الكتاب:القرآن وتأويل الجاهلين ج2
الوصف: رواية حول كبرى التأويلات المنحرفة والردود عليها
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1443 هـ
عدد الصفحات: 712
ISBN: 978-620-3-85818-1
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
هذا الكتاب هو المقدمة الخامسة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثالث من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [تأويل الجاهلين]
ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي لا يقتصر تأويلها على الانحراف في فهم القرآن الكريم فقط، بل له تأثيره الواقعي أيضا، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، والتي يمكن أن تشمل الدين، ويمكن أن تشمل الدنيا.
ومع كثرة التأويلات المنحرفة عن التنزيل، والتي تكاد تشمل كل آية من القرآن الكريم إلا أننا وجدنا من خلال تطبيق ما أسميناه [التأويل الواقعي] أن من يُطلق عليهم لقب [السلفية]، أو [أهل الحديث]، أو [الوهابية]، وغيرها من الألقاب، هم أجدر الناس بهذا النوع من التأويل.
ولذلك نراهم يخالفون الأمة جميعا وبمدارسها المختلفة في تلك التأويلات، والتي لم تقتصر على الجانب النظري فقط، بل تعدته إلى إحداث فتن كثيرة في الواقع.
وقد تجلت في بدايتها بتكفير الأمة من خلال اتهامها بالتعطيل والجهمية، نتيجة تنزيهها لله تعالى عن الجسمية ولوازمها.
ثم ترقت إلى ما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تأويل كل الآيات الواردة في المشركين وتطبيقها على المسلمين بجميع مدارسهم، وعدم الاكتفاء بذلك، بل محاربتهم وسفك دمائهم.
ثم ترقت إلى ما حصل في عصرنا من إنكار للحقائق العلمية القطعية، وتأويل الآيات القرآنية بخلاف ما يقتضيه العلم، مما جر فتنة كبيرة لا نزال نعاني آثارها.
ومثل ذلك ما حصل في كل تاريخ هذه الطائفة من تشويه للأنبياء عليهم السلام، وتفسير ما ورد في القرآن الكريم من المتشابه في شأنهم بالروايات الإسرائيلية، وبذلك شوهوا القيم النبيلة التي ضرب الله تعالى لها الأمثال بتلك القصص التي أوردها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/12)
هذا هو الجزء الثاني من كتاب [القرآن وتأويل الجاهلين]، وهو يتضمن ما يلي:
أولا ـ تكملة الفصل الثاني المعنون بـ[المؤلون .. والتجسيم والتشبيه]، بثلاثة مباحث:
أولها، حول الأركان التي يقوم عليها التجسيم والتشبيه، والآيات التي يستند إليها أصحاب منهج الإثبات في الاستدلال بها عليها، مع الرد العلمي عليها.
والثاني، هو استعراض حجج أصحاب منهج الإثبات فيما يطلقون عليه [الصفات الذاتية]، والرد العلمي عليها.
والثالث، هو استعراض حجج أصحاب منهج الإثبات فيما يطلقون عليه [صفات الأفعال]، والرد العلمي عليها.
مع العلم أنا لم نقتصر في هذه المباحث على استدلالاتهم القرآنية، وإنما ضممنا إليها ما يستدلون به من أحاديث تدعمها، وقد تضمنت الردود كذلك ما ذكره المنزهة في تأويلها، أو في بيان عدم ثبوتها.
ثانيا ـ تناولنا الفصل الثالث من الكتاب، والذي يحوي الرد العلمي على التأويلات المشوهة للأنبياء عليهم السلام من خلال استعمال بعض ما ورد في القرآن الكريم من المتشابهات، وبينا الفهم الصحيح لها، والذي ينسجم مع عصمتهم عليهم السلام، كما ينسجم مع دعوة القرآن الكريم للاهتداء والاقتداء بهم.
ثالثا ـ تناولنا الفصل الرابع؛ والذي رددنا فيه بتفصيل على ما ورد في تفاسير السلفية الحديثة للآيات التي تتحدث عن الكون، والتي خالفوا فيها جمهور المسلمين الذين لم يروا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/12)
فيها أي تعارض بينها وبين العلم، وذكرنا التفسير الصحيح لها، والذي ينسجم مع العلم القطعي الحديث، بل يبين مدى دقة القرآن الكريم في التعبير عن تلك الحقائق العلمية.
ثم ختمنا الكتاب بنهاية الرواية، وما حصل من أحداث لتلاميذ الراسخ والمؤلف، والتي نترك للقارئ الكريم الاطلاع عليها.
وننبه إلى أننا في ردودنا على التأويلات المنحرفة لم نقتصر على ما يذكره المخالفون لهم في الرواية، وإنما ذكرنا ذلك، أثناء عرض التأويلات نفسها، لأن عرضها الصحيح يكفي في أحيان كثيرة للرد عليها.
بالإضافة إلى أننا، وخصوصا في التفاصيل المرتبطة بتضعيف الأحاديث التي يعتمدون عليها، ذكرنا ذلك في الهوامش، حتى لا نشغل القارئ بالتفاصيل التي قد لا يحتاج إليها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/13)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسائل المرتبطة بالمصادر التي يُتعرف بها على كيفية التعامل مع الإضافات المنسوبة لله تعالى في القرآن الكريم والسنة المطهرة، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك ننتقل إلى المسألة الثالثة، والمرتبطة ـ كما ذكرتم ـ بالأركان التي لا يمكن التعرف على صفات الله تعالى من دونها، والتي ينكرها هؤلاء المعطلون.
قال أحد الشيوخ: لقد رأينا أن هؤلاء الجهمية المعطلة، يعطلون سبع أركان كبرى يقوم على معرفتها كل ما يرتبط بصفات الله تعالى الذاتية والفعلية .. ولذلك نطلب منكم سيادة القاضي، أن تطلب منهم أن يجيبونا عن كل صفة نتحدث عنها، حتى لا يفروا كعادة كل المبتدعة.
قال القاضي: فما الصفة الأولى منها؟
قال أحد الشيوخ: أولها ـ والتي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلالها ـ إثبات الحد لله تعالى .. والذي يميزه عن خلقه.
قال القاضي: ما تقصدون بهذا؟
قال أحد الشيوخ: الفرق الأكبر بيننا وبين المعطلة هو في هذا الجانب؛ فهم يعتقدون أن الله مطلق لا حدود له، ونحن نرى عكس ذلك .. فالمطلق عدم محض لا وجود له.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/14)
قال آخر: ولهذا أولى مشايخنا هذا الركن اهتماما كبيرا، بل جعلوه المقدمة الأولى لكل صفات الله تعالى، بل اعتبروه من أصول العقائد التي تفرق بين السني والبدعي، بل بين المؤمن والكافر .. فالمؤمن والسني هو الذي يقول بمحدودية الله .. والكافر والبدعي هو من يقول بعدم محدوديته.
قال آخر: ومن الكتب التي ألفها شيوخنا في تقرير هذا المعنى والبرهنة عليه ما كتبه الحافظ محمود الدشتي بعنوان [إثبات الحد لله عز وجل وبأنه قاعد وجالس على عرشه]، والذي لقي العناية الكبيرة من المتأخرين من أصحابنا تحقيقا وطبعا ونشرا.
قال آخر: وقد قال شيخنا عثمان بن سعيد الدارمي في ذلك: (زعمت الجهمية أن ليس لله حد، وإنما يعنون بهذه الكلمة أن الله تعالى لا شيء، إذ كان معلوما عند الخلق كلهم أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وصفة، فقولهم: لا حد له أنه لا شيء، وقد قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19]، ومذهب علماء السلف: أن الله هو الأول القديم، وله حد لا يعلمه غيره، ولكن ليس لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن عليهم أن يؤمنوا بذلك، ويكلوا علم ذلك إلى الله تعالى) (1)
قال آخر: وقد نقل شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية الكثير من النصوص في كتابه [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] التي تدل على أن إثباب الحد لله، واعتباره من العقائد الأساسية التي يقتضيها الإيمان، ومن تلك النقول ما نقله عن الدارمي ـ مقرا له ـ في كتابه [نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد] قال فيه: (باب الحد والعرش: وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من
__________
(1) إثبات الحد لله عز وجل، الدشتي، ص 12.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/15)
العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله تعالى لاشيء، لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدًا موصوف لامحالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء) (1)
قال آخر: وهكذا نقل عن الخلال وعن أبي يعلى وغيرهم ممن يسميهم أهل السنة (2) النقول الكثيرة التي تنص على أن من ضروريات المعرفة الإلهية إثبات الحد لله، ومن تلك الروايات ما رواه الخلال عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك ـ وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ ـ قال: (في السماء السابعة على عرشه بحد)، فقال أحمد: (هكذا هو عندنا) (3)
قال آخر: ومنها ما رواه عن حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق بن راهويه: (هو على العرش بحد؟) قال: (نعم بحد)، وعن ابن المبارك أنه قال: (هو على عرشه بائن من خلقه بحد) (4)
قال آخر: وقد علق شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الروايات بقوله: (ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير: قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا، أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات، فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه،
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 605)
(2) بيان تلبيس الجهمية (2/ 612)
(3) نقض تأسيس الجهمية (1/ 428)
(4) نقض تأسيس الجهمية (2/ 34)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/16)
وذكر الحد .. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد) (1)
قال آخر: وفوق ذلك كله؛ فإننا لو لم نؤمن بالحد، لوقعنا فيما وقع في أهل الجهل والتعطيل من إنكار الكثير من الأحاديث والأخبار التي تصف الله تعالى بالحد.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن عبد الله بن سلمة أنه قال: أرسل ابن عمر إلى ابن عباس يسأله، هل رأى محمد ربه، فأرسل إليه ابن عباس: أن نعم، قال: فرد عليه ابن عمر رسوله: أن كيف رآه، قال: (رآه في روضة خضراء روضة من الفردوس دونه فراش من ذهب، على سرير من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة أسد، وملك في صورة نسر) (2)، فهذا الحديث، وبهذه الصورة لا يمكن حمله إلا على محدود ومن الجهات الست، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رآه في روضة خضراء تحيط به من كل الجوانب، وهذا ما يرد على ما يراه بعض إخواننا من السلف من أنه محدود من جهة السفل فقط.
قال آخر: ومن الروايات القريبة من تلك الرواية ما روي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني جبريل فقال: إن الرب اتخذ في الجنة واديا من مسك أفيح، فإذا كان يوم الجمعة فينزل عن كرسيه من عليين، وحف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر، ويجيء النبيون فيجلسون على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف فيجلسون على ذلك الكثيب، ويتجلى لهم ربهم، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فاسألوني قال: فيسألونه الرضا، قال: فليسوا إلى شيء أحوج
__________
(1) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 ـ 443)
(2) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: ص 198، والآجري في الشريعة: ص 494، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 35، والبيهقي في الأسماء والصفات: ص 557 ـ 558.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/17)
منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا النظر إلى وجه ربهم عز وجل) (1)، وهذا الحديث واضح في دلالته على كون الله تعالى محدودا من الجهات جميعا.
قال آخر: ومن الروايات الواردة في هذا عن أبي النضرة قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة على هذا المنبر فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (آتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب، فيقال لي: من أنت؟ فأقول: أنا محمد؟ فيفتح لي، فيتجلى لي ربي عز وجل فأخر له ساجدا وهو على سريره أو على كرسيه) (2)، وفي رواية: (حتى آتي الجنة فأخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيفتح لي، وأحيا ويرحب بي؟ فإذا دخلت الجنة نظرت إلى ربي ـ عز وجل ـ على عرشه فخررت ساجدا)
قال آخر: بل ورد في الرواية في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذن على الله في داره، فقد ورد فيها الحديث بهذه الصيغة، قال ابن القيم: (وفي بعض ألفاظ البخاري في صحيحه (فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه) (3)، قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين هكذا قال في داره في المواضع الثلاث يريد مواضع الشفاعات التي يسجد فيها ثم يرفع رأسه) (4)
قال آخر: وقال شيخنا ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري على هذا الحديث: (هذا الحديث ليس فيه إشكال إلا قوله: (أستأذن على ربي في داره)، فيقال: إن دار الله عزوجل التي جاءت في هذا الحديث لا تشبه دور البشر، تكنه من الحر ومن البرد ومن المطر، ومن الرياح، لكن هي دار الله أعلم بها) (5)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في بعض الأحاديث التي اهتم بها سلفنا ابتداء
__________
(1) الدارمي في الرد على الجهمية: ص 45، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 48، 49، والذهبي في العلو: ص 28. قال الذهبي: هذا حديث مشهور وافر الطرق.
(2) الدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 347، أحمد: (1/ 281 ـ 282، 295 ـ 296)
(3) البخاري (7002) معلَّقًا.
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية (53)
(5) ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري، 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/18)
من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ما يؤكد هذا المعنى أي تأكيد.
قال آخر: فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في غرائب حديث النزول هذه الرواية التي تثبت الحد لله تعالى ومن جميع الجهات، وهي: (ثم تبعث الصيحة فلَعَمْر إلهك ما تدعُ على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك عز وجل السماء .. قلت: يا رسول الله فما يعمل بنا ربنا جل وعز إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قِبَلكم بها فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة) (1)
قال آخر: فهذه الرواية تذكر أن الله العلي العظيم يطوف في الأرض، وأنه يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح بها .. وقد قال شيخنا ابن القيم بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة .. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 184)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/19)
إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان، .. وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم) (1)
قال آخر: بل إنه لم يكتف بذلك، وإنما راح ينقل عن شيخنا أبي عبد الله بن منده مقرا له قوله: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة) (2)
قال آخر: بل إنه لم يكتف بذلك .. وإنما راح يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه الكثير من الصفات التي ينكرها أهل التجهيل والتعطيل والتأويل، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها .. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله .. والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل .. وقوله: فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح) (3)
قال آخر: ومثله شيخنا الدارمي الذي رد بشدة على إشكالات المعطلة التي يطرحونها على هذه الرواية، فقال: (يقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق، ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته، وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش، ولا الحملة، ولا السموات والأرض
__________
(1) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.
(2) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.
(3) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/20)
ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به) (1)
قال آخر: وبناء على هذا كله؛ فإننا مع عدم اعتبارنا [الجسم] صفة لله تعالى، إلا أن معناها صحيح، إن أرادوا به ما ذكرناه، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه [موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول]، أو ما يسمى [درء تعارض العقل والنقل] في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]: (فإنّه لا يدلّ على نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا على نفي ما يسمّيه أهل الاصطلاح جسماً بوجه من الوجوه) (2) .. ومراده من الصفات اليد والوجه والساق، وغيرها، فهو يعتقد أنّ الجميع يوصف به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل، بل بنفس المعنى اللغوي.
قال آخر: وورد في نفس الكتاب: (وأمّا ذكر التجسيم وذمّ المجسّمة، فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمّة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ الله جسم أو ليس بجسم) (3)
قال آخر: وذكر في كتابه [الجواب الصحيح] أنه لم يُنقل في الشرع ولا عن الأنبياء السابقين ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين ومن تبعهم من سلف الأمة إثبات هذا اللفظ أو نفيه، فقال: (وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر، لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول
__________
(1) نقض الدارمي على المريسي (1/ 457)، وبيان تلبيس الجهمية (3/ 242)
(2) درء تعارض العقل والنقل، 1/ 100.
(3) درء تعارض العقل والنقل:1/ 189.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/21)
من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء)
قال آخر: وقال في شرح حديث النزول: (وأما الشرع: فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع)
قال آخر: وقال: (وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة الحديث، والتفسير، والتصوف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول: إن الله جسم، وإن كان أيضاً: ليس من السلف والأئمة من قال: إن الله ليس بجسم)
قال آخر: وعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة .. والثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل) (1)، ومراده من التعطيل والتحريف ـ كما هو معلوم ـ تعطيل الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها.
قال آخر: ولهذا؛ فإن المميعين من أصحابنا مخطئون في إنكارهم كون شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بالجسمية، بل ينفون عنه التجسيم بكل الوجوه، لأنهم يمارسون التقية بهذا، ويخالفون شيخهم وما تطفح به كتبه .. فشيخ الإسلام لم ينف التجسيم عن الله، وإنما نفى لفظ التجسيم، وكل كتبه تدل على أنه يقول بالتجسيم.
__________
(1) منهاج السنة النبوية 2/ 225
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/22)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله في كتابه العظيم [منهاج السنّة]: (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم .. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه .. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً) (1)
قال آخر: فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه .. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام .. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً .. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى .. فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول.
قال آخر: وقال في كتابه [شرح حديث النزول]: (فمن قال إنّ الله جسم، وأراد بالجسم هذا المركّب فهو مخطئ، ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله فقد أصاب في نفيه) (2)
قال آخر: وهذا إقرار منه بأنّ الله تعالى جسم، ولكنّه لا يماثل سائر الأجسام، من حيث إنّ تركيبها حادث؛ فهو لا ينفي الجسمية عن الله تعالى، وإنّما ينفي عنه هذا التركيب الحادث، ويدلّ على ذلك قوله: (ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله، فقد أصاب في نفيه) لهذا التركيب، وحسْب.
قال آخر: بل إنه يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا .. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، وقد قال في ذلك: (فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك
__________
(1) منهاج السنّة: 1/ 180.
(2) شرح حديث النزول: 237.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/23)
لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره .. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه، ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم .. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره .. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود) (1)
قال آخر: ولذلك؛ فإن شيخ الإسلام ابن تيمية يضع المعطلة بين أمرين: إما أن يقولون بتجسيم الله، أو يقولوا بعدم وجوده .. ذلك أن الوجود ـ كما يذكر ـ قاصر على الأجسام.
قال آخر: ولهذا نراه يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله تعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 364)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/24)
أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك .. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود، ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم، لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك، ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري، فإن هذا من باب المعارض، وسنتكلم عليه، وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا) (1)
قال آخر: وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه [بيان تلبيس الجهمية] يكاد يدافع عن لفظ [الجسم] بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً) (2)
قال آخر (3): وسبب ذلك أن الإخبار عن الله تعالى لا يشترط فيه التوقيف، وهو أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و (الموجود) و (القائم بنفسه)، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيء، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيء؛ فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه (4).
قال آخر (5): وذلك بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقاً يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
قال آخر (6): وبناءً على ما تقدم يمكن تقسيم الألفاظ المجملة، أي التي يرد استعمالها في النصوص إلى ألفاظ ورد استعمالها ابتداءً في بعض كلام السلف، كلفظ (الذات) ولفظ
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 370)
(2) بيان تلبيس الجهمية:1/ 101.
(3) العرش للذهبي (1/ 239)
(4) بدائع الفوائد (1/ 161)، مجموع الفتاوى (6/ 142 ـ 143)
(5) العرش للذهبي (1/ 240)
(6) العرش للذهبي (1/ 240)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/25)
(بائن)، فهذه الألفاظ تحمل معان صحيحة دلت عليها النصوص .. وهذا النوع من الألفاظ يجيز جمهور أهل السنة استعمالها، وهناك من يمنع ذلك بحجة أن باب الإخبار توقيفي كسائر الأبواب، والصواب أنه ما دام المعنى المقصود من ذلك اللفظ يوافق ما دلت عليه النصوص، واستعمل اللفظ لتأكيد ذلك فلا مانع، كقول أهل السنة: (إن الله استوى على العرش بذاته)، فلفظة (بذاته) مراد بها أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له .. وكقولهم: (إن الله عالٍ على خلقه بائن منهم)، فلفظة (بائن) يراد بها إثبات العلو حقيقة، والرد على زعم من قال إن الله في كل مكان بذاته.
قال آخر: وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر ذلك: (والمقصود ـ هنا ـ أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما تُوقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة) (1)
قال آخر (2): فيستفاد من كلام شيخ الإسلام أن الألفاظ على أربعة أقسام، أولها وأشرفها الألفاظ المأثورة، وهي التي وردت بها النصوص .. وثانيها الألفاظ المعروفة، وهي التي بُيِّنَت معانيها .. وثالثها الألفاظ المبتدعة، التي تدل على معنى باطل .. والألفاظ المبتدعة، التي تحتمل الحق والباطل.
قال آخر: ولذلك لما اعترض الخطابي على استعمالها بقوله: (وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي، فيقال له: إنما أُحْوِجْنَا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة، فلزم قبولها ولم يجز رَدُّها، فأين
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 271)
(2) العرش للذهبي (1/ 241)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/26)
ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود، كما نقول يد لا كالأيدي!؟) (1) رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية من وجوه منها (أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا: إن له صفة هي الحد، كما توهمه هذا الراد عليهم، وهذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل؛ فإن هذا الكلام لا حقيقة له؛ إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات ـ كما وصف باليد والعلم ـ صفة معينة يقال لها الحد، وإنما الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره) (2)
قال آخر: وبذلك؛ فإن شيوخنا لم يثبتوا بهذه الألفاظ صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة، (بل بينوا بها ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته من خلقه وثبوت حقيقته) (3)
قال آخر (4): وبناء على هذا كله؛ فإن الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، والتي لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، كلفظ (الجسم) و (الحيز) و (الجهة) و (الجوهر) و (العرض)؛ فإنه يطلب من المتحدثين بها أن يفصلوا ما يريدون منها؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قُبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك رُدَّت.
قال آخر (5): وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلى المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة على قولهم، فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62]، وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل على مطلوبهم، ولما قالوا: ما تقول في القرآن أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم أهو الله أو غير الله؟
__________
(1) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442)
(2) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 ـ 443)
(3) نقض تأسيس الجهمية (1/ 445)
(4) درء تعارض العقل والنقل (1/ 228)
(5) درء تعارض العقل والنقل (1/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/27)
قال آخر (1): ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث ـ وكان من أحذقهم بالكلام ـ ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً، فأجابه الإمام أحمد، بأن هذا اللفظ لا يُدرى مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به ولا بمدلوله، وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يلد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول هو جسم ولا ليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام.
قال آخر (2): فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً، أما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلى الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلى ما يزعمه من العقليات أو ممن يدَّعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل على باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء .. فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدّعونها إما بألفاظهم .. وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم.
قال آخر (3):وحينئذ يقال لهم الكلام إما أن يكون في الألفاظ .. وإما أن يكون في المعاني .. وإما أن يكون فيهما .. فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً .. وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 230)
(2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 231)
(3) درء تعارض العقل والنقل (1/ 231)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/28)
المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب.
قال آخر (1): وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة؛ فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منها تلبيس وإيهام، فلابد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
قال آخر (2): ولهذا؛ رد شيوخنا على من ظن أن ذم السلف والأئمة للكلام إنما لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة كلفظ (الجوهر) و (الجسم) و (العرض)، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو.
قال آخر (3): وليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث الألفاظ، فذموه لاشتماله على معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة، ومخالفته للعقل الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل قطعاً.
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات الحد لله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (1/ 232)
(2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 232)
(3) درء تعارض العقل والنقل (1/ 233)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/29)
الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. فبالسمع والعقل اللذين أمر الله تعالى باستعمالهما نتحصن مما ذكروه من الإفك العظيم على الله.
قال آخر: وبما أن شيوخنا الأفاضل اعتمدوا في إثبات الحد لله تعالى على ما ذكره سلفهم؛ فإنا نعتمد على نفيه على ما ذكره سادة السلف الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم أعرف الخلق بالله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أعلم بالقرآن الكريم من كل سلفهم الذين خلطوا بفهمهم ما اقتبسوه من اليهود وتلاميذ اليهود.
قال آخر: ومن سادات هؤلاء الأئمة الإمام علي الذي قال في خطبة له جوابا لرجل سأله عن وصف محدد له: (انظر أيها السائل: فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضئ بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله سبحانه؛ فإن ذلك منتهى حق الله عليك، واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا، فاقتصر على ذلك، ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين)، ثم قال: (هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه، لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلصة إليه ـ سبحانه ـ فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرويات
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/30)
خاطرة من تقدير جلال عزته) (1)
قال آخر: وقال: (سبحانه! هو كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته) (2) .. وقال: (إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد) (3) .. وقال: (كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله) (4)
قال آخر: وقال: (لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته) (5) .. وقال: (من وصف الله فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال: أين؟ فقد غياه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه) (6)
قال آخر: وقال: (كمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله فقد قرنه) (7)
قال آخر: وقال: (قد جهل الله من استوصفه، وتعداه من مثله، وأخطأه من اكتنهه، فمن قال: أين؟ فقد بوأه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: إلام؟ فقد نهاه، ومن قال: لم؟ فقد علله، ومن قال: كيف؟ فقد شبهه، ومن قال: إذ؛ فقد وقته، ومن قال: حتى؛ فقد غياه، ومن غياه فقد جزأه، ومن جزأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، ومن بعضه فقد عدل عنه) (8)
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 91 وبحار الأنوار: 4/ 277.
(2) الكافي: 1/ 135 / 1.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 163، بحار الأنوار: 60/ 348.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 112، بحار الأنوار: 6/ 143 / 9.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 49، شرح الأخبار: 2/ 312.
(6) الكافي: 1/ 140.
(7) الاحتجاج: 1/ 473 / 113.
(8) تحف العقول: 63، التوحيد: 36/ 2.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/31)
قال آخر: وقال: (لم تره سبحانه العقول فتخبر عنه، بل كان تعالى قبل الواصفين به له) (1) .. وقال: (الحمد لله الذي لا يتعاوره زيادة ولا نقصان، ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان (2)
قال آخر: وقال: (الحمد لله الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض، بل وصفته بفعاله، ودلت عليه بآياته) (3) .. وقال: (لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية) (4)
قال آخر: وقال: (لا يوصف بالأزواج، ولا يخلق بعلاج، ولا يدرك بالحواس .. بل إن كنت صادقا أيها المتكلف لوصف ربك، فصف جبريل وميكائيل وجنود الملائكة المقربين في حجرات القدس، متولهة عقولهم أن يحدوا أحسن الخالقين، فإنما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء) (5)
قال آخر: وقال: (الحمد لله الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود .. من جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه) (6)
قال آخر: وقال: (ليست له صفة تنال، ولا حد تضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تحبير اللغات، وضل هناك تصاريف الصفات، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور) (7)
__________
(1) غرر الحكم: 7556.
(2) الكافي: 1/ 141.
(3) الكافي: 1/ 141.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 85.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 182، بحار الأنوار: 4/ 314.
(6) نهج البلاغة: الخطبة 1، الاحتجاج: 1/ 473 / 113.
(7) الكافي: 1/ 134.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/32)
قال آخر: وقد صرح بنفي الحد عن الله تعالى، فقال: (ليس له حد ينتهي إلى حده) (1) .. وقال: (وحد الأشياء كلها عند خلقه، إبانة لها من شبهه، وإبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات .. تعالى الله عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب) (2)
قال آخر: وقال: (لا يشمل بحد ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها .. ولا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه) (3)
قال آخر: وقال في تعظيم الله جل وعلا: (أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفا، ولا في رويات خواطرها فتكون محدودا مصرفا) (4) .. وقال: (لا يدرك بوهم، ولا يقدر بفهم .. ولا يحد بأين) (5)
قال آخر: وقال: (تعالى الذي ليس له وقت معدود، ولا أجل ممدود، ولا نعت محدود، سبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى) (6)
قال آخر: وقال: (الحمد لله .. الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود) (7)
قال آخر: ومثله ذكر كل الأئمة من العترة الطاهرة الذين لم يخلطوا دينهم بما تسرب إلى الأمة من تحريفات الأمم، ومنهم الإمام الحسين الذي قال: (أصف إلهي بما وصف به
__________
(1) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33/ 1.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 163.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476 / 116.
(4) نهج البلاغة: الخطبة 91، التوحيد: 54/ 13.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 182.
(6) الكافي: 1/ 135 / 1.
(7) الاحتجاج: 1/ 473 / 113، بحار الأنوار: 4/ 247.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/33)
نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، فهو قريب غير ملتصق
قال آخر: وقال: (وبعيد غير متقص، يوحد ولا يبعض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال) (1)
قال آخر: وقال: (لا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته؛ لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقانا بالغيب؛ لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه، ليس برب من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء) (2)
قال آخر: ومنهم الإمام السجاد الذي قال: (إن الله لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية من لا يحد، و {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]) (3)
قال آخر: وقال: (لو اجتمع أهل السماء والأرض أن يصفوا الله بعظمته لم يقدروا) (4)
قال آخر: وقال في دعائه: (ضلت فيك الصفات، وتفسخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام) (5) .. وقال: (اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين) (6) .. وقال: (الحمد لله الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين) (7) .. وقال في دعائه يوم عرفة: (أنت الذي لا تحد فتكون محدودا، ولم
__________
(1) التوحيد: 80/ 35، روضة الواعظين: 43.
(2) تحف العقول: 244، بحار الأنوار: 4/ 301.
(3) الكافي: 1/ 100 / 2.
(4) الكافي: 1/ 102 / 4.
(5) الصحيفة السجادية: 129 الدعاء 32.
(6) الصحيفة السجادية: 123 الدعاء 31.
(7) الصحيفة السجادية: 19 الدعاء 1.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/34)
تمثل فتكون موجودا، ولم تلد فتكون مولودا) (1)
قال آخر: ومنهم الإمام الصادق الذي قال: (هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه) (2) .. وقال: (إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال في كتابه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك) (3)
قال آخر: وقال: (إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته) (4)
قال آخر: وقال: (إن الله تبارك اسمه عجز الواصفون عن كنه صفته، ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته، ولا يحدون حدوده؛ لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه) (5)
قال آخر: وقال: (إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه عظمته، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث، وكيف أصفه بالكيف!؟ وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين!؟ وهو الذي أين الأين حتى صار أينا، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث!؟ وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا، فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله ـ تبارك وتعالى ـ داخل في كل مكان وخارج من كل شيء، {{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، لا إله إلا هو العلي العظيم، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] (6)
قال آخر: وقال لبعض أصحابه: (أي شيء (الله أكبر)؟ قال: الله أكبر من كل شيء،
__________
(1) الصحيفة السجادية: 187 الدعاء 47.
(2) الكافي: 1/ 145 / 6.
(3) الكافي:1/ 103 / 11.
(4) بحار الأنوار: 3/ 147.
(5) الكافي: 1/ 137 / 2.
(6) الكافي: 1/ 103 / 12، التوحيد: 115/ 14.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/35)
فقال: (وكان ثم شيء فيكون أكبر منه؟)، قيل: وما هو؟ قال: (الله أكبر من أن يوصف) (1)
قال آخر: ومنهم الإمام الكاظم الذي قال: (من ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه، بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود؛ فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين) (2)
قال آخر: وقال: (إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أجل وأعظم من أن يحد بيد أو رجل، أو حركة أو سكون، أو يوصف بطول أو قصر، أو تبلغه الأوهام، أو تحيط به صفة العقول) (3)
قال آخر: وقال: (لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك) (4) .. وقال: (إن الله أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفوا عما سوى ذلك) (5)
قال آخر: ومنهم الإمام الرضا الذي قال: (ولو حد له وراء؛ إذا حد له أمام، ولو التمس له التمام؛ إذا لزمه النقصان) (6) .. وقال: (لا يتغير الله بانغيار المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد المحدود) (7)
قال آخر: ولما سمع كلاما في التشبيه، خر ساجدا، وقال: (سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك) (8)
قال آخر: وقال الإمام الجواد: قام رجل إلى الإمام الرضا، فقال له: يا ابن رسول الله،
__________
(1) الكافي: 1/ 118 / 9.
(2) الكافي: 1/ 125 / 1، التوحيد: 183/ 18.
(3) التوحيد: 75/ 30، بحار الأنوار: 3/ 300 / 32.
(4) التوحيد: 76/ 32.
(5) الكافي: 1/ 102 / 6.
(6) التوحيد: 40/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 153 / 51.
(7) التوحيد: 37/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 151 / 51.
(8) الكافي: 1/ 101 / 3، التوحيد: 114/ 13.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/36)
صف لنا ربك؛ فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا، فقال: (إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا من المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه) (1)
قال آخر: ومنهم الإمام الهادي الذي قال: (سبحان من لا يحد ولا يوصف! {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]) (2)
قال آخر: وكل هذه الكلمات النورانية يؤكدها ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار الإحاطة به!؟ .. جل عما يصفه الواصفون، نأى في قربه وقرب في نأيه، كيف الكيفية؛ فلا يقال له: كيف، وأين الأين؛ فلا يقال له أين، وهو منقطع الكيفية فيه والأينونية، فهوالأحد الصمد كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (3)
قال آخر: وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيد العارفين في دعائه: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي) (4) .. فأسماء الله الحسنى فيض من فيوضات كمال الله .. وبما أن كمال الله لا حد له .. فأسماؤه لا نهاية لها.
قال آخر: وهكذا استنبط العلماء من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (اللهم اعوذ
__________
(1) التوحيد: 47/ 9.
(2) الكافي: 1/ 102 / 5.
(3) كفاية الأثر: 12، كشف الغمة: 3/ 176، الكافي: 1/ 138 / 3 والتوحيد: 61/ 18.
(4) أحمد (1/ 391) (3712)، (1/ 452) (4318)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/37)
برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) (1) ما يدل على ذلك.
قال آخر: وقد حكى الغزالي من باب الإشارة ما فهمه بعض العارفين من هذا الدعاء، فقال: (ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، أنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم اسجد واقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات، فقال أعوذ بك منك ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله لا أحصي ثناء عليك ثم علم أن ذلك قصور فقال أنت كما أثنيت على نفسك) (2)
قال آخر: وهكذا؛ فإننا لو تدبرنا القرآن الكريم؛ فسنجد فيه الآيات الكثيرة الدالة على استحالة الحد والجسمية على الله، وبأصرح عبارة وأقواها.
قال آخر: من الأمثلة على ذلك، ما نجده في القرآن الكريم من وصف الله تعالى لنفسه بالعظمة المطلقة التي لا يمكن أن تحد أو تقدر أو تطيق العقول توهمها أو تصورها، لأنها لا طاقة لها بتصور المطلق.
قال آخر: وسنذكر لكم هنا نماذج عن الآيات المحكمة التي تدل على ذلك، ونذكر لكم معها ما استنبطه منها كبار العلماء.
__________
(1) رواه أَحمد (1/ 96 و 18 أو 150)، وأبو داود (1427)، والنسائي (3/ 248 ـ 249)، وابن ماجه (1179)
(2) إحياء علوم الدين (1/ 293)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/38)
قال آخر: فمن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في الأمر بتكبير الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] .. فتكبير الله يعني أنه أكبر من كل وهم وتصور وحدود.
قال آخر: وهو يعني أن الله أكبر من تصوراتنا وتعقلاتنا وتوهماتنا وأفكارنا وتأملاتنا .. وأنه أكبر من أن ينحصر في حيز محدود، أو أمد معدود، أو مكان أو زمان .. وأنه أكبر من أن تجري عليه القوانين التي تجري علينا، أو تحكمه السنن التي تقيدنا .. وأنه أكبر في ذاته وصفاته وكل ما يرتبط به.
قال آخر: ولهذا كان التحديد والتقدير من عقائد المشركين الذين اعتبروا الله جرما من الأجرام له نهاية ومقادر وحدود، وقد قال تعالى يذكرهم: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]، وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو حامد الغزالي من معان استنبطها من قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]
قال آخر: حيث قال في بيان دلالتها على استحالة وصف الله تعالى أو التعريف به: (لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان: أحدهما قاصر، والآخر مسدود، أما القاصر فهو ذكر الأسماء والصفات وطريقة التشبيه بما عرفناه من أنفسنا، فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا .. لأن حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه، بل لا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/39)
مناسبة بين البعيدين، وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم لكن يقطع التشبيه بأن يقال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين .. وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [المجادلة: 1] ولا الأكمه يفهم معنى قولنا إنه بصير، ولذلك إذا قال القائل كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء؟ فنقول: كما تعلم أنت الأشياء، فإذا قال: فكيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه، فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم لم يتصور فهمه البتة، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه، وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا، فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه، فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم) (1)
قال آخر: هذا هو السبيل الأول، وهو السبيل الوحيد المتاح .. والذي يرتبط بمدى قابلية العبد لتلقي المعارف الإلهية .. وأما (السبيل الثاني المسدود)، فقد عبر عنه الغزالي بقوله: (هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا كما ينتظر الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة، وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى، وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى) (2)
قال آخر: وبناء على هذا الكلام المنطقي ذكر الغزالي استحالة الحد على الله، فقال:
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 53)
(2) المقصد الأسنى (ص 53)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/40)
(فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله، بل أقول يستحيل أن يعرف النبي غير النبي، وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه .. بل أزيد وأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة أو النار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها، والنار عبارة عن أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار، وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات وهي المطعم والمنكح والمنظر فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات .. ولذات الجنة أبعد من كل لذة أدركناها في الدنيا .. بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. فكيف يتعجب المتعجبون من قولنا: لم يحصل أهل الأرض والسماء معرفة من الله تعالى إلا على الصفات والأسماء ونحن نقول لم يحصلوا من الجنة إلا على الصفات والأسماء وكذلك في كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته وما ذاقه وما أدركه ولا انتهى إليه ولا اتصف به) (1)
قال آخر: وبناء على هذا كانت نهاية المعرفة ـ كما يذكر أهل البرهان والعرفان ـ هو العجز عن المعرفة، كما قال أبو حامد ـ مستنتجا ذلك مما سبق ـ: (فإن قلت فماذا نهاية معرفة العارفين بالله تعالى؟ فنقول: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 54)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/41)
المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله عز وجل، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته) (1)
قال آخر: ولهذا؛ فإن وصف أهل التجسيم لأهل التنزيه بالجهل بالله لا يضرهم، لأنه يعبر عن الحقيقة؛ فالذي يعتقد جهله بالله هو العارف الحقيقي به، لا ذلك المغرور الذي يتوهم أنه أحاط علما بربه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما عبر عنه العلامة القضاعي في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] بقوله: (ثم الآية الكريمة بعد هذا تعطيك مسألة من علم التوحيد، بل مسائل هي من أهم مسائله وهي أن كل مقدر ومحدود بحدود، فهو حادث ممكن، لا بد له في وجوده واختصاصه بقدره الذي هو عليه من فاعل موجود واجب، أعطاه وجوده وخصصه بالقدر الذي هو عليه، وما من شيء في العالم إلا وهو ذو قدر معين في ذاته ومكانه وزمانه وصفاته، من صغر وكبر، وطول وقصر، وخفة وثقل، ونور وظلمة، وارتفاع وانخفاض، ولطافة وكثافة، وسيلان وجمود، وحرارة وبرودة، وحركة وسكون، وما يستتبع هذا من أشكال وألوان، وطعوم وروائح، وصعود ونزول، وأمكنة وجهات، وقرب وبعد، إلى سائر خصائص المادة مما لم نذكره وبين في علم خصائص المادة، فكل ذلك تنطق الآية الكريمة بأنه مختص بالمخلوقات يتعالى عن الاتصاف بشيء منه ربها وخالقها) (2)
قال آخر: ثم ذكر وجوها أخرى للاستدلال بالآية الكريمة، فقال: (إن كل ذي قدر فهو مخلوق، إذ الخلق يدور في اللغة على معنى التقدير أو الإيجاد على قدر معين، ولذلك يقول تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] ومعناه أن كل شيء فله قدر مخصوص كما
__________
(1) المقصد الأسنى (ص 54)
(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 58.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/42)
ترون، وذو القدر المخصوص ينادي على نفسه بأنه حادث ممكن مخلوق لا بد له من خالق فأنا خالقه لا خالق له سواي، فالقرآن ينادى بأن الجسمية، ولوازمها هي من دلائل الحدوث ولوازم الإمكان، وهذا هو بعينه ما قرره علماء المعقول، وفضلاء أهل علم الكلام، بل كل ذي قدر ولو صغر جدا بحيث لا يبلغ أن يكون جسما، فهو داخل فيما حكمت عليه الآية أنه مخلوق للقادر الحكيم) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنتجه الفخر الرازي من تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 ـ 4]، وقد بدأ استدلاله بذكر غرض السورة الذي أنزلت من أجله، فقال: (واعلم أن قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته، فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل هذه السورة) (2)
قال آخر: ثم بين إحكامها، وكونها المرجع عند التنازع في المتشابه والمختلف فيه، فقال: (إذا عرفت ذلك فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابا عن سؤال المتشابه، بل وأنزلها عند الحاجة، وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات .. وإذ ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلا) (3)
قال آخر: وانطلاقا من هذه المقدمات ذكر أن قوله تعالى: {أَحَدٌ} يدل على نفي محدودية الله تعالى، وكل ما يرتبط بها من الجسمية ونفي الحيز والجهة، وقد بدأ بدلالتها على نفي الجسمية، لأنها الأساس لكل ما عداها، فقال: (أما دلالتها على أنه تعالى ليس بجسم
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 59.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/43)
فذلك؛ لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين، وذلك ينافي الوحدة وقوله: {أَحَدٌ} مبالغة في الواحدية، فكان قوله: {أَحَدٌ} منافيا للجسمية) (1)
قال آخر (2): وهو يقصد بالجوهر الكائن الذي تتكون منه الأشياء جميعا، وهو ما يُبحث في علوم الذرة، ويعرفونه بأنه الجزء الذي لا يتجزأ، ويصفونه بالفرد، وأن من مميزاته أنه لا طول له ولا عرض ولا عمق وبسيطا ليس مركبا، وأنه غير منقسم، وأنه يتبع مع غيره أو يفارقه، وأن من خصائصه السكون والحركة والتماس، وعندما تجتمع الأجزاء تشكل جسما.
قال آخر (3): وبما أن هناك من أنكر وجوده؛ فاعتبر أنه لا جزء إلا وله جزء، ولا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف، وأن الجزء جائز تجزئته أبدا، ولا نهاية له من التجزؤ .. فقد وضع الفخر الرازي كلا الاحتمالين في رده على مثبتي الجسمية، وذلك انطلاقا من معنى قوله تعالى: {أَحَدٌ}
قال آخر: ولذلك، وبعد أن أثبت استحالة الجسمية على الله تعالى، راح ينفي استحالة كونه جوهرا، فقال: (وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول، أما الذين ينكرون الجوهر الفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز، فلا بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني، وذلك لأنه لا بد من أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكل ما تميز فيه شيء عن شيء، فهو منقسم؛ لأن يمينه موصوف بأنه يمين لا يسار ويساره موصوف بأنه يسار لا يمين، فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين، وليس بيمين ويسار، وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد، وهو محال، قالوا: فثبت أن كل
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
(2) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري، ص 318.
