصابيح عقله وتنومه وتخدره وتلقى به إلى قاع البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة.. أما كلمة (لا إله إلا الله) فإنها تطلق الإنسان من عقاله وتحرره من جميع العبوديات الباطلة، وتبشره بالمغفرة وتنجيه من الخوف وتحفظه من الوسواس وتؤيده بالملأ الأعلى وتجعله أطول من السماء هامة وأرسخ من الأرض ثباتا.. فمن استودع همه وغمه عند الله بات على ثقة، ونام ملء جفنيه.
جلس على بعض الصخور، وقال يخاطبني بحنان (1): لأن الله هو خالق الكون ومقدر الأقدار ومحرك المصائر.. فليس في الإمكان أبدع مما كان.. لأنه المبدع بلا شبيه.. لا يفوقه في صنعته أحد.. فلن تعود الدنيا مسرحا دمويا للشرور، وإنما درسا رفيعا من دروس الحكمة.. ولأن الله موجود فإننا لسنا وحدنا.. وإنما تحف بنا العناية حيث سرنا، وتحركنا المشيئة حيث حللنا.. وذلك معناه شعور مستمر بالإئتناس والصحبة والأمان.. لا هجر.. ولا غدر.. ولا ضياع.. ولا وحدة.. ولا وحشة ولا اكتئاب، وذلك حال أهل (لا إله إلا الله).. إنهم يذوقون شميم الجنة في الدنيا قبل أن يدخلوها في الآخرة.. وهم الملوك بلا عروش وبلا صولجان.. وهم الراسخون المطمئنون الثابتون لا تزلزهم الزلازل، ولا تحركهم النوازل.
ثم ختم حديثه لي بقوله (2): تلك هي الصيدلية الإلهية لكل من داهمه القلق.. فيها علاجه الوحيد.. وفيها الإكسير والترياق وماء الحياة الذي لا يظمأ بعده شاربه.. وفيها الرصيد الذهبي والمستند لكل ما نتبادل على الأرض من عملات ورقية زائلة متبدلة.. وفيها البوصلة والمؤشر والدليل.. وفيها الدواء لكل داء.
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 9.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (399)
قال ذلك، ثم انصرف لصلاته.. فتبعته.. فقال: توضأ من ذلك النبع، واشرب من مائه، فهو طاهر.
توضأت وشربت.. ورحت أشاركه في الصلاة والدعاء.. ومنذ ذلك اليوم صرت أحد تلاميذه، وقد طلب مني أن أسكن هذه البلدة، وأن أبني هذا المسجد، وأن أهتم بتعليم القرآن الكريم قراءة وحفظا وتدبرا.. والحمد لله كنت سببا في إحضار جميع أصدقائي الذين ضاقت بهم الحياة، لنسكن هذه المدينة الطيبة المملوءة بالسعادة، وقد عوضنا الله من فضله أضعاف ما فاتنا في البلاد التي كنا نسكن فيها.
بعد أن سمعت لحديث إمام المسجد، وقصته مع معلمه الكاظم، سرت في أنحاء البلدة.. التي لم يشدني إليها جمالها فقط، بل شدني أكثر هدوؤها وسكينتها وسكينة أهلها وطمأنينتهم.. وكأني كنت أسير في الجنة التي قال الله تعالى فيها: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 25 ـ 26]
رأيت بعض الشباب مجتمعين يلعبون من دون ضجة ولا جلبة كعادة الشباب الذين أعرفهم، فتعجبت كثيرا من حالهم، فاقتربت منهم، وقلت: عهدي بالشباب أصحاب قوة وجلبة، لا أصحاب هدوء وسكينة.
قال أحدهم: فعباد الرحمن إذن قاصرون على الشيوخ، وليس فيهم شباب؟
قلت: معاذ الله.. فعباد الرحمن يشملون كل الأعمار.
قال: فقد قال تعالى في شأنهم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا
القرآن.. والعزاء والشفاء (400)
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن السكينة والوقار والهدوء هو أول صفاتهم، ولولاها لما تحققوا بباقي الصفات.
قلت: ما شاء الله.. أنت شاب، ولكنك بارع في الاستنباط.. من أين تعلمت هذا؟
قال: إن صدقت في تلمذتك للقرآن، فسيعلمك الله من العلوم، ما لا تصل إليه بعقلك أبدا.
قلت: لقد ذكرتني بقول الإمام علي: (لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب)(1)
قال: وأنت ذكرتني بذكرك هذا بمعلمنا الكاظم.. لقد كان يكرر هذه الكلمة كثيرا.. وكان يعلمنا المفاتيح التي نتدبر بها القرآن الكريم.
قلت: ما شاء الله.. هذا جميل جدا.. إذن سأجلس إليكم لتعلموني هذه المفاتيح.
قال: لم يئن أوانك بعد لتتعلمها.. وأنت ما زرت بلدتنا لأجل ذلك.. بل زرتها لتتعلم العزاء والسلوى.. ومن القرآن الكريم، وتلاميذ القرآن الكريم.
قلت: أجل.. فهل لديكم من ذلك علم؟
قال: الحمد لله.. فلولا تلك العلوم لكنا في عالم آخر غير هذا العالم..
قلت: فحدثوني إذن.
قال أحدهم: بما أني أكبركم سنا.. فسأحدثكم بما سمعته من معلمي الكاظم.. لقد حدثنا مرة ـ معشر الشباب ـ وقال (2): من أول صفات المؤمنين التي ذكرها القرآن الكريم أنهم أهل حلم وصبر وتواضع وتسامح وحياء.. تعرفهم بطول الصمت وتواصل الفكر
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 283)
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (401)
وخفض الصوت والبعد عن الهرج والصخب والتلاعن.. وتعرفهم بالتأني والاتقان والإحسان فيما يعهد إليهم من أعمال، وتعرفهم بالدماثة ولين الطبع والصدق والوفاء والاعتدال في الأخذ من كل شيء.
سكت قليلا، ثم قال (1): وإذا كان لابد من اختيار صفة واحدة جامعة لطابع المؤمن لقلت هي السكينة.. فالسكينة هي الصفة المفردة التي تدل على أن الانسان استطاع أن يسود مملكته الداخلية ويحكمها ويسوسها.. وهي الصفة المفردة التي تدل على انسجام عناصر النفس والتوافق بين متناقضاتها وانقيادها في خضوع وسلاسة لصاحبها وهي أمر لا يوهب إلا لمؤمن.
ثم نظر إلينا جميعا بحنان، وقال (2): يمكننا أن نقرأ هذه السكينة في هدوء صفحة الوجه.. ليس هدوء السطح، بل هدوء العمق.. هدوء الباطن.. وليس هدوء الخواء ولا سكون البلادة، وإنما هدوء التركيز والصفاء واجتماع الهمة ووضوح الرؤية.. وكأنما الذي تراه أمامك يضم البحر بين جنبيه.. والبحر ساكن، ولكنه جياش يطرح الآلئ والأصداف والمراجين من أعماقه لحظة بعد لحظة، فهو غني الغنى اللانهائي.
وعندما سألناه عن سر ذلك، قال (3): لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة.. علاقته بالأمس والغد وعلاقته بالموت.. وعلاقته بالناس.. وعلاقته بعمله ونظرته للأخلاق.
ثم حدثنا عن علاقة السكينة بهذه المعاني جميعا، وبدأ بالأخلاق، فقال (4): الأخلاق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما لا يتعارض مع حق الآخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا، فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الأولى وهدفها حسن توزيع اللذات.. أما الأخلاق بالمعنى
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 11.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 11.
(3) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 11.
(4) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 11.
القرآن.. والعزاء والشفاء (402)
القرآني، فهي بالعكس.. هي أن تقمع رغباتك وتخضع نفسك وتخالف هواك وتحكم شهواتك لتتحقق برتبتك ومنزلتك العظيمة كخليفة عن الله ووارث للكون المسخر من أجلك.. فأنت لا تستحق هذه الخلافة والسيادة على العالم، إلا إذا استطعت أولا أن تسود نفسك وتحكم مملكتك الداخلية.. ومفهوم الأخلاق هنا فردي، وهدفه بلوغ الفرد درجة كماله وإن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك الفرد فإنها تأتي بالتبعية.. فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلاء الأفراد لابد أن يسوده الوئام والسلام والمحبة.
ثم حدثنا عن دور الأخلاق في ترقي الإنسان وحصوله على السكينة التامة، فقال (1): الأخلاق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا.. خروج من الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الإله.. خروج من الجزء إلى الكل.. من النسبي إلى المطلق، حيث يجب أن تطلع كل العيون.. وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تم تصحيح وتكميل بصر العين.. فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه ونسبته لا تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالات الإلهية.
ثم رد على تلك الإشاعات التي كنا نسمعها إبان جاهليتنا، والتي كانت تنحرف بالأخلاق عن معناها الذي أراده الله، فقال (2): ولهذا تبدأ الأخلاق القرآنية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها وتخضعها، ولا تبدأ بالتسليم لها وبإشباعها كما هو شائع، فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات، وإنما هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات، وهكذا تختلف النظرتان تماما وتؤدي كل منهما إلى انسان مختلف.. فالانسان المادي يستهدف النزوة واللذة الفورية والمقابل المادي العاجل لأنه لا يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية، وهو لهذا يجري وراء اللحظة، ويلهث وراء (الآن)، ولكن اللحظة متفلتة و(الآن) هارب والفوت والحسرة تلاحقانه في أعقاب كل
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 12.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 12.
القرآن.. والعزاء والشفاء (403)
خطوة يخطوها، وهو متروك دائما وفي حلقه غصة، وفي لبه حسرة، وكلما أشبع شهوته ازدادت جوعا، وهو يراهن كل يوم بلا ضمان وبلا رصيد فهو محكوم عليه بالموت لا يعرف متى وكيف وأين، فهو يعيش في قلق وتوتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات لا يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه الموت رغم أنفه.
ثم ذكر لنا الفرق بين المؤمن وغيره في هذا، فقال (1): أما الانسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف وأخلاقية مختلفة، فهو يرى اللذات الدنيوية زائلة، وأنها لا تساوي شيئا، وأنها مجرد امتحان إلى منازل ودرجات وراءها، وأن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل والدرجات الباقية.. وأن الدنيا كالخيال، وأن الله هو الضمان الوحيد في رحلة الدنيا والآخرة.. وأنه لا حاكم ولا مقدر سواه.. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا عند حديثه عن الحفظ الإلهي، فقال: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)(2).. ولهذا فإن المؤمن لا يفرح لكسب ولا ييأس على خسران، وإذا دهمه ما يكره ردد في نفسه قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، ولهذا، فإن الله عنده حكيم عادل رحيم لا يقضي بالشر إلا بسبب ولحكمة أو لفائدة واستحقاق عادل.
ثم ذكر فروقا أخرى كثيرة بين المؤمن وغيره في هذا، فقال (3): والمؤمن لا يحسد أحدا ولا يغبط أحدا، بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة، يقول له قلبه: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 196 ـ 197]، ويقول: ﴿أَيَحْسَبُونَ
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 13.
(2) الترمذي (2516)، أحمد (1/ 293، 303)
(3) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 14.
القرآن.. والعزاء والشفاء (404)
أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56]، ويقول: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ [آل عمران: 178]، ويقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22 ـ 23]، ويقول: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: 51]
وبعد أن قرأ تلك الآيات الكريمة بصوت خاشع، قال (1): ثمرة تلك الآيات عند المؤمن هي السكينة والهدوء النفسي واطمئنان البال والثقة في حكمة الله وعدله ورحمته وتصريفه.. ومثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته، وجد عوضا لها حلاوة في قلبه، مما يلقى من التحرر الداخلي من أغلال نفسه ومما يجد من النور في بصيرته.. وهو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق ويترك الدعاوى إلى الأوامر.. ويترك أهواء النفس إلى وجه الحق.. ويكف عن التلهف والحركة وراء الأغراض والمناصب والرياسات والمغانم ويسكن إلى جنب الله.. وهل بعد الله مغنم!؟
سكت قليلا، ثم قال (2): ومن صفات هذا المؤمن العامل لوجه الله أنه ناهض بالهمة على الدوام لا يفتر ولا يكسل ولا يتواكل، بينما يفتر من يعمل للأجر ويفتر من يعمل للخوف، حيث يخدع الأول نفسه بالاستكفاء، ويخدع الثاني نفسه بالتمني.. أما القاصد وجه ربه فإنه لا يفتر لأنه لم يربط جهاده بأجر، وهو لا يكسل متواكلا على مغفرة، لأنه لا يتحرك بالخوف من عقاب، وإنما هو عبد محب متطوع، العمل عنده سعادة، لهذا لا تجده متبرما ولا متسخطا، وإنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل، حماد لربه في جميع
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 14.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 14.
القرآن.. والعزاء والشفاء (405)
الحالات لا يسب الدهر ولا ينسب لربه نقصا ولا قصورا.
قال آخر: لقد كان معلمنا الكاظم يذكر لنا هذه المعاني، وغيرها ليرفعنا ـ معشر الشباب ـ إلى آفاق الإنسانية الرفيعة الحقيقية التي أراد الشياطين إبعادنا عنها بحجة كوننا شبابا.. وكان يربط لنا هذه المعاني بالقرآن الكريم، وكان عند تقريره لكل قضية يذكر لنا الآيات الكريمة الكثيرة الدالة عليها.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أنه قال لنا في بعض مواعظه (1): إن التركيبة النفسية النادرة للمؤمن هي ثمرة الايمان بالقرآن الكريم، وهي ثمرة التوحيد.. والتوحيد يجمع عناصر النفس، ويوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي، فيؤدي بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد الآلهة وتعدد مصادر الخوف والنفع والضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر وانقسام النفس وتشتت الانتباه إلى العديد من الجهات، ويؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية.
وعندما استغرب بعضنا ممن كان متأثرا بالمدارس النفسية قوله، قال المعلم (2): القارئ الصادق المتدبر للقرآن الكريم يخرج بعلم نفس قرآني متميز بديع ومنفرد في تربيته للمسلم.. وليس عجيبا أن القرآن أقام حضارة، وصنع تاريخا.. فإنه قبل ذلك أقام إنسانا وربى نفسا بديعة سوية متفردة في تكاملها وأشرق عليها بسكينة لا مثيل لها.. ومثل تلك التربية الفذة تشهد للقرآن بأنه خرج من المشكاة الإلهية.. فلا مرب مثل الرب.
ثم ذكر له نماذج عن الاختلافات بين علم النفس البشري وعلم النفس القرآني، وقد استغربنا كثيرا علمه بالمدارس النفسية المختلفة، وقد فصل لنا في ذلك بما لا طاقة لنا بذكره هنا، ومما قاله لنا كنتيجة لتلك التفاصيل (3): ولهذا يختلف علم النفس البشري وعلم النفس
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 15.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 15.
(3) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 21.
القرآن.. والعزاء والشفاء (406)
القرآني في علاج الأمراض النفسية، فعلم النفس لا يرى إمكانا لتبديل النفس أو تغييرها جوهريا لأن النفس تأخذ شكلها النهائي في السنوات الخمس الأولى من الطفولة.. ولا يبقى للطبيب النفسي دور سوى إخراج المكبوت فيها إلى الوعي.. أو فتح نوافذ للتنفيس والتعبير وتخفيف الغليان الداخلي.. وبهدف الوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسي إلى العلاج بالتنويم المغناطيسي أو العلاج بالإيحاء أو بالتنفيس والتعبير والفن واللعب أو العلاج بالاستغراق في عمل آلي أو العلاج بالإشباع المباشر.. وكل هذه الصور أشبه بعلاج الأمراض المستعصية بالمراهم أو المسكنات، لأنها لا تحاول أن تغير من النفس شيئا، فكلها تقبل وجود الدمل النفسي على حاله ثم تقول للمريض.. اصرخ أو تأوه أو ارقص أو غنّ لتنفس عن آلامك.. أو تضع يده على الدمل وتقول له.. هنا الدمل.. وهذا كل جهدهم.. أما القرآن الكريم فيقول بإمكانية تبديل النفس وتغييرها جوهريا، ويقول بإمكانية إخراجها من ظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة الإلهية، ومن حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالات الخلقية، وذلك بالرياضة والمجاهدة.
ثم راح يذكر لنا الكثير من التفاصيل المرتبطة بذلك، وكأنه يعلمنا أن نطبق علم النفس القرآني على أنفسنا، ومما قاله لنا في ذلك (1): ويكون التغيير على مراحل.. أولها: تخلية النفس من عاداتها المذمومة وذلك بالاعتراف بالذنوب والعيوب وإخراج هذه العيوب إلى النور، كما قال موسى عليه السلام لربه بعد قتل المصري خطأ: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ [القصص: 16]، وكما نادى يونس عليه السلام في الظلمات: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 21.
القرآن.. والعزاء والشفاء (407)
ثم حدثنا عن المرحلة الثانية، فقال (1): والمرحلة الثانية.. هي التوبة وقطع الصلة بالماضي، والندم على ما فات، ومراقبة النفس فيما يستجد من أمور ومحاسبتها على الفعل والخاطر.
ثم حدثنا عن المرحلة الثالثة، فقال (2): والمرحلة الثالثة.. هي مجاهدة الميول النفسية المريضة بأضدادها، وذلك برياضة النفس الشحيحة على الإنفاق وإكراه النفس الشهوانية على التعفف، ودفع النفس الأنانية إلى البذل والتضحية والإيثار، وحث النفس المختالة المزهوة على التواضع والانكسار، واستنهاض النفس الكسولة إلى العمل.. وبمعالجة الضد بالضد تصل النفس إلى الوسط العدل.. وهو صراط الحكمة.. وهو حظ الصالحين من البشر.
ثم قال (3): ولا تنجح تلك الرياضة دون طلب المدد والعون من الله، ودون الصلاة والخشوع والخضوع والفناء في محبة الله ركوعا وسجودا في توحيد كامل.. وتوحيد الله لا يكون إلا بطاعته الكاملة والاسترسال معه.. لا تريد لنفسك إلا ما يطلبه هو لك.. وهنا تحدث المعجزة.. فيتبدل القلق سكينة والفزع طمأنينة والخسة الشهوانية عفة وطهارة.. والنواقص النفسية كمالات.
ثم حدثنا عن دور الذكر في كل ذلك، فقال (4): وذروة العلاج النفسي هي الذكر.. ذكر الله بالقلب واللسان والجوارح والسلوك والعمل.. واستشعار الحضرة الإلهية على الدوام وطوال الوقت في كل قول وفعل.. وفي الذكر شفاء ووقاية وأمن وطمأنينة، لأن الذكر يعيد الصلة المقطوعة بين العبد والرب، ويربط النفس بمنبعها، ويرد الصنعة إلى صانعها.. حيث هو الأعلم بعيوبها والأقدر على علاجها.. ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].. ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 22.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 22.
(3) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 22.
(4) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 23.
القرآن.. والعزاء والشفاء (408)
152].. فيعود النور ليغمر ظلام النفس ويحل العمار مكان الخراب.
ابتسم، ثم قال (1): في الوقت الذي يرى فيه فرويد (الطيبة) تخاذلا وسلبية وينصح مريضه قائلا له: (كل وإلا فأنت مأكول)، نرى نحن الطيبة قوة إيجابية.. ويأمرنا ربنا بالصفح: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ [البقرة: 109].. ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: 85].. ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237].. وبينما يرى فرويد من الأعمال مايساعد على تفريغ وتنفيس الغليان النفسي يعلمنا القرآن الكريم العمل الصالح.. وبينما يرى أن ماضي الطفولة حاكم على كل إنسان وموجه لأفعاله لا نقول نحن بحاكم إلا الله.. ونقول إننا بفضل الله يمكن أن نخرج من أي حكم.. وبينما يقول بفطرة عدوانية وبغريزة التحطيم والهدم وبالطاقة الشهوانية كدوافع رئيسية، يقول لنا ربنا: إن الإنسان فُطر حرا مختارا بين النوازع السالبة والموجبة يختار ما يشاء منذ البداية.. ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 8 ـ 10]
سأله أحدنا عن السبب في كل تلك الانحرافات التي وقع فيها علم النفس البشري، فقال (2): سبب كل ذلك هو أنهم يتعاملون مع النفس الإنسانية على أنها مادة وجسد يمكن اقتحامه بالتشريح والتجربة.. وهم يفعلون هذا عن إيمان بأنه لا روح هناك ولا ذات ولا نفس.. وإنما مجموعة مركبات كيميائية وجينات وراثية اسمها الإنسان، وتلك هي خطيئة الحضارة المادية، فهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب لأن النفس الإنسانية (ذات) قبل كل شيء، ولا يمكن إحالتها إلى موضوع مجرد.. وهي كالحياة إذا أعملت فيها مبضع التشريح ماتت في يدك.. والنفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية وتتنكر بما تطرح في الظاهر من ردود أفعال سلوكية، وهي لا
__________
(1) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 2315.
(2) علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 25.
القرآن.. والعزاء والشفاء (409)
تعطي سرها أبدا حتى لصاحبها إذا بدأ يتدبرها كموضوع، لأنها ليست موضوعا، بل هي في جوهرها (ذات) بكر إذا حاولت أن تقتحمها بالنظرة الموضوعية استعصت عليك وتفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة وتحولت إلى شيء آخر.. ولم تعد (هي).. ويظل دائما الفارق بين ما ترى منها في الظاهر وما خفى عليك من حقيقتها، كالفارق الهائل بين الجسد الظاهر والروح التي تسكنه.. وأنت لن تصل أبدا إلى كنه الروح بتشريح الجسد.. وإنما أنت على أحسن الفروض سوف تفهم الجسد أكثر فأكثر، ولكنك تظل دائما بعيدا كل البعد عن إدراك سر الروح ولغزها.. ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]
بعد أن سمعت كل تلك الأحاديث من أولئك الشباب المؤمنين رحت أسير في شوارع تلك البلدة الجميلة الهادئة، وفي أحد طرقاتها رأيت أربعة رجال يتحدثون، قال أولهم: لقد كان أول ما سمعته من معلمنا الكاظم من الكلمات التي أثرت في، بل غيرت حياتي جميعا، إجابته لي عن سؤالي حول اسم الله الجبار الوارد في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: 23]، والذي كان يثير في نفسي الكثير من المخاوف.. حينها قال لي: اسم الله تعالى الجبار لا يعني فقط أن الله (تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، وأنه الذي لا يخرج أحد من قبضته، وتقصر الأيدي دون حمى حضرته)(1)، وإنما يعني أيضا من يجبر الكسر، فيصلحه.. ولذلك فإن الله هو الجبار الوحيد الذي يصلح كل ما فسد منا.
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 74)
القرآن.. والعزاء والشفاء (410)
ثم قال يخاطبني (1): إذا علمت ذلك.. ففوض أمورك إليه، وتوكل في جميع أحوالك عليه، إن كان خيرا علمت أنه مسديه ومتحفه، وإن كان ضرا علمت أنه ينجيك منه ويكشفه.
ثم حكى لي أن رجلا كان كثير العيال، وأنه ضاقت عليه أسباب المعيشة، فهم أن يهرب عنهم، فاستقبله شخص، فقال له: هل تأجرنى على أن تسقى طيرا لى في القفص فترويه وتأخذ منى دينارا، فاسترخص الرجل ذلك، وأجابه إليه، فدله على بئر، وقال: تستقى من هذا البئر، وتروى هذا الطائر، فلم يزل الرجل يسقى الطائر طول نهاره إلى المساء، والطائر لم يُرو، فلما أمسى ضاق صدر الرجل، فقال له ذلك الشخص: إني لست ببشر، وإنما أنا ملك بعثنى الله إليك ليريك ضعفك، إنك لم تقدر أن تروى طائرا، فكيف ترزق عيالك!.. ارجع إليهم وانتظر الرزق من الله تعالى، فإنه هو الرزاق لا أنت.
وحكى لي عن بعض الصالحين أنه سئل عن سبب توبته، فقال: إني كنت رجلا دهقانا ـ أي رئيس قرية ـ فاجتمع علي أشغال ليلة من الليالى، كنت أحتاج إلى أن أسقى زرعا لى، وكنت حملت حنطة إلى الطاحونة فوثب حمارى وضل، فقلت: إن اشتغلت بطلب الحمار فات سقى الزرع، وإن اشتغلت بالسقى ضاع الطحين والحمار، وكان ذلك ليلة الجمعة، وبين قريتى وبين الجامع مسافة بعيدة، فقلت: أترك هذه الأمور كلها وأمضى إلى القصبة لأدرك غدا صلاة الجمعة، فمضيت وصليت، فلما انصرفت اجتزت بالزرع فإذا هو قد سقى، فقلت من سقى هذا؟ فقيل: إن جارك أراد أن يسقى زرعه فغلبته عيناه وانفتق السد فدخل الماء زرعك، فلما وافيت باب الدار إذا أنا بالحمار على المعلف، فقلت: من رد هذا
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 171.
القرآن.. والعزاء والشفاء (411)
الحمار؟ فقالوا: صال عليه الذئب والتجأ إلى البيت، فلما دخلت الدار إذا أنا بالدقيق موضوع هناك، فقلت: كيف سبب هذا؟ فقالوا: إن الطحان طحن هذا بالغلط، فلما علم أنه لك رده إلى المنزل، فقلت: ما أصدق ما قيل: من كان لله كان الله له، ومن أصلح لله أمرا أصلح الله أموره، حينها تركت الانشغال بالدنيا، وتبت إلى الله تعالى.
ثم ذكر لي أنه قرأ في بعض الكتب: (عبدى تريد وأريد، فلا يكون إلا ما أريد، فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد)(1)
قال الثاني: بورك فيك وفيه، وفي مواعظه وسماعك.. واسمح لي الآن أن أذكر لكم بأني أنا أيضا سألته عن اسم الله المؤمن، الوارد في تلك الآية الكريمة، فقال (2): من معاني هذا الاسم العظيم أنه يؤمن عباده ويجيرهم.. وإجارته وأمانه لعباده على قسمين: مؤجل ومعجل.. فالمؤجل في القيامة في الجنة، كما قال تعالى عن أهل الجنة: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ [الأنعام: 82].. والمعجل على أقسام، ولكل عبد على حسب ما يليق بوقته، فمنهم من يؤمنه من خواطر الشيطان التى تقدح في الإيمان بما يتيح لقلوبهم من واضح البرهان، ويتيح لأسرارهم من لائح البيان، حتى إذا عارضهم بوارح الشكوك، ردوا بالحجج الواضحات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201].. لا يتداخلهم شك، ولا يتخالجهم ريب، ولا تعارضهم مرية، ولا تنازعهم شبهة.. الناس في أسر التهمة، وكرب الغمة، وامتداد الظلمة، وهم في روح اليقين والنور المبين.
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 172.
(2) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 173.
القرآن.. والعزاء والشفاء (412)
ثم ذكر لي تأمين الله تعالى لعباده الصالحين من نزغات النفس، فقال (1): ومما يؤمن الله تعالى أولياءه منه هواجس النفوس ودواعى الزلات ونوازع المخالفات، حتى لا تدعوه نفسه إلى ارتكاب محظور، ولا يكون له إلى اقتحام المخالفات ميل نفس ونوازع طبع.
ثم ذكر لي تأمين الله تعالى لعباده الصالحين من خوف الفقر، فقال (2): ومما يؤمن الله تعالى أولياءه منه خوف الفقر ورعب لحوق الضر، حتى يكون فارغ الكف طيب النفس ساكن السر، يثق بموعود ربه كما يثق أرباب الغفلة بمعلوم النفس ومكاسبها.
وحكى لي في هذا عن بعض الصالحين أنه سئل عن سبب معيشته، وكان قد صلى خلفه فقال: اصبر حتى أعيد الصلاة التى صليت خلفك حيث شككت في أرزاق المخلوقين.
وذكر لي عن بعضهم أنه قيل: من أين يأكل فلان؟ فقال: من عرف خالقه لم يشك في رازقه، وإن خوف الفقر قرينة الكفر، وإن حسن الثقة بالرب نتيجة الإيمان.
قال الثالث: بورك فيكما وفيه، وفي مواعظه وسماعكما.. واسمحا لي الآن أن أذكر لكم بأني أنا أيضا سألته عن تأثير اسم الله الرزاق، الوارد في آيات كثيرة من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56 ـ 58]، وقوله: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31]، وقوله: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ [الملك: 21] في الموقنين به.
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 156.
(2) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 157.
القرآن.. والعزاء والشفاء (413)
فذكر لي الكثير من أخبار الصالحين الذين جعلهم إيمانهم بهذا الاسم العظيم يعيشون في سكينة وطمأنينة، لا يخافون ولا يجزعون.. ومما حكاه لي عن بعضهم أنه قيل له (1): من أين يأكل فلان؟ فقال: مذ عرفت خالقه ما شككت في رازقه.
وذكر لي عن بعضهم أنه سئل: من أين تأكل؟ فقال: من خزائنه، فقال: يُلقى عليك الخبز من السماء، فقال: لو لم تكن الأرض له لكان يلقى علي الخبز من السماء، فقال الرجل: أنتم تقولون الكلام، فقال: إنه لم ينزل من السماء إلا الكلام، فقال: أنا لا أقوى على مجادلتك، فقال: لأن الباطل لا يقوم مع الحق.
وذكر لي عن بعضهم أنه قيل له: من أين تأكل؟ فقال: من خزائن ملك، لا تدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس.
وذكر لي عن بعضهم أنه دخل على امرأته فقال: إني أريد أن أسافر، فكم تحتاجين من النفقة حتى أضعها لك؟ فقالت: بقدر ما نخلف من الحياة، فقال: وما يدرينى كم تعيشين؟ فقالت له: كِله إلى من يعلمه.. فلما خرج إلى السفر دخل النساء عليها يظهرن الاهتمام لشأنها وأنه تركها بلا نفقة، فقالت المرأة: إنه كان كيالا للرزق، ولم يكن رزاقا.
ثم قال لي (2): اعلم أن الله سبحانه خص الأغنياء بوجود الأرزاق، وخص الفقراء بشهود الرزاق، ومن سعد بوجود الرزاق ما ضره ما فاته من وجود الأرزاق، ومن عرف أنه هو الرزاق رجع إليه فيما يسنح له من جليل خطب، ودقيق شغل، لأنه علم أنه لا شريك له في رزقه كما لا شريك له في خلقه.
ثم حدثني أن موسى عليه السلام، قال يوما في مناجاته: إنه لتعرض لى الحاجة
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 202.
(2) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 203.
القرآن.. والعزاء والشفاء (414)
الصغيرة أحيانا أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك؟ فأوحى الله تعالى إليه لا تسل غيرى، وسلنى حتى ملح عجينك وعلف شاتك.
وحدثني عن بعض شيوخه أنه قال له: من علامات المعرفة أن لا تسأل حوائجك، قلّت أو كثرت، إلا من الله تعالى، مثل موسى عليه السلام، اشتاق إلى الرؤية القلبية، فقال: ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 143] واحتاج إلى رغيف، فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24] طلب القليل والكثير من الله.
ثم ذكر لي الكثير من المعاني الجليلة التي يدل عليها هذا الاسم، والتي نغفل عنها حين نتوهم انحصار الرزق في رزق الأجساد، ومما قاله لي (1): اعلم أن الله تعالى يرزق الأرواح والسرائر كما يرزق الأشباح والظواهر، وأرزاق القلوب الأذواق والمعانى، كما أن أرزاق الأجساد الطعام والشارب.
ثم حكى لي عن بعضهم أنه أصابه الجوع، فقال لأستاذه: يا أستاذ القوت، فقال: الله الحى الذي لا يموت، ثم قال له بعد مدة: يا أستاذ لا بد من القوت فقال سهل: لا بد من الله الحى الذي لا يموت.
وذكر لي أنه قيل لبعضهم: أى شي ء القوت؟.. فقال: ذكر الحى الذي لا يموت.
ثم ذكر لي أن الحق سبحانه وتعالى يقبض أرزاق الظواهر، ويضيقها على قوم، ويبسطها على آخرين، كذلك سنته في أرزاق القلوب يرددها بين قبض وبسط، وقبول ورد، وإنما يعطيهم إذا شاء ما شاء كما شاء، لا بعلة استحقاق، ولا بسبب إيجاب، ولكن بحسب ما تقتضيه حكمته وعدله وربوبيته على عباده وعلمه بمصالحهم.
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 205.
القرآن.. والعزاء والشفاء (415)
ثم حكى لي عن موسى عليه السلام أنه قال يوما في مناجاته: إلهى إني جائع، فأوحى الله إليه: إني أعلم ذلك، فقال: أطعمنى، فقال سبحانه: إلى أن أريد.
ثم قال لي (1): كما أن للظواهر طعاما وشرابا، كذلك للسرائر طعام وشراب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: 79]، فهو لم يشر إلى طعام معهود، ولا إلى شراب مألوف، وإنما أشار إلى كل طعام، بما فيه طعام المعرفة وشراب المحبة.
ثم أنشدني قول بعضهم:
شربت الحب كأسا بعد كأس... فلا نفد الشراب ولا رويت
وقول الآخر:
سقانى شربة أحيا فؤادى... فلا أسلو إلى يوم التناد
ثم حكى لي عن بعضهم، قال: دخلت على بعض الصالحين فرأيته منبسطا، وكنت إذا دخلت عليه أراه منقبضا، فقلت: أى شي ء حالك؟ فقال: سقانى البارحة شراب أنسه فأردت أن أجعل اليوم يوم عيد، فقلت: أتأذن لى أن أحمل إليك طعاما حتى تفطر؟ فقال: لست أشير إلى هذا، وشتان بين شراب يُدار على الكف، وشراب يكون في موجب لطف وروية كشف.
قال الرابع: بورك فيكم وفيه، وفي مواعظه وسماعكم.. واسمحوا لي الآن أن أذكر لكم بأني أنا أيضا سألته عن اسم الله الفتاح، الوارد في قوله تعالى: ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 89]، وقوله: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: 44]، فقال (2): الفتاح هو الذي ينفتح بعنايته كل منغلق، وبهدايته ينكشف كل مشكل، فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ويخرجها من
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 206.
(2) المقصد الأسنى (ص 86)
القرآن.. والعزاء والشفاء (416)
أيدي أعدائه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1]، وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه، ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه، وجمال كبريائه، ويقول ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾ [فاطر: 2].. ومن بيده مفاتح الغيب ومفاتيح الرزق فبالحري أن يكون فتاحا.
ثم قال لي (1): إذا علم العبد أنه هو الفتاح والقاضى بين عباده تجنب سبل الظلم، وتنكب عن جميع الجور، تحققا بأنه يحاسب على الصغير والكبير، ويطالب بالنقير والقطمير.
ثم حكى لي عن بعض الصالحين أنه قال لولده يوما: لى إليك حاجة، فقال: وما هى؟ قال: أن تقول بالمساء كل ما قلته بالنهار، فتكلف الابن ذلك اليوم، وحفظ ما قاله للناس، وأعاد إلى أبيه، فلما أصبح قال له أبوه مثل ذلك، فقال له الابن: عذبنى بما شئت، ولا تكلفنى هذا، فإنى لا أطيقه، فقال الأب: يا بنى، إذا كنت لا تطيق محاسبة أبيك ليوم واحد، مع هذا اللطف، فكيف تطيق محاسبة عمرك يوم لا يسمع من الجواب إلا ما كان صادقا.. ألم تعلم أن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة ينادى: إن الله تعالى يقول: أنا ظالم إن جاوزنى اليوم ظلم ظالم.
ثم قال لي (2): من علم أن الله تعالى هو الفتاح للأبواب الميسر للأسباب الكافى للخطوب المصلح للأمور فإنه لا يتعلق قلبه بغيره، ولا يشتغل بدون فكره، يعيش منه بحسن الانتظار، ولا يزداد بلاء إلا ويزداد بربه ثقة ورجاء، كيعقوب عليه السلام قال لبنيه بعد ما طال الأمد وتمادت الغيبة ورجعوا غير مرة خائبين: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ [يوسف: 87]
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 208.
(2) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 209.
القرآن.. والعزاء والشفاء (417)
ثم قال لي (1): من آداب من علم أن الله تعالى هو الفتاح أن يكون حسن الانتظار لوجود لطفه، دائم الترقب لحصول فضله، مستديم التطلع لنيل كرمه، تاركا للاستعجال عليه، ساكنا تحت جريان الحكم، عالما بأنه لا يقدم ما حكم بتأخيره، ولا يؤخر ما حكم بتقديمه.
بعد أن سمعت هذه الأحاديث المرتبطة بأسماء الله الحسنى والسكينة التي تبعثها في نفوس المؤمنين، رحت أسير في شوارع البلدة إلى أن وجدت جمعا من الكهول والشباب يتحدثون، قال أحدهم (2): بعد أن من الله علي كما منّ عليكم بصحبة معلمنا الكاظم، كان أول ما بدأت به حياتي الجديدة محاولة حفظ القرآن الكريم، ذلك أني كنت أسمعه يردد آياته كثيرا، ويبين معانيها، وما يمكن أن يستفاد منها في كل المحال..
لكني وجدت أني لم أكن أحفظ القرآن الكريم فقط، بل كنت أعالج نفسي فيه من حيث لا أشعر.. ومن الأمثلة على ذلك أني عندما كنت أردد قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107] وجدت أن هذه الآية الكريمة عالجت كل ما عندي من حزن وكآبة وقلق وخوف وتردد.
قال أحدهم: كيف ذلك؟
قال (3): لقد كانت هناك أشياء كثيرة تسبب لي الحزن والكآبة بسبب الإحباطات التي أتعرض لها أحيانا نتيجة فشلي في عمل ما، أو خطئي في تصرف معين، أو تسرعي في كلمة
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى، القشيري، ص 210.
(2) روائع الإعجاز النفسي في القرآن الكريم، ص 9.
(3) روائع الإعجاز النفسي في القرآن الكريم، ص 9.
القرآن.. والعزاء والشفاء (418)
أقولها، ثم أكتشف أني مخطئ.. وعندما علمت أن أي ضر يصيبني إنما هو من الله تعالى، وهو أمر مقدر من قبل أن أُخلق، وهذا الضر لا يمكن لأحد أن يذهبه ويكشفه إلا الله تعالى، صرت أقول: إذن لماذا أنا حزين وقلق ومحبط؟.. إذا كان الله تعالى وهو أرحم الراحمين، هو من مسني بهذا الضر، وهو من سيكشف هذا الضرر، فهل هنالك أجمل من هذا الأمر؟
سكت قليلا، ثم قال (1): لقد غيرت هذه القناعة الجديدة أشياء كثيرة في حياتي، فتحول الوقت الذي كنت أمضيه في التفكير فيما سبق من أخطاء ومشاكل إلى وقت فعال أقرأ فيه القرآن، أو أتعلم فيه شيئا جديدا من أمور العلم.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107]، ثم قال (2): هذه الكلمات المليئة بالرحمة والتفاؤل والحيوية كان لها دورها الكبير في نفسي أيضا.. حيث كنت في كثير من الأوقات أعاني من قلق وخوف حول أشياء سوف تحدث، أو أتخيل أنها ستحدث، مثل توقع الفشل في عمل ما، أو توقع الخطأ في تصرف ما.. بل كنت أتردد كثيرا في عمل شيء ما: هل أفعله أم لا؟.. وعندما قرأت هذه الكلمات الإلهية أدركت بأن أي خير سيصيبني لا يمكن أن يأتي خارج إرادة الله عز وجل، وأدركت أيضا بأن أي خير سيأتي، لن يستطيع أن يرده أو يبعده عني أحد إلا الله تعالى!
وقد جعلني هذا أقول لنفسي (3): إذا كان الخير كله من عند الله، فلماذا أنا قلق وخائف؟.. وإذا كانت النتائج بيد الله، وهو الذي سيعطيني الخير، ولن يمنعه أحد من ذلك، إذن لماذا التردد في فعل هذا الأمر مادام الأمر فيه الخير ورضا الله؟.. ونتيجة لذلك ساهمت هذه الآية الكريمة في القضاء على التردد والخوف والقلق.. لقد أحدثت هذه
__________
(1) روائع الإعجاز النفسي في القرآن الكريم، ص 9.
(2) روائع الإعجاز النفسي في القرآن الكريم، ص 9.
(3) روائع الإعجاز النفسي في القرآن الكريم، ص 10.
القرآن.. والعزاء والشفاء (419)
الكلمات الربانية تغييرا في سلوكي أيضا، فلم يعد لدي حسابات كثيرة أجريها قبل القيام بعمل ما.. ماذا يعني ذلك؟.. إنه يعني التوفير في الوقت أيضا، لقد أصبح لدي وقت كبير أستطيع الاستفادة منه في تطوير معرفتي وعلمي.
قال آخر: ومثلك أنا.. فمن الآيات الكريمة التي كان لها التأثير الكبير في إحلال السكينة في نفسي قوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].. لقد جعلتني هذه الآية الكريمة أشعر بأن القادر الوحيد في هذا الكون هو الله.. ولذلك زالت عني كل المخاوف التي كانت تعتريني لأتفه الأسباب.
وأذكر أني سمعتها أول مرة على لسان معلمنا الذي قرأها، ثم قال (1): إن ينصركم الله بتأييده ورعايته ولطفه من خلال ما يوفره لكم من الأسباب الخفية، بالإضافة إلى الأسباب التي تأخذون بها مما يرتبط بالنتائج الطبيعية للنصر في نطاق النظام الكوني والإنساني في سنن الله في الحياة، فإن الله إذا رأى عباده المؤمنين منفتحين على مواقع محبته ورضاه، آخذين بمواقع إرادته في حركة سننه لديهم، فلا بد له من أن يمنحهم نصره بطريقة أو بأخرى، فلا مجال لأية هزيمة في ساحتهم، فإذا انطلقتم في هذا الاتجاه ﴿فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160] لأن الله لا يغلب في إرادته مهما كانت الأمور والأوضاع.. ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ [آل عمران: 160] لأنكم ابتعدتم عن الطاعة لأوامره ونواهيه وفقدتم الإحساس بالوحدة الإيمانية بينكم، ورفضتم السير على وفق حركة الأسباب في وجودكم ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: 160] من كل هؤلاء الذين يملكون القوة ممن يستعين بهم
__________
(1) من وحي القرآن (6/ 349)
القرآن.. والعزاء والشفاء (420)
الناس على تحقيق الانتصار في ساحة الحرب أو الوصول إلى الأهداف في مواقع التحدي، فهو وحده الذي لا بد للمؤمنين من أن يلجأوا إليه ويستعينوا به ويتوكلوا عليه، ليحصلوا على النتائج الكبرى، فلا ملجأ إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا توكل إلا عليه، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التغابن: 13] فهو نعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.
ثم قال يخاطب الذين حضروا موعظته (1): وهكذا ترون كيف يقرر القرآن الكريم للمؤمنين الحقيقة الإيمانية التي ينبغي لهم أن يتمثلوها في أعماقهم في كل معركة من معاركهم، وهي أن الله هو القوة المطلقة المهيمنة على الحياة في كل ما تشتمل عليه من انتصارات وهزائم، فهو من وراء ذلك كله، فإذا شاءت إرادته لهم النصر فلن تستطيع كل قوى الأرض أن تغلبهم وتهزمهم، لأنه الذي يملك الأسباب العادية وغير العادية للأشياء، فإذا تحركت أسباب النصر من خلاله، فكيف يمكن للآخرين أن ينتصروا من دون سبب!؟.. وإذا شاءت إرادته الخذلان لهم، لأنهم انحرفوا عن الخط المستقيم الذي يسير بهم نحو النصر، واعتمدوا على أنفسهم وعلى الآخرين بعيدا عن الله، فأدى ذلك إلى أن يفقدوا لطف الله ورحمته ورعايته، فمن هذا الذي يملك أسباب النصر من بعد الله ليحققوه من خلاله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله، فكيف يملكه للآخرين!؟.. وفي هذا الجو الإيماني المتحرك في خط الواقع فيما يريده الله للإنسان من خلال سنته في الكون، تنطلق الدعوة للتوكل على الله في حياة المؤمنين ليستمدوا منه القوة، وليشعروا بالثقة من عنده، فإنه لا مجال للقوة إلا منه ولا للثقة إلا به.
قال آخر: ومثلكما أنا.. فمن الآيات الكريمة التي كان لها التأثير الكبير في إحلال
__________
(1) من وحي القرآن (6/ 350)
القرآن.. والعزاء والشفاء (421)
السكينة في نفسي قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26]، لقد سمعتها أول مرة من معلمنا الكاظم، وقد قال بعدها (1): هذا نداء خاشع.. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء، وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال، وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس، وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة القوّامة على الكون والناس، وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله، وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس، وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف.
ثم أعاد قراءتها بتمهل وخشوع، ثم قال (2): إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة.. إله واحد فهو المالك الواحد.. هو ﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: 26] بلا شريك.. ثم هو من جانبه يُملّك من يشاء ما يشاء من ملكه، يُملّكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عند ما يشاء، فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه، إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته، فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل.. وكذلك هو يعز من يشاء، ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله بما أنه سبحانه هو الله.. وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله.
سكت قليلا، ثم قال (3): وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير.. فهو يتولاها سبحانه
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 384)
(2) في ظلال القرآن (1/ 384)
(3) في ظلال القرآن (1/ 384)
القرآن.. والعزاء والشفاء (422)
بالقسط والعدل، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل، فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26]
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 27]، ثم قال (1): وتلك القوامة على شؤون البشر، وذلك التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق.. والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس: هذه الحركة الخفية المتداخلة، حركة إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى ألقى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق.. وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول.. أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح.. سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء.. شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار، وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام.. شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء، وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف.. وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 384)
القرآن.. والعزاء والشفاء (423)
الدقيقة ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!
سكت قليلا، ثم قال (1): كذلك الحياة والموت، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج، كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة.. خلايا حية منه تموت وتذهب، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل، وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة، وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت.. هذا في كيان الحي الواحد.. ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر، ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة.. وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.. ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا، ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير.. حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك، حركة خفية عميقة لطيفة هائلة، تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.. فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟.. ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال.
قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 27]، ثم قال (2): إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى، حقيقة الألوهية الواحدة، حقيقة القوامة الواحدة، وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد، وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد، ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك،
__________
(1) في ظلال القرآن (1/ 385)
(2) في ظلال القرآن (1/ 385)
القرآن.. والعزاء والشفاء (424)
المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال.
قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 28]، ثم قال: لقد استجاش القرآن الكريم في الآيات الكريمة السابقة الشعور بأن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله.. فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟.. إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون.. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم لمن والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء.
بعد أن سمعت هذه الأحاديث المرتبطة بتلك الآيات الكريمة ودورها في تحقيق السكينة والطمأنينة، سرت إلى بعض الحدائق الجميلة، فوجدت امرأة عجوزا، وأخرى شابة، وأخرى في سن الكهولة، وفتاة صغيرة، يتحدثن، فأشارت إلي العجوز، فذهبت إليها، فقالت: ما بالك يا تلميذ القرآن لا تمر سوى على الرجال، هل ترى القرآن الكريم حكرا عليهم؟.. أم لا ترانا أهلا لأن تسجل أحاديثنا؟
قلت: معاذ الله.. لقد خشيت أن يكون كلامكن خاصا، فلم أشأ التطفل عليكن.
قالت: فاجلس إذن واستمع لحديثنا.. وسجل ما تراه مناسبا لكتابك، واحذر أن تفرق بين الذكور والإناث، والرجال والنساء، فتصير من أولياء الشيطان، من حيث لا تشعر.
القرآن.. والعزاء والشفاء (425)
قعدت في ناحية أسمع حديثهن وأسجله، وقد بدأته تلك العجوز التي راحت تقول: سنكمل حديثنا فيما كنا فيه.. لقد ذكرت لكم سابقا أني كنت في شبابي الباكر ضحية لكثير من المعتقدات الباطلة التي تلبس لباس الدين.. والتي جعلتني أتصور أن للشيطان الأمر كله.. وأن بيده سعادتنا وشقاءنا.. ولذلك كنت أخاف منه أكثر من خيفتي لله نفسه، وقد جرني ذلك إلى المشعوذين الذين أوهموني أن بقدرتهم تحصيني من الشيطان بتعويذاتهم ورقاهم، لكني لم أعش السكينة أبدا.. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قررت فيه الخروج بمحض إرادتي من هذه الحياة التي يتسلط عليها الشيطان.. وقد قررت ذلك مع بعض صديقاتي.
وفي طريقي، التقيت بمعلمنا الكاظم، وقد رأيته واقفا مع مجموعة من المشعوذين يحدثهم، وقد تصورت في البداية أنه أحدهم، لكن عرفت بعد استماعي له أنه كان ينهاهم عما يمارسونه من تضليلات، وقد بدأ حديثه بقوله: اقرؤوا القرآن الكريم جيدا، وتدبروه بتمعن، فسترون أن المس الذي يمس به الشيطان لا يعدو هذه الوساوس التي يلقيها، فتملأ القلوب هما وحزنا، وقد يمتد تأثيرها إلى الجوارح مرضا وأنينا، والمشكلة ليست في الموسوِس وإنما في الذي أذعن لتلك الوسوسة، ولم يفر منها إلى ذكر الله.
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175]، ثم قال (1): ليس الخوف الذي يحدث للإنسان إلا من خلال تسويلات الشيطان الذي يوحي له بالمشاعر السلبية، التي تعطي الأشياء من حوله صورة غير واقعية، فتُضخم في وعيه القضايا الصغيرة، وتصغر القضايا الكبيرة، وتضع أمامه صورة الموت
__________
(1) من وحي القرآن (6/ 391)
القرآن.. والعزاء والشفاء (426)
الذي يلغي أطماعه وشهواته؛ فيضعف أمام ذلك كله، ويتضاءل ويصغر ويتراجع عن مواقفه، وينسحب من مواقع الجهاد الصعب تحت تأثير عامل الخوف الناتج من ذلك كله.. وذلك هو شأن أولياء الشيطان يصغون بمسامع قلوبهم لوسوسته.. أما أولياء الله فهم الذين لا يرتبطون بالحياة إلا من خلال الإيمان بالله الذي يمسك مقاليدها بيده، ويحركها بقدرته، ويضع خططها بحكمته، فهو الذي ينفع ويضر، وهو الذي يحيي ويميت وإليه المصير.. وليست الحياة الدنيا نهاية المطاف، ليسقطوا أمام صورة النهاية في صورة الموت، بل هي بداية لحياة جديدة أخرى.
سكت قليلا، ثم قال (1): ولهذا فإن الموت لا يمثل حالة سلبية في عمق الشعور الإنساني المطيع لله، بل يحدث له حالة عكسية من الشعور الإيجابي بالشوق للقاء الله للحصول على رضوانه ونعيمه في الدار الآخرة، وهذا هو شعار المؤمنين في المعركة فيما حدثنا الله عنه في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: 52]؛ النصر أو الشهادة.. ولذلك قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ﴾ [آل عمران: 175] لأنهم لا يملكون القوة الذاتية التي تخيف المؤمنين، ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175] بالوقوف أمام حدود الله في الثبات على خط الجهاد بكل مجالاته وعدم الانهزام أمام تحديات الأعداء، فإن الإيمان موقف لحساب الله، وليس كلمة عبارة تنطلق به الشفاه في حالة شعورية سلبية في حركة الذات.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
__________
(1) من وحي القرآن (6/ 391)
القرآن.. والعزاء والشفاء (427)
الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء: 116 ـ 121]، ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة بيان واضح للطريق المهلك الذي ركبه المشرك بشركه، وأنه قد بعد عن طريق النجاة والسلامة، ولن يزيده المضى فيه إلا إمعانا في الضلال، وبعدا عن طريق الحق، وشرودا عن مظان النجاة..
سكت قليلا، ثم قال (2): أي أن هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا من عبدوا من دونه، لم يكن تقديرهم لهؤلاء المعبودين، إلا عن نظر سقيم، وقلب مريض، وعقل سفيه.. فما هؤلاء المعبودون الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله ـ إلا إناث.. أي معبودات من المصنوعات، يعملونها بأيديهم، في صورة أوثان وأصنام، ثم يزينونها بالملابس والحلى، كما تتزين النساء.. وعبادة مثل هذه المصنوعات سفه ليس وراءه سفه، وضلال ليس بعده ضلال.. لأنها أشياء ميتة، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك من أمر وجودها شيئا.. فكيف يُراد منها الخير لغيرها، أو يرجى منها العون لمن يقوم على أمرها، ويحفظ وجودها؟.. وفي الكشف عن هذا الجانب الضعيف من هذه الأوثان والأصنام، وعرضها لنظر عابديها في هذه الصورة إمعان في تسفيه هؤلاء السفهاء الذين عبدوها، وتخاضعوا بين يديها.. إذ كيف يستقيم هذا مع تفكيرهم، وما أخذوا به أنفسهم من امتهان الأنثى، ونظرتهم إليها تلك النظرة المنكرة المتكرهة؟.. وكيف يكون موقفهم مع الأنثى هذا الموقف الذي ذكره القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل: 58 ـ 59].. كيف يكون هذا موقفهم من الإناث وهن خلق سوى، وفلذة من فلذات أكبادهم،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 902)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 902)
القرآن.. والعزاء والشفاء (428)
ثم يكون هذا شأنهم مع تلك الصور التي يتخذونها من الحجر، والخشب، والمعدن، ويلبسونها زي الإناث، ويغرقونها بالحلى والزينة؟.. أهذا مما يستقيم مع منطق، أو يصح في عقل؟
ثم التفت إلينا معشر النسوة، وقال: إياكن أن تفهمن أن في هذا أي إساءة للمرأة، بل هو تعجب من تلك العقول التي تؤذي المرأة وتمتهنها مع أنها شريكتهم في الإنسانية، في نفس الوقت الذي يعبدون فيه الإناث المنحوتة من الخشب والحجارة.
ثم التفت للجميع، وقال (1): هذه صورة من الصورتين، اللتين يعبدهما المشركون من دون الله.. وهى صورة حسية، يتعامل معها المشركون بحواسهم ومشاعرهم.. أما الصورة الأخرى، فهى (الشيطان المريد).. وهو وإن كان شيئا غير محسوس، فإنه يتمثل في الأهواء المتسلطة على النفس، وفي تلك الوسوسات الضالة التي تزين للإنسان الشر، وتغزيه بالضلال.. وليست تلك المعبودات، التي يعبدها المشركون بالله، ويتخذون لها تلك الصور والأشكال إلا إملاء من وساوس الشيطان لهم، وإلا مظهرا من مظاهر إغرائه وإغوائه.. فهؤلاء الذين يعبدون الأوثان من دون الله، هم عابدون للشيطان أيضا.. فما هذه الصور المعبودة إلا بنات وسوساته في صدورهم، ونفثاته في تفكيرهم.. وقوله تعالى: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ [المائدة: 60] صفة لهذا الشيطان المريد، الذي اتخذه هؤلاء المشركون وليا من دون الله.. وفي هذا ضلال إلى ضلال، وسفه إلى سفه.. إذ أنهم أعطوا ولاءهم لمن كان عدوا لله، واقعا تحت لعنته.. فهم ـ والأمر كذلك ـ أعداء لله، واقعون تحت لعنته.
ثم حدثنا عن المكايد التي يستعملها الشيطان للتضليل، وكأن الكلام كان موجها
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 903)
القرآن.. والعزاء والشفاء (429)
فيها لنا تماما، لقد قرأ بصوته الخاشع قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 118]، ثم قال (1): عرض فاضح لهذا الشيطان المتمرد على الله، المأخوذ بلعنة الله.. وفي قوله تعالى: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ [النساء: 118] ما يشير إلى أن هذا القول الآثم من هذا الشيطان المريد هو لعنة أخرى من لعنات الله عليه، لما فيه من تحد لله، ومحاربة له في عباده.. وفي قوله تعالى: ﴿مِنْ عِبَادِكَ﴾ [النساء: 118] إشارة أخرى إلى تمرد هذا الشيطان المريد، وإمعانه في محادة الله ومحاربته.. إذ كيف تسول له نفسه أن يدخل حمى الله، وأن يفسد عباد الله، الذين خلقهم وكرّمهم، وأضافهم إلى ذاته؟
سكت قليلا، ثم قال (2): ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الذين خلقهم الله وكرّمهم، وأضافهم إلى ذاته، هم الذين كانوا حربا على الله في جبهة الشيطان، فتفلتوا من هذا الحمى الكريم، الذي أقامهم الله فيه.. ومدوا أيديهم إلى هذا الشيطان المريد، وأعطوه الفرصة فيهم، ليفسد عليهم هذه الفطرة السليمة التي أودعها الله كيانهم، وليُضل عقولهم عن هذا الطريق الذي أراه الله لهم، غير ملتفتين إلى تلك الوصايا التي وصاهم الله بها، في شأن هذا العدو الراصد لهم، والمتربص بهم، حيث كان قول الله لهم: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]
التفت إلينا معشر النسوة، وقال (3): وفي هذا الموضع الذي وضع الله الإنسان فيه، تكريم لهذا الإنسان، وإشعار له بأنه أهل لأن يحرس نفسه من هذه الآفة المتسلطة عليه، وأن يحتفظ بتلك الهبات العظيمة التي منحها الله إياه، تلك الهبات التي لو التفت إليها، وأحسن استخدامها، والقيام عليها، لكانت قوة حارسة له من الشيطان وخداعه، ولكان له منها
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 904)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 904)
(3) التفسير القرآني للقرآن (3/ 905)
القرآن.. والعزاء والشفاء (430)
حمى لا تناله وساوسه ومغوياته.. ولكن غفل كثير من الناس عن هذا العدو، بل وسالمه وأسلم زمامه له، فكان ضياعه وهلاكه جزاء وفاقا له.
ثم قال (1): وفي قوله تعالى: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 118] إشارة إلى أن الشيطان يعلم بعجزه عن إغواء جميع عباد الله، لأن من يستسلم لإرادة الشيطان، ويخضع لها هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.. وفي وصف النصيب بأنه نصيب مفروض ما يكشف عن أنه قدر محدد، أي أن أولياء الشيطان هؤلاء، هم فريق محصور بعدده وصفته، كما أن أولياء الله، هم فريق آخر مقابل لهذا الفريق، معروف بعدده وصفته.. ومجموع الفريقين هم الناس جميعا.. الشقى منهم والسعيد، وأصحاب النار وأصحاب الجنة.. أولياء الشيطان، وأولياء الرحمن.
ثم قال (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 119] بيان لخطط الشيطان ومكايده.. أي أن هذا النصيب المفروض هم الذين سيتخذهم الشيطان أولياء له، وسيتعاطى معهم كئوس المودة والصفاء، وهى كئوس تدور برؤوس شاربيها، وتفسد عليهم عقولهم، وتحولهم دمى في يد الشيطان، يعبث بها كيف يشاء.. ولهذا كان واثقا من أنه قادر على نفاذ أمره وإمضاء مشيئته فيهم.. ولهذا جاء أمره إليهم جازما مؤكدا: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ [النساء: 119] أي يلقى بهم في مهاوى الضلال، والظلام.. بعيدا عن الهدى والنور، ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ [النساء: 119] أي يمد لهم في حبال الأمانى والغرور، بما يزين لهم من الشرور والآثام.. وبما يخيل لهم من الأوهام والأباطيل.. فيرون الشر خيرا، والقبيح حسنا، والبعيد قريبا.. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 459)
(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 906)
القرآن.. والعزاء والشفاء (431)
الْأَنْعَامِ﴾ [النساء: 119]، وذلك شيء من السخف والضلال، الذي زينه لهم الشيطان وأغواهم به، وهو أنهم كانوا إذا ولدت الناقة خمسة بطون، وكان آخرها ذكرا احتفوا بها وأكرموها، وكان مظهر ذلك أن يقطعوا أذنيها أو يشقوهما ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ [النساء: 119] ثم يرسلونها، فلا يركب ظهرها، ولا يحمل عليه شيء.. أفليس ذلك هو غاية السفه، ومنتهى الضلال؟.. ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 119] وذلك بتقطيع آذان الأنعام هذه، ونحو هذا من المراسم التي تصورها لهم الأوهام والأباطيل.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 119]، ثم قال (1): في هذه الآية الكريمة عرض للصورة الشنعاء التي ينتهى إليها أمر هؤلاء الذين استذلهم الشيطان، واستبد بهم.. فليس بعد خسرانهم خسران، ولا وراء ضياعهم ضياع.. وقوله تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120] كشف لهذا المحصول الذي يجنيه أتباع الشيطان.. إنها ليست إلا أمانى باطلة، وسرابا خادعا.. ﴿أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء: 121] فتلك هي عاقبة الظالمين الغاوين.. مصيرهم جهنم وساءت مصيرا، لا متحول لهم عنها، ولا إفلات لهم منها.
سكت قليلا، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122]، ثم قال: هذه الآية الكريمة تعطينا الخيار الثاني.. بين أن نكون من أولياء الله، أو نكون من أولياء الشيطان.. وكل ذلك لا يكون إلا بالعمل، كما قال تعالى بعدها: ﴿لَيْسَ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 907)
القرآن.. والعزاء والشفاء (432)
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123 ـ 124]
ثم التفت إلينا، وقال: ولهذا احذروا من أن تتوهموا أن للشيطان سلطان على حياتكم، فهو أضعف من ذلك.. وتدبروا جيدا خطبته التي خطبها في الموالين له في جهنم، فقد قال تعالى يذكرها وينبهنا إلى أن نضعها دائما بين أعيننا: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22]
سكت قليلا، ثم قال، وهو يبتسم (1): الله! الله!.. أما إن الشيطان حقاً لشيطان!.. وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين.. إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة.. لكنه هنا (2) يتدخل كطرف ثالث، ليبرئ نفسه من مسئولية ضلال كلا الطرفين، التابعين والمتبوعين، مؤكدا الفكرة الدينية التي تقرر حرية الإرادة التي فطر الله الإنسان عليها، فليست هناك قوة قاهرة تشلها بدون اختيار صاحبها.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [إبراهيم: 22]، ثم قال (3): حسمت المواقف، وانطلقت إرادة الله التي تقود الكافرين والعاصين إلى النار، وتقود المؤمنين إلى الجنة، ولم يبق هناك مجال للدفاع أو للاعتذار، فقد جاء إبليس ليتخفف من بعض ثقل
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2097)
(2) من وحي القرآن (13/ 101)
(3) من وحي القرآن (13/ 101)
القرآن.. والعزاء والشفاء (433)
المسؤولية التي يحملها الناس له في عملية الإغواء والإضلال، ليجعلها على عاتق الناس الضالين: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ [إبراهيم: 22]، بالجنة للطائعين المؤمنين، وبالنار للعاصين المتمردين ﴿وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ [إبراهيم: 22]، فيما منيتكم به ودفعتكم إليه، مما لم يتحقق، لأن الأمر كان مجرد خدعة وتضليل، من أجل تحقيق ما أريده من إضلالكم، وقد عرفكم الله طبيعة الدور الذي أقوم به في حياتكم، وهو دور الإغراء والخديعة والتزيين وتصوير الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق، وتشويه الصورة الجميلة، وتجميل الصورة المشوهة، بما أملكه من وسائل وأدوات.. وهذا هو كل شيء في دوري معكم، ولا أملك معه أية قوة إضافية تمكنني من الضغط على إرادتكم بطريقة قاهرة.. ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: 22]، بما تتضمنه أساليب الدعوة وأجواؤها من عناصر الإغراء والإغواء، ﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: 22] لأنني أتحرك في وسائلي وأهدافي من خلال الخط الواضح الذي أعلنت السير فيه أمام الله، منذ طلبت منه الإنظار إلى يوم القيامة.. ولكن ماذا عن دوركم أنتم، لماذا لم تلتفتوا إلى أساليبي ووسائلي وغاياتي التي عرفكم الله إياها، وقد أرسل إليكم الرسل ليحذروكم مني، وخلق لكم العقل الذي يستطيع أن يحاكم كل الدعوات التي أثيرها في حياتكم، وكل التهاويل والأحاسيس التي أعمل في سبيل الضغط على مشاعركم من خلالها؟ فليتحمل كل واحد منا مسئولية نفسه، ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ﴾ [إبراهيم: 22] فإذا استغثتم بي من العذاب، فلن أستطيع أن أدافع عنكم ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: 22] فلا تملكون لي شيئا إذا استصرختكم واستغثت بكم، ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ [إبراهيم: 22]، فأنا لا أقر ولا أعترف بجعلكم إياي شريكا لله في العبادة، ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22]
القرآن.. والعزاء والشفاء (434)
سكت قليلا، ثم قال (1): وهكذا أغلق الملف الذي يمثل هذه الحالة التي تتحرك فيها الضغوط النفسية أو الجسدية لتلغي إرادة فريق من الناس، تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية ليواجه كل مسئوليته، من موقع حرية الإرادة التي تستطيع أن تعبر عن نفسها بألف طريقة وطريقة، كما لو لم يكن هناك ضغط، لا من المستكبرين، ولا من الشيطان نفسه الذي يحمله الناس كلهم مسئولية إضلالهم، ويلعنونه لذلك.. فليس هناك سلطة في الإضلال حتى للشيطان، بل كل دوره هو أن يوسوس ويثير ويدعو الإنسان إلى الاستجابة له، بعيدا عن دعوة الله، وتلك هي مهمته الأساسية، ويبقى، بعد ذلك، للإنسان دوره في التفكير والمقارنة بين دعوة الله، ودعوة الشيطان، فإذا سار مع دعوة الله، كان ذلك باختياره، وإذا انطلق في طريق الشيطان، فبإرادته سارت خطواته، فلما ذا يلقون اللوم على الشيطان، ولا يلقون اللوم على أنفسهم، في الوقت الذي لم يكن منه إلا إثارة مكامن الشهوة، وتزيينها للنفس، بينما كان منهم التصميم والإرادة والعمل!؟
ثم التفت إلينا، وقال (2): وهكذا تأخذ الفكرة مجالها الطبيعي في الكلمة الأخيرة للشيطان، التي يقرر فيها حمل الإنسان لمسؤولية إرادته، في مقابل حمل الشيطان لمسؤولية وسوسته وإضلاله، دون أن يستطيع أحدهما تخليص الآخر.. ويبرز في خاتمة المطاف العنصر المثير الذي يجعل الشيطان يكفر بإشراكهم إياه بالله، ليبقى الإنسان المنحرف المتمرد على الله، وحده، دون ناصر أو معين.. ويدخل الجميع النار، ويبقى هناك فريق واحد، لم يستسلم للمستكبرين، لأنه كان يملك قوة الموقف الذي يستطيع من خلاله أن يتمرد على كل طروحاتهم، ويتحدى كل ضغوطاتهم، ويواجه كل ألا عيبهم، ولم يستسلم للشيطان، بعد
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 102)
(2) من وحي القرآن (13/ 103)
القرآن.. والعزاء والشفاء (435)
ما اكتشف خداعه وتضليله، وعرف كل النتائج السلبية التي تحصل من اتباعه والسير معه، واستطاع هذا الفريق أن يكتشف الطريق المستقيم الذي يؤدي به إلى الله، ويربطه بالجانب الخير من الحياة.
بعد أن انتهت المرأة من حديثها، قالت: لقد كان ذلك اليوم ميلادا جديدا بالنسبة لي، إذ أني تخلصت فيه كل من عقد الشيطان وكيده ومكره.. وصرت أعبد الله وحده لا أشرك به شيئا.. ولا أخاف إلا من تفريطي وتقصيري.
بعد أن سمعت لحديث المرأة العجوز، أردت الانصراف، فقالت لي الفتاة الشابة: ما بك.. هل حدد لك معلموك عمر من تتعلم على أيديهم.. أم أن العلم محصور في الكبار؟
قلت: معاذ الله.. فأنا تلميذ كل من تتلمذ على القرآن الكريم، لا يهمني إن كان صغيرا أو كبيرا، أو ذكرا أو أنثى، أو عربيا أو أعجميا.
قالت: فاستمع لحديثي إذن، فهو حقيق بأن يُدرج في مشاهد كتابك.
قلت: إن كان له علاقة بالقرآن الكريم، فأنا طوع أمرك.
قالت: لقد علمنا معلمنا الكاظم أن ننهل كل علومنا وحياتنا من القرآن الكريم، فلا تخف.
ثم سكتت قليلا، وقالت: قصتي تبدأ من تلك المخاوف التي كانت تملأ علي كياني، فقد كنت أخاف من كل شيء، حتى من القصص والأساطير التي كان يحكيها لنا الكبار، وكنت لا أثق في أي أحد خوفا من أن يكون لصا أو كاذبا أو مخادعا.. وقد كنت أعيش لذلك بعيدة عن السكينة والطمأنينة والأمن، وهل يمكن للخائف المذعور أن يسكن أو يطمئن أو يأمن.
القرآن.. والعزاء والشفاء (436)
وقد حاولت للتخلص من تلك المخاوف استعمال ما كان يستعمله غيري من وسائل، فقد كنت أذهب إلى المشعوذين ليخلصوني من تلك المخاوف والأوهام، فلم يزيدوا طينها إلا بلة.. إلى أن كدت أفقد عقلي.. وصرت بالخيار بين الجنون والموت، فاخترت الموت.. لكن الله شاء أن يهبني الحياة.. لأولد مرة أخرى وعلى يد معلمنا الكاظم.