(3) مدخل إلى فلسفة العلوم، الجابري، ص 318.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/44)
متحيز، فهو منقسم وثبت أن كل منقسم، فهو ليس بأحد؛ فلما كان الله تعالى موصوفا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزا أصلا، وذلك ينفي كونه جوهرا) (1)
قال آخر: ثم ذكر الوجه الثاني للاستدلال بناء على إثبات الجوهر الفرد، فقال: (وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد، فإنه لا يمكنهم الإستدلال على نفي كونه تعالى جوهرا من هذا الإعتبار، ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرا من وجه آخر، وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتآلف في الذات، فقد يراد به الضد والند، ولو كان تعالى جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد مثلا له، وذلك ينفي كونه أحدا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، ولو كان جوهرا لكان كل جوهر فرد كفوا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر) (2)
قال آخر: وبناء على هذا، ذكر البراهين الدالة على نفي التحيز والجهة، وهو ما يدل على نفي المحدودية، فقال: (وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات؛ لأن كل ما كان مختصا بحيز وجهة، فإن كان منقسما كان جسما، وقد بينا إبطال ذلك، وإن لم يكن منقسما كان جوهرا فردا، وقد بينا أنه باطل ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلا فثبت أن قوله تعالى أحد يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا في حيز وجهة أصلا) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من جواب موسى عليه السلام لفرعون عندما سأله عن صفة الله تعالى، حين قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، فقال: (ثم إن موسى عليه السلام لم يذكر الجواب عن هذا السؤال إلا بكونه تعالى خالقا للناس ومدبرا
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 23.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/45)
لهم وخالق السموات والأرض ومدبرا لهما، وهذا أيضا من أقوى الدلائل على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا في جهة، لأن كون الشيء حجما ومتحيزا عين الذات ونفسها وحقيقتها لا أنه صفة قائمة بالذات، وأما كونه خالقا للأشياء ومدبرا لها، فهو صفة ولفظه ما سؤال عن الماهية وطلب للحقيقة، فلو كان تعالى متحيزا لكان الجواب عن قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] بذكر كونه متحيزا أولى من الجواب منه بذكر كونه خالقا، ولو كان كذلك كان جواب موسى عليه السلام خطأ، ولكان طعن فرعون بأنه مجنون لا يفهم السؤال ولا يذكر في مقابله السؤال ما يصلح أن يكون جوابا متجها لازما، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى ما كان متحيزا، فلا جرم ما كان يمكن تعريف حقيقته سبحانه وتعالى إلا بأنه خالق مدبر، فلا جرم كان جواب موسى عليه السلام صحيحا، وكان سؤال فرعون ساقطا فاسدا، فثبت أنه كما أن جواب محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤال الكفار عن صفة الله تعالى يدل على تنزيه الله تعالى عن التحيز، فكذلك جواب موسى عليه السلام) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، حيث ذكر أن الآية الكريمة تدل على كونه تعالى غنيا، (ولو كان جسما لما كان غنيا؛ لأن كل جسم مركب وكل مركب محتاج إلى كل واحد من أجزائه .. وأيضا لو كان جسما لوجب اختصاصه بالجهة، وكان محتاجا إلى الجهة، وذلك يقدح في كونه غنيا على الإطلاق) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، حيث ذكر أن (القيوم من يكون قائما بنفسه مقوما لغيره، فكونه قائما بنفسه عبارة عن كونه غنيا عن كل ما سواه، وكونه مقوما لغيره عبارة عن احتياج كل ما
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 28.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/46)
سواه إليه، فلو كان جسما لكان هو مفتقرا إلى غيره، وهو جزؤه، ولكان غيره غنيا عنه، وهو جزؤه فحينئذ لا يكون قيوما، ولو وجب حصوله في شيء من الأحياز لكان مفتقرا محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن قيوما على الإطلاق) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، حيث ذكر أن (الخالق في اللغة هو المقدر، ولو كان تعالى جسما لكان متناهيا، ولو كان متناهيا لكان مخصوصا بمقدار معين ولما وصف نفسه بكونه خالقا، ووجب أن يكون تعالى هو المقدر لجميع المقدرات بمقاديرها المخصوصة، فإذا كان هو مقدار في ذاته بمقدار مخصوص لزم كونه مقدرا لنفسه، وذلك محال .. وأيضا لو كان جسما لكان متناهيا وكل متناه، فإنه محيط به حد، أو حدود مختلفة وكل ما كان كذلك، فهو مشكل وكل مشكل فله صورة، فلو كان جسما لكان له صورة، ثم إنه تعالى وصف نفسه بكونه مصورا، فيلزم كونه مصورا لنفسه، وذلك محال فيلزم أن يكون منزها عن الصورة والجسمية حتى لا يلزم هذا المحال) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، حيث ذكر أن (الله تعالى وصف نفسه بكونه ظاهرا وباطنا، ولو كان جسما لكان ظاهره غير باطنه، فلم يكن الشيء الواحد موصوفا بأنه ظاهر وبأنه باطن لأنه على تقدير كونه جسما يكون الظاهر منه سطحه والباطن منه عمقه، فلم يكن الشيء الواحد ظاهرا وباطنا .. وأيضا المفسرون قالوا إنه ظاهر بحسب الدلائل، باطن بحسب أنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال، ولو كان جسما لما أمكن وصفه بأنه لا
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 28.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 29.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/47)
يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]، حيث ذكر أن (هذا يقتضي أن يكون ذاته متقدما في الوجود على كل ما سواه وأن يكون متأخرا في الوجود عن كل ما سواه، وذلك يقتضي أنه كان موجودا قبل الحيز والجهة، ويكون موجودا بعد فناء الحيز والجهة) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، حيث ذكر أن (ذلك يدل على كونه تعالى منزها عن المقدار والشكل والصورة، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به، وذلك على خلاف هذين النصين .. فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه وإن كان جسما لكنه جسم كبير، فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم، قلنا لو كان الأمر كذلك لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسماوات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز، فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة والأبصار لا تحيط بأطرافها والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها، ولو كان الأمر كذلك لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام: 12]، حيث ذكر أن (هذا مشعر بأن المكان وكل ما فيها ملك لله تعالى، ومثله قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13]، وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى .. ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان) (4)
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 29.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 30.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 31.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/48)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، وقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} [غافر: 7]، حيث ذكر أنه (لو كان الخالق في العرش لكان حامل العرش حاملا لمن في العرش، فيلزم إحتياج الخالق إلى المخلوق) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، حيث ذكر أن (ظاهر الآية يقتضي فناء العرش وفناء جمع الأحياز والجهات، وحينئذ يبقى الحق سبحانه وتعالى منزها عن الحيز والجهة، وإذا ثبت ذلك امتنع أن يكون الآن في جهة، وإلا لزم وقوع التغير في الذات) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، حيث ذكر أنه لو كان الله تعالى (في جهة الفوق لكانت السجدة تفيد البعد من الله تعالى لا القرب منه، وذلك خلاف الأصل) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]، حيث ذكر أن (الند المثل، ولو كان تعالى جسما لكان مثلا لكل واحد من الأجسام، لأن الأجسام كلها متماثلة، فحينئذ يكون الند موجودا على هذا التقدير، وذلك على مضادة هذا النص) (4)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة الحد والجسمية على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الثاني
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 32.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 32.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/49)
الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الثاني ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات الجهة لله تعالى، والتي تميزه عن خلقه، وتجعله بائنا عنهم، وهذا هو جوهر الفرق بيننا وبين المعطلة؛ فهم يعتقدون أن الله تعالى منزه عن المكان والجهة بناء على عدم محدوديته.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا في ديننا، وتنتهي بالأدلة العقلية والفطرية التي تسلم لها كل العقول والفطر السليمة.
قال القاضي: فحدثونا عن الدليل الأول.
قال أحد الشيوخ: الدليل الأول هو ما ورد عن سلفنا الصالح من الروايات الكثيرة الدالة على إجماعهم على ذلك.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن ـ قاضي الري ـ حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: (ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب) (1)
قال آخر: وروي عن يحيى بن معاذ أنه قال: (إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً) (2)
قال آخر: وروي عن عبدالله بن أبي جعفر الرازي أنه كان يضرب قرابة له بالنعل
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية (140)
(2) الذهبي في العلو (139)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/50)
على رأسه يرمي برأي جهم ويقول: (لا حتى تقول (الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه) (1)
قال آخر: وعن علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك قال: قيل له كيف نعرف ربنا!؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه) (2)
قال آخر: وقال ابن أبي شيبة: (توفرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته، ثم خلق الأرض والسموات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش، فهو فوق السموات وفوق العرش بذاته) (3)
قال آخر: وقال يوسف بن موسى القطان: (قيل لأبي عبدالله: الله فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه وقدرته بكل مكان!؟ قال: نعم) (4)
قال آخر: وقال الدارمي: (الآثار التي جاءت عن رسول الله في نزول الرب تبارك وتعالى تدل على أن الله عز وجل فوق السموات على عرشه بائن من خلقه) (5)
قال آخر: وقال: (إن الأمة كلها، والأمم السالفة قبلها، لم يكونوا يشكون في الله تعالى أنه فوق السماء، بائن من خلقه، غير هذه العصابة الزائغة عن الحق المخالفة للكتاب وأثارات العلم كلها) (6)
قال آخر: وقال ابن خزيمة: (من لم يقرّ بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سمواته، بائن من خلقه؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه) (7)
قال آخر: وقد عقد أبو القاسم الطبراني باباً خاصاً في كتابه [السنة] قال فيه: [باب ما جاء
__________
(1) الذهبي في العرش (239)
(2) الدارمي في الرد على الجهمية (47)
(3) كتاب العرش، لابن أبي شيبة (291)
(4) أورده ابن بطة في الإبانة، وتتمة الرد على الجهمية، (115)
(5) الرد على الجهمية (73)
(6) الرد على الجهمية (ص 21)
(7) الذهبي في العرش (277)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/51)
في استواء الله على عرشه وأنه بائن من خلقه] (1) .. وقال ابن أبي زيد المالكي في رسالته الشهيرة: (وإنه فوق عرشه المجيد بذاته، وعلمه في كل مكان) (2)
قال آخر: وقال أبو نصر السجزي: (وأئمتنا: الثوري ومالك وابن عيينة وحماد ابن سلمة وحماد بن زيد وعبدالله ابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق؛ متفقون على أن الله فوق عرشه بذاته، وأن علمه بكل مكان) (3)
قال آخر: وقد نقل عبد الرحمن ابن أبي حاتم إجماع أئمة السلف على ذلك، فقال: (سألت أبا حاتم وأبا زرعة الرازيين رحمهما الله عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً، وكان من مذهبهم: أن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً) (4) .. وقال أبو عمرو الطلمنكي: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على العرش بذاته) (5)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك إجماعهم على معنى القرب والبعد، وأنهما على معناهما الظاهر الواضح، على عكس ما يقوله المؤولة المعطلة.
قال آخر: وقد عبر عن هذا شيخنا الدارمي بقوله: ( .. فيقال لهذا المعارض المدعي ما لا علم له من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سمواته علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة والسادسة أقرب إليه من الخامسة ثم كذلك إلى الأرض) (6)
__________
(1) الذهبي في العرش (316)
(2) رسالة ابن أبي زيد (4)
(3) الذهبي في العرش (341)
(4) اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة، (321)
(5) ابن تيمية في درء التعارض (2/ 35)، والذهبي في العلو (264)
(6) نقض عثمان بن سعيد 1/ 504. وانظر الفواكه العذاب لحمد بن ناصر 157 وإثبات علوالله لحمود التويجري 84
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/52)
قال آخر: وبناء على هذا اتفقوا على أن أقرب الخلق إلى الله هو العرش، ثم الملائكة الحاملين للعرش .. وهكذا .. وقد استدلوا على ذلك بما روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم، فيخبرونهم ماذا قال) (1)
قال آخر: وقد استدل شيوخنا بهذا الحديث على أن (حملة العرش هم أول من يتلقى أمر الله، ثم يبلغونه للذين يلونهم من أهل السموات، فكونهم أقرب الخلق إلى الله دليل على أن العرش أقرب منهم إليه سبحانه لأنهم إنما يحملونه) (2)
قال آخر: بل ورد في بعض الروايات ما يدل على المسافة التي تفصل الله تعالى عن أقرب الخلق إليه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أقرب الخلق إلى الله تعالى جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وإنهم من الله تعالى بمسيرة خمسين ألف سنة) (3)
قال آخر: وقد ذكر سلفنا الصالح الكثير من الشروح والتوضيحات المرتبطة بذلك، ومنها ما روي عن وهيب بن الورد، أنه قال: (بلغني أن أقرب الخلق من الله عز وجل إسرافيل العرش على كاهله .. فإذا نزل الوحي دلي لوح من تحت العرش، فيقرع جبهة إسرافيل، فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله، فإذا كان يوم القيامة أتى بإسرافيل ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل. فيدعى جبريل ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل. فيؤتى بالرسل ترعد فرائصهم فيقال: ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون: بلغنا الناس) (4)
__________
(1) رواه مسلم (2229)
(2) محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش 81
(3) العلو للعلي الغفار 1/ 90. أبو الشيخ في العظمة 2/ 684 (276)
(4) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 846)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/53)
قال آخر: وبناء على هذا فسروا قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6، 7]
قال آخر: فقد روي عن وهب بن منبه أنه قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل: يا إسرافيل، هات ما وكلتك به فيقول: نعم يا رب في الصور كذا وكذا ثقبة، وكذا وكذا روحا، للإنس منها كذا وكذا، وللجن منها كذا وكذا، وللشياطين منها كذا وكذا، وللوحوش منها كذا وكذا، وللطير كذا، ومنها كذا وكذا للحيتان، وللبهائم منها كذا وكذا وللهوام منها كذا وكذا، فيقول الله عز وجل: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول الله عز وجل: هات ما وكلتك به يا ميكائيل فيقول: نعم يا رب أنزلت من السماء كذا وكذا كيلة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا قيراطا وزنة كذا وكذا خردلة وزنة كذا وكذا ذرة، أنزلت في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا كذا وكذا، وفي جمعة كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا للزرع كذا وكذا وأنزلت منه للشياطين كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت للإنس منه كذا وكذا في يوم كذا وكذا كذا وكذا، وأنزلت للبهائم كذا وكذا وزنة كذا وكذا، وأنزلت للوحوش كذا وكذا وزنة كذا، وكذا، وللطير منه كذا وكذا، وللباد منه كذا وكذا، وللحيتان منه كذا وكذا وللهوام منه كذا وكذا فذلك كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح، فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول: يا جبريل هات ما وكلتك به، فيقول: نعم يا رب أنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية في شهر كذا وكذا في جمعة كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية وعلى نبيك فلان كذا وكذا سورة فيها كذا وكذا آية، فذلك كذا وكذا أحرفا، وأهلكت كذا وكذا مدينة، وخسفت بكذا وكذا، فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول عز وجل: هات ما وكلتك به يا عزرائيل. فيقول: نعم يا رب قبضت روح كذا وكذا إنسي وكذا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/54)
وكذا جني، وكذا وكذا شيطان وكذا وكذا غريق، وكذا وكذا حريق، وكذا وكذا كافر، وكذا وكذا شهيد وكذا وكذا هديم وكذا وكذا لديغ وكذا وكذا في سهل، وكذا وكذا في جبل، وكذا وكذا طير، وكذا وكذا هوام، وكذا وكذا وحش فذلك كذا، وكذا جملته كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص فالله تبارك وتعالى علم قبل أن يكتب وأحكم) (1)
قال آخر: وبهذا الحديث فسروا قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، بل ذكروا أن جبريل عليه السلام كان إذا احتاج إلى سؤال الله رحل إليه، ودنا منه، ليسأله.
قال آخر: ومن تلك الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبريل عليه السلام: أي بقاع الأرض أشر؟، قال: الله أعلم، قال: ألا تسأل ربك عز وجل؟ قال: ما أجرأكم يا بني آدم إن الله لا يسئل عما يفعل، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إني دنوت من ربي حتى كنت منه بمكان لم أكن قط أقرب منه، كنت بمكان بيني وبينه سبعون حجابا من نور، فأوحى الله تبارك وتعالى إلي أن شر بقاع الأرض السوق) (2)
قال آخر: وفي رواية أخرى أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحلته الطويلة: (يا محمد، لقد وقفت اليوم موقفا لم يقفه ملك قبلي ولا يقفه ملك بعدي، كان بيني وبين الجبار تبارك وتعالى سبعون ألف حجاب من نور، الحجاب يعدل العرش والكرسي والسماوات والأرض بكذا وكذا ألف عام، فقال: أخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن خير البقاع المساجد، وخير أهلها أولهم دخولا، وآخرهم خروجا، وشر البقاع الأسواق، وشر أهلها أولهم
__________
(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 847)
(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 672)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/55)
دخولا، وآخرهم خروجا) (1)
قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، فعن مجاهد قال: (بين السماء السابعة، وبين العرش سبعون ألف حجاب: حجاب نور، وحجاب ظلمة، وحجاب نور، وحجاب ظلمة، فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]) (2)
قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] فقد رووا عن مجاهد قوله: (إن داود عليه السلام يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة في كفه، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول له: كن بين يدي، فينظر إلى كفه فيراها، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول: خذ بحقوي، فذلك قوله، عز وجل: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]) (3)
قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى عن المعراج: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 ـ 10]، فقد رووا عن أنس بن مالك قوله: (ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى،
__________
(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 675)
(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 690)، وأخرجه الطبري في تفسيره 16/ 95 والبيهقي في الأسماء والصفات 508.
(3) السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 503)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/56)
فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات .. ) (1)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية قصة عجيبة ذكرها البغوي في تفسيره عن أيوب عليه السلام، رواها عن وهب بن منبه، كتفسير لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فقد ذكر أن أيوب لم يقل تلك الكلمة التي ذكرها القرآن الكريم فقط، وإنما قال أيضا: (لو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلا نظر إلي فيرحمني، ولا دنا مني، ولا أدناني فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي، وأخاصم عن نفسي) (2)
قال آخر: ويروي أن الله تعالى أجابه بنزوله على الغمام وخطابه له، قال وهبه بن منبه: (فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا ثم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك، وقم مقام جبار يخاصم جبار إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا شبه لي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ما تبلغه بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك
__________
(1) البخاري 6/ 370 (7079)
(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/57)
حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا محفوظا في الهواء .. ) (1)
قال آخر: وقد استدل شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه القصة على دنو الله من خلقه، فقال: (وقد جاء أيضاً من حديث وهب بن منبه وغيره من الاسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ولفظه الذي ساقه البغوي أنه أظله غمام ثم نودى يا أيوب أنا الله، يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا، لكن الاسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة لا على وجه الاعتماد عليها وحدها) (2)
قال آخر: ثم أعطى القاعدة التي بنى عليها السلف هذه المسألة، فقال: (والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة وهو قول الأشعري وغيره من الكلابية فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته .. وأما دنوه نفسُه وتقرُّبُه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة ونزوله واستوائه على العرش وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الاسلام المشهورين وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر) (3)
قال آخر: وبناء على هذا المفهوم للقرب اتفق سلفنا على أن معنى قرب أهل الجنة من الله هو القرب الحسي لا كما يتوهمه المعطلة من القرب المعنوي .. وقد روي في ذلك عن عبد الله بن مسعود قوله: (سارعوا إلى الجمع في الدنيا فإن الله تعالى ينزل لأهل الجنة كل جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمع في الدنيا) (4)
قال آخر: وبناء على هذا أيضا فسروا المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) تفسير البغوي (3/ 303)
(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.
(3) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 466
(4) العلو 1/ 60.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/58)
في قوله: {عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا} [الإسراء:79]، حيث ذكروا أن معناه إقعاد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على العرش، فقد روي عن أبي هريرة، أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: (نعم، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حبيب الله؟ فأتخطى صفوف الملائكة حتى أصير إلى جانب العرش، ثم يمد يده فيأخذ بيدي فيقعدني على العرش) (1)
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الثاني.
قال أحد الشيوخ: الدليل الثاني هو القرآن الكريم، وبما أن خصومنا من المعطلة يدعون أيضا أنهم يستمدون نفي العلو عن الله به؛ فسنذكر صنفين من الآيات .. الآيات الواضحة المحكمة والتي تدل على ذلك .. والثاني الآيات المتشابهة التي استدلوا بها على ما اعتبروه تنزيها، وهو في الحقيقة تعطيل.
قال القاضي: فحدثونا عن الصنف الأول من الآيات، وهي الآيات المحكمة الدالة على علو الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أولها الآيات الست الواردة بلفظ الاستواء على العرش، وهي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [الأعراف: 54، يونس: 3 الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4]
قال آخر: وثانيها الآيات المشتملة على لفظ الفوق، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ
__________
(1) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/59)
حَفَظَةً} [الأنعام: 61]، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]
قال آخر: وثالثها الآيات المشتملة على لفظ العلو كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]
قال آخر: ورابعها الآيات المشتملة على لفظ العروج إليه والصعود، كما قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]
قال آخر: وخامسها الآيات المشتملة على لفظ الإنزال والتنزيل، وهي كثيرة تزيد على المائتين في حق القرآن الكريم والروح والملائكة المقربين والتوراة والإنجيل وغيرها .. ومن أمثلتها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91]، وقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .. وغيرها كثير.
قال آخر: وسادسها الآيات المقرونة بحروف (إلى) لدلالتها على انتهاء الغاية، كما قال تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، وذلك يقتضي انتهاء النظر إليه، وقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15]، وقال: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وقال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28]
قال آخر: وسابعها قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] والحجاب، إنما يصح في حق من يكون جسما، وفي جهة حتى يصير محجوبا بسبب شيء آخر.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/60)
قال آخر: وثامنها الآيات الدالة على أنه في السماء، كما قال تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17]، وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]
قال آخر: وتاسعها الآيات المشتملة على الرفع إليه، كما قال تعالى في حق عيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]
قال آخر: وعاشرها الآيات المشتملة على العندية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، وقوله: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38]، وقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]
قال آخر: والحادي عشر ما ورد في القرآن الكريم من قصة المعراج، والتي تدل على أن الله تعالى مختص بجهة فوق، ويدل لذلك قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8]، وقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وهذا يدل على أن ذلك الدنو بالجهة لقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]
قال آخر: والحادي عشر ما ورد في القرآن الكريم من قول فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36، 37]
قال القاضي: حدثتمونا عن الصنف الأول من الآيات، وهي الآيات المحكمة الدالة على علو الله تعالى .. فحدثونا عن الصنف الثاني، وهي الآيات المتشابهة التي استدل بها المعطلة.
قال أحد الشيوخ: من أهم تلك الآيات استدلالهم بآيات [المعية] و [القرب] الواردة
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/61)
في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة 7]، وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُم} [النساء 108]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4]، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة 40]، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف 84]، وقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام 3]، وغيرها؛ فلا دلالة لها على ما يفهمون.
قال آخر (1): وقد أبطل علماؤنا علماء السلف زعم هؤلاء المعطلة، واستدلالهم بهذه الآيات، ويبينوا أن كل نص يحتجون به هو في الحقيقة حجة عليهم، فنصوص المعية التي استدلوا بها لا تدل بأي حال من الأحوال على ما زعموه، ذلك لأن كلمة (مع) في لغة العرب لا تقتضي أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، وهي إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى.
قال آخر (2): ولفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، واقتضت في كل موضع أموراً لم تقتضها في الموضع الآخر، وذلك بحسب اختلاف دلالتها في كل موضع.
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 174)
(2) العرش للذهبي (1/ 174)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/62)
قال آخر (1): ذلك أنها وردت في القرآن الكريم بمعنى المعية العامة، والمراد بها أن الله معنا بعلمه، فهو مطلع على خلقه شهيد عليهم، ومهيمن وعالم بهم، وهذه المعية هي المرادة بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
قال آخر: فالله سبحانه وتعالى قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم ولذلك أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم تفسير القرآن على أن تفسير الآية هو أنه معهم بعلمه، وقد نقل هذا الإجماع ابن عبد البر (2)، وأبو عمرو الطلمنكي، وابن تيمية (3)، وابن القيم (4) .. وعلى هذا فلا حجة للمخالفين في ظاهر هذه الآية.
قال آخر (5): ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]؛ فظاهر الآية دال على أن المراد بهذه المعية هو علم الله تبارك وتعالى واطلاعه على خلقه، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، فجمع تعالى في هذه الآية بين العلو والمعية، فليس بين الاثنين تناقض البتة، وهو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه) (6)
قال آخر (7): أما المعنى الثاني للمعية؛ فهي المعية الخاصة، وهي معية الاطلاع
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 174)
(2) التمهيد (7/ 138)
(3) مجموع الفتاوى (5/ 193)، و (5/ 519)، و (11/ 249 ـ 250)
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 44)
(5) العرش للذهبي (1/ 176)
(6) الدارمي في الرد على الجهمية (ص 26، 27)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 396)
(7) العرش للذهبي (1/ 176)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/63)
والنصرة والتأييد، وسميت خاصة لأنها تخص أنبياء الله وأولياءه مثل قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، فهذه المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
قال آخر (1): ولفظ المعية على كلا الاستعمالين ليس مقتضاه أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، ولو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان لتناقض الخبر العام والخبر الخاص، ولكن المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك (2).
قال آخر: وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن هذه الآية لا تخلوا من أن يراد بها قربه سبحانه أو قرب ملائكته كما قد اختلف الناس في ذلك؛ فإن أريد بها قرب الملائكة، فدليل ذلك من الآية قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 16 ـ 17] ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان، فيكون الله سبحانه قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، أما إذا كان المراد بالقرب في الآية قربه سبحانه، فإن ظاهر السياق في الآية دل على أن المراد بقربه هنا قربه بعلمه، وذلك لورود لفظ العلم في سياق الآية {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]) (3)
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 176)
(2) مجموع الفتاوى (11/ 250)، و (5/ 104)
(3) الفتاوى (6/ 19 ـ 20)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/64)
قال آخر: وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، فمعنى الآية: أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وقد قال ابن عبد البر في تفسيرها: (فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير) (1)
قال آخر: وقال الآجري: (وقوله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] معناه: أنه جل ذكره إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الإله يعبد في السموات، وهو الإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء) (2)
قال آخر: وروى الآجري بسنده في تفسيره هذه الآية عن قتادة قوله: (هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض) (3)
قال آخر: وأما استدلالهم بقوله تعالى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] فقد فسرها أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض (4)، وقال الآجري: (وعند أهل العلم من أهل الحق {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] هو كما قال الحق {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3] فما جاءت به السنن أن الله عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) (5)
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الثالث.
__________
(1) التمهيد (7/ 134)
(2) الشريعة (3/ 1104)
(3) الشريعة (3/ 1104 ـ 1105)
(4) الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد (ص 92 ـ 93)، ومجموع الفتاوى (11/ 250)
(5) الشريعة (3/ 1104)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/65)
قال أحد الشيوخ: هو ما ورد من الأحاديث النبوية الكثيرة الدالة على ذلك، وسنورد لكم سيدي القاضي ثلاثين حديثا كاملة في الدلالة على ذلك.
قال آخر: وأولها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (1)
قال آخر: والحديث الثاني ما روي عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب ذهب منها بشاة وأنا من بني آدم، آسف كما يأسفون، فرفعت يدي فصككتها صكة، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له ذلك، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة (2).
قال آخر: وهكذا نرى أن الجارية بادرت فأجابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحض الفطرة بأن الله في السماء حين سألها أين الله؟ .. وكل صاحب فطرة مستقيمة لا يمكن أن يجيب على مثل هذا السؤال إلا بما أجابت به الجارية.
قال آخر: في الحديث مسألتان ـ كما يقول الإمام الذهبي .. إحداهما: شرعية قول المسلم: (أين الله)، وثانيهما: قول المسؤول: (في السماء)، فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (3).
قال آخر: وقال شيخنا عثمان بن سعيد الدارمي في تعليقه على الحديث: (ففي هذا الحديث دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس
__________
(1) أبو داود، ح (4941)، 5/231، وأحمد 2/160، والترمذي، ح (1904)، 4/323.
(2) مسلم، ح (537)، 1/382، وأبو داود، ح (930)، 1/570، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، ح (489)، 1/215.
(3) العلو ص 26.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/66)
بمؤمن، ولو كان عبدا فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنة، إذ لا يعلم أن الله في السماء، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل أمارة إيمانها معرفتها أن الله في السماء، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أين الله؟)، تكذيب لقول من يقول: هو في كل مكان، لا يوصف بأين، لأن شيئا لا يخلو منه مكان يستحيل أن يقال: أين هو؟ ولا يقال أين؟ إلا لمن هو في مكان، يخلو منه مكان، ولو كان الأمر كما يدعي هؤلاء الزائفة لأنكر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولها وعلمها، ولكنها علمت به فصدقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد لها بالإيمان بذلك، ولو كان في الأرض كما هو في السماء لم يتم إيمانها حتى تعرفه في الأرض كما عرفته في السماء، فالله تبارك وتعالى فوق عرشه فوق سماواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد لا يبعد عنه شيء) (1)
قال آخر: وقال شيخنا محمد خليل هراس: (هذا الحديث يتألق نصاعة ووضوحا، وهو صاعقة على رؤوس أهل التعطيل، فهذا رجل أخطأ في حق جاريته بضربها، فأراد أن يكفر عن خطيئته بعتقها، فاستمهله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يمتحن إيمانها، فكان السؤال الذي اختاره لهذا الامتحان هو (أين الله؟) ولما أجابت بأنه في السماء، رضي جوابها وشهد لها بالإيمان، ولو أنك قلت لمعطل: أين الله؟ لحكم عليك بالكفران) (2)
قال آخر: ولذلك؛ فإن إنكار المبتدعة صحة السؤال عن الله (بأين) إنكار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتهام له بارتكاب خطأ كبير، وهذا ـ كما ترى ـ في غاية الضلال، وهو قدح صريح واضح في عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته.
قال آخر: أما إعلال المعطلة المبتدعة للحديث بالاضطراب، فغير وارد، لأنه تعسف واضح وتجن بين، وردا على هذا الزعم الباطل قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني: (وهذا
__________
(1) الرد على الجهمية ص 17 ـ 18.
(2) حاشية التوحيد لابن خزيمة ص 121.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/67)
الحديث صحيح بلا ريب، لا يشك في ذلك إلا جاهل أو مغرض من ذوي الأهواء الذين كلما جاءهم نص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ما هم عليه من الضلال، حاولوا الخلاص منه بتأويله، بل بتعطيله، فإن لم يمكنهم ذلك حاولوا الطعن في ثبوته كهذا الحديث، فإنه مع صحة إسناده وتصحيح أئمة الحديث إياه دون خلاف بينهم أعلمه، منهم الإمام مسلم حيث أخرجه في صحيحه، وكذا أبو عوانة في مستخرجه عليه، والبيهقي في الأسماء .. ومع ذلك نرى الكوثري الهالك في تعصبه يحاول التشكيك في صحته بادعاء الاضطراب فيه) (1)
قال آخر: والحديث الثالث، ما روي عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: اعتقها (2).
قال آخر (3): وهذا الحديث غير حديث معاوية بن الحكم السلمي السابق، وهي وأمثالها شواهد لا بأس بها، وثبوت حديث معاوية أمر واضح وجلي، وفي كل هذه الأحاديث، يمتحن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان هؤلاء الجواري بسؤاله لهن: (أين الله؟)، أفلا يستحي هؤلاء المعطلة من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فهم لا يصفون الله تعالى إلا بما يدل على عدمه لا على وجوده حين ينفون عنه العلو والاستواء.
قال آخر: والحديث الرابع ما روي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من اشتكى منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين،
__________
(1) مختصر العلو ص 82.
(2) مالك في الموطأ، 2/777، وأحمد 3/450، وابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 123.
(3) إثبات صفة العلو، ابن قدامة (ص 75)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/68)
أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على الوجع فيبرأ) (1)
قال آخر: وهو مع كونه ضعيفا (2)، إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا، كما فعل شيوخنا وأئمتنا.
قال آخر: والحديث الخامس ما روي عن محمد بن عمران بن حصين، قال: اختلفت قريش إلى الحصين أبي عمران، فقالوا: إن هذا الرجل يذكر آلهتنا، فنحن نحب أن تكلمه وتعظه، فمشوا معه إلى قريب من باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجلسوا ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوسعوا للشيخ، فأوسعوا له، وعمران وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون، فقال حصين: ما هذا الذي يبلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم، وقد كان أبوك جفنة وخبزا، فقال: (إن أبي وأباك في النار، يا حصين كم إلها تعبد اليوم؟ قال: سبعة في الأرض وإلها في السماء، قال: فإذا أصابك الضيق فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال فمن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشركهم معه!؟ قال: أما رضيته ـ أو كلمة نحوها ـ أو تخاف أن يغلب عليك؟ قال: لا واحدة من هاتين، وعرفت أني لم أكلم مثله، فقال: يا حصين، أسلم تسلم، قال: إن لي قوما وعشيرة، فماذا أقول لهم؟ قال: قل: اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وأستجيرك من شر نفسي، علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، وزدني علما ينفعني، فقالها، فلم يقم حتى أسلم، فوثب عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى، فقيل له: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: مما صنع عمران، دخل حصين وهو مشرك فلم يقم إليه ولم يلتفت إلى ناحيته، فلما أسلم
__________
(1) سنن أبي داود، ح (3892)، 4/218، أحمد 6/21، والدارمي في الرد على الجهمية ص 18، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 533.
(2) قال الخطابي فيه: في إسناده زيادة بن محمد الأنصاري، قال أبو الحاتم الرازي، هو منكر الحديث، وقال البخاري والنسائي: منكر الحديث، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، معالم السنن على مختصر سنن أبي داود 5/ 366، وانظر: الضعفاء الصغير للبخاري ص 48، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 44، وميزان الاعتدال للذهبي 2/ 89.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/69)
قضى حقه، فدخلني من ذلك رقة، فلما أراد أن ينصرف حصين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا فشيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب نظرت إليه قريش فقالت: صبأ وتفرقوا عنه (1).
قال آخر: وهو مع كونه ضعيفا، إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا، لأن ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث الأخرى يقويه.
قال آخر: ففي هذا الحديث ألزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حواره مع حصين الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإقرار بأن الآلهة الأخرى التي كان يعبدها لا تملك له نفعا ولا تدفع عنه ضرا، بل الذي يملك له النفع ويدفع عنه الضر هو الله الذي أقر به في السماء وحده لا شريك له.
قال آخر: أما رد المعطلة له، بحجة ما ورد في من إقرارا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحصين على كون الله في السماء، وأنه يلزم منه أن يقره على الستة في الأرض، وهذا الإلزام واضح الفساد، ولا يحتاج إلى أدنى جهد لإبطاله.
قال آخر: والحديث السادس ما حدث به ابن إسحاق، قال: خرج عبد أسود لبعض أهل خيبر في غنم له حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لبعض أصحابه: من هذا الرجل؟ قالوا: رسول الله الذي من عند الله، قال: الذي في السماء؟ قالوا: نعم، قال: أدنوني منه، قال: فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، قال: الذي في السماء؟ قال: نعم، قال: فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة فتشهد، ثم استقبل غنمه فرمى في وجوهها بالبطحاء، ثم قال: اذهبي، فوالله لا أتبعك أبدا، فولت، فكان ذلك آخر العهد بها، قال: فقاتل العبد حتى استشهد قبل أن يصلي سجدة واحدة، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألقي خلفه فالتفت إليه، ثم أعرض عنه، فقيل: يا رسول الله، التفت إليه، ثم أعرضت عنه، فقال: إن
__________
(1) ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 120، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 534، والذهبي في العلو ص 24، وقال: (عمران) ضعيف.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/70)
معه الآن لزوجته من الحور العين (1).
قال آخر: وهذا الحديث، وإن كان ضعيفا (2) إلا أنه واضح الدلالة على هذا، وأن الله في السماء.
قال آخر: والحديث السابع ما روي عن عدي بن عميرة بن فروة العبدي، قال: كان بأرضنا حبر من اليهود يقال له ابن شهلا، فالتقيت أنا وهو يوما فقال: يا عدي بن عميرة، فقلت: ما شأنك يا ابن شهلا، فقال: إني أجد في كتاب الله المنزل أن أصحاب الفردوس قوم يعبدون ربهم على وجوههم، لا والله ما أعلم هذه الصفة إلا فينا معشر يهود، وأجد نبيها يخرج من اليمن، فمن تبعه كان على هدى، لا نراه يخرج إلا منا معشر يهود، وأجد وقعتين تكونان، إحداهما بمصرين، والأخرى بصفين، فأما مصرين قد سمعنا بها من أرض الفراعنة، وأما صفين فوالله ما أدري أين هي، قال عدي: فوالله ما مكثنا إلا يسيرا حتى بلغنا أن رجلا من بني هاشم قد تنبأ، وسجد على وجهه، فذكرت حديث ابن شهلا، فخرجت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم ويزعمون أن إلههم في السماء، فأسلمت واتبعته (3).
قال آخر: والحديث الثامن ما روي عن أبي عبيدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء (4).
قال آخر: وهذا الحديث، وإن كان ضعيفا (5)، إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا.
__________
(1) ابن هشام في السيرة 3/459 ـ 460، وابن القيم في زاد المعاد 3/323، والبيهقي في دلائل النبوة 4/219، وأورد هذه القصة ابن كثير في البداية والنهاية 4/191، بزيادة عند بعضهم ونقصان عند بعضهم الآخر، إلا أن موضع الشاهد من القصة وهو قوله: (الذي في السماء) لا يوجد عندهم.
(2) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: كان شرحبيل ـ راوي الحديث عن جابر ـ متهما، وقال فيه ابن حجر: (صدوق اختلط بآخره)، انظر: التقريب 1/348.
(3) الإصابة 4/474، والذهبي في العلو ص 25، وقال: هذا حديث غريب.
(4) الدارمي في الرد على الجهمية ص 20، والحاكم في المستدرك 4/248، وقال: صحيح الإسناد، وأورده الذهبي في العلو ص 20، وقال: وراه عمار بن زريق عن أبي إسحاق مرفوعا، والواقف أصح، مع أن رواية أبي عبيدة عن والده فيها إرسال.
(5) هذا الحديث مرسل، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب 5/75، أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ح (655)، وأورده موقوفا على عبد الله بن مسعود، رقم: (657)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/71)
قال آخر: والحديث التاسع ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذهبة في أديم مقروض لم تحصل من ترابها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أربعة، بين زيد الخير، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن علاثة، فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من في السماء صباح مساء، ثم أتاه رجل غائر العينين مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، فقال: اتق الله يا رسول الله، قال: فرفع رأسه إليه وقال: ويحك، أليس أحق أهل الأرض أن يتق الله أنا، ثم أدبر، فقال خالد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلعله يكون يصلي، فقال: إنه رب مصل، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم، ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقف، فقال: (هاه، إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) (1)
قال آخر (2): وهذا الحديث دلالته في غاية الصراحة والوضوح على علو الله تعالى، وهو من أصح الأحاديث.
قال آخر: والحديث العاشر ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب
__________
(1) البخاري ح (3610)، 6/617، مسلم، ح (1064)، 2/741.
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 83)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/72)
غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء، ثم ترسل من السماء ثم تصير إلى القبر (1).
قال آخر: والحديث الحادي عشر ما روي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) (2)
قال آخر: ومع أن الحديث روي بلفظ آخر، وهو (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ لعنتها الملائكة حتى تصبح)، ولفظ آخر: (إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع) (3) .. إلا أن الرواية التي ذكرناها تدل على ذلك.
قال آخر: والحديث الثاني عشر ما روي عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض) (4)
قال آخر: والحديث، وإن كان موضوعا (5)، إلا أن شيوخنا أوردوه للاستدلال على علو الله تعالى، كما فعل ذلك شيخنا ابن قدامة (6).
__________
(1) ابن ماجه، ح (4262)، 2/1423، وأحمد في المسند 2/364، وأورده الذهبي في العلو ص 22، وقال: رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال: هو على شرط البخاري ومسلم.
(2) مسلم، ح (1436)، 2/1060، والبخاري، ح (5193 ـ 5194)
(3) انظر: فتح الباري 9/294.
(4) الدارقطني في الضعفاء والمتروكين ص 380.
(5) أورده ابن الجوزي في الموضوعات 1/319، وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يرويه عن بكر بن خنيس إلا أبو الحارث واسمه نصر بن حماد، قال يحيى: هو كذاب، وقال مسلم بن الحجاج: ذاهب الحديث، وقال النسائي ليس بثقة، أهـ، وانظر: ميزان الاعتدال (4/250/ 251)، وقال العقيلي: نصر بن حماد كذاب، الضعفاء (4/301)
(6) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 86)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/73)
قال آخر: والحديث الثالث عشر ما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، قال: اللهم إنك واحد في السماء، وأنا في الأرض واحد أعبدك) (1)
قال آخر: ومع أن الحديث ضعيف (2) إلا أن شيوخنا استدلوا به لإثبات العلو لله تعالى، كما فعل شيخنا ابن قدامة (3).
قال آخر: والحديث الرابع عشر ما روي عن تميم الداري، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن معانقة الرجل الرجل، إذا هو لقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أول من عانق خليل الله إبراهيم، وذلك أنه خرج يرتاد لماشيته في جبل من جبال بيت المقدس، فسمع صوتا يقدس الله فذهل عما كان يطلب، وقصد الصوت، فإذا هو برجل أهلب، طوله ثمانية عشر ذراعا يقدس الله، فقال له إبراهيم: يا شيخ، من ربك؟ قال: الذي في السماء، قال: من رب من في السماء؟ قال: الذي في السماء، قال: وما فيهما إله غيره؟ قال: لا إله إلا هو رب من في السماء، ورب من في الأرض، قال: يا شيخ هل معك أحد من قومك؟ قال: ما علمت أن أحدا من قومي بقي غيري، قال: فما طعامك؟ قال: أجمع من ثمر هذا الشجر في الصيف، فآكله في الشتاء، قال: فأين قبلتك؟ فأومأ إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، قال: أين منزلك؟ قال في تلك المغارة، قال: فانطلق إلى بيتك، قال: إن بيني وبين بيتي واديا لا ينخاض، قال: فيكف تعبره؟ قال: أعبر على الماء ذاهبا، وأعبر عليه جائيا، فقال إبراهيم: انطلق فلعل الذي يذلله لك، يذلله لي، فانطلقا فأتيا الماء فمشى كل واحد على الماء يعجب مما أوتي صاحبه، فدخلا
__________
(1) الدارمي في الرد على بشر المريسي ص 95، وأبو نعيم في الحلية 1/19.
(2) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 8/201 ـ 202، وقال: رواه البزار وفيه عاصم بن عمر بن حفص، وثقه ابن حبان، وقال: يخطئ ويخالف وضعفه الجمهور، وقد ضعفه أحمد، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، وقال النسائي، والترمذي: متروك، انظر: ميزان الاعتدال 2/355، والتهذيب 5/51 ـ 52.
(3) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 140)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/74)
إلى الغار؛ فنظر إبراهيم، فإذا قبلته قبلته، فقال له إبراهيم: يا شيخ، أي يوم أعظم؟ قال: يوم يضع الله كرسيه للحساب، يوم تؤمر جهنم أن تزفر زفرة لا يبقى لها ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خر ساجدا تهمه نفسه من هول ذلك اليوم، قال إبراهيم: يا شيخ ادع الله أن يؤمنني وإياك من هول ذلك اليوم، قال: وما يصنع بدعائي، إن لي دعوة محبوسة في السماء منذ ثلاث سنين لم أرها، قال له إبراهيم: ألا أخبرك ما حبس دعاءك؟ قال: بلى، قال: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا أخر مسألته لحبه صوته، وإذا أبغض عبدا عجل مسألته، أو ألقى الأياس في صدره، فما دعوتك المحبوسة في السماء منذ ثلاث سنين؟ قال: مر بي في هذا المكان شاب له ذؤابة في رأسه، معه غنم كأنما خشيت، وبقر كأنما دهنت، قلت: بالله لمن هذه؟ قال: لخليل الله إبراهيم عليه السلام، فقلت: اللهم إن كان لك خليل في الأرض فأرينه قبل خروجي من الدنيا، فقال إبراهيم: قد أجيبت دعوتك، فاعتنق هو وإبراهيم، وكان قبل ذلك السجود، يسجد هذا لهذا، وهذا لهذا إذا لقيه، ثم جاء الإسلام بالمصافحة، فلا تفترق الأصابع حتى يغفر لكل واحد منهما، والحمد لله الذي وضع عنا الآصار (1).
قال آخر: فمع أن الحديث ضعيف، بل قيل بوضعه إلا أن علماءنا وشيوخنا ذكروه لدلالته على علو الله (2)، فتصديق الحديث الضعيف والموضوع خير من التعطيل والتجهم.
قال آخر: والحديث الخامس عشر ما روي عن الحارث الأعور، قال: حدثنا علي بن أبي طالب، ويده على كتفي، قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويده على كتفي، قال: حدثني الصادق الناطق رسول رب العالمين، وأمينه على وحيه جبريل، ويده على كتفي، قال: سمعت إسرافيل يقول: سمعت القلم يقول: سمعت اللوح يقول: سمعت الله تعالى منفوق
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 141)
(2) أورد بعضا منه الذهبي في العلو، وقال: حديث باطل طويل يروى عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن أبي سفيان الألهاني، عن تميم الداري، العلو ص 56.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/75)
العرش يقول للشيء كن، فلا يكون يبلغ الكاف النون حتى يكون ما يكون (1).
قال آخر (2): وقد ذكر شيوخنا هذا الحديث للاستدلال به على فوقية الله تعالى على عرشه، بمعنى استوائه وعلوه عليه، وهو وإن كان مما لا يصح الاستدلال به لعدم صحته (3)، بل لكونه موضوعا؛ فإن صفة الاستواء من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة الصحيحة.
قال آخر: والحديث السادس عشر ما روي عن العباس بن عبد المطلب، قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، قالوا: والعنان، قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة، وإما اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك (4).
قال آخر: وهو وإن كان ضعيف الإسناد (5) إلا أن معناه قوي وصحيح، ويؤيده كل
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 92)
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 92)
(3) أورده الذهبي في العلو عن المصنف، وقال: هذا حديث باطل، ما حدث به هلال أبدا، وأحمد المكي كذاب، رويته للتحذير منه، العلو ص 45، قلت: فيه العلاء بن هلال الباهلي، قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث ضعيف، وذكره ابن حبان في الضعفاء، وقال: يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، فلا يجوز الاحتجاج به، وقال النسائي: يروي عنه ابنه هلال غير حديث منكر، لا أدري منه أتى أو من أبيه، ميزان الاعتدال 3/106، والتهذيب 8/194.
(4) أبو داود، ح (4723)، 5/93، والترمذي، ح (3320)، 5/424، وقال: هذا حديث حسن غريب، وروى الوليد بن أبي ثور عن سماك نحوه ورفعه، وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث ولم يرفعه، ورواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 100 ـ 102، وابن أبي عاصم في السنة، ح (577)، 1/253، وأحمد في المسند 1/206 ـ 207، والدارمي في الرد على الجهمية ص 19.
(5) أورده الذهبي في العلو، وقال: تفرد به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة، العلو ص 50، وعبد الله بن عميرة الكوفي الذي عليه مدار الحديث، قال فيه البخاري: لا يعلم له سماع من الأحنف، وقال الذهبي: فيه جهالة، وذكره ابن حبان في الثقات، والترمذي حسن حديثه، انظر: التهذيب 5/344، والميزان 2/469. أما راوي الحديث عن سماك، وهو وليد بن أبي ثور، فقال عنه العقيلي: يحدث عن سماك بمناكير لا يتابع عليها، التهذيب 11/137 ـ 138.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/76)
ما ورد في القرآن الكريم من إثبات العلو لله تعالى.
قال آخر: والحديث السابع عشر ما روي عن جبير بن مطعم، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: (ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد، ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته) (1)
قال آخر: ولا يضر الحديث كونه ضعيف الإسناد (2) .. فهو صحيح المعنى، وضعف إسناده لا يؤثر في الاستدلال به، وذلك ما فعله شيوخنا الذين أوردوه في الرد على المعطلة.
قال آخر: والحديث الثامن عشر ما روي عن عامر الشعبي، قال: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا أعظم نسائك عليك حقا، وأنا خيرهن منكحا، زوجنيك الرحمن من فوق عرشه، وكان جبريل هو السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك، وليس لك من نسائك قريبة غيري (3).
قال آخر: وهو، وإن روي بروايات أخرى ليس فيها ذكر العلو (4)، إلا أننا نرجح هذه الرواية لأن معناها مما تتفق عليه الفطر السليمة.
قال آخر: والحديث التاسع عشر ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، هو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي رواية:
__________
(1) أبو داود، ح (4726)، وابن خزيمة في التوحيد ص 103، والآجري في الشريعة ص 293، وابن أبي عاصم في السنة 1/252.
(2) أورده الذهبي في العلو ص 39، وقال فيه: (هذا حديث غريب جدا فرد، وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا أم لا، وأما الله عز وجل فليس كمثله شيء جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره)
(3) الحديث مرسل، أخرجه الطبري، وأبو القاسم الطحاوي في كتاب الحجة والتبيان، ذكر ذلك الحافظ في الفتح 13/412، وانظر: تفسير الطبري 22/14.
(4) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك بلفظ: (إن الله أنكحني في السماء) كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، ح (7421)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/77)
(إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش) (1)
قال آخر: والحديث العشرون ما روي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فيذكره الله من فوق سبع سماوات، فيقول: ملائكتي، إن عبدي هذا قد أشرف على حاجة من حوائج الدنيا، فإن فتحتها له فتحت له بابا من أبواب النار، ولكن أزووها عنه، فيصبح العبد عاضا على أنامله يقول: من سبقني؟ من دهاني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها) (2)
قال آخر: والحديث وإن كان ضعيفا جدا (3)؛ إلا أنه يمكن الاستدلال به، كما فعل شيوخنا ذلك (4).
قال آخر: والحديث الحادي والعشرون ما روي عن وهب بن منبه عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، قالا: قال علي: يا رسول الله، إذا أنت قبضت فمن يغسلك؟ وفيم نكفنك؟ ومن يصلي عليك؟ ومن يدخلك القبر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي أما الغسل فاغسلني أنت وابن عباس يصب الماء، وجبريل ثالثكما، فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفنوني في ثلاثة أثواب جدد، وجبريل يأتيني بحنوط من الجنة، فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد، واخرجوا عني، فإن أول من يصلي علي الرب عز وجل من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمرا، ثم ادخلوا فقوموا صفوفا صفوفا، لا يتقدم علي أحد، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أدخلوه المسجد، وخرج الناس عنه، فأول من صلى عليه الرب من فوق عرشه، ثم جبريل ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمرا
__________
(1) البخاري، ح (3194)، 6/287، ومسلم ح (2751)، 4/2107.
(2) أبو نعيم في الحلية 3/305، 7/208.
(3) أورده الذهبي في العلو ص 44، وقال: (صالح تالف ولا يحتمل شعبة هذا)، وصالح هذا هو ابن بيان الثقفي، قال الخطيب: كان ضعيفا يروي المناكين عن الثقات، تاريخ بغداد 9/310، وقال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم، ويحدث بالمناكير عمن لم يحتمل، الضعفاء الكبير 2/200، وقال الدارقطني: متروك، وساق له ابن عدي أحاديث باطلة، الميزان 2/290، وانظر: الكامل في الضعفاء لابن عدي 4/1384.
(4) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 102)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/78)
زمرا (1).
قال آخر: والحديث وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2) إلا أنه يمكن الاستدلال به على هذا، كما فعل شيوخنا.
قال آخر: والحديث الثاني والعشرون ما روي عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبرني جبريل عليه السلام عن الله عز وجل، أن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي ووحدانيتي وفاقة خلقي إلي، واستوائي على عرشي، وارتفاع مكاني، إني لأستحيي من عبدي، وأمتي، يشيبان في الإسلام، ثم أعذبهما)، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي عند ذلك فقلت: ما يبكيك؟ فقال: بكيت لمن يستحيي الله تعالى منه، ولا يستحيي من الله عز وجل (3).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (4)؛ فإن شيوخنا قد استدلوا به على إثبات العلو، وهم أدرى منا بذلك.
قال آخر: والحديث الثالث والعشرون ما روي عن جابر بن سليم، قال: ركبت قعودا لي، وأتيت مكة في طلبه، فأنخت بباب المسجد فإذا هو جالس صلى الله عليه وآله وسلم، وهو محتب ببردة لها طرايق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام، قلت: إنا معشر أهل البادية قوم بنا الجفا، فعلمني كلمات ينفعني الله بهن، قال: أدن ثلاثا، فقال: أعد علي،
__________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية 4/77، 78.
(2) أورد الحديث بطوله ابن الجوزي في الموضوعات، (1/295 ـ 301)، وقال: (هذا حديث موضوع محال، كافأ الله من وضعه، وقبح من يشين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد، والكلام الذي لا يليق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بالصحابة، والمتهم به عبد المنعم بن إدريس، قال أحمد بن حنبل: كان يكذب على وهب، وقال يحيى: خبيث كذاب، وقال ابن المديني، وأبو داود: ليس بثقة، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: هو وأبوه متروكان)، وأورده الذهبي في العلو، وقال: هذا الحديث موضوع، وأراه من افتراءات عبد المنعم، وإنما رويته لهتك حاله، العلو ص 43.
(3) أبو نعيم في الحلية 2/387.
(4) أورده الذهبي في العلو ص 43، وقال: عداده في الموضوعات وهذا الأنصاري ليس بثقة، وأورده في الميزان 3/600. ومحمد بن عبد الله بن زياد الأنصاري قال عنه العقيلي: منكر الحديث جدا، وقال ابن طاهر: كذا وله طامات، وقال مالك بن دينار: منكر الحديث، انظر الميزان 3/598، والضعفاء الكبير للعقيلي 4/96.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/79)
فقلت: إنا معشر أهل البادية قوم بنا الجفا، فعلمني كلمات ينفعني الله بهن، فقال: اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تصب فضل دلوك في إناء المستسقي، وإذا لقيت أخاك فالقه بوجه منبسط، وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك، فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن الله تعالى يجعل لك أجرا، ويجعل عليه وزرا، ولا تسبن شيئا مما خولك الله عز وجل، قال أبو جري: فوالذي ذهب بنفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما سببت لي شاة ولا بعيرا، فقال رجل: يا رسول الله، ذكرت إسبال الإزار، وقد يكون بالرجل القرح، أو الشيء يستحي منه، قال لا بأس إلى نصف السابق، أو إلى الكعبين، إن رجلا ممن كان قبلكم لبس بردين فتبختر فيهما، فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته، فأمر الأرض فأخذته، فهو يتجلجل في الأرض، فاحذروا وقائع الله عز وجل (1).
قال آخر: والحديث، وإن روي في الروايات الصحيحة من دون قوله (من فوق عرشه)، إلا أن شيوخنا قد رووه بهذه الصيغة، وهم أدرى منا بذلك (2).
قال آخر: والحديث الرابع والعشرون ما روي عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت أنشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأنا أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وأن أخا الأحقاف إذا قام فيهم ... يقول بذات الله فيهم ويعدل (3)
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا إلا أن شيوخنا استدلوا به على العلو والجهة،
__________
(1) رواه أبو داود، ح (4084)، 4/344، وروى بعضه الترمذي ح (2722)، 5/72، وليس عندهم الشطر الذي فيه الشاهد، وللحديث طرق ذكرها الإمام أحمد في المسند 5/63 ـ 64، وليس فيها الشاهد، وأورده الذهبي في العلو ص 36، وقال: إسناده لين.
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 106)
(3) ابن أبي شيبة في مصنفه 8/695، والهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أبو يعلى وهو مرسل.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/80)
مع كونهم أكثر الناس تشددا في قبول الحديث (1).
قال آخر: والحديث الخامس والعشرون ما روي عن عدي بن أرطأة لعمر بن عبد العزيز: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتدح فأعطى، ولك في رسول الله أسوة، فقال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي، فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئا؟ قال: نعم، فأنشده (2):
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمرا مدلسا ... واطفأت بالبرهان نار تضرما
فمن بلغ عني النبي محمدا ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا، بل موضوعا (3)، إلا أن شيوخنا استدلوا به على إثبات الجهة والمكان، وهم أدرى منا بذلك.
قال آخر: والحديث السادس والعشرون ما روي عن معبد بن كعب بن مالك، أن سعد بن معاذ لما حكم في بني قريضة قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد حكمت فيهم حكما حكم الله به من فوق سبعة أرقعة (4).
قال آخر: والحديث بهذه الصيغة، وإن كان ضعيفا إلا أنه يتقوى بغيره من الأحاديث التي سبق ذكرها، ولذلك ذكره شيوخنا في هذا الباب (5).
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 107)
(2) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 108)
(3) أورده الذهبي في العلو ص 42، عن طريق الهيثم بن عدي، وقال عنه: وهو إخباري ضعيف، والهيثم بن عدي اتهم بالكذب، قال يحيى بن معين، والبخاري: ليس بثقة، كان يكذب، وقال أبو داود: كذاب، وقال النسائي، وغيره: متروك الحديث، انظر: الميزان 4/324، والضعفاء الكبير 4/352.
(4) أورده الذهبي في العلو ص 32، وقال: هذا مرسل.
(5) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 109)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/81)
قال آخر: والحديث السابع والعشرون ما روي عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبريل عليه السلام بمرآة بيضاء، فيها نكتة، إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما هذه)؟ قال هذه الجمعة، فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع، اليهود والنصارى ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبريل ما يوم المزيد؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح، فيه كثب مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله عز وجل ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور، عليها مقاعد النبيين، وخف تلك المنابر بمنابر من ذهب، مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فيجلسوا من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله لهم: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى ربكم على العرش فيه، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة (1).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: والحديث الثامن والعشرون ما روي عن وهب بن منبه، عن أبي هريرة، أن رجلا من اليهود أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، هل احتجب الله من خلقه بشيء غير السموات؟ قال: نعم، بينه وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور،
__________
(1) الدارمي في الرد على الجهمية ص 38، وإثبات صفة العلو، ابن قدامة (ص 110)
(2) قال الذهبي في (العلو ص 30): إبراهيم وموسى ضعفاء، وقال في الميزان: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أحد الضعفاء، وقال يحيى بن معين: كذاب، وقال أحمد بن حنبل: تركوا حديثه، قدري، معتزلي، يروي أحاديث ليس لها أصل، انظر الميزان 1/57، 58، وانظر: التهذيب 1/158. أما موسى بن عبيدة فهو ابن نشيط، أبو عبد العزيز الزبذي، قال ابن حنبل: منكر الحديث، وقال الحافظ ابن حجر، وغيره: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بشيء، انظر: الضعفاء الصغير للبخاري ص 221، والتقريب 2/282، وميزان الاعتدال 4/213.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/82)
وسبعون حجابا من نار، وسبعون حجابا من ظلمة، وسبعون حجابا من رفارف الاستبراق، وسبعون حجابا من رفارف السندسي، وسبعون حجابا من در أبيض، وسبعون حجابا من در أحمر، وسبعون حجابا من در أصفر، وسبعون حجابا من در أحضر، وسبعون حجابا من ضياء استضاءه من ضوء النار والنور، وسبعون حجابا من ثلج، وسبعون حجابا من ماء، وسبعون حجابا من غمام، وسبعون حجابا من برد، وسبعون حجابا من عظمة الله التي لا توصف، قال: فأخبرني عن مالك الله الذي يليه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصدقت في ما أخبرتك يا يهودي؟ قال: نعم، قال: فإن الملك الذي يليه إسرافيل، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم ملك الموت (1).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: والحديث التاسع والعشرون ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال جبريل: يا محمد، كيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه من تحت العرش، ورجلاه من التخوم السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وأنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله حتى يصير مثل الوصع، يعني مثل العصفور، حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته (3).
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (4)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: والحديث الثلاثون ما روي عن جابر بن عبد الله، قال: بلغني حديث في
__________
(1) أبو الشيخ في العظمة 2/760 ـ 761، وأبو نعيم في الحلية 4/80.
(2) أورده ابن الجوزي في الموضوعات 1/117، وقال: هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمتهم به عبد المنعم، وقد كذبه أحمد، ويحيى، وقال الدارقطني: هو وأبو متروكان، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/79 ـ 80، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد المنعم بن إدريس، كذبه أحمد، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
(3) ابن المبارك بنحوه في كتاب الزهد، ص 74.
(4) فيه إسحاق بن بشر هو أبو حذيفة البخاري صاحب كتاب المبتدأ. تركوه، وكذبه علي بن المديني، وقال ابن حيان: لا يحل حديثه إلا من جهة التعجب، وقال الدارقطني: كذاب متروك. ميزان الاعتدال 1/ 184.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/83)
القصاص وصاحبه بمصر، فاشتريت بعيرا وشددت عليه رحلا، ثم سرت شهرا حتى وردت مصر، فسألت عن صاحب الحديث فدللت عليه، فإذا له باب لاط وغلام أسود، فقلت: أههنا مولاك؟ فسكت عني، ثم دخل فأخبر مولاه أن رجلا أعرابيا بالباب، فخرج إلي فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا جابر بن عبد الله، قال: ادخل، فدخلت، فقلت له: بلغني عنك أنك تحدث بحديث في القصاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم أشهده، وليس أحد أحفظ له منك، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يبعثكم يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، ثم ينادي بصوت، وهو قائم على عرشه بصوت رفيع غير فضيع، يسمع القريب والبعيد، يقول: أنا الديان لا ظلم اليوم، وعزتي وجلالي، لأقتصن للمظلوم من الظالم، ولو لطمة، ولو ضربة يد، ولأقتصن للجماء من القرناء، ولأسألن العود لم خدش صاحبه، ولأسألن الحجر لم نكب صاحبه، بذلك أرسلت رسلي، وأنزلت كتبي، وفي ذلك قلت: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]) (1)
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا أو موضوعا (2)؛ فإن علماءنا استدلوا به على هذا، لأنه يتقوى بغيره من الأحاديث السابقة.
قال آخر: ويؤيد كل هذه الأحاديث ما ذكره ابن قدامة في إثبات العلو، قال: كتب إلي الإمام الفقيه نجم الدين أبو العباس، أحمد بن محمد بن خلف، يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، أريد أن أسألك عن مسألة، قال: فما هي، قلت: جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة أن الله في السماء، وأكثر الناس ينكرون هذا، ومن ينكر هذا الأمر!؟
__________
(1) الخطيب البغدادي في الرحلة ح (33)، ص 115.
(2) فيه إسحاق بن بشر، قال الذهبي: هو كذاب، وقال بعد أن أورد الحديث: فهذا شبه موضوع، وفي سنده أيضا أبو الجارود، ولعله زياد بن المنذر الهمداني أبو الجارود الكوفي الأعمى، قال ابن معين، والنسائي، وغيرهما: متروك، الميزان 2/93.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/84)
كذلك الله في السماء (1).
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الرابع.
قال أحد الشيوخ: الدليل الرابع هو أدلة العقل .. وهي وإن كنا لا نعطي لها بالا، إلا أن أئمتنا وشيوخنا استعملوها ردا على المخالفين المعاندين.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام أحمد: (إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله تعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ .. فسيقول: نعم .. فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه؟ أم خارجاً عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال: واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين وإبليس في نفسه .. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا أيضاً كفر حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء .. وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع) (2)
قال آخر: ومثله قرر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية الأدلة العقلية على هذا، وقد قدم لذلك بقوله: (قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة، وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز، وصف بالقدرة دون العجز) (3)
قال آخر: وبناء على هذه المقدمة، ولوازمها، قال: (ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة
__________
(1) إثبات صفة العلو ـ ابن قدامة (ص 87)
(2) الرد على الزنادقة والجهمية (ص 95 ـ 96)
(3) درء تعارض العقل والنقل (7/ 5)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/85)
له، وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول) (1)
قال آخر: ثم استعرض ما يذكره المعطلة من العلو، وبين أنه يقتضي العلو المكاني أيضا، فقال: (والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، ولا محاذياً له ولا سافلا عنه .. ولما كان العلو صفة كمال، وكان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، ولا يكون قط غير عالٍ عليه) (2)
قال آخر: ومثله قرر تلميذه ابن النجيب ابن القيم الأدلة العقلية على ذلك، فقال: (إن كل من أقر بوجود رب للعالم مدبرله، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم؛ فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتاً وماهية مخصوصة أو لا؟ .. فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن رباً لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذاتاً مخصوصة وماهية، فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة؟ .. فإن قيل إنها غير معينة كانت خيالاً في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته سبحانه واجب .. وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم قطعاً مباينة أحد المتعينين للآخر، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه .. فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه .. قيل: هذا ـ والله أعلم ـ حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 6)
(2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 7)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/86)
المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمراً عدمياً محضاً ونفياً صرفاً وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض .. وأيضاً فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لاشيء وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم قطعاً من إثبات ذاته تعيين تلك الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره) (1)
قال القاضي: وعينا هذا، واقتنعنا به، فحدثونا عن الدليل الخامس.
قال أحد الشيوخ: الدليل الخامس هو دليل الفطرة .. وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الدليل، فقال: (علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك، وتصديقاً من غير أن يتواطؤا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم .. وكذلك هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات .. فهذا يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو وتوجههم عند دعائه إلى العلو، كما يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك) (2)
قال آخر: وقال ابن خزيمة: (باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في
__________
(1) مختصر الصواعق (1/ 279 ـ 280)
(2) انظر درء تعارض العقل والنقل (7/ 5)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/87)
محكم تنزيله وعلى لسان نبيه عليه السلام، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين، علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا: فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله، إلى أعلاه لا إلى أسفل) (1)
قال آخر: وقال ابن عبد البر: (ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم) (2)
قال آخر: بل إن المعطلة أنفسهم يقرون بهذا الدليل، ويعترفون بعجزهم عن الرد عليه، ولهذا لم يجد الجويني ـ الذي يلقبونه زورا وبهتانا [إمام الحرمين]ـ جواباً حين سأله الهمداني محتجاً عليه بها، فقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الاستاذ أبا المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: (كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان)، فقال الشيخ أبو جعفر: (يا أستاذ دعنا من ذكر العرش ـ يعني لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة على قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني) (3)
__________
(1) كتاب التوحيد (ص 204)
(2) التمهيد (6/ 127)
(3) مجموع الفتاوى (4/ 44، 61)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 325 ـ 326)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/88)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات علو لله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. فبالسمع والعقل اللذين أمر الله تعالى باستعمالهما نتحصن مما ذكروه من الإفك العظيم على الله.
قال آخر: وبما أنا ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها؛ فسنكتفي هنا بأمرين .. أولهما: ما ورد من النصوص المحكمة الدالة على نفي الجهة عن الله تعالى .. والثاني تأويل ما ورد من المتشابه منها، ورده إلى المحكم.
قال آخر: أما النصوص المحكمة؛ فكثيرة، وقد ساق شيوخنا الأفاضل الكثير منها، إلا أنهم بدل اعتبارها من المحكمات التي ترجع إليها المتشابهات اعتبروها من المتشابهات، فأولوها، وهي المحكمة الواضحة التي لا تحتاج أي دليل.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كل النصوص التي سبق ذكر الكثير منها عند بيان نفي المحدودية والجسمية، تدل على ذلك .. فنفي المحدودية والجسمية، يستلزم نفي الجهة والمكان.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك استدل علماؤنا بما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، واستدلاله بحصول التغير في الكواكب على ذلك، وقد عبر عن هذا الدليل الفخر الرازي بقوله: (فقد حكى الله تعالى عنه في كتابه بأنه استدل بحصول التغير في أحوال
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/89)
الكواكب على حدوثها، ثم قال عند تمام الإستدلال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79]) (1)
قال آخر: ثم ذكر وجوه دلالة الآية الكريمة على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة، ومنها أنه ما دام قد ثبت بالبرهان أن (الأجسام متماثلة .. فإنه ما صح على أحد المثلين وجب أن يصح على المثل الآخر، فلو كان تعالى جسما، أو جوهرا وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره، وأن يصح على غيره كل ما صح عليه، وذلك يقتضي جواز التغير عليه ولما حكم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم بأن المتغير من حال إلى حال لا يصلح للإلهية، وثبت أنه لو كان جسما لصح عليه التغير لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصلا) (2)
قال آخر (3): ومنها أن إبراهيم عليه السلام قال عند تمام الإستدلال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79]، فلم يذكر من صفات الله تعالى إلا كونه خالقا للعالم، والله تعالى مدحه على هذا الكلام وعظمه، فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، (ولو كان إله العالم جسما موصوفا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لما كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسما متحيزا، ولو كان كذلك لما كان مستحقا للمدح والتعظيم بمجرد معرفة كونه خالقا للعالم، فلما كان هذا القدر من المعرفة كافيا في كمال معرفة الله تعالى دل ذلك على أنه تعالى ليس بمتحيز) (4)
قال آخر: ومنها أنه تعالى لو كان جسما (لكان كل جسم مشاركا له في تمام الماهية فالقول بكونه جسما يقتضي إثبات الشريك لله تعالى، وذلك ينافي قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/90)
الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، فثبت بما ذكرناه أن العظماء من الأنبياء عليهم السلام كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية والجوهرية والجهة) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كل ما ذكروه من الآيات والأحاديث التي يرون كونها مثبتة للجهة معارضة بآيات وأحاديث كثيرة تبين تنزهه عنها، ولذلك هم يضطرون لتأويلها، وبذلك يقعون فيما ينهون عنه.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة التي تخبر عن قرب الله تعالى من خلقه، ومعيته لهم، وفي كل الأحوال .. وأنه أدنى إليهم من حبل الوريد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]
قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر حضور الله ومعيته مع كل شيء، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد 4]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
قال آخر: ومثل ذلك ذكره لمعيته مع المؤمنين الصالحين، حيث قال تعالى: {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة: 12]، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة 40]، وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/91)
} [الأنفال: 12]
قال آخر: ومثل ذلك ذكر قرب المؤمنين، والصالحين منهم خصوصا، فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]
قال آخر: وذكر تقريبه لداود عليه السلام، فقال: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24، 25]
قال آخر: وهكذا يذكر الله تعالى حضوره مع المنحرفين الذين يستخفون من الناس، ولكنهم لا يستطيعون الاستخفاء منه، فيقول: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُم} [النساء 108]
قال آخر: وبهذا تفسر الآيات التي تدل على البعد في حق الله تعالى، فقد ذكر الله تعالى بعد الكفار عن ربهم وحجابهم عنه، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]
قال آخر: وكل ذلك يستحيل أن يراد به المكان والجهة، ولذلك، نرى مثبتو الجهة مضطرين لتأويل كل تلك النصوص في سبيل إثبات ما رأوا إثباته، فوقعوا في التناقضات الكثيرة.
قال آخر: ولو أنهم نزهوا الله تعالى عن المكان، لما احتاجوا إلى كل ذلك التكلف في الإثبات والتأويل.
قال آخر: ومثل تلك الآيات ما ورد من أحاديث في قرب الله تعالى من عباده، وهي
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/92)
كثيرة، وهي لا تعني القرب المكاني .. أو قرب الحلول والاتحاد؛ فالله تعالى منزه عن ذلك كله .. بل تعني القرب الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي، فقال ـ حاكيا عن ربه تبارك وتعالى ـ: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته) (1)
قال آخر: وهو يشير بذلك إلى أن القرب هو قرب العبد من الله، بكثرة طاعته له .. أما الله تعالى فهو قريب من كل شيء، كما عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (القرب عندنا: هو ارتفاع الغفلة عن ذات الله تعالى)، ثم قرب ذلك بقوله: (أليس أن من نظر إلى الزجاج على ضربين: ضرب إنما همه الزجاج، ورؤية ما وراء ذلك بالعرض .. وضرب إنما همه ما وراء الزجاج، ورؤية الزجاج بالعرض .. فكلاهما ناظر إلى الزجاج والى ما ورائه ولكن افترقا في ارتفاع الغفلة والتيقظ والشعور والالتفات فاتضح بهذا المثال معنى قولنا: ارتفاع الغفلة) (2)
قال آخر: وقال آخر: (معنى قربه منك وقربك منه: أنك متقرب منه بالخدمة، وهو يتقرب بالرحمة .. وأنت تتقرب بالسجود، وهو يتقرب بالجود .. وأنت تتقرب بالطاعة، وهو يتقرب بتوفيقك الاستطاعة) (3)
قال آخر: وقال آخر: (لا يقترب مخلوق من الله عز وجل قرباً مكانياً، فإنه تعالى لا
__________
(1) رواه البخاري 6502.
(2) ولي الله الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج 2 ص 260.
(3) عز الدين بن عبد السلام المقدسي، حل الرموز ومفاتيح الكنوز، ص 86.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/93)
يحويه مكان، ونسبة الأمكنة إليه واحدة، ولكن القرب المقصود في كلام الصوفية عامة هو قرب معنوي .. هو قرب محبة ورضى، قرب مكانة لا مكان) (1)
قال آخر: وقال آخر: (قربك منه أن تكون شاهداً لقربه، وإلا فمن أين أنت ووجود قربه؟)، وقال: (قرب المسافات والنسب والمداناة: وهو قرب الأجسام، وسائر المحدثات، فلا يليق بالحق سبحانه، ولا يجوز عليه) (2)
قال آخر: وقال آخر: (القرب منه ليس بالمكان، وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان .. وأن كمال النفس بالعلم والعمل، والاطلاع على حقائق الأمور، مع حسن الأخلاق) (3)
قال آخر: وقال آخر: (القرب على ثلاثة أوجه: قرب من حيث المسافة، وهو محال .. وقرب من حيث العلم والقدرة، وهو واجب .. وقرب من حيث الفضل والرحمة، وهو جائز) (4)
قال آخر: وقال آخر: (القرب من الحق تعالى: هو قرب معنوي وليس ذلك إلا برفع حجاب الجهل) (5)
قال آخر: وقال آخر: (القرب منه تعالى: هو التخلي عن كل صفة ذميمة، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإقبال عليه والطاعة له والإعراض عن كل ما سواه، وفعل كل ما يقرب إليه، وذلك هو معنى طريق الله، أو قل طريق القرب إلى الله تعالى) (6)
قال آخر: أما النصوص المتشابهة، والتي استدل بها شيوخنا الأفاضل؛ فقد اتفق
__________
(1) ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، ص 24.
(2) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 319 0
(3) الغزالي، ميزان العمل، ص 293 0
(4) محمد بن المنور، أسرار التوحيد في مقامات أبو سعيد، ص 349.
(5) أسرار التوحيد في مقامات أبو سعيد، ج 1 ص 135.
(6) السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله، ص 224.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/94)
علماؤنا جميعا على اعتبارها من المتشابه الذي يؤول بحسب ما يقتضيه المحكم، وما تقتضيه العقول السليمة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشيخ سليم البشري جوابا لمن سأله عن تلك الآيات، فقال: (اعلم أيدك الله بتوفيقه رسلك بنا وبك سواء طريقه، أن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان كما دلت على ذلك البراهين القطعية، فإن كونه في جهة يستلزم قدم الجهة أو المكان وهما من العالم، وهو ما سوى الله تعالى، وقد قام البرهان القاطع على حدوث كل ما سوى الله تعالى بإجماع من أثبت الجهة ومن نفاها، ولأن المتمكن يستحيل وجود ذاته بدون المكان مع أن المكان يمكن وجوده بدون المتمكن لجواز الخلاء، فيلزم إمكان الواجب وجوب الممكن وكلاهما باطل، ولأنه لو تحيز لمكان جوهرا لاستحالة كونه عرضا، ولو كان جوهرا، فإما أن ينقسم وإما أن لا ينقسم، وكلاهما باطل، فإن غير المنقسم هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والمنقسم جسم وهو مركب والتركيب ينافي الوجوب الذاتي، فيكون المركب ممكنا يحتاج إلى علة مؤثرة، وقد ثبت بالبرهان القاطع أنه تعالى واجب الوجود لذاته، غني عن كل ما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه، سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (1)
قال آخر: ثم قال: (وما تمسك به المخالفون القائلون بالجهة أمور واهية وهمية، لا تصلح أدلة عقلية ولا نقلية، قد أبطلها العلماء بما لا مزيد عليه، وما تمسكوا به ظواهر آيات وأحاديث موهمة كقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 74.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/95)
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقوله {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقوله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] وقوله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه} [الأنعام: 18] .. ومثل هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية، إما تأويلا إجماليا بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف، وإما تأويلا تفصيليا بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف، كقولهم إن الاستواء بمعنى الاستيلاء .. وصعود الكلم الطيب إليه قبوله إياه ورضاه به، لأن الكلم عرض يستحيل صعوده .. وقوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] أي أمره وسلطانه أو ملك من ملائكته موكل بالعذاب، وعروج الملائكة والروح إليه صعودهم إلى مكان يتقرب إليه فيه، وقوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] أي بالقدرة والغلبة؛ فإن كل منقهر غيره وغلبه فهو فوقه أي عال عليه بالقهر والغلبة، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان، أي أنه أقدر منه وأغلب) (1)
قال آخر: ولم يكتفوا بذلك، بل ردوا بتفصيل شديد على كل الفهوم التي فهمها مثبتو الجهة من تلك الآيات الكريمة، وأولها ـ كما ذكر الشيوخ الأفاضل ـ آيات الاستواء على العرش.
قال آخر (2): فمما يدل على كونها تدل على غير ما فهموه، أن ما بعد قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53]، ومعنى السماء هو الذي فيه له سمو وفوقية، فكل ما كان في جهة فوق فهو سماء، وإذا كان كذلك فقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53] يقتضي أن كل ما كان حاصلا في جهة فوق كان في السماء، واذا كان كذلك فقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الحشر:
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 76.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 116.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/96)
24] يقتضي أن كل ما كان حاصلا في جهة فوق فهو ملك الله تعالى ومملوك له، فلو كان تعالى مختصا بجهة فوق لزم كونه مملوكا لنفسه من غير محل، وهو محال فثبت أن ما قبل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وما بعده ينفي كونه سبحانه وتعالى مختصا بشي من الأحياز والجهات، فإذا كان كذلك امتنع ان يكون المراد بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كونه مستقرا على العرش.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ما قبل هذه الآية وما بعدها مذكور لبيان كمال قدرة الله تعالى وغاية عظمته في الإلهية وكمال التصرف، لأن قوله تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4] يدل على أن المفهوم منه بيان كمال قدرة الله تعالى وكمال إلهيته .. وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] بيان أيضا لكمال ملكه وإلهيته، واذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كذلك، وإلا لزم أن يكن ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده، وذلك غير جائز .. فأما اذا حملناه على كمال استيلائه على العرش الذي هو أعظم المخلوقات، فالموجودات المحدثة كان ذلك موافقا لما قبل هذه الآية ولما بعدها فكان هذا الوجه أولى.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الجالس على العرش لابد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل منه في يسار العرش، فيلزم في كونه في نفسه مؤلفا ومركبا، وذلك على الله تعالى محال.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الجالس على العرش إن قدر على الحركة والانتقال كان محدثا، لأن ما لا ينفك عن الحركة والسكون كان محدثا، وإن لم يقدر على
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/97)
الحركة لأن ما لا ينفك عن الحركة والسكون كان محدثا وإن لم يقدر على الحركة كان كالمربوط، بل كان كالزمن، بل أسوأ حالا منهما، فإن الزمن إذا أراد الحركة في رأسه أو حدقتيه أمكنه ذلك، وكذا المربوط وهو غير ممكن في الله تعالى.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لو حصل في العرش لكان حاصلا في سائر الأحياز، ويلزم منه كونه مخالطا للقاذورات والنجاسات، وإن لم يكن كذلك كان له طرف ونهاية وزيادة ونقصان، وكل ذلك على الله تعالى محال.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] يدل على أنه لو كان العرش مكانا لله تعالى لكانت الملائكة الذين يحملون العرش حاملين إله العالم، وذلك غير معقول، لأن الخالق هو الذي يحفظ المخلوق، أما المخلوق فلا يحفظ الخالق، ولا يحمله لا يقال هذا إنما يلزم إذا كان الإله معتمدا على العرش متكئا عليه، ونحن لا نقول ذلك لأنا نقول على هذا التقدير لا يكون الله تعالى مستقرا على العرش، لأن الاستقرار على الشيء إنما يحصل اذا كان معتمدا عليه.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه تعالى كان ولا عرش ولا مكان، فلما خلق الخلق يستحيل أن يقال إنه تعالى صار مستقرا على العرش بعد أن لم يكن كذلك لأنه تعالى قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] وكلمة ثم للتراخي.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ظاهر قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآية
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 117.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/98)
لنفي الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الدلائل العقلية القاطعة تبطل كونه تعالى مختصا بشيء من الجهات، واذا ثبت هذا ظهر أنه ليس المراد من الاستواء الاستقرار فوجب أن يكون المراد هو الاستيلاء والقهر ونفاذ القدر وجريان أحكام الإلهية، وهذا مستقيم على قانون اللغة كما قال الشاعر: (قد استوى بشر على العراق .. من غير سيف ودم مهراق)
قال آخر: والذي يدل على ذلك أن الله تعالى إنما أنزل القرآن بحسب عرف أهل اللسان وعادتهم، (ألا ترون انه تعالى قال: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] وقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] والمراد في الكل أنه تعالى يعاملهم معاملة الخادعين والماكرين والمستهزئين، فكذا ههنا المراد من الاستواء على العرش التدبير بأمر الملك والملكوت، ونظيره أن القيام أصله الانتصاف، ثم يذكر بمعنى الشروع في الأمر كما يقال قام بالملك) (2)
قال آخر (3): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على ذكر الفوقية؛ فجوابه أن لفظ الفوق في اللغة يدل على الرتبة والقدرة، كما قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقال: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، وقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .. فالمراد بالفوقية في هذه الآيات الفوقية بالقهر والقدرة، كما قال تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، أي أزيد منها في صفة الصغر والحقارة.
قال آخر (4): والذي يدل على أن المراد بلفظ الفوق ههنا الفوق بالقدرة والملكة أن الله تعالى قال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61]، والفوقية المقرونة بالقهر هي الفوقية
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 118.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 120.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 120.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/99)
بالقدرة والمكنة، لا بمعنى الجهة، بدليل أن الحارس قد يكون فوق السلطان في الجهة، ولا يقال فوق السلطان.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الله تعالى وصف نفسه بأنه مع عبيده فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وقال {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فإذا جاز حمل المعية في هذه الآيات على المعية بمعنى العلم والحفظ والحراسة، فلم لا يجوز حمل الفوقية في الآيات التي ذكرها مثبتو الجهة على الفوقية بالقهر والقدرة والسلطنة؟
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الفوقية الحاصلة بسبب الجهة ليست صفة المدح، لأن تلك الفوقية حاصلة للجهة والحيز بعينها وذاتها، وحاصلة للمتمكن في ذلك الحيز بسبب ذلك الحيز، فلو كانت الفوقية بالجهة صفة مدح لزم أن تكون الجهة أفضل وأكمل من الله.
قال آخر: أما الاعتراض على ذلك بالقول بأنه يلزم من هذا أن القدرة أفضل وأكمل من الله تعالى، فغير صحيح، لأن (القدرة صفة القادر، وممتنعة الوجود بدونه، بخلاف الحيز والجهة، فإنه غني عن الممكن) (1) .. ولهذا؛ فإن الكمال والفضيلة إنما تحصل بسبب الفوقية بمعنى القدرة والسلطنة، ولذلك كان حمل الآية عليه أولى.
قال آخر (2): أما استدلالهم بقوله تعالى في صفة الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ففيه جواب آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} [الزمر: 16] صلة
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/100)
لقوله: {يَخَافُونَ} [المدثر: 53] أي يخافون من فوقهم ربهم، وذلك لأنهم يخافون نزول العذاب عليهم من جانب فوقهم.
قال آخر (1): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على ذكر العلو؛ فإن كل ما يتمسك به مثبتو الجهة من العلو بسبب الجهة يستعمل في العلو بسبب القدرة، (فإنه يقال السلطان أعلى من غيره ويكتب في أمثلة السلاطين الديوان الأعلى، ويقال لأوامرهم الأمر الأعلى، ويقال لمجالسهم المجلس الأعلى، والمراد في الكل العلو بمعنى القهر والقدرة، لا بسبب المكان والجهة)
قال آخر (2): وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] وقال للمؤمنين: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] وقال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40]، وهكذا قال عن فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، والعلو في هذه المواضع بمعنى العلو بالقدرة، لا بمعنى العلو بالجهة.
قال آخر (3): ومما يدل على ذلك أنه تعالى قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فحكم بأنه تعالى أعلى من كل ما سواه، والجهة شيء سواه، فوجب أن يكون ذاته أعلى من الجهة، وما كان أعلى من الجهة يمتنع أن يكون علوه سبب الجهة، فثبت أن علوه لنفس ذاته، لا بسبب الجهة، ولا يقال الجهة ليست بشيء موجود حتى يدخل تحت قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] لأن الدلائل العقلية تدل على كونها أمرا موجودا.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه تعالى لو كان في جهة فوق، فإما أن يكون له جهة فوق نهاية، وإما أن لا يكون له في تلك الجهة نهاية، فإن كان الأول لم يكن أعلى الأشياء،
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 121.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/101)
لأن الأحياز الخالية فوقه تكون أعلى منه، ولأنه قادر على خلق الأجسام في جميع الأحياز، فيكون قادرا على خلق عالم في تلك الأحياز التي هي فوقه، فيكون ذلك العالم على ذلك التقدير أعلى منه.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه إذا كان العالم غير متناه من جانب الفوق، فلا جزء إلا وفوقه جزء آخر، وكل ما فوقه غيره لم يكن أعلى الموجودات فإذا ليس في تلك الأجزاء شيء هو أعلى الموجودات، فثبت أن كل ما كان مختصا بالجهة، فإنه لا يمكن وصفه بأنه أعلى الموجودات، وإذا كان كذلك وجب أن يكون علوه تعالى لا بالجهة والحيز وهو المطلوب.
قال آخر (2): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على لفظ العروج كقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقوله: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] فجوابه أن المعارج جمع معرج، وهو المصعد، ومنه قوله تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، وليس في هذه الآيات بيان أن تلك المعارج معارج لأي شيء، فسقطت حجتهم في هذا الباب .. ذلك أنه يجوز أن تكون تلك المعارج معارج لنعم الله تعالى أو معارج الملائكة أو معارج لأهل الثواب.
قال آخر (3): أما استدلالهم بقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، فليس المراد من حرف إلى في قوله: {إِلَيْهِ} [المزمل: 8] ما فهموه، ذلك أن مراده ونظيره ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] والمراد انتهاء أهل الثواب الى منازل العز والكرامة، كقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 122.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 122.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 122.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/102)
} [الصافات: 99]، ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها بالنسبة إلى أكثر المخلوقات.
قال آخر: وقد رد الفخر الرازي في تفسيره على الاستدلال بقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحديد: 5] على الجهة والمكان، فقال: (من المجسمة من قال: كلمة إلى لانتهاء الغاية، وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهي إليه يوم القيامة)، ثم ذكر وجوها للجواب على هذا، منها (أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه، فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواء كما قال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] وهذا كقولهم: رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ونظيره قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18] مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه) (1)
قال آخر: ومنها (أنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ويدخل في السلم كما أمر، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى) (2)
قال آخر: ومثل ذلك قال في قوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} [فصلت: 50] وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} [الكهف: 36] وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] وقوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون: 99 ـ 100]، وقوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53] وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25]
قال آخر: فقد ذكر من وجوه تأويلها (أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم، فقوله: ترجع
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 361)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 361)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/103)
الأمور أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كما قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن: 1] .. وعليه يحمل أيضا قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، فقد قيل: إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعا، ويسجد له الكفار كرها بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله، فكذا يجوز أن يقال: إن العباد يردون أمورهم إلى الله، ويعترفون برجوعها إليه، أما المؤمنون فبالمقال، وأما الكفار فبشهادة الحال) (1)
قال آخر (2): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على لفظ الإنزال والتنزيل، فجوابه أن مثبتي الجهة أنفسهم يؤولون هذا، ذلك أنهم يرون أن القرآن الكريم حروف وأصوات، فيكون الانتقال عليها محالا، وبذلك يكون إطلاق لفظ الإنزال والتنزيل عليها مجازا بالاتفاق، فلم يجز التمسك به.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد يضاف الفعل إلى الأمر به كما يضاف إلى المباشر، فالله تعالى أضاف قبض الأرواح إلى نفسه، فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ثم أضافه إلى ملك الموت، فقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] ثم أضافه إلى الملائكة فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]
قال آخر: ومثل ذلك قال: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ثم قال: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] .. وقال: {يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] أي أولياءه، ثم قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أي أولياءنا .. وقال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء: 142] أي رسوله والمؤمنين.
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 362)
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/104)
قال آخر (1): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على صيغة [إلى] في حق الله تعالى كقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وأن النظر الى الشيء يوجب رؤيته، فغير صحيح، ذلك أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وليس المراد منه القرب بالجهة، فكذا هنا.
قال آخر (2): أما استدلالهم بقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] فجوابه أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، لأن الله تعالى قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وهذا يقتضي أن يكون المراد من كونه في السماء ومن كونه في الأرض معنى واحدا، لكن كونه في الأرض ليس بمعنى الاستقرار، فكذلك كونه في السماء يجب أن لا يكون بمعنى الاستقرار.
قال آخر (3): ولذلك، لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17] الملائكة الذين هم في السماء، لأنه ليس في الكلام ما يدل على أن الذي في السماء هو الإله والملائكة، ولا شك أن الملائكة أعداء الكفار والفساق؟ .. ولم لا يجوز أن يكون المراد أم أمنتم من في السماء ملكه، وخص السماء بالذكر لأنها أعظم من الأرض تفخيما لشأنها.
قال آخر (4): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على الرفع كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، فالجواب أن الله تعالى لما رفعه إلى موضع الكرامة، صح على سبيل المجاز أن يقال إن الله تعالى رفعه إليه، كما أن الملك إذا عظم إنسانا صح أن يقال إنه رفعه إلى درجة عالية من تلك الدرجة، وأنه قربه من نفسه،
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 123.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 124.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/105)
ومنه قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10]، وقوله: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11]
قال آخر (1): أما استدلالهم بالآيات المشتملة على لفظ العندية، فلا يجوز أن يكون المراد بالعندية الحيز، بل المراد بها الشرف، والدليل عليه ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن رب العزة: (أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي) (2)، وقوله (أنا عند ظن عبدي بي) (3)، بل هذا أقوى لأن النصوص التي ذكروها تدل على أن الملائكة عند الله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 40]، وليس المراد بهذه العندية الجهة كذا هنا.
قال القاضي: فما تقولون في الأحاديث الكثيرة التي أوردها شيوخنا الأفاضل، والتي بلغت ثلاثين حديثا.
قال أحد التلاميذ: إن كل ما ذكروه أحاديث ضعيفة أو مكذوبة أو رويت بصيغ أخرى، وقد ذكرنا لكم سابقا أن أكثر الأحاديث رويت بالمعنى، ولذلك تعددت ألفاظها، ولا يمكن الاعتماد في العقائد على أمثال هذه الأحاديث.
قال آخر: بل إن شيوخنا الأفاضل الذين استدلوا بتلك الأحاديث يرفضون أمثالها مما ورد في أحكام الطهارة ونحوها .. فهل الطهارة أشرف من العقائد، حتى يقبل فيها ما هب ودب.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك الحديث الأول الذي أوردوه؛ فقد روي بصيغة أخرى أصح، وهي: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (4)
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 124.
(2) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 32)
(3) مسلم (2675) (19)، والترمذي (2388)
(4) أحمد (2/ 165)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/106)
قال آخر: ومثل ذلك حديث الجارية، والتي يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألها (أين الله)؛ فقد ذكرنا لكم سابقا أنهم وهم يحرصون على هذه الرواية مع العلم أن هناك روايتين أخريين للحديث، غير الرواية التي يهتمون بها.