لقد التقيت به، وهو في بعض مجالسه يقرأ بصوته الخاشع سورة الفلق، ثم يقول (1): هذه سورة مميزة في إيحاءاتها النفسية التي يعيش المؤمن معها، عند ما يجد في حياته، في مدى التصور أو في مدى الواقع، بعض المخاوف والتهاويل التي تزرع في نفسه القلق والحيرة، فيشعر بالحاجة إلى من يستعين به على دفع ذلك، وإلى من يستجير به من شر ذلك، ولا سيما إذا كان الشيء خارجا عن قدرته أو عن قدرة البشر، فكانت هذه السورة مع سورة الناس، فقد أراد الله من الإنسان المؤمن أن يقرأهما ويستوحيهما في الاستعاذة بالله من كل ما يخافه حتى سميتا ب (المعوذتين)
سكت قليلا، ثم قال (2): تنطلق هذه السورة لتعلم الإنسان أن يستعيذ برب الفلق الذي يفلق الظلام بقدرته ليخرج النور من قلبه، من شر كل المخلوقات التي يمكن أن تعرض له بسوء، ومن شر الليل الذي يطبق على الكون فيما يختزنه من مخاوف وأخطار، ومن شر الساحرات اللاتي يخدعن الناس، من النفاثات في العقد فيما يعملن على حله وربطه من العلاقات بين الناس بغير حق، ومن شر الحاسد الذي يبغي على الناس من خلال حسده الذي يمثل عقدة مستحكمة في النفس بحيث تتحرك من موقع الروح الضيقة المختنقة.. وهكذا تعمل السورة على أن تقول للإنسان أن لا يخشى الشر من كل ما حوله ومن حوله،
__________
(1) من وحي القرآن (24/ 489)
(2) من وحي القرآن (24/ 489)
القرآن.. والعزاء والشفاء (437)
لأن الله الذي يستجير به هو رب الكون كله وهو المهيمن على كل مخلوق فيه، فلا يملك أن يسيء إلى الناس إذا لم يرد الله ذلك.
وعندما سأله بعض الحاضرين عن زيادة توضيح لهذه المعاني، والأسرار المختزنة فيها، قال (1): بدأ الله تعالى السورة بقوله مقسما: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1] أي الصباح الذي يفلق الظلام ويشقه، فينفذ إلى داخله ليخترق الحاجز الذي يحجز الكون عن النور في تخييل الصورة الظاهرة.. وفي هذا المعنى تنطلق الاستعاذة من وحي القدرة الإلهية التي تفلق الظلام لتحول الكون إلى النور، وبذلك تفلق كل مواقع الشر لتحول الإنسان إلى مواقع الخير فيما يثيره في النفس من الانفتاح، كما يحدث للنور أن يثير الانفتاح في الكون.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: 2]، ثم قال (2): هذا هو المستعاذ بالله من شره، وهو المخلوقات على إطلاقها.. والمخلوقات كلها لله سبحانه، وهى من صنعة يده، وهو وحده سبحانه القادر على دفع شرها، ورد بأسها، سواء أكانت من قوى الطبيعة، أو من الحيوان أو الإنسان.. وليست المخلوقات شرا مطلقا، وإنما هي خير في ذاتها، وفي نظام الوجود العام، الذي يأخذ فيه كل مخلوق مكانه من بنائه، ولو أخلى مكانه لاختل نظام الوجود واضطربت مسيرته.. ومن جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات، فإنه ليس كل المخلوقات شرا، بل إن معظمها هو خير، يعيش فيه، وينعم به، وحتى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرا خالصا، ليس بالشر الخالص، فلو أنعم النظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشر.. فالمخلوقات خيرها كثير، وشرها بالإضافة إلى الإنسان في ذاته، قليل.. فالمستعاذ منه هو هذا الشر القليل إلى جانب الخير الكثير.
__________
(1) من وحي القرآن (24/ 492)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1719)
القرآن.. والعزاء والشفاء (438)
وعندما سألناه عن الحكمة من هذا، قال (1): بالاستعاذة من الشر المتعلق بالمخلوقات، يلقى الإنسان المخلوقات في خيرها الخالص، دون شرها، الذي يستعيذ بالله منه.. وقد يكون للإنسان، أو الحيوان حيلة في دفع بعض الشر، فليحتل حيلته، وليبذل وسعه، ولكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو الله سبحانه، كما أن معاذه بالله، لا يحمله على تعطيل ملكاته وقواه، فتلك وسائل أودعها الخالق جل وعلا فيه، وهى داخلة في الاستعاذة بالله، واللجأ إليه.. فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور، ومكاره، هي أسلحة من عند الله سلحه بها، فلا يعظلها، وليذكر فضل المنعم بها عليه، فإنها عند المؤمن استعاذة بالله.
ثم قال (2): وليس الشر المستعاذ بالله منه، هو شر في ذاته، لأن الله سبحانه ما خلق شرا، وإنما هو شر إضافى، أو نسبي، وذلك بالإضافة إلى من وقع عليه، والذي يعده شرا بالنسبة له هو، ولكنه في النظام العام للوجود، هو خير مطلق، كما قلنا.. وأما الشر المستعاذ به، فهو شر يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض، أشبه بالشرر المتطاير من احتكاك الزناد بالصوان، بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجددة في الحياة؛ فالإنسان في ذاته يشعر بآلام المرض، والجوع، ويجد لذعة الحرمان والفقر، ومرارة فقد الأحباب والأعزاء، وخيبة الآمال، وضياع الفرص، إلى غير ذلك مما يساء به الإنسان، ويألم منه، ويعده شرا مقيسا بمقياس ذاته.. مضبوطا على تلقيات مشاعره له، وإحساسه به.. وهذا كله غير منكور، ومن حق الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربه، وأن يستعيذ به، وأن يطلب منه اللطف والعافية..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1720)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1720)
القرآن.. والعزاء والشفاء (439)
التفت إلي، وقال (1): والمستعيذ بالله اللاجئ إلى حماه، عن إيمان وثيق، وعن معرفة تامة، بما لله سبحانه وتعالى، من علم، وحكمة، وقدرة، وسلطان يجد نفسه دائما في هذا الحمى العزيز الذي لا ينال، وتحت ظل هذا السلطان القوى الذي لا يُغلب، وأن هذه الشرور التي استعاذ بربه منها، قد انصرفت عنه جملة، أو خفت وطأتها، وذلك حين يعيد النظر في هذه الشرور على ضوء هذه المشاعر الجديدة التي لقى بها ربه، وفوض إليه فهيا أمره؛ فيرى كثيرا من هذه الشرور أوهاما وتخيلات، كما يرى كثير منها أقرب إلى الخير منها إلى الشر، ثم ما كان منها شرا خالصا ـ في تقديره ـ يصبح في ظل التفويض لله، والتسليم لحكمه، مستساغ الطعم، خفيف الحمل، لما يرى من حسن المثوبة عند الله، على ما أصابه، وصبر عليه، محتسبا عند الله أجره.
ثم سألناه عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ [الفلق: 3]، فقال (2): في الآية السابقة كانت الاستعاذة بالله، استعاذة عامة من جميع الشرور التي ترد على الإنسان من المخلوقات كلها.. وفي قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ [الفلق: 3] وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة، استعاذة من شرور بعض المخلوقات، البادي شرها.. فالليل حين يهجم على الكائنات، ويحتوى الإنسان، يثير فيه كثيرا من المخاوف، التي تطل عليه من وراء هذا العالم المجهول، المحجب بهذا الستار الكثيف من الظلام.. من عدو متربص، أو حيوان مفترس، أو حشرة سامة، ونحو هذا.. وفي الليل، وفي وحشة الظلام، والسكون، والوحدة، تطرق الإنسان همومه ووساوسه، وتتوارد عليه آلامه وأشجانه، فيبيت مؤرقا يئن تحت وطأة هذه الهموم، وتلك الوساوس.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1721)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1721)
القرآن.. والعزاء والشفاء (440)
ثم سألناه عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4]، فقال (1): النفث في العقد، هو السعى بين الناس بالوشاية والنميمة، فتنحل بذلك عقد الإخاء، والمودة بينهم.. وأصل النفث في الشيء النفخ فيه.. ومنه يقال للحية نفثت سمومها أي ألقت بها من فمها في جسد الضحية التي وقعت لها.. وهذه استعاذة بالله من شر جزئى، من شرور المخلوقات، وهو الشر الذي الذي ينجم من مثيرى الفتن والقلاقل، ومن مهيجى النفوس وإيقاد نار العداوة بين الناس، فتنحل بذلك روابط الإخاء بينهم، وتنفك عقد التواصل والتراحم بين المتواصلين والمتراحمين.. وإن أكثر ما يقع بين الناس من شر، وما يقوم بينهم من صراع، هو من حصاد هؤلاء النفاثين في العقد، من الرجال والنفاثات فيها من النساء، ابتغاء الفتنة، وتمزيق الوحدة، وتشتيت الشمل.
ثم علمنا كيف نواجه هذا، وأمثاله، فقال (2): وإذ كانت الكلمة هنا هي الأداة العاملة في هذا المجال، في إيغار الصدور، وإثارة النفوس، وبلبلة المشاعر، وتعكير صفو العواطف، بالحديث الكاذب والقلة المفتراة، والشائعة المضللة؛ فقد نصح الله سبحانه وتعالى لنا، بالاستفادة من شر تلك الأفواه الآثمة التي تنفث سمومها في العقد الموثقة بيننا وبين أهلنا، وأصدقائنا، أبناء مجتمعنا الذي نعيش فيه.. والنصيحة هنا ذات شقين: أن نأخذ حذرنا من هؤلاء الساعين بالنميمة، المتنقلين بين الناس بالفتنة، فنحذرهم كما نحذر الحيات والأفاعى، ونعوذ بالله من شرهم، ونستعين به سبحانه على رد كيدهم، ودفع أذاهم، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].. ومن جهة أخرى، نحذر من أنفسنا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1722)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1723)
القرآن.. والعزاء والشفاء (441)
أن توردنا هذا المورد، وأن تدفع بنا إلى هذا الطريق الذي يلبسنا ثوب الشر الذي يستعاذ بالله منه.
سكت قليلا، ثم قال (1): وفي الاستعاذة بالله من النفاثات، استعاذة ضمنية أيضا من النفاثين، إذ كانت النساء في هذا المجال أكثر من الرجال عددا، وأثرا، وإذ كان غالبا وراء كل رجل يثير فتنة، امرأة تغريه بها، وتدفع به إليها، وحسبنا أن نذكر هنا امرأة أبى لهب حمالة الحطب، والعهد بها قريب.. وربما يكون المقصود بالنفاثات: النفوس الخبيثة، والأرواح الفاسدة، سواء تعلقت بالرجال أو بالنساء.
ثم سألناه عن معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: 5]، فقال (2): الحسد، في الأعم الأغلب هو الدافع إلى كل عداوة، الموقد لكل فتنة، المغرى بالكذب والافتراء على الناس، لحل عقد الوئام والوفاق بينهم، ولنزع البسمة التي تعلو الشفاه بين المتحابين، ولإطفاء إشراقة البشاشة والرضا التي تفيض من وجوه أهل النعمة والرضا.. فالحسد، وهو ما يجده الحاسد في قلبه ضيق وحسرة، حين يرى في يد أحد خيرا ليس في يده، ثم لا يهدأ له بال، ولا تستريح له نفس، حتى يغرب وجه هذا الخير هو داء يغتال كل معانى الإنسانية في الإنسان، فيصبح عداوة متحركة في الناس، ترميهم برجوم من العداوة والبغضاء، وتنفث فيهم سموم الحقد والضغينة، حتى يميت أو يموت.. كالنار تأكل نفسها.. إن لم تجد ما تأكله.. والحسد ـ وليس غيره ـ هو الذي أغرى أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ بهذا الموقف الضال الآثم، من رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتمانهم الحق عن علم بأنه رسول الله، وأنه الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، كما قال تعالى فيهم: ﴿يَا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1724)
(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1725)
القرآن.. والعزاء والشفاء (442)
أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 71]، وقال عنهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، وقال فيهم: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 109].. وفي نار الحسد التي تأججت في صدور اليهود، ذابت كل معالم الحق الذي كان معهم من أمر النبي، فكفروا به، واتخذوا طريق الضلال مركبا إلى عذاب الجحيم..
ثم سكت قليلا، وقال (1): والحسد ـ وليس غيره ـ هو الذي أغرق مشركى قريش في الضلال، وأغراهم بهذا الموقف اللئيم الآثم الذي وقفوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان عمه أبو لهب هو وامرأته من أشد الناس حسدا له، وتصديا لدعوته، وتشنيعا عليه، وكان من مقولات المشركين ما ذكره الله عنهم من قولهم: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [القمر: 25]، و﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، و﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: 24]
ثم سألناه عن معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: 5]، فقال (2): أي ونستعيذ بك ربنا من شر الحاسد إذا أنفذ حسده، بالسعي والجد في إزالة نعمة من يحسده، فهو يعمل الحيلة، وينصب شباكه، لإيقاع المحسود في الضرر، بأدق الوسائل، ولا يمكن إرضاؤه، ولا في الاستطاعة الوقوف على ما يدبره، فهو لا يرضى إلا بزوال النعمة، وليس في الطوق دفع كيده، ورد عواديه، فلم يبق إلا أن نستعين عليه بالخالق الأكرم، فهو القادر على رد كيده، ودفع أذاه، وإحباط سعيه.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1726)
(2) تفسير المراغي (30/ 268)
القرآن.. والعزاء والشفاء (443)
قالت الفتاة الشابة بعد أن انتهت من حديثها: لقد كان لتلك الكلمات النيرة من معلمي الكاظم آثارها الكبيرة على نفسي.. لقد تغيرت بعدها تماما.. لأني صرت أشعر أني في حماية الله وحفظه.. وهل يمكن لأحد أن يكيدني والله معي؟
بعد أن سمعت لحديث الفتاة الشابة، أردت الانصراف، فقالت لي الفتاة الصغيرة: مهلا يا تلميذ القرآن.. فلدي إليك حديث لا بد أن تسمعه.. فمن سمع الفلق عليه أن يسمع الناس.. فهما المعوذتان، ولا يجوز أن تقتصر على إحداهما.
قلت: كلي آذان صاغية لك.. لكني أرى أنك صغيرة.. وربما لم تمري بما مر به غيرك.
قالت: الله يعلم كل صادق من عباده صغيرا أو كبيرا.. ورب شيخ في عقل طفل.. ورب طفل في عقل شيخ.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: 12]؟
قلت: بلى.. فحدثينا.
قالت: حين شكوت لوالداي بعض الوساوس التي كانت تنتابني وتنغص علي حياتي، أخذاني إلى معلمي الكاظم، وقبل أن يعلماه بحالتي، قال: أكثروا من قراءة سورة الناس.. وعندما طلبنا منه أن يبين لنا المعاني التي نستذكرها حين قراءتنا لها، قال (1): الإنسان معرض دائما لوساوس الشيطان.. وشياطين الجن والإنس يسعون دائما للنفوذ في قلبه وروحه.. ومقام الإنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت، فسيبقى متعرضا لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق.. ولذلك حين يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (20/ 577)
القرآن.. والعزاء والشفاء (444)
أن يستعيذ به من شر (الوسواس الخناس) فإن ذلك دليل على إمكان الوقوع في شراك الموسوسين الخناسين، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن من الانحراف بفضل الله ومدده الغيبي وخضوعة التام لله، فالآيات تأمره أن يستعيذ بالله من شر الوسواس الخناس، فما بالك بغيره من الناس.
ثم نظر إلي، وقال (1): لا يجوز للإنسان أن ييأس أمام مخاوف الموسوسين، فملائكة الله تهب للأخذ بناصية المؤمنين والسائرين على طريق الله.. والمؤمنون ليسوا وحيدين في ساحة صراع الحق مع الباطل، بل ملائكة الله في عونهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصلت: 30 ـ 31].. ولكن، على أي حال، لا يجوز للإنسان أن يغتر وأن يحسب نفسه غنيا عن الموعظة والتذكير والإمداد الإلهي.. بل يجب الإستعاذة به سبحانه دائما ويجب أن يكون الإنسان على وعي وحذر باستمرار.
ثم راح يشرح لنا معناها قائلا (2): الاستعاذة في هذه السورة برب الناس، ملك الناس، إله الناس.. والمستعاذ منه هو: شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس.. والاستعاذة بالرب، الملك، الإله، تستحضر من صفات الله تعالى ما به يدفع الشر عامة، وشر الوسواس الخناس خاصة.. فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي، والملك هو المالك الحاكم المتصرف، والإله هو المستعلي المستولي المتسلط.. وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور.. وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (20/ 582)
(2) في ظلال القرآن (6/ 4010)
القرآن.. والعزاء والشفاء (445)
مستور.
ثم قال (1): والله رب كل شيء، وملك كل شيء، وإله كل شيء.. ولكن تخصيص ذكر الناس هنا يجعلهم يحسون بالقربى في موقف العياذ والاحتماء.. والله ـ برحمة منه ـ يوجه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته إلى العياذ به والالتجاء إليه، مع استحضار معاني صفاته هذه، من شر خفي الدبيب الذي لا قبل لهم بدفعه إلا بعون من الرب الملك الإله؛ فهو يأخذهم من حيث لا يشعرون، ويأتيهم من حيث لا يحتسبون..
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ [الناس: 4]، ثم قال (2): الاستعاذة هنا من الوسواس فيما يثيره في النفس من أفكار شريرة، وخيالات معقدة، وأحلام كاذبة، ومشاعر حادة، بحيث تؤدي إلى إثارة الفتنة في حركة الناس في علاقاتهم العامة والخاصة، من خلال الإيحاءات التي يثيرها في داخل الكلمات ليعقد الأوضاع من حولهم، وإلى إضلال العقل والإحساس من خلال الشبهات التي يحركها أمام العقيدة، ليدفع الناس إلى الكفر والضلال، أو من خلال علامات الاستفهام المعقدة أمام القضايا التي تدخل في منطقة الشعور أو تتحرك في دائرة العاطفة، وإلى إثارة الغريزة في حركة الشهوات في الجسد في أجواء الإغراء والإغواء، وإلى تحريك الذهنية المسيطرة في أجواء العلو والاستكبار والسيطرة التي يعيشها السلاطين على الأرض في خط الظلم والفساد، وغير ذلك مما يثيره الوسواس الذي يكمن للإنسان في مواقع الغفلة، فيدفع بالكلمة إلى السمع، وباللمسة إلى الإحساس، وبالفكرة إلى الذهن، ثم يبتعد ويختفي، ليترك الكلمات في موقع التفاعل في الذات، وفي الإحساس، وفي العقل، ثم يعود من جديد إلى الوسوسة التي تترك تأثيراتها في
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 4010)
(2) من وحي القرآن (24/ 501)
القرآن.. والعزاء والشفاء (446)
الكيان الروحي للإنسان.
ثم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس)(1).. وقال: (إن الشيطان ليجثم على قلب بني آدم له خرطوم كخرطوم الكلب، إذا ذكر العبد الله عزوجل خنس أي رجع على عقبيه وإذا غفل عن ذكر الله وسوس)(2).. وقال: (ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان، أذن ينفث فيها الملك وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس، فيؤيد الله المؤمن بالملك وهو قوله سبحانه: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: 22])(3)
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ [الناس: 5 ـ 6]، ثم قال (4): قد يكون الوسواس الخناس من الجن الذين قد يزينون للإنسان الكفر والمعصية والضلال فيما حدثنا الله عنه في القرآن من حركة الشيطان في حياة الإنسان، ولكنه لا يملك السيطرة على الإنسان الذي يلتفت إلى نفسه، ويتصل بربه، وذلك فيما كرره الله من قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الإسراء: 65]،
سألناه عن كيفية وسوسة الشيطان للإنسان، وكيف يدخل إلى عقله وإحساسه وحياته، فقال (5): إننا لم نجد وسيلة لنتعرف إلى ذلك بطريقة مادية، ولكننا نعيش النتائج في أنفسنا، من خلال حركته في الفكر والإحساس والوجدان.. وقد يكون هذا الوسواس الخناس من الإنس الذين يعيشون مع الإنسان، ويملكون بعض التأثير عليه، من خلال علاقات المزاج أو القرابة أو الصداقة أو المصلحة أو الشهوة أو السلطان ونحو ذلك،
__________
(1) مسند أبي يعلى (7/ 278،279)
(2) بحار الأنور، ج 67، ص 33.
(3) بحار الأنور، ج 67، ص 33.
(4) من وحي القرآن (24/ 503)
(5) من وحي القرآن (24/ 503)
القرآن.. والعزاء والشفاء (447)
فيستغلون الجانب العاطفي أو الغريزي، أو الضعف الذاتي، للنفاذ إلى داخل شخصيته من أجل إغوائه وإغرائه وتوجيهه إلى مواقع الضلال.
وعند وداعه لنا راح يكرر علينا الدعوة للاهتمام بقراءة هذه السورة الكريمة والتدبر في معانيها، ثم قال لنا (1): هذه السورة الكريمة دعوة إلى الإنسان ليستعيذ من هذا الوسواس الخناس الذي يشكل خطرا على التزامه الفكري والعملي، وعلى سلامته في الدنيا والآخرة.. وليتطلع إلى الله ﴿بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس: 1 ـ 3]، ليجد فيه العون كل العون، والقوة كل القوة، وليستشعر ضعف هذا الوسواس الخناس أمام الله، وأمام الوسائل التي وضعها بين يدي الإنسان ليحميه من شره، ولينقذه من حبائله ومن مكره وخداعه ووسوسته وتثبيطه، ومن كل مكائده.
ثم حدثنا عن بعضهم أنه عثر به حماره، فقال: تعس الشيطان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقل: تعس الشيطان؛ فإنك إذا قلت: تعس الشيطان، تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: بسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب)(2)، ثم ذكر لنا أن في هذا دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغلب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب.
ثم قال (3): وهذا هو أسلوب التربية الروحية الوجدانية التي يريد القرآن الكريم أن يؤكدها في شخصية الإنسان المؤمن، ليؤكد قوة الموقف لديه، وثبات الإيمان في نفسه واستقامة الطريق في حياته.. وهو أن يرجع إلى الله في إحساس عميق بقوته التي تحميه من قوة الآخرين، وبرحمته التي تفيض على روحه حبا وأمانا وسلاما وخيرا وبركة، فتمنحه الطمأنينة الروحية والثبات الواقعي في الحياة.
__________
(1) من وحي القرآن (24/ 503)
(2) أحمد (5/ 59)
(3) من وحي القرآن (24/ 504)
القرآن.. والعزاء والشفاء (448)
بعد أن حكت الفتاة الصغيرة حكايتها مع المعلم، قالت: ومنذ ذلك الحين، وأنا أقرأ سورة الناس، بل أجعلها وردا من أورادي الأساسية.. وقد خلصني الله تعالى بها من كل الوساوس التي كانت تعتريني.
بعد أن سمعت لحديث الفتاة الصغيرة، أردت الانصراف، فقالت لي المرأة التي في سن الكهولة: مهلا يا تلميذ القرآن.. لقد سمعت من الجميع، ولا يليق ألا تستمع لي.
قلت: كلي آذان صاغية، فحدثيني بحديثك.
قالت: لقد كنت مثل أكثر الناس في بلدتنا التي عشت فيها مملوءة بالمخاوف من الشياطين والعفاريت وغيرها.. إلى أن تنغصت حياتي كلها بأنواع المنغصات، ولم ينقذني من ذلك إلا ذلك اللقاء المبارك بمعلمنا الكاظم.
لقد سمعته، وهو يردد في بعض الحاضرين الذين كانوا على مثل حالي: لا تخافوا أبدا من الشيطان، فهو ضعيف جدا، أمام الذاكرين المتواصلين مع ربهم، الخاضعين له.
ثم طلب منا أن نداوم على قراءة قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 200 ـ 202]
وعندما طلبنا منه أن يوضح لنا معناها ومقاصدها، قال (1): قد يثير الشيطان في داخل الإنسان بعض المشاعر السلبية، وقد يخلق حالة من التوتر النفسي الذي يبعث على الغضب في التصرف، ويدفع إلى الممارسة الانفعالية على أساس الثأر لكرامة الذات، أو لما
__________
(1) من وحي القرآن (10/ 312)
القرآن.. والعزاء والشفاء (449)
يخيل إليه أنه كرامة الرسالة، وهذا هو النزغ الشيطاني فيما يوحي به معناه من الدخول في أمر لأجل إفساده، أو الإغراء، أو الوسوسة.. ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: 200] الذي يعيذ الإنسان من وسوسته ويبعث في روحه الشعور بالسكينة الروحية التي تحول الأجواء الداخلية إلى ساحة للمحبة والسلام ليعود له وضوح الرؤية للأشياء.. ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200] يستجيب لك دعاءك فيما يعلمه من الموقف الصعب الذي تواجهه من أهل السفاهة والجهالة.
ثم قال (1): وقد لا تكون الآية موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حالته الخاصة، على أساس وضع سلبي معين فيما عاشه في تجربته، بل هي موجهة لكل المؤمنين لمواجهة كل الأوضاع المتشنجة.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، ثم قال (2): وهذه حقيقة إنسانية إيمانية في حركة النفس في الموقف الداخلي والخارجي، فإن التقوى لا تمنع الأفكار السلبية الانفعالية من الطواف حول المشاعر والمواقف لتفسدها ولتوجهها إلى الاتجاهات الخاطئة، لأن ذلك هو شأن الطبيعة الإنسانية التي تتأثر بكل الأوضاع المحيطة بها، فيما تتحرك به غرائزها في حركة ذاتية عفوية، ولكن دور التقوى هو أن يمنع استقرار تلك الأفكار في داخل النفس، أو تحويلها إلى موقف عملي منحرف، ولهذا فإنها تقف أمام كل تلك الأفكار والتهاويل والمشاعر الشيطانية التي تطوف بالإنسان، لتجد زاوية تختبئ فيها، من أجل إتمام عملية الإغواء والإضلال، فتعمل على طردها بإعادة الوعي الإنساني إلى الله، فيما يمثله ذلك من انفتاح على كل آفاق الخير
__________
(1) من وحي القرآن (10/ 312)
(2) من وحي القرآن (10/ 313)
القرآن.. والعزاء والشفاء (450)
والصلاح، وذلك عند ما يتذكر الإنسان ربه، فتزول الغشاوة الشيطانية عن بصره وبصيرته، فيبصر درب الحق من جديد.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 202]، ثم قال (1): أما المشركون الذين انطلقوا مع الشياطين في علاقة مودة وأخوة وعبادة، فإن إخوانهم يشجعونهم على الغي والضلال بما يمدونهم به من أسبابهما ولا يكفون عن ذلك.. وهذا هو الفرق بين المؤمنين الذين يرعاهم الله فينقذهم من الضلال كلما طاف بهم طائف من الشيطان، وبين المشركين الذين تتولاهم الشياطين في عملية إغواء وإضلال.
وبعد أن انتهى من بيان معنى الآية الكريمة راح يحذرنا من مكايد الشيطان المختلفة، والتي لا تهدف إلى شيء كما تهدف إلى تكدير صفو علاقتنا بربنا، أو منعنا من أداء ما كلفنا به.
وقد قرأ في ذلك قوله تعالى في النهي عن النجوى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة:10]، ثم قال (2): المراد بالنجوى هنا، هي النجوى المؤذية، وليست مطلق النجوى، وهي التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ [المجادلة: 8]، فهذه النجوى هي من تدبير الشيطان وكيده للمؤمنين، إذ يتخذ من هؤلاء سلاحا يحارب به المؤمنين، حيث يجمع هؤلاء على هذه المجالس الآثمة، فيتناجون فيما بينهم، ويتهامسون ويتغامزون على ملأ من المؤمنين، فيخيل للمؤمنين أن القوم يدبرون لهم كيدا، أو يظهرون بهم شماتة لأحداث يحيلون للمؤمنين بهذه
__________
(1) من وحي القرآن (10/ 313)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 828)
القرآن.. والعزاء والشفاء (451)
المناجاة أنها وقعت، ولم يعلمها المؤمنون بعد، أو لأحداث ستقع لم يكن عند المؤمنين حساب لها.. وهكذا تحدث هذه النجوى بلبلة واضطرابا في نفوس المؤمنين، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتداعى عليهم دواعى الضيق والحزن، ويشتمل عليهم ضباب كثيف، مما تتلمظ به هذه الشفاه الآثمة من منكرات، وما تتغامز به العيون الزائغة من نظرات وإشارات..
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [المجادلة: 10]، ثم قال (1): أي أن الشيطان لن يضر المؤمنين بهذا الكيد الذي يكيده لهم، وأن ما قد يقع للمؤمنين من ضر فهو مما قدره الله لهم، وشاءه فيهم.. وقد يجيء هذا الضرر عن طريق الشيطان أو غيره، ولكن لا الشيطان ولا غيره بمستطيع أن يضر أحدا إلا من شاء الله له هذا الضر.. وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التغابن: 13] هو دعوة للمؤمنين ألا يحفلوا بما يتناجى به هؤلاء المنافقون، وألا يعملوا له حسابا، فإن ذلك لن يأتيهم شر منه، إلا ما كان قد قدره الله عليهم.. وإذن فليتوكلوا على الله، وهو حسبهم ونعم الوكيل.
ثم قال لنا: وهكذا يذكر الله تعالى أن الشيطان يخوف معتنقي وساوسه من الفقر، ويأمرهم لذلك بالفحشاء، كما قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:268]، ثم قال (2): أي إن الشيطان يخوف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل، ويخيل إليهم أن الإنفاق يذهب بالمال، ولا بد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان، وسمى ذلك التخويف وعدا ـ والوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر، والشيطان لم يضف مجئ الفقر إليه ـ مبالغة في الإخبار
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 828)
(2) تفسير المراغي (3/ 41)
القرآن.. والعزاء والشفاء (452)
بتحقق وقوعه، وكأن مجيئه بحسب إرادته وطوع مشيئته.. ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ [البقرة: 268]، أي إن الله وعدكم ـ على لسان نبيكم، وبما أودعه في الفطر السليمة من حب الخير والرغبة في البر ـ مغفرة لكثير من خطاياكم، وخلفا في الدنيا من جاه عريض، وصيت حسن بين الناس، ومال أزيد مما أنفق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39]، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)(1).. ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32] أي إن الله واسع الرحمة والفضل، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقون، وهو عليم بما تنفقون، فلا يضيع أجركم، بل يجازيكم أحسن الجزاء.
ثم قال لنا: إن الغاية الكبرى من وساوس الشيطان هي الإضلال وتوابعه، كما قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾ [النساء:60]، وقال: ﴿وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [الزخرف:62]، وقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان:21]، وقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر:6]
قالت المر أة بعد أن انتهت من حديثها عن ذكرياتها مع معلمها الكاظم: لقد كان لتلك الكلمات تأثيرها الكبير على نفسي، إذ ابتعدت عني كل تلك المخاوف التي كانت تنتشر في البيئة التي كنت أعيش فيها، والتي ملأت حياتنا بالاضطراب والخوف والقلق.. لقد صرت بعدها أرى أن الوحيد الذي يتصرف في الكون ويدبر أموره هو الله، وليس له
__________
(1) البخاري (1442)، ومسلم (1010)
القرآن.. والعزاء والشفاء (453)
شريك في ذلك.. وهذا ما جعلني ألجأ إليه وحده وأتوكل عليه وحده.. وهو حسبي ونعم الوكيل.
بعد أن سمعت إلى تلك الأحاديث الممتلئة بالإيمان، سرت في تلك المدينة إلى أن مررت على حديقة جميلة كتب على بابها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 ـ 6]، ثم وجدت جماعات من الناس، ومن مختلف الأعمار، يتحدثون حلقا حلقا..
اقتربت من حلقة منها، وكان فيها جمع من الشيوخ، قال أحدهم: هل تعلمون الآيات الكريمة التي أثرت في حياتي جمعيا.. بل قلبتها رأسا على عقب؟
قال أحدهم: ما هي؟
قال: قوله تعالى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 2 ـ 9].. لقد كانت هذه الآيات الكريمة سببا فيما أنعم الله علي به من نعمة الأولاد الصالحين.. فقد كنت قبلها يا ئسا تماما.. لكن الله تعالى وفقني لأن أدعوه مثلما دعاه عبده زكريا عليه السلام، وقد أنالني ما أناله.
القرآن.. والعزاء والشفاء (454)
قال أحدهم: فكيف بدا لك أن تدعو بها؟
قال: عندما وفقني الله تعالى للالتقاء بمعلمنا الكاظم.. لقد كنت حينها في غاية اليأس والإحباط.. لكن حديثه جعلني أطرح كل ذلك اليأس، وأرفع يدي بالدعاء إلى الله والتضرع إليه.. إلى أن آتاني ما طلبته.. بل فوق ما طلبته بكثير.. لقد كنت أطلب الولد، لكني بعد أن تعلمت التضرع إلى الله صار التضرع نفسه نعمة.. وصار الولد بعدها نافلة.
قالوا: فبم حدثك؟
قال: لم يكن حديثه لي وحدي، لكن نظراته لي كانت توحي لي بأن كل ذلك الحديث كان موجها إلي خصوصا.. لقد قرأ تلك الآيات الكريمة، ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة يذكرنا الله تعالى بكيفية رحمته لعباده الصالحين الذين يبتهلون إليه فيما أهمهم من أمر دنياهم وآخرتهم، من خلال نموذج مميز هو عبد الله الصالح زكريا عليه السلام الذي كان يعيش المحبة لله، كأعمق ما يعيشه الإنسان المؤمن الصالح أمام ربه، وكان موضعا لرحمة الله في تفاصيل قصته المثيرة للتفكير وللإيمان،
سكت قليلا، ثم قال (2): لقد بدأت قصة زكريا عليه السلام في هذه الآيات الكريمة بقوله تعالى: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم: 3]، أي أنه كان يعيش الإحساس بحضور الله في حياته وهيمنته على وجدانه، بحيث ينادى بشكل طبيعي، كما ينادي أي موجود حي في عالم الحس والشهود، لأن غياب الله عن العيان لا يحجب رؤيته في عالم الوجدان.. وهكذا وقف زكريا لينادي ربه، ويسمعه حاجته، ولكنه لم يطلق صوته عاليا، بل تحدث بما يشبه الهمس الخفي، لشعوره بالخشوع عند الحديث معه، وإدراكه بأن الله لا يحتاج إلى الجهر
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 11)
(2) من وحي القرآن (15/ 11)
القرآن.. والعزاء والشفاء (455)
بالصوت، ليسمع نداء عبده، لأنه يعلم السر وأخفى، ويسمع وساوس الصدور، فكيف لا يسمع تمتمات الشفاه!؟
ثم قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4]، ثم قال (1): أي أنه قال مخاطبا ربه شاكيا إليه حاله: لقد ضعف جسدي، واختلت قواه، ولم يعد هذا العظم الذي يعتمد عليه البدن في حركته وسكونه قادرا على حملي، لأنه فقد القوة والصلابة اللتين يتوقف عليهما نشاطه، ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: 4]، فقد انتشر الشيب في رأسي، كما ينتشر اللهب في الهشيم عند ما تشتعل فيه النار، فقد بلغت سن الشيخوخة التي تعطل في كل حيوية وقوة ونشاط فيما أريد القيام به من حركة الحياة، ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم: 4]، فقد عودتني أن تستجيب لي كلما دعوتك فأنت الرب العظيم القادر الذي لا يضيق بأي دعاء مهما كان صعبا أو سهلا، ولذلك لم يضعف الأمل في قلبي ولم يهتز، أمام كل هذا الضعف، ولم يجد اليأس طريقه إلى وجداني المنفتح على رحمتك وقدرتك، وتلك هي سعادة الروح المتصلة بالله، فيما تحبه، وفي ما تريده، فلا مجال للإحساس بالشقاء الداخلي، مهما كانت الأوضاع والظروف.