قال آخر: أما الأولى؛ فقد وردت بلفظ (أتشهدين أن لا إله إلا الله)، وقد رواها مالك وأحمد وغيرهما، ونصها: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجارية له سوداء فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت نعم، قال أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت نعم، قال أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها) (1)
قال آخر: والحديث ـ بهذا اللفظ ـ يتوافق تماما مع غيره من الأحاديث التي تبين أن الهدف الأكبر للأنبياء عليهم السلام هو الدعوة للتوحيد، فلم يرد في أي من النصوص لا القرآن ولا الحديث أن من أهداف دعوة الأنبياء الدعوة إلى أن الله في السماء.
قال آخر: وأما الرواية الثانية، فقد وردت بلفظ (من ربك؟)، وقد رواها أبو داود والنسائي والدارمي والإمام أحمد وابن حبان، ونصها: قلت: (يا رسول الله إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال ادع بها فجاءت، فقال: (من ربك؟) قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: (أعتقها فإنها مؤمنة) (2)
قال آخر: وهذه الرواية كذلك تتفق مع غيرها من النصوص التي تبين أغراض الرسالة وهي التعريف بالله وبنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وليس فيها أبدا أن من أغراض الرسالة التعريف بجهة الله ولا مكانه.
__________
(1) الموطأ: 2/ 777، أحمد 3/ 451، ومصنف عبد الرزاق 9/ 175، والمنتقى لابن الجارود، 1/ 234.
(2) ابن حبان في صحيحه: 1/ 418 (189)، وأحمد في مسنده: 4/ 222 و 388 و 389، وأبو داود في سننه: ص 477 (3283)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2\ 322 (3283)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/107)
قال آخر: ومن الأدلة على ذلك ما رواه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) (1)
قال آخر: ومنها ما رواه في [باب كيف يعرض الإسلام على الصبي] من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن صياد: (أتشهد أني رسول الله؟) (2)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك كله، فإن إثبات أن قول الجارية ـ كما في الرواية التي اعتمدها شيوخنا الأفاضل ـ (في السماء) لا يدل على الإيمان، ذلك لأن بعض المشركين يعترفون بوجود الله وكذا النصارى واليهود ومع ذلك يشركون معه في الألوهية غيره كما ورد في الحديث عن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي يا حصين: كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال أبي: سبعة، ستةً في الأرض وواحداً في السماء .. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) (3)
قال آخر: ومع ذلك؛ فإن شيوخنا راحوا يؤولون تلك الأحاديث بما يتناسب مع تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وذلك حرصا على العوام من أن تؤثر فيهم أمثال تلك الأحاديث التجسيمية.
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة الجهة والمكان على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الثالث
__________
(1) صحيح البخاري 2/ 505 (1331)
(2) صحيح البخاري (6/ 171)
(3) سنن الترمذي 5/ 519 (3483)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/108)
الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الثالث ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات عدم استحالة التركيب على الله تعالى، على عكس ما يقوله المعطلة، ذلك أننا مع عدم اعتبار هذا من صفات الله تعالى؛ إلا أن معناه صحيح عندنا.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا في ديننا، والذين ذكروا أن صفة الأنامل مرتبطة بصفة الأصابع، والأصابع مرتبطة بصفة اليد، وأن لله تعالى يدين، وغيرها، ولذلك لا يمكن معرفة صفات الله تعالى من دون الإيمان بالتركيب.
قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة في الدلالة على جواز البعضية والتركيب على الله، ما أورده علماؤنا في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]، فقد رووا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] قال: هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر، قال أحمد: أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد، قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال من أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقول أنت ما تريد إليه) (1)
قال آخر: وفي رواية أخرى عن أنس: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف: 143] قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه
__________
(1) أحمد: (3/ 125)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/109)
اليمنى، قال: (فساخ الجبل وخَرَّ موسى صعقاً) (1)
قال آخر: ومن تلك الروايات ما يذكره علماؤنا عند حديثهم عن صفتي [الْحُجْزَةُ وَالْحَقْوُ]، واللذان يعنيان في ظاهرهما [موضع عقد الإزار وشده]، فهم يذكرون أنهما (صفتان ذاتيان خبريَّتان ثابتتان بالسنة الصحيحة)، ويستدلون لهما بما روي عن ابن عباس قال: (إنَّ الرحم شجنة آخذة بحُجزة الرحمن؛ يصل من وصلها، ويقطع من قطعها) (2)
قال آخر: ويستدلون لذلك أيضا بما روي عن أبي هريرة قال: (خلق الله الخلق، فلما فرغ منه؛ قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه! قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) (3)
قال آخر: فهذا الحديث صريح في اعتبار الحقو بعضا من الله، ولهذا تمسكت به الرحم، كما يتمسك أحدنا بآخر عند التوسل إليه، ولله المثل الأعلى، وقد قال الشيخ عبد الله الغنيمان في [شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري] ناقلاً من [نقض التأسيس] لشيخ الإسلام، ومن [إبطال التأويلات] لأبي يعلى الفراء، ومعلقاً: (قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده على الرازي في زعمه أنَّ هذا الحديث: (يعني: حديث أبي هريرة المتقدم) يجب تأويله: قال: فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنزاع فيه كالنزاع في نظيره؛ فدعواك أنه لا بدَّ فيه من التأويل بلا حجة تخصه؛ لا تصح) (4)
قال آخر: ثم قال: (وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق؛ فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من
__________
(1) الترمذي: (5/ 115)
(2) أحمد (2956) وابن أبي عاصم في السنة (538))
(3) رواه البخاري (4830) وغيره.
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/110)
أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت) (1)
قال آخر: ثم نقل عن ابن حامد قوله: (ومما يجب التصديق به أن لله حقوا)، وعن المروزي قوله: قرأت على أبي عبد الله كتابا، فمر فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ منها؛ أخذت بحقو الرحمن)، فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أن تكون كفرت، قال أبو عبد الله: هذا جهمي) (2)
قال آخر: ونقل عن أبي طالب قوله: (سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث هشام بن عمار؛ أنه قرئ عليه حديث الرحم: (تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن تعالى .. )، فقال: أخاف أن تكون قد كفرت، فقال: هذا شامي؛ ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول؟ قال: يمضي كل حديث على ماجاء) (3)
قال آخر: ونقل عن القاضي أبو يعلى قوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن (الحقو) و (الحجزة) صفة ذات، لا على وجه الجارحة والبعض، وأن الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع، وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد) (4)
قال آخر: ثم عقب عليه بقوله: (قلت: قوله: (لا على وجه الجارحة والبعض)، وقوله: (لا على وجه الاتصال والمماسة)؛ قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع التي أفسدت عقول كثير من الناس؛ فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقا، ولا إثباته مطلقا؛ لأنه يحتمل حقا وباطلا، فلا بد من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خال منه، وليس هو بحاجة إليه؛ فهو واضح، وليس ظاهر هذا الحديث
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(2) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/111)
أن لله إزارا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد؛ فإنه لو قيل عن بعض العباد: إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب. فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد؛ فكيف يدعى أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى، فإن كل من يفهم الخطاب ويعرف اللغة؛ يعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب) (1)
قال آخر: ومن الآثار الصريحة الدالة على جواز التركيب على الله ما روي عن عكرمة قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن تدمدم على قوم تجلى لها) (2)
قال آخر: وقد صرح ابن القيم بصحة هذه الرواية، بل اعتبر ما ورد فيها من العقائد التي أثبتها في نونيته المشهورة، والتي لا نزال نحفظها ونحرص عليها، فقد جاء فيها (3):
وزعمت أن الله أبدى بعضه ... للطور حتى عاد كالكثبان
لما تجلى يوم تكليم الرضى ... موسى الكليم مكلَّم الرحمن
قال آخر: وقد استشهد شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الرواية على صحة إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف، فقال: (وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره، فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانُهم، وإذا حُقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)
(2) السنة 2/ 470 (1069) الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 1/ 248 (961) وعزاه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 87 إلى الطبراني في كتاب السنة.
(3) انظر شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم 1/ 230
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/112)
لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظياً أو اعتبارياً، فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظٍ واعتبار واختلافِ اصطلاحٍ في مسمى (بعض) و (غير) كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض، وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة .. فهذا إن كان أحد أطلق البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا، وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض، فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين) (1)
قال آخر: ثم نقل الرواية التي ذكرناها، ثم قال: (وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل والتي فيها أنه ما تجلى منه إلا مثل الخنصر، وفي قصة داود: قال: يدنيه حتى يمس بعضه، وهذا متواتر عن هؤلاء .. ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام، فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضاً وينفصل بعضه عن بعض، أو يمكنُ ذلك فيه كما يقال حدُّ الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها فإنه يجوز أن تتفرق وتنفصل والله سبحانه منزه عن ذلك كله مقدس عن النقائص والآفات .. وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان لازما له لا يفارقه والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أنه قادر ثم أنه عالم .. فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيض بهذا المعنى
__________
(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 ـ 92 وانظر كلام الفراء في إبطال التأويلات 2/ 340.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/113)
فهو معطل جاحد للرب فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم .. فقول السلف والأئمة ما وصف به الله من الله وصفاته منه وعِلم الله من الله ونحو ذلك مما استعملوا فيه لفظ (من) وإن قال قائل معناها التبعيض فهو تبعيض بهذا الاعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا الاعتبار) (1)
قال آخر: ومن الروايات التي استدل بها سلفنا كذلك ما أوردوه عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، فقد رووا عن مجاهد عن عبيد بن عمير قوله: (حتى يضع بعضه عليه) (2)، وفي رواية: (ذكر الدنو منه حتى ذكر أنه يمس بعضه) (3)، وفي رواية: (ما يأمن داود عليه السلام يوم القيامة حتى يقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ فيقال اُدنه فيقول ذنبي ذنبي فيقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ مكاناً الله أعلم به قال سفيان كأنه يمسك شيئا) (4)، وفي رواية عن مجاهد: (حتى يأخذ بقدمه) (5)، وفي رواية عن مجاهد: (إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله عز وجل له كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله له كن خلفي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي) (6) وفي رواية: (حتى يضع يده في يده) (7)
قال آخر: وغيرها من الروايات، والتي لا يستفاد منها غير تركيب الله تعالى من أجزاء وأبعاض .. ولهذا قال القاضي أبو يعلى تعليقا عليها: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره إذ ليس فيه ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدماً وفخذاً وجارحة ولا أبعاضاً، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا الذات والوجه واليدي) (8)
قال آخر: وقال ابن القيم مشيرا إلى أمثال هذه الروايات معتبرا المنكر لها جهميا
__________
(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 ـ 92.
(2) السنة 2/ 475 (1086) و 2/ 507 (1180) الخلال في السنة 1/ 262 (319)
(3) السنة 2/ 503 (1165)
(4) السنة 2/ 502 (1161)
(5) السنة 2/ 507 (1182)
(6) السنة 1/ 262 (322) ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 342 (31888)
(7) السنة 2/ 502 (1163)
(8) انظر حاشية المرجع السابق 1/ 207 ـ 210
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/114)
معطلا: (وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، فزاده على المغفرة أمرين الزلفى وهي درجة القرب منه، وقد قال فيها سلف الأمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات جواز التركيب على الله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي التركيب عن الله تعالى.
قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة عن أئمة الهدى في ذلك، قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (لا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال: له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه، أو أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله) (2)
قال آخر: وقد سئل الإمام الصادق: (كيف هو الله؟)، فقال: (واحد في ذاته، فلا واحد كواحد؛ لأن ما سواه من الواحد متجزئ، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزأ، ولا
__________
(1) طريق الهجرتين 1/ 357
(2) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/115)
يقع عليه العد) (1)
قال آخر: وعن يونس بن ظبيان،: دخلت على الإمام الصادق، فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما، إلا أني أختصر لك منه أحرفا، فزعم أن الله جسم؛ لأن الأشياء شيئان: جسم وفعل الجسم، فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل، فقال الإمام الصادق: (ويحه .. أما علم أن الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان، وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا)، قلت: فما أقول؟ قال: (لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشئ والمنشأ، لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) (2)
قال آخر: ويروى أنه دخل رجل من الزنادقة على الإمام الرضا، فقال: حدّ لي ربك، فقال: لا حد له، قال: ولم؟ قال: (لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزي ولا متوهم) (3)
قال آخر: وقال الإمام الجواد: (كل متجزى أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له) (4)
قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من تدبرهم للقرآن الكريم، ولأمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، واستنبطوا البراهين العقلية الكثيرة الدالة على استحالة التركيب
__________
(1) الاحتجاج: 2/ 217 / 223، بحار الأنوار: 10/ 167.
(2) الكافي: 1/ 106 / 6، التوحيد: 99/ 7.
(3) التوحيد: 250 و 252/ 3، عيون أخبار الرضا: 1/ 132/28.
(4) الكافي: 1/ 116 / 7، التوحيد: 193/ 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/116)
على الله تعالى، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره القضاعي من الآيات الكريمة الدالة على نفي التركيب والأبعاض عن الله، فقال: (ولم يكتف القرآن حتى صرح بهذه اللوازم تفصيلا لمن تدبره مستدلا بها لعباده فقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] فهذا بين لك أن الارتفاع والانضاع الحسيين كما يشاهد في السماء والأرض هما من صفات الحادثات الممكنات لا بد لهما من فاعل، وأنه فاعل ذلك فهو الرافع الخافض، وما هو من دلائل الحدوث يستحيل أن يكون وصفا للواجب المتعالي، وكذلك قال سبحانه {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [الرعد: 3] أي خفضها وجعلها بحيث تصلح للمشي في مناكبها قال {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] ثم ذكر انقسام الأرض إلى أجزاء مختلفة واتصاف ثمار الجنات والزروع بتفاضل بعضها على بعض في الأكل، وأنه هو فاعل ذلك ومجزئه ومقسمه، كما أشار في آية أخرى إلى أنه مجزئ جسم الإنسان إلى أجزاء، وجاعل لكل منها وظيفة، فقال {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8، 9] واحتج على الإنسان بوجوده على القدر المخصوص وتجزئته إلى الأجزاء المسماة المعدولة عما يجوز عليها من الصفات إلى ما هي عليه من الحسن والنظام وتركبه، فقال: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 ـ 8] فالعقول تفهم ببداهتها أن الانقسام إلى الأجزاء لا سيما إذا كانت مسواة، والتركب من الجوارح والأعضاء لا بد له من موجد مقسم مركب، ولذلك احتج الله به على ابن آدم، ومحال أن يحتج الله على الحدوث بوصف، ثم يكون هذا الوصف في ذاته عز وجل، فمن قال بتركب ذات الله من الأجزاء وحمل اليدين والعين والأعين والوجه واليمين الواردة في كتاب الله في
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/117)
وصف الله والقدمين والساق في الحديث على الأعضاء والأجزاء، وحمل العلو الوارد في وصفه تعالى على العلو الحسى المكاني، والنزول على مثل ذلك، وأن ذلك مقتضى الكتاب والسنة، وأنه بذلك يكون سلفيا، فما فهم الكتاب ولا السنة ولا تابع السلف الصالح، فهذا كتاب الله يرد عليه أبلغ رد) (1)
قال آخر: وبعد أن ساق نصا لناصر الدين البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] قال: (فإنه تعالى لو جاز عليه الانقسام أو صح عليه الصغر أو الامتداد لكان مقدرا، وقد علمت أن كتابه سبحانه ينادي بأن كل مقدر حادث مخلوق، فيكون ممكنا، والممكن يستحيل أن يكون خالقا وموجدا، وقد ثبت أنه الخلاق فيجب أن يكون متصفا بوجوب الوجود وتوابع هذا الوجود الواجب من الكمالات العليا، فوجب أن يكون منزها عن التركب وقبول الانقسام، وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام، بذلك نطق كتاب الله لقوم يسمعون، ونادت بهذا آياته من ألقى إليها السمع وهو شهيد، وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم، ووقع فيه النصارى من بعدهم) (2)
قال آخر: ثم ذكر موقف المخالفين متعجبا منه، فقال: (والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون، أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية، يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى، لقولهما بالتنزيه، وهما لم ينفردا به، بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 60.
(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 61.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/118)
فمن بعدهم إلى زمانه وإلى زماننا، وإلى أن يأتي أمر الله) (1)
قال آخر: وهكذا ذكر الرازي الكثير من الأدلة العقلية على نفي التركيب عن الله تعالى، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، حيث قال موردا للشبهة: (احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] في إثبات يدين لله تعالى، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه، فوجب المصير إليه، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية، فوجب القطع به) (2)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الشنيعة للقول بتركيب الله تعالى من أجزاء وأبعاض، فقال: (إن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها، وإما أن يزيد عليها، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وأن يثبت جنبا واحدا لقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]، وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) .. وأن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فيكون الحاصل من هذه الصورة، مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد، ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور،
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 61.
(2) مفاتيح الغيب (26/ 410)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/119)
ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة) (1)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمال الثاني الذي يقع فيه المجسم، (وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر، ولا بد له من قبول دلائل العقل) (2)
قال آخر: ومن الوجوه التي أوردها لنفي الجسمية والتركيب (أنه في ذاته سبحانه وتعالى، إما أن يكون جسما صلبا لا ينغمز البتة، فيكون حجرا صلبا، وإما أن يكون قابلا للانغماز، فيكون لينا قابلا للتفرق والتمزق، وتعالى الله عن ذلك) (3)
قال آخر: ومنها (أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان كالزمن المقعد العاجز، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان محلا للتغيرات، فدخل تحت قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]) (4)
قال آخر: ومنها (إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت، وإن كان يفعل هذه الأشياء، كان إنسانا كثير التهمة محتاجا إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل) (5)
قال آخر: ومنها (أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا، فنقول لهم حين نزوله: هل يبقى مدبرا للعرش ويبقى مدبرا للسماء الدنيا حين كان على العرش، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة، وإن لم يبق مدبرا للعرش فعند نزوله يصير معزولا عن إلهية العرش والسموات) (6)
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 410)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(4) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(5) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(6) مفاتيح الغيب (26/ 411)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/120)
قال آخر: ومنها (أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيرا بحيث تسعه السماء الدنيا، وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش، وكل ذلك باطل) (1)
قال آخر: ومنها (إذا ثبت أن العالم كرة، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كان تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل، فحينئذ يكون جسما محيطا بهذا العالم من كل الجوانب، فيكون إله العالم على هذا القول فلكا من الأفلاك) (2)
قال آخر: ومنها (أنه لما كانت الأرض كرة، وكانت السموات كرات، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبدا نازلا عن العرش، وأن لا يرجع إلى العرش البتة) (3)
قال آخر: ومنها (أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها: كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض وثانيها: كونه محدودا متناهيا وثالثها: كونه موصوفا بالحركة والسكون والطلوع والغروب، فإذا كان إله المشبهة مؤلفا من الأعضاء والأجزاء كان مركبا، فإذا كان على العرش كان محدودا متناهيا، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفا بالحركة والسكون، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها، وذلك يبطل قول المشبهة، وإن لم تكن منافية للإلهية فحينئذ لا يقدر أحد
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 411)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/121)
على الطعن في إلهية الشمس والقمر) (1)
قال آخر: ثم استدل ببعض الآيات القرآنية الدالة على ذلك، ومنها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فقال: (ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة، وذلك ينافي كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض) (2)
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]، ولو كان مركبا من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجا إليها، وذلك يمنع من كونه غنيا على الإطلاق) (3)
قال آخر: ثم عقب على هذه الأدلة بقوله: (فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال) (4)
قال آخر: واستدل في موضع آخر بقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] على استحالة التركيب، فقال: (وكونه إلها يقتضي كونه غنيا عما سواه .. وكل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه .. وكل واحد من أجزائه غيره .. فكل مركب مفتقر إلى غيره وكونه إلها يمنع من كونه مفتقرا إلى غيره، وذلك يوجب القطع بكونه أحدا وكونه أحدا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة، فثبت أن قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب) (5)
قال آخر: ثم استدل بقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] على ذلك، فقال: (فالصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج، وذلك يدل على أنه ليس بجسم، وعلى أنه غير مختص بالحيز والجهة) (6)
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 412)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 412)
(4) مفاتيح الغيب (26/ 411)
(5) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(6) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/122)
قال آخر (1): ثم ذكر وجوه دلالته على ذلك .. ومنها أن كل جسم، فهو مركب؛ وكل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب، فهو محتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير لا يكون غنيا محتاجا إلى غيره فلم يكن صمدا مطلقا،
قال آخر (2): ومنها أنه لو كان مركبا من جوارح وأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين، وفي الفعل إلى اليد، وفي المشي إلى الرجل، وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا.
قال آخر (3): ومنها أن الأدلة تدل على أن الأجسام متماثلة، والأشياء المتماثلة يجب إشتراكها في اللوازم، فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض لزم كون الكل محتاجا إلى ذلك الجسم، ولزم أيضا كونه محتاجا إلى نفسه، وكل ذلك محال، ولما كان ذلك محال وجب أن لا يحتاج إليه شيء من الأجسام، ولو كان كذلك لم يكن صمدا على الإطلاق.
قال آخر: وهكذا استدل بالآية الكريمة على نفي التحيز، فقال: (وأما بيان دلالته على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة، فهو أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان إما أن يكون حصوله في الحيز المعين واجبا، أو جائزا، فإن كان واجبا فحينئذ يكون ذاته تعالى مفتقرا في الوجود والتحقق إلى ذلك الحيز المعين، وأما ذلك الحيز المعين، فإنه يكون غنيا عن ذاته المخصوص، لأنا لو فرضنا عدم حصول ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين لم يبطل ذلك الحيز أصلا، وعلى هذا التقدير يكون تعالى محتاجا إلى ذلك الحيز، فلم يكن صمدا على الإطلاق، أما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا لا واجبا فحينئذ يفتقر إلى مخصص يخصصه بالحيز المعين، وذلك يوجب كونه محتاجا وينافي كونه صمدا) (4)
قال آخر: وهكذا استدل بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] على
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 24.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/123)
نفي الجسمية ولوازمها، فقال: (هذا أيضا يدل على أنه ليس بجسم ولا جوهر، لأن الجواهر متماثلة، فلو كان تعالى جوهرا لكان مثلا لجميع الجواهر، فكان كل واحد من الجواهر كفؤا له، ولو كان جسما لكان مؤلفا من الجواهر؛ لأن الجسم يكون كذلك، وحينئذ يعود الإلزام المذكور) (1)
قال آخر: ثم علق على تفسيره لسورة الإخلاص ودلالتها على تنزيه الله تعالى من الجسمية والحدود وغيرها، فقال: (فثبت أن هذه السورة من أظهر الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا حاصل في مكان وحيز .. واعلم أنه كما أن الكفار لما سألوا الرسول عن صفة ربه فأجاب الله بهذه الصورة الدالة على كونه تعالى منزها عن أن يكون جسما، أو جوهرا، أو مختصا بالمكان) (2)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة التركيب على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الرابع الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الرابع ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات عدم استحالة التغير والحركة على الله تعالى، على عكس ما يقوله المعطلة، ذلك أننا مع عدم اعتبار الحركة والتغير من صفات الله تعالى؛ إلا أن معناها صحيح عندنا.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/124)
في ديننا، والذين اعتبروا المجيء والنزول والهرولة من صفات الله تعالى، وهي صفات لا يمكن فهمها من دون إثبات الحركة لله تعالى.
قال آخر: ولهذا اعتبر شيوخنا نفي الحركة والانتقال عن الله حكم عليه بالإعدام، كما قال ابن القيم: (وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة .. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له، وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور، فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة) (1)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية مشيرا إلى ذلك: (وهكذا يقال لهم فى أنواع الفعل القائم به كالإتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة: إما أن يقبل ذلك وإما أن لايقبله: فإن لم يقبله كانت الأجسام التى تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك وما يقبل الحركة أكمل ممن لايقبلها) (2)
قال آخر: وقال في شرح حديث النُّزول: (لفظ [الحركة] هل يوصف الله بها أم يجب نفيه عنه؟ اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال، وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب
__________
(1) مختصر الصواعق (2/ 257 ـ 258)
(2) مجموع الفتاوى 8/ 23
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/125)
الآئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم) (1)
قال آخر: ثم ذكر معنى الحركة عند المدارس المختلفة، مبتدئا بمن يطلق عليهم المعطلة، فقال: (والمقصود هنا أنَّ الناس متنازعون في جنس الحركة العامة التي تتناول ما يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية؛ كالغضب والرضى والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنُّزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ينفي ذلك مطلقاً وبكل معنى .. وهذا أول من عرف به هم الجهمية والمعتزلة) (2)
قال آخر: ثم ذكر قول السلف المثبتين للحركة، فقال: (والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام الذين صرحوا بلفظ الحركة .. وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني ـ لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر ـ عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وغيره .. وكثيرٌ من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن؛ لا يطلق هذا اللفظ؛ لعدم مجيء الأثر به؛ كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النُّزول، والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة؛ من أنه يأتي وينْزل وغير ذلك من الأفعال اللازمة) (3)
قال آخر: ثم نقل عن أبي عمرو الطلمنكي قوله: أجمعوا (يعني: أهل السنة
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/ 565
(2) مجموع الفتاوى (5/ 577)
(3) مجموع الفتاوى (5/ 577)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/126)
والجماعة) على أنَّ الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفَّاً صفَّاً لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء؛ قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210]، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] .. وأجمعوا على أنَّ الله يَنْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئا .. ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح؛ قال: وسألت يحيى بن معين عن النُّزول؟ فقال: نعم؛ أقر به، ولا أحِدُّ فيه حَدَّاً) (1)
قال آخر: ثم ذكر القول الثالث، وهو الذي لا ينفي إطلاق وصف الحركة على الله ولا يثبته، وإن لم ينف معناها، فقال: (القول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثيرٌ من أهل الحديث والفقهاء والصوفية؛ كابن بطة وغيره، وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن؛ لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات.) (2)
قال آخر: وهكذا عبر عن إثبات الحركة لله تعالى شيخنا ابن عثيمين بقوله: (النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنُّزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة) (3)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات جواز الحركة
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 577)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 577)
(3) إزالة الستار عن الجواب المختار (ص 32)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/127)
والتغير على الله تعالى؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي الحركة والتغير عن الله تعالى.
قال آخر: ذلك أن الله تعالى أعظم من أن يحتاج إلى التنقل أو الحركة .. لأنه لا يحتاجهما إلا القاصر الضعيف البعيد الذي لا تتحقق مطالبه إلا بالانتقال والحركة .. أما القوي القادر القريب، فإنه يحقق مطالبه من غير حركة ولا انتقال.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الحركة تستدعي المحدودية والحيز .. والله أعظم من أن يحد أو يتحيز.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الحركة والانتقال تقتضيان أن يحيط بالمتحرك المكان والزمان .. والله أعظم من أن يحتاج للمكان، أو يجري عليه الزمان.
قال آخر: ولهذا اتفق أئمتنا على ذلك، وحذروا من الوقوع في التجسيم والتشبيه بسببه، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام) (1)
قال آخر: وقال في تنزيه الله تعالى: (المشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها) (2) .. وقال: (لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.
(2) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/128)
فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره!؟) (1)
قال آخر: وقال: (إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب .. هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة .. داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل وخارج منها لا كشيء من شيء خارج) (2) .. وقال: (الخالق لا بمعنى حركة) (3)
قال آخر: وقال الإمام الحسين: (لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث) (4)
قال آخر: وسئل الإمام الباقر عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، ما ذلك الغضب؟ .. فقال: (هو العقاب، إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، وإن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره) (5)
قال آخر: وقال الإمام الصادق في قول الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]: (إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه؛ لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلى الله ما يصل إلى خلقه، لكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال: (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها)، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]،
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476.
(2) التوحيد: 305/ 1، الأمالي للصدوق: 423.
(3) الكافي: 1/ 140 / 5.
(4) تحف العقول: 244.
(5) الكافي: 1/ 110 / 5، التوحيد: 168/ 1.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/129)
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر، وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما؛ لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا) (1)
قال آخر: وقال الإمام الصادق: (إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!) (2)
قال آخر: وقال الإمام الكاظم: (أما قول الواصفين: إنه ينزل ـ تبارك وتعالى ـ فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود، فإن الله ـ جل وعز ـ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهم المتوهمين) (3)
قال آخر: وقال الإمام الرضا: (لم يتغير عز وجل بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره) (4)
قال آخر: وقال الإمام الرضا: (فاعل لا بمعنى الحركات والآلة) (5)، وقال: (مدبر لا بحركة) (6)
__________
(1) الكافي: 1/ 144 / 6، التوحيد: 168/ 2.
(2) التوحيد: 184/ 20، الأمالي للصدوق: 353.
(3) الكافي: 1/ 125 / 1، التوحيد: 183/ 18.
(4) التوحيد: 433/ 1، عيون أخبار الرضا: 1/ 171 / 1.
(5) نهج البلاغة: الخطبة 1، الاحتجاج: 1/ 473.
(6) التوحيد: 37/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 151 / 51.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/130)
قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من القرآن الكريم، ومن أمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، ليبحثوا في كل البراهين العقلية الدالة على استحالة التغير والحركة على الله، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]، فقد قال: (أجمعوا على أن لفظ النظر يجيء بمعنى الانتظار، كما قال الله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 ـ 23] .. فالمراد من قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} [الزخرف: 66] هو الانتظار .. وأجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب) (1)
قال آخر: ثم ذكر من أدلة استحالة ظاهر [المجيء] إلى الله تعالى، فقال: (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثا مخلوقا، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك) (2)
قال آخر: ومنها (أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان، فإما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ، وذلك باطل باتفاق العقلاء، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئا كبيرا، فيكون أحد جانبيه مغايرا للآخر، فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركبا، فإن ذلك المركب يكون مفتقرا في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فكل مركب هو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد، فكل ما
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 356)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 356)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/131)
كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم، والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك) (1)
قال آخر: ومنها (أن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومتناه فيكون مختصا بمقدار معين، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح، وتخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك كان فعلا لفاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك) (2)
قال آخر: ومنها (أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلها قديما أزليا فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر .. ذلك أن الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور، فمن جوز المجيء والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله) (3)
قال آخر: ومنها (أن الله تعالى حكى عن الخليل صلى الله عليه وآله وسلم أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور، فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك) (4)
قال آخر: ومنها (أن فرعون لعنة الله تعالى عليه لما سأل موسى عليه السلام فقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وطلب منه الماهية والجنس والجوهر، فلو كان تعالى جسما موصوفا بالأشكال والمقادير لكان الجواب عن هذا السؤال ليس إلا بذكر الصورة والشكل
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(4) مفاتيح الغيب (5/ 357)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/132)
والقدر؛ فكان جواب موسى عليه السلام بقوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النبأ: 37] {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان: 8] {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9] خطأ وباطلا، وهذا يقتضي تخطئة موسى عليه السلام فيما ذكر من الجواب، وتصويب فرعون في قوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ولما كان كل ذلك باطلا، علمنا أنه تعالى منزه عن أن يكون جسما، وأن يكون في مكان، ومنزه عن أن يصح عليه المجيء والذهاب) (1)
قال آخر: ومنها (أنه تعالى قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والأحد هو الكامل في الوحدانية وكل جسم فهو منقسم بحسب الغرض والإشارة إلى جزأين، فلما كان تعالى أحدا امتنع أن يكون جسما أو متحيزا، فلما لم يكن جسما ولا متحيزا امتنع عليه المجيء والذهاب) (2)
قال آخر: ومنها (أن الله تعالى قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي شبيها ولو كان جسما متحيزا لكان مشابها للأجسام في الجسمية، إنما الاختلاف يحصل فيما وراء الجسمية، وذلك إما بالعظم أو بالصفات والكيفيات، وذلك لا يقدح في حصول المشابهة في الذات، وأيضا قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولو كان جسما لكان مثلا للأجسام) (3)
قال آخر: ومنها أنه (لو كان جسما متحيزا لكان مشاركا لسائر الأجسام في عموم الجسمية، فعند ذلك لا يخلو إما أن يكون مخالفا في خصوص ذاته المخصوصة، وإما أن لا يكون فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به الممايزة، فعموم كونه جسما مغاير لخصوص
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 357)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 357)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/133)
ذاته المخصوصة، وهذا محال لأنا إذا وصفنا تلك الذات المخصوصة بالمفهوم من كونه جسما كنا قد جعلنا الجسم صفة، وهذا محال لأن الجسم ذات الصفة، وإن قلنا بأن تلك الذات المخصوصة التي هي مغايرة للمفهوم من كونه جسما وغير موصوف بكونه جسما، فحينئذ تكون ذات الله تعالى شيئا مغايرا للمفهوم من الجسم، وغير موصوف به وذلك ينفي كونه تعالى جسما، وأما إن قيل: إن ذاته تعالى بعد أن كانت جسما لا يخالف سائر الأجسام في خصوصية، فحينئذ يكون مثلا لها مطلقا، وكل ما صح عليها فقد صح عليه، فإذا كانت هذه الأجسام محدثة وجب في ذاته أن تكون كذلك، وكل ذلك محال، فثبت أنه تعالى ليس بجسم، ولا بمتحيز، وأنه لا يصح المجيء والذهاب عليه) (1)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ذكره القضاعي في الأدلة على نفي الحركة والتغير عن الله تعالى، حيث قال: (اعلم أن بين المقدرات من الجواهر التي هي الأجسام فما دونها وبين المكان والجهة لزوما بينا، وهو ما لا يحتاج عند العقلاء إلى دليل، فإن المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان، لكن يقيد نسبته إلى جزء خاص من شيء آخر، فكل جهة مكان ولا عكس، فالفراغ الذي أنت فيه هو مكانك، وباعتبار محاذاته لرأس شخص آخر هو جهة تسمى فوقا، وباعتبار محاذاته لرجله تسمى تحتا، أو لوجهه أو ظهره أو أقوى يديه أو أضعفهما تسمى أماما وخلفا ويمينا وشمالا، والجوهر هو مقدر لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ على قدره صغيرا كان أو كبيرا، فأنت ترى من البين الجلي أن بينهما تلازما أي تلازم، والقول بأحد المتلازمين قول بالآخر، وبنفي أحدهما نفى للآخر) (2)
قال آخر: ثم استدل بما ذكره القرآن الكريم من صفات المحدثات على ذلك، فقال:
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 358)
(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 62.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/134)
(وقد عرفت أن القرآن يستدل في صراحة بتقدر الأشياء على حدوثها ومخلوقيتها، فمن السهل عليك أن تعرف أن القرآن قد قرر بذلك تعالى الحق في ذاته عن أن تكون مقدرة أو ذات امتداد، أو يجوز عليها الانقسام أو متصفة بكبر أو صغر كما هو للماديات، وذلك قول يهيب بأهل الفقه في كتابه أن يعتقدوا تنزهه عز وجل عن الجهة والمكان، ومن قال غير هذا فقد غلب عليه الوهم وفاته الفهم، فإن نسب إلى الكتاب العزيز القول بالجهة والمكان في حق ربنا عز وجل، أو إلى السنة المطهرة فقد افترى على كتاب الله وكذب على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأتى من ناحية جهله وقلة تفقهه في دلائل الكتاب العزيز، ونزعه عرق العجمة إلى مشابهة اليهود في القول بالتجسيم والجهة في حق الله تعالى عما يقولون، أو غلبته العصبية لهوى فيه أو فيمن قلدهم من أشياخ البدعة، فإن كان داعية إلى القول بذلك يعقد له الدروس ويصنف فيه الكتب وينادي به على المنابر فهو الذي أصيب بالجهل المركب وهو من أول الداخلين في قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]) (1)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بذكر الأدلة القرآنية الكثيرة على نفي التغير والحركة عن الله، فقال: (إن القرآن المجيد لم يدع للمتأمل فيه مجالا للشك في أن ما كان من الصفات لازما من لوازم الجوهر صغيرا كان أو كبيرا هو من دلائل الحدوث، والحدوث يستلزم الامكان، وقد سبق لك البرهان في المقدمة على ذلك، ألا ترى الله سبحانه وتعالى يقول {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] فكون الشيء على قدر مخصوص يستلزم بوضوح أن له مقدرا قدره، فبين القرآن أن مقدر المقدرات إنما هو الله وحده، وما من شيء من هذه
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 62.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/135)
الكائنات إلا له قدر مخصوص، وكذلك دل مولانا عز وجل عباده على الحدوث بالحركات واختلافها، والأجزاء للشيء) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة التركيب على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن الرابع الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن الخامس ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات المفهوم الصحيح لنفي النظير والمثيل لله تعالى؛ فالمعطلة يستغلون هذا المعنى استغلالا خاطئا، لينفوا عن الله ما لا يجوز نفيه.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا، وهي تبدأ بإجماع سلفنا الصالح الذين هم قدوتنا في ديننا، والذين اعتبروا اليد والساق والعين والوجه وغيرها من صفات الله تعالى .. ولا يمكن فهمها من دون إثبات أمثالها في كلامنا، وإن كنا ننزه الله تعالى عن كونها مشابهة لنا.
قال آخر: وقد شرح ذلك بتفصيل إمام أئمتنا ابن خزيمة عند رده على من يتهمنا بالتشبيه، حيث قال: (زعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة، جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وقلة معرفتهم بلغة العرب،
__________
(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 66.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/136)
الذين بلغتهم خوطبنا) (1)
قال آخر: ثم رد على هذه التهمة الجائرة، بذكر مثال عن صفة الوجه لله تعالى، وأن هناك فرقا بين من يثبتها كصفة، وبين من يشبه وجه الله بوجوه عباده، فقال: (اسمعوا الآن أيها العقلاء، ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ومتبعي السنن؟ .. نحن نقول ـ وعلماؤنا جميعا في جميع الأقطار ـ: إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك، ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية ونقول: إن وجه ربنا القديم لا يزال باقيا، فنفى عنه الهلاك والفناء) (2)
قال آخر: ثم ذكر الفرق بين وجه الله تعالى ووجوه خلقه، فقال: (ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء التي وصف الله بها وجهه، تدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها، لنفي السبحات عنها، التي بينها نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لوجه خالقنا ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة، لم تكن، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة، أوجدها بعد ما كانت عدما، وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعا ميتا، ثم تصير رميما، ثم ينشئها الله بعد ما قد صارت رميما، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقها في القيامة، ومن المحاسبة بما قدمت يداه وكسبه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق البارئ، ثم تصير إما إلى جنة منعمة فيها، أو إلى النار معذبة فيها) (3)
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)
(3) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/137)
قال آخر: وبناء على هذا بين مدى الفرق بين وجه الله ووجوه عباده، وأن ذلك هو المراد بنفي المثلية عن الله في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فقال: (فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب، ويعرف خطابها، ويعلم التشبيه، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ .. وهل هاهنا أيها العقلاء، تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم، التي ذكرناها ووصفناها؟ غير اتفاق اسم الوجه، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمى الله وجهه وجها، ولو كان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل: أن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة، والكلاب، والسباع، والحمير، والبغال، والحيات، والعقارب، وجوها، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة، والكلاب وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن عقل الجهمية المعطلة عند نفسه، لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد، والدب، والكلب، والحمار، والبغل ونحو هذا إلا غضب، لأنه خرج من سوء الأدب في الفحش في المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله بعد يقذفه، ويقذف أبويه ولست أحسب أن عاقلا يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب، والزور، والبهت أو بالعته، والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل، ورفع القلم، لتشبيه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا فتفكروا يا ذوي الألباب، أو وجوه ما ذكرنا أقرب شبها بوجوه بني آدم، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع واسم الوجه، قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم، فكيف يلزم أن يقال لنا: أنتم مشبهة؟ ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة، كلها مخلوقة، قد قضى الله فناءها وهلاكها وقد كانت عدما، فكونها الله وخلقها وأحدثها، وجميع ما ذكرناه من السباع والبهائم لوجوهها
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/138)
أبصار، وخدود وجباة، وأنوف وألسنة، وأفواه، وأسنان، وشفاه ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم: وجهك شبيه بوجه الخنزير، ولا عينك شبيه بعين قرد، ولا فمك فم دب، ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب إلا على المشاتمة، كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه) (1)
قال آخر: وبناء على هذه الأدلة القوية، قال: (فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز، أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم بالتشبيه فقد قال الباطل والكذب، والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج من لسان العرب) (2)
قال آخر: ثم ذكر الانحرافات التي وقع فيها المعطلة بسبب عدم سوء فهمها لنفي الشبيه عن الله تعالى، فقال: (وزعمت المعطلة من الجهمية: أن معنى الوجه الذي ذكر الله في الآي: التي تلونا من كتاب الله، وفي الأخبار التي روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول العرب: وجه الكلام، ووجه الدار، فزعمت لجهلها بالعلم أن معنى قوله: وجه الله: كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، ووجه الثوب، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين وهذه فضيحة في الدعوى، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه، فيقال لهم: أفليس كلام بني آدم، والثياب والدور مخلوقة؟، فمن زعم منكم أن معنى قوله: {وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، أليس قد شبه ـ على أصلكم ـ وجه الله بوجه الموتان؟ لزعمكم ـ يا جهلة ـ أن من قال من أهل السنة والآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم لله وجه وعينان، ونفس، وأن يبصر ويرى ويسمع: أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين، حاشا لله أن يكون أحد من أهل السنة
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/139)
والأثر شبه خالقه بأحد من المخلوقين فإذا كان على ما زعمتم بجهلكم، فأنتم شبهتم معبودكم بالموتان) (1)
قال آخر: ثم ذكر الفرق الكبير بين المثبتة والمعطلة في هذا، فقال: (نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولا إليه ونقول كلاما مفهوما موزونا، يفهمه كل عاقل نقول: ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن الله وجها، ذواه بالجلال والإكرام، ونفى الهلاك عنه، وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى، فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون عليهما السلام: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعَ وَأَرَى} [طه: 46]، وما لا يسمع ولا يبصر: كالأصنام، التي هي من الموتان، ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم أباه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؟ أفلا يعقل ـ يا ذوي الحجا ـ من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا: أن خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلامه لا يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله جل وعلا وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لجهلهم بالعلم، وقال عز وجلَ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] فأعلم الله عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، فمعبود الجهمية
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/140)
عليهم لعائن الله كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر والله قد ثبت لنفسه: أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لجهلهم بالعلم، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه، فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه، قد شبهه بخلقه) (1)
قال آخر: ثم ذكر ما ورد في القرآن الكريم من إثبات المثلية بين الله وعباده في أصول الصفات لا في كيفياتها، فقال: (فاسمعوا يا ذوي الحجا ما أبين من جهل هؤلاء المعطلة أقول: وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير، فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وذكر عز وجل الإنسان فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وأعلمنا جل وعلا أنه يرى، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونِ} [التوبة: 105]، وقال لموسى وهارون عليهما السلام: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، فأعلم عز وجل أنه يرى أعمال بني آدم، وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضا، وقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} [النحل: 79] وبنو آدم يرون أيضا الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، فثبت ربنا عز وجل لنفسه عينا، وثبت لبني آدم أعينا، فقال: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] فقد خبرنا ربنا: أن له عينا، وأعلمنا أن لبني آدم أعينا، وقال لإبليس عليه لعنة الله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي} [ص: 75]، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وَقَالَ: {الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/141)
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين، فقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وخبرنا: أن ركبان الدواب يستوون على ظهورها، وقال في ذكر سفينة نوح: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]) (1)
قال آخر: وبعد استعراضه لهذه الآيات الكريمة الواضحة، قال: (أفيلزم ـ ذوي الحجا ـ عند هؤلاء الفسقة أن من ثبت لله ما يثبت الله في هذه الآي أن يكون مشبها خالقه بخلقه، حاشا الله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم، نحن نقول: إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول من له سمع وبصر من بني آدم: فهو سميع بصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق ونقول: إن لله عز وجل يدين، يمينين لا شمال فيهما، قد أعلمنا الله تبارك وتعالى أن له يدين، وخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنهما: يمينان لا شمال فيهما، ونقول: إن من كان من بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان: يمين وشمال ولا نقول: إن يد المخلوقين كيد الخالق، عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه، وقد سمى الله لنا نفسه عزيزا، وسمى بعض الملوك عزيزا، فقال: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 30]، وسمى أخوة يوسف أخاهم يوسف: عزيزا، فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78]، وقال: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88]، فليس عزة خالقنا العزة التي هي صفة من صفات ذاته، كعزة المخلوقين الذين أعزهم الله بها) (2)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الباطلة لما يقوله المعطلة، فقال: (ولو كان كل اسم سمى
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 62)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/142)
الله لنا به نفسه وأوقع ذلك الاسم على بعض خلقه: كان ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق على ما توهم هؤلاء الجهلة من الجهمية، لكان كل من قرأ القرآن وصدقه بقلبه أنه قرآن ووحي، وتنزيل، قد شبه خالقه بخلقه، وقد أعلمنا ربنا تبارك تعالى أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكا فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50]، وأعلمنا جل جلاله أنه العظيم، وسمى بعض عبيده عظيما، فقال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وسمى الله بعض خلقه عظيما فقال: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، فالله العظيم، وأوقع اسم العظيم على عرشه، والعرش مخلوق، وربنا الجبار المتكبر، فقال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، وسمى بعض الكفار متكبرا جبارا، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جُبَارٍ} [غافر: 35] .. وبارئنا عز وجل الحفيظ العليم، وخبرنا أن يوسف عليه السلام قال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وقال: {وَبَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، وقال: {بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، فالحليم والعليم اسمان لمعبودنا جل وعلا، قد سمى بهما بعض بني آدم، ولو لزم ـ يا ذوي الحجا ـ أهل السنة والآثار إذا أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه وثبتوا له نفسا عز ربنا وجل، وإنه سميع بصير، يسمع ويرى، ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة، للزم كل من سمى الله ملكا، أو عظيما، ورؤوفا، ورحيما، وجبارا، ومتكبرا، أنه قد شبه خالقه عز وجل بخلقه، حاشا لله أن يكون من وصف الله عز وعلا بما وصف الله به نفسه، في كتابه، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مشبها خالقه بخلقه) (1)
قال آخر: ثم رد على احتجاج الجهمية بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وبين المراد منه، فقال: (فأما احتجاج الجهمية على أهل السنة والآثار في هذا النحو
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 65)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/143)
بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فمن القائل إن لخالقنا مثلا؟ أو إن له شبيها؟ وهذا من التمويه على الرعاع والسفل، يموهون هذا على الجهال، يوهمونهم أن من وصف الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد شبه الخالق بالمخلوق، وكيف يكون ـ يا ذوي الحجا ـ خلقه مثله؟ نقول: الله القديم لم يزل، والخلق محدث مربوب، والله الرازق، والخلق مرزوقون، والله الدائم الباقي وخلقه هالك غير باق، والله الغني عن جميع خلقه، والخلق فقراء إلى الله خالقهم، وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه، إذ أوقعتم أسامي الله على خلقه، وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصاحف أو محوها من صدور أهل القرآن؟ أو ترك تلاوتها في المحاريب وفي الجدور والبيوت؟ أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه الملك؟ وسمى بعض عبيده ملكا، وخبرنا أنه السلام، وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاما في الدنيا وفي الجنة، فقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَّامٌ} [الأحزاب: 44]، ونبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قد كان يقول يوم فراغه من تسليم الصلاة: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام)، وقال عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] فثبت بخبر الله أن الله هو السلام، كما في قوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق البارئ، وأعلمنا عز وجل أنه المؤمن، وسمى بعض عباده المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]، وقد ذكرنا قبل أن الله خبر أنه سميع بصير، وقد أعلمنا أنه جعل الإنسان سميعا بصيرا، فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] إِلَى قَوْلِهِ:
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/144)
{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] والله الحكم العدل، وخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن عيسى ابن مريم ينزل قبل قيام الساعة حكما عدلا وإماما مقسطا، والمقسط أيضا اسم من أسامي الله عز وجل) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات معنى الشبه والمثلية؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي المثلية والشبه عن الله تعالى.
قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة في ذلك، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس شيء إلا وله شيء يعدله، إلا الله عز وجل، فإنه لا يعدله شيء) (2) .. وقال: (قال الله جل جلاله: ما عرفني من شبهني بخلقي) (3)
قال آخر: وقال الإمام علي: (لا له مثل فيعرف بمثله) (4) .. وقال: (الذي نأى من الخلق فلا شيء كمثله) (5) .. وقال: (اتقوا الله أن تمثلوا بالرب الذي لا مثل له، أو تشبهوه بشيء من خلقه، أو تلقوا عليه الأوهام، أو تعملوا فيه الفكر، أو تضربوا له الأمثال، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين؛ فإن لمن فعل ذلك نارا) (6) .. وقال: (من وحد الله سبحانه لم يشبهه
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 66)
(2) ثواب الأعمال: 17/ 6.
(3) التوحيد: 68/ 23، عيون أخبار الرضا: 1/ 116.
(4) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33/ 1.
(5) الكافي: 1/ 141 / 7، التوحيد: 32.
(6) روضة الواعظين: 46.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/145)
بالخلق) (1)
قال آخر: وقال في تنزيه الله تعالى: (وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك (2)
قال آخر: وقال: (فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لاند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 ـ 98]) (3)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2]: (تأويل الصمد لا اسم ولا جسم ولا مثل ولا شبه ولا صورة ولا تمثال ولا حد ولا حدود ولا موضع ولا مكان ولا كيف ولا أين ولا هنا ولا ثمة ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولاسكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شم رائحة، منفي عنه هذه الأشياء) (4)
قال آخر: وقال الإمام الحسين: (أيها الناس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهؤون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضد له ينازعه، ولا سمي له يشابهه، ولا مثل له يشاكله) (5)
__________
(1) غرر الحكم: 8648.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 91، التوحيد: 54.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 91.
(4) بحار الأنوار، ج 3 ص 230.
(5) تحف العقول: 244.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/146)
قال آخر: وقال الإمام الصادق: (من شبه الله بخلقه فهو مشرك، إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه) (1)
قال آخر: وقال لمحمد بن مسلم: (يا محمد، إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (2)
قال آخر: وقال الإمام الرضا ـ في تمجيد الله جل وعلا ـ: (إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة، فجهلوك وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك، وإني بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء، إلهي ولن يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمتك دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يتناولوك بل سووك بخلقك، فمن ثم لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك، تعاليت ربي عما به المشبهون نعتوك) (3)
قال آخر: وقام إليه رجل فقال له: يا ابن رسول الله، صف لنا ربك؛ فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا، فقال الإمام الرضا: (إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان في بعده لا بنظير، لا يمثل بخليقته) (4)
قال آخر: وقال الإمام الجواد: (ربنا ـ تبارك وتعالى ـ لا شبه له، ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر) (5)
قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من تدبرهم للقرآن الكريم، ولأمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، واستنبطوا البراهين العقلية الكثيرة الدالة على استحالة المثلية على
__________
(1) التوحيد: 80.
(2) الكافي: 1/ 92 / 3، التوحيد: 456.
(3) التوحيد: 125/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 117.
(4) التوحيد: 47.
(5) الكافي: 1/ 117 / 7، التوحيد: 194.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/147)
الله تعالى، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الرازي في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فقد ذكر في تفسيرها الكثير من وجوه دلالتها على ذلك، فقال: (احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]) (1)
قال آخر: ثم فصل وجه الاستدلال بها، فقال: (ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد ليس كمثله شيء في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسما) (2)
قال آخر: وقد رد على ما ذكره ابن خزيمة الذي ذكرتم أقواله في وجه نفي المماثلة بين الله وعباده، فقال: (هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين، ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية، فنقول
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 582)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 582)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/148)
المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول: المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية، وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به) (1)
قال آخر: ثم بسط هذا المعنى ووضحه بالأمثلة، فقال: (وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة، ثم صارت في غاية السواد والحلاوة، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة، وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض، فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات) (2)
قال آخر: وبناء على هذا فإن (اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثم يصير متحركا، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات) (3)
قال آخر: ثم استعرض ما ذكره ابن خزيمة، وبين وجه المغالطة فيه، فقال: (إذا عرفت هذا فنقول: الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس، وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها، فالاختلاف إنما وقع
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 583)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 583)
(3) مفاتيح الغيب (27/ 583)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/149)
بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها) (1)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الخطيرة المرتبطة بالاقتصار على نفي المماثلة الذي أورده ابن خزيمة وغيره من أهل منهج الإثبات، فقال: (هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود، وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام فكان هو قديما أزليا واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟ .. فإن قالوا هذا باطل لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به) (2)
قال آخر: ومن اللوازم التي ذكرها، ما عبر عنه بقوله: (وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 584)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 584)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/150)
على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثا مخلوقا قابلا للعدم والفناء قابلا للتفرق والتمزق، وأما النقل فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]) (1)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي يورده بعضهم حول كون ظاهر الآية يوجب إثبات المثل لله، لأنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه، وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى، فقال: (إن العرب تقول مثلك لا يبخل، أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه، ويقول الرجل: هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر: (ومثلي كمثل جذوع النخيل)، والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفيا عمن كان مشابها بسبب كونه مشابها له، فلأن يكون منتفيا عنه كان ذلك أولى، ونظيره قولهم: سلام على المجلس العالي، والمقصود أن سلام الله إذا كان واقعا على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعا عليه كان ذلك أولى، فكذا هاهنا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا اللفظ ساقطا عديم الأثر، بل كان مفيدا للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه) (2)
قال آخر: ثم رد على ما يستدل به أهل منهج الإثبات من قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، بأن الْمِثْل ـ بكسر الميم ـ هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الماهية والمَثل ـ بفتحها ـ هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفا في تمام الماهية.
قال آخر: وهكذا استدل الشيرازي على نفي المثلية المطلقة عن الله تعالى بقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، فقال: (الآية تشير إِلى منطق المشركين في عصر الجاهلية ـ ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه أُولئك المشركين ـ
__________
(1) مفاتيح الغيب (27/ 584)
(2) مفاتيح الغيب (27/ 585)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/151)
حيث كانوا يقولون: إِنّما نعبد الأصنام لأنّنا لا نمتلك الأهلية لعبادة اللّه، فنعبدها لتقربنا إِلى اللّه .. وإِنّ اللّه مثل ملك عظيم لا يصل إِليه إِلاّ الوزراء والخواص، وما على عوام الناس إِلاّ أن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إِلى خدمة اللّه .. وهذا الانحراف في التوجه والتفكير، والذي قد يتجسم أحياناً على هيئة أمثال منحرفة، إِنّما هو من الخطورة بمكان بحيث يطغى على كل الإِنحرافات الفكرية؛ ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلا: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] التي هي من صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات ممكنة الوجود ومليئة بالنواقص .. وإِنّكم لو أحطتم علماً بعظمة وجوده الكريم وبلطفه ورحمته المطلقة، لعرفتم أنّه أقرب إِليكم من أنفسكم ولما جعلتم بينكم وبينه سبحانه من واسطة أبداً؛ فالله الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار، لا ينبغي أن تشبّهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أيّ أحد من الوصول إِليه ودخول قصره إِلاّ بعض الخواص) (1)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بقوله: (إنّ منزلق التشبيه من أخطر المنزلقات في طريق معرفة صفاته سبحانه وتعالى، ولا ينبغي مقايسة صفاته سبحانه بصفات العباد، لأنّ الباري جلت عظمته وجود مطلق، وكل الموجودات بما فيها الإِنسان محدودة، فهل يمكن تشبيه المطلق بالمحدود!؟) (2)
قال آخر: ثم ضرب مثالا على ذلك، فقال: (وإذا ما اضطررنا إِلى تشبيه ذاته المقدسة بالنّور وما شابه ذلك فينبغي أن لا يغيب عن علمنا بأنّ هذا التشبيه ناقص على أيّة حال، وأنّه لا يصدق إِلاّ من جهة واحدة دون بقية الجهات) (3)
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (8/ 261)
(2) الأمثل، الشيرازي: (8/ 261)
(3) الأمثل، الشيرازي: (8/ 262)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/152)
قال آخر: ثم ذكر اهتمام القرآن الكريم بهذه النواحي وترسيخها، فقال: (وبما أنّ أكثر الناس قد غفلوا عن هذه الحقيقة، وكثيراً ما يقعون في وادي التشبيه الباطل والقياس المرفوض فيبتعدون عن حقيقة التوحيد، فلذا نجد القرآن الكريم كثيراً ما يؤكّد على هذه المسألة، فمرّة يقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وأُخرى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وثالثة {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ولعل عبارة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] في ذيل الآية مورد البحث، تشير إِلى أنّ أغلب الناس في غفلة عن أسرار صفات اللّه) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة التركيب على الله تعالى، قال القاضي متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن السادس الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن السادس ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات الصورة لله تعالى؛ فالمعطلة ينفون ذلك مع ورود الأدلة الصحيحة الصريحة به.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أول أدلتنا، وأقواها، وأصرحها، ما ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تبارك وتعالى
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (8/ 262)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/153)
في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة) (2)
قال آخر: فهذه الأحاديث الصحيحة قد تضافرت في إثبات صفة الصورة لله تعالى على ما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه؛ فهي صفة ذاتية لله، خلافا لمن أنكرها من المعطلة.
قال آخر: ولهذا اتفق أئمتنا على إثباتها، وقد قال ابن قتيبة: (والذي عندي ـ والله تعالى أعلم ـ أن الصُّورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدٍّ) (3)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه تعالى يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة، لكن يقال لهم: لفظ (الصُّورة) في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت
__________
(1) البخاري (6573) ومسلم (182)
(2) الترمذي (3235) وأحمد (2580)
(3) تأويل مختلف الحديث، ص 261.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/154)
على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك) (1)
قال آخر: وقال: (لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله اختصت به، مثل العليم، والقدير، والرحيم، والسميع، والبصير، ومثل خلقه بيديه، واستوائه على العرش، ونحو ذلك) (2)
قال آخر: وقد ورد في الحديث ما يحدد تلك الصورة بدقة، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا) (3)
قال آخر: وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبحوا الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) (4)
قال آخر: والحديث الأخير، وإن ضعفه كبار أئمتنا كابن خزيمة (5)، والألباني (6) إلا أنهم تلقوا معناه بالقبول .. بالإضافة إلى ذلك إلى أن هناك من صححه، وهو أجل منهما، وهما إسحاق بن راهويه وأحمد، ولا متمسك لمن نفى تصحيح أحمد لهذا الحديث؛ لأن الاحتجاج فرع التصحيح، ولا يمكن للإمام أحمد أن يتساهل في مثل هذا كما هو معلوم من أصوله.
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 131)
(2) نقض التأسيس 3/ 396.
(3) البخاري (3326) ومسلم (2841)
(4) عبدالله بن أحمد في السنة 498، وابن أبي عاصم في السنة 529، وابن خزيمة في التوحيد 1/ 85، والدارقطني في الصفات 45.
(5) ضعف هذا الحديث ابن خزيمة في كتاب [التوحيد 1/ 87]، وقد أعله بثلاث علل: الأولى: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسله. الثانية: عنعنة الأعمش، وهي مردودة؛ لأنه مدلس ما لم يصرح بالسماع من حبيب بن أبي ثابت. والثالثة: لا يعلم لحبيب بن أبي ثابت سماع من عطاء.
(6) بالإضافة للعلل السابقة ذكر الألباني علة رابعة، وهي تغير جرير بن عبدالحميد وسوء حفظه، وقد اضطربت روايته برواية لفظ (على صورته) عند ابن أبي عاصم 530، واللالكائي 716. وقد قوى الشيخ طارق عوض الله هذه العلة في حاشيته على [المنتخب من العلل] للخلال بذكر الإمام الدارقطني لتفرد جرير بن عبدالحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء؛ انظر [المنتخب من علل الخلال، لابن قدامة ص 269]. والخامسة: الانقطاع بين عطاء وابن عمر.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/155)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فللحديث شواهد تقويه، ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله ـ تعالى ـ خلق آدم على صورة وجهه) (1)
قال آخر: ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قاتل فليجتنب الوجه؛ فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن) (2)
قال آخر: والحديث، وإن رواه ابن لهيعة الذي رمي بسوء الحفظ، إلا أن حديثه يعتبر به، ويصلح في الشواهد والمتابعات.
قال آخر: ولهذا رد علماؤنا على ما ذكره ابن خزيمة في هذا الموضع، حيث قال: (توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله (على صورته) يريد صورة الرحمن، عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله (خلق آدم على صورته) الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه) (3)
قال آخر: ومن الأمثلة على ردودهم ما عبر عنه ابن قتيبة بقوله في [تأويل مختلف الحديث] بعد سرد الأقوال في تأويل هذا الحديث: (ومنها أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه، قال: وهذا لا فائدة فيه، والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده، وجهه على وجوههم، وزاد قوم في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يضرب وجه رجل آخر، فقال (لا تضربه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) أي صورة المضروب، وفي هذا القول من الخلل ما في الأول) (4)
__________
(1) السنة لابن أبي عاصم (1/ 227 ـ 228)
(2) السنة لابن أبي عاصم (1/ 230)
(3) التوحيد (1/ 84 ـ 85)
(4) تأويل مختلف الحديث ص (319)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/156)
قال آخر: ومثله الطبراني فقد اعتبر هذا التأويل تجهما، فقال في كتاب السنة: (حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال (قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته، أي صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا) (1)
قال آخر: ومثله الذهبي، فقد قال معاتبا من يشتدون على ابن خزيمة بسبب ذلك: (وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه) (2)
قال آخر: ومثلهم جميعا شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد ذكر ثلاثة عشر وجهاً للرد على هذا التأويل، وقد قدم لها بقوله: (والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب كالتوراة وغيرها، ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته، ويروي بعضه كما يكره رواية لعض الأحاديث لمن يخاف على نفسه ويفسد عقله أو دينه كما قال عبد الله بن مسعود: (ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم) وفي البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)، وإن كان مع ذلك لا يرون كتمان ما جاء به الرسول مطلقاً، بل لابد أن يبلغوه حيث يصلح ذلك) (3)
__________
(1) ميزان الاعتدال (1/ 603)
(2) سير أعلام النبلاء (14/ 374)
(3) بيان تلبيس الجهمية (6/ 373)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/157)
قال آخر: ثم ذكر اتفاق الأمة على ثبوته، فقال: (ولهذا اتفقت الأمة على تبليغه وتصديقه، وإنما دخلت الشبهة في الحديث لتفريق ألفاظه فإن من ألفاظه المشهورة إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته، ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته، وهذا فيه حكم عملي يحتاج إليه الفقهاء، وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بلا وكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط وهي قوله فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، ولم يذكر الثانية وعامة أهل الأصول والكلام إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله خلق الله آدم على صورته ولا يذكرون الجملة الطلبية فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين وصاروا متفقين على تصديقه لكن مع تفريق بعضه عن بعض وإن كان محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم) (1)
قال آخر: ثم ذكر كيف تصرف المتأخرون في تأويله وتحريفه، حتى من أهل الحديث أنفسهم، فقال: (وقد ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء في إخباره بخلق آدم في ضمن حديث طويل إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة، ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم) (2)
قال آخر: وانطلاقا من هذا ذكر وجوه الرد على ابن خزيمة، ومثله كل المعطلة الذين عطلوا الحديث عن معناه، ومنها ما عبر عنه بقوله: (لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد، لا سيما وقوله (وإذا قاتل أحدكم .. وإذا ضرب أحدكم) عام في كل
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (6/ 375)
(2) بيان تلبيس الجهمية (6/ 376)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/158)
مضروب، والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير، وكذلك قوله (لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم) (1)
قال آخر: ومنها (أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم، فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال أو نسيج هذا على منوال هذا) (2)
قال آخر: ومنها (أنه إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا، فإذ هذه العبارة إنما تستعمل فيما فطر على مثال غيره، بل يقال إن وجهه يشبه وجه آدم، أو فإن صورته تشبه صورة آدم) (3)
قال آخر: ومنها (أنه لو كانت علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهى أيضاً عن الشتم والتقبيح وسائر الأعضاء، لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك) (4)
قال آخر: ومنها تكذيبه لمورد الحديث، الذي ذكره المعطلة، فقال: (وما ذكر بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يضرب رجلاً ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال خلق الله آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء لا أصل له ولا يعرف في شيء من كتب الحديث) (5)
قال آخر: وبناء على هذا المعنى كتب شيخنا الكبير حمود بن عبدالله بن حمود التويجري
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (6/ 426)
(2) بيان تلبيس الجهمية (6/ 427)
(3) بيان تلبيس الجهمية (6/ 427)
(4) بيان تلبيس الجهمية (6/ 426)
(5) بيان تلبيس الجهمية (6/ 424)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/159)
كتابه العظيم [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، والذي قدم له شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، بقوله: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن .. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وشيخ الإسلام ابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى) (1)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا التويجري دوافع تأليفه، وهي الدوافع التي لا تختلف كثيرا عن تلك الدوافع التي كان ينطلق منها شيوخنا وأئمتنا من أمثال الدارمي وابن خزيمة وابن تيمية وغيرهم، فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا، وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة، وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض، ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية، عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به) (2)
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (7)
(2) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (6)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/160)
قال آخر: وقد ذكر في كتابه هذا الوجوه الكثيرة على كون آدم عليه السلام خلق على صورة الرحمن، ومنها ما عبر عنه بقوله: (الوجه الثاني: أن يقال إن خلق آدم على صورة الرحمن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أربعة أحاديث .. أولها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته)، وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة والضمير في قوله (على صورته) عائد إلى الله تعالى كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة .. وثانيها: حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وهذا نص صريح في أن الله تعالى خلق آدم على صورته، وهذا النص لا يحتمل التأويل، ومن تأوله فقد أبعد النجعة وتكلف غاية التكلف .. وثالثها: حديث أبي يونس الدوسي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإنما صورة الإنسان على صورة وجه الرحمن) وهذا نص صريح في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورة وجهه الذي هو صفة من صفات ذاته، وهذا النص لا يحتمل التأويل، وفيه أبلغ رد على ابن خزيمة وعلى كل من تأول الحديث بتأويلات الجهمية المعطلة .. ورابعها: حديث أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة وجهه)، وهذا نص صريح في خلق آدم على صورة وجه الله تعالى، وهذا النص لا يحتمل التأويل، وفي هذه الأحاديث الأربعة أبلغ رد على من تأول حديث ابن عمر على غير تأويله ونفى إضافة الصورة إلى الرحمن، وزعم أنها من إضافة الخلق والتصوير إلى الله تعالى) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ورد في الحديث ما يدل على أن لله تعالى صورا متعددة يظهر بها، كما يدل على ذلك الحديث الطويل الذي يذكر رؤية المؤمنين لله تعالى يوم
__________
(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (40)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/161)
القيامة، فمما ورد فيه: أنا ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟) قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك ترونه، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه) (1)
قال آخر: فهذا الحديث أصل من أصولنا، وهو يحوي الكثير من الأسس التي تقوم عليها عقائدنا في التعرف على الله؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبه رؤية لله برؤية القمر .. أي أنه كما أن القمر له حيز وحدود وجسم وهو مقابل لهم .. فرؤية لله تكون مثل ذلك .. ومنها أن الله تعالى له صورة، بل له صور متعددة، وأن له بذلك القدرة على التشكل، ولذلك ورد أن الله نزل عند رغبة عباده المؤمنين، فاختار لهم الصورة التي تتناسب مع مطالبهم .. وغيرها كثير.
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث التي اتفق على صحتها علماؤنا ما يعرض صورة الله تعالى بالتدقيق، سواء تلميحا أو تصريحا.
قال آخر: وبما أن ذكر ذلك من الصعب تقبله خاصة بسبب انتشار التجهم والتعطيل في الأمة، فلذلك قدموا لذلك الكثير من المقدمات؛ فمن فهم تلك المقدمات جيدا، سهل عليه الوصول للنتيجة، وبأيسر سبيل.
قال آخر: وأول تلك المقدمات تلك المباحث الكثيرة الواردة في كتب التوحيد
__________
(1) البخاري (7439) ومسلم (183)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/162)
والسنة من المسألة المعروفة بـ[رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه]، وهي مسألة حظيت باهتمام كبير من شيوخنا وأئمتنا .. وأكثرهم يميل إلى أنها وقعت.
قال آخر: وحتى الذي لا يميل إلى ذلك يذكر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في الرؤيا .. ثم يعقب على ذلك بأن رؤيا الأنبياء حق .. وبذلك فإن ما وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه من الصفات الحسية مقبول سواء قيل برؤية اليقظة، أم بالرؤيا المنامية.
قال آخر: ولأن النتيجة في كليهما واحدة، فقد تعامل شيوخنا بهدوء مع هذه المسألة على الرغم من وجود آثار كثيرة تثبت الرؤية، والمثبت عندهم مقدم على النافي، قال الذهبي: (ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة) (1)
قال آخر: أما الفريق الذي يرى أنها قد وقعت، ويصف بالضبط صورة الله بدقة، فهم أكثر شيوخنا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأكثر علماء أهل السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه ليلة المعراج) (2)
قال آخر: ويستند هذا الفريق إلى بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، والتي يجزمون فيها، ويحلفون برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه، وأهمها ما رووه عن عكرمة عن ابن عباس قال: (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
قال آخر: ومنها ما رووه عن قتادة أن أنسًا قال: (رأى محمدٌ ربَّه) (4) .. ومنها ما رووه أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه عز وجل؟ فقال: (نعم، قد رآه) (5)
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10/ 114
(2) مجموع الفتاوى 3/ 386.
(3) ابن أبي عاصم في السنة (1/ 192)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 299)، والنسائي في الكبرى (5/ 165)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 479، ح 272)، والآجري في الشريعة (3/ 1541، ح 1031)، (2/ 1048، ح 627)
(4) ابن أبي عاصم في السنة 1/ 188 432. وابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 487، 280.
(5) عبد الله بن أحمد في السنة 1/ 176، 218، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 571، 908.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/163)
قال آخر: ومثل ذلك رووا عن التابعين أن عكرمة سئل عن قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 11]، فقال: (أتريد أن أقول لك: قد رآه .. نعم قد رآه، ثم قد رآه، ثم قد رآه، حتى ينقطع النفس) (1) .. ورووا عن المبارك بن فضالة قال: (كان الحسن يحلف ثلاثة لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه) (2)
قال آخر: وقد ورد في بعض تلك الروايات وصفا دقيقا لكيفية رؤيته له، وهو ما روي عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم 13]، حيث روي عن عبد الله بن عمر أنه بعث إلى عبد الله بن عباس يسأله: هل رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟ فبعث إليه: (أن نعم قد رآه)، فرد رسوله إليه وقال: كيف رآه؟ فقال: (رآه على كرسي من ذهب، تحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء، دونه فراش من ذهب) (3)
قال آخر: هذا هو الفريق الأول الذي مال إليه أكثر شيوخنا .. أما الفريق الثاني، فتمثله عائشة، فقد ردت على ما روي عن ابن عباس ردا شديدا، واستدلت بالقرآن الكريم في ردها، مما أثار بعض شيوخنا المتقدمين عليها.
قال آخر: فقد حدث مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين: أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً
__________
(1) ابن جرير في تفسيره 27/ 48. وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 178 221. واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/ 571 907
(2) ابن خزيمة في التوحيد 2/ 488 281. وتفسير عبد الرزاق 2/ 204. والشفا للقاضي عياض 1/ 258.
(3) ابن أبي شيبة في كتاب العرش ص 391 38، وابن خزيمة في التوحيد 2/ 483 ب 275، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 175. والآجري في الشريعة 3/ 1543.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/164)
أُخْرَى} [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. فقالت: ألم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]. أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى 51]) (1)
قال آخر: وقد اعترض شيخنا وإمام أئمتنا ابن خزيمة على قولها هذا اعتراضا شديدا، فقال: (هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب، ولو كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها كان أجمل بها، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائلة: قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم .. ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها، أكثر ما في هذا أن عائشة وأبا ذر وابن عباس وأنس بن مالك، قد اختلفوا هل رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه فقالت عائشة: لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وقال أبو ذر وابن عباس صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه، وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علماً، والإثبات هو الذي يوجب العلم، لم تحكِ عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبرها أنه لم ير ربه عز وجل، وإنما تلت قوله عز وجل {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام 103]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً .. } [الشورى 51]، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق الرمي بالفرية على الله، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله!) (2)
قال آخر: وبعد أن فند ما استدلت به من الآيتين الكريمتين قال: (نقول كما قال معمر
__________
(1) مسلم 3/ 9 ـ 13، والبخاري 8/ 472.
(2) التوحيد لابن خزيمة (2/ 556)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/165)
بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة وابن عباس في هذه المسألة: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس، نقول: عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة، كذلك ابن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أن يرزق الحكمة والعلم وهذا المعنى من الدعاء، وهو المسمى ترجمان القرآن، وقد كان الفاروق يسأله عن بعض معاني القرآن فيقبل منه وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سناًّ منه وأقدم صحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله، لأنه قد أثبت شيئاً نفته عائشة، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة، وإن غلط بعض العلماء في معنى آية من كتاب الله أو خالف سنةً أو سنناً من سنن النبيصلى الله عليه وآله وسلم لم تبلغ المرء تلك السنن، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئاً لم يبينه كتاب ولا سنة، فتفهموا هذا لا تغالطوا) (1)
قال آخر: وقد حاول شيوخنا بعد ذلك الجيل التوفيق بين هذه الأقوال، ومنها ما ذكره ابن القيم، نقلا عن شيخه ابن تيمية، حيث قال: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا ولا قوله رآه بفؤاده وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى)، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه ـ تبارك وتعالى ـ تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقا فإن رؤيا الأنبياء حق ولابد، ولكن لم يقل أحمد إنه رآه بعيني رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال: مرة رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك) (2)
قال آخر: وبعد تثبيت شيوخنا لهذه المقدمات بمختلف أنواعها، يذكرون أهم
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (2/ 559)
(2) زاد المعاد 3/ 37.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/166)
نتيجة، وهي تحديد صورة الله تعالى بدقة، حتى إذا ظهر للمؤمنين المثبتين يوم القيامة لم يخطئوا فيه.
قال آخر: والحديث الذي يدل على هذا هو ما رووه عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب، في رجليه نعلان من ذهب)، وفي رواية (رأيت ربي في المنام في صورة شاب موقر في خضر، عليه نعلان من ذهب، وعلى وجهه فراش من ذهب)، وفي رواية: (أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب) (1)
قال آخر: وفي رواية عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (رأيت ربي، عز وجل، في حلة خضراء في صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر)، وفي وراية: (أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة)، وفي رواية (رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء) (2)
قال آخر: وقد دافع شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث والروايات الواردة فيه أيما دفاع، فقال: (قال الخلال أبوبكر المروذي: قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه، فذكر الحديث، قلت إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان، قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ربي، وقال
__________
(1) ابن أبي عاصم في السنة 1/ 205 471. والطبراني في المعجم الكبير 25/ 143 346. والبيهقي في الأسماء والصفات 2/ 367 ـ 369 942. والدارقطني في الرؤية ص 190 316.
(2) هذا الحديث صححه جمعٌ من أعلام السلفية الكبار منهم: الإمام أحمد (المنتخب من علل الخلال: ص 282، وإبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 139)، وأبو زرعة الرازي (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 144)، والطبراني (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 143)، وأبو الحسن بن بشار (إبطال التأويلات 1/ 142، 143، 222)، وأبو يعلى في (إبطال التأويلات 1/ 141، 142، 143)، وابن صدقة (إبطال التأويلات 1/ 144) (تلبيس الجهمية 7/ 225)، وابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية 7/ 290، 356)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/167)
المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله: فشاذان كيف هو؟ قال: ثقة، وجعل يثبته، وقال: في هذا يشنع به علينا، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول، قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله: قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق) (1)
قال آخر: وقال في موضع آخر: (شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: رأيت ربي، قال: حدث به فقد حدث به العلماء، قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال: حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء) (2)
قال آخر: ثم روى أحاديث الرؤية المنامية، ويبين انطباقها على الأحاديث الدالة على الرؤية في اليقظة، فقد روى عن امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب) (3)
قال آخر: ثم علق عليه بقوله: (وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام، وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس) (4)
قال آخر: بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية فوق ذلك، وحتى يبين إمكانية الاستدلال بحديث الرؤية المنامية على صفة الله، قال: (وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)
(2) بيان تلبيس الجهمية (7/ 196)
(3) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)
(4) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/168)
ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس .. وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه) (1)
قال آخر: وما يريده شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الكلام واضح، ذلك أنه يعرف أن المسلمين جميعا يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الخلق بربه، ولذلك رؤيته مقاربة أو مطابقة لله نفسه .. خاصة إذا انضم إليها ما صححه من الأحاديث المتعلقة بالرؤية الحسية.
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات الصورة لله تعالى، وكونها مثل صورة آدم عليه السلام؛ فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي الصورة عن الله تعالى.
قال آخر: ومن الأحاديث الواردة في ذلك عن أئمة الهدى، قول الإمام الصادق في
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 73)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/169)
تنزيه الله تعالى: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحد ولا يحس ولا يجس (1)، ولا تدركه الأبصار ولا الحواس، ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد) (2)
قال آخر: وقال في تنزيه الله: (لا جسم ولا صورة، وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشىو المنشا؛ لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) (3)
قال آخر: وسئل الإمام الكاظم عن الجسم والصورة، فقال: (سبحان من ليس كمثله شيء، لا جسم ولا صورة) (4)
قال آخر: وسئل الإمام الرضا عن التوحيد، فقال: (الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء، ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء، كيف شاء، متوحدا بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال) (5)
قال القاضي: لكن ما تقولون في تلك الأحاديث التي أوردها شيوخنا الأفاضل، وذكروا صحتها واعتبارها؛ فهل الدين يؤخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم من أئمتكم؟
__________
(1) الجس: المس باليد.
(2) الكافي: 1/ 104 / 1.
(3) الكافي: 1/ 106 / 6.
(4) الكافي: 1/ 104 / 2.
(5) الكافي: 1/ 105 / 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/170)
قال أحد التلاميذ: لقد ذكرنا لكم سيدي القاضي أن علماءنا، ومن جميع المدارس الإسلامية لا يقبلون أمثال تلك الأحاديث لكونها أحاديث آحاد، ولأنها رويت بالمعنى، ولذلك لم تبق مصدرا صحيحا وموثوقا في مثل هذه المسائل الخطيرة.
قال آخر: ومما يدل على ذلك ما روي عن الإمام الرضا، أنه قيل له: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله خلق آدم على صورته)، فقال: (قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح الله وجهك ووجه من يشبهك! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك؛ فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته) (1)
قال آخر: وهكذا ذكر العلماء من أهل منهج الإثبات وجوه التأويل المرتبطة بهذا الحديث وغيره، والتي تحمل الكثير من المعاني التربوية والأخلاقية، وتبعد الحديث عن تلك الخرافات التي وقع فيها أهل منهج الإثبات.
قال آخر: وبما أن الإشكال في الهاء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (على صورته)، وعلى من تعود؛ فقد بحثوا في ذلك؛ وذكروا الاحتمالات المختلفة في عودتها.
قال آخر: وأول الاحتمالات كون الهاء عائدة إلى غير صورة آدم عليه السلام وغير الله تعالى .. وعلى هذا التقدير يكون المراد (أن من قال للإنسان قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فهذا يكون شتما لآدم عليه السلام، فإنه لما كان صورة هذا الإنسان مشابهة لصورة آدم عليه السلام كان قوله قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك شتما لآدم عليه السلام ولجميع الأنبياء عليهم السلام، وذلك غير جائز، فلا جرم نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وإنما خص آدم بالذكر لأنه عليه السلام هو الذي ابتدأت خلقة وجهه على هذه الصورة) (2)
__________
(1) التوحيد: 153/ 11، عيون أخبار الرضا: 1/ 119/12.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 69.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/171)
قال آخر: ويدل لهذا الوجه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على رجل يضرب غلامه أو يزجره ويقول له: (قبح الله وجهك ووجه من أشبهك)، فسمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر ذلك لأن وجوه البشر كلها على صورة أبيهم آدم عليه السلام، وهو نبي مرسل فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقبح الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)، أي على صورة هذا الوجه الذي تقبحه وتضربه (1).
قال آخر: وبذلك يكون بعض الرواة قد اقتصر على بعض الحديث، (فيحمل المقتصر على المفسر) (2) .. ويدل لهذا ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) (3)
قال آخر: ويدل هذا الوجه كذلك على (إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة، بحيث يكون رأسه قريبا من السماء، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى إنسان معين وقال: (إن الله خلق آدم على صورته)، أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت ألبتة، فأبطل هذا البيان وهم من توهم أن آدم عليه السلام كان على صورة أخرى غير هذه الصورة) (4)
قال آخر: أما الاحتمال الثاني، فهو أن يكون الضمير عائدا إلى آدم عليه السلام، وقد رجحوا هذا الوجه؛ (لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وفي هذا الحديث أقرب الأشياء المذكورة هو آدم عليه السلام، فكان عود الضمير إليه أولى) (5)
قال آخر: وبناء على هذا الوجه، أولوا الحديث بأن المراد منه أن الله تعالى لم يعاقب آدم عليه السلام بتغيير خلقه، بل تركه على الخلقة الأولى إكراما له وصونا له من عذاب
__________
(1) أحمد (2/ 434)
(2) دفع شبه التشبيه، ص 144.
(3) مسلم (4/ 2017)
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 69.
(5) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/172)
المسخ؛ فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) معناه (خلق آدم على هذه الصورة التي هي الآن باقية من غير وقوع التبدل فيها) (1)
قال آخر: أو أن المراد منه (إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا بواسطة النطفة ودم الطمث، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) إبتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة) (2)
قال آخر: أو أن المراد منه الرد على من يذكرمن الفلاسفة (أن الإنسان لا يتكون إلا في مدة طويلة وزمان مديد بواسطة الأفلاك والعناصر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، أي من غير هذه الوسائط) (3)
قال آخر: أو أن المراد منه (بيان أن هذه الصورة الإنسانية، إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده لا بتأثير القوة المصورة والمولدة على ما تذكره الأطباء والفلاسفة، ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، فهو الخالق، أي، فهو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات والباريء، أي هو المحدث للأجسام والذوات بعد عدمها والمصور، أي هو الذي يركب تلك الذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة) (4)
قال آخر: أو أن المراد منه الصفة، كما يقال: (شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة)، والمراد من الصورة في كل هذه المواضع الصفة، وبذلك يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، (أي على جملة صفاته وأحواله، وذلك؛ لأن الإنسان حين يحدث يكون في غاية الجهل والعجز، ثم لا يزال علمه وقدرته إلى أن يصل حد الكمال، فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آدم خلق من أول الأمر كاملا تاما في علمه وقدرته، وبذلك يكون معنى
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 70.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/173)
قوله (خلق الله آدم على صورته) أنه خلقه في أول الأمر على صفته التي كانت حاصلة في آخر الأمر) (1)
قال آخر: أما الاحتمال الثالث، فهو أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى، كما يذكره المجسمة، وبناء على استحالة الصورة على الله تعالى؛ فقد ذكروا وجوها لتأويلها عند إرادة هذا الاحتمال.
قال آخر: ومنها أن المراد من الصورة الصفة، (فيكون المعنى أن آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالما بالمعقولات، قادرا على استنباط الحرف والصناعات، وهذه صفات شريفة، فصح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) بناء على هذا التأويل) (2)
قال آخر: ومنها أنه كما (يصح إضافة الصفة إلى الموصوف، فقد يصح إضافتها إلى الخالق والموجد فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور بمزيد الكرامة والجلالة) (3)
قال آخر: ومنها أن الإنسان (ليس عبارة عن هذه البنية، بل هو موجود ليس بجسم ولا بجسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير، أو التصرف فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، أي إن نسبة ذات آدم عليه السلام إلى هذا البدن كنسبة الباري تعالى إلى العالم من حيث أن كل واحد منهما غير حال في هذا الجسم، وإن كان مؤثرا فيه بالتصرف والتدبير) (4)
قال آخر: وقد لخص ابن الجوزي أكثر التأويلات المتداولة للحديث، فقال: (اختلف
__________
(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 71.
(4) أساس التقديس في علم الكلام، ص 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/174)
أرباب هذا المذهب في الهاء على من تعود على ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على بعض بني آدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال: (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وإنما خص آدم بالذكر، لأنه هو الذي ابتدأت خلقة وجهه على هذه الصورة التي احتذي عليها من بعده، وكأنه نبه على أنك سببت آدم وأنت من أولاده وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب، ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى الله عزوجل بقوله، ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسب إليه شبه سبحانه وتعالى كان تشبيها صريحا، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) (1)
قال آخر: ثم ذكر القول الثاني، وهو أن (الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصح أن يضاف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة، فعادت إلى آدم، ومعنى الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه)، وهذا مذهب أبي سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه) (2)
قال آخر: ثم ذكر القول الثالث، وهو أن (الهاء تعود إلى الله تعالى، وفي معنى ذلك قولان: أحدهما: أن تكون صورة ملك، لأنها فعله، فتكون إضافتها إليه من وجهين: أحدهما: التشريف بالاضافة كقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]، والثاني: لأنه ابتدعها على غير مثال سابق .. والقول الثاني: أن تكون صورة بمعنى الصفة، تقول: هذا صورة هذا الأمر: أي صفته، ويكون المعنى خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والارادة والكلام فميزه بذلك على جميع الحيوانات، ثم ميزه على
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 28.
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 29.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/175)
الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له) (1)
قال آخر: أما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد، قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السموات والأرض) (2)
قال آخر: فقد ذكر أئمتنا أن هذا الحديث مكذوب موضوع، وقد ألف فيه بعضهم رسالة سماها: (عبارات الحفاظ المنثورة في بيان حديث رأيت ربي في أحسن صورة)، وقد رواه وذكره الذهبي، وقال: (وهو بتمامه في تأليف البيهقي، وهو خبر منكر، نسأل الله السلامة في الدين) (3)، ورواه البيهقي، وقال عقبه: (وقد روي من وجه آخر وكلها ضعيف) (4) .. وقال عنه الحافظ ابن حجر: (قال محمد بن نصر المروزي في كتاب (تعظيم قدر الصلاة) هذا حديث اضطرب الرواة في إسناده وليس يثبت عند أهل المعرفة) (5) .. وقال الدارقطني: (كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح) (6) .. وقال البيهقي: (روي من أوجه كلها ضعيفة، وأحسن طرقه تدل على أن ذلك كان في النوم) (7)
قال آخر: وقال أحمد: (أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة يرويه معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح، ورواه قتادة عن أنس واختلف على قتادة فرواه يوسف بن عطية عن قتادة ووهم فيه، ورواه هشام عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس ووهم في قوله عن ابن عباس وإنما رواه خالد عن عبد الرحمن بن عائش وعبد الرحمن لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما رواه عن مالك بن يخامر عن
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 29.
(2) الترمذي (5/ 369)، والخطيب البغدادي في تاريخه (8/ 152) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 125) والطبراني في الكبير (1/ 317) اللآلي المصنوعة في الاحاديث الموضوعة (1/ 31)
(3) سير اعلام النبلاء (10/ 113 ـ 114)
(4) الاسماء والصفات ص (300)
(5) النكت الظراف (4/ 382)
(6) العلل المتناهية (1/ 34)
(7) الاسماء والصفات ص (300)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/176)
معاذ) (1)
قال آخر: وقال ابن الجوزي: (والعجب مع اضطراب هذه الأحاديث وكون مثلها لا يثبت به حكم في الوضوء، كيف يحتجون بها في أصول الدين والعقائد!؟) (2)
قال آخر: ثم قال: (روى ابن حامد من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ولما أسرى بي رأيت الرحمن تعالى في صورة شاب أمرد، له نور يتلالا، وقد نهيت عن وصفه لكم، فسألت ربي أن يكرمني برؤيته، وإذا هو كأنه عروس حين كشف عن حجابه مستو على عرشه) (3)، وهذا الحديث كذب قبيح، ما روي قط لا في صحيح ولا في كذب؛ فأبعد الله من عمله، فقد كنا نقول: ذلك في المنام، فذكر الوضاع هذا في ليلة الاسراء كافأهم الله وجزاهم النار، يشبهون الله سبحانه بعروس .. لا يقول هذا مسلم) (4)
قال آخر: أما الحديث الذي يروونه عن أم طفيل امرأه أبي بن كعب، وأنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أنه: (رأى ربه عزوجل في المنام في أحسن صورة، شابا موفرا، رجلاه في خضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب) (5)
قال آخر (6): فهو مثل السابق مكذوب موضوع، فقد رواه نعيم بن حماد بن معاوية المروزي، وقد قال ابن عدي فيه: كان يضع الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس نعيم بشئ في الحديث، وفي إسناده مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر، قال أبو عبد الرحمن النسائي: ومن مروان حتى يصدق على الله عزوجل؟ وقال مهنى بن يحيى، سألت أحمد عن هذا الحديث، فأعرض بوجهه وقال: هذا حديث منكر مجهول يعني مروان بن عثمان قال ولا
__________
(1) تهذيب التهذيب (6/ 185)
(2) دفع شبه التشبيه، ص 151.
(3) اللآلئ المصنوعة في الاحاديث الموضوعة (1/ 28 ـ 31)
(4) دفع شبه التشبيه، ص 151.
(5) الطبراني في الكبير (25/ 143) واالبيهقي في الاسماء والصفات (446 ـ 447) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 125)
(6) دفع شبه التشبيه، ص 151.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/177)
يعرف أيضا عمارة.
قال آخر: أما الحديث الذي يروونه عن عبد الله بن أبي سلمة قال: بعث عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن العباس يسأله هل رأى محمد ربه؟ فبعث إليه: أن نعم قد رآه، فرد رسوله إليه وكيف رآه؟ فقال: (رآه على كرسي من ذهب يحمله أربعة: ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء دونه فراش من ذهب) (1)
قال آخر: فهو أيضا حديث مكذوب موضوع، وقد قال فيه ابن الجوزي: (هذا يروى من طريق حماد بن سلمة، وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد يدس في كتبه هذه الاحاديث، على أن هذا كان مناما والمنام خيال .. ومثل هذه الاحاديث لا ثبوت لها، ولا يحسن أن يحتج بمثلها في الوضوء) (2)
قال آخر: أما حديث القيامة الطويل، والذي ورد فيه: (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعبدون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا .. فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول أن ربكم فيقولون أنت ربنا) (3)
قال آخر: فقد علق عليه ابن جماعة بقوله: (اعلم أن الأدلة العقلية والنقلية تحيل الصورة التي هي التخطيط على الله تبارك وتعالى، فوجب صرفها على ظاهرها إلى ما يليق بجلاله تبارك وتعالى مما هو مستعمل في لغة العرب، وهو [الصفة والحالة] يقال: كيف صورة هذه الواقعة وكيف صورة هذه المسألة؟ وفلان من العلم على صورة كذا وكذا .. فالمراد بجميع ذلك الصفة لا الصورة التي هي التخطيط، فعلى هذا الصورة هنا بمعنى
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد (42)
(2) دفع شبه التشبيه، ص 154.
(3) البخاري (7439) ومسلم (183)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/178)
الصفة وتكون في بمعنى الباء) (1)
قال آخر: ثم ذكر التأويلات المحتملة لذلك، ومنها أن الله تعالى (أظهر لهم شدة البطش والبأس والعظمة والأهوال والجبروت، وكان وعدهم في الدنيا يلقاهم في القيامة بصفة الأمن من المخاوف والبشرى والعفو والإحسان واللطف، فلما أظهر لهم غير الصفة التي هي مستقرة في نفوسهم أنكروها واستعاذوا منها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا أتانا ربنا عرفناه)، أي بما وعد من صفة اللطف والرحمة والإحسان، ولذلك قال: (فيكشف عن ساق)، أي يكشف عن تلك الشدة المتقدمة وتظهر لهم صفة الرحمن فيسجدون شكرا له، ويدل لهذا أن المراد بالصورة الصفة دلالة صريحة قوله في الصورة التي يعرفونها) (2)
قال آخر: ومنها أن معنى (يأتيهم في الصورة التي يعرفونها): (التي يعرفونها في الدنيا، لأنهم لم يعرفوه يوم القيامة قبل ذلك بصورة متقدمة ولا رؤية سابقة، فدل على أن المراد التي يعرفونها في الدنيا، ولا خلاف بين الخلائق أجمع أن الله تعالى لم تعرف له في الدنيا صورة، وإنما عرفت صفاته تعالى وما وعد به الصالحين في القيامة من لطفه وأمنه وبشارتهم بجنته) (3)
قال آخر: ومنها أن (الله تعالى يبعث لهم ملكا في صورة يمتحن إيمانهم في الآخرة، كما امتحنهم في الدنيا بالدجال، فيقول: أنا ربكم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما يشاء إذا شاء .. وفائدة ذلك ثبات المؤمنين على إيمانهم وظهور ذلك منهم لمن خالفهم تشريفا لهم) (4)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إثبات استحالة الصورة على الله تعالى، قال القاضي
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 157)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 157)
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 158)
(4) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 159)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/179)
متوجها للشيوخ: لا بأس .. دعونا منهم ومن ضلالهم، وحدثونا عن الركن السابع الذي لا يتم معرفة الله إلا به.
قال أحد الشيوخ: الركن السابع ـ والذي لا يمكن التعرف على الله إلا من خلاله ـ إثبات الرؤية لله تعالى؛ فالمعطلة ينفون ذلك مع ورود الأدلة الصحيحة الصريحة به.
قال القاضي: فما أدلتكم على ذلك؟
قال أحد الشيوخ: أول أدلتنا، وأقواها، وأصرحها، ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية، ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22 - 23]، وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 34 - 35]
قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر اللقاء مع الله تعالى، فهي دليل على الرؤية، ومنها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]، وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، وقوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]، وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]، وقوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46]
قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر حجب الكفار عن الله جل وعلا، كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]
قال آخر: أما قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]،
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/180)
والذي استدل به المعطلة؛ فهو ينفي الإدراك والإحاطة، وليس الرؤية، وقد قال إمامنا أبو بكر الآجري في ذلك: (إن قال قائل: فما تأويل قوله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قيل له: معناها عند أهل العلم: أي: لا تحيط به الأبصار، ولا تحويه عز وجل، وهم يرونه من غير إدراك ولا يشكون في رؤيته؛ كما يقول الرجل: (رأيت السماء)، وهو صادق، ولم يحط بصره بكل السماء، ولم يدركها) (1)
قال آخر: وقال أبو محمد البغوي: (اعلم أن الإدراك غير الرؤية؛ لأن الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به، والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك؛ قال الله تعالى في قصة موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61 - 62]، وقال: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به) (2)
قال آخر: أما الأحاديث؛ فكثيرة، ومنها ما روي عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ .. فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز، وجل وهي الزيادة ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]) (3)
قال آخر: وعن جرير، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) (4)، وفي رواية (إنكم
__________
(1) الشريعة للآجري (2/ 1048)
(2) معالم التنزيل البغوي (3/ 174)
(3) مسلم (181)، والترمذي (2552)، وابن ماجه (187)
(4) البخاري (7434)، ومسلم (633)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/181)
سترون ربكم عيانا) (1)
قال آخر: وعن أبي هريرة، أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل تضارون في القمر ليلة البدر؟)، قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارون في الشمس، ليس دونها سحاب؟)، قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فإنكم ترونه كذلك) (2)
قال آخر: وعن أبي بكر بن عبدالله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما، وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) (3)
قال آخر: وفي حديث الشفاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيأتوني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك: سل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع) (4)
قال آخر: وعن عدي بن حاتم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له) (5)
قال آخر: ومنها ما روي في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم في معرض التحذير من الدجال: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) (6)، وبمفهوم المخالفة الرؤية ممكنة بعد الموت؛ أي: يوم القيامة.
قال آخر: أما قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
__________
(1) البخاري (7435)
(2) البخاري (7437)، ومسلم (182)
(3) البخاري (4878)، ومسلم (180)
(4) البخاري (6565)، ومسلم (193)
(5) البخاري (1413) وغيره.
(6) مسلم (7356)، والترمذي (2235)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/182)
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]؛ فإن المقصود منه نفي الرؤية في الدنيا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في معرض التحذير من الدجال: (تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) (1)
قال آخر: وفي الحديث عن عائشة أنها أنكرت على من قال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه عز وجل بعينه حتى قالت: (من زعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) (2)
قال آخر: وعن أبي ذر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) (3)
قال آخر: وعن عائشة لما سألها مسروق، فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟ قالت: (سبحان الله لقد قف شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن، فقد كذب، من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقد كذب) (4)
قال آخر: وقد اتفق جميع أئمتنا على إثبات الرؤية الحسية لله تعالى، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (وإنما يكذب بها أو يحرفها ـ أي: أحاديث الرؤية في الآخرة ـ الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم، من الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته، وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة) (5)
قال آخر: وقد نقل أئمتنا الإجماع على ذلك، فقد قال الإمام عبدالغني المقدسي: (وأجمع أهل الحق واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله تعالى يرى في الآخرة كما جاء في كتابه وصح عن رسوله) (6)
قال آخر: وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي: (وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة
__________
(1) مسلم (7356)، والترمذي (2235)
(2) البخاري (3062)، ومسلم، (439)
(3) مسلم (443)، وأحمد (21017)
(4) البخاري (3062) ومسلم (177)
(5) مجموع الفتاوى (3/ 391 ـ 392)
(6) عقيدة الحافظ عبدالغني المقدسي (58)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/183)
والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة) (1)
قال آخر: ولهذا حكم أئمتنا على كفر جاحد الرؤية، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة، فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم ذلك، عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له، فهو كافر) (2)
قال آخر: وقال العلامة ابن باز: (رؤية الله في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر، يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة) (3)
قال آخر: وقد اتفق أئمتنا على أن رؤية الله تعالى هي أعظم نعيم لأهل الجنة، وقد قال ابن القيم في ذلك: (فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها، هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه منه، والقرب منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية) (4)، وقال: (فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وألذ ما في الآخرة رؤيته ومشاهدته)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا عبدالمحسن العباد حكمة تأخير رؤية الله إلى الآخرة، فقال: (الرؤية هي النعمة العظيمة، والفائدة الكبيرة، ولم يجعلها الله لأحد في الدنيا حتى تبقى غيبا، وحتى يستعد كل مسلم للظفر بها والحصول عليها، كما أن أمور الآخرة قد أخفاها الله عز وجل عن الناس، ولم يطلعهم عليها، ولا على ما في الجنة من النعيم، ولما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس صلاة الكسوف، عرضت عليه الجنة وهو يصلي بالناس، ورأى عناقيد العنب متدلية، فمد يده ليتناول قطفا منها، وكان الصحابة وراءه يصلون، فرأوا يده الكريمة
__________
(1) شرح الطحاوي (153)
(2) مجموع الفتاوى (6/ 486)
(3) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (28/ 412)
(4) الداء والدواء (283 ـ 284)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/184)
تمتد، ولم يروا الذي مدت إليه، ثم إنه عرضت عليه النار، فرجع القهقرى ولم يعرفوا لماذا فعل ذلك!؟ ولما فرغ سألوه عن ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مددت يدي لآخذ عنقودا من العنب، ثم تركته، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)، فقد شاء الله عز وجل أن تكون أمور الآخرة غيبا، وألا تكون علانية؛ لأنها لو كانت علانية لم يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن بالغيب) (1)
قال آخر: وأما رؤية الله تعالى في الدنيا؛ فإن هناك خلافا في وقوعها، وقد قال شرح الطحاوية في ذلك: (وهذا القول الذي قاله القاضي عياض هو الحق، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة؛ إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام) (2)، وقال النووي: (أما رؤية الله في الدنيا، فقد قدمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا) (3)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها، ضعف عن رؤيتها لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقا؛ قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم) (4)
قال آخر: وبناء على هذا اختلف أئمتنا في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه تعالى على ثلاثة أقوال، أولها قول من أثبت الرؤية مطلقا، واستدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس قال: (أتعجبون
__________
(1) شرحه لسنن أبي داود (1/ 2)
(2) شرح الطحاوية في العقيدة السلفية (1/ 434)
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 320)
(4) منهاج السنة النبوية (2/ 332)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/185)
أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .. وعنه أيضا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] قال: (رأى ربه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى) (2).
قال آخر: والثاني، قول من قيدها بالرؤية القلبية، واستدلوا لذلك بقول ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بقلبه) (3)، وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين.
قال آخر: والثالث، قول من نفى الرؤية مطلقا، واستدلوا بما روي عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: (ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، من زعم أن محمدا رأى ربه، فقد أعظم الفرية على الله، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني: ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة، سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء، سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض)، فقالت: ألم تسمع أن الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]) (4)
قال آخر: واستدلوا لذلك أيضا بما روي عن ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]: (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته، له ستمائة
__________
(1) ابن أبي عاصم في السنة (1/ 192)
(2) الترمذي، (5/ 395، ح 3280)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 191)
(3) مسلم (435)
(4) مسلم (428)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/186)
جناح) (1)
قال آخر: وقد علق ابن كثير على هذا بقوله: (وفي رواية عنه ـ يعني ابن عباس ـ أطلق الرؤية، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة) (2)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، التفت القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: لا شك أنكم قد سمعتم ما ذكر شيوخنا الأفاضل من أدلة وحجج قوية حول إثبات إمكانية رؤية الله تعالى، فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة رؤية الله تعالى.
قال آخر: ولذلك؛ فإن كل الآثار التي استدل بها المثبتة في حال صحتها، لا تدل على ما توهموه من الرؤية الحسية، وإنما تدل على الرؤية القلبية، والتي لا علاقة لها بالأجسام.
قال آخر: وقد روي عن أئمتنا الكثير من الأحاديث الدالة على ذلك، ومنها ما روي عن هشام، قال: كنت عند الإمام الصادق إذ دخل عليه معاوية بن وهب، وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله، ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، على أي صورة رآه؟ .. وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، على أي صورة يرونه؟ فتبسم، ثم قال: يا فلان، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون
__________
(1) البخاري (3232)، ومسلم (431)
(2) تفسير ابن كثير (7/ 448)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/187)
سنة، أو ثمانون سنة، يعيش في ملك الله، ويأكل من نعمه، لا يعرف الله حق معرفته، ثم قال: يا معاوية، إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ربه تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإن الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر؛ فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شبه الله بخلقه فقد كفر) (1)
قال آخر: وقيل له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ .. فقال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، قيل: متى؟ قال: حين قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ثم سكت ساعة، ثم قال: (وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟) قال السائل: فقلت له: جعلت فداك؛ فأحدث بهذا عنك؟ فقال: (لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون) (2)
قال آخر: وقال: (رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب، وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته) (3)
قال آخر: وقال لمن سأله: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟: (نعم، رآه بقلبه، فأما ربنا ـ جل جلاله ـ فلا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به أسماع السامعين) (4)
قال آخر: وهكذا روي عن إمام أئمة الهدى الإمام علي، فقد روي أنه كان يخطب على منبر الكوفة، إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب، ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب، ما كنت أعبد ربا لم أره، فقال:
__________
(1) كفاية الأثر: 256.
(2) التوحيد: 117/ 20، بحار الأنوار: 4/ 44 / 24.
(3) الاحتجاج: 2/ 212 / 223، بحار الأنوار: 10/ 164 / 2.
(4) الأمالي للسيد المرتضى: 1/ 103، روضة الواعظين: 41.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/188)
يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب، إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، وبعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة في الأشياء كلها، غير متمازج بها ولا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة، قريب لا بمداناة (1)
قال آخر: وروي أن رجلا من اليهود أتاه، فقال: يا علي، هل رأيت ربك؟ فقال: ما كنت بالذي أعبد إلها لم أره، ثم قال: لم تره العيون في مشاهدة الأبصار، غير أن الإيمان بالغيب بين عقد القلوب (2).
قال آخر: وهكذا روي عن سائر أئمة الهدى، فعن سنان، قال: حضرت الإمام الباقر، فدخل عليه رجل من الخوارج، فقال له: يا أبا جعفر، أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى، قال: رأيته؟ قال: (بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (3)
قال آخر: وعن المدائني، قال: بينما محمد بن علي بن الحسين (الإمام الباقر) في فناء الكعبة، فإذا أعرابي فقال له: هل رأيت الله حيث عبدته؟ فأطرق وأطرق من كان حوله، ثم رفع رأسه إليه فقال: (ما كنت لأعبد شيئا لم أره، فقال: وكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيته، بان من الأشياء وبانت
__________
(1) الكافي: 1/ 138 / 4، التوحيد: 308/ 2.
(2) المحاسن: 1/ 373.
(3) الكافي: 1/ 97 / 5، التوحيد: 108/ 5.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/189)
الأشياء منه، ليس كمثله شيء، ذلك الله لا إله إلا هو)، فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته (1).
قال القاضي: دعونا من كل هذا .. فما أدرانا بصحة هذه الروايات، خاصة وأن أسانيدها مملوءة بالرافضة المشهورين بالكذب .. فكيف تجيزون لأنفسكم أن تردوا بها الآية الواضحة في الدلالة على الرؤية، وهي قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فقد اتفق الجميع على دلالتها على الرؤية الحسية.
قال أحد التلاميذ: هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالرؤية .. وكبار اللغويين يعرفون ذلك، ويقرون به، ومنهم الشريف المرتضى، الذي رد على من استدل بها على جواز رؤية اللّه تعالى، بحجة أن النظر اذا عدّى بـ (إلى) اختصّ بالرؤية وزال عنه الاحتمال، وقد قال جوابا على ذلك: (يجاب عن ذلك بأن الآية التي تعلّقوا بها إنّما يتضمّن ذكر النظر دون الرؤية، وليس النظر محتملا للرؤية، ولا هي ممّا يستفاد بهذه اللفظة في اللغة) (2)
قال آخر: ثم استدل على ذلك بما ورد في اللغة العربية من شواهد على جعل الرؤية غاية للنظر، حيث يقولون: (ما زلت أنظر إليه حتّى رأيته) .. (ودعوى من ادّعى منهم أنّ ذلك وإن استعمل فعلى سبيل المجاز، لا يلتفت إليها؛ لأنّه تحكّم واقتراح بغير حجّة، والظاهر من الاستعمال الحقيقة، وإنّما ينتقل إلى المجاز بالأدلّة) (3)
قال آخر: واستدل على ذلك أيضا بقولهم (نظرت إلى الهلال فلم أره)، و (نظرت كذا فما رأيته)، كما يقولون: (أصغيت إليه فلم أسمعه)، و (ذقته فلم أجد له طعما)، فلو كان النظر هو الرؤية لكان هذا الكلام يتضمّن النفي والإثبات للشي ء الواحد (4).
__________
(1) تاريخ دمشق: 54/ 282؛ الإرشاد: 1/ 225، الاحتجاج: 1/ 493.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 425.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 425.
(4) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/190)
قال آخر: واستدل لذلك أيضا بما نراه في المشاهدة من (كون الناظر ناظرا إذا كان محدقا نحو الشيء، ولا نعلمه رائيا له إذا كان المرئي خفيا ملتبسا، ولهذا يحتاج في أنّه راء له إلى الرجوع إلى قوله، ولا يحتاج إلى ذلك في كونه ناظرا، ولهذا يقولون: (رأيته ينظر إلى كذا)، ولا يقولون: (رأيته يرى كذا) (1)
قال آخر: واستدل لذلك أيضا بأن أهل اللغة جعلوا للنظر أصنافا من حيث عرّفوه، وجرى في الحكم مجرى ما يشاهدونه، فقالوا: (نظر غضبان) و (نظر راض) و (نظر شرر) و (نظر متعة) و (نظر بغضة) في نفس الوقت الذي لم يصنّفوا للرؤية أصنافا، ولا جعلوها ضروبا، وبذلك (يجب أن يكون المختلف الضروب عندهم غير ما هو شيء واحد، ولهذا لا يسمع من أحد منهم (رؤية محبّ) و (رؤية راض)، ولا أن يبدّلوا لفظة (النظر) في تلك المواضع بلفظ الرؤية، فدلّ على أنّ الفائدة فيهما مختلفة) (2)
قال آخر: ثم استدل على ذلك بإحالة العقل للرؤية الحسية، فقال: (والنظر عندنا هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئيّ أو مكانه طالبا لرؤيته، وهذه الفائدة لا تصحّ فيه تعالى، فينبغي أن ينفي عن الآية فائدة النظر المختصّة بالغير، ويحمل ذلك على ما يصحّ من الانتظار أو غيره) (3)
قال آخر: ثم ذكر الاحتمالات المختلفة التي يدل علىها لفظ النظر، وبذلك ينتفي الاستدلال به، فقال: (على أنّا لو سلّمنا لهم أنّ النظر يفيد الرؤية وأنّها إحدى فوائده، لم يسلّم استدلالهم أيضا بالآية؛ لأنّ لفظ (النظر) له فوائد كثيرة من الذكر والاعتبار والتعطّف والانتظار، فما المنكر من أن يريد بها في الآية الانتظار، ولا شبهة في أنّ الانتظار ممّا يفاد بهذه
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/191)
اللفظة، قال اللّه تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، ويقول القائل: (إنّما أنظر إلى اللّه وإليك) ولا يريد إلّا الانتظار، وقال الشاعر: (إنّي إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر) .. و قال آخر: (كلّ الخلائق ينظرون سجاله نظر الحجيج إلى طلوع هلال) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن (احتمال لفظة: (النظر) للانتظار أوضح من أن يستشهد عليه وأظهر، وكلّ ما استشهد بأنّه ممّا عدّي النظر فيه بـ (إلى) ولم يرد به الرؤية، ويسقط تعلّقهم بالتعدية) (2)
قال آخر: ثم رد على اعتبار اقتران النظر بالوجه دليلا على قصد الرؤية، فقال: (من أين لكم أنّ (النظر) إذا قرن بالوجه وعدّي بـ (إلى) لم يحتمل إلّا الرؤية، وما الشاهد على ذلك، فليس هذا ممّا يقبل فيه محض الاقتراح؟ ومتى طلبوا على ذلك شاهدا معروفا عجزوا عنه .. فأمّا استشهاد بعضهم على هذه الدعوى، بأنّهم يقولون: (أنظر إليّ بوجهك) فخلف من الكلام غير مستعمل ولا معروف، وإنّما المعروف قولهم: (أقبل عليّ بوجهك) و (انظر إليّ بعينك) من حيث كانت العين آلة في الرؤية، على أنّ هذا لو كان معروفا لم يكن نظيرا للآية؛ لأنّ النظر في قولهم: (انظر إليّ بوجهك) لو صحّ، معلّق بالوجه على حدّ يقتضي كونه آلة فيه، والوجه ليس يكون كالآلة إلّا في النظر الذي هو الرؤية، والآية أضيف النظر فيها إلى الوجوه إضافة لا يقتضي كونها آلة، فجاز أن يحمل على الانتظار؛ لأنّه لا مانع من ذلك كما منع فيما أوردوه) (3)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الذي يطرحه المخالفون حول استحالة أن تكون
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 426.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 427.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 427.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/192)
الوجوه منتظرة، فقال: (لأنّها كما لا تكون منتظرة كذلك لا تصحّ أن تكون رائية على الحقيقة، فما لقائل ذلك إلّا مثل ما عليه؟ وهذا هو الذي يدلّ على أنّ المراد بالوجوه غير الجوارح) (1)
قال آخر: ثم أجاب على من أشكل بأن (تعليق الإدراك بالبصر يقتضي أن تكون الرؤية دون سائر ما تحتمله هذه اللفظة، فكذلك النظر إذا علّق بالوجه يجب أن يكون مفيدا للرؤية) بقوله: (الفرق بين الأمرين أنّ الإدراك إنّما وجب فيه متى علّق بالبصر أن يكون محمولا على الرؤية، من حيث علّق بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية دون غيرها، وليس كذلك الآية؛ لأنّ النظر لم يعلّق فيها بما يختصّ بكونه آلة في الرؤية من حيث لم تكن الوجه آلة في الرؤية، وليس من حيث كانت العين وهي آلة الرؤية في الوجه تلحقه هذه التسمية، كما لم يجب أن تكون آلة في الشمّ لكون آلة الشمّ فيه؛ ولأنّ الوجوه المذكورة فيها لم ترد بها الجوارح، وإنّما كنى بها عن الحمل؛ ولأنّا لما ادّعينا ذلك في الإدراك استشهدنا عليه بالمتعارف في الخطاب، وليس في شي ء من الخطاب تعليق النظر على الوجوه) (2)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بأن المراد بالوجوه في الآية ليس مقصودا منه الوجوه الحسية، فقال: (إنّ المراد بها ذو الوجوه، وبهذا جرت عادة العرب؛ لأنّهم يقولون: (هذا وجه الرائي) و (وجه الأمر)، وقال اللّه تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] .. ولا شبهة في أنّ المراد بكلّ ذلك الذوات دون غيرها، و قد قيل: إنّه إنّما جاز أن يعبّر عن الجملة بالوجه، من حيث كان التمييز يقع بين الجمل بالوجوه، والمعرفة بها يتعلّق، فأجريت مجراها) (3)
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 427.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص 428.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص 429.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/193)
قال آخر: ثم بين سر ارتباط الوجوه بالنضارة، وعدم دلالة ذلك بالضرورة على الحس، فقال: (من شأن العرب بأن يثنّي الكلام تارة على ألفاظه وأخرى على معانيه، والبناء على الألفاظ أحسن، وإذا كان تعالى قد كنّى عن الجمل بلفظ الوجوه تارة، وأخرى في الوصف على اللفظ والنضارة من صفة الوجوه، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وإنّما أراد أهلها ولم يقل فيها، وكذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] فأجرى الوصف على اللفظ، ثمّ قال: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] فعاد إلى المعنى، على أنّ البشارة أيضا من صفات الوجوه التي هي الجوارح، وكذلك النعمة، ولم يقتض ذلك في حمل قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24]، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8] على الجوارح التي تليق بها هذه الصفات) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تلك الآية الكريمة تفهم على ضوء قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقوله بعدها: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]
قال آخر: وقد قال الشيرازي في تفسيرها: (إن هذه الآية تنفي كل إمكانية لرؤيته تعالى سواء في هذا العالم أم في العالم الآخر .. وبديهي أن المقصود من معنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} هو عدم قدرة البشر على رؤيته بواسطة العين، وجلي أيضا أن كلمة {الْأَبْصَارُ} وردت بصيغة الجمع هنا من أجل التعميم والشمول لتشمل أي عين مهما كانت قدرتها البصرية شديدة) (2)
قال آخر: ثم أورد الأدلة التي استدل بها مثبتو الرؤية، ومنها أن الآية الكريمة تفيد كونه تعالى جائز الرؤية، (لأن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص 429.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/194)
عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء) (1)
قال آخر: وقد رد على هذا الدليل بقوله: (لو شاع هذا الأسلوب، أي أن يتشبث الإنسان لإثبات مطلب معين بأمور تدل بالضبط على عكس ذلك المطلب، ويستدل بكل شي ء لإثبات كل شي ء لتعرضت الحقائق للاندثار والضياع، ولأمكن إيجاد استدلال قرآني لأي موضوع، ولذا كان لابد لنا من الحديث بهذه الطريقة) (2)
قال آخر: وبناء على هذا راح يرد على هذا الاستدلال، بذكر مستلزماته ونتائجه في حال تطبيقها على تفسير القرآن الكريم، فقال: (إننا نمدح الله تعالى بصفات سلبية كثيرة وجميعها محال بشأنه، كقولنا بأن الله لايفنى ولا يهلك أبدا {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ومن المسلم به أن هلاك واجب الوجود محال، فهل يمكن أن يستدل أحد بها على إمكانية هلاك وفناء الله تعالى، بحجة أنه لو كان محالا لما صح مدحه بعدم الهلاك .. فهل يتفوه عاقل بمثل هذا!؟ .. وكذلك مدح القرآن لله تعالى بتنزيهه عن الأب والصاحبة والولد والشريك: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، وقال سبحانه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4] .. وعلى هذا الأساس فإن جميع الصفات السلبية أمور محالة بشأن الله تعالى، لأنها من صفات الممكنات، والله واجب الوجود) (3)
قال آخر: ثم رد على استدلال المثبتين للرؤية بأن الله تعالى (لا يُرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة)، فقال: (لايوجد في الآية المذكورة أي إشارة إلى الحاسة السادسة وما شاكلها، ولا تدخل في إطار أي من المفاهيم المعروفة الموجودة في كتب الأصول، إذن فليس إثبات الشي بمعنى نفي غيره، ولا نفي الشي ء يثبت شيئا آخر، وعليه
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
(3) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/195)
فإذا قالت الآية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فليس مفهومها: إمكانية رؤية الله بواسطة أخرى .. علاوة على ذلك فما هو المقصود من الحاسة السادسة؟ .. فإن كان المقصود منها المشاهدة القلبية والرؤية بعين العقل فلا أحد ينكرها، ولا علاقة لها بالرؤية البصرية) (1)
قال آخر: ثم بين أن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] (معناه عدم قدرة أي بصر على رؤيته، وهو من قبيل العموم الإفرادي، ويمر علينا مثل هذا التعبير في كلامنا اليومي بكثرة، كقولنا لا تطوله الأيدي، أو: لا يعرف الناس قدره، أي، أي يد وأي إنسان، كما ورد في بعض الأدعية: (كلت الألسن عن غاية صفته، والعقول عن كنه معرفته)، وقال الإمام علي: (وأعجز الألسن عن تلخيص صفته) (2)
قال آخر: ومثل ذلك استدلوا على استحالة الرؤية الحسية لله، بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]
قال آخر: ومع اتفاق أهل التأويل على عدم تعارض طلب موسى عليه السلام مع تنزيه الله تعالى عن الإدراك إلا أنهم اختلفوا في توجيه ذلك الطلب.
قال آخر: ومن الأقوال في ذلك، وهو أشهرها، ما عبر عنه المدرسي بقوله: (وواعد الله موسى عليه السلام ثلاثين ليلة لميقاته، وذهب موسى الى الميقات بعد أن وصّى أخاه هارون تلك الوصايا المؤكدة، التي كان الرسل عليهم السلام يوصون بها قومهم باتباع سبيل الإصلاح، وترك سبل المفسدين، وجاء موسى لميقات ربه وهو يحمل رجاء قومه
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 169.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/196)
بالنظر الى الله، فلما كشف لربه عن هذا الطلب الغريب النابع عن جهل الناس بالله وبصفاته الحسنى، أمره ربه بالنظر الى الجبل فإن استقر مكانه فقد يكون لكلامه وجه، ولكن الجبل تدكدك وخرّ موسى صعقا، وأغمي عليه من هول المنظر، ولما أفاق قال: سبحانك أنت منزه عن هذا الطلب، وأنا أول المؤمنين بك) (1)
قال آخر: وقال الشيرازي في جوابه عن سر سؤال موسى عليه السلام ربه الرؤية مع أنه كان رسولا: (يمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة، وذلك بالإستعانة بآيات قرآنية أخرى، وهو: إن هذا السؤال صدر من جهلاء بني إسرائيل الذين كانوا يشكلون الأغلبية، كما نجد في القرآن الكريم أن موسى عليه السلام قال بعد هذه الحادثة مخاطبا ربه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، فيستنتج من هذا التعبير أن هذا السؤال لم يصدر من موسى عليه السلام، بل قد تعرض لضغوط أجبرته على طرح سؤال أولئك الجهلاء ليحصل لهم على جواب من ربه وكذلك لألقاء الحجة عليهم) (2)
قال آخر: ثم استدل على هذا بما ورد في القرآن الكريم من تعنت أهل الكتاب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو مع أنبيائهم، فقال: (ويستفاد بوضوح من قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]، وقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55] .. إن تعنت سفهاء بني اسرائيل هو الذي دفعهم لتوجيه مثل هذا السؤال إلى موسى عليه السلام، وكان عليه السلام قام بنقل سؤالهم فقط، ليسمعوا الجواب الإلهي الرادع) (3)
__________
(1) من هدي القرآن، المدرسي: (3/ 436)
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 171.
(3) نفحات القرآن، ج 4، ص 172.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/197)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك استدل بالآيات التي طلب فيها بنو اسرائيل الرؤية من موسى عليه السلام، كقوله تعالى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، والتي اعتبر الله تعالى فيها ذلك الطلب ذنبا عظيما وظلما فاحشا .. بل إنه الذنب الذي أعقبه نزول العذاب الإلهي، لذا قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء: 153]
قال آخر: والظلم الذي ارتكبوه هو (أنهم اعتبروا ربهم العظيم بمستوى موجود جسماني مادي، وطلبوا مشاهدته .. وبسبب اساءتهم الأدب في اعتبارهم هذا أخذتهم الصاعقة لتكون عقوبة وعبرة لهم في نفس الوقت، وليعلموا أنهم عندما لا يقدرون على مشاهدة هذا المخلوق الإلهي الصغير الذي لا يساوي أكثر من شرارة في عالم الوجود العظيم، فكيف يريدون مشاهدة خالق الشمس والقمر والنجوم وعالم الوجود!؟) (1)
قال آخر: وقد استدل كل أولئك العلماء على أن قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] على الدلالة على استحالة الرؤية مطلقا، كما عبر عن ذلك الشيرازي ـ في رده على مثبتي الرؤية ـ بقوله: (بالرغم من أن الآية الشريفة تصرح: {لَنْ تَرَانِي} وكون (لن) أداة للنفي الأبدي، أي إنك لن تراني أبدا، وعدت الآية هذا السؤال من قبل بني إسرائيل تعديا ووقاحة، وأنذرت بالصاعقة عقابا عليه، مع كل ذلك نجد أن جماعة من المتعصبين يصرون على عدم دلالة الآية بأي شكل على نفي رؤية الله، بل بالعكس) (2)
قال آخر: ثم ذكر معنى التجلي، والمتناسب مع تنزيه الله تعالى، فقال: (المقصود من التجلي الإلهي في هذه الآية هي (الصاعقة) بذاتها، والتي تعد مخلوقا من المخلوقات، وشعاعا من الأفعال الإلهية، وهي كناية عن أنكم إذا لم تقدروا على رؤية الصاعقة التي تعد
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 173.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 172.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/198)
شرارة صغيرة في هذا الوجود العظيم وما لها من تأثير عليكم، حيث تكون مصحوبة بالهول والرعب، فهي قادرة على أن تصرعكم جميعا، وتدك الجبل، وتزلزل الأرض، فكيف تريدون رؤية الذات الإلهية المنقطعة النظير!؟) (1)، وبذلك يكون التجلي الإلهي كان إجابة وعقوبة لأولئك الذين طلبوا من موسى عليه السلام الرؤية في نفس الوقت.
قال آخر: ثم أجاب عن سر طلب موسى عليه السلام التوبة من الله تعالى بعد أن أفاق، فذكر أنه كما أن طلبه الرؤية كان نيابة عن بني إسرائيل؛ فإن طلبه التوبة من الباري كان نيابة عن قومه أيضا (2).
قال آخر: أو أن موسى عليه السلام كان يخشى من أن هذا المقدار من النيابة عن بني اسرائيل يمكن أن يؤثر سلبيا على إيمانه وقدسية اعتقاده، لذا فانه أعلن توبته وإيمانه لتسمو قداسته قدر الإمكان (3).
قال آخر: ثم رد على مثبتي الرؤية الذين ذكروا (أن هذا التوبيخ والعقاب الذي نزل بهم كان بسبب طلبهم هذا الشي من الله تعالى في الدنيا، مع كون الآخرة هي محل المشاهدة .. لأن التفاوت الموجود بين الدنيا والآخرة في مثل هذه الموارد موضوع لا يستحق التوبيخ والعقاب، ولحن الآية يدل على أنهم قد ارتكبوا إساءة فظيعة تجاه ساحة القدس الإلهية، وهي وصفهم الذات الإلهية بصفة لا تليق به سبحانه، بل هي خاصة بالممكنات، وإنهم سلكوا طريق الشرك) (4)
قال آخر: أما الطباطبائي؛ فقد فسر الآية بما ورد في النصوص من جواز الرؤية القلبية، وأن موسى عليه السلام لم يطلب الرؤية الحسية، وإنما طلب الرؤية القلبية، وقد قدم
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 172.
(2) نفحات القرآن، ج 4، ص 173.
(3) نفحات القرآن، ج 4، ص 173.
(4) نفحات القرآن، ج 4، ص 174.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/199)
لذلك بقوله: (والذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الأبصار، ولا نشك ولن نشك أن الرؤية والإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الأبصار يهيئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه، وبالجملة هذا الذي نسميه الإبصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميعا، وهذا لا شك فيه .. والتعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم ولا جسماني، ولا يحيط به مكان ولا زمان، ولا تحويه جهة ولا توجد صورة مماثلة أومشابهة له بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة، وما هذا شأنه لا يتعلق به الإبصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة، ولا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة) (1)
قال آخر: وبناء على هذا ذكر أن موسى عليه السلام أكرم من أن يجهل هذا المعنى المعقول الواضح، فقال: (ولا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم وسادة الأنبياء عليهم السلام ممن يليق بمقامه الرفيع وموقفه الخطير أن يجهل ذلك، ولا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الإنسان على أن يراه ويشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة والزمان، والجهة والمكان، وألواث المادة الجسمية وأعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول: أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي ـ مع حفظ حقيقة السبب وهوية أثره ـ بأمر هوخارج عن المادة وآثارها متعال عن القدر والنهاية؟ فهذا الإبصار الذي عندنا وهوخاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية وخواصها) (2)
قال آخر: وبناء على هذا، ذكر أنه (إن كان موسى عليه السلام سأل الرؤية؛ فإنما سأل
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 237.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 238.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/200)
غير هذه الرؤية البصرية، وبالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية، فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال ولا جواب) (1)
قال آخر: ثم ذكر الآيات التي وردت فيها الرؤية، فقال: (وقد أطلق الله الرؤية وما يقرب منها معنى في موارد من كلامه وأثبتها كقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] .. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية وما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وغير ذلك) (2)
قال آخر: ثم علق عليها بقوله: (لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري، فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية، وما في معناه من اللقاء ونحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل وإسكندر وكسرى فيما مضى ولم نرهم، ونعلم علما ضروريا بوجود لندن وشيكاغو وموسكو ولم نرها، ولا نسميه رؤية وإن بالغنا، فأنت تقول: أعلم بوجود إبراهيم عليه السلام وإسكندر وكسرى كأني رأيتهم، ولا تقول رأيتهم أوأراهم، وتقول: أعلم بوجود لندن وشيكاغو وموسكو، ولا تقول: رأيتها أوأراها .. وأوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الأولية التي هي لكليتها غير مادية ولا محسوسة مثل قولنا: (الواحد نصف الاثنين) و (الأربعة زوج) و (الإضافة قائمة بطرفين) فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها ولا يصح إطلاق الرؤية البتة .. ونظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية، وكذا المعاني الوهمية وبالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية وإن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها ولا نقول: رأيناها
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 238.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 238.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/201)
إلا بمعنى القضاء والحكم لا بمعنى المشاهدة والوجدان) (1)
قال آخر: وفي مقابل هذا ـ كما يذكر الطباطبائي ـ نجد (بين معلوماتنا ما لا نتوقف في إطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه، حيث نقول: أرى أني أنا، وأراني أريد كذا وأكره كذا، وأحب كذا وأبغض كذا وأرجوكذا وأتمنى كذا .. أي أجد ذاتي وأشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، وأجد وأشاهد إرادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة ولا فكرية، وأجد في باطن ذاتي كراهة وحبا وبغضا ورجاء وتمنيا وهكذا .. وهذا غير قول القائل: رأيتك تحب كذا وتبغض كذا وغير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا وبغضا ونحوذلك، وأما حكاية الإنسان عن نفسه أنه يراه يريد ويكره ويحب ويبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الأمور بنفسها وواقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها ولا توسل بوسيلة تدل عليها البتة) (2)
قال آخر: ثم ذكر صحة اعتبار هذا النوع من العلم رؤية، فقال: (وتسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة، وهي علم الإنسان بذاته وقواه الباطنة وأوصاف ذاته وأحواله الداخلية وليس فيها مداخلة جهة أومكان أوزمان أوحالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك وأجد التدبر فيه) (3)
قال آخر: ثم أورد شواهد على ذلك من القرآن الكريم، فقال: (والله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات ويضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239.
(3) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/202)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 53 - 54]، حيث أثبت أولا أنه على كل شيء حاضر أومشهود، لا يختص بجهة دون جهة، وبمكان دون مكان، وبشيء دون شيء، بل شهيد على كل شيء، محيط بكل شيء، فلووجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه وعلى نفس وجدانه وعلى نفسه، وعلى هذه السمة لقاؤه لوكان هناك لقاء لا على نحواللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية وتعين جهة ومكان وزمان، وبهذا يشعر ما في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هوالنفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا) (1)
قال آخر: وهكذا راح يفسر كل الآيات الموهمة للرؤية الحسية بهذا المعنى، فقال: (ونظير ذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15]، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة، ولو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم) (2)
قال آخر: ثم استدل لذلك أيضا بما ورد في القرآن الكريم من استخدام لفظ الرؤية في غير معناها الحسي، فقال: (وقد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7]، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]) (3)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
(3) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/203)
قال آخر: ثم عقب على هذه المقدمات كلها بقوله: (فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أوفكرية، وأن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب، ولا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية ومن أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن (هذا ما بينه كلامه سبحانه، ويؤيده العقل بساطع براهينه، وكذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت) .. كما ذكرنا ذلك سابقا لكم.
قال آخر: ثم ذكر أن هذا النوع من الرؤية أو اللقاء لا يتم بكماله إلا في الآخرة، فقال: (والذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، وهوسالك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، وفي معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع والمصير والمنتهى، وإليه يرجعون وإليه يقلبون) (2)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 240.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 241.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/204)
قال آخر: ثم دعا إلى الاهتمام بهذه المعاني التي أكدها القرآن الكريم بعيدا عن الألفاظ، فقال: (فهذا هوالعلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحوالحقيقة أو المجاز، فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك، فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة، وإن كانت مجازا كانت صارفة، والقرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية) (1)
قال آخر: وبناء على هذا التفسير للرؤية فسر قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، حيث قال: (هذا سؤال منه عليه السلام للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه، فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته، ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته وبتكليمه وهوالعلم بالله من جهة السمع رجا عليه السلام أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية، وهوكمال العلم الضروري بالله، والله خير مرجوومأمول .. فهذا هوالمسئول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الذي يجل موسى عليه السلام ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى وتقدس) (2)
قال آخر: وبناء على هذا فسر قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] على ما فسره بها مثبتو الرؤية مع الفرق بينهم في نوعها، فقد قال: (وإذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للإنسان
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 241.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 241.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/205)
اشتغال بتدبير بدنه، وعلاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، والانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شيء حتى البدن وتوابعه وهوالموت .. فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، والتعبير في قوله: {لَنْ تَرانِي} بـ {لَنْ} الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]، وقوله: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 75]) (1)
قال آخر: ثم ذكر أنه (لوسلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا والآخرة جميعا، فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها) (2)
قال آخر: ثم استدل لما ذكره بما ورد في أمر موسى عليه السلام بالنظر إلى الجبل، فقال: (والذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] إلى نفي الطاقة والاستطاعة يؤيده قوله بعده: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى عليه السلام بتجليه للجبل، والمراد أن ظهوري وتجليي للجبل مثل ظهوري لك، فإن استقر الجبل مكانه، أي بقي على ما هو عليه، وهو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك وظهوره .. فقوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف وقد تجلى له؟ بل إشهاد وتعريف لعدم استطاعته
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 242.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 242.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/206)
وإطاقته للتجلي وعدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لووقع التجلي كما بطل الجبل بالدك، وقد دل عليه قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وبصيرورة الجبل دكا، أي مدكوكا متحولا إلى ذرأت ترابية صغار بطلت هويته وذهبت جبليته وقضى أجله) (1)
قال آخر: ثم ذكر سر الصعق الذي حصل لموسى عليه السلام، وارتباطه بالتجلي، فقال: (ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى وشاهد، غير أنه يجب أن نتذكر أنه هو الذي ألقى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين تلقف الألوف من الثعابين والحيات، وفلق البحر فأغرق الألوف ثم الألوف من آل فرعون في لحظة، ورفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل كأنه ظلة، وأتى بآيات هائلة أخرى وهي أهول من اندكاك جبل، وأعظم، ولم يصعقه شيء من ذلك ولم يدهشه، واندكاك الجبل أهون من ذلك، وهو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الأمر .. فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هوما تمثل له من معنى ما سأله وعظمة القهر الإلهي الذي أشرف أن يشاهده ولم يشاهده هو وإنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه ولا طرفة عين، ويشهد بذلك أيضا توبته عليه السلام بعد الإفاقة) (2)
قال آخر: ثم ذكر سر توبته بعد الإفاقة، فقال: (قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] توبة ورجوع منه عليه السلام بعد الإفاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه، فأخذته العناية الإلهية بتعريفه ذلك وتعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن؛ فبدأ بتنزيهه تعالى وتقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك، ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه، وهويطمع في أن يتوب عليه، وليس من الواجب في
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 242.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 243.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/207)
التوبة أن تكون دائما عن معصية وجرم، بل هوالرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان .. ثم عقب عليه السلام ذلك بالإقرار والشهادة بقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى .. هذا ما يدل عليه المقام، وإن كان من المحتمل أن يكون المراد وأنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني وهديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أوقصور، لكنه معنى بعيد) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد استدل علماؤنا كذلك على استحالة الرؤية الحسية بقوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153]
قال آخر: وقد قال فضل الله في دلالتها على تنزيه الله تعالى عن الرؤية الحسية: (كيف واجه أهل الكتاب ـ وهم في هذه الآيات اليهود ـ دعوة رسول الله إلى الإسلام؟ .. لقد دعاهم إلى الحوار بالأسلوب الهادئ، والفكر المتّزن، والقلب المفتوح، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك، لأنهم لا يملكون الحجة التي تواجه الحجة، ولا يعيشون مسئولية الفكر والإيمان بوعي وانفتاح، بل كان العناد والتمرّد والمناورة والمداورة هي العناصر التي تمثّل أجواء الصراع التي خاضها الإسلام معهم؛ فكيف عبّروا عن ذلك؟ لقد سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، كأسلوب من أساليب التعجيز، لأنهم يعرفون أن الله لا يستجيب للتحديات التي تطلق من أجل التعجيز والإثارة، ويعلمون أن طريق الإيمان لا يمرّ بمثل هذه المعاجز التي لا معنى لها، لأنها لا تحقق شيئا في مواجهة الكفر كقوة، بل تظل تتنقّل من اقتراح إلى اقتراح إلى ما لا نهاية، ولهذا، لم يلتفت النبي إليهم، في ما أوحاه الله إليه،
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 243.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/208)
بأن هؤلاء ليسوا في موقع الاقتناع، بل هم في موقع اللجاج والعناد) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن ذلك الطلب ليس شيئا أمام طلبهم الذي طلبوه من موسى عليه السلام، فقال: (ثم بدأ القرآن يثير أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم تاريخهم المتمرّد الذي لم يتحرك في الاتجاه الصحيح، بل انطلق في الاتجاه المنحرف الذي يلعب ويلفّ ويدور ويقف المواقف المضادّة لكل دعوة خيّرة، ويتصرّف ضد الأنبياء بكل أساليب التعسّف والقتل والتشريد .. فكيف يمكن أن يأمل بهدايتهم وإقبالهم على دعوة الإسلام؟ .. {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وهو من طلب المستحيل، لأن الله ليس جسما حتى يراه الناظرون) (2)
قال آخر: ثم تساءل عن جدوى هذا الطلب، فقال: (ثم ما معنى أن يطلبوا هذا الطلب؟! فإذا كان ذلك من أجل الوصول إلى قناعة الإيمان، فإن وسائل القناعة لا تقف عند حدّ لمن أراد الاقتناع، أما إذا أرادوا اللعب على موسى عليه السلام وإظهار عجزه، فإن ذلك يوحي بالانحراف والتفاهة .. ، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] لأنفسهم ولموسى عليه السلام في ما طلبوه، وما أثاروه كمظهر من مظاهر التحدّي .. {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ} [النساء: 153]، فلم يستجيبوا لها، بل انحرفوا عنها وأقبلوا على الدعوات الكافرة التي تدعوهم إلى عبادة العجل تشبّها بالقوم الذين شاهدوهم يعبدون الأصنام على هذه الطريقة) (3)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد استدل علماؤنا كذلك على استحالة الرؤية الحسية بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ
__________
(1) من وحي القرآن، فضل الله: (7/ 531)
(2) من وحي القرآن، فضل الله: (7/ 531)
(3) من وحي القرآن، فضل الله: (7/ 531)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/209)
اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]
قال آخر: وهي الآية التي وبخت وبشدة أولئك الذين سألوا الرؤية، وقد قال الشيرازي في تفسيرها: (فهم قد سألوا أحد أمرين: إما نزول الملائكة عليهم أو رؤية الله عز وجل، والمقصود من الملائكة هو ملك الوحي جبرائيل، أي أن ينزل عليهم بصورة مباشرة بدلا من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو أن ينزل عليهم ليشهد على صدق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .. وقد نزل الجواب القرآني على شطرين أيضا، والذي يعتقد بأن الأول يخص سؤال نزول الملائكة فيقول: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الفرقان: 21] بسؤالهم هذا .. والشطر الثاني يخص سؤال رؤية الله حيث قال: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21] .. وأي عتو أكبر من مقارنة الذات الإلهية الفريدة بالأجسام المادية والموجودات الممكنة الوجود، وجعلها عرضة للزمان والمكان والعوارض الجسمانية؟ .. ويشير لحن الآية بوضوح إلى عدم إمكانية رؤية الله عز وجل، لأنه لو كان ممكنا لما كان هنالك خلل وإشكال في سؤالهم ذاك) (1)
__________
(1) نفحات القرآن، ج 4، ص 175.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/210)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسائل المرتبطة بالأركان التي يستدل بها المجسمة على التشبيه والتجسيم، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك ننتقل إلى المسألة الرابعة، والمرتبطة ـ كما ذكرتم ـ بالصفات الذاتية التي ينكرها هؤلاء المعطلون.