سكت قليلا، ثم قال (2): بعد أن أدى زكريا عليه السلام ما يجب من الولاء لربه، واللجأ إلى فضله وإحسانه، بدأ يعرض حاجته، ويكشف عن الحال الداعية إلى هذا الطلب، الذي مد به يده إلى ربه.. إنه لا ولد له، والولد رغبة تهفو إليها نفوس الآباء والأمهات، لا فرق في هذا بين إنسان وإنسان، حيث يجد المرء في الولد امتدادا لحياته، وروحا لروحه، وأنسا لقلبه.. وقد كان زكريا عليه السلام ـ شأنه شأن كل رجل ـ يرجو أن يكون له ولد من
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 11)
(2) التفسير القرآني للقرآن (8/ 724)
القرآن.. والعزاء والشفاء (456)
صلبه، يتلقى عنه رسالته في الحياة من بعده، وها هوذا قد بلغ من الكبر عتيا، ولم يرزق الولد، وهو يرى من أهله وقرابته، من ينتظر موته ليرث مخلفاته، وكانوا شرار بنى إسرائيل.. فحزن لهذا، واشتدت رغبته في الولد، ليقطع به على هؤلاء الطامعين فيه، والمتعجلين موته ـ آمالهم.. ولكن أني يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر ما بلغ، إلى ما عليه امرأته من عقم؟.. ولم يكن بين يدى زكريا إلا هذه الخواطر، يرددها في صدره، ويتعزى بها بينه وبين نفسه، ويدعو ربه أن يجعل من هذه الخواطر، واقعا في يده.
نظر إلي، وقال (1): وقد استجاب الله له دعاءه كأفضل ما تكون الاستجابة، وأراد أن يبشره بذلك في جو من الإعزاز والتكريم، فأرسل إليه الملائكة لتزف إليه البشارة بالوليد المنتظر الذي أراد الله له أن يكون في المستوى العظيم في الطهارة والنقاوة الرسالية والروحية المتحركة في خط النبوة، كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 39]، فالبشارة تتحدث عن الحلم المنتظر كما تتحدث عن الواقع الحي.. فهي تعين له اسمه، وصفته المميزة، التي جعلها الله سمة للأنبياء، فقد جاء مصدقا لما أنزل الله من رسالات، ولما أرسل من رسل، وتلك صفة لا يوصف بها إلا الذين يريد الله لهم أن يكملوا الطريق التي بدأها الآخرون من قبله، من الأنبياء الذين شقوا للناس طريق الحق المستقيم.. وسيدا لنفسه كما هو شأن عباد الله الذين يحكمون أنفسهم من خلال إيمانهم، ويسيطرون على شهواتهم من خلال عقولهم، ويسودون الناس في نطاق مبادئهم الحقة، ولا يخضعون لأية سلطة غير سلطة الله فيما يريد وفي ما لا يريد، فهم أحرار أمام أنفسهم وأمام الآخرين،
__________
(1) من وحي القرآن (5/ 354)
القرآن.. والعزاء والشفاء (457)
يملكون كلمة الرفض من موقع القناعة ويملكون كلمة القبول من موقع الاختيار، وعبيد أمام الله الواحد لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.. ﴿وَحَصُورًا﴾ [آل عمران: 39] حصر شهواته، فلا يدعها تتحرك في نطاق الإشباع والارتواء.. ﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 39] الذين أراد الله لهم أن يتقبلوا وحيه بأرواحهم ويحملوها للناس رسالة وهدى وإيمانا.. وقد أكد الله له في هذه البشارة، أن ذلك قد كان بكلمة منه، والكلمة تعني القدرة التي لا تحتاج في تعلقها بالأشياء إلى أسباب مألوفة مما تعارف عند الناس من أسباب.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 7]، ثم قال (1): فقد أراد الله ألا يخيب أملك فيه، ورجاؤك في رحمته، فرزقك ولدا ذكرا سويا، ومنحه اسما لم يحمله أحد من قبله، فما ذا تريد بعد ذلك وقد منحك الله كرامته التي يخص بها عباده الصالحين، وأنبياءه المرسلين؟
ثم التفت إلي، وقال (2): وقف زكريا عليه السلام حينها مدهوشا مما يسمعه، وأخذته الحيرة من ذلك كله، هل هو في حلم أم يقظة؟ هل هي كلمات الرحمن أم هي شيء من التخييل؟ إنه يفكر في الحواجز الطبيعية التي تحول بينه وبين ذلك، لقد مضى عليه مدة طويلة حتى بلغ مبلغ الشيخوخة وامرأته عاقر لا تحمل، ولم يرزق بولد، فكيف تحدث تلك المفاجأة بمثل هذا التفصيل.. تحدث فيما يشبه الإغاثة التي تريد أن تخرجه من الحيرة.. حينها قال زكريا عليه السلام: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: 8]، فقد غيرني الزمان إلى حالة لم يبق لي معها شيء من الحيوية فصرت تماما كالعود اليابس الذي لا خضرة فيه ولا حياة، فكيف يمكن أن أهب الحياة لغيري في مثل
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 19)
(2) من وحي القرآن (5/ 355)
القرآن.. والعزاء والشفاء (458)
هذه الظروف الصعبة؟ وكأن زكريا قد فوجئ بأمر لم يكن ينتظره لأنه لم يحسب أن الإنجاب يتم بمثل هذه السهولة، وأن الدعاء يستجاب بهذه السرعة، وأن ما كان مستحيلا في نظره أصبح واقعا في حياته.. وربما كان يتصور أن دعاءه بالولد يدخل في نطاق التمنيات التي يتحدث بها الإنسان إلى ربه، دون أن يكون له طمع كبير في تحققها، لا لأنه يشك في قدرة الله على ذلك، بل لأنه لا يعتقد أن الله يتدخل في الأمور بشكل مباشر لمصلحة شخص معين، بعد أن جعل الحياة كلها خاضعة للسنن الكونية في وجودها وفي حركتها العامة والخاصة.. وهذا ما جعل السؤال ينطلق منه فيما يشبه الصراخ العنيف، كما توحي الآية.
سكت قليلا، ثم قال (1): وجاء الجواب: إنك تتحدث مع الله الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فهو الذي خلق الأشياء وخلق معها القوانين والأسباب الطبيعية، وهو القادر على أن يغيرها في أي وقت يريد في ظل قوانين جديدة، فما قيمة الحواجز الطبيعية أمام قدرة الله المطلقة حتى يفكر فيها الإنسان المؤمن؟ ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 40]، ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117]، وكأن زكريا عليه السلام قد اقتنع بذلك ورجع إلى ما يوحيه إيمانه من التسليم لله في كل شيء.. لكنه أراد أن يشعر بالطمأنينة القلبية إلى أن هذا الوحي الذي يلقى إليه ـ بواسطة هذا الصوت الذي سمعه ولم ير صاحبه ـ هو وحي الله، وأراد أن يستوثق لقناعته، فطلب آية لا يستطيع غير الله أن يحققها، لأنها تتصل بوحدانية القدرة لديه، فلذلك قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ [مريم: 10] ترتاح إليها نفسي ويطمئن لها قلبي، فأعرف أن هذه البشارة، المعجزة، هي منك، وحدك، حيث تكون هذه المعجزة دليلا أكيدا على المعجزة القادمة، ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ
__________
(1) من وحي القرآن (5/ 355)
القرآن.. والعزاء والشفاء (459)
سَوِيًّا﴾ [مريم: 10]، وذلك بأن يحتبس لسانك وتعجز عن النطق طوال هذه المدة، دون أن يكون وراء ذلك علة أو صدمة، سوى قدرة الله، وفي عجزك ذاك آية دالة على أن كل ما بك وما ينتظرك هو من الله، وذلك مماثل لصوم الصمت الذي كان الناس يقومون به وفاء لنذر، أو اختيارا.. وهكذا تم له ما أراد، حيث عرف سر قدرة الله في نفسه، وسر رحمة الله في قصته، وتفاعل الشعور بعظمة الله في نفسه حتى تحول الموقف النفسي عنده، إلى موقف عملي في الدعوة إلى تسبيح الله في الصباح والمساء، فيما يوحي به التسبيح من التعبير عن عظمة الله في الكون، ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾ [مريم: 11] فيما يشبه الفرحة الكبرى، ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11] لأن التسبيح بما يعينه من استلهام عظمة الله من عظمة خلقه، وبما يشيعه من إحساس بالخشية من الله هو السبيل للالتزام الواعي بالخط المستقيم.
بعد أن انتهى الرجل من حديثه، قال: بعد عودتي إلى بيتي حاولت أن أعيش نفس الحالة التي عاشها زكريا عليه السلام، وتضرعت إلى الله كثيرا.. وقد استجاب الله دعائي بفضله ومنّه وكرمه.
قام رجل آخر من الحاضرين، وقال: قصتك تشبه كثيرا قصتي.. والفرق بيني وبينك أن قصتك تشبه قصة زكريا عليه السلام، وقصتي تشبه قصة يعقوب عليه السلام وحزنه الشديد على فراق ولده، وقصة أم موسى عليه السلام عند غياب ابنها عنها، فقد حصل لي ما حصل لهما إلى أن ضاقت الدنيا علي ضيقا شديدا.
وحينها يسر الله لي لقيا معلمنا الكاظم، وقد وجدته يقرأ قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
القرآن.. والعزاء والشفاء (460)
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ [القصص: 7 ـ 12]
ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة، يكشف الله سبحانه وتعالى عن الأسباب التي يقيمها، لتمضى بها إرادته، وتتحقق مشيئته.. وإذا كان الله تعالى في غنى عن هذه الأسباب التي تتصل بالمسببات، حيث يقول للشيء (كن) فيكون؛ فإنه سبحانه، يرينا بهذا التدبير أن هناك أسبابا يتوسل بها إلى المسببات، وأن علينا أن نأخذ كل أمر بأسبابه التي تقع في حسابنا وتقديرنا.. وأول سبب من تلك الأسباب التي تقع بها إرادة الله في هلاك فرعون، هو ميلاد موسى عليه السلام، الذي سيكون على يده هلاك فرعون.. فهذا هو السبب الأول الذي ستدور عليه الأسباب المؤدية إلى هلاك فرعون.. وحين ولد موسى عليه السلام، كان فرعون يمضى حكمه في أبناء بني إسرائيل، فيترصد جنوده لكل مولود ذكر ليذبحوه.. وقد أوحى الله تعالى إلى أم موسى أن تمسك وليدها، وأن ترضعه، أي تتولى إرضاعه من لبنها، لا أن تدعه لمرضع غيرها، وذلك لأمر سيتضح فيما بعد، حين يقع الوليد في يد امرأة فرعون، فتلتمس له المراضع، فلا يقبل غير الثدي الذي رضع منه، أول رضعات، وهو ثدى أمه.. وبذلك يجتمع الوليد وأمه، لتمضي الأسباب إلى غاياتها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 311)
القرآن.. والعزاء والشفاء (461)
ثم قال (1): وجاء الوحي من الله، بالإلهام القلبي الذي يعيش فيه الإنسان في لحظات الصفاء الروحي، فيما يحدث الإنسان به نفسه عند الوقوع في مشكلة صعبة تحاصر وجدانه، ولا يجد لها حلا مما يحيط به من الأوضاع، كما هو الحال مع أم موسى التي كانت لا تجد مكانا تخبئ فيه ولدها، لأن العيون تحيط بها من كل جانب حتى أصبحت في حالة من الذهول الذي أربكها ولم تعرف معه أن عليها أن ترضع وليدها حتى لا يموت من الجوع.. وكان الإلهام الإلهي يلمع في وجدانها، كمثل إشراقة النور ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7] حتى يشبع، ليكون ذلك زادا له يحفظ به حياته في هذه الرحلة الخفية، ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ [القصص: 7] من جنود فرعون أن يأخذوه ويقتلوه ولم تجدي مكانا تضعينه فيه بمأمن عن عيونهم، ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: 7] وهو البحر، أو النهر، في زورق صغير ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ [القصص: 7] عليه من الغرق، ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ [القصص: 7] على فراقه.
التفت إلي، وقال (2): وكانت تستغرق في هذه الفكرة، تماما كما لو كانت تستمع إلى شخص يكلمها من داخل شخصيتها، وتتلقى منه التعليمات في صورة الخطة المرسومة التي تجعلها تشعر بالأمن والطمأنينة.. ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: 7] في وقت قصير، في وضح النهار بحيث لا مجال لأي خوف ولأي خطر عند ما تصل الخطة إلى غايتها، ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7] الذين يجعلهم الله في المواقع الروحية والفكرية العليا تمهيدا لمنحهم شرف تبليغ الرسالة.. وربما كانت هذه الفقرة مما ألهم الله به أم موسى عليه السلام ليعرفها خطورة موقعها الكبير في ساحة الرسالات، وربما كانت مما اقتضاه حديث النهايات العظيمة التي اقتضاها لطف الله في شأن موسى.
__________
(1) من وحي القرآن (17/ 268)
(2) من وحي القرآن (17/ 268)
القرآن.. والعزاء والشفاء (462)
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ [القصص: 8]، ثم قال (1): وتتحرك الأسباب إلى غايتها، خطوة خطوة.. فهذا موسى (الوليد) ينتقل من يد أمه إلى صدر النهر، ثم ينتقل من صدر النهر إلى بيت فرعون.. وهكذا يمضى القدر في طريقه، لا يدرى الناس من أمره شيئا، حتى ليربى فرعون في حجره، العدو الذي كان يطلبه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: 8]، فهو لم يُلتقط حين التقط ليكون لفرعون عدوا وحزنا، وإنما التقطه آل فرعون ليكون لهم قرة عين، كما تقول امرأة فرعون: ﴿لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 9]، ولكن للقدر طريقا غير هذا الطريق.. لقد أراد فرعون أمرا، وأراد الله أمرا، ولا مرد لما أراد الله.. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ [القصص: 8]،أي أنهم كانوا في جهل وعمى عما ينكشف عن هذا الأمر الذي فعلوه بأيديهم، وفي هذا ما يكذب ادعاء فرعون للألوهية، ويكشف زيف هذا الادعاء.. فلو أنه كان إلها، لما اختار من بين المواليد كلها هذا الوليد الذي يكون على يديه هلاكه، وموته على تلك الميتة الشنعاء.
قرأ بصوته الخاشع قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 9]، ثم قال (2): وتتحرك أحداث القدر إلى غاياتها، وها هو ذا الوليد بين يدى فرعون.. إنه الوليد الذي يطلبه ذبحا ممن يذبح من أبناء إسرائيل.. فالطفل إسرائيلى بلا ريب.. إذ ما من أم تلقى بابنها في اليم، إلا أن تكون من الإسرائيليات، فرارا به من موت محقق إلى موت محتمل.. إذ ربما يلتقطه رجل أو امرأة ممن لا يعنيهم أمر فرعون، من الصيادين، أو الفلاحين، فيجد الطفل من يربيه ابنا، أو عبدا..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 312)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 314)
القرآن.. والعزاء والشفاء (463)
هكذا كانت نظرة فرعون والملأ حوله إلى هذا الوليد.. إنه إسرائيلى.. وإذن فليذبح كما يُذبح أبناء جنسه.. ولكن القدر يحرك سببا، فيفسد على فرعون وملائه هذا الرأى، حيث تتطلع امرأة فرعون إلى الوليد ـ وكانت غير ولود ـ فتتحرك فيها غريزة الأمومة، وتصرخ في أعماقها عواطف الأم نحو هذا الطفل، وإذا هو لعينيها الطفل الذي ولدته، لساعتها فتتشبث به، وتصرخ في الأيدى الممتدة لذبحه: ولدي.. كبدى وقرة عينى.. ﴿لَا تَقْتُلُوهُ﴾ [القصص: 9].. وترتفع الأيدى عن مهد الوليد، ويتطلع فرعون إلى امرأته عجبا دهشا.. ولا تمهله حتى ينطق بالأمر القاطع في هذا الوليد.. فتلقاه متوددة متعطفة، مسترحمة لنفسها ـ وقد حرمت الولد ـ أن يدع لها فرعون هذا الولد، من بين آلاف الأولاد الذين أراق دماءهم، وأزهق أرواحهم.. وإن ولدا واحدا، لا يقدم ولا يؤخر في الأمر الذي يقصده فرعون من قتل هؤلاء الأطفال، ولذلك تقول لفرعون في تودد وتلطف واسترحام: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [القصص: 9]
سكت قليلا، ثم قال (1): وتقع هذه الكلمات من قلب فرعون موقعا، فيجيب امرأته إلى ما طلبت، ويترك لها الوليد، لتشبع به جوع أمومتها.. وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الزخرف: 66] جملة حالية، من فاعل فعل محذوف، دل عليه سياق الكلام.. والتقدير.. تركوا الوليد، واستثنوه من الذبح، وهم لا يشعرون بما سيأتيهم من هذا الوليد، مما كانوا يحذرون.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 10]، ثم قال (2): في الآية لفتة جانبية إلى أم موسى، وإلى ما تعانى من آلام نفسية، بعد أن ألقت بوليدها في اليم.. وفي هذه اللفتة تتصل خيوط
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 315)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 315)
القرآن.. والعزاء والشفاء (464)
الأحداث التي ينسج منها القدر هذا الحدث الكبير، الذي سيولد بعد قليل.. وأم موسى لها دورهام في الأحداث المقبلة.. سينكشف فيما بعد.. وفي قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ [القصص: 10] إشارة إلى ما ترك ضياع الولد من يدها، من فراغ كبير، في مشاعرها، وأحاسيسها.. فلقد تعطلت بذهابه عنها كل العواطف التي تغذى بها الأم طفلها، من سهر عليه، ومناغاة له، واشتغال به في نومه، ويقظته، وفي بكائه، وصمته، وفي حركته وسكونه.. إن جوارحها كلها التي ترصدها الأم لطفلها، قد أصبحت أدوات معطلة لا تعمل، وهذا بدوره قد جعل قلبها ـ وهو مركز العواطف والمشاعر ـ كيانا فارغا، لا يستقبل من الطفل ما يصل الأم به، من مشاعر وعواطف، إلا تلك العواطف السلبية.. من قلق، وأسى، ولوعة.. وهذا هو السر في هذا التعبير المعجز: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ [القصص: 10]
ثم قال (1): وفي قوله تعالى: ﴿أُمِّ مُوسَى﴾ [القصص: 10] إشارة إلى أن هذا الوليد، قد أصبح ـ في رعاية الله، وفي ضمان وعده بحفظه ـ ذا وجود معترف به في هذا المحيط الذي ضاعت فيه معالم الأطفال، وأهدرت فيه دماؤهم.. إنه الآن شخصية معروفة، وعلم ظاهر، يأخذ مكانه في هذه الأحداث، تماما كما يأخذ فرعون مكانه فيها.. وقوله تعالى: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ [القصص: 10].. أي أنها ـ وقد فرغ قلبها من هذا المهد الذي كان لوليدها في سويداء القلب ـ أو شكت أن تصرخ وتندب هذا الوليد، وتنادى في الناس: إن هذا الطفل الذي وجد ملقى في اليم والذي التقطه آل فرعون هو وليدها.. وإنها لتود أن تلقى عليه ولو نظرة واحدة، قبل أن يصير إلى هذا المصير المجهول.. وقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 316)
القرآن.. والعزاء والشفاء (465)
[القصص: 10] أي أمسكنا على قلبها ما فيه من نوازع تريد الانطلاق إلى الكشف عن وجه الوليد، وفضح أمره.. وقوله تعالى: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 10] تعليل لهذا لربط الذي ربط الله سبحانه، به على قلبها، وهو أنها بعد أن تتكشف لها الأمور، ستعلم أن ما وعدها الله حق، وبهذا يتأكد إيمانها بالله، ويقوى يقينها به وفي هذا إشارة إلى أن ما يُبتلى به المؤمنون الصابرون من أرزاء ومحن، هو تثبيت لإيمانهم، وترسيخ لقواعد هذا الإيمان في قلوبهم، حيث ينكشف لهم وراء كل رزء، وعقب كل محنة، أن ذلك لم يكن إلا عن تدبير الحكيم العليم، وأنهم لو استقبلوا من أمورهم ما استدبروا، لما أقاموها إلا على هذا الوجه الذي أقامه الله رب العالمين، وبهذا ينتقلون من حال القلق، والجزع في مواجهة المصائب والمحن، إلى حال التسليم، والرضا.. وهذا هو الإيمان في أرفع مقاماته، وأعلى منازله.
ثم قرأ بصوته الخاشع قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 11]، ثم قال (1): وبعد أن أوشكت أم موسى أن تطرق باب فرعون، وتستصرخ هناك، ربط الله على قلبها، فرجعت إلى صوابها، وأخذت تنظر إلى الأمور بعين الحكمة والروية، فطلبت إلى ابنتها أن تتحسس أخباره من بعيد، وأن تتسمع ما يتحدث به المتحدثون من حاشية فرعون من أمر هذا الوليد الذي التقطوه.. ما شأنه؟ وماذا حل به؟ وهل هو حي أم ميت؟.. وتسللت الأخت في خفة ولطف، تحوم حول بيت فرعون، ولا تلم به، وتلتقط الأخبار المتساقطة من أفواه القوم، ولا تستخبرهم عنها.. حتى لا يفتضح أمرها، وأمر الوليد معها.. وفي قوله تعالى: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ [القصص: 11]، ما يدل على أن تلك الأخت لم تبحث عن أخيها، بعينيها، ولم تتسمع أخباره بأذنيها، وإنما كانت
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 317)
القرآن.. والعزاء والشفاء (466)
كيانا من الحذر والحيطة، بحيث تقرأ الحركات والإشارات، وتتأول الرموز والألغاز؛ فالبصر هنا، بصر علم، أقرب ما يكون إلى الإلهام، كما قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ [طه: 95 ـ 96].. وفي كلمة: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ [القصص: 11] إشارة إلى الموقف الذي كانت تأخذه هذه الأخت من موقع الحدث.. إنها لم تكن تلقى الأمر لقاء مواجها، وإنما كانت تلقاه عرضا، كأنه من غير قصد.. وفي قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الزخرف: 66] تصفية هذا الموقف، المحاذر، المجانب، من أن يدخل عليه ما يدخل على موقف كثير من المحاذرين المجانيين من أخطاء، لا يلتفتون إليها، ولا يعملون حسابا لها، فتكون سببا في كشف أمرهم، وفضح سترهم..
ثم قرأ بصوته الخاشع قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ [القصص: 12]، ثم قال (1): وتتحرك الأحداث مرة أخرى إلى الوليد، وقد أصبح في آل فرعون، تلتمس له المراضع، ويعرض عليه واحدة واحدة، فلا يقبل امرأة منهن.. لقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن ألهم أمه أن ترضعه من ثديها، كما قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7]، وبهذا التدبير ألف الوليد ثدى أمه، وألف اللبن الذي رضعه من هذا الثدي.. فلما عرض عليه ثدى غير الذي رضع منه، رده، وأبى أن يطعم من لبنه.. وهذا أمر طبيعى، فكثير من الأطفال لا يتحولون عن الثدي الذي رضعوا منه الرضعات الأولى.. وهنا يبدو تأبى الوليد على المراضع، أمرا جاريا على المألوف.. وهنا أيضا تلتمس له المراضع، في صور وأشكال شتى.. إنه ابن فرعون.. وإن الدولة كلها في خدمته.. فيكثر لذلك البحث عن المرضع، التي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 318)
القرآن.. والعزاء والشفاء (467)
يستجيب لها ويقبل عليها، وتعمل أجهزة الدولة كلها لتحقيق هذا الأمر.. وعندئذ لا ترى أخت موسى بأسا من أن تعرض ما عندها من بضاعة لعلها تروق لأعين القوم، ولعلها تحقق لهم ما يريدون.. ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ [القصص: 12]، ولا يتردد القوم في قبول هذا العرض.. ويتم اللقاء بين موسى وأمه، ويعرض عليه ثديها، فيقبله.. وتصبح الأم في حاشية فرعون، مرضعا لهذا الوليد.
ثم التفت إلي، وقرأ قوله تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 13]، ثم قال (1): وتنتهى الأحداث بهذا إلى موقف من مواقف الحدث الكبير.. فيعود الطفل إلى أمه، ويتحقق ما وعدها الله سبحانه وتعالى به قوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: 7]، وبهذا تعلم أن وعد الله حق.. وكثير من الناس لا يعلمون هذا، ولا يقدرون الله حق قدره.
ثم قص علينا قصة يوسف عليه السلام، وكيف رده الله تعالى إلى والده معززا مكرما بعد تلك السنين الطوال، وفي أحسن الأحوال، وأخبرنا عن يقين يعقوب عليه السلام، وحسن صبره لفقده لولده إلى أن رده الله عليه..
وقرأ علينا قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام، وهو في عز البلاء بفقد ولده: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 86 ـ 87]، ثم قال (2): في الآيتين الكريمتين دعوة لرفع الهمة عن الخلق، والاكتفاء بالملك الحق، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 319)
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2/ 622)
القرآن.. والعزاء والشفاء (468)
ثم قال (1): لقد رد يعقوب عليه السلام على أبنائه، لما قالوا له: ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ [يوسف: 85]، بأن الأمر لا يعنيهم، وأنه لا يشكو إليهم أمره، لأنهم لا يفهمون مشاعره وآلامه أولا، ولا يستطيعون أن يقدموا له شيئا ثانيا، بل يشكو أمره إلى من يسمع شكواه ويملك أن يحل مشكلته، ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي﴾ [يوسف: 86] وهو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه، ﴿وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86] لأن معرفتي بالله، وما يفيضه على عباده من رحمته، وما يتسع له لطفه، يجعلني كبير الثقة بمصير يوسف، لأنه إذا ابتعد عن رعايتي له، فإن رعاية الله ولطفه يفوق كل ما أختزنه له في قلبي من حب ورحمة.. وإذا كنت أحزن، أو أعيش الهم، فلأن جانب الضعف في الإنسان يخلق لديه، من خلال التفكير بالتفاصيل، مشاعر سلبية تثير شجونه، وتدمر استقراره النفسي.. وهكذا بدأ الأمل يخضر في نفسه، وينمو مع روحانية الحديث الذي كان يعيشه في مناجاته لله، حتى كاد أن يلامس مصير يوسف المشرق، كما لو كان يراه، ولهذا طلب من أولاده، أن يعودوا إلى مصر من جديد ليبحثوا عنه، حيث تركوا أخاه، لأن في داخله إحساسا لا يعرف حقيقته، بأن يوسف قد التقى بأخيه، وأنه من الممكن أن يجدوه حيث يوجد أخوه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ [يوسف: 87]، ثم قال (2): أي اطلبوه بكل ما تستطيعون توسله من أساليب تتحرك فيها حواسكم السمعية والبصرية، فلعلكم تواجهون المفاجأة التي لا تخطر لكم على بال، ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ [يوسف: 87] وفرجه، لأن المؤمن يبقى واثقا بالله في كل أموره مهما ضاقت عليه
__________
(1) من وحي القرآن (12/ 256)
(2) من وحي القرآن (12/ 256)
القرآن.. والعزاء والشفاء (469)
الأحوال، ومهما تعقدت من حوله الظروف، ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87] لأن اليأس من الفرج لا يخلو من أحد أمرين، إما الشك بقدرة الله، وإما الشك بعلمه، لأن الذي يمنع من حل المشكلة هو العجز عنها، أو عدم معرفة أبعادها، وكلاهما كفر بالله.
ثم التفت إلي، وقال (1): اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكل من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا.
وعندما انفض الجمع، دعاني إليه، وقال: إن شئت أن يرد الله تعالى عليك ما ضاع منك، فاصبر مثل صبر أم موسى، ومثل صبر يعقوب.. ولا تيأس من روح الله.. وسيأتيك من الله ما لم تكن تحتسب.
وبعدما عدت إلى بيتي، بذلك الصبر الجميل.. وجدت العجب العجاب.. لقد وجدت أن كل من أضعتهم في انتظاري.. وكان ذلك بداية ولادة جديدة لي في رحاب الرحمة الإلهية.
قام رجل آخر من الحاضرين، وقال: قصتكما تشبه كثيرا قصتي.. والفرق بيني وبينكما أن قصتكما تشبه قصة زكريا ويعقوب وأم موسى عليهم السلام.. وقصتي تشبه قصة يونس عليه السلام، والأعجوبة التي حصلت له بإنجاء الله له من الغم والهم
__________
(1) مفاتيح الغيب (18/ 501)
القرآن.. والعزاء والشفاء (470)
العظيمين، حصلت لي بفضل الله وكرمه.
وهي تبدأ من الهموم والغموم الكثيرة التي أرسلها الله لتحيط بي لتخرجني من أسر نفسي الأمارة بالسوء، إلى عالم النفس المطمئة الساكنة الراضية بربها.. لقد كنت في البداية أنكرها، لكني الآن أحمد الله عليها، فقد كانت وسيلتي إلى ولادتي الجديدة، التي لم أكن لأحيا حياة حقيقية لو لم أخرج إليها.
لقد كانت تلك الهموم وسيلتي للقيا معلمي الكاظم، بعد أن سمعت بقدرته على شفاء الجراح، وبث العزاء.. لكني توهمت في البداية أنه لا يختلف عن أولئك المشعوذين التجار، وقد أخطأ ظني في ذلك، فقد رأيته زاهدا عابدا تقيا حكيما.. بل رأيت منه من الكرامات ما جعلني أوقن تماما بالمدد الإلهي لعباده الصالحين.
لقد كان أول ما سمعته منه قراءته لقوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87 ـ 88]، ثم قال (1): أي واذكر نبأ يونس عليه السلام حين بعثه الله إلى قومه، فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته، فأبوا عليه وتمادوا في كفرهم، فخرج من بين ظهرانيهم مغاضبا لهم، وأوعدهم بالعذاب، فلما تحققوا أنه كائن لا محالة، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء، ثم تضرعوا إلى الله وجأروا إليه، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98].. وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة، فلما وصلوا اللجة تكفأت بهم
__________
(1) تفسير المراغي (17/ 63)
القرآن.. والعزاء والشفاء (471)
وأشرفوا على الغرق، فاقترعوا على رجل منهم يلقونه في البحر يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا كما يرشد إلى ذلك قوله: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: 141]، ثم قام يونس عليه السلام وألقى بنفسه في البحر، فأرسل الله إليه حوتا يشق البحر فالتقمه.
سأله بعضنا حينها عن قوله تعالى: ﴿مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: 87]، فقال (1): في هذا إشارة إلى غضب يونس عليه السلام على قومه الكافرين، وكان مثل هذا الغضب في هذه الظروف طبيعيا تماما، إذ تحمل هذا النبي المشفق المشقة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضالين، إلا أنهم لم يلبوا دعوته الخيرة.. ومن جهة أخرى، فإن يونس عليه السلام لما كان يعلم أن العذاب الإلهي سينزل بهم سريعا، ترك تلك المدينة، ولم يكن ذلك معصية، ولكن كان الأولى لنبي عظيم كيونس عليه السلام ألا يتركها حتى آخر لحظة ـ اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي ـ ولذلك آخذه الله على هذه العجلة، وإعتبر عمله تركا للأولى، كما قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم: 48 ـ 50]
ثم سألناه عن قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]، فقال (2): إن ذلك يدل على أن ما أصاب يونس عليه السلام من البلاء والنجاة لم يكن حكما خاصا، بل هو حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات والمراتب.. ذلك أن كثيرا من الحوادث المؤلمة والابتلاءات الشديدة والمصائب هي نتيجة لذنوبنا ومعاصينا، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح الآدميين فمتى ما تنبه الإنسان إلى الأمور التي
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 232)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 232)
القرآن.. والعزاء والشفاء (472)
انتبه إليها يونس عليه السلام في مثل هذا الظرف، فإنه سينجو حتما..
وقد سألناه عن تلك الأمور التي انتبه لها يونس عليه السلام، لتتحقق له النجاة، فقال: هي ما عبر عنه بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]، وهي تعني (1): أنه لا ملجأ لأي هارب أو ضائع أو حائر إلا إليك، ولا ملاذ إلا أنت، فأنت القادر على كل شيء، والرحيم لكل مخلوق، والعليم بكل الخفايا والمهيمن على الأمر كله، والغافر لكل ذنب، والمستجيب لكل داع، والمغيث لكل ملهوف، والمفرج عن كل مهموم ومكروب.. وليس لي غيرك أسأله كشف ضري والنظر في أمري، فأنت ربي وسيدي ومولاي وملاذي في كل الأمور، ﴿سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: 87] إذ يختزن قلبي وعقلي ووجداني الإحساس بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر الخلق والإبداع.. فيتحول ذلك إلى تسبيح منفتح خاشع مبتهل إلى الله، ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] فقد ظلمت نفسي في تحركي، أو تقصيري في سبيل الدعوة، من غير قصد، ولا عمد، وها أنا ذا ـ يا رب ـ راجع إليك بكل قلبي وعقلي وحياتي، لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك، ولتكشف عني كل أجواء الحيرة والغم التي تغمرني بالآلام والمشاكل، فهل تستجيب لي؟ إنك أنت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك.
ثم حدثنا بما ورد في فضل ما قاله، وأهميته في الأحاديث الشريفة، ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوة ذي النون التي دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ لم يدع بها مسلمٌ في كربة، إلااستجاب الله له)(2).. وقوله: (هل أدلكم على اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى؟ الدعوة التي دعا بها يونس، حيث
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 259)
(2) الحاكم: 2/ 415، الترمذي: 5/ 529، النسائي: 6/ 168 2.