قال أحد الشيوخ: لقد رأينا أن هؤلاء الجهمية المعطلة، يعطلون أربع صفات كبرى لله، ويعطلون معها كل ما ارتبط بها من صفات وأفعال .. ولذلك نطلب منكم سيادة القاضي، أن تطلب منهم أن يجيبونا عن كل صفة نتحدث عنها، حتى لا يفروا كعادة كل المبتدعة.
قال القاضي: لكم ذلك .. فحدثونا عن الصفة الأولى.
قال كبير الشيوخ: الصفة الأولى هي اليد .. وقد ورد ذكرها في آيات كثيرة .. منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وقوله: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، وقوله: {وَقَالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] .. وكل هذه الآيات
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/211)
تصرح بأن لله تعالى يدين.
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن اليد صفة من صفات الله تعالى، وهي تليق بجلال الله تعالى وعظمته .. ونعتقد أن لله تعالى يدين، وفيهما أصابع وأنامل، وأنه يمسك بهما ويطوي، ويفعل كل ما تفعل الأيادي، من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: وقد ذكر ابن القيم الأدلة الكثيرة التي تؤكد ذلك، فقال: (ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع ورودا متنوعا متصرفا فيه مقرونا بما يدل على أنها يد حقيقة من الإمساك والطي والقبض والبسط والمصافحة والحثيات والنضح باليد، والخلق باليدين والمباشرة بهما وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده وتخمير طينة آدم بيده ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: (اخترت يمين ربي)، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها، وكتابه بيده على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مسح ظهر آدم بيده ثم قال له ويداه مفتوحتان: اختر، فقال اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يطوي الأرض باليد الأخرى، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده) (1)
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 405)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/212)
قال آخر: وقال تعليقا على ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى): (فهل يصح في عقل أو لغة أو عرف أن يقال: قدرة الله أو نعمته العليا ويد المعطي التي تليها، فهل يحتمل هذا التركيب غير يد الذات بوجه ما؟ وهل يصح أن يراد به غير ذلك؟ .. وكذلك قوله: اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة، فضم هذا إلى قوله: الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي هي التي تليها، وإلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] تقطع بالضرورة أن المراد يد الذات لا يد القدرة والنعمة، فإن التركيب والقصد والسياق لا يحتمله البتة) (1)
قال آخر: ثم قال: (وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، فلما كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيديهم ويضرب بيده على أيديهم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو السفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته وعلى عرشه فوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم كما أنه سبحانه فوقهم، فهل يصح هذا لمن ليس له يد حقيقة؟ فكيف يستقيم أن يكون المعنى قدرة الله ونعمته فوق قدرهم ونعمهم، أم تقتضي المقابلة أن يكون المعنى هو الذي يسبق إلى الأفهام من هذا الكلام؟ .. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تصدق أحد صدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل)، فهل يحتمل هذا الكلام غير الحقيقة؟) (2)
قال آخر: ثم قال ـ في التسليم الجدلي لإقامة الحجة على المعطلة ـ: (وهب أن اليد تستعمل في النعمة، أفسمعتم أن اليمين والكف يستعملان في النعمة في غير الوضع الجديد
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 406)
(2) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 406)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/213)
الذي اخترعتموه وحملتم عليه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .. وكذلك (وبيده الأخرى القسط)، هل يصح أن يكون المعنى وبقدرته الأخرى؟ وهل يصح في قوله: (إن المقسطين عن يمين الرحمن) أنه عن قدرته في لغة من اللغات؟ وهل سمعتم باستعمال اليمين في النعمة والكف في النعمة؟ وكيف يحتمل قوله: (إن الله أخذ ذرية آدم من ظهره، ثم أفاض بهم في كفه)، كف النعمة والقدرة؟ وهذا لم تعهدوا أنتم ولا أسلافكم به استعمالا البتة سوى الوضع الجديد الذي اخترعتموه .. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمر الله طينة آدم ثم ضرب بيده فيها فخرج كل طيب بيمينه وكل خبيث بيده الأخرى ثم خلط بينهما)، فهل يصح في هذا السياق غير الحقيقة؟ فضع لفظ النعمة والقدرة هاهنا، ثم انظر هل يستقيم ذلك، وهل يصح في قوله: (والخير كله في يديك) أن يكون في نعمتيك أو في قدرتيك .. وقال عبد الله بن الحارث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده)، أفيصح أن يخص الثلاث بقدرته، ولا سيما لفظ الحديث: (إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء)؛ أفيصح أن توضع النعمة والقدرة موضع اليد هاهنا؟) (1)
قال آخر: ومما يؤكد ذلك ما ورد من الأحاديث الكثيرة التي تذكر هذه الصفة العظيمة، وتؤكد معناها الظاهر؛ ففي حديث الشفاعة الطويل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن أهل الموقف يأتون آدم يوم القيامة فيقولون: (يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؛ فاشفع لنا إلى ربك) (2)
قال آخر: وروي أن الملائكة عليهم السلام قالوا: (يا رب خلقت بني آدم يأكلون، ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله تعالى: (لا أجعل
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص 407)
(2) البخاري (3162)، ومسلم (193)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/214)
صالح ذرية من خلقت بيديّ، ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان) (1)
قال آخر: وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟) (2)
قال آخر: وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي) (3)
قال آخر: ولمّا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلى أهل الجنة منزلة قال الله: (أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها) (4)
قال آخر: وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في استفتاح الصلاة: (لبيك وسعديك والخير كله في يديك) (5)
قال آخر: وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) (6)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار كما يكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة) (7)
قال آخر: وقال: (المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) (8)
قال آخر: وقال: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) (9)
__________
(1) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ص 317.
(2) البخاري (4534)، ومسلم (2787)
(3) البخاري (3022، 7015، 7114)، مسلم (2751)
(4) مسلم (189)
(5) مسلم (222)
(6) مسلم (2759)
(7) البخاري (6155)، مسلم (2972)
(8) مسلم (1827)
(9) البخاري (4407)، ومسلم (993)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/215)
قال آخر: ومما يؤكد هذا ما ورد في الكتب الإلهية بشأنها، وهي نصوص كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومنها ما ورد في سفر [راعوث 1: 13]: (هل تصبران لهم حتّى يكبروا؟ هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل؟ لا يا بنتيّ، فإنّي مغمومةٌ جدا من أجلكما؛ لأنّ يد الرّبّ قد خرجت عليّ) .. وفي سفر صمويل [1: 5/ 6]: فثقلت يد الرّبّ على الأشدوديّين، وأخربهم وضربهم بالبواسير في أشدود وتخومها.
قال آخر: وفي [المزامير 75: 8]: (أنّ في يد الرّبّ كأسا وخمرها مختمرةٌ، ملآنةٌ شرابا ممزوجا، وهو يسكب منها، لكن عكرها يمصّه، يشربه كلّ أشرار الأرض) .. وفي سفر [الحكمة 5: 17]: (فلذلك سينالون ملك الكرامة وتاج الجمال من يد الرب لأنه يسترهم بيمينه وبذراعه يقيهم) .. وفي سفر [سيراخ 10: 4]: (ملك الأرض في يد الرب فهو يقيم عليها في الأوان اللائق من به نفعها)
قال آخر: وفي سفر [أشعيا 11: 15]: (ويبيد الرّبّ لسان بحر مصر، ويهزّ يده على النّهر بقوّة ريحه، ويضربه إلى سبع سواق، ويجيز فيها بالأحذية)، وفي [أشعيا 25: 8]: (ويمسح السّيّد الرّبّ الدّموع عن كلّ الوجوه، وينزع عار شعبه عن كلّ الأرض، لأنّ الرّبّ قد تكلّم) .. وفي [أشعيا 51: 17]: (انهضي، انهضي! قومي يا أورشليم الّتي شربت من يد الرّبّ كأس غضبه، ثفل كأس التّرنّح شربت، مصصت) .. وفي [أشعيا 59: 1]: (ها أن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه عن أن تسمع) .. وفي [أشعيا 51: 9]: (استيقظي، استيقظي! البسي قوّة يا ذراع الرّبّ! استيقظي كما في أيّام القدم، كما في الأدوار القديمة، ألست أنت القاطعة رهب، الطّاعنة التّنّين؟) .. وفي [أشعيا 53: 1]: (من صدّق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرّبّ؟)
قال آخر: وفي سفر [أرميا 51: 6 ـ 8]: (اهربوا من وسط بابل، وانجوا كلّ واحد بنفسه، لا تهلكوا بذنبها، لأنّ هذا زمان انتقام الرّبّ، هو يؤدّي لها جزاءها، بابل كأس ذهب بيد
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/216)
الرّبّ تسكر كلّ الأرض، من خمرها شربت الشّعوب، من أجل ذلك جنّت الشّعوب)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات الكريمة التي وردت بصيغة الجمع، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] والتي وردت فيها اليد بصيغة الجمع؟
قال أحد الشيوخ: لقد أجاب عن ذلك شيخنا العثيمين، فقال: (أجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة؛ فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]!؟ .. فنقول الجمع على أحد الوجهين: فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ {أَيْدِينَا} [يس: 71] لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، ولا إشكال فيه .. فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟ .. فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] [التحريم: 4]، وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط، لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، ولا لامرأة كذلك .. واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فـ {إِخْوَةٌ} جمع، والمراد به اثنان .. واحتجوا أيضاً بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين .. لكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة .. وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين) (1)
قال آخر: ثم قال: (ثم إن المراد باليد هنا ـ أي التي وردت بصيغة الجمع ـ نفس الذات
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 302)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/217)
التي لها يد، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه .. ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، وبين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فـ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]، كأنه قال: مما عملنا، لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ {بِيَدَيَّ} [ص: 75]: اليدان دون الذات .. وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد والتثنية والجمع) (1)
قال آخر: ثم لخص ذلك كله بقوله: (فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك أن هذا مفرد مضاف فيعم كل منا ثبت لله من يد .. وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين: أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه ـ وهو الثلاثة فأكثر ـ بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: {إنَّا} و {نَحْنُ} و {وقُلْنَا} .. وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم، أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض) (2)
قال آخر: ثم ذكر سبب جمع اليد في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، فقال: (فالأيدي هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قيد، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: {بِأَيْدٍ}، أي: بقوة .. ونظير ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فإن لعلماء السلف في قوله: {عَنْ سَاقٍ}: قولين: القول الأول: أن المراد به الشدة .. والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل، فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله.
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 302)
(2) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 303)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/218)
ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال: المراد بالساق الشدة) (1)
قال القاضي: فما تقولون فيما ورد في الأحاديث التي أوردتموها من أن كلتا يدي الله تعالى يمين؟
قال آخر: مع أن جميع شيوخنا وأئمتنا يتفقون على أن لله عز وجل يدين، وأن إحدى يديه يمين؛ لكنهم اختلفوا، هل الأخرى توصف بالشمال؟ أم أن كلتا يديه يمين؟
قال آخر: أما الفريق الأول منهم، فهم القائلون بإثبات صفة الشمال أو اليسار، ومنهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى الفراء، ومحمد بن عبد الوهاب، وصديق حسن خان، ومحمد خليل الهراس، وعبد الله الغنيمان.
قال آخر: وقد قال شيخنا أبو سعيد الدارمي في ذلك: (ويلك أيها المعارض! إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد أطلق على التي في مقابلة اليمين الشمال، ولكن تأويله: (وكلتا يديه يمين) (2)؛ أي: منزه على النقص والضعف؛ كما في أيدينا الشمال من النقص وعدم البطش، فقال: (كلتا يدي الرحمن يمين)؛ إجلالا لله، وتعظيما أن يوصف بالشمال، وقد وصفت يداه بالشمال واليسار، وكذلك لو لم يجز إطلاق الشمال واليسار؛ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو لم يجز أن يقال: كلتا يدي الرحمن يمين؛ لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا قد جوزه الناس في الخلق؛ فكيف لا يجوز ابن الثلجي في يدي الله أنهما جميعا يمينان، وقد سمي من الناس ذا الشمالين، فجاز نفي دعوى ابن الثلجي أيضا، ويخرج ذو الشمالين من معنى أصحاب الأيدي) (3)
قال آخر: وقال أبو يعلى الفراء بعد أن ذكر حديث أبي الدرداء: (واعلم أن هذا الخبر يفيد جواز إطلاق القبضة عليه، واليمين واليسار والمسح، وذلك غير ممتنع؛ لما بينا فيما قبل
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 303)
(2) مسلم (2788)
(3) نقض الدارمي على المريسي (2/ 698)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/219)
من أنه لا يحيل صفاته؛ فهو بمثابة اليدين والوجه وغيرهما) (1)
قال آخر: وقال الشيخ محمد خليل هراس: (يظهر أن المنع من إطلاق اليسار على الله عز وجل إنما هو على جهة التأدب فقط؛ فإن إثبات اليمين وإسناد بعض الشؤون إليها كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وكما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن يمين الله ملأى سحاء الليل والنهار؛ يدل على أن اليد الأخرى المقابلة لها ليست يمينا) (2)
قال آخر: وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: (هذا؛ وقد تنوعت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات اليدين لله تعالى وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض وتثنيتهما، وأن إحداهما يمين كما مر، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال؛ كما في [صحيح مسلم]، وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه، فيربيها لصاحبها، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله) (3)، وقال: (وقد أتانا صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الأصابع، وبذكر الكف، وذكر اليمين، والشمال، واليدين مرة مثناة، ومرة منصوص على واحدة أنه يفعل بها كذا وكذا، وأن الأخرى فيها كذا؛ كما تقدمت النصوص بذلك) (4)
قال آخر: أما الفريق الثاني؛ فذهبوا إلى أن كلتا يدي الله يمين لا شمال ولا يسار فيهما، ومنهم الإمام ابن خزيمة، والإمام أحمد، والبيهقي، والألباني، وغيرهم.
قال آخر: ومن أدلتهم في ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه
__________
(1) إبطال التأويلات (ص 176)
(2) في تعليقه على كتاب التوحيد، لابن خزيمة (ص 66)
(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) (1/ 311)
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) (1/ 318)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/220)
يمين) (1)
قال آخر: ومثله ما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعا: (لما خلق الله آدم، ونفخ فيه من روحه؛ قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيها شئت يا آدم، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يداه يمين مباركة، ثم بسطها) (2)
قال آخر: وقد قال ابن خزيمة في ذلك: (باب: ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا جل وعلا يدين، كلتاهما يمينان، لا يسار لخالقنا عز وجل؛ إذ اليسار من صفة المخلوقين، فجل ربنا عن أن يكون له يسار) (3) .. وقال: (بل الأرض جميعا قبضة ربنا جل وعلا، بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليد الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار؛ إذ كون إحدى اليدين يسارا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه) (4)
قال آخر: وقال الإمام أحمد: (وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: (وكلتا يديه يمين)، الإيمان بذلك، فمن لم يؤمن بذلك، ويعلم أن ذلك حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو مكذب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (5)
قال آخر: وسئل شيخنا الألباني: (كيف نوفق بين رواية: (بشماله) الواردة في حديث ابن عمر وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكلتا يديه يمين)؟، فأجاب: (جواب: لا تعارض بين الحديثين بادئ بدء؛ فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكلتا يديه يمين): تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد للتنزيه، فيد الله ليست كيد البشر: شمال ويمين، ولكن كلتا يديه سبحانه يمين .. وأمر آخر؛ أن رواية:
__________
(1) مسلم (1827)
(2) ابن حبان (6167)، والحاكم (1/ 64) البيهقي في (الأسماء والصفات) (2/ 56)
(3) كتاب التوحيد (1/ 159)
(4) كتاب التوحيد (1/ 197)
(5) طبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/ 313)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/221)
(بشماله) شاذة .. ويؤكد هذا أن أبا داود رواه وقال: (بيده الأخرى)، بدل: (بشماله)، وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكلتا يديه يمين) (1)
قال القاضي: لقد سمعت أن في يدي الله تعالى أصابع .. وأن الأصابع صفة من صفات الله تعالى، فهل هذا صحيح؟
قال أحد الشيوخ: أجل، فالأصابع صفة من صفات الله تعالى، وهي صفة ذاتية تابعة لليد .. فلا يمكن أن تكون هناك يد من دون أصابع، وإلا ستكون يدا مشوهة، وجل الله تعالى أن تكون يده كذلك .. وقد ورد ما يدل على كون عدد أصابع كل يد خمسة أصابع، وهو ما يؤكد الحديث الوارد في صورة الرحمن ومشابهتها لصورة الإنسان، من غير تكييف ولا تعطيل.
قال آخر: ومما يدل عليها من السنة المطهرة ما حدث به عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن) (2)
قال آخر: وعن عبد الله بن مسعود؛ قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: (أنا الملك)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] (3)
__________
(1) مجلة الأصالة (ع 4، ص 68)
(2) مسلم (2654)
(3) البخاري ب (7414، 7415، 7451) مسلم ب (2786)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/222)
قال آخر: وقد ذكر هذه الأحاديث وغيرها أبو بكر بن خزيمة في كتاب [التوحيد] تحت عنوان: (باب إثبات الأصابع لله عز وجل) (1)، وذكرها أبو بكر الآجري في [الشريعة] تحت عنوان: (باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل، بلا كيف) (2)
قال آخر: وقال البغوي تعليقا على الحديث السابق: (والإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل من صفات الله تعالى؛ كالنفس، والوجه، والعين، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح) (3)
قال آخر: وقد رد ابن قتيبة على الإشكالات الكثيرة التي يطرحها الجهمية المعطلة حول هذه الصفة، فقال بعد ذكره للحديث السابق: (ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في دعائه: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، فقالت له إحدى أزواجه: أو تخاف يا رسول الله على نفسك؟ فقال: (إن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز وجل)، فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى؛ فهو محفوظ بتينك النعمتين؛ فلأي شيء دعا بالتثبيت؟ ولم احتج على المرأة التي قالت له: أتخاف على نفسك؟ بما يؤكد قولها؟ وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسا بنعمتين .. فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ها هنا؟ قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر: (يحمل الأرض على إصبع)، وكذا على إصبعين، ولا يجوز أن تكون الإصبع ها هنا نعمة، وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
__________
(1) التوحيد (1/ 187)
(2) الشريعة، (ص 316)
(3) شرح السنة (1/ 168)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/223)
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، ولم يجز ذلك، ولا نقول: إصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا؛ لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئا منا) (1)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الأنامل؛ فهي مرتبطة بالأصابع، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى؟
قال أحد الشيوخ: أجل؛ فالأنامل صفة من صفات الله تعالى، وهي صفة ذاتية تابعة للأصابع .. فقد وردت في حديث الرؤيا عن معاذ بن جبل قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة عن صلاة الصّبح، حتّى كدنا نتراءى قرن الشّمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا، فثوّب بالصّلاة وصلّى وتجوّز في صلاته، فلمّا سلّم قال: كما أنتم على مصافّكم، ثمّ أقبل إلينا فقال: إنّي سأحدّثكم ما حبسني عنكم الغداة! إنّي قمت من اللّيل فصلّيت ما قدّر لي، فنعست في صلاتي حتّى استيقظت، فإذا أنا بربّي عزّ وجلّ في أحسن صورة فقال: يا محمّد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا ربّ، قال: يا محمّد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري ربّ، فرأيته وضع كفّه بين كتفيّ حتّى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلّى لي كلّ شيء، وعرفت، فقال: يا محمّد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّارات، قال: وما الكفّارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، وجلوسٌ في المساجد بعد الصّلاة، وإسباغ الوضوء عند الكريهات، قال: وما الدّرجات؟ قلت: إطعام الطّعام، ولين الكلام، والصّلاة والنّاس نيامٌ، قال: سل، قلت: اللهمّ إنّي أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفّني غير
__________
(1) تأويل مختلف الحديث (ص 245)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/224)
مفتون، وأسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يقرّبني إلى حبّك، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّها حقٌّ فادرسوها وتعلّموها (1).
قال آخر: وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الرازي، وتأويله (برد أنامله) بـ (أثر تلك العناية): (تخصيص أثر العناية لا يجوز؛ إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أنَّ أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك؛ بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه؛ فإنه إذا وضعت الكف على ظهره؛ ثقل بردها إلى الناحية الأخرى، وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نصٌ لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية) (2)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الإمساك؛ فهو من الأفعال التي تقوم بها الأيدي، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أجل .. فقد وصف الله عز وجل نفسه بأنه يمسك السماوات والأرض وغيرهما إمساكا يليق بجلاله وعظمته، ولذلك؛ فإن الإمساك صفة فعلية خبرية ثابتة بالكتاب والسنة.
قال آخر: أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41]
قال آخر: وأما السنة؛ فما ورد في حديث عبد الله بن مسعود: أن يهوديا جاء إلى النبي
__________
(1) أحمد (22162)، والألباني في الصحيحة (3169)
(2) نقض أساس التقديس، ص 524.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/225)
صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، وفي رواية: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعجباً وتصديقاً له (1)،
قال آخر: ويدل لهذه الصفة من الكتب الإلهية ما ورد في [أشعيا 51: 17]: (انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه، ثفل كأس الترنح شربت مصصت)، وفي سفر [أرميا 51: 7]: (بابل كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الأرض من خمرها شربت الشعوب من أجل ذلك جنت الشعوب)
قال آخر: وقد قال ابن خزيمة في إثبات هذه الصفة في [كتاب التوحيد]: (باب ذكر إمساك الله تبارك وتعالى اسمه وجل ثناؤه السماوات والأرض وما عليها على أصابعه) (2)، ثم أورد حديث ابن مسعود بإسناده من عدة طرق، ثم قال: (أما خبر ابن مسعود؛ فمعناه: أنَّ الله جل وعلا يمسك ما ذكر في الخبر على أصابعه، على ما في الخبر سواء، قبل تبديل الله الأرض غير الأرض؛ لأن الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء، وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها) (3)
قال آخر: ومثله قال أبو بكر الآجري في [الشريعة]: (باب الإيمان بأن الله عز وجل يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع .. ) (4)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن القبض والطي؛ فهي من الأفعال التي تقوم
__________
(1) البخاري (7414) واللفظ له، ومسلم (2786)
(2) التوحيد (1/ 178)
(3) التوحيد (1/ 185)
(4) الشريعة، ص 318.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/226)
بها الأيدي، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أجل .. القبض والطي صفتان فعليتان خبريتان لله عز وجل، ثابتتان بالكتاب والسنة، ولذلك كان (القابض) من أسماء الله تعالى الحسنى.
قال آخر: ومما يدل عليها من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وقوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]
قال آخر: ويدل عليها من السنة ما حدث به أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه) (1)
قال آخر: وعلى هذا اتفق جميع سلفنا الصالح، وعلمائنا الربانيين، فقد قال أبو يعلى الفراء بعد ذكر حديث: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها): (اعلم أنه غير ممتنع إطلاق القبض عليه سبحانه، وإضافتها إلى الصفة التي هي اليد التي خلق بها آدم؛ لأنه مخلوق باليد من هذه القبضة، فدلَّ على أنها قبضةٌ باليد، وفي جواز إطلاق ذلك أنه ليس في ذلك ما يُحيل صفاته ولا يُخرجها عما تستحقه) (2)
قال آخر: وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه): (القبض: هو أخذ الشيء باليد وجمعه، والطي: هو ملاقاة الشيء بعضه على بعض وجمعه، وهو قريب من القبض، وهذا من صفات الله تعالى الاختيارية، التي تتعلق بمشيئته وإرادته، وهي ثابتة بآيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مما يجب الإيمان به؛ لأن ذلك داخل في الإيمان بالله تعالى، ويحرم تأويلها المخرج لمعانيها عن ظاهرها، وقد دل على ثبوتها لله تعالى العقل أيضا؛ فإنه لا يمكن لمن نفاها
__________
(1) البخاري (7382)، ومسلم (2787)
(2) إبطال التأويلات (ص 168)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/227)
إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد؛ لأن الفعل لابد له من فاعل، والفاعل لابد له من فعل، وليس هناك فعل معقول إلا ما قام بالفاعل، سواء كان لازما كالنزول والمجيء، أو متعديا كالقبض والطي؛ فحدوث ما يحدثه تعالى من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة به تعالى؛ وهو تعالى حي قيوم، فعال لما يريد، فمن أنكر قيام الأفعال الاختيارية به تعالى فإن معنى ذلك أنه ينكر خلقه لهذا العالم المشاهد وغير المشاهد، وينكر قوله: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]؛ فالعقل دل على ما جاء به الشرع، وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي، قد جاء صريحا أيضا في كتاب الله تعالى؛ كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، والأحاديث والآثار عن السلف في صريح الآية والحديث المذكور في الباب كثيرة وظاهرة جلية لا تحتمل تأويلاً ولا تحتاج إلى تفسير، ولهذا صار تأويلها تحريفاً وإلحاداً فيها) (1)
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الأخذ باليد؛ فهي من الأفعال التي تقوم بها الأيدي، وقد سمعت أنها هي أيضا من صفات الله تعالى.
قال أحد الشيوخ: أجل .. فالأخذ باليد صفة فعلية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة؛ فقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]
قال آخر: ويدل عليها من السنة ما روي عن عبد الله بن عمر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه، فيقول: أنا الله ـ ويقبض أصابعه ويبسطها؛ أي: النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنا الملك) (2)
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، (1/ 140)
(2) رواه مسلم (2788 25 و 26)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/228)
قال آخر: ومثله ما رواه أبو هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (وما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه) (1)
قال آخر: وقد اتفق كل سلفنا الصالح على وصف الله تعالى بهذا، كما قال ابن القيم: (ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية؛ من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط .. وأخذ الصدقة بيمينه .. وأنه يطوي السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى .. ) (2)
قال آخر: ومثله قال الشيخ عبد العزيز السلمان في شرح حديث: (اللهم أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأوَّل فليس قبلك شيء): (مما يستفاد من الحديث: صفة الأخذ) (3)
قال آخر: ومثله قال الشيخ ابن عثيمين: (من صفات الله تعالى المجيء والإتيان والأخذ والإمساك والبطش إلى غير ذلك من الصفات .. فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد) (4)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة اليد الحقيقية لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى يدا حقيقية، بل وكل ما يرتبط بها من صفات أخرى كالأصابع والأنامل، وما ارتبط بها من أفعال كالإمساك والطي وغيرها .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية
__________
(1) رواه مسلم (1014)
(2) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 171)
(3) الكواشف الجلية، (ص 487)
(4) القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، (ص 30)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/229)
والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة ما يذكرونه من اليد والأصابع والأنامل وغيرها، لأنها تقتضي التركيب والجسمية وكل اللوازم التي تتنافى مع تنزيه الله تعالى وتقديسه عن مشابهة مخلوقاته.
قال آخر: ولهذا أول أئمة كل ما ورد في القرآن الكريم من ذلك بحسب ما يقتضيه تنزيه الله تعالى، وتقتضيه اللغة نفسها، وقد روي عن عبد الله بن قيس، قال: قرأت على الإمام الرضا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقلت له: له يدان هكذا؟ وأشرت بيدي إلى يده .. فقال: (لا، لو كان هكذا لكان مخلوقا) (1)
قال آخر: وقد ذكرنا لكم سابقا قول الإمام الباقر في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]: (اليد في كلام العرب القوة والنعمة)؛ قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17]، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أي بقوة، وقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] أي قواهم، ويقال: لفلان عندي أيادي كثيرة أي فواضل وإحسان، وله عندي يد بيضاء؛ أي نعمة) (2)
__________
(1) التوحيد: 168/ 2، معاني الأخبار: 18/ 16، تفسير العياشي: 1/ 330 / 145.
(2) التوحيد: 153/ 1، معاني الأخبار: 16/ 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/230)
قال آخر: ومثله قول الإمام الصادق في قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]: (يعني ملكه لا يملكه معه أحد، والقبض من الله ـ تبارك وتعالى ـ في موضع آخر المنع، والبسط منه الإعطاء والتوسيع، كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] يعني يعطي ويوسع ويمنع ويضيق، والقبض منه عز وجل في وجه آخر الأخذ، والأخذ في وجه القبول منه، كما قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها) (1)
قال آخر: وسئل الإمام الصادق عن قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فقال: (اليمين اليد، واليد القدرة والقوة، يقول عز وجل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} بقدرته وقوته {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}) (2)
قال آخر: وسئل الإمام العسكري عن قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فقال: ذلك تعيير الله ـ تبارك وتعالى ـ لمن شبهه بخلقه، ألا ترى أنه قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، كما قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، ثم نزه عز وجل نفسه عن القبضة واليمين، فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]) (3)
قال آخر: ولهذا؛ فإن جميع علمائنا فسروا ما ورد في القرآن الكريم والحديث بناء على هذه التأويلات الموافقة لتنزيه الله تعالى، وللغة العربية.
__________
(1) التوحيد: 161/ 2، بحار الأنوار: 4/ 2 / 3.
(2) التوحيد: 161/ 2، بحار الأنوار: 4/ 2 / 3.
(3) التوحيد: 161/ 2، بحار الأنوار: 4/ 2 / 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/231)
قال آخر: بل الموافقة لما انتهجه من يزعمون أنهم يتعاملون مع النصوص بحسب ما تدل عليه ظواهرها، ويعتبرون التأويل تعطيلا، فقد رأينا أنهم يؤولون أيضا ما يخالف فهومهم من النصوص، كما ذكر ذلك شيوخنا الأفاضل.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض شيوخهم، وهو الشنقيطي في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]، وقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 3]، فقد قال في تفسيرها: (اعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة، وإنما يراد به معنى أمام .. واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة [بين] خاصة، أعني لفظة (بين يديه)؛ فإن المراد بهذه اللفظة أمامه، وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة، ولا أي صفة كائنة ما كانت، وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ: 31]، أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب، وكقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46]، أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة، وكقوله: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]، فالمراد بلفظ (ما بين أيديهم) ما أمامهم، وكقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر، إلى غير ذلك من الآيات) (1)
قال آخر: وقبله قال الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [المائدة:
__________
(1) أضواء البيان (7/ 288، 289)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/232)
46]: (يعني بذلك القرآن أنه مصدق؛ لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رسل الله من عنده، جميع ذلك واحد فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من ثم غيره كان فيه اختلاف كثير، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .. ثم ذكر بأسانيده عن مجاهد وقتادة والربيع ذلك) (1)
قال آخر: وهكذا أولوا اليد في قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فقد قال الطبري فيها: (اختلف أهل التأويل في تأويله: فقال بعضهم: معناه لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه .. وقال آخرون: معنى ذلك لا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقا ولا يزيد فيه باطلا، قالوا: والباطل هو الشيطان، وقوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبل الحق، {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} من قبل الباطل ذكر من قال ذلك: عن قتادة: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} الباطل: إبليس لا يستطيع أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا .. وقال آخرون: معناه إن الباطل لا يطيق أن يزيد فيه شيئا من الحروف، ولا ينقص منه شيئا منها) (2)
قال آخر: وبمثل ذلك فسروا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، بأن المقصود بقوله: {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} مخالفة الكتاب والسنة .. قال الطبري: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]: (يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، محكيٌّ عن العرب فلان يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن
__________
(1) تفسير الطبري (3/ 166)
(2) تفسير الطبري (24/ 125)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/233)
اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه) (1)
قال آخر: ومثل ذلك أولوا قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، حيث ذكروا أنه ليس للآية علاقة بصفة اليد لله؛ وإنما معناها: أمام رحمته، أو قدام رحمته وهو الغيث، كما قال الطبري: (وأما قوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]؛ فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها، والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه: جاء بين يديه؛ لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يد له .. والرحمة التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع: المطر، فمعنى الكلام إذن: والله الذي يرسل الرياح لينا هبوبها، طيبا نسيمها أمام غيثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابا ثقالا، حتى إذا أقلتها، والإقلال بها: حملها كما يقال: استقل البعير بحمله وأقله: إذا حمله فقام به، ساقه الله لإحياء بلد ميت قد تعفت مزارعه، ودرست مشاربه، وأجدب أهله، فأنزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات) (2)
قال آخر: وهكذا ذكر شيوخنا الأفاضل تأويل أئمتهم وشيوخهم لما ورد في القرآن الكريم من جمع كلمة اليد .. ومثلها تأويلهم لما ورد في الحديث من كلمة الشمال .. وغيرها.
قال آخر: وبذلك؛ فإن إجازتهم التأويل لأنفسهم، وفي تلك الآيات، يمنعهم من الإنكار على غيرهم، خاصة إذا كان ذلك التأويل ضروريا لتنزيه الله تعالى عن الجسمية وتوابعها، وموافقا للسان العرب وتعابيرهم.
قال آخر: ولهذا نرى علماءنا يؤولون كل ما ورد في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة من ذلك، بناء على ما يقتضيه تنزيه الله، وتقتضيه اللغة العربية، ويذكرون في ذلك الوجوه والاحتمالات الكثيرة، التي يؤدي كل منها معنى خاصا، ثم يختمون تأويلاتهم بتفويض
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 116)، تفسير ابن كثير (4/ 206)
(2) تفسير الطبري (8/ 310)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/234)
معناها إلى الله، مع تقديس الله عما لا يليق به.
قال آخر: وهم في أحيان كثيرة يناقشون ما يذكره أصحاب منهج الإثبات من أدلة، ليبينوا لهم وجه الصواب فيها .. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، حيث استعرض الحجج التي استندوا إليها في معنى الآية، فقال: (اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى، فقالت المجسمة: إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، ووجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له، وقالوا ـ أيضا ـ: اسم اليد موضوع لهذا العضو، فحمله على شيء آخر ترك للغة، وإنه لا يجوز) (1)
قال آخر: ثم ذكر أدلة إبطال ما فهموه من الآية عقلا، فقال: (واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث .. ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار، وكل ما كان متناهيا في المقدار فهو محدث .. ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء، وكل ما كان كذلك كان قابلا للتركيب والانحلال، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركبه ويؤلفه، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسما، فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيا) (2)
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 395)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 395)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/235)
قال آخر: ثم ذكر موقف أصحاب منهج التفويض، فقال: (القرآن لما دل على إثبات اليد لله تعالى آمنا به، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى، وهذا هو طريقة السلف) (1)
قال آخر: ثم ذكر موقف أصحاب منهج التأويل، والمعنى الذي يقتضيه تأويلها وفق اللسان العربي، فقال: (اليد تذكر في اللغة على وجوه: أحدها: الجارحة وهو معلوم .. وثانيها: النعمة، تقول: لفلان عندي يد أشكره عليها .. وثالثها: القوة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، فسروه بذوي القوى والعقول، وحكى سيبويه أنهم قالوا: لا يد لك بهذا، والمعنى سلب كمال القدرة .. ورابعها: الملك، يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه، قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، أي يملك ذلك .. وخامسها: شدة العناية والاختصاص، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات، ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئا) (2)
قال آخر: ثم ذكر القاعدة في هذا، فقال: (إذا عرفت هذا فنقول: اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة، وأما سائر المعاني فكلها حاصلة) (3)
قال آخر: ثم رد على الشبهة التي يثيرها أصحاب منهج الإثبات من ذكر الأيدي متعددة في القرآن الكريم، فقال: (فإن قيل: إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 395)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 395)
(3) مفاتيح الغيب (12/ 396)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/236)
مشكل لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة، وبإثبات الأيدي أخرى، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين، ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]؟) (1)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الأول، وهو تفسير اليد بالقدرة، فقال: (إن القوم جعلوا قولهم يد الله مغلولة كناية عن البخل، فأجيبوا على وفق كلامهم، فقيل: بل يداه مبسوطتان، أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد على سبيل الكمال، فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه) (2)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الثاني، وهو تفسير اليد بالنعمة، بأنه (نسبة بحسب الجنس، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها، فقيل: نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء) (3)
قال آخر: كما فسرها بأن المراد بالنسبة قد يكون (المبالغة في وصف النعمة، ألا ترى أن قولهم (لبيك) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك (سعديك) معناه مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين، فكذلك الآية .. المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعي من أنها مقبوضة ممتنعة) (4)
قال آخر: ومثله قال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]: (ويجب الانتباه إلى أنّ كلمة (اليد) تطلق في اللغة العربية على معان كثيرة ومنها (اليد العضوية) كما
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(2) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(3) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(4) مفاتيح الغيب (12/ 396)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/237)
أن معانيها (النعمة) و (القدرة) و (السلطة) و (الحكم)، وبديهي أنّ المعنى الشائع لها هو اليد العضوية) (1)
قال آخر: ثم ذكر السبب في كثرة معانيها، فقال: (لما كان الإنسان ينجز أغلب أعماله المهمّة بيده، فقد أطلقت من باب الكناية على معان أخرى) (2)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73]: (أي: قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الأخرى، هي جميعا من اللّه، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها، إنّ أحدا لم يأخذ عليه عهدا ووعدا، ولا لأحد قرابة معه، إنّ جوده وعفوه واسعان، وهو عليم بمن يستحقّهما) (3)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]: (هي كناية عن إعمال القدرة الإلهيّة بشكل مباشر، إذ أنّ أهمّ الأعضاء التي يمارس بها الإنسان قدرته ويعبّر عنها هي يداه، لهذا السبب كانت (اليد) كناية عن القدرة، كأن يقول أحدهم: (إنّ المنطقة الفلانية في يدي) كناية عن أنّها تحت سيطرته ونفوذه، ويقول القرآن في هذا الصدد: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وذكر (الأيدي) هنا بصيغة الجمع إشارة إلى مظاهر متنوّعة لقدرة الباري عزّ وجلّ) (4)
قال آخر: وقد ذكر نفس المعنى الرازي، ونسبه إلى الأشعري، فقال: (وهاهنا قول آخر، وهو أن أبا الحسن الأشعري زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء، وقال: والذي يدل عليه
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 4، ص 74.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 4، ص 74.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 556.
(4) الأمثل، الشيرازي، ج 14، ص 235.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/238)
أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء) (1)
قال آخر: وقال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]: (البيعة، معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك القائد المبايع .. وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم بعضهم إلى بعض عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي والمصافحة فقد أطلقت كلمة (البيعة) على هذه العقود والعهود أيضا، وخاصة أنّهم عند (البيعة) كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له .. و على هذا يتّضح معنى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] .. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النّبي هي بيعة اللّه، فكأنّ اللّه قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النّبي فحسب بل يبايعون اللّه، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية .. وبناء على هذا التّفسير فإنّ من يرى بأنّ معنى هذه الجملة {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] هو أنّ قدرة اللّه فوق قدرتهم أو أنّ نصرة اللّه أعظم من نصرة الناس وأمثال ذلك لا يتناسب تأويله مع شأن نزول الآية ومفادها) (2)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]: (من البديهي أنّ عبارة (يدي) لا تعني الأيدي الحقيقيّة المحسوسة، لأنّ البارئ عزّ وجلّ منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم،
__________
(1) مفاتيح الغيب (12/ 396)
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 16، ص 442.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/239)
وإنّما (اليد) هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل، وكثيرا ما تستخدم اليد بهذا المعنى في محادثاتنا اليومية، إذ يقال: إنّ البلد الفلاني بيد المجموعة الفلانية، أو إنّ المسجد الفلاني بني على يد الشخص الفلاني، وأحيانا يقال: إنّ يدي قصيرة، أو إنّ يدك مملوءة، اليد في كلّ تلك الجمل ليس المقصود منها اليد الحقيقية التي هي أحد أعضاء الجسم، بل كناية عن القدرة والسلطة والتمكّن .. و من هنا فإنّ الإنسان ينفّذ أعماله المهمّة بكلتا يديه، واستخدامه كلتا يديه يبيّن اهتمامه وتعلّقه بذلك العمل، ومجي ء هذه العبارة في الآية المذكورة أعلاه إنّما هو كناية عن الاهتمام الخاصّ الذي أولاه البارئ عزّ وجلّ لعملية خلق الإنسان) (1)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]: (القبضة، هي الشي ء الذي يقبض عليه بجميع الكف، وتستخدم ـ عادة ـ للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلط التام، مثلما نقول في الاصطلاحات اليومية الدارجة: إن المدينة الفلانية هي بيدي، أو الملك الفلاني هو بيدي وفي قبضتي .. و (مطويات): من مادة (طي) وتعني الثني، والتي تستعمل أحيانا كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شي ء ما، والعبارة المذكورة أعلاه استخدمت بصورة واضحة بشأن السماوات في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] .. فالذي يثني طومارا ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأن أكثر الأشخاص يؤدون أعمالهم المهمّة باليد اليمنى ويحسون بأنّها ذات قوة وقدرة أكثر .. وخلاصة الكلام، أنّ كلّ هذه التشبيهات
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 14، ص 555.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/240)
والتعابير هي كناية عن سلطة اللّه المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أن مفتاح النجاة وحل المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم) (1)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال الذي قد يطرح، وهو (هل أنّ السماء والأرض ليستا في قبضته في الحياة الدنيا؟ فلم الحديث عن الآخرة؟)، فقال: (إنّ قدرة البارئ عزّ وجلّ تظهر وتتجلّى في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وتصل إلى مرحلة التجلّي النهائي، وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كلّ شي ء هو من عند اللّه وتحت تصرفه، إضافة إلى أنّ البعض اتجه إلى غير اللّه بذريعة أنّ أولئك سينقذونه يوم القيامة) (2)
قال آخر: ثم بين سر اللجوء للكنايات والاستعارات في هذا المجال، فقال: (ويتّضح بصورة جيدة ممّا تقدم أنّ طابع الكناية يطغى على هذه العبارات، وبسبب قصور الألفاظ المتداولة فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين إلى صبّ تلك المعاني العميقة في قوالب هذه الألفاظ البسيطة، ولا يرد إمكانية تجسيم البارئ عزّ وجلّ من خلالها، إلّا إذا كان الشخص الذي يتصور ذلك ذا تفكير ساذج وعقل بسيط جدّا، حيث نفتقد ألفاظا تبيّن مقام عظمة البارئ عزّ وجلّ بصورة واضحة، إذن فيجب الاستفادة بأقصى ما يمكن من الكنايات التي لها مفاهيم كثيرة ومتعددة) (3)
قال آخر: ثم بين سر ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: {سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، فقال: (فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات اللّه المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 144.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 145.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 145.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/241)
الأصنام) (1)
قال آخر: وقال في بيان الفرق بين استعمال المسيحيين لهذه التعابير والمسلمين: (حين يعبّر في بعض الأحيان عن بعض أولياء اللّه بعبارة (يد اللّه)، فإن هذا التعبير ـ حتما ـ من باب التشبيه والكناية والمجاز ليس إلّا .. فهل يجيز أي مسيحي لنفسه أن يقال في عبارة (ابن اللّه) الواردة عندهم في حق المسيح عليه السّلام أنّها ضرب من المجاز والكناية؟ بديهي أنّه لا يقبل ذلك، لأنّ المصادر المسيحية الأصلية اعتبرت صفة البنوة للّه سبحانه منحصرة بالمسيح عليه السّلام وحده وليس في غيره، واعتبروا تلك الصفة حقيقية لا مجازية، وما بادر إليه بعض المسيحيين من الادعاء بأن هذه الصفة هي من باب الكناية أو المجاز، إنّما هو من أجل خداع البسطاء من الناس .. و لإيضاح هذا الأمر نحيل القارئ إلى كتاب (القاموس المقدس) في مادة (اللّه) حيث يقول هذا الكتاب بأنّ عبارة (ابن اللّه) هي واحدة من ألقاب منجي ومخلص وفادي المسيحيين، وأن هذا اللقب لا يطلق على أي شخص آخر إلّا إذا وجدت قرائن تبيّن بأنّ المقصود هو ليس الابن الحقيقي للّه) (2)) (3)
قال القاضي: فما تقولون في الأحاديث الكثيرة التي أوردها شيوخنا الأفاضل، والتي تثبت اليد وما يتعلق بها لله تعالى.