القرآن.. والعزاء والشفاء (473)
ناداه في الظلمات الثلاث: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]، فقال رجلٌ: يا رسول الله، هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تسمع قول الله عز وجل: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]؟ (1).
ومنها ما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا أخبركم بشي ء إذا نزل برجل منكم كربٌ أو بلاءٌ من بلاء الدنيا، دعا به فرج عنه؟ قيل له: بلى، قال: دعاء ذي النون: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87])(2)
ومنها ما حدث به عن الإمام الصادق، أنه قال: (عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173] فإنّي سمعت الله يقول بعقبها: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 174] وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] فإنّي سمعت الله يقول بعقبها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88] وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44] فإنّي سمعت الله يقول بعقبها: ﴿فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [غافر: 45] وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله: ﴿مَا شَاءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله﴾ [الكهف: 39] فإنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ
__________
(1) الحاكم: 1/ 685، تفسير الطبري: ج 10 الجزء 17 ص 82.
(2) النسائي: 6/ 168 1، الحاكم: 1/ 685.
القرآن.. والعزاء والشفاء (474)
جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: 39، 40] وعسى موجبة)(1)
ثم سألناه عن سر كون قول يونس عليه السلام: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] سببا لنجاته، ونجاة أمثاله ممن يرددونها، فقال: هذه الكلمات، وفي تلك الظروف التي مر بها يونس عليه السلام مدرسة كاملة في الإيمان والتزكية.. وأول ما فيها أن يونس عليه السلام في تلك اللحظات الصعبة تذكر ربه، ودعاه وحده.. ومن مد يده بالدعاء لله وحده، فقد مد يده إلى الفرج الإلهي، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: 213]، وقال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117]، وقال: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [القصص: 88]، وقال: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ [الرعد: 14]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: 68] وقال: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان: 77]
ثم سألناه عن سر قوله: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87]، فقال (2): في ذلك اعتراف بالتقصير، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما يوصف حاله، وإما بوصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالين كقول نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 47]، فهذا ليس صيغة طلب وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر، ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة.. ومثل ذلك
__________
(1) مشكاة الأنوار/119.
(2) دقائق التفسير (2/ 362)
القرآن.. والعزاء والشفاء (475)
قول آدم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]
ثم قال (1): ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة، فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن قال له: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)(2).. فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضى للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب.
ثم ذكر لنا أن كثيرا من الأدعية الواردة في القرآن الكريم يتضمن بعض ذلك، كقول موسى عليه السلام: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 155]، فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة، ومثل ذلك قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: 16]، ففيه وصف حال النفس والطلب، ومثل ذلك قوله: ﴿إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ
__________
(1) دقائق التفسير (2/ 363)
(2) البخاري (834) و(6326)، ومسلم (2705)، وابن ماجه (3835)، والترمذي (3531)
القرآن.. والعزاء والشفاء (476)
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، ففيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال.
وقد سأله بعضهم حينها عن سر دعاء يونس عليه السلام بصيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب، فقال (1): لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر، لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني، بخلاف كشف الكرب، فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده.
ثم حدثنا عن سر قول يونس عليه السلام: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: 87]، فقال (2): إن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، أي أنت يا رب مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب، بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي، كما قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: 118]، وقال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود: 101]، وقال: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76]، وقال حكاية عن آدم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23]، ومثل ذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعاء الاستفتاح: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت،
__________
(1) دقائق التفسير (2/ 363)
(2) دقائق التفسير (2/ 364)
القرآن.. والعزاء والشفاء (477)
أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)(1)، وفي حديث آخر أن سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعتمك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت)(2)، وقد ورد في فضلها أن (من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة)(3)
ثم قال (4): فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه، فإنه لايظلم الناس شيئا، فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه، وهو يحسن إليهم، فكل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل.. فقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾ [الأنبياء: 87] فيه إثبات انفراده بالإلهية، وهي تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد.. وقوله ﴿سُبْحَانَكَ﴾ [الأنبياء: 87] يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص.
ثم ذكر لنا الكثير من الأحاديث التي تدل على علاقة المعرفة بالله ودعائه بها في تحقيق المطالب المختلفة، ومنها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأسماء بنت عميس: (ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب؟ الله الله ربي لا أشرك به شيئا)(5).. وقال: (من قال: لا إله إلا الله قبل كل شي ء، ولا إله إلا الله بعد كل شي ء.. عوفي من الهم والحزن)(6).. وقال: (ما قال عبد: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، اكفني كل مهم من حيث شئت، ومن أين شئت، إلاأذهب الله تعالى همه)(7).. وقال: (دعوات المكروب: اللهم رحمتك
__________
(1) مسلم (2/ 185)
(2) النسائي في الكبرى (10298)، عمل اليوم والليلة (464) و(580)
(3) المعجم الكبير للطبراني (7/ 292)
(4) دقائق التفسير (2/ 364)
(5) أبو داود: 2/ 87، ابن ماجة: 2/ 1277.
(6) المعجم الكبير: 10/ 290 1.
(7) كنز العمال: 2/ 122 عن الخرائطي في مكارم الأخلاق.
القرآن.. والعزاء والشفاء (478)
أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)(1).. وقال: (ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي)، إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن (2).
ومنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حزبه أمر، قال: لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم.. ثم يدعو (3).. وروي أنه كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث (4).
وقبل انصرافي من مجلسه، دعاني، وطلب مني أن أكثر من قول ما قاله يونس عليه السلام، وأخبرني أن فضل الله العظيم سيتنزل علي مثل ما تنزل عليه، وقد التزمت بنصيحته، وسرعان ما رأيت من فضل الله تعالى ما لم يخطر لي على بال.
قام رجل آخر من الحاضرين، وقال: قصتكم تشبه كثيرا قصتي.. والفرق بيني وبينكم أن قصتكم تشبه قصة زكريا ويعقوب وأم موسى ويونس عليهم السلام.. وقصتي
__________
(1) أبو داود: 4/ 324، النسائي: 6/ 167 7، الأدب المفرد: ص 210.
(2) أحمد: 2/ 168، صحيح ابن حبان: 3/ 253، الحاكم: 1/ 690؛ الدعوات: ص 54، بحار الأنوار: 95/ 279.
(3) النسائي: 6/ 167 8، أحمد: 1/ 575، الدعاء للطبراني: ص 312.
(4) الترمذي: 5/ 539، الحاكم: 1/ 689.
القرآن.. والعزاء والشفاء (479)
تشبه قصة أيوب عليه السلام، والأعجوبة التي حصلت له بشفاء الله له من الأسقام الشديدة حصلت لي.
وهي تبدأ من علة شديدة أصبت بها، ومعها بعض أنواع البلاء التي نغصت علي حياتي، حينها قدر الله لي أن أرى معلمي الكاظم، وفي زيارته لبعض المستشفيات، وقد سمعته يقرأ على بعض المرضى قوله تعالى عن أيوب عليه السلام: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83 ـ 85]، ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى بعض الرعاية الإلهية التي كانت تحوط الأنبياء والصالحين، وفي حاجاتهم الخاصة والعامة، حتى في المفردات الصغيرة من الواقع، لتوحي من خلال ذلك، أن الله لا يترك عباده ورسله الذين أخلصوا له الإيمان والعمل، ولا يهمل أوضاعهم، بل هو يسمع دعاءهم ومناجاتهم وشكاواهم، ليستجيب لذلك كله، بطريقة سريعة تحمل الكثير من اللطف، والكثير من الحنان.
ثم التفت إلي بحنان، وقال (2): أيوب ذلك النبي الكريم الذي ابتلاه الله بأشد أنواع البلاء، فذهب ماله ومات أولاده، وابتلي بمرض شديد، مدة طويلة، من دون أن يتأفف أو يتضجر، أو يعترض على الله في حكمه، أو يتعقد من ذلك في حركة إيمانه، مما جعله مثلا يضرب به للصبر، عند ما يتحدث الناس عن الصبر، فيذكرون صبر أيوب، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستغاثة بالله، والابتهال إليه لأن ذلك ما يريده الله من عباده الصالحين الذين يستشعرون الإحساس بالحاجة المطلقة إليه، لا سيما في حال البلاء.
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 254)
(2) من وحي القرآن (15/ 254)
القرآن.. والعزاء والشفاء (480)
ثم قال (1): وهكذا رفع أيوب صوته بالدعاء إلى الله، بعد أن تمرد على كل نوازع الجزع في نفسه، وارتفع عن كل عوامل الإشفاق من حوله، كما قال تعالى: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: 83] فقد أكل المرض كل مظاهر العافية في جسدي، ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، وليس هناك من يرحمني غيرك، وأنت الذي خلقت عبادك، وأنعمت عليهم، وسخرت لهم الوجود كله برحمتك ولطفك، ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: 90] دعاءه الذي يتضمن الإخلاص والخشوع والانقطاع والانفتاح الإيماني على الاستعانة بالله دون غيره، ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ [الأنبياء: 84] فرجع إلى صحته وعافيته، ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: 84] وعاد إلى حياته العائلية المليئة بالعاطفة الغنية بالحنان حيث رزقه الله ذلك، ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الأنبياء: 84] فيما يتمثل فيه من مظاهر الرحمة التي تحركت بإرادة الله بطريقة غير عادية، في شبه معجزة، ليظهر عنايته ورعايته لعبده الذي أخلص له، ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 84] الذين أخلصوا لله العبادة ليتذكروا الحقيقة الإلهية التي تتحرك في حياة الناس، لتوحي إليهم بأن البلاء الذي ينزل بهم ليس عقوبة لهم دائما، بل قد يكون امتحانا لإيمانهم واختبارا لصبرهم، وإظهارا للآخرين بأن المؤمن لا يسقط أمام البلاء، ولا يتراجع عن مواقفه.. ثم يلطف الله به ويرحمه ويكشف ما به من ضر ويحسن إليه لأنه لا يضيع لديه أجر من أحسن إليه عملا.. وقد أراد الله لهذه الحقيقة المزدوجة في البلاء الذي يرتكز على الصبر، وفي كشف الضر الذي ينطلق من الرحمة، في هذا النموذج الإيماني الرائع الذي يريد للمؤمنين أن يتمثلوه في كل زمان ومكان، ليعرفوا بأن المؤمن لا يجزع من البلاء، مهما كان شديدا وقاسيا، وبأن الله لا يخذل عبده، بل يرحمه ويلطف به ويحول عسره إلى يسر
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 255)
القرآن.. والعزاء والشفاء (481)
في نهاية المطاف.
ثم أخبرنا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، والدعوات التي وردت عنهم في ذلك، وكلها مما حفظته، ودعوت الله به.. وقد كان لها تأثير كبير، لا في معالجة أدواء جسدي فقط، بل في معالجة أدواء روحي ونفسي.. والتي كانت تحمل من الآلام أضعاف ما كان يحمله جسدي.
ومن تلك الأدعية ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أصابك مرض، فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، وسبحان رب العباد، ورب البلاد، والحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه على كل حال، الله أكبر كبيرا، إجلالا لله وكبريائه، وقدرته وعظمته بكل حال، اللهم إن كنت كتبت علي فيه الموت فاغفر لي، وأخرجني من ذنوبي، وأسكني جنة عدن)(1)
وقال: (إذا اشتكى أحدكم، فليضع يده على ذلك الوجع، ثم ليقل: بسم الله وبالله، أعوذ بعزة الله وقدرته، من شر وجعي هذا)(2)
وقال: (تدعو للمريض فتقول: اللهم اشفه بشفائك، وداوه بدوائك، وعافه من بلائك)(3)
وحدثنا أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبطأ عنه، ثم أتاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أبطأ بك عنا؟ فقال: السقم والفقر، فقال له: أفلا أعلمك دعاء يذهب الله عنك بالسقم والفقر؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: قل: (لا حول ولا قوة إلابالله العلي العظيم، توكلت
__________
(1) المرض والكفارات لابن أبي الدنيا: ص 120.
(2) المعجم الصغير: 1/ 181، الدعاء للطبراني: ص 343، الترمذي: 5/ 574.
(3) الدعوات: ص 228.
القرآن.. والعزاء والشفاء (482)
على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريكٌ في الملك، ولم يكن له وليٌ من الذل وكبره تكبيرا).. فما لبث أن عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، قد أذهب الله عني السقم والفقر (1).
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على رجل من الأنصار مريض يعوده، فقال: يا رسول الله، ادع الله لي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قل: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم، وأسأل الله الكبير).. فقالها ثلاث مرات، فقام كأنما نشط من عقال (2).
وحدثنا عن الإمام علي أنه كان جالسا، فدخل عليه رجلٌ متغير اللون، فقال: يا أمير المؤمنين، إني رجلٌ مسقامٌ كثير الأوجاع، فعلمني دعاء أستعين به على ذلك، فقال: اعلمك دعاء علمه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض الحسن والحسين، وهو هذا الدعاء: (إلهي كلما أنعمت علي بنعمة قل لك عندها شكري، وكلما ابتليتني ببلية قل لك عندها صبري، فيا من قل شكري عند نعمه فلم يحرمني، ويا من قل صبري عند بلائه فلم يخذلني، ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني، ويا من رآني على الخطايا فلم يعاقبني عليها، صل على محمد وآل محمد واغفر لي ذنبي، واشفني من مرضي، إنك على كل شي ء قديرٌ)(3)
وحدثنا عن سلمان، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عليلٌ، فقال: (يا سلمان، شفى الله سقمك، وغفر ذنبك، وعافاك في بدنك وجسمك إلى مدة أجلك)(4)
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أتى مريضا أو أتي به، قال: (أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلاشفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)(5)
__________
(1) الكافي: 2/ 551، الأمالي للمفيد: ص 229.
(2) مسند زيد: ص 181.
(3) مهج الدعوات: ص 8، المصباح للكفعمي: ص 201.
(4) الحاكم: 1/ 734، المرض والكفارات لابن أبي الدنيا: ص 41.
(5) البخاري: 5/ 2148، مسلم: 4/ 1722، النسائي: 4/ 358؛ الأمالي للطوسي: ص 638.
القرآن.. والعزاء والشفاء (483)
وحدثنا عن بعضهم أنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه من الوجع ما لا يعلم شدته إلا الله، ثم دخلت عليه بالعشي، فقلت: يا رسول الله، إني دخلت عليك بالغداة وبك من الوجع ما لا يعلمه إلا الله، ثم دخلت عليك بالعشي وقد برأك، قال: إن جبريل رقاني برقية، أفلا أعلمكها يا عبادة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من حسد كل حاسد وعين، الله يشفيك (1).
وهكذا ذكر لنا الكثير من أدعية أئمة الهدى، وشرح لنا معانيها العظيمة، ومنها ما رواه لنا عن الإمام السجاد أنه كان يقول في دعائه إذا مرض أو نزل به كربٌ أو بليةٌ: (اللهم لك الحمد على ما لم أزل أتصرف فيه من سلامة بدني، ولك الحمد على ما أحدثت بي من علة في جسدي، فما أدري يا إلهي أي الحالين أحق بالشكر لك؟ وأي الوقتين أولى بالحمد لك؟ أوقت الصحة التي هنأتني فيها طيبات رزقك، ونشطتني بها لابتغاء مرضاتك وفضلك، وقويتني معها على ما وفقتني له من طاعتك؟ أم وقت العلة التي محصتني بها، والنعم التي أتحفتني بها تخفيفا لما ثقل به علي ظهري من الخطيئات، وتطهيرا لما انغمست فيه من السيئات، وتنبيها لتناول التوبة، وتذكيرا لمحو الحوبة بقديم النعمة؟ وفي خلال ذلك ما كتب لي الكاتبان من زكي الأعمال، ما لا قلبٌ فكر فيه، ولا لسانٌ نطق به، ولا جارحةٌ تكلفته، بل إفضالا منك علي، وإحسانا من صنيعك إلي.. اللهم فصل على محمد وآله، وحبب إلي ما رضيت لي، ويسر لي ما أحللت بي، وطهرني من دنس ما أسلفت، وامح عني شر ما قدمت، وأوجدني حلاوة العافية، وأذقني برد السلامة، واجعل مخرجي عن علتي إلى عفوك، ومتحولي عن صرعتي إلى تجاوزك، وخلاصي من كربي إلى روحك، وسلامتي من
__________
(1) المرض والكفارات لابن أبي الدنيا: ص 59، النسائي: 6/ 249 2، أحمد: 8/ 412 3.
القرآن.. والعزاء والشفاء (484)
هذه الشدة إلى فرجك، إنك المتفضل بالإحسان، المتطول بالامتنان، الوهاب الكريم، ذو الجلال والإكرام)(1)
وعندما أراد الانصراف، جاء إلي، وسلم علي، ثم وضع يده على رأسي، وراح يدعو ببكاء وخشوع، وقد شعرت حينها بقشعريرة الإيمان تهز بدني.. وقد كانت تلك القشعريرة أفضل من كل الأدوية التي استعملتها.. والحمد لله، منذ ذلك اليوم وأنا أنعم بالصحة والعافية التي لم أنعم بمثلها في قوتي وشبابي.
قام رجل آخر من الحاضرين، وقال: قصتكم تشبه كثيرا قصتي.. والفرق بيني وبينكم أن قصتكم تشبه قصة زكريا ويعقوب وأم موسى ويونس وأيوب عليهم السلام.. وقصتي تشبه قصة موسى عليه السلام، والأعاجيب التي حصلت على يديه من إغاثة الناس بالقطر، وحمايتهم من الجفاف الذي كاد يقضي عليهم.
وهي تبدأ من ذلك اليأس الذي أحاط بي وبأهل قريتي بعد أن أصاب الجفاف أرضنا، والتي كان كل عيشنا منها، ومما تدره علينا من خيرات وبركات..
وحينها سمعت بمعلمنا الكاظم، فرحت إليه مع بعض أهل قريتي، فسمعته أمام جمع من الناس يقرأ عليهم قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]، وقوله: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ
__________
(1) الصحيفة السجادية: ص 65.
القرآن.. والعزاء والشفاء (485)
عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 160]
ثم قال (1): في هاتين الآيتين الكريمتين يذكر الله تعالى استسقاء موسى عليه السلام لقومه في مسيرة التيه، حين أرادوا منه أن يسقيهم الماء في الوقت الذي لم تكن هناك أية بوادر توحي بوجود الماء في المناطق المحيطة بهم، لأنهم شاهدوا في تجربتهم معه أنه يملك الموقع المميز عند الله بالدرجة التي يستطيع أن يطلب فيها من ربه الحصول على ما يريده بطريقة غيبية على أساس المعجزة، كما حدث في عبورهم البحر ونحوه، وهكذا أرادوا له أن يحقق لهم ما يريدونه بمعجزة.
ثم التفت إلينا، وقال (2): واستجاب الله نداءه ودعاءه، ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ [البقرة: 60] أي حجر كان، فليس المراد به حجرا معينا، وهذا ما يؤكد المعجزة، باعتبار أن القضية ليست تحديد مكان معين يوجد فيه الماء دون مكان آخر، بل هي خلق الماء من العدم؛ ﴿فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: 60] لكل جماعة منهم عين معينة في عملية توزيع عادلة تمنع النزاع والاختلاف، وكانوا ـ كما يقال ـ اثني عشر سبطا وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر.. ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: 60] من خلال التحديد الذي حدده لهم موسى عليه السلام في قضية توزيع الحصص فيما بينهم.. ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 60] مما رزقكم الله من غير جهد وعناء، واشكروا الله على ذلك في إصلاح أمركم في الإيمان والقول والفعل، لتوظفوا نعم الله الكثيرة في هذا وفي غيره فيما يرضاه الله من إصلاح البلاد والعباد، ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]، لأن الله
__________
(1) من وحي القرآن (2/ 59)
(2) من وحي القرآن (2/ 59)
القرآن.. والعزاء والشفاء (486)
لا يريد للإنسان أن يحرك طاقاته في الفساد والإفساد في كل مجالات الحياة.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ﴾ [الأعراف: 160]، وقال (1): أي وسخرنا لهم الغمام يلقى عليهم ظله فيقيهم لفح الشمس من حيث لا يحرمون فائدة نورها وحرها المعتدل، ولولا السحاب في التيه لأحرقتهم حرارتها إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به.. ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [الأعراف: 160]، فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم ويكفى الألوف من الناس، وتقوم السمانى مقام اللحوم والطيور الأخرى.. ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: 160]، أي وأنزلنا عليهم ما ذكر قائلين لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم، وفي ذلك تنبيه وتذكير بما كان يجب عليهم من شكر هذه النعم.. ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: 160] أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم، بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار، وقد كان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن.
ثم حدثنا بأن هذا ليس خاصا بموسى عليه السلام، بل هو عام في كل الأنبياء والصالحين، وفي كل الأزمنة والأماكن، وحكى لنا في ذلك الأحاديث والحكايات الكثيرة، ومنها ما رواه لنا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: محل الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، ويبس الشجر، وهلكت المواشي، وأسنت الناس، فاستسق لنا ربك، فقال: إذا كان يوم كذا وكذا فاخرجوا وأخرجوا معكم بصدقات، فلما كان ذلك اليوم، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس، يمشي ويمشون، عليهم السكينة والوقار، حتى أتوا المصلى، فتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة
__________
(1) تفسير المراغي (9/ 89)
القرآن.. والعزاء والشفاء (487)
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في العيدين والاستسقاء، في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ [الغاشية: 1]، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه، ثم جثى على ركبتيه، ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: (اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثا مغيثا رحبا ربيعا، وجدا غدقا، طبقا مغدقا، هنيئا مريئا، مريعا مرتعا، وابلا شاملا، مسبلا مجللا، دائما دررا، نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، غيثا اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد، اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا، فأحي به بلدة ميتة، واسقه مما خلقت لنا أنعاما وأناسي كثيرا)(1)
وحدثنا أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي وانقطعت السبل، فادع الله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمطروا من جمعة إلى جمعة، فجاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم على رؤوس الجبال والآكام، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)، فانجابت عن المدينة انجياب الثوب (2).
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما انصرف من خيبر راجعا إلى المدينة، أشرف على واد عظيم قد امتلأ بالماء، فقاسوا عمقه برمح فلم يبلغ قعره، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (اللهم أعطنا اليوم آية من آيات أنبيائك ورسلك)، ثم ضرب الماء بقضيبه واستوى على راحلته ثم قال: سيروا خلفي على اسم الله، فمضت راحلته على وجه الماء واتبعه الناس على رواحلهم
__________
(1) المعجم الأوسط: 7/ 320، الدعاء للطبراني: ص 596؛ بحار الأنوار: 91/ 326.
(2) البخاري: 1/ 345، النسائي: 1/ 555، صحيح ابن حبان: 7/ 104.
القرآن.. والعزاء والشفاء (488)
ودوابهم، فلم تترطب أخفافها ولا حوافرها (1).
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استسقى قال: (اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلادك الميتة).. يرددها ثلاث مرات (2).
وحدثنا عن الإمام علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا بهذا الدعاء في الاستسقاء: (اللهم انشر علينا رحمتك بالغيث العميق والسحاب الفتيق، ومن على عبادك ببلوغ القطر، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة سقيا منك نافعة دائمة غزره، واسعة دره، وابلا سريعا وحيا مريعا، تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات، وتخرج به ما هو آت، وتوسع لنا في الأقوات، سحابا متراكما هنيئا مريئا طبقا دفقا، غير مضر ودقه، ولا خلب برقه)(3)
ومثل ذلك قوله في الدعاء في الاستسقاء: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا سريعا ممرعا عريضا واسعا غزيرا، ترد به النهيض، وتجبر به المريض)(4)
ومثل ذلك قوله في الدعاء في الاستسقاء: (اللهم اسقنا سقيا تسيل منه الرحاب، وتملأ به الجباب، وتفجر به الأنهار، وتنبت به الأشجار، وترخص به الأسعار في جميع الأمصار، وتنعش به البهائم والخلق، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، وتزيدنا به قوة إلى قوتنا، اللهم لا تجعل ظله سموما، ولا تجعل برده علينا حسوما، ولا تجعل صعقه علينا رجوما، ولا تجعل ماءه بيننا أجاجا، اللهم ارزقنا من بركات السماوات والأرض (5).
ومثل ذلك قوله في دعائه للاستسقاء: (اللهم معتق الرقاب، ومنشئ السحاب، ومنزل القطر من السماء إلى الأرض بعد موتها، فالق الحب والنوى، ومخرج النبات، وجامع
__________
(1) الخرائج والجرائح: 1/ 161.
(2) من لا يحضره الفقيه: 1/ 527، المصباح للكفعمي: ص 548؛ أبو داود: 1/ 305، السنن الكبرى: 3/ 496.
(3) النوادر للراوندي: ص 162، الجعفريات: ص 49.
(4) النوادر للراوندي: ص 162، الجعفريات: ص 49.
(5) النوادر للراوندي: ص 162، الجعفريات: ص 49.
القرآن.. والعزاء والشفاء (489)
الشتات، اسقنا غيثا مغيثا، غدقا مغدودقا، هنيئا مريئا تنبت به الزرع، وتدر به الضرع، وتحيي به مما خلقت أنعاما وأناسي كثيرا، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلادك الميتة)(1)
وعندما ذكر لنا هذه الأحاديث وغيرها، شعرنا كثيرا بالأمل والطمأنينة في فرج الله ولطفه، وحينها طلبنا منه أن يسير إلى أرضنا، ويدعو الله لنا، وقد استجاب دعوتنا.. وسار معنا إلى بلادنا، ومكث عندنا أسبوعا، استطاع أن يغير فيه أحوالنا تماما، حيث امتلأت قريتنا بالإيمان والتقوى.. وقبل انصرافه عنا، صلى بنا صلاة الاستسقاء، ودعا الله بتلك الأدعية، وما انتهى من دعائه، حتى نزل علينا من الخير ما لم نر مثله من قبل.. وقد كانت تلك السنة بفضل الله تعالى هي العام الذي ولدت فيه قريتنا، بل صرنا لا نؤرخ إلا بها.
قام رجل آخر من الحاضرين، وقال: قصتكم تشبه كثيرا قصتي.. والفرق بيني وبينكم أن قصتكم تشبه قصة زكريا ويعقوب وأم موسى ويونس وأيوب وموسى عليهم السلام.. وقصتي تشبه دعاء لإبراهيم عليه السلام، ولغيره من الأنبياء والصالحين، والذي دعوا الله تعالى بالهداية والصلاح والتقوى.. فقد كانت تلك أهم الحاجات، وأغلاها، وأغناها.
وهي تبدأ من ذلك الضعف الذي كنت أعانيه أمام نفسي الأمارة بالسوء، وشيطاني المتربص بي، وقد حاولت أن أتخلص منهما بكل الطرق لكني لم أستطع.. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي التقيت فيه معلمي الكاظم، وعلمني أن أستغيث بربي في إصلاح نفسي، مثلما
__________
(1) البلد الأمين: ص 166، المصباح للكفعمي: ص 548.
القرآن.. والعزاء والشفاء (490)
أستغيث به في كل حاجاتي.. والحمد لله كان ذلك بركة كبيرة علي، لأني وجدت السند العظيم الذي أحتمي به من كل الشرور.
وقد كان أول مجلس تعلمت منه هذه المعاني، مجلسا كان يقص فيه على الحاضرين قصة إبراهيم عليه السلام إلى أن بلغ إلى دعائه الطويل الوارد في سورة إبراهيم، حيث قال بعد قراءته له (1): في أجواء الإيمان، مع النداء الإلهي الذي يدعو فيه عباده للعودة إليه والالتزام بأوامره ونواهيه على الخط المستقيم، الذي يمثله خط الرسالات الذي يبدأ من الله، وينتهي اليه.. في هذه الأجواء النابضة بالروح الخاشع أمام الله، والمتحرك في سبيله، نلتقي بإبراهيم النبي الذي انفتح على الله بكل روحه وعقله وحياته، في موقع المشاعر الذاتية، وفي ملتقى المسؤوليات الكبيرة في الحياة.. إنه الإنسان النموذج، الذي يرجع إلى الله في كل صغيرة وكبيرة، ويبتهل إليه لمواجهة صعوبات الحياة، ومشاكل العمل، واهتزاز الخطى في الطريق، وهو لا يحمل هما للذات، بل كل همه الرسالة.. ولا يتعقد من سيطرة الهموم المتنوعة عليه، بل ينفتح على الله في همومه، ليخفف منها ويعود حرا طليقا بعيدا عن كل الأغلال النفسية التي تقيد حرية انطلاق الروح في رحاب الله.. إنها قصة السائرين مع الرسالة، فلا مشكلة لهم مع الناس إلا من خلال حركة الرسالة في الحياة، وهذا ما تمثله قصة إبراهيم عليه السلام على أكثر من صعيد.
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35]، ثم قال (2): لقد قال إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء الرقيق بعد أن وضع الحجر الأساس لبناء هذا البلد، وهو مكة، وأقام فيه البيت الحرام، ليكون المنطلق للمجتمع الجديد
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 115)
(2) من وحي القرآن (13/ 116)
القرآن.. والعزاء والشفاء (491)
الذي يلتقي به من قاعدة الإيمان بالله، وتوحيد العقيدة والعبادة له.. ولم يفكر في البداية إلا في الطابع الروحي الذي يريد أن يصبغ هذا البلد، ويميزه عن بقية البلدان، فقد أراده أن يكون بلد سلام يشعر فيه الناس، مع كل خلافاتهم ونزاعاتهم، بالأمان بين يدي الله، فلا يعتدي إنسان على آخر، بل يعيش تجاهه أحاسيس السلام الروحي القادم من الله، من خلال الممارسة بإشاعة جو السلام وتشريع تحريم القتال فيه.. وإذا كان السلام هو طابع هذا البلد الذي أراده إبراهيم له، فلا بد لهذا السلام من أن يرتكز على قاعدة في الروح وفي الفكر، وأي قاعدة أعظم تأثيرا في النفس، وأكثر قوة على الثبات، من توحيد الله ورفض عبادة غيره، لأنها القاعدة التي تخطط للإنسان المنهج الذي تنطلق منه كل مشاريعه العامة والخاصة، في علاقاته بالحياة وبالآخرين، حيث يتأكد شعوره بالتقوى في كل شيء، في أجواء العقيدة الرافضة لشرك الفكر والانتماء، وفي أجواء العمل الرافض لشرك العبادة.
سكت قليلا، ثم قال (1): وهذا ما عبر عنه إبراهيم عليه السلام ـ فيما حكاه الله عنه ـ بقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]، حيث تمثل عبادة الأصنام استجابة لتسويلات الشيطان وما يثيره في مكامن الذات ومشاعرها الحميمة، من دافع للانسجام مع الجو العام الذي يسيطر عليه الشرك، بطريقة تجعل الأجواء الخارجية البعيدة عن الحق مسيطرة على الآفاق الداخلية للذات، فتنحرف عن الخط المستقيم، طلبا لرضى أو تأييد هذا الفريق أو ذاك، وهذا الشخص أو ذاك، لأنهم يملكون السلطة والموقع الاجتماعي المتقدم الذي تضعف مقدرة الذات على الرفض أمامه إلا إذا توفر لها تأييد الله ورعايته له، وهو أمر يتحقق بالابتهال إليه أن يمنح الإنسان القوة في الموقف الرافض الحاسم، كما يمنح بنيه في
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 117)
القرآن.. والعزاء والشفاء (492)
الحاضر والمستقبل مثل هذه القوة في مواجهة كل شرك في العقيدة أو في العبادة، من دون فرق بين الأصنام البشرية أو الحجرية أو الخشبية، أو غير ذلك مما اعتاد الناس على عبادته والارتباط به على كل مستوى من مستويات العلاقة النفسية والعملية.. ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 36] ممن كانوا لا يملكون الوعي المنفتح على حقائق الحياة، ولا يدققون في الأفكار المطروحة عليهم، فلا يلتفتون إلى الخرافة وهي تتحرك في هذه الفكرة أو تلك، تضخيما لبعض الأشخاص أو الظواهر أو الأشياء، وغير ذلك من أساليب التضليل الفكري والروحي والشعوري، الذي يخضع الإنسان لمؤثرات داخلية أو خارجية تملك عليه كيانه وتتوه به.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ [إبراهيم: 36]، ثم قال (1): أي من هؤلاء المؤمنين الواعين الذين يدرسون الوقائع من موقع خصائصها الحقيقية التي تكشف أن الله هو خالق كل شيء، وأن كل من عداه في الكون مخلوق له، وأن بين حقيقة الخالق والمخلوق فرقا شاسعا لا مجال معه لمنح المخلوق صفة الخالق، ولا النزول بالخالق إلى مستوى المخلوق، وأن الضعف أمام مثل هذه الأضاليل لا يبرر الانحراف، ولا يمثل حجة أمام الله، بل لا بد للإنسان من أن يأخذ بأسباب القوة المتوفرة بكثرة لاكتشاف الحقيقة، واتباع دعوة الأنبياء في توحيد الله في كل شيء، والاندماج الروحي بهم، من خلال الالتزام الكامل بدعوتهم.. ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم: 36]، لأن المسألة لا تتعلق بالجانب الذاتي ليعود الأمر إلي كشخص، بل تتعلق بالجانب الرسالي المتصل بالله، وبذلك فإن المسألة تعود إلى الله، فهو الذي يملك عقابهم على معصيتهم له وابتعادهم عن خط طاعته، وهو
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 118)
القرآن.. والعزاء والشفاء (493)
الذي يملك المغفرة والرحمة لهم، إما بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ليملكوا الرحمة من خلال أسبابها، وإما بالتفضل عليهم بها تبعا لمقتضيات الحكمة.. وإذا كان الله قد ذكر في القرآن الكريم أنه لا يغفر لمن يشرك به، فإن ذلك لا يعني استحالة ذلك منه، كما لا يعني أن طلب إبراهيم عليه السلام ذلك منه يمثل انحرافا، لأنه خاطب الله بإرجاع الأمر إليه، من موقع القلب المفتوح المتسامح الذي تنفتح فيه الروح النبوية على الحياة كلها وعلى الآخرين بكل رحابة.
سكت قليلا، ثم قال (1): وإذا كان إبراهيم عليه السلام قد بدأ إقامة البلد الجديد على أساس البيت الحرام، ليكون قاعدة روحية لعبادة الله، للطائفين والركع السجود، فقد فكر أن يستعين بالله في تحويل قلوب الناس إليه، وإلى هذه الأسرة الصغيرة التي هي جزء من أسرته، لأن المسألة تحتاج إلى الرعاية الإلهية غير العادية، في مثل ظروف هذه الأرض الصعبة، حيث لا زرع فيها ولا كلأ يغري بالمجيء إليها والسكن فيها، ولذلك قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: 37]، لا من أجل الحصول على مكاسب دنيوية مادية أو معنوية، لأن الأرض لا توفر الفرصة لذلك، ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 37] ليعمروا البيت الحرام بالعبادة، وليعلموا الناس مناسكهم، فيألف الناس من خلالهم الحج إلى هذا البيت استجابة لنداء إبراهيم الصادر من الله إليه.. وهكذا كان ترك النبي إبراهيم عليه السلام أهله هناك دون أية رعاية مادية مباشرة، ليكونوا الأسرة الأولى التي تمثل قاعدة الحج للبيت الحرام، وكان ذهابه إلى أرض أخرى من أجل إكمال رسالته الشاملة لكل الناس تضحية رسالية من قبله.. ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 119)
القرآن.. والعزاء والشفاء (494)
إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: 37] وتنجذب بعاطفتها الروحية إلى هذه الأرض، لتكون قاعدة تجارية وثقافية، بالإضافة إلى كونها قاعدة روحية تدفع الناس للمجيء إليها طلبا للرزق، ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [إبراهيم: 37] التي تحصل من خلال توارد الناس وتكاثر الوفود، ليطمئنوا إلى رعاية الله لهم، جزاء لإخلاصهم وطاعتهم، وليعرفوا موقع نعمة الله عليهم، ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]، فيزدادوا عبادة لله وإخلاصا له، من موقع الشكر العملي المتجسد في حركة الحياة المؤمنة المخلصة.
ثم قرأ قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ [إبراهيم: 38]، ثم قال (1): أي تعلم ما فينا من نوايا وأفكار وتطلعات وحاجات تختفي في زوايا قلوبنا ومشاعرنا أو تظهر في كلماتنا وأفعالنا، فلا نحتاج إلى الكلام الكثير معك من أجل أن نظهر لك ما نريد أو نفسر لك ما نخفي، لأنك العالم بكل شيء.. وإذا كنا ندعوك ونبتهل إليك، ونزيد في الإلحاح بطلباتنا، عليك، فلأننا نعرف أنك تحب منا ذلك لما يمثله من معنى العبادة والخشوع والخضوع، ولما يوحيه إلينا من حقيقة العبودية في فقرها إلى المعبود، وحاجتها المطلقة إليه، بمقدار غناه المطلق عنها، فليس عندنا ما نخفيه عنك لأنه ليس هناك في أية زاوية من زوايا الوجود ما يخفى عليك، ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 38]، فكيف تخفى عليه حاجاتنا الخفية والظاهرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم قرأ قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [إبراهيم: 39]، ثم قال (2): بعد أن انقطع الأمل أو كاد، فاستجاب
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 120)
(2) من وحي القرآن (13/ 120)
القرآن.. والعزاء والشفاء (495)
لدعائي، ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 39] لعباده الذين يجد في قلوبهم الإخلاص له وفي حياتهم الحاجة إليه، في أجواء الاعتماد الكلي عليه روحيا.. ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [إبراهيم: 40] بما تمثله الصلاة من إخلاص عميق لله مصدره الإحساس الواعي بالعبودية له، والانفعال الإيماني، فكرا وشعورا، بالنداء الإلهي الذي يدعوه للسير على الخط المستقيم الذي حدده الله في كتبه وعبر رسله، إنها اللهفة الحارة الخاشعة الحميمة التي تنساب بكل خشوع المؤمن وخضوعه بين يدي الله، ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40] لأن ذلك هو المظهر الحي لرضاك، وللإحساس الروحي، بأنك تقبل عبدك في ساحة رحمتك ولطفك.
ثم ذكر كيف ختم إبراهيم عليه السلام دعاءه بقوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41]، فقال (1): وفي هذا الدعاء ما يعكس انفتاح روحية الإنسان المسلم على الناس كلهم، فهو لا يعيش في زاوية ضيقة، تحددها حاجاته ومصالحه الذاتية، بل يمتد إلى الآخرين، ليطلب من الله الرحمة والمغفرة لهم في الدار الآخرة، ويتطلع إلى والديه من موقع عرفان الجميل.
وعندما طلبنا منه أن يعلمنا من الأدعية ما يرتبط بهذا، ذكر لنا الكثير من الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة الهدى من بعده.. ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا خرج من بيته قال: (باسم الله، رب أعوذ بك من أن أزل، أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)(2)
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم إني أسألك علما نافعا، وأعوذ بك من علم لا ينفع)(3).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، وقلب لا يخشع،
__________
(1) من وحي القرآن (13/ 121)
(2) النسائي: 8/ 268، ابن ماجة: 2/ 1278.
(3) النسائي: 4/ 444، ابن ماجة: 2/ 1263.
القرآن.. والعزاء والشفاء (496)
وقول لا يسمع)(1).. وقوله: (أعوذ بك من ضراء مضرة، وفتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)(2).. وقوله: (اللهم ارزقني عينين هطالتين يبكيان بذروف الدموع، ويشفيان من خشيتك، قبل أن تكون الدموع دما، والأضراس جمرا)(3).. وقوله: (أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الممات، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقا إلى لقائك)(4).. وقوله: (اللهم إنك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلابك، اللهم فأعطنا منها ما يرضيك عنا)(5).. وقوله: (اللهم رضني بقضائك، وصبرني على بلائك، وبارك لي في أقدارك، حتى لا أحب تعجيل شي ء أخرته، ولا أحب تأخير شي ء عجلته)(6)
ومثل ذلك قوله في الاستعاذة: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء)(7).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق)(8).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تمنع إجابتك، اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تمنع رزقك، اللهم إني أعوذ بك من الذنوب التي تحل النقم)(9).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملته نفسي)(10).. وقوله يوصي بعض أصحابه: (قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي)(11).. وقوله: (اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)(12).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها،
__________
(1) أحمد: 4/ 507 5، صحيح ابن حبان: 1/ 284.
(2) النسائي: 3/ 55، أحمد: 6/ 366.
(3) الزهد لابن حنبل: ص 15، الزهد لابن المبارك: ص 165.
(4) أحمد: 8/ 156 4، مسند الشاميين: 2/ 352.
(5) تاريخ أصبهان: 2/ 90، تاريخ دمشق: 36/ 321.
(6) الجعفريات: ص 220.
(7) الترمذي: 5/ 575، صحيح ابن حبان: 3/ 240.
(8) أبو داود: 2/ 91، النسائي: 8/ 264.
(9) الدعاء للطبراني: ص 410.
(10) أحمد: 9/ 272 8.
(11) الترمذي: 5/ 520، التاريخ الكبير: 3/ 1.
(12) مسلم: 1/ 352، أبو داود: 1/ 232.
القرآن.. والعزاء والشفاء (497)
اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)(1).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من كل عمل يخزيني، وأعوذ بك من كل صاحب يرديني، وأعوذ بك من كل أمل يلهيني، وأعوذ بك من كل فقر ينسيني، وأعوذ بك من كل غنى يطغيني)(2).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملته نفسي)(3)
ومثل ذلك ما رواه لنا عن الإمام علي وأنه كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك أن أعادي لك وليا، أو أوالي لك عدوا، أو أرضى لك سخطا أبدا، اللهم من صليت عليه فصلاتنا عليه، ومن لعنته فلعنتنا عليه، اللهم من كان في موته فرحٌ لنا ولجميع المسلمين فأرحنا منه، وأبدل لنا به من هو خيرٌ لنا منه، حتى ترينا من علم الإجابة ما نتعرفه في أدياننا ومعايشنا يا أرحم الراحمين)(4).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك من جور كل جائر، وبغي كل باغ، وحسد كل حاسد، بك أصول على الأعداء، وبك أرجو ولاية الأحباء)(5).. وقوله: (اللهم إني أسألك خير الخير؛ رضوانك والجنة، وأعوذ منك من شر الشر؛ سخطك والنار)(6).. وقوله: (اللهم لا تجعل الدنيا لي سجنا، ولا فراقها علي حزنا؛ أعوذ بك من دنيا تحرمني الآخرة، ومن أمل يحرمني العمل، ومن حياة تحرمني خير الممات)(7).. وقوله: (اللهم إني أعوذ بك أن أقول حقا ليس فيه رضاك، ألتمس به أحدا سواك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشي ء يشينني عندك، وأعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك، وأعوذ بك أن يكون أحدٌ من خلقك أسعد بما علمتني مني)(8)
ومثل ذلك ما رواه لنا عن الإمام السجاد وأنه كان يقول في دعائه: (اللهم أعذني فيه
__________
(1) مسلم: 4/ 2088، النسائي: 8/ 260، المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 17.
(2) عمل اليوم والليلة لابن السني: ص 47، الدعاء للطبراني: ص 209.
(3) أحمد: 9/ 272 8.
(4) الأمالي للمفيد: ص 166، المجتنى: ص 58.
(5) مهج الدعوات: ص 141 وص 151.
(6) من لا يحضره الفقيه: 1/ 492.
(7) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 281.
(8) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 348.
القرآن.. والعزاء والشفاء (498)
من الشيطان الرجيم، وهمزه ولمزه، ونفثه ونفخه، ووسواسه وكيده، ومكره وحيله، وأمانيه وخدعه، وغروره وفتنته، ورجله وشركه، وأعوانه وأتباعه، وأخدانه وأشياعه، وأوليائه وشركائه، وجميع كيدهم)(1).. وقوله: (اللهم إنا نعوذ بك من نزغات الشيطان الرجيم، وكيده ومكائده، ومن الثقة بأمانيه ومواعيده، وغروره ومصائده، وأن يطمع نفسه في إضلالنا عن طاعتك، وامتهاننا بمعصيتك، أو أن يحسن عندنا ما حسن لنا، أو أن يثقل علينا ما كره إلينا، اللهم اخسأه عنا بعبادتك، واكبته بدؤوبنا في محبتك، واجعل بيننا وبينه سترا لا يهتكه، وردما مصمتا لا يفتقه)(2).. وقوله: (اللهم اشغل الشيطان الرجيم عنا ببعض أعدائك، واعصمنا منه بحسن رعايتك، واكفنا ختره، وولنا ظهره، واقطع عنا إثره، وأمتعنا من الهدى بمثل ضلالته، وزودنا من التقوى ضد غوايته، واسلك بنا من التقى خلاف سبيله من الردى)(3).. وقوله: (اللهم لا تجعل للشيطان في قلوبنا مدخلا ولا توطنن له فيما لدينا منزلا.. اللهم وما سول لنا من باطل فعرفناه، وإذا عرفتناه فقناه، وبصرنا ما نكايده به، وألهمنا ما نعده له، وأيقظنا عن سنة الغفلة بالركون إليه، وأحسن بتوفيقك عوننا عليه)(4).. وقوله: (اللهم أشرب قلوبنا إنكار عمل الشيطان، والطف لنا في نقض حيله، وحول سلطانه عنا، واقطع رجاءه منا، وادرأه عن الولوع بنا)(5).. وقوله: (اللهم احلل ما عقد الشيطان، وافتق ما رتق، وافسخ ما دبر، وثبطه إذا عزم، وانقض ما أبرم، واهزم جنده، وأبطل كيده واهدم كهفه، وأرغم أنفه)(6).. وقوله: (اللهم اجعلنا في نظم أعداء الشيطان، واعزلنا عن عداد أوليائه، لا نطيع له إذا استهوانا، ولا نستجيب له إذا دعانا، نأمر بمناوأته،
__________
(1) الكافي: 4/ 75.
(2) الصحيفة السجادية: ص 45.
(3) الصحيفة السجادية: ص 45.
(4) الصحيفة السجادية: ص 45.
(5) الصحيفة السجادية: ص 45.
(6) الصحيفة السجادية: ص 45.
القرآن.. والعزاء والشفاء (499)
من أطاع أمرنا، ونعظ عن متابعته من اتبع زجرنا)(1).
ومثل ذلك ما رواه لنا عن الإمام الصادق وأنه كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أظلم، أو أقطع رحما، أو أوذي جارا)(2).. وقوله: (اللهم إني أسألك حسن الظن بك، والصدق في التوكل عليك، وأعوذ بك أن تبتليني ببلية تحملني ضرورتها على التعوذ بشي ء من معاصيك، وأعوذ بك أن تدخلني في حال ـ كنت أو أكون فيها في عسر أو يسر ـ أظن أن معاصيك أنجح لي من طاعتك، وأعوذ بك أن أقول قولا حقا من طاعتك ألتمس به سواك، وأعوذ بك أن تجعلني عظة لغيري، وأعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما آتيتني به مني، وأعوذ بك أن أتكلف طلب ما لم تقسم لي، وما قسمت لي من قسم، أو رزقتني من رزق، فائتني به في يسر منك وعافية، حلالا طيبا، وأعوذ بك من كل شي ء زحزح بيني وبينك، وباعد بيني وبينك، أو نقص به حظي عندك، أو صرف بوجهك الكريم عني، وأعوذ بك أن تحول خطيئتي أو ظلمي، أو جرمي وإسرافي على نفسي، واتباع هواي واستعجال شهوتي، دون مغفرتك ورضوانك، وثوابك ونائلك، وبركاتك وموعودك الحسن الجميل على نفسك (3).
قام رجل آخر من الحاضرين، وقال: قصتكم تشبه كثيرا قصتي.. والفرق بيني وبينكم أن قصتكم تشبه قصة زكريا ويعقوب وأم موسى ويونس وأيوب وموسى وإبراهيم عليهم السلام.. وقصتي تشبه قصصهم جميعا، والبركات التي تنزلت عليهم جميعا بعد دعائهم وتضرعهم لله تعالى.
__________
(1) الصحيفة السجادية: ص 45.
(2) الكافي: 4/ 467.
(3) تهذيب الأحكام: 3/ 74، مصباح المتهجد: ص 546، الإقبال: 2/ 299.
القرآن.. والعزاء والشفاء (500)
وهي تبدأ من حاجات كثيرة عرضت لي، جعلتني مهموما حزينا، إلى أن كدت أستسلم لشياطين الإنس والجن، الذين زينوا لي كل منكر، وحثوني على كل رذيلة..
حينها، سرت إلى معلمي الكاظم، بعد أن سمعت به، فسمعته في مجلسه يردد قوله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 89 ـ 91]، ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى نماذج عن التجاء الأنبياء عليهم السلام لربهم، وطلبهم الحاجات المختلفة منه، ومنهم زكريا عليه السلام الذي كان مبتلى بالحرمان من الولد، وقد طال انتظاره له، وتطلعه إليه، حتى بلغ من الكبر عتيا.. فلما بلغ الحد الذي يقع عنده اليأس، لم يكن من اليائسين من روح الله، فدعا ربه، وناجاه فيما بينه وبين نفسه، فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89].. وفي قوله: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89] تعقيب على قوله: ﴿لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ [الأنبياء: 89] أي إن لم تستجب لى، وتهب لى من يؤنسنى، ويرثنى من الولد، فتلك هي مشيئتك، وهى منى بموضع الاستسلام والرضا، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى، فأنت خير الوارثين.. ترث الأرض ومن عليها.. وفي قوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: 90] إشارة إلى ما كان في امرأته من عقم، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة، فأصلحها الله سبحانه وتعالى، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا..
ثم التفت إلي، وقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 948)
القرآن.. والعزاء والشفاء (501)
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]، ثم قال (1): أي أن هؤلاء جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان بالله، والطمع في رحمته، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله.. والخير لم يكن في حياتهم حالة طارئة، أو انفعالا سريعا، بل كان قيمة روحية تتحرك في خط العقيدة، وحركة الرسالة على أساس المسؤولية المنفتحة على الناس كلهم، الذين يحتاجون الخدمات على كافة مستوياتها الفكرية والروحية والحياتية.. وبذلك كانت مواقع الخير، فرصة كبيرة، تلامس الفرح الروحي في شخصيتهم، كما لو كانت المسألة مسألة لذة، أو شهوة، أو منفعة، ولذا يسارعون إلى اغتنام الفرصة التي تفتح أبواب الخير أمامهم.. وكان هذا الخير الذي يتحرك في عمق شخصيتهم، نتيجة للإيمان بالله، والانفتاح عليه، وهم يعتبرونه أساسا للمسؤولية في مواجهتهم لقضايا الحياة التي يريد الله لها أن تنطلق من قاعدة الخير وتتحرك في طريقه، وتعيش في آفاقه، كما يريد لعباده أن يأخذوا به، وينفتحوا عليه ويعملوا من أجل تأكيده كقيمة إنسانية رسالية مسئولة، وذلك في أجواء اللقاء الكامل بالله، حتى يستلهم الإنسان روحيته في كل حال، في أوقات الرغبة، والرهبة، لأن ذلك هو التعبير الحي عن الانشداد إلى الله في كل الأمور، بحيث يشعر الإنسان بأن الله هو مصدر القوة والحياة، فليس هناك أي شيء ساكن أو متحرك في داخل شخصية الإنسان وفي خارجها إلا وهو مرتبط بالله، محتاج إليه، مما يوحي بالشمول في الإحساس بالعبودية المطلقة أمام الله. وهذا ما عاشه هؤلاء الذين يسارعون في الخيرات.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90]، ثم قال (2): لأن الدعاء هو الأساس في التعبير عن الحاجة، بقطع النظر عن طبيعتها، فيما يرجوه الناس أو يخافونه،
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 261)
(2) من وحي القرآن (15/ 262)
القرآن.. والعزاء والشفاء (502)
﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90] في رهافة الحس الايماني في حياتهم، وفي عمق الشعور الروحي في ذواتهم، وفي انسحاقهم أمام عظمة الله، التي يتمثلونها في أفكارهم وقلوبهم.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 20 ـ 24]، ثم قال: في هذه الآيات الكريمة نموذج حي للالتجاء الدائم إلى الله تعالى، وفي كل الأحوال، وفي أصعب الظروف وأيسرها.
وعندما طلبنا منه توضيح ذلك، قال: أول الظروف المذكورة في الآية الكريمة، وأصعبها على موسى عليه السلام، هو بحث أعدائه عنه لقتله، حينها، لم يرتبك موسى عليه السلام، ولم يضطرب، بل قال بلسان الواثق المتوكل على ربه: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 21]، (وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنبا، وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصا)(1)
ثم قال: وثانيها أنه ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص: 22]، هو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]
حينها سأله أحد الحاضرين، وقال (2): ألا يشير قول موسى ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص: 22] إلى أن هذا القول كان مقيدا بالوقت الذي أخذ فيه وجهته إلى
__________
(1) مفاتيح الغيب (24/ 587)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 332)
القرآن.. والعزاء والشفاء (503)
مدين.. وهذا يعنى أن موسى عليه السلام لم يدع ربه بهدايته سواء السبيل إلا في هذه الحالة.. وكيف يكون هذا، وموسى عليه السلام وإن لم يكن نبيا بعد، فإنه كان على دين آبائه، إبراهيم، وإسحق، ويعقوب عليهم السلام؟
قال (1): موسى عليه السلام كسائر الأنبياء عليهم السلام كان على ذكر دائم لربه.. وذكر العبد لربه ليس على صورة واحدة.. فتارة يسبح ربه، وتارة يحمده، وتارة يستجير به، أو يستهديه.. أو يستغفره.. إلى غير ذلك من أحوال الإنسان مع خالقه، فموسى عليه السلام حين قتل المصري: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ [ص: 35].. وسليمان عليه السلام حين رأى عظمة ملكه، وعرض له ملك النملة، قال: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ [الأحقاف: 15].. وهنا يجد موسى نفسه على طريق غربة، موحشة، لا يدرى إلى أين تسوقه قدماه، ولا ما يلقاه على طريقه من أحداث.. إنه في حيرة من أمره، بعد أن خرج من مصر، كما يخرج راكب سفينة غرقت، فألقت براكبيها في الماء، وكان أسعدهم حظا من وضع رجله على اليابسة، ولو كان في مورد الوحوش.. ذلك أن موسى عليه السلام لم يكن يعرف أن وجهته مدين، وإنما اتخذ الوجهة التي تؤدى به إليها.. وهنا كان دعاؤه إلى ربه أن يهديه سواء السبيل، ويقيم خطوه على طريق الأمن، ويدفع به إلى شاطئ السلامة.
قرأ بخشوع قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23]، ثم قال (2): وهنا نجد موسى عليه السلام قد بلغ في مسيرته مدين التي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 332)
(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 334)
القرآن.. والعزاء والشفاء (504)
كان وجهه إليها ـ بقصد أو بغير قصد ـ بعد أن خرج من مصر.. وعلى مقربة من المدينة وجد العين التي يستقى منها أهلها.. وهناك كانت جماعات الرعاة ترد الماء، وتستقى منه، وتسقى ماشيتها.. وعلى الماء، لفت نظر موسى عليه السلام، منظر فتاتين، قد انحازتا بماشيتهما مكانا قصيا عن الماء.. وقد عجب لهذا، وبدا له أن يسأل الفتاتين: ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ [القصص: 23]، ولم أنتما هكذا بعيدتين عن الماء؟ ألا تسقيان كما يسقى القوم؟.. وليس الأمر على ما قدر موسى، وإن الخطب لأهون من هذا، فما بين الفتاتين وبين القوم ما يدعو إلى هذه القطيعة البادية لعينيه.. ولكن هكذا كانت الحياة في هذه الجماعة التي يعيشون فيها.. لقد وقفوا من أبيهم الرجل الصالح موقف الخصومة، والقطيعة.. فلم يكن لفتاتيه من يمد إليهما يدا.. وأبوهما شيخ كبير.. ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23]، وهذا يذكرنا بموقف قريش من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن رهطه بنى هاشم وبنى المطلب، لقد عقد القوم فيما بينهم عقدا على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب، كما هو معروف في السيرة النبوية..
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، ثم قال (1): كان موسى عليه السلام، مثل سائر الأنبياء والصالحين، رجلا ذا مروءة، ولهذا لم يجد بدا من أن يسقى للفتاتين، وقد شهدتا منه قوة، وعفة.. فلم يعلق نظره بهما، ولم يتبعهما نفسه، بلى سقى لهما.. ثم تولى إلى الظل، حيث كان يجلس من قبل.. وهناك رفع وجهه إلى السماء، يحمد الله أن ساق إليه هذا الرزق الذي وجده فيما أسدى إلى هاتين الفتاتين الضعيفتين من عون، وإحسان.. وإنه لفقير إلى مثل هذه الأعمال الطيبة، ليكفر بها ما كان منه من قتل المصري، والذي قتله من غير جرم.. وبمجرد أن دعا الله تعالى
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 335)
القرآن.. والعزاء والشفاء (505)
أتاه الجواب الإلهي الذي عبر عنه قوله تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 25]
وبعد أن ذكر لنا هذه الأمثلة عن استغاثة الأنبياء عليهم السلام بربهم، وفي كل الحاجات، ذكر لنا نماذج مما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأدعية التي تركها لأمته، حتى يتأدبوا في دعائهم لربهم، ويتعلموا كيفية التضرع إليه.. والحمد لله لقد كانت تلك الأدعية هي البلسم الذي لم يداو جراحي الحسية فقط، بل داوى جميع جراحي الحسية والمعنوية، بل حتى تلك التي تتعلق بالمجتمع الذي كنت فيه.
وقبل أن يذكر لنا تلك الأدعية حدثنا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث في فضل الدعاء وحب الله له، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة؛ فإنه لا يتعاظم على الله شيء)(1)، وقوله: (سلوا الله من فضله؛ فإن الله عز وجل يحب أن يسأل)(2)، وقوله: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع)(3)، وقوله: (سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم، حتى شسع نعل أحدكم؛ فإنه إن لم ييسره لم يتيسر)(4)، وقوله: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)(5)، وقوله: (الدعاء مفتاح الرحمة)(6)
وقوله في الحديث القدسي العظيم: (يقول الله تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من
__________
(1) صحيح ابن حبان: 3/ 177، أحمد: 3/ 678.
(2) الترمذي: 5/ 565، المعجم الكبير: 10/ 101، بحار الأنوار: 93/ 300.
(3) الترمذي: 5/ 369، صحيح ابن حبان: 3/ 177، بحار الأنوار: 93/ 295.
(4) الفردوس: 2/ 305، مسند أبي يعلى: 6/ 312؛ مكارم الأخلاق: 2/ 10، بحار الأنوار: 93/ 295.
(5) الترمذي: 6/ 563، أبو داوود: 2/ 122.
(6) الفردوس: 2/ 226.
القرآن.. والعزاء والشفاء (506)
هديته؛ فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت؛ فسلوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت؛ فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي.. ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي، ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي، ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه؛ ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن، فيكون)(1)
وقوله في الحديث القدسي الآخر: (قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم.. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك
__________
(1) الترمذي: 6/ 656، ابن ماجة: 2/ 1622، أحمد: 8/ 85 5.
القرآن.. والعزاء والشفاء (507)
مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه (1).
ثم ذكر لنا الكثير من الأدعية، والتي ترتبط بالحاجات المختلفة، ومنها الأدعية المرتبطة بقضاء الدين وضيق الرزق.. ومنها ما رواه عن بعضهم أن مكاتبا جاء الإمام علي، فقال: إني قد عجزت عن كتابتي فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ لو كان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عز وجل عنك، قل: (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)(2)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوصي بعض أصحابه: (أكثر أن تقول: ربي اقض عني الدين، وأغنني من الفقر)(3)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحاب الصفة عندما شكوا إليه الحاجة: (قولوا: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر)(4)
ومنها ما رواه عن معاذ بن جبل، قال: احتبست عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما لم أصل معه الجمعة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا معاذ، ما منعك عن صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله، ليوحنا اليهودي علي أوقية من بر، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتحب ـ يا معاذ ـ أن يقضي الله دينك؟ قلت: نعم، يا رسول الله، قال: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ
__________
(1) مسلم: 6/ 1996، الأدب المفرد: ص 169، الحاكم: 6/ 269.
(2) الترمذي: 5/ 560، أحمد: 1/ 323، الحاكم: 1/ 721.
(3) المعجم الكبير: 6/ 233.
(4) الدعاء للطبراني: ص 320.
القرآن.. والعزاء والشفاء (508)
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 26 ـ 27]، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء، صل على محمد وآل محمد، اقض عني ديني يا كريم.. فلو كان عليك مل ء الأرض ذهبا لأداه الله عنك (1).
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في دعائه: (اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، واقض عني ديني)(2)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في دعائه لقضاء الدين: (اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك)(3)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما يمنع أحدكم إذا عسر عليه أمر معيشته أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت)(4)
وهكذا علمنا الكثير من الأدعية، وفي المحال المختلفة، ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة)(5)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لبعض أصحابه: ألا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى عنك دينك؟.. قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن
__________
(1) عدة الداعي: ص 54، المعجم الكبير: 20/ 155.
(2) المعجم الكبير: 4/ 82.
(3) الحاكم: 1/ 696، الدعاء للطبراني: ص 317.
(4) الدعاء للطبراني: ص 147، عمل اليوم والليلة لابن السني: ص 126.
(5) أبو داود: 2/ 91، ابن ماجة: 2/ 1113، النسائي: 4/ 452.
القرآن.. والعزاء والشفاء (509)
والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)(1)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أصابه هم أو غم أو كرب أو بلاء أو لأواء فليقل: الله ربي ولا أشرك به شيئا، توكلت على الحي الذي لا يموت)(2)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أمان لأمتي من الهم: لا حول ولا قوة إلابالله العلي العظيم، لا ملجأ ولا منجى من الله إلاإليه)(3)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه شكا إليه رجل الوحشة، فقال له: أكثر من أن تقول هذا، فقالهن فأذهب الله عنه الوحشة، وهي: (سبحان ربي الملك القدوس، رب الملائكة والروح، خالق السماوات والأرض، ذي العزة والجبروت)(4)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من دعائه: (اللهم إني أسألك العافية، وشكر العافية، وتمام العافية في الدنيا والآخرة)(5)
ومنها ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من عبد يخاف زوال نعمة أو فجاءة نقمة أو تغير عافية ويقول: (يا حي يا قيوم، يا واحد يا مجيد، يا بر يا كريم، يا رحيم يا غني، تمم علينا نعمتك، وهب لنا كرامتك، وألبسنا عافيتك) إلاأعطاه الله تعالى خير الدنيا والآخرة)(6)
وغيرها من الأدعية الكثيرة التي كان لها التأثير الكبير في حياتي جميعا.. ذلك أنها لم تكن أدعية لقضاء الحاجات فقط، وإنما كانت أدعية لزيادة القرب من الله.. وهل هناك بعد القرب نعمة؟
__________
(1) أبو داود: 2/ 93.
(2) الكافي: 2/ 556، عدة الداعي: ص 260؛ الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا: ص 39.
(3) من لا يحضره الفقيه: 4/ 371.
(4) مكارم الأخلاق: 2/ 155، بحار الأنوار: 95/ 340؛ المعجم الكبير: 2/ 24، عمل اليوم والليلة لابن السني: ص 227.
(5) مكارم الأخلاق: 2/ 157.
(6) بحار الأنوار: 95/ 194 عن خط الشهيد الأول.
القرآن.. والعزاء والشفاء (510)
بعد أن سمعت إلى تلك الأحاديث الممتلئة بالإيمان في حديقة اليسر والفرج، سرت إلى محل آخر في تلك المدينة إلى أن مررت على أربعة من الشيوخ، يتحدثون، وهم في غاية الفرح والسرور، وكأنهم أطفال أو شباب لا يزالون في مقتبل العمر.
قال أولهم: هل تصدقون بأني في كل يوم أرى في أحلامي تلك الجنان الجميلة التي حدثنا عنها معلمنا الكاظم.. أنا أعد كل يوم، وكل ساعة لأرحل إليها.. فما أشد شوقي إليها.. حينها سنخلع كل آلامنا وأمراضنا، لنلبس ثوب الشباب الدائم في دار النعيم المقيم.
قال الثاني: أجل.. فلولا معلمنا الكاظم، وما كان يعظنا به لعشنا في الكوابيس المخيفة المرعبة.. لقد كنا ننظر إلى الحياة مثل أولئك اليهود الذين ذكرهم الله تعالى، فقال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: 96]
وقد ذكر لنا معلمنا الكاظم أن الله تعالى لم يعاتبهم على حرصهم على الحياة، أو كراهيتهم للموت، وإنما على انشغالهم بها عما خلقوا له، ولذلك عقب على ذلك بقوله: ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 96]، أي أن طلبهم للعمر الطويل ليس للقيام بالأعمال الصالحة التي تزحزحهم عن العذاب، وإنما للانشغال بالحياة، أي حياة، رغبة فيها.
قال الثالث: أجل ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن إبليس، وأنه دعا آدم عليه السلام للأكل من الشجرة، حتى يتحقق له الخلود، لأنه علم حبه له فطريا، قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: 120]، وقال:
القرآن.. والعزاء والشفاء (511)
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20]
قال الرابع: والواقع كله يدل على هذا (1)؛ ذلك أننا نجد الشيخ الكبير، والذي قد هرم جسده، وانحل أكثر خلاياه لا يزال يملك في نفسه ومشاعره كل همم الشباب ورغباتهم.. بل إننا قد نجده يخطط ويدخر لسنوات كثيرة لا يطمع لأن يعيش لها.. ولو أن نفسه كانت تابعة لجسده، لما فكر مثل هذا التفكير، ولا هم بمثل هذه الهمم.
قال الأول: وهكذا نرى الإنسان يستعمل كل الوسائل للفرار من الموت، ومن أسبابه.. وهذه الرغبة لا يمكن أن تكون ناشئة عن فراغ، ذلك أن لكل رغبة من الرغبات الموجودة في النفس ما يغطيها، ويلبي حاجتها؛ فالعطش والرغبة في الماء دلتنا على وجود الماء.. والرغبة في الطعام دلتنا على وجود كل الأطعمة التي نشتهيها، وبحسب الأذواق التي ركبت في طباعنا.. وهكذا نجد كل الرغبات لها ما يلبيها في الواقع، وبأنواع كثيرة جدا.. تفوق حد الضرورة والحاجة.
قال الثاني: ومثل هذا الرغبة في الخلود والسعادة الأبدية.. فهي موجودة فينا، ويكذب على نفسه من يزعم عدم إحساسه بها.. ولذلك كانت هذه الرغبة دليلا على وجود ما يمثلها في الواقع.. مثلما نستدل بوجود الماء والطعام وكل ما نشعر بحاجتنا إليه.. بل إن الشعور بالرغبة في الخلود أعظم من كل الرغبات.. ولذلك لم يؤسس الطب ولا كل العلوم المرتبطة به إلا للسعي لتحقيق بعض متطلبات تلك الرغبة.
__________
(1) ذكرنا الأدلة الكثيرة على ذلك في كتاب: أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (ص 19)، وما نذكره هنا من أدلة مقتبس منه، وببعض الاختصار والتلخيص.
القرآن.. والعزاء والشفاء (512)
التفت أحدهم إلي، ثم قال مخاطبا أصحابه: ها قد حضر تلميذ القرآن.. وهي فرصة لنا لنتحدث عن ذكرياتنا مع معلمنا الكاظم، وكيف أخرجنا من الكوابيس والأوهام التي كنا نعيشها، ليدخلنا جنان القرآن، ويملأ حياتنا بالسعادة.
قال أكبرهم سنا: بما أني أكبركم سنا، ولم يبق لي من الحياة إلا القليل، فاسمحوا لي أن أبدأ الحديث.
وافق الجميع على طلبه، فقال: أنتم تعلمون بأني قبل أن ألتقي بمعلمنا الكاظم كنت امرؤا متشائما كئيبا حزينا، لأني كلما تذكرت الموت أشعر أن الحياة مجرد مزحة ثقيلة، لا قيمة لها.. لكني بعد أن التقيت معلمي تخلصت من كل ذلك.. وصرت أرى الحياة أوسع بكثير من تلك الزنزانة التي كنت أقيم فيها، وصرت أرى الموت مجرد وسيلة للتنقل لعالم أجمل وأكمل وأفضل.
لقد كان سبب لقائي به أني رأيت في بعض الجدران إعلانا يذكر بأن معلمنا الكاظم، سيقدم موعظة حول [الحياة الخالدة]، فتعجبت من هذا العنوان، فاستحثني الفضول لأذهب للاستماع لا بنية الاستفادة، وإنما بنية السخرية.. لكن شاء الله أن تكون تلك الموعظة موعدا لولادتي الجديدة، والتي تحولت فيها إلى شخص مختلف عن الشخص الذي كان يرتدي حياتي.
لقد ملأنا معلمنا الكاظم في تلك الموعظة بالتفاؤل والأمل.. كما ملأنا بحب الخير والسعي إليه بكل الوسائل حتى نضمن لانفسنا تلك السعادة الأبدية في دار الخلود.
وبما أن حديثه كان طويلا، فسأقتصر على ما ذكره من الآيات الكريمة التي استدل بها، والتي حوت تلك الحقائق بأجمل صورة، وبأعظم الأدلة.
القرآن.. والعزاء والشفاء (513)
ومنها ما ذكره عند حديثه عن قصة ذلك المؤمن الذي كان يكتم إيمانه، والذي وردت قصته في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28]
وقد ذكر لنا أن هذا المؤمن استعمل كل الحجج والبينات لإقناع الملأ من قوم فرعون بصحة ما جاء به موسى عليه السلام، ومن ذلك قوله لهم: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 39 ـ 43]، وقد قال بعد قراءته الخاشعة لها (1): في هذه الآيات الكريمة بين مؤمن آل فرعون لقومه حقارة حال الدنيا وكمال حال الآخرة، أما حقارة الدنيا فهي قوله: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ [غافر: 39] أي أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة، ثم تنقطع وتزول، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام.. أي أن الآخرة باقية دائمة، والدنيا منقضية منقرضة، والدائم خير من المنقضي.. ولو كانت الدنيا ذهبا فانيا، والآخرة خزفا باقيا، لكانت الآخرة خيرا من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق.
ثم قال (2): ثم قرر لهم قاعدة الحساب والجزاء في دار القرار، فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 518)
(2) في ظلال القرآن (5/ 3083)
القرآن.. والعزاء والشفاء (514)
فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 40].. أي أن فضل الله اقتضى أن تضاعف الحسنات، ولا تضاعف السيئات، رحمة من الله بعباده، وتقديرا لضعفهم، وللجواذب والموانع لهم في طريق الخير والاستقامة، فضاعف لهم الحسنات، وجعلها كفارة للسيئات.. فإذا هم وصلوا إلى الجنة بعد الحساب، رزقهم الله فيها بغير حساب.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ [غافر: 41]، ثم قال (1): في هذا مناظرة بين موقف وموقف، ودعوة ودعوة.. موقف الرجل المؤمن من قومه، وموقفهم منه.. إنه يدعوهم إلى الخلاص والنجاة من نقمة الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة.. وهم يدعونه إلى نقمة الله في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة.. إنهم يدعونه ليكفر بالله الواحد الأحد، وأن يعبد مع الله آلهة أخرى لا يعلم لها حقيقة يطمئن إليها عقله، ويستسيغها منطقة.. وهو يدعوهم إلى إله يقوم على هذا الوجود، ويمسك كل ذرة منه، حفظا وعلما.. فهو سبحانه ـ (العزيز) الذي تذل لعزته الجبابرة.. (الغفار) الذي يغفر ذنوب المسيئين، ويقبل توبتهم، إذا هم رجعوا إليه، ووجهوا وجههم له.. فهل تستوى دعوة ودعوة؟ وهل يستوى الضلال والهدى؟
قرأ قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 43]، ثم قال (2): هذا تعقيب من الرجل المؤمن، على هذا الموقف الذي بينه وبين قومه.. إن ما يدعونه إلى عبادته من آلهتهم: ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ﴾ [غافر: 43].. إنه لا يسمع دعاء داع ولا يستجيب له، سواء
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1238)
(2) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1239)
القرآن.. والعزاء والشفاء (515)
أكان ذلك في هذه الدنيا، أو في الآخرة.. ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ﴾ [غافر: 43]، أي مرجع جميع المخلوقات إلى الله، فهو المالك لها وحده، يبسطها ويقبضها، وينشرها ويطويها.. والناس جميعا سيرجعون إلى الله، للحساب والجزاء في الآخرة.. ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 43]، حيث يلقون جزاء كفرهم، وضلالهم، وإسرافهم على أنفسهم.. هذا، ولم يذكر هنا جزاء المحسنين، وهو الفوز بالجنة ونعيمها.. وذلك لأن الموقف موقف إنقاذ، وتخليص، لهؤلاء الهلكى من هذا الضلال الذي هم فيه.. فإذا خلصوا من النار، فذلك كسب عظيم لهم.. ثم يكون لهم بعد هذا أن يتطلعوا إلى المنزل الذي ينزلونه، بعد أن خلصوا بجلدهم من هذا البلاء المحيط بهم.. فالذي تعلق به النار، لا يعنيه شيء أكثر من أن يتخلص من هذا الثوب الذي أمسكت به النار، وليس يعنيه في شيء أن يفكر في الثوب الذي يلبسه بعد أن ينزع هذا الثوب عنه، ويتركه وقودا للنار تأكله.. فدفع المضار مقدم على جلب المصالح، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: 185]..
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44]، ثم قال (1): أي ستعلمون علم اليقين ما أحدثكم به، وما أدعوكم إليه من الإيمان بالله الواحد الغفار، وما أحذركم به من عذابه يوم القيامة، إذا أنتم لم ترجعوا إلى الله، وتدعوا عبادة ما تعبدون من آلهة، ليس لها حول ولا طول، في الدنيا ولا في الآخرة.. إنكم ستذكرون هذا، وترونه عيانا، يوم القيامة، يوم لا ينفع تذكر، ولا يغنى علم.. ثم ختم نصيحته لقومه بقوله: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44] وهي خاتمة نصيحته، فقد دعاهم إلى الهدى، وأراهم طريق النجاة، فإن استجابوا له، واتبعوا سبيله
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1240)
القرآن.. والعزاء والشفاء (516)
نجوا معه، وإن هم أبوا أن ينزعوا عما هم فيه، تركهم وشأنهم، وأخذ هو طريقه الذي استقام عليه، مفوضا أمره إني الله، مسلما له وجهه، مستعينا به وحده، فهو الذي يكفيه، ويحميه ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44] يعلم من هم أولياؤه، ومن هم أعداؤه: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]
ثم ذكر لنا (1): كيف استجاب الله له في هذا التفويض، حيث وقاه سيئات مكرهم، بينما واجهوا نتائج جرائمهم، فانتهوا إلى النار، وبئس القرار.. ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [غافر: 45] وأبطل كل تدبيرهم في الضغط عليه، ومحاصرته ومصادرة حريته، وهزيمة موقفه، ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45] وهو ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46] في عذاب مستمر في عالم البرزخ يعيشون فيه العذاب النفسي ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ [غافر: 46] حيث ينطلق نداء الله القوي الحاسم ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46] الذي يستحقونه لطغيانهم وكفرهم.
ثم ذكر لنا دلالة الآية الكريمة على البرزخ، والنعيم والعذاب المرتبط به، وأخبرنا أن كل الدلائل تدل عليه.. فكل العقلاء والعلماء والأديان والفطر السليمة التي لم تدنس بالفلسفات المادية تدل على أن سر الإنسان وحقيقته لن تفنى بموته.
وأخبرنا أن هذا العالم يبدأ من وفاة الإنسان، أو قبل وفاته بلحظات معدودة، وينتهي بالبعث، وبميلاد النشأة الآخرة.. وأن الله تعالى ذكر بداية هذا العالم، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، وقد قال في حديثه عن معناها ودلالاتها:
__________
(1) من وحي القرآن (20/ 48)
القرآن.. والعزاء والشفاء (517)
هاتان الآيتان الكريمتان تذكران أن الإنسان عندما يأتيه الموت، أي في اللحظة التي تنزع فيها روحه، يشعر بالمصير الذي سيصير إليه.. ولذلك يطلب الرجوع.
سكت قليلا، ثم قال (1): من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم، وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا، ويصرخون ويدعون، ولات حين مناص.. وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ [الشعراء: 200 ـ 203]، وقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: 27 ـ 28]، وقوله: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ [الأحزاب: 66]، وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99 ـ 100].. فهذه الآيات الكريمة تذكر أن هذا الطلب يستمر في كل المراحل، حتى عند وقوف المجرمين على حافة النار، إلا أن هذه العودة لن تتحقق، لأنها سنة الله سبحانه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثم عادت، ولو سقط الجنين من بطن أمه قبل اكتماله، ثم عاد الى الرحم، لأ مكن ربما أن يعود هؤلاء.. بناء على ذلك، فإن الطريق الوحيد المعقول، هو التوقي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من الذنب، والأعمال الصالحة، ما دامت الفرصة سانحة وإلا فلا ينفع الندم بعد فوات الأوان.
__________
(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (11/ 467)
القرآن.. والعزاء والشفاء (518)
ثم ذكر لنا النهاية التي ينتهي إليها عالم البرزخ، فقال: لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، وهي النفخ في الصور، الذي يكون بمثابة دق جرس نهاية الدنيا بملكها وملكوتها.
ثم ذكر لنا بعض ما ورد في القرآن الكريم من المشاهد التي يراها الإنسان في ساعة احتضاره، وقبل موته، وقد قدم لذلك بقراءة قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 83 ـ 96]، ثم قال (1): في هذه الآيات الكريمة استدعاء للمنكرين للبعث، أن يمتحنوا قواهم كلها، وأن يجيئوا بكل ما يملكون من حول وحيلة، وهم بين عزيز كريم لديهم ممن قد حضره الموت، وحشرجت روحه حتى بلغت الحلقوم، وهم ينظرون إليه في حزن قاتل، وحسرة محرقة.. فهل يستطيعون رد هذه الروح إلى مكانها من الجسد؟.. فليجربوا هذا وليحاولوه، إن كان الأمر يتسع لتجربة، أو يقبل حيلة!.. إن الله سبحانه هو أقرب إلى هذا المحتضر منهم، ولكنهم لجهلهم وكفرهم، لا يدركون هذه الحقيقة، ولا يتصورونها..
ثم قرأ بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: 88 ـ 89]، ثم قال (2): هذا المحتضر، قد نفذ فيه قضاء الله، وأصبح في عالم الموتى.. ولكنه لا يترك كهذا ليد الفناء ـ كما يظنون ـ بل إنه سينقل إلى العالم الآخر، وتلبسه
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 740)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 741)
القرآن.. والعزاء والشفاء (519)
الحياة هناك مرة أخرى، ويأخذ منزله في هذا العالم، حسب عمله في الدنيا.. فإن كان من المقربين إلى الله، ومن أولياء الله في الدنيا، فالله سبحانه هو وليه في الآخرة، يلقاه لقاء الأولياء الأحباب بالروح والريحان وجنة النعيم.. والروح: ما تستروحه النفوس، وتطيب به، وتسعد فيه.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة: 90 ـ 91]، ثم قال (1): أي أنهم في سلام، وهم يتهادون التحية والسلام فيما بينهم، ويبعثون بتحاياهم إلى إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ممن لا يزالون في هذه الدنيا.. فالضمير في (لك) يراد به كل مؤمن بالله، طامع في أن يكون من أصحاب اليمين.. وهى تحية من أهل اليمين في العالم الآخر، ينقلها الله سبحانه وتعالى، إلى المؤمنين في الدنيا، حتى يلقوا إخوانهم في العالم الآخر، ويردوا هذه التحية الطيبة بأحسن منها أو مثلها.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: 92 ـ 94]، ثم قال (2): أي وأما إن كان هذا الميت من هؤلاء المدهنين المكذبين، فمنزله الحميم، الذي تختنق النفوس بسمومه، وداره الجحيم التي يشوى على جمرها.
ثم التفت إلي، وقال (3): وهكذا الناس بعد الموت، حيث ينقلون إلى الدار الآخرة، فيكونون أزواجا ثلاثة.. السابقون، وهم المقربون.. وأصحاب اليمين.. وأصحاب الشمال.. ولكل منزله الذي ينزله في هذه الدار، وجزاؤه الذي يجزاه فيها.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]، ثم قال (4): لقد وصف الله تعالى هؤلاء الصالحين في الآية
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 742)
(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 742)
(3) التفسير القرآني للقرآن (14/ 742)
(4) تفسير الرازي (20/ 202)
القرآن.. والعزاء والشفاء (520)
الكريمة بكونهم طيبين، وهي كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة.. ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة.. ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت.
ثم قال لنا: إن هذه الآيات الكريمة وغيرها تبين أن الموت ليس سوى لحظة من لحظات السعادة، بل من أجمل لحظاتها، ذلك أن المؤمنين الصالحين في تلك اللحظة تزاح عنهم كل الهموم والآلام والأحزان، ولذلك لا يشعرون أبدا بأي ألم لمفارقتهم للحياة الدنيا، وكيف يشعر بالألم من وصل إلى مبتغاه الذي ظل طول عمره يسعى إليه؟
ثم حدثنا في هذا عن الإمام الصادق أنه سئل: صف لنا الموت؟ فقال: (هو للمؤمنين كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه، فينقطع التعب والألم كله عنه، وللكافر كلسع الأفاعي، وكلدغ العقارب وأشد)، فقيل له: فإن قوماً يقولون هو أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، ورضخ بالحجارة، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق؟.. فقال: (كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد، فذلك الذي هو أشد من هذا، إلا عذاب الآخرة، فإنه أشد من عذاب الدنيا)، قيل له: فما لنا نرى كافراً يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يتحدث ويضحك ويتكلم، وفي المؤمنين من يكون أيضاً كذلك، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟.. فقال: (ما كان من راحة هناك للمؤمنين فهو عاجل ثوابه، وما كان من شدة فهو تمحيصه من ذنوبه، ليرد إلى الآخرة نقياً نظيفاً مستحقاً لثواب الله، ليس له مانع دونه، وما كان من سهولة هناك
القرآن.. والعزاء والشفاء (521)
على الكافر، فليوفى أجر حسناته في الدنيا، ليرد الآخرة وليس له إلا ما يوجب عليه العذاب، وما كان من شدة على الكافر هناك، فهو ابتداء عقاب الله عند نفاد حسناته. ذلكم بأن الله عَدْلٌ لا يجور)(1)
ثم حدثنا عن الإمام الحسين أنه قال لأصحابه يوم عاشوراء بعدما عاين مدى صدقهم وتضحياتهم: (صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسع والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، انّ أبي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كُذبت)(2)
ثم حدثنا بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث التي تؤكد وتفصل ما ورد في القرآن الكريم من النعيم والعذاب الذي يلقاه الميت بعد موته بحسب طيبته وخبثه، ومنها ما رواه لنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا حُضِرَ المؤمن أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا، حتى يأتوا به أبواب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه فيقدم عليه فيسألونه: ماذا فعل فلانٌ؟ ماذا فعل فلانٌ، فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا فيقول: قد مات أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى
__________
(1) عيون أخبار الرضا: 1/ 274.
(2) بحار الأنوار: 6/ 154.
القرآن.. والعزاء والشفاء (522)
عذاب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتوا به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح؟ حتى يأتوا به أرواح الكفار)(1)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن المؤمن يؤمر بقبره يوسع سبعين طولا وسبعين عرضا، ويفرش ويطيب وينور، وفيه باب إلى الجنة، وإن الكافر يضيق عليه قبره ويكلأ حيات كأعناق البخت، ويرسل عليه ملائكة صم عمي معهم فطاطيس من حديد لا يبصرونه فيرحمونه ولا يسمعون صوته فيرجمونه وفيه باب إلى النار إذا نظر منه مقعده سأل الله أن يديم ذلك عليه، فلا يصل إلى ما وراءه)(2)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)(3)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء فيرحب له قبره سبعون ذراعا، وينور له كالقمر ليلة البدر)، ثم قال: أتدرون فيما أنزلت هذه الآية ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]، أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، أتدرون ما التنين؟ سبعون حية لكل حية سبع رؤوس يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة)(4)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تعوذوا بالله من عذاب القبر.. إن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا من ربك وما دينك ومن نبيك؟..
__________
(1) النسائي 4/ 9 ـ 10.
(2) ذكره الهيثمي 2/ 328، وقال/الطبراني في (الكبير)
(3) البخاري (1379)، ومسلم (2866)
(4) أبو يعلى وابن حبان، الترغيب والترهيب: 4/ 362.
القرآن.. والعزاء والشفاء (523)
ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت وصدقت، فذلك قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27]، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، وإن الكافر تعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري: فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء: أن قد كذب فافرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبلا لصار ترابا فيضربه بها ضربة يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم تعاد فيه الروح)(1)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت؛ حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله، وغضب فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما
__________
(1) أبو داود، وأحمد، الترغيب والترهيب: 4/ 365
القرآن.. والعزاء والشفاء (524)
هذه الريح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحا، ثم قرأ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار؛ فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه القبيح يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيب، فيقول: رب لا تقم الساعة)(1)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا مات العبد الصالح فوضع في قبره أتي بفراش من الجنة، وقيل له: نم هنيئاً لك قرة العين، فرضي الله عنك، قال ويفسح له في قبره مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة، فينظر إلى حسنها ويجد ريحها وتحتوشه أعماله الصالحة: الصيام، والصلاة، والبر، فتقول له: أنصبناك واظمأناك وأسهرناك فنحن اليوم بحيث تحب، نحن أنساؤك حتى تصير إلى منزلك من الجنة)(2)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته
__________
(1) أحمد (4/ 287، رقم 18557) وأبو داود (4/ 239، رقم 4753)
(2) نقلا عن: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، لابن رجب، (ص/31)
القرآن.. والعزاء والشفاء (525)
أعماله الصالحة الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة، قال: وتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فقد أطال القيام لله عليهما، قال: فيأتون من قبل رأسه فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله تعالى في الدنيا، قال فيأتون من قبل جسده فيقول الجهاد والحج: إليكم عنه فقد أنصب نفسه، وأتعب بدنه، وحج وجاهد لله عز وجل لا سبيل لكم عليه، قال: فيأتون من قبل يديه فتقول الصدقة: كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وقعت في يد الله عز وجل ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه، فيقال: هنيئاً طيباً حياً وميتاً، قال: ويأتيه ملائكة الرحمة فتفرشه فراشاً من الجنة ودثاراً من الجنة ويفسح له في قبره مد البصر، ويؤتى بقنديل من الجنة فيستضيء بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره)(1)
ومنها ما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في وصيته لقيس بن عاصم: (يا قيس، إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وان لكلّ شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقابا، وإن لكل أجل كتاباً، وإنه ـ يا قيس ـ لابد لك من قرين، يدفن معك وهو حيُّ وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تحشر إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، ولا تبعث إلا معه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلا منه وهو عملك)(2)
وحدثنا عن الإمام علي، أنه قال يصف ما بعد الموت: (يُفتح لولي الله من منزله من الجنة إلى قبره تسعة وتسعون باباً، يدخل عليها روحها وريحانها وطيبها ولذتها ونورها إلى
__________
(1) نقلا عن: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، لابن رجب، (ص 31)
(2) بحار الأنوار: 175/ 77.
القرآن.. والعزاء والشفاء (526)
يوم القيامة، فليس شئ أحب إليه من لقاء الله، فيقول: يا رب عجل عليَّ قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فإذا كانت صيحة القيامة خرج من قبره مستورةً عورته، مسكنةً روعته، قد أعطي الأمن والأمان، وبشر بالرضوان والروْح والريحان والخيرات الحسان، فيستقبله الملكان اللذان كانا معه في الحياة الدنيا، فينفضان التراب عن وجهه وعن رأسه ولا يفارقانه، ويبشرانه ويمنيانه)(1)
وحدثنا عنه أنه قال في الرد على منكري ذلك: (وأما الرد على من أنكر الثواب والعقاب في الدنيا بعد الموت قبل القيامة فيقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: 105 ـ 108] يعني السماوات والأرض قبل القيامة، فإذا كانت القيامة بدلت السماوات والأرض، ومثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 100] وهو أمر بين أمرين، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة، ومثله قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46] والغدو والعشي لا يكونان في القيامة التي هي دار الخلود، وإنما يكونان في الدنيا، وقال الله تعالى في أهل الجنة: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 62] والبكرة والعشي إنما يكونان من الليل والنهار في جنة الحياة قبل يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ [الإنسان: 13] ومثله قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
__________
(1) المفيد في الإختصاص/349.
القرآن.. والعزاء والشفاء (527)
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169، 170])(1)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة مُثِّلَ له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.. قال: فيلتفت إلى وُلده فيقول: والله إني كنت لكم محباً وإني كنت عليكم حانياً فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك نواريك فيها.. فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهداً وإن كنت عليَّ لثقيلاً فماذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك، فإن كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا، وأحسنهم منظرا، وأزينهم رياشا، فيقول: ابشر بروح من الله وريحان وجنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يعجله، فإذا ادخل قبره أتاه ملكان وهما فتانا القبر، يجران أشعارهما، ويبحثان الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك ومن نبيك وما دينك؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والاسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قول الله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]، فيفسحان له في قبره مد بصره، ويفتحان له بابا إلى الجنة، ويقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، وهو قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: 24]، وإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، وأنتنه ريحا، فيقول له: أبشر بنزل من حميم، وتصلية جحيم، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يحبسه، فإذا
__________
(1) رسالة المحكم والمتشابه: 84.
القرآن.. والعزاء والشفاء (528)
دخل قبره أتياه ممتحنا القبر فألقيا عنه أكفانه، ثم قالا له: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت ولا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق الله دابة إلا وتذعر لها ما خلا الثقلين، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه، ويسلط الله عليه حيات الارض وعقاربها وهوامها فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره، وإنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر)(1)
وحدثنا عن الإمام السجاد أنه كان يعظ الناس يزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كل جمعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلموحفظ عنه وكتب، وكان يقول: (أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون فـ ﴿تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 30].. ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنه، ابن آدم إن أجلك أسرع شئ إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى منزل وحيدا فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك منكر ونكير لمساءلتك، وشديد امتحانك.. ألا وإنّ أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته، فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار؛ فإن تك مؤمنا تقيا عارفا بدينك، متبعا للصادقين، مواليا لأولياء الله لقاك الله
__________
(1) الكافي:3/ 231.
القرآن.. والعزاء والشفاء (529)
حجتك، وأنطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب، فبشرت بالجنة والرضوان من الله والخيرات الحسان واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعييت عن الجواب وبشرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب، بنزل من حميم وتصلية جحيم.. واعلم يا ابن آدم أن من وراء هذا ماهو أعلم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: 103]، ويجمع الله فيه الاولين والاخرين ذلك يوم ينفخ في الصور وتبعثر فيه القبور، ذلك ﴿يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: 18] ذلك يوم لا تقال فيه عثرة، ولا تؤخذ من أحد فيه فدية، ولا تقبل من أحد فيه معذرة، ولا لاحد فيه مستقبل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات، والجزاء بالسيئات، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ومن كان عمل من المؤمنين في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده)(1)
وحدثنا عن الإمام الصادق أنه سئل عن قوله تعالى في حق آل فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، فقال: (ما تقول الناس فيها؟)، فقيل له: يقولون إنها في نار الخلد، وهم لا يعذبون فيما بين ذلك، فقال: (فهم من السعداء؟) فقيل: فكيف هذا؟ فقال: (إنما هذا في الدنيا، وأما في نار الخلد فهو قوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46])(2)
وحدثنا أنه سئل عن أرواح المؤمنين والكافرين، فقال: (أرواح المؤمنين في حجرات في الجنة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويتزاورون فيها، ويقولون: ربنا أقم لنا
__________
(1) بحار الأنوار: 75/ 143، وأمالي الصدوق ص 301.
(2) بحار الأنوار (6/ 285)
القرآن.. والعزاء والشفاء (530)
الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا.. وأرواح الكفار في حجرات النار، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها ويتزاورون فيها، ويقولون: ربنا لا تقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا)(1)
وحدثنا أنه سئل عمن مات في هذه الدار أين تكون روحه؟ فقال: (من مات وهو ماحض للايمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة، وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة، فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه ورد روحه إلى جسده وحشره ليوفيه أعماله، فالمؤمن ينتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة فيجعل في جنات من جنان الدنيا يتنعم فيها إلى يوم المآب، والكافر ينتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه ويجعل في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة، وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 26، 27]، وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته وقد أدخل الجنة: ياليت قومي يعلمون، وأخبر أن كافرا يعذب بعد موته غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة يخلد في النار، والضرب الآخر من يلهى عنه ويعدم نفسه عنه فساد جسمه، فلا يشعر بشئ حتى يبعث، وهو من لم يمحض الايمان محضا، ولا الكفر محضا، وقد بين الله تعالى ذلك عند قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾ [طه: 104]، فبين أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان عشرا، أو يظن بعضهم: أن ذلك كان يوما، وليس يجوز أن يكون ذلك من وصف من عذب إلى بعثه ونعم
__________
(1) المحاسن، (ص 178)
القرآن.. والعزاء والشفاء (531)
إلى بعثه، لأن من لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به، ولا يلتبس عليه الامر في بقائه بعد وفاته)(1)
بعد أن انتهى من حديثه أسرعت إليه، وقلت: ها أنذا بين يديك، وأنا لا أريد فيما بقي لي من حياة إلا أن أعمل لأكون من أولئك الصالحين الذين ذكرتهم.. فمرني بما تشاء.
حينها طلب مني أن أقرأ القرآن الكريم، وأتدبره، وأعيش معانيه.. وقد فعلت ذلك، وصرت أتردد عليه كل حين، ليفسر لي أي معنى يصعب علي فهمه، أو تطبيقه.. وقد شعرت منذ ذلك اليوم أن الحياة الدنيا ليست بالسوء الذي كنت أراها به، لا لكونها جميلة في ذاتها، وإنما لكونها وسيلة لتحقيق كل جميل.
بعد أن انتهى الأول من حديثه، قال الثاني: بورك فيك أخي الكريم، والحمد لله، فأنا تلميذك في هذا، فقد كان أول ما فعلته بعد عودتك من زيارتك لمعلمنا الكاظم أن قصدت بيتي، ورحت تشرح لي بتفصيل كل تلك المعاني السامية.. والتي جعلتني شديد الشوق للقيا المعلم.
والحمد لله، يسر الله لي ذلك، ومن حيث لا أحتسب، حيث أني عندما خرجت من بيتي في ذلك الصباح، سمعت نفرا كثيرا من الناس يتحدثون عن رجل غريب زار بلدتنا، وقد توهمت في البداية أنه من أولئك الدجالين والمشعوذين الذين تعودوا زيارتنا، لأخذ أموالنا واللعب على عقولنا، لكني وجدته مختلفا تماما.. لقد كان في غاية الزهد والوقار.
وكان أول ما سمعته منه قوله: أنا لم آتكم لآكل من طعامكم، ولا لأشرب من
__________
(1) تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد، ص 90.
القرآن.. والعزاء والشفاء (532)
شرابكم، ولا لآخذ من أموالكم.. فقد أغناني الله تعالى عن كل ذلك.. بل جئتكم لأجلكم.. ولأجل دلالتكم على الخير الذي تسعدون به في الدنيا والآخرة.
ثم قرأ قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: 39]، ثم قال (1): هذه الآية الكريمة لا تنهانا أن نعيش دنيانا هذه، فنحن موجودون فيها ومتلبسون بها، ولا يمكننا الفكاك عنها.. ولكن مع ذلك فكلنا نعرف أنها دار يُشاب نعيمها بؤس، وراحتها تعب، وصحتها سقم، وحياتها مهددة بفناء.. وهذا أمر محتوم لابد منه.. أما الدار الآخرة فإنها إما أن تكون نعيما لا بؤس معه، وإما أن تكون بؤسا لا نعيم معه.
سكت قليلا، ثم قال (2): وأيضا، فإن الدار الدنيا محدودة إذا ما قيست بالدار الآخرة.. والإنسان في الدنيا عمره محدود، ويخيل لنفسه أنه سيعيش معمرا، ولكن أمده في الحقيقة محدود، فمن خيل إليه بأنه سيعيش عمرا مديدا فإن ما يتخيله من العمر لا يزيد على مائة عام تقريبا، ولينظر فيما مضى من هذا العمر وما بقي، فإن كان ابن عشرين فإنه لم يبق له من هذه المائة التي يتخيل أنه سيعيشها إلا ثمانون، وإن كان ابن ثلاثين فإنه لم يبق له منها إلا سبعون، وإن كان ابن الأربعين فإنه لم يبق له منها إلا ستون، وإن كان ابن خمسين فإنه لم يبق له منها إلا خمسون؛ وهكذا.. ولينظر الإنسان إلى هذه المدة التي يتخيل إنه سيعيشها، ما هي؟ وذلك من خلال إلى الأمور الدورية التي تتكرر في كل عام؛ كشهر رمضان المبارك، ومطلع العام، وشهر ربيع الأول، إلى غير ذلك مما يتكرر كل عام، لينظر من مناسبة في عام إلى مناسبة في عام يليه، يجد أن هذا العام كأنما هو لحظة من اللحظات.
__________
(1) الدنيا والآخرة في الميزان للخليلي، ص 1.
(2) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 1.
القرآن.. والعزاء والشفاء (533)
ثم قال (1): والإنسان إن أمهله الأجل لم يمهله الهرم، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68] فالإنسان مثله مثل نبتة الأرض، التي تنضر صغيرة، وتأخذ في النماء شيئا فشيئا إلى أن تستوفي نماءها، ثم تأخذ في الذبول شيئا فشيئا.. وهكذا الإنسان تأخذ قواه وملكاته تتنامى شيئا فشيئا إلى أن تنتهي إلى الحد الذي حده الله تبارك وتعالى للإنسان، ثم تأخذ بعد ذلك في الانتكاس، فينقص من الإنسان كل ما أوتي؛ سمعه وبصره وقواه البدنية والفكرية؛ وهكذا، إلى أن ينتهي وجوده على ظهر هذا الكوكب المظلم.
سكت قليلا، ثم قال (2): هذه الأرض التي نعيش فيها ثلاثة أرباع مساحتها بحار، والربع الباقي سكن للبشر، وفيه مزارعهم وحدائقهم ومرافق حياتهم، وفيه مساحة لا يستهان بها من القفار.. لننظر إلى هذا القدر من المساحة مع قدر الدار الآخرة التي أعدها الله تبارك وتعالى للمتقين، والتي يقول الله تعالى فيها: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].. وعد الله سبحانه وتعالى عباده جنة، وقد سمى هذه الدار ـ كما أراد سبحانه ـ جنة، ومعنى ذلك أنها جميعا ذات ظلال وارفة، إذ أشجارها باسقة ملتفة بعضها ببعض، هذه الجنة قدرها قدر السموات والأرض جميعا.. نحن إن علمنا قدر الأرض فما هو قدر السموات!؟.. ذلك أمر لا يمكن أن نتصوره.. وما ذكرت الأرض هنا في مقام التشويق إلى الجنة بجانب ذكر السموات إلا من أجل أن الأرض قرارنا، فنحن أعرف بها من السماء، وإلا فالأرض بجانب السماء تُعد أمرا بسيطا لا قيمة له، إذ أن إبعاد هذه السموات لا يمكن أن نتصورها.
سكت قليلا، ثم راح يتساءل قائلا (3): ما قيمة هذه الدنيا أمام الجنة، لقد ورد في
__________
(1) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 1.
(2) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 2.
(3) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 4.
القرآن.. والعزاء والشفاء (534)
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)(1).. وما هو نعيمها؟.. لا يتصوره العقل، إذ أن الله تعالى يقول: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: 17]، أي لا تعلم نفس ما أخفى الله تبارك وتعالى لعباده من النعم في تلك الجنة، إذ الأمر أعظم من أن تتصوره عقول البشر المحدودة.. وإذا جئنا إلى جانب بؤس الدار الآخرة نجد أن الأمر لا يقف عند حد، وناهيكم أن الله تعالى يصب فوق رؤوس الكافرين الحميم، يُصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، فمن الذي يطيق ـ والعياذ بالله ـ ذلك العذاب، وقد جاء في الحديث: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا بن آدم؛ هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب.. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)(2)
نظر إلي، وقال (3): وإذا كانت الدنيا بهذا القدر؛ فهل يعني هذا أننا نتركها رأسا ونتخلى عنها نهائيا؟.. لا؛ إنما علينا أن نُعنى بها بقدر ما نتزود منها للدار الآخرة، إذ الدنيا هي أدنى من أن تكون غاية، ولكنها أيضا وسيلة إلى الدار الآخرة، فيجب أن لا تُهمل، وإنما نمنحها من عنايتنا بقدر ما نتزود منها للدار الآخرة، بحيث نجعلها في أيدينا، لا في قلوبنا، والله تبارك وتعالى إنما أنكر على من يُعنى بالدار الدنيا عناية تجعله يؤثرها على الدار الآخرة، ولذلك لم يجعل الله تعالى في الآخرة نصيبا لمن آثر الحياة الدنيا على الآخرة، فالله تعالى يقول: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا
__________
(1) البخاري (6052)
(2) مسلم (2807)
(3) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 5.
القرآن.. والعزاء والشفاء (535)
مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18 ـ 19]، ويقول: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15 ـ 16]، ويقول: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]، ويقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 37 ـ 41]
سكت قليلا، ثم قال: والله تعالى صور لعباده حقيقة زينة الحياة الدنيا عندما قال: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]، ثم بين ما يدعو إليه، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: 25] ثم ذكر مصير الناس في الآخرة بحسب ما قدموه في هذه الدنيا، فقال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: 26 ـ 27]، وقال: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 45 ـ 46]، وقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
القرآن.. والعزاء والشفاء (536)
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ [الحديد: 20]، ثم دعا إلى المسابقة إلى الجنة بقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]
اتكأ على شجرة كانت بجانبه، ثم قال (1): هكذا نجد أن الله تبارك وتعالى يضرب لنا الأمثال في هذه الدنيا لنكون على بينة من أمرها، فهي وإن راقت للناظر وأبهجت النفس إلا أن وراء هذه البهجة ما وراءها من اضمحلال وانقلاب الأمر رأسا على عقب، بحيث تتحول النضارة إلى ذهول والزهرة إلى انكماش.. وهكذا شأن الحياة الدنيا بخلاف الدار الآخرة التي أعدها الله تعالى للمتقين، فإن الإنسان لا يتوصل إلى تلك الدار بالأماني فالله تعالى يقول: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [النساء: 123 ـ 124]
ثم دعانا إلى التوبة، وحذرنا من التسويف، وخسارة الجنة التي هيأها الله لعباده الصالحين، وكان مما قال (2): واسترسال الإنسان في المعاصي وعدم محاسبته للنفس يجعل نفسه مغلفة فلا تنفذ إليها موعظة ولا تتخللها نصيحة، ولذلك لا يبالي بما يرتكب إذ لا يحسب حسابا للآخرة، وهذا هو الذي يؤثر دنياه على آخرته، فإن الذي أخلد إلى هواه وآثر دنياه ونسي الدار الآخرة هو من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: 18] لأنه أهمل
__________
(1) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 7.
(2) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 14.
القرآن.. والعزاء والشفاء (537)
النظر في آخرته رأسا، وبقي يفكر في شهوات نفسه العاجلة، فهو لا يفكر في الموت، ولا يفكر في الهرم إن أمهله الموت، إنما حسبه أن يشبع رغبات نفسه العاجلة حتى يريح نفسه حسبما يتصور ويتخيل، أما من كان يريد الآخرة فإنه باستمرار يدين نفسه ويعمل لما بعد الموت كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أعطى نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(1)
ثم قال (2): والإنسان في خضم هذه الأحوال عليه أن يكون متعلقا بالرجاء أيضا مشفقا من عذاب الله، فهو عندما يرجو إنما يرجو الله تبارك وتعالى ولا يرجو أعماله، إذ أعمال الإنسان لا تصل به إلى أي قدر، ولكن عليه أن يجتهد، والله تبارك وتعالى هو الموفق، وعندما يخشى إنما يخشى سوء ما ارتكب من الأعمال السيئة، والمؤمن دائما يكون مشفقا على نفسه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 57 ـ 60] فهذا شأن المؤمن عندما يعمل الصالحات؛ يكون مشفقا على نفسه راجيا من الله تعالى قبول عمله، فالرجاء هو الباعث على فعل الطاعات، والشفقة من عذاب الله تعالى هي التي تباعد الإنسان من عمل السيئات، على الإنسان دائما أن يكون بين خوف ورجاء، ولهذا نجد في القرآن الكريم تعليق الخير كله بالخشية من الله تعالى، فالله تعالى يقول: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ [الأعلى: 10]، ويقول: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، ويقول: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: 11].. وهكذا يعد الله تعالى عباده الذين يخشونه، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
__________
(1) الحاكم (7639)
(2) الدنيا والآخرة في الميزان لأحمد الخليلي، ص 15.
القرآن.. والعزاء والشفاء (538)
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]، فالإنسان مطالب بأن يخشى الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، إلا أن سلعة الله غالية، إلا أن سلعة الله الجنة)(1)، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بأن من خاف أدلج، أي أسرع؛ فتلقاه دائما مسرعا حتى لا يدركه العدو الذي يخشاه، ومن أدلج؛ أي من أسرع بلغ المنزل، وهكذا من كان خائفا من معاصيه بحق الله تبارك وتعالى أسرع إلى طاعته عز وجل، ومن أسرع إلى طاعته سبحانه بلغ المنزل بحيث وصل إلى ما يبتغيه من جنة.
وبعد أن حدثنا بهذه الأحاديث وأمثالها، طلبنا منه أن يبيت عندنا، فاستجاب لنا، وفي وقت السمر حدثنا بأحاديث كثيرة عن الجنة ونعيمها.. وقد كان لأحاديثه تأثيرها الكبير في نفسي، بل في أهل قريتنا جميعا.. وكلهم بحمد الله حسن دينه وحاله، وقد توطدت العلاقات بعدها بيننا، وزالت كل الإحن التي كان يزرعها الشيطان فينا مستغلا غفلتنا واستغراقنا في الحياة الدنيا.
ومما حدثنا به قوله: لقد أشار الله تعالى إلى القانون الذي يحكم الجزاء، فقال: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]، فهذه الآية الكريمة تنص على القانون الإلهي الذي يسري على كل شيء في الدنيا والآخرة، وهو يتضمن عكسه أيضا، فلا جزاء للإساءة إلا الإساءة، ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ: 26].. وقد وصف الله تعالى بعض ذلك الجزاء، وتوافقه مع أنواع العمل الصالح: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأحقاف: 13، 14]، وقال: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا
__________
(1) الترمذي (2450)
القرآن.. والعزاء والشفاء (539)
يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا﴾ [الفرقان: 15، 16]، وقال: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: 37]، وقال: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33 ـ 35]، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان: 22].. وغيرها من الآيات الكريمة التي نرى فيها التفاصيل الكثيرة المرتبطة بأنواع الجزاء، وأنواع الأعمال المسببة لها.
ثم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها، فحفها بالمكاره، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: وعزتك لخشيت أن لا يدخلها أحدٌ، ولما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يسلم منها أحد إلا دخلها)(1)
وحدثنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)(2)
وحدثنا عنه أنه سئل: عن الجنة، وما بناؤها؟ قال: لبنة فضة ولبنة ذهب، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم)(3)
__________
(1) الترمذي (2560)
(2) البخاري (6488)
(3) الترمذي (2526)
القرآن.. والعزاء والشفاء (540)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن في الجنة شجرةٌ يسير الراكب في ظلها مائة عام، واقرءوا إن شئتم ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30]، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس أو تغرب)(1)
وحدثنا عنه أنه قال: (غدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قده في الجنة، خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها، يعني خمارها خيرٌ من الدنيا وما فيها)(2)
وحدثنا عنه أنه قال: (لو أن ما يقل ظفرٌ مما في الجنة بدا، لتزخرفت له ما بين خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم)(3)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون)، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: (جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس)(4)
وحدثنا عنه أنه قال: (من مات من أهل الجنة وهو صغيرٌ أو كبيرٌ يدخلون الجنة بني ثلاثين لا يزيدون عليها أبدا.. وإن عليهم التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب)(5)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه، وأزواجه، ونعيمه،
__________
(1) البخاري (3252)، ومسلم (2826)، والترمذي (3292)
(2) الترمذي (1651)
(3) الترمذي (2538)
(4) مسلم (2835)، وأبو داود (4741)
(5) الترمذي (2562)
القرآن.. والعزاء والشفاء (541)
وخدمه، وسرره، مسيرة ألف سنة)(1)
وحدثنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدث وعنده رجلٌ من أهل البادية: (أن رجلا استأذن ربه في الزرع، فقال: ألست فيما شئت؟ يقول: بلى، ولكن أحب ذلك، فيؤذن له فيبذر فيبادر الطرف نباته واستحصاده وتكويره أمثال الجبال، فيقول الرب تعالى: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيءٌ، فقال الأعرابي: إنك لن تجده إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع. فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه (2).
وحدثنا عنه أنه قال: (ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله؛ فمن لم يصدقني فإن الله تعالى يقول: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الليل: 15، 16])(3)
وحدثنا أن رجلا قال: يا رسول الله! أخبرنا عن ثياب الجنة أخلقٌ تخلق أم تنسج بنسج؟ فضحك بعض القوم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مم تضحكون من جاهل يسأل عالما؟ أين السائل؟) قال: أنا ذا يا رسول الله، قال: (تنشق عنها ثمار الجنة)(4)
وحدثنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أينام أهل الجنة؟ فقال: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون)(5)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصطبها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما يحضرنكم، وإن ما بين مصراعين في الجنة كمسيرة أربعين سنة)(6)
__________
(1) الترمذي (2553، 333)
(2) البخاري (2348)
(3) أحمد (5/ 528 /22226)، الطبراني في الكبير (8/ 175/7730)
(4) مسند البزار (6/ 408 /2434)
(5) الطبراني في الأوسط (1/ 282 /920)
(6) مسلم، الترغيب والترهيب: 4/ 498.
القرآن.. والعزاء والشفاء (542)
وحدثنا عنه أنه قال: (ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا حظر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية)، قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: (قولوا إن شاء الله)، فقال القوم: إن شاء الله)(1)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)(2)
وحدثنا عنه أنه قال: (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17])(3)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، يسكنها من أمتي: مَن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام)(4)
وحدثنا عنه أنه قال: (ليس من مؤمن في الجنة إلّا وله جنان كثيرة معروشات وغير معروشات، وأنهار من خمر وأنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من عسل، فاذا دعا ولىّ اللّه بغذائه أتى بما تشتهى نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمّى شهوته، ثم يتخلّى مع إخوانه
__________
(1) ابن ماجة، وابن أبي الدنيا والبزار، الترغيب والترهيب: 4/ 514.
(2) البخاري (7518)، ومسلم (2829)
(3) البخاري (3244)، (4779)، ومسلم (2824)
(4) بحار الأنوار: 8/ 119، عن: أمالي الصدوق ص 198.
القرآن.. والعزاء والشفاء (543)
ويزور بعضهم بعضا ويتنعمون في جنّاتهم في ظلّ ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر، إلى طلوع الشمس متكئا ينظر بعضهم الى بعض)(1)
وحدثنا عنه أنه قال: (من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومَن قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرةً في الجنة، ومن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرةً في الجنة)، فقال رجلٌ من قريش: يا رسول الله، إنّ شجرنا في الجنة لكثيرٌ! قال: (نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33])(2)
وحدثنا عنه أنه قال: (لو أنّ ثوباً من ثياب أهل الجنة، أُلقي على أهل الدنيا لم يحتمله أبصارهم ولماتوا من شهوة النظر إليه)(3)
وحدثنا عنه أنه قال: (كلّ شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه)(4)
وحدثنا عنه أنه قال: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرَ بقلب بشر)(5)
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُذكّر الناس، فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله، هل في الجنة من سماع؟ قال: (نعم، إنّ في الجنة لنهراً حافتاه أبكارٌ من كل بيضاء يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط،
__________
(1) الكافى: 8/ 95.
(2) بحار الأنوار: 8/ 187، عن: أمالي الصدوق ص 362.
(3) بحار الأنوار: 8/ 191، عن: العدة.
(4) بحار الأنوار: 8/ 191، عن: العدة.
(5) بحار الأنوار: 8/ 191، عن: العدة.
القرآن.. والعزاء والشفاء (544)
فذلك أفضل نعيم الجنة)، فسئل: بمَ يتغنّين؟ قال: (بالتسبيح)(1)
بعد أن انتهى الثاني من حديثه، قال الثالث: بورك فيكما وفيما ذكرتماه من أسباب السعادة، وقد كنت مثلكما، جذبتني تلك الأحاديث إلى الهداية، وحولت حياتي عن مسارها تماما.. لكن الذي جذبني أكثر هو تلك الأحاديث التي كان يحدثنا بها معلمنا الكاظم عن المحبة المتبادلة بين الله وعباده الصالحين.. لقد جعلتني تلك الأحاديث أغير كل مسار حياتي لينسجم مع تلك المحبة المقدسة.. ذلك أن أحدنا قد يفرح بمحبة رئيس ووزير، فكيف بمن يحبه الله تعالى؟
وقد كان أول ما حرك قلبي لهذه المعاني الجميلة الراقية أني رأيت أحد أصحابنا يوما يردد قائلا:
كانت لقلبي أهواء مفرقةٌ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده... وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم... شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
فتعجبت من قوله هذا، خاصة وأني كنت أراه هائما في الدنيا وشهواتها وأهوائها.. فاقتربت منه، وسألته عن سر التغير الذي حصل له، فحدثني أنه أحب امرأة حبا شديدا، وبذل لها كل ما يملك، لكنها بعد أن أخذت كل ما لديه هجرته إلى غيره.. ثم حدثني كيف أيس من الحياة، حتى هم بالانتحار إلى أن لقي معلمنا الكاظم، فحدثه من الأحاديث ما أزال عنه كل تلك الآلام التي كان يشعر بها.
وقد جعلني هذا أسير إلى معلمنا الكاظم، وبمجرد أن دخلت مجلسه سمعته يقرأ
__________
(1) بحار الأنوار: 8/ 196.
القرآن.. والعزاء والشفاء (545)
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾ [مريم:96]، ثم قال (1): المودة وهي المحبة، فالله تعالى يرسلها للصالحين بحيث تفيض عليهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وتعيش في داخلهم، وتنزل عليهم من ربهم، وذلك هو غاية ما يتمناه الإنسان في إيمانه وفي عمله.
ثم قال (2): إن للإيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة، فإن الإعتقاد بوحدانية الله، والإيمان بدعوة الأنبياء، والذي يتجلى نوره في روح الإنسان وفكره، وقوله وعمله، بصورة أخلاق إنسانية عالية، وكذلك يتجلى في التقوى والطهارة، والصدق والأمانة، والشجاعة والإيثار، فيها قوة مغناطيسية عظيمة جاذبة وخاطفة.. وحتى الأفراد الملوثون، فإنهم يرتاحون للطاهرين الصالحين، ويتنفرون من القذرين أمثالهم، ولذلك فإنا نراهم ـ مثلا ـ إذا أقدموا على الزواج فإنهم يؤكدون على توفر جانب العفة والطهارة والأمانة والصدق في الزوجة.. وهذا أمر طبيعي، وهو في الحقيقة أول مكافأة يعطيها الله للمؤمنين والصالحين في هذه الدنيا وتصحبهم إلى عالم الآخرة أيضا.. لقد رأينا بأم أعيننا كثيرا من هؤلاء الأتقياء عندما يحين أجلهم ويرتحلون عن هذه الدنيا، فإن الناس يبكونهم، بالرغم من أنهم لم يكن لهم منصب ولا مركز اجتماعي، ولكن الناس يشعرون بفقدهم، ويعتبرون أنفسهم شركاء في مصاب هؤلاء وعزائهم.
ثم قال لنا: ولذلك كان الحب الإلهي هو محرك الاستقامة الأعظم.. فلا يحرك الاستقامة مثل الحب.. فالله لا يحبه إلا المستقيمون.. ومحبة الله لا تورث في أصحابها إلا الاستقامة.. لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
__________
(1) من وحي القرآن (15/ 80)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (9/ 512)
القرآن.. والعزاء والشفاء (546)
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]، وعندما طلبنا منه توضيح معنى الآية الكريمة، قال (1): يذكّر الله تعالى في الآية الكريمة المؤمنين بأن من يرتد منهم عن دينه فسيلقى ما لقى المنافقون الذين ارتدوا، من نكال وبلاء وسوء مصير، ثم إنه لن يضر الله شيئا، ولن يضير المسلمين في شيء، لأنه سيخلى مكانه، الذي كان له في الإسلام، ليأخذه من هو أولى به منه، وأكرم عند الله، وأكثر نفعا للمسلمين، وأعظم غناء في الإسلام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]
ثم ذكر لنا ما ذكرته الآية الكريمة من صفات أولئك الذين سيأتى الله بهم، ويدخلهم في دينه، فقال (2): لقد وصفهم الله تعالى بخمس صفات.. أولها إنه تعالى يحبهم، وحبه تعالى وبغضه شأن من شؤونه لا نبحث عن كنهه، ولا عن كيفيته.. وثانيها أنهم يحبون الله تعالى، وحب المؤمنين لله ذكر في مواضع من القرآن، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)(3).. وثالثها كونهم أذلة على المؤمنين وأعزة على الكافرين، كما قال تعالى في وصفهم: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].. ورابعها كونهم لا يخافون لومة لائم، إذ هم لا يرغبون في جزاء أو ثناء من الناس، بل يعملون العمل لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. وخامسها كونهم يجاهدون في سبيل الله كل المعتدين والظالمين..
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1119)
(2) تفسير المراغي (6/ 142)
(3) البخاري (1/ 14)
القرآن.. والعزاء والشفاء (547)
﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الجمعة: 4] أي ذلك الذي تقدم من الصفات فضل الله يعطيه من يشاء من عباده وبه يمتازون عن غيرهم، وهذه المشيئة وفق السنن التي أقام بها أمر النظام في خلقه.. ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الجمعة: 4] فعلينا ألا نغفل عن فضله ومنته، ولا عما يقتضيه ذلك من الشكر له والإنابة إليه، والإخبات والعبادة له.
ثم ذكر لنا الآيات الكريمة التي يذكر الله تعالى فيها صفات الذين يتشرفون بأعظم محبة في الوجود، وهي محبة الله تعالى ووده، ومنها صفة الإحسان، كما قال تعالى في ذكر حبه للمحسنين: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:195]، وقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:134]، وقال: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران:148]
ومنها صفة الطهارة.. فالله تعالى أخبر عن حبه للمتطهرين بكل أنواع الطهارة حسيها ومعنويها، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة]، وقال: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة:108]
ومنها صفة التقوى.. فالله تعالى أخبر عن حبه للمتقين، فقال: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:76]، وقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:4]
ومنها صفة الصبر.. فالله تعالى أخبر عن حبه للصابرين، فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
القرآن.. والعزاء والشفاء (548)
الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:146]
ومنها صفة التوكل.. فالله تعالى أخبر عن حبه للمتوكلين، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] [آل عمران:159]
ومنها صفة العدل والقسط.. فالله تعالى أخبر عن حبه للمقسطين، فقال: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: من الآية 42] وقال: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة:8]
ومنها صفة التضحية.. فالله تعالى أخبر عن حبه للمضحين بأنفسهم في سبيل نصرة الحق، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4]
ومنها صفة الاتباع.. فالله تعالى أخبر عن حبه للمتبعين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]
ثم حدثنا بحديث عظيم يشير فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شروط المحبوبية، وطريق التحقق بها، وهوقوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه تعالى: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته)(1)
__________
(1) البخاري (5/ 2385)
القرآن.. والعزاء والشفاء (549)
سكت الشاهد الرابع قليلا، ثم قال: لقد كان لتلك الكلمات التي سمعتها من معلمنا الكاظم، تأثيرها الكبير على نفسي، وقد تخلصت بسببها بحمد الله من كل ما يحول بيني وبين الطهارة وتلك المعاني السامية، وهو ما أدخلني في جنة السعادة في الدنيا قبل الآخرة.. فحب الله هو الجنة الحقيقية الكبرى التي لا تساوي أمامها الجنان شيئا.
بعد أن انتهى الثالث من حديثه، قال الرابع: بورك فيكم وفيما ذكرتموه من أسباب السعادة، وقد كنت مثلكم، جذبتني تلك الأحاديث إلى الهداية، وحولت حياتي عن مسارها تماما.. وقد جذبني معها ما سمعته مرارا من معلمي الكاظم من حديثه عن الصحبة الصالحة التي يجدها المؤمنون في دار الجزاء وغيرها، عندما يتميز الخبيث من الطيب.
وقد جعلني ألتذ بهذا المعنى خصوصا، كوني مررت في حياتي ببعض رفقاء السوء، الذين استعملوا كل الوسائل ليكيدوا لي، ويمكروا بي على الرغم من خدماتي الكثيرة لهم، لذلك كانت كل أماني أن أعيش مع الفضلاء الطيبين الذين يخلصون الصحبة، ولا يسيئون إلى من يصحبهم.
وقد رأيت تحقق رغبتي عندما سمعت معلمي الكاظم يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء: 69 ـ 70]، ثم قال (1): إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب، فيه ذرة من خير وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة، في جوار الله الكريم.. وهذه الصحبة
__________
(1) في ظلال القرآن (2/ 699)
القرآن.. والعزاء والشفاء (550)
لهذا الرهط العلوي.. إنما هي من فضل الله، فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها.. إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم.
ثم حدثنا عن الفرحة العظيمة التي عاشها المؤمنون عندما نزلت هاتان الآيتان الكريمتان، فروى لنا عن سعيد بن جبير أنه قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا فلان، ما لي أراك محزونا؟)، قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69] فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبشره (1).
ثم التفت إلي، وقرأ قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، ثم قال (2): في ذلك اليوم الشديد تنفصم عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة، إلا العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.. وتبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأن كلا منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته.. ومن الطبيعي أن الأخلاء يُعين بعضهم بعضا في أمور الحياة، فإن كانت خلتهم على أساس الشر والفساد، فهم شركاء في الذنب والجريمة، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأول إلى عدو، ومن القسم الثاني إلى خليل يشتد حبه ومودته أكثر من ذي قبل، وقد قال في ذلك الإمام الصادق: (ألا كل خلة كانت في الدنيا في غير الله عز وجل فإنها تصير عداوة
__________
(1) تفسير الطبري (8/ 535)
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (16/ 90)
القرآن.. والعزاء والشفاء (551)
يوم القيامة)(1)
ثم حدثنا عن الصلة الدائمة للمؤمنين مع كل من يحبونهم، وفي كل المراحل والنشآت، وذكر لنا من الأمثلة على ذلك إخباره تعالى عن إلحاق الله تعالى للذرية الصالحة بآبائها، تكريما للجميع، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: 21]، أي (2): إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحقهم ربهم بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما، وإن لم يبلغوا بأعمالهم منزلتهم، لتقر بهم أعينهم، ويكمل بهم فرحهم وحبورهم، لوجودهم بينهم.. ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور: 21] أي وما أنقصنا مثوبات الآباء وحططنا درجاتهم، بل رفعنا منزلة الأبناء تفضلا منا وإحسانا.
ثم قال (3): وبعد أن أخبر الله تعالى عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل لهم، أخبر عن مقام العدل وهو ألا يؤاخذ أحد بذنب أحد فقال: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: 21]، أي كل امرئ مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أو ابنا، وقد جعل العمل كأنه دَين والمرء كأنه رهن به، والرهن لا ينفك ما لم يؤد الدين، فإن كان العمل صالحا فقد أدى الدين، لأن العمل الصالح يقبله الله ويصعد إليه، وإن كان غير صالح فلا أداء ولا خلاص، إذ لا يصعد إليه غير الطيب، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ [المدثر: 38 ـ 39] أي إن كل نفس رهن بعملها عند الله لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطاعوه من عملهم وكسبهم.
__________
(1) نور الثقلين، ج 4، صفحة 612.
(2) تفسير المراغي (27/ 26)
(3) تفسير المراغي (27/ 26)
القرآن.. والعزاء والشفاء (552)
ثم أخبرنا أن المؤمن سيجتمع بعائلته الصالحة في الجنة، كما قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ [الرعد: 23]، ولهذا لم يكتف عباد الرحمن بالدعاء لأنفسهم بدخول الجنة، وإنما راحوا يطلبون أن يجتمعوا مع أسرهم جميعا فيها، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، وأخبر عن دعاء الملائكة عليهم السلام لهم بهذا، فقال: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [غافر: 8]، وأخبر بأن ذلك يحصل مباشرة بعد الحساب، ليعود المؤمن إلى نفس أسرته التي كانت في الدنيا، بشرط أن يكونوا من الصالحين، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق: 7 ـ 9]، وهذا يدل على أن لأهل الجنة أسرا مثلما كان لهم في الدنيا.
ثم ذكر لنا أن الفضل الإلهي على عباده الصالحين لا يقف عند ذلك الحد، بل إنه يتعداه إلى ما هو أعظم من ذلك، فقد أخبر الله تعالى عن التواصل الحاصل بين الإخوان والأصدقاء المتساوين في الدرجة والمتشاكلين في الطباع، وهو ما عبرت عنه آيات كثيرة، تذكر أن القرناء يكونون في درجة واحدة، بناء على اتفاق طباعهم ومواقفهم وأنواع جزائهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير:7]، وقال: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات: 22]، وقال: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان:13]
وذكر لنا أن العلاقات الاجتماعية التي تقام بين أهل الجنة أو أهل النار تكون على أساس التشاكل بينهم، ذلك أن كل مرتبة في الجنة أو النار تضم أصنافا معينين، بحسب أعمالهم ومراتبهم، كما قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ
القرآن.. والعزاء والشفاء (553)
دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]، لكن مع ذلك يمكن أن يرتقي الشخص إلى مرتبة أخرى، إن كان له علاقة بها، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]
ثم روى لنا في هذا أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة؟ فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة، فلما قضى صلاته قال: أين السائل عن قيام الساعة؟، فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: ما أعددت لها؟ قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت)(1)
وحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور. لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: ﴿لَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: 62]] (2)
وحدثنا عنه أنه قال: (قال الله عز وجل: المتحابون بجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي)(3)
وحدثنا عنه أنه قال: (ليبعثن الله أقواما يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء)، فجثا أعرابي على ركبتيه، فقال يا رسول الله: جلهم لنا نعرفهم، قال: (هم المتحابون في الله من قبائل شتى، وبلاد شتى يجتمعون على
__________
(1) البخاري (3688)، ومسلم (2639)
(2) النسائي وابن حبان في صحيحه، الترغيب والترهيب: 4/ 20.
(3) أحمد، الترغيب والترهيب: 4/ 21.
القرآن.. والعزاء والشفاء (554)
ذكر الله يذكرونه)(1)
وحدثنا عنه أنه قال: (يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله)، فجثى رجل من الأعراب من قاصية الناس، وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله: ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم، وقربهم من الله، أنعتهم لنا جلهم لنا: يعني صفهم لنا شكلهم لنا، فسر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الأعرابي، فقال: (هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون)(2)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن في الجنة لعمدا من ياقوت عليها غرف من زبرجد لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب الدري) قيل: يا رسول الله: من يسكنها؟ قال: (المتحابون في الله، والمتباذلون في الله، والمتلاقون في الله)(3)
وحدثنا عنه أنه قال: (إن في الجنة غرفا ترى ظواهرها من بواطنها وبواطنها من ظواهرها، أعدها الله للمتحابين فيه، والمتزاورين فيه، والمتباذلين فيه)(4)
وحدثنا عنه أنه قال: (لو أن رجلين تحابا في الله، أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، لجمع الله بينهما يوم القيامة، يقول: هذا الذي أحببته في)(5)
__________
(1) الطبراني، الترغيب والترهيب: 4/ 21.
(2) أحمد وأبو يعلى والحاكم، الترغيب والترهيب: 4/ 22.
(3) البزار، الترغيب والترهيب: 4/ 22.
(4) الطبراني في الأوسط، الترغيب والترهيب: 4/ 22.
(5) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/ 79)
القرآن.. والعزاء والشفاء (555)
وحدثنا عن الإمام علي أنه قال: (خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله، فقال: اللهم، إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني. فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا. قال: ثم يموت الآخر، فتجتمع أرواحهما، فيقال: ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ، ونعم الصاحب، ونعم الخليل.. وإذا مات أحد الكافرين، وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وتسخط عليه كما سخطت علي. قال: فيموت الكافر الآخر، فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه. فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ، وبئس الصاحب، وبئس الخليل)(1)
ثم عقب على هذه الأحاديث جميعا بقوله: ولذلك فإن مجتمع أهل الجنة مملوء بأهل العلم والتقوى والحكمة، لا كما يشيع المنحرفون، من أن الجنة محل للشهوات الحسية، لا للمعاني العقلية والروحية، وكيف تكون كذلك، وفيها الأنبياء والأولياء والصالحين والعلماء؟.. وكلهم يبقى بنفس اهتماماته ورغباته التي رحل بها من الدنيا.
ثم قال لنا: وفضل الله تعالى على المؤمنين بذلك لا يقتصر على الآخرة، بل إنه وفر له في الدنيا كل ما يدعمه ويقويه، ولذلك يذكر الله تعالى فضله على أنبيائه والصالحين من عباده بردهم إلى أهلهم، ونجاتهم معهم، كما قال تعالى عن لوط عليه السلام: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/ 164)
القرآن.. والعزاء والشفاء (556)
إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [الأعراف: 83]، وذكر نوحا عليه السلام، فقال: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: 76]، وذكر أيوب عليه السلام، فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 43]
ثم ختم حديثه لنا حول هذا الموضوع بقوله: احرصوا على أن تجعلوا جميع علاقاتكم في الدنيا بالله حتى تتصل وتدوم، فـ (ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل)، وتأسوا في ذلك بما كان عليه الأنبياء والصالحون من عدم الاكتفاء بصلاحهم، وإنما يجتهدون في إصلاح أهليهم، كما قال تعالى عن إسماعيل عليه السلام: ﴿اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أهلهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: 54، 55]، وكما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر أهله بها، فقال: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه:132]
القرآن.. والعزاء والشفاء (557)
بعد أن رأيت كل تلك المشاهد الجميلة التي عاينت فيها أثر القرآن الكريم العظيم في ملأ النفوس بكل ألوان العزاء والسلوى، وتألمت كثيرا لأني لم أستعملها وقت حاجتي إليها، وجدت نفسي أسير في نفس الحارة التي كنت أسكن فيها، وكأني لم أغادرها.. ثم وجدت الإمام والجيران وذلك الذي أقرضني كلهم مجتمعون حول باب بيتي يدقونه.
وعندما رأيتهم، لم أدر ما الذي سأفعله، وكيف أبرر لهم غيابي، فقد خشيت أن يتوهموا أنه كان فرارا منهم، ومن الحق الذي وجب لي عليهم.. لكني عندما وصلت إليهم، وحييتهم، وجدتهم يحيونني بحرارة، بل عانقني بعضهم، ومنهم ذلك الذي أقرضني، وقد قال لي، والدموع تتنزل من عينيه: أنا أعتذر إليك بشدة.. لقد كنت قاسيا معك، فلا أحكام الشريعة راعيت، ولا ما تتطلبه الأخلاق والمروءة والنبل.
قلت: لا حرج عليك.. فأنت أيضا معذور، فلولا الحاجة التي أصابتك، لما جئتني لتطلب ما أقرضتني.. ولكني أصارحك بأني لم أستطع توفيره لك بعد.. وسأحاول توفيره في أقرب وقت.
قال: لا تقلق.. فقد زالت حاجتي إليه، وقد أنزل الله علي من فضله ما أغناني عنه.
قلت: حتى ولو أثريت، فإنه لا يزال حقك في ذمتي، وأنت تعرف أن روح المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه.
قال: لقد قضى الله عنك بما هو أفضل وأعظم.
قلت: كيف؟
قال: لقد كان حلمي في كل حياتي أن أرى الرؤى التي يراها الصالحون، والتي تثبتهم
القرآن.. والعزاء والشفاء (558)
وتزيد إيمانهم.. وقد حصل ذلك في نفس الليلة التي ارتكبت فيها حماقتي معك.. لقد زراني حينها بعض الصالحين، ذكر لي أن اسمه الكاظم.. ثم تحدث معي بأحاديث كثيرة في الإيمان والأخلاق، جعلتني أحتقر نفسي، وأحتقر سلوكي معك.. ومنذ استيقظت من نومي وأنا أبحث عنك.. والحمد لله ها قد يسر الله لي أن ألتقي بك بعد أن فقدت الأمل في ذلك.
تعجبت كثيرا من رؤياه، ثم طلبت منه أن يصف لي الرجل الصالح الذي رآه، فإذا بها نفس مواصفات المعلم.. فقلت من حيث لا أشعر: إنها صفات المعلم.
تعجب من قولي، وقال: أجل.. لقد ذكر لي عند تعريفه بنفسه أنه معلم.
قلت: فهل تحفظ ما ذكره لك في رؤياك؟
قال: لقد ذكر لي كلاما كثيرا.. وكان كله مقتبسا من القرآن الكريم، ومن المعاني العظيمة الواردة فيه.. وأنا الآن أشعر بها وأعيشها، لكني لم أستطع أن أحفظها بحروفها، وقد تأسفت كثيرا لذلك.
بعد أن قال هذا، قال الإمام: أنا أعتذر إليك أيضا، فقد رحت أعاتبك، بل أوبخك من غير أن أعلم حقيقة ما حصل، فأرجو أن تبرئ ذمتي، وأرجو أن تبرئ هذا المسكين أيضا، فمنذ صباح تلك الليلة، وهو يأتي إلى المسجد، ليذكر لكل من يعرفك بأنه أخطأ في حقك..
وهكذا تكلم جميع من حضر، واعتذروا لي، فعذرتهم وشكرتهم.. ثم دخلت بيتي، وبدأت أعيد تسجيل كل ما حصل، وتنظيمه وترتيبه، إلى أن اكتمل في هذا الكتاب الذي تقرؤونه.
وحتى لا أحرج أهل قريتي، لأنهم يعرفون قصتي، رحت أضع بعض النسخ في القرى المجاورة.. وقد شاء الله أن يصل بعضها إلى إمام مسجدنا، ثم إلى ذلك الذي
القرآن.. والعزاء والشفاء (559)
أقرضني، وقد جعلهم ذلك يدقون علي باب بيتي، وفي وقت متأخر من الليل، وقد خشيت أن يكون ذلك بسبب ما ذكرته في البداية عنهم.. لكني وجدت الأمر مختلفا تماما، فما إن خرجت حتى راح ذاك الذي أقرضني يقبل يدي ورأسي، ويقول: الحمد لله.. كل هذه الكلمات التي كتبتها هي التي سمعتها من معلمي الكاظم، والتي تأسفت كثيرا أني نسيتها بعد استيقاظي.
ثم انتحى بي الإمام على جنب، وقال: أنت تعرف أن العالم الآن يشبه القرية الصغيرة، فقد صار بعض أهل قريتنا يتواصلون مع أصحاب الملل والنحل والأهواء المختلفة، وينخدعون بأفكارهم وآرائهم ويحتقرون الإسلام والقرآن لذلك.. ولذلك أرجو إن أتيحت لك فرصة لقاء معلمك أن تطلب منه أن يعلمك ما قد يفيدنا في هذا الجانب، حتى يعلم الجمع أن الله أقام حجته البالغة على خلقه.. وأنه لا يشذ عنها إلا من عطل عقله وجميع لطائفه.
وعدته بأن أفعل ذلك.. وما إن دخلت بيتي حتى رأيت معلمي، وهو يدعوني لتجهيز نفسي لرحلتي الجديدة إلى [القرآن.. والحجة البالغة] (1)
__________
(1) هو عنوان الكتاب السابع من السلسلة.
القرآن.. والعزاء والشفاء (560)
هذا الكتاب هو المقدمة السابعة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثانية من خصائص القرآن الكريم، خاصية العزاء والسلوى وشفاء ما في الأنفس والصدور، والتي يشير إليها قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، إضافة إلى أن الله تعالى يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بكونها رسالة بشارة، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا ورحمة للعالمين.. وهذا المعنى هو نفسه المعنى الذي يحمله العزاء والسلوى والشفاء.
وبناء على هذا حاولنا في هذه الرواية أن نحصي الآلام الكبرى التي تعتري النفوس، ثم الأدوية القرآنية التي تُعالج بها، مع تبسيطها وتيسيرها وتوضيحها بالمشاهد والشواهد التي تيسر التعامل معها.
وقد قسمنا الكتاب بحسب الآلام التي تعتري النفوس إلى خمسة أقسام، هي:
1. المتألمون، سواء كانوا مرضى، أو ممن فقدوا أحباءهم، وغيرهم.
2. الفقراء والمساكين الذين يتألمون بسبب فاقاتهم وحاجاتهم المادية.
3. المستضعفون الذين يتألمون بسبب ضعفهم وهوانهم وتسلط المتكبرين عليهم.
4.المخطئون الذين يتألمون بسبب أخطائهم، وقد يتوهمون أنها لا تُغفر.
5.المحبطون واليائسون والمكتئبون، والذين يتألمون بسبب كل ذلك.
وبما أن أمثال هذه المعاني تحتاج إلى المبلّغ والمبيّن الذي يستطيع أن يستعمل الأدوية القرآنية بطريقة صحيحة، فقد جعلنا بطل هذه الرواية هو من يقوم بذلك.. والرواية تحمل الكثير من المشاهد التي رآها تلميذ القرآن في رحلته إلى تلك البلاد التي عاين فيها أولئك المتألمين، وكيف تحولوا إلى سعداء بفعل تعليمات ومواعظ معلمهم الكاظم، والتي كان يستقيها من القرآن الكريم.