قال آخر: إن كل تلك الأحاديث لم ترو بصيغ متواترة حتى يتم قبولها في هذا الأمر الخطير .. بالإضافة إلى أنها رويت بالمعنى .. بالإضافة إلى أن الكثير منها من المدسوس والمدلس من اليهود والمجسمة، كما ذكرنا لكم ذلك سابقا، وذكرنا حججه وبراهينه.
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 15، ص 145.
(2) القاموس المقدس، ص 345.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 3، ص 556.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/242)
قال آخر: ومع ذلك؛ فقد قام علماؤنا بتأويلها مما ينسجم تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله وعظمته، ووفقا لما تقتضيه اللغة العربية.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن الجوزي فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض) (1)، فقد قال: (المعنى مقدار قبضته، وليست على ما تتصور من قبضات المخلوفين فإن الحق منزه عن ذلك، وإنما أضيفت القبضة إليه لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك) (2)
قال آخر: ومثله قال ابن جماعة في تأويل بعض الأحاديث التي ذكرها شيوخنا الأفاضل: (اعلم أن الجارحة والأعضاء على الله تعالى محال، وإنما هذا والله أعلم خطاب كما يفهمه الناس من قولهم أخذ فلان إحسان فلان بيمينه، ومعناه أخذه بقبول وبشاشة وأدب، فإن الأخذ باليمين احترام للمعطي، ولأن الأشياء المهمة يتناول بها، ولأن الأخذ بها أسرع غالبا لما فيها من القوة فيكون قوله عن الصدقة: (أخذها بيمينه) عبارة عن معنى ذلك لا الجارحة المعرفة .. فاليمين يعبر بها عن القوة والقدرة، كما قال بعضهم، والقبض والكف وما ورد منه معناه اليد وهي عبارة عن القدرة والسلطنة كما يقال البلد في يد السلطان والتصرف في قبضة الوزير، وقوله تعالى {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] ليس المراد بشيء من ذلك الجارحة، وأما لفظة الكف فتميل لحفظها، لأن المريد لحفظ ما يتناوله بكفه يحفظه بكفه ويطبقها عليه لتكون أحفظ له، فمثل حفظ الله تعالى للصدقة بذلك، وأما لفظ التربية فعبارة عن تضعيف الأجر وزيادته) (3)
__________
(1) الترمذي (4/ 502) وأبو داود (222/ 4 ب 4693)
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه (ص 163)
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 167)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/243)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم على ما طرحه الشيوخ حول إضافة اليد لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الأولى .. فحدثونا عن الصفة الثانية.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثانية هي الوجه .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ} [البقرة: 272]، وقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22]، وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الوجه صفة من صفات الله تعالى، وهو وجه يليق بجلال الله تعالى وعظمته .. من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: وقد اتفق كل أئمتنا وعلمائنا على ذلك، وعلى اعتبار الوجه من صفات الله تعالى التي يحكم بالكفر على معطلها، ومنهم إمام الأئمة ابن خزيمة الذي قال: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر؛ مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا؛ من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عز ربنا أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين) (1)
قال آخر: ومثله قال الحافظ ابن منده: (ومن صفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه قوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 25)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/244)
27]، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ بوجه الله من النار والفتن كلها، ويسأل به) (1)
قال آخر: ومثله قال قوام السنة الأصفهاني: (ذكر إثبات وجه الله عز وجل الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام} [الرحمن: 27]) (2)
قال آخر: وقد ورد في السنة ما يدل على ذلك ويؤكده، ومنها ما روي عن ابن مسعود قال: (لما قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم يوم حنين، وقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله) (3)
قال آخر: وورد في حديث ابن عمر عن الثلاثة الذين حبسوا في الغار، فقال كل واحد منهم: (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرج عنا ما نحن فيه) (4)
قال آخر: وورد في حديث سعد بن أبي وقاص: (إنك لن تخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وَجْه الله؛ إلا ازددت به درجة ورفعة) (5)
قال آخر: ومما يؤكد هذا ما ورد في الكتب الإلهية بشأنها، وهي نصوص كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومنها ما ورد في سفر [التكوين 3: 8]: (وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة)، وفيه [التكوين 33: 10]: (فقال يعقوب: لا إن وجدت نعمة في عينيك تأخذ هديتي من يدي؛ لأني رأيت وجهك كما يرى وجه الله فرضيت علي)
قال آخر: ومثله ما ورد في سفر [القضاء 5: 5]: (تزلزلت الجبال من وجه الرب وسيناء هذا من وجه الرب إله إسرائيل)
__________
(1) كتاب التوحيد (3/ 36)
(2) الحجة (1/ 199)
(3) البخاري (3150)، ومسلم (1062)
(4) البخاري (2272)، ومسلم (2743)
(5) البخاري (6733)، ومسلم (1628)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/245)
قال آخر: ومثله ما ورد في سفر صمويل الأول [26: 20]: (والآن لا يسقط دمي إلى الأرض أمام وجه الرب، لأن ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوث واحد كما يتبع الحجل في الجبال) .. وفي [صمويل الثاني 21: 1]: (وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين سنة بعد سنة فطلب داود وجه الرب فقال الرب: هو لأجل شاول ولأجل بيت الدماء لأنه قتل الجبعونيين).
قال آخر: وفي سفر الأخبار [33: 12]: (ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه وتواضع جدا أمام إله آبائه).
قال آخر: وفي [المزامير 34: 16]: (وجه الرب ضد عاملي الشر ليقطع من الأرض ذكرهم)
قال آخر: وفي [أرمياء 4: 26]: (نظرت وإذا البستان برية وكل مدنها نقضت من وجه الرب من وجه حمو غضبه) .. وفيه [26: 19]: (هل قتلا قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذي تكلم به عليهم فنحن عاملون شرا عظيما ضد أنفسنا) .. وفي مراثي [أرمياء 4: 16]: (وجه الرب قسمهم لا يعود ينظر إليهم لم يرفعوا وجوه الكهنة ولم يترأفوا على الشيوخ)
قال آخر: وفي [دنيال 9: 13]: (كما كتب في شريعة موسى قد جاء علينا كل هذا الشر ولم نتضرع إلى وجه الرب إلهنا لنرجع من آثامنا ونفطن بحقك)
قال آخر: وفي [يوئيل 1: 3]: (فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب) .. وفيه [يوئيل 1: 10] أيضا: (فخاف الرجال خوفا عظيما وقالوا له: لماذا فعلت هذا فإن الرجال عرفوا أنه هارب من وجه الرب لأنه أخبرهم).
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/246)
قال آخر: وفي [حجي 1: 12]: (حينئذ سمع زربابل بن شالتيئيل ويهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم وكل بقية الشعب صوت الرب إلههم وكلام حجي رسول الله كما أرسله الرب إلههم وخاف الشعب أمام وجه الرب)
قال آخر: وفي [لوقا 1: 76]: (وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه) .. وفي [أعمال الرسل 3: 19]: (فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتى أوقات الفرج من وجه الرب)
قال آخر: أما ما ورد في الحديث عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على النّاس فقال: (ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربّه فيتنخّع أمامه، أيحبّ أحدكم أن يستقبل فيتنخّع في وجهه؟ فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا؛ ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض) (1)، والذي يحتج به المعطلة على التأويل؛ فقد قال فيه شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: (حق على ظاهره، وهو تعالى فوق العرش، وهو قبل وجه المصلى؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجى الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضا قبل وجهه، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المثل بذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه؛ لا تشبيه الخالق بالمخلوق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به" فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليا به، وهو آية من آيات الله، فالله أكبر) (2)
قال آخر: وقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فشبه الرؤية
__________
(1) مسلم (550)
(2) أحمد (15765)، وأبو داود (4731)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/247)
بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه؛ كلٌّ يراه فوقه قبل وجهه كما يري الشمس والقمر، ولا منافاة أصلا، ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله؛ يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الوجه لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى وجها حقيقيا .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة ما يذكرونه مما يسمونه صفة الوجه، لأن إثبات هذا يقتضي التركيب والجسمية، وكل اللوازم التي تتنافى مع تنزيه الله تعالى وتقديسه عن مشابهة مخلوقاته.
قال آخر: ولهذا؛ فإن جميع علمائنا فسروا ما ورد في القرآن الكريم والحديث بناء على التأويلات الموافقة لتنزيه الله تعالى، وللغة العربية.
قال آخر: بل الموافقة لما انتهجه من يزعمون أنهم يتعاملون مع النصوص بحسب ما تدل عليه ظواهرها، ويعتبرون التأويل تعطيلا، فقد رأينا أنهم يؤولون أيضا ما يخالف فهومهم من النصوص، كما ذكر ذلك شيوخنا الأفاضل.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروه في تأويل ما روي في الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فلا يبصق أمامه؛ فإنّما يناجي الله ما دام
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 107 ـ 109)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/248)
في مصلاه ولا عن يمينه فإنّ عن يمينه ملكا وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها) (1)
قال آخر: ومثله ما روي وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه العراجين أن يمسكها بيده، فدخل المسجد ذات يوم وفي يده واحد منها، فرأى نخامات في قبلة المسجد فحتهن حتى أنقاهن ثم أقبل على الناس مغضبا فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبله رجل فيبصق في وجهه!؟! إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه والملك عن يمينه فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه) (2)
قال آخر: فقد رأينا ابن تيمية يضطر إلى تأويله، وقد حاول كل جهده أن يتخلص من لوازمه، بل أقر أن من السلف من منع حمله على ظاهره.
قال آخر: وقد رد كذلك على من زعم بأن مذهب السلف تأويل هذا الحديث وأمثاله، أو تفويض معناها، فقال: (واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل؛ فإن قوله: (ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلى أنه مستقر في الحائط الذي يصلى إليه، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد .. ومن قال: (إن مذهب السلف أن هذا غير مراد)؛ فقد أصاب في المعنى؛ لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس،
__________
(1) البخاري (416)
(2) ابن خزيمة في صحيحه (880)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/249)
وهو من الأمور النسبية) (1)
قال آخر: ثم قال: (وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى .. وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: (الظاهر غير مراد عندهم) أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين؛ بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا أو جوازا خارجيا غير مراد؛ فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل لا نصا ولا ظاهرا أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة، وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف، بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله تعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين؛ أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون؛ لجواز أن يراد غيره، وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف) (2)
قال آخر: وهكذا أول نفس الآيات التي يستدلون بها على الوجه، فقال: (وأما قولهم: له وجه يوليه إلى كل مكان؛ فليس هذا في القرآن؛ ولكن في القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وهذا قد قال فيه طائفة من السلف: فثم قبلة الله، أي فثم جهة
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 107)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 107)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/250)
الله، والجهة كالوعد والعدة والوزن والزنة، والمراد بوجه الله: وجهة الله، الوجه، والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة كما قال في أول الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، ثم قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، فإذا كان لله المشرق والمغرب، ولكل وجهة هو موليها وقوله: {مُوَلِّيهَا}؛ أي متوليها أم مستقبلها، فهذا كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أي فأينما تستقبلوا فثم وجهة الله) (1)
قال آخر: وقبله قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]: (يعني بإسلام الوجه التذلل لطاعته، والإذعان لأمره، وأصل الإسلام الاستسلام؛ لأنه من استسلمت لأمره وهو الخضوع لأمره؛ وإنما سمي المسلم مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه) (2)
قال آخر: وقال ابن كثير: (أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20]، وقال أبو العالية والربيع: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يقول: من أخلص لله، وقال سعيد بن جبير: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخلص، {وَجْهَهُ} قال: دينه) (3)
قال آخر: وقال في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]: (كل شيء
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 414، 415)
(2) تفسير الطبري (1/ 493)
(3) تفسير ابن كثير (1/ 155)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/251)
يفنى ولا يبقى إلا الله عز وجل كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]) (1)
قال آخر: وقال: (وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ههنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي: إلا إياه) (2)
قال آخر: وهم يستدلون لهذا بما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) (3)
قال آخر: وهذا عين ما قام به كل العلماء الذين يتهمهم شيوخنا الأفاضل بالتعطيل، فهم أولوا الوجه بما يتناسب مع اللغة العربية، ومع تنزيه الله تعالى، ولهذا لم يعتبروا الوجه صفة لله، وإنما كلمة أضيفت لله، مثلما أضيفت غيرها من الكلمات، لتدل على معان مجازية لا حقيقية.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قاله ابن حزم الظاهري في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27]، فقد قال: (ذهب المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم، وقال الآخرون: وجه الله تعالى إنما يُراد به: الله عز وجل، قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته، لما أبطلنا من القول بالتجسيم، وقال أبو الهذيل: وجه الله هو الله، قال أبو محمد: وهذا لا ينبغي أن يُطلق، لأنه تسمية، وتسمية الله تعالى لا تجوز إلا بنص، ولكنا نقول: وجه الله ليس هو غير الله تعالى، ولا نرجع منه إلى
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 404)
(2) تفسير ابن كثير (3/ 404)
(3) البخاري (3841)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/252)
شيء سوى الله تعالى، برهان ذلك قول الله حاكيًا عمن رضي قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]، فصح يقينًا أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى به، وقوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، إنما معناه: فثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه) (1)
قال آخر: وقال الشريف الرضى في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص:88]: (الوجه ههنا عبارة عن ذات الشيء ونفسه، وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] أي ويبقى ذات ربك، ومن الدليل على ذلك الرفع في قوله {ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:27] لأنه صفة للوجه الذي هو الذات، ولو كان الوجه ههنا بمعنى العضو المخصوص على ما ظنّه الجهّال، لكان وجه الكلام أن يكون (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)، فيكون (ذي) صفة للجملة لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة، كما يقول القائل: (رأيت وجه الأمير ذي الطول والإنعام)، ولا يقول (ذا الطول والإنعام)، من صفات جملته لا من صفات وجهه، ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة {تبارك اسم رَبِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:78]، لمّا كان الاسم غير المسمى وصف سبحانه المضاف إليه، ولمّا كان الوجه في الآية المتقدمة هو النفس والذات، قال تعالى: {ذُو الْجَلالِ}، ولم يقل (ذي الجلال والإكرام)، ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو، وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يُراد بالوجه ههنا ما قُصد الله به من العمل الصالح والمتجر الرابح على طريق القربة وطلب الزلفة، وعلى ذلك قول الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه .. ، رب العباد إليه الوجه والعمل، أي إليه تعالى قصد الفعل الذي يستنزل به فضله، ودرجات عفوه، فأعلمنا سبحانه أن كل شيء هالك إلا وجه دينه الذي يُوصَل إليه منه، ويُستزلف
__________
(1) الفِصل (ج 2، ص 347 ـ 348)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/253)
عنده به، ويُجعل وسيلًا إلى رضوانه وسببًا لغفرانه) (1)
قال آخر: ومثله ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، فقد قال: (الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه) (2)
قال آخر: ثم ذكر من وجوه دلالتها على ذلك (أنه تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له، وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولا وعرضا وعمقا، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، وكل منقسم فهو مؤلف مركب، وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد، وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها، أعني الفوق والتحت، فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها، والخالق متقدم على المخلوق لا محالة، فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزها عن الجهات والأحياز، فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات) (3)
قال آخر: ومن الوجوه التي ذكرها أنه (لو كان الله تعالى جسما، وله وجه جسماني لكان وجهه مختصا بجانب معين وجهة معينة، فما كان يصدق قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية) (4)
قال آخر: ثم ذكر احتجاجات أصحاب منهج الإثبات بالآية على التجسيم، وذلك من خلال دلالتها على ثبوت الوجه لله تعالى، والوجه لا يحصل إلا لمن كان جسما، ولأنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعا، والسعة من صفة الأجسام، ثم رد على ذلك بـ (أن الوجه
__________
(1) مجازات القرآن.
(2) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(3) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(4) مفاتيح الغيب (4/ 21)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/254)
وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص، لكنا بينا أنا لو حملناه هاهنا على العضو لكذب قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، لأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا، فإذن لا بد فيه من التأويل) (1)
قال آخر: ثم بين وجوه التأويل التي يمكن حمل الوجه عليها هنا، ومنها (أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله، والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف، فقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] أي: فثم وجهه الذي وجهكم إليه، لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما، والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها، فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة) (2)
قال آخر: ومنها (أن يكون المراد من الوجه القصد والنية، كما قال الشاعر: (أستغفر الله ذنبا لست أحصيه .. رب العباد إليه الوجه والعمل)، ونظيره قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79]) (3)
قال آخر: ومنها (أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] يعني لرضوان الله، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يعني ما كان لرضا الله، ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه، فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته، فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه) (4)
قال آخر: ومنها (أن الوجه صلة كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]،
__________
(1) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(2) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(3) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(4) مفاتيح الغيب (4/ 21)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/255)
ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئا آخر غيره، إنما يريدون به أنه من هاهنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر) (1)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال المرتبط بهذا، وهو اقتضاء بعض التأويلات لتجويز المكان، فذكر أنه (لا بد من تأويله بأن المراد: فثم قبلته التي يعبد بها، أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته) (2)
قال آخر: ثم أجاب على الإشكال المرتبط بوصف الله تعالى نفسه بكونه واسعا، بقوله: (لا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره، وإلا لكان متجزئا متبعضا فيفتقر إلى الخالق، بل لا بد أن يحمل على السعة في القدرة والملك، أو على أنه واسع العطاء والرحمة، أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه، ولعل هذا الوجه بالكلام أليق، ولا يجوز حمله على السعة في العلم، وإلا لكان ذكر العليم بعده تكرارا) (3)
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] في الرد على أصحاب منهج الإثبات والتجسيم: (الوجه يطلق على الذات، والمجسم يحمل الوجه على العضو، وهو خلاف العقل والنقل أعني القرآن، لأن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يدل على أن لا يبقى إلا وجه الله تعالى، فعلى القول الحق لا إشكال فيه لأن المعنى لا يبقى غير حقيقة الله، أو غير ذات الله شيء، وهو كذلك، وعلى قول المجسم يلزم أن لا تبقى يده التي أثبتها، ورجله التي قال بها) (4)
قال آخر: ثم رد على إشكال المجسمة بأنه يلزم من التأويل أن لا يبقى علم الله ولا قدرة الله، لأن الوجه أُول بالذات، والذات غير الصفات، فقال: (الجواب عنه هو أن قول
__________
(1) مفاتيح الغيب (4/ 21)
(2) مفاتيح الغيب (4/ 22)
(3) مفاتيح الغيب (4/ 22)
(4) مفاتيح الغيب (29/ 355)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/256)
القائل: لم يبق لفلان إلا ثوب يتناول الثوب وما قام به من اللون والطول والعرض، وإذا قال: لم يبق إلا كمه لا يدل على بقاء جيبه وذيله، فكذلك قولنا: يبقى ذات الله تعالى يتناول صفاته، وإذا قلتم: لا يبقى غير وجهه بمعنى العضو يلزمه أن لا تبقى يده) (1)
قال آخر: ثم أجاب على سر التعبير عن الذات بالوجه، فقال: (لأنه مأخوذ من عرف الناس، فإن الوجه يستعمل في العرف لحقيقة الإنسان، ألا ترى أن الإنسان إذا رأى وجه غيره يقول: رأيته، وإذا رأى غير الوجه من اليد والرجل مثلا لا يقول: رأيته، وذلك لأن اطلاع الإنسان على حقائق الأشياء في أكثر الأمر يحصل بالحس، فإن الإنسان إذا رأى شيئا علم منه ما لم يكن يعلم حال غيبته، لأن الحس لا يتعلق بجميع المرئي، وإنما يتعلق ببعضه، ثم إن الحس يدرك والحدس يحكم فإذا رأى شيئا بحسه يحكم عليه بأمر بحدسه، لكن الإنسان اجتمع في وجهه أعضاء كثيرة، كل واحد يدل على أمر، فإذا رأى الإنسان وجه الإنسان حكم عليه بأحكام ما كان يحكم بها لولا رؤيته وجهه، فكان أدل على حقيقة الإنسان وأحكامه من غيره، فاستعمل الوجه في الحقيقة في الإنسان ثم نقل إلى غيره من الأجسام، ثم نقل لي ما ليس بجسم، يقال في الكلام هذا وجه حسن وهذا وجه ضعيف، وقول من قال: إن الوجه من المواجهة كما هو المسطور في البعض من الكتب الفقهية فليس بشيء إذ الأمر على العكس، لأن الفعل من المصدر والمصدر من الاسم الأصلي وإن كان بالنقل، فالوجه أول ما وضع للعضو ثم استعمل واشتق منه غيره، ويعرف ذلك العارف بالتصريف البارع في الأدب) (2)
قال آخر: ومثلهم قال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]: (المراد من (وجه اللّه) هو ذاته تعالى، وإلّا فليس
__________
(1) مفاتيح الغيب (29/ 355)
(2) مفاتيح الغيب (29/ 356)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/257)
للّه صورة جسمانية، وهذا هو ما اعتمده وأكّده القرآن في كثير من آياته، كما في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، وقوله في الآية التي تصف جلساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]) (1)
قال آخر: وقال: (كلمة (وجه) بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات، وعندئذ {وَجْهِ اللَّهِ} تعني ذات اللّه التي يجب أن يتوجّه إليها المنفقون في إنفاقهم، وعليه فإنّ ورود كلمة (وجه) في هذه الآية وفي غيرها إنّما يقصد به التوكيد، فمن الواضح أنّ قولنا (لوجه اللّه) أو (لذات اللّه) أكثر تأكيدا من قولنا (للّه)، فيكون المعنى أنّ الإنفاق للّه حتما لا لغير اللّه .. ثمّ إنّ الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة، ففيه أهمّ أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق، ولهذا حيثما استعملت كلمة (الوجه) كان القصد إيصال معاني الشرف والأهميّة، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام والأهميّة، وإلّا فإنّ اللّه منزّه عن الصورة الجسدية) (2)
قال آخر: ومثلهم قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (وقد علم السامعون أن الله تعالى يستحيل أن يكون له وجه بالمعنى الحقيقي وهو الجزء الذي في الرأس .. واصطلح علماء العقائد على تسمية مثل هذا بالمتشابه، وكان السلف يحجمون عن الخوض في ذلك مع اليقين باستحالة ظاهرة على الله تعالى، ثم تناوله علماء التابعين ومن بعدهم بالتأويل تدريجا إلى أن اتضح وجه التأويل بالجري على قواعد علم المعاني فزال الخفاء، واندفع الجفاء، وكلا الفريقين خيرة الحنفاء) (3)
قال آخر: ومثلهم قال الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 19، ص 259.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 328.
(3) التحرير والتنوير (27/ 253)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/258)
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]: (المشرق والمغرب، وكل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل والانتقال، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، وحيث إن ملكه تعالى مستقر على ذات الشيء محيط بنفسه وأثره، لا كملكنا المستقر على أثر الأشياء ومنافعها، لا على ذاتها، والملك لا يقوم من جهة أنه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط بها وهو معها، فالمتوجه إلى شيء من الجهات متوجه إليه تعالى .. و لما كان المشرق والمغرب جهتين إضافيتين شملتا سائر الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقتان ولذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما، بهما بأن يقال: أينما تولوا منهما فكأن الإنسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب، فقوله: ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا: ولله الجهات جميعا وإنما أخذ بهما لأن الجهات التي يقصدها الإنسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس وغروبها وسائر الأجرام العلوية المنيرة) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم على ما طرحه الشيوخ حول إضافة الوجه لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثانية .. فحدثونا عن الصفة الثالثة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثالثة هي العين .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]، وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (1/ 149)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/259)
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن العين صفة ذاتية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله يبصر بعين، كما يعتقدون أن الله عز وجل له عينان تليقان به.
قال آخر: وقد قال إمام أئمتنا ابن خزيمة في تقرير ذلك بعد ذكر الأدلة الكثيرة عليها: (فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعله الله مبينا عنه عز وجل في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لله عينين فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب) (1)
قال آخر: ومثله وضع الَّلالَكَائي بابا في [أصول الاعتقاد] لتقرير هذا، بقوله: (سياق ما دل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على أن صفات الله عز وجل الوجه والعينين واليدين) (2)
قال آخر: ومثلهما قال الشيخ عبد الله الغنيمان في شرحه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليس بأعور): (هذه الجملة هي المقصودة من الحديث في هذا الباب؛ فهذا يدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقدُ أحد العينين أو ذهاب نورها) (3)
قال آخر: وقد نقل الشيخ ابن عثيمين الإجماع على ذلك، فقال: (وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدجَّال: (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) (4)
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 97)
(2) أصول الاعتقاد (3/ 412)
(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 285)
(4) عقيدة أهل السنة والجماعة (ص 12)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/260)
قال آخر: وقد بين إمامنا ابن خزيمة الفروق الكبيرة بين عين المخلوق وعين الله تعالى، فقال في ذكر عين الله تعالى: (نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السموات العلى، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا خافية في السموات السبع والأرضين السبع ولا مما بينهم، ولا فوقهم ولا أسفل منهن، لا يغيب عن بصره من ذلك شيء، يرى ما في جوف البحار ولججها كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه) (1)
قال آخر: ثم ذكر عين البشر، فقال: (وبنو آدم وإن كانت لهم عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم، مما لا حجاب ولا ستر بين المرئي وبين أبصارهم، وما يبعد منهم، إن كان يقع اسم القرب عليه في بعض الأحوال، لأن العرب التي خوطبنا بلغتها قد تقول: قرية كذا منا قريبة، وبلدة كذا قريبة منا، ومن بلدنا، ومنزل فلان قريب منا، وإن كان بين البلدين وبين القريتين وبين المنزلين فراسخ، والبصير من بني آدم لا يدرك ببصره شخصا آخر، من بني آدم، وبينهما فرسخان فأكثر، وكذلك لا يرى أحد من الآدميين ما تحت الأرض إذا كان فوق المرئي من الأرض والتراب قدر أنملة، أو أقل منها بقدر ما يغطى ويوارى الشيء، وكذلك لا يدرك بصره إذا كان بينهما حجاب من حائط، أو ثوب صفيق، أو غيرهما مما يستر الشيء عن عين الناظر، فكيف يكون يا ذوي الحجا مشبها من يصف عين الله بما ذكرنا، وأعين بني آدم بما وصفنا) (2)
قال آخر: ثم ذكر فروقا أخرى، فقال: (ونزيد شرحا وبيانا نقول: عين الله عز وجل قديمة، لم تزل باقية، ولا يزال محكوم لها بالبقاء، منفي عنها الهلاك، والفناء، وعيون بني آدم محدثة مخلوقة، كانت عدما غير مكونة، فكونها الله، وخلقها بكلامه الذي هو صفة من
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 97)
(2) كتاب التوحيد (1/ 117)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/261)
صفات ذاته، وقد قضى الله وقدر أن عيون بني آدم تصير إلى بلاء، عن قليل، والله نسأل خير ذلك المصير، وقد يعمي الله عيون كثير من الآدميين فيذهب بأبصارها قبل نزول المنايا بهم، ولعل كثيرا من أبصار الآدميين فيذهب بأبصارها قبل نزول المنايا بهم .. فما الذي يشبه ـ يا ذوي الحجا ـ عين الله التي هي موصوفة بما ذكرنا عيون بني آدم التي وصفناها بعد؟) (1)
قال آخر: ثم ذكر مثالا رائعا لذلك؛ يدل على مبلغ تنزيهه لله تعالى، فقال: (ولست أحسب: لو قيل لبصير لا آفة ببصره، ولا علة بعينه، ولا نقص، بل هو أعين، أكحل، أسود الحدق، شديد بياض العينين، أهدب الأشفار: عينك كعين فلان الذي هو صغير العين، أزرق، أحمر بياض العينين، قد تناثرت أشفاره، وسقطت، أو كان أخفش العين، أزرق، أحمر بياض العينين، قد تناثرت أشفاره، وسقطت، أو كان أخفش العين، أزرق، أحمر بياض شحمها، يرى الموصوف الأول: الشخص من بعيد، ولا يرى الثاني مثل ذلك الشخص من قدر عشر ما يرى الأول، لعلة في بصره، أو نقص في عينه، إلا غضب من هذا وأنف منه، فلعله يخرج إلى القائل له ذلك إلى المكروه من الشتم والأذى ولست أحسب عاقلا يسمع هذا المشبه عيني أحدهما بعيني الآخر، إلا هو يكذب هذا المشبه عين أحدهما بعين الآخر، ويرميه بالعته، والخبل والجنون، ويقول له: لو كنت عاقلا يجري عليك القلم: لم تشبه عيني أحدهما بعيني الآخر، وإن كانا جميعا يسميان بصيرين، إذ ليسا بأعميين، ويقال: لكل واحد منهما عينان يبصر بهما، فكيف لو قيل له: عينك كعين الخنزير، والقرد، والدب، والكلب، أو غيرها من السباع، أو هوام الأرض، والبهائم، فتدبروا يا ذوي الألباب أبين عيني خالقنا الأزلي الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال، وبين عيني الإنسان من الفرقان أكثر، أو مما بين أعين بني آدم وبين عيون ما ذكرنا؟) (2)
__________
(1) كتاب التوحيد (1/ 117)
(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 117)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/262)
قال آخر: ثم رد على من اتهم شيوخنا من أهل الإثبات بالتشبيه، فقال: (تعلموا وتستيقنوا أن من سمى علماءنا مشبهة غير عالم بلغة العرب، ولا يفهم العلم، إذ لم يجز تشبيه أعين بني آدم بعيون المخلوقين، من السباع والبهائم، والهوام، وكلها لها عيون يبصرون بها، وعيون جميعهم محدثة مخلوقة، خلقها الله بعد أن كانت عدما، وكلها تصير إلى فناء وبلى، وغير جائز إسقاط اسم العيون والأبصار عن شيء منها، فكيف يحل لمسلم ـ لو كانت الجهمية من المسلمين ـ أن يرموا من يثبت لله عينا بالتشبيه، فلو كان كل ما وقع عليه الاسم كان مشبها لما يقع عليه ذلك الاسم، لم يجز قراءة كتاب الله، ووجب محو كل آية بين الدفتين فيها ذكر نفس الله، أو عينه، أو يده، ولوجب الكفر بكل ما في كتاب الله عز وجل من ذكر صفات الرب، كما يجب الكفر بتشبيه الخالق بالمخلوق، إلا أن القوم جهلة، لا يفهمون العلم، ولا يحسنون لغة العرب، فيضلون ويضلون) (1)
قال آخر: ومن الأدلة على إثبات صفة العين لله تعالى، بالإضافة لما ورد في القرآن الكريم ما رواه أبو هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه) (2)
قال آخر: ومنها حديث أنس: (إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور ـ وأشار إلى عينيه ـ وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية) (3)
قال آخر (4): ومما يدل على هذه الصفة من العقل أن العور صفة نقص، والله منزه عن صفة النقص، وقد خلق الله تعالى الدجال بهذه الصفة حتى لا يختلط الأمر عند الناس ويظنوا أنه الله، وخاصة وأن الله تعالى قد أقدره على أشياء لا يقدر عليها إلا هو تعالى؛ فتنة
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 117)
(2) أبو داود (13/ 37)
(3) البخاري (7407)
(4) موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 3/ 57.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/263)
للناس، واختبارا وامتحانا؛ ليكشف الله لخلقه حال الناس فيميز الصادق من الكاذب للناس.
قال آخر: ولهذا احتج شيخ الإسلام بحديث الدجال على إثبات صفة العين لله تعالى، وردا على النصارى، فقال: (ولهذا لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسيح الدجال وقال: (ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به)، وذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم تبين كذبه: أحدها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مكتوب بين عينيه كافر (ك ف ر) يقرأه كل مؤمن قارئ وغير قارئ) .. والثاني: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت)، فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين، فعلم أن الله لا يتحد ببشر .. والثالث: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور)، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة؛ لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر، واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم، النصارى وغيرهم، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك، ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين) (1)
قال آخر: وقد اتفق علماؤنا على أن لله تعالى عينين فقط، أما ما ورد في القرآن الكريم من هذه الصفة بصيغة المفرد أو الجمع، فقد أوله علماؤنا ليسنجم مع باقي الآيات والأحاديث.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن القيم في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، فقد قال: (ذكر العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كقولك:
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 3/ 324، 325.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/264)
افعل هذا على عيني لا يريد أن له عيناً واحدة، وإنما إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهراً، أو مضمراً فالأحسن جمعها مشاكلة للفظ كقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وإن أضيفت إلى ضمير الجمع جمعت، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]) (1)
قال آخر: وقال شيخنا صالح آل الشيخ: (والجمع هذا يُراد به المثنى؛ لأن لغة العرب إذا أضافت المثنى إلى ضمير تثنية أو إلى ضمير جمع جَمعت المثنى، كما في قوله تعالى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، مع أنَّ لهما قلبين: قلب عائشة وقلب حفصة، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أصل الكلام: فقد صغى قلباكما. لكن لما كانت التثنية تضاف إلى ضمير التثنية أو الجمع فيجمع الأول) (2)
قال آخر: ومما يؤكد كون العين من صفات الله تعالى المتفق على ذكرها بين جميع الأمم، ما ورد في الكتب الإلهية بشأنها، وهي نصوص كثيرة لا يمكن حصرها هنا، ومنها ما ورد في سفر [الأمثال 3: 4]: (فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس)، وفي سفر [زكريا 4: 10]: (لأنه من ازدرى بيوم الأمور الصغيرة فتفرح أولئك السبع ويرون الزيج بيد زربابل إنما هي أعين الرب الجائلة في الأرض كلها)، وفي [المزامير 33: 18]: (هو ذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته)، وفي [المزامير 33: 18]: (هو ذا عين الرب على خائفيه الراجين رحمته)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الوجه الحقيقي لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى وجها
__________
(1) نقلا عن: اعتقاد أئمة السلف أهل الحديث (ص 233)
(2) شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ (ص 175)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/265)
حقيقيا .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: هم يسيرون على نفس المنهاج الذي ذكرناه لكم سيدي القاضي .. منهج تنزيه الله تعالى عن الجسمية ولوازمها، ثم تأويل معناها بحسب ما تقضيه اللغة العربية، ثم تفويض علم المراد الحقيقي لله تعالى .. وقد ذكرنا لكم الكثير من الأدلة على ذلك سابقا.
قال آخر: وقد رأينا أن شيوخنا الأفاضل يذكرون تأويل علمائهم وسلفهم لهذا، فلم يجيزون لأنفسهم ما لا يجيزون لغيرهم.
قال آخر: ومن الأمثلة على تأويل علمائنا لما أضيف لله تعالى من لفظ العين، ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، فقد ذكر الرازي في بيان وجوه استحالة حمل معناها على ظاهره وجوها .. منها (أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة، وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]) (1)
قال آخر: ومنها (أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين، كما يقال: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل) (2)
قال آخر: ومنها (أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزها عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض، فوجب المصير فيه إلى التأويل) (3)
قال آخر (4): ثم ذكر وجوه تأويلها التي دل عليها اللسان العربي، ومنها أن معنى بأعيننا أي بعين الملَك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة، حيث يقال: فلان عين على فلان
__________
(1) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(2) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(3) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(4) مفاتيح الغيب (17/ 344)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/266)
نصب عليه ليكون منفحصا عن أحواله ولا تحول عنه عينه.
قال آخر (1): ومنها أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه، فلما كان وضع العين على الشيء سببا لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط، فلهذا قال المفسرون معناه: (بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك)، ومنه قولهم: (عليه من الله عين كالئة)
قال آخر (2): وذلك التأويل مبني على أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل، والثاني: أن يكون عالما بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه .. وبذلك يكون المعنى: (اصنع الفلك بأعيننا أي بحفظنا وكلئنا وتعليمنا)
قال آخر: ومثله ما ذكره الشيرازي في تفسيرها، فقد قال: (إنّ المقصود من كلمة {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] إشارة إلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرآي ومسمع منّا، فواصل عملك مطمئن البال .. و طبيعي أنّ هذا الإحساس بأنّ اللّه حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإنسان قوة وطاقة، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر .. كما يستفاد من كلمة (وحينا) أيضا أن صنع السفينة كان بتعليم اللّه، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ نوحا عليه السّلام لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه) (3)
قال آخر (4): ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، فقد ذكر الرازي في تفسيرها وجوها، منها أنه لما بين الله
__________
(1) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(2) مفاتيح الغيب (17/ 344)
(3) الأمثل، ج 6، ص 525.
(4) مفاتيح الغيب (28/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/267)
تعالى أن المشركين يكيدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال: اصبر ولا تخف، فإنك محفوظ بأعيننا.
قال آخر (1): ومنها أن معناها: (فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك)، وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال، لكن كونك مسبحا لنا أفضل من كونك داعيا على عباد خلقناهم، فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا.
قال آخر (2): ومنها أن من يشكو حاله عند غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى: (اصبر ولا تشك حالك، فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك)
قال آخر (3): ثم ذكر الفرق بين قوله في هذه الآية الكريمة {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وقوله في موضع آخر: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وهو أنه لما وحد الضمير هناك، وهو ياء المتكلم وحده وحد العين، ولما ذكر هاهنا ضمير الجمع في قوله {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وهو النون جمع العين، وقال: {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، هذا من حيث اللفظ .. وأما من حيث المعنى فلأن الحفظ هاهنا أتم، لأن الصبر مطية الرحمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث اجتمع له الناس وجمعوا له مكايد وتشاوروا في أمره، وكذلك أمره بالفلك وأمره بالاتخاذ عند عدم الماء وحفظه من الغرق مع كون كل البقاع مغمورة تحت الماء تحتاج إلى حفظ عظيم في نظر الخلق فقال {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]
قال آخر: ثم ذكر وجه تعلق الباء في الآية الكريمة ودلالتها على التنزيه، فقال: (إن قلنا بأنه للحفظ فتقديره محفوظ بأعيننا، وإن قلنا للعلم فمعناه بمرأى منا أي بمكان نراك
__________
(1) مفاتيح الغيب (28/ 229)
(2) مفاتيح الغيب (28/ 229)
(3) مفاتيح الغيب (28/ 229)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/268)
وتقديره فإنك بأعيننا مرئي وحينئذ هو كقول القائل رأيته بعيني كما يقال كتب بالقلم الآلة وإن كان رؤية الله ليست بآلة) (1)
قال آخر: ومثله قال الشيرازي في تفسيرها: (وجملة {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، تعبير لطيف جدّا حاك عن علم اللّه، وكذلك كون النّبي صلى الله عليه وآله وسلم مشمولا بحماية اللّه الكاملة ولطفه .. أجل، إنّ الإنسان حين يحسّ بأنّ قادرا كبيرا ينظره ويرى جميع سعيه وعمله ويحميه من أعدائه فإنّ إدراك هذا الموضوع يمنحه الطاقة والقوّة أكثر كما يحسّ بالمسؤولية بصورة أوسع) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ذكروه فيما وردت فيه العين بصيغة المفرد؛ وهو قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقد نقل الرازي عن القفال قوله في تفسيرها: (لترى على عيني، أي على وفق إرادتي، ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئا وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا هاهنا) (3)
قال آخر (4): ثم ذكر وجوه المجاز في الآينة، ومنها أن المراد من العين العلم، أي ترى على علم مني، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه.
قال آخر (5): ومنها أن المراد من العين الحراسة، وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه، فالعين كأنها سبب الحراسة، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازا، وهو كقوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، ويقال: عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة.
__________
(1) مفاتيح الغيب (28/ 229)
(2) الأمثل، ج 17، ص 197.
(3) مفاتيح الغيب (22/ 48)
(4) مفاتيح الغيب (22/ 48)
(5) مفاتيح الغيب (22/ 49)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/269)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة العين لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثالثة .. فحدثونا عن الصفة الرابعة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الرابعة هي الساق وما يرتبط بها من الرجل .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآية الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الساق صفة من صفات الله تعالى، وهو وجه يليق بجلال الله تعالى وعظمته .. من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: ومما يدل عليها من الحديث ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (فيقول الله تعالى: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا) (1)
قال آخر: ومثلها صفة القدم، وقد ورد في الحديث عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في جهنم: (لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد بعزتك وكرمك، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) (2)
__________
(1) البخاري (4635، 7001)
(2) البخاري (6949)، مسلم (2848)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/270)
قال آخر: ومثلها صفة الرجل التي ورد ذكرها في حديث أبي هريرة صلى الله عليه وآله وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تحاجت الجنة والنار، فقالت: النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا) (1)
قال آخر: وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية مقررا لما جاء في هذه الأحاديث: (وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه) ـ وفي رواية: رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض) .. ونحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أنا الديان)، إلى غيرها من الأحاديث هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا، اعتقادنا فيها، وفي الآي الواردة في الصفات: أنا نقلبها، ولا نحرفها، ولا نكيفها، ولا نعطلها، ولا نتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها؛ بل نؤمن بها، ونكل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم، روينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام، ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء، ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك الصفات
__________
(1) البخارى (4569)، مسلم (2846)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/271)
إلا بالأسماء التي عرفهم الرب عز وجل، فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات، فلا يدركه أحد) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الساق والرجل ونحوها لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى ساقا ورجلا حقيقية .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال آخر: وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الجسمية ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على استحالة ما يذكرونه من الساق والرجل وغيرها، لأنها تقتضي التركيب والجسمية وكل اللوازم التي تتنافى مع تنزيه الله تعالى وتقديسه عن مشابهة مخلوقاته.
قال آخر: ولهذا؛ فإن جميع علمائنا فسروا ما ورد قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] بناء على هذه التأويلات الموافقة لتنزيه الله تعالى، وللغة العربية.
قال آخر: بل الموافقة لما انتهجه من يزعمون أنهم يتعاملون مع النصوص بحسب ما تدل عليه ظواهرها، ويعتبرون التأويل تعطيلا، فقد رأينا أنهم يؤولون أيضا ما يخالف فهومهم من النصوص.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 185، 186)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/272)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن تيمية لتأويل السلف للآية الكريمة، مع أنه يعتبر الخروج عن تأويلاتهم بدعة، فقد قال: (وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] فروي عن ابن عباس وطائفة: أن المراد به الشدة؛ أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة: أنهم عدّوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر) (1)
قال آخر: ومثله قال ابن القيم: (نقول من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقا؟ وليس معك إلا قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]؛ والصحابة متنازعون في تفسير الآية؛ هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله؛ لأنه تعالى لم يضف الساق إليه؛ وإنما ذكره مجردا عن الإضافة منكرا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: (فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدا)، ومن حمل الآية على ذلك قال قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 42] مطابق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيكشف عن ساقه فيخرون له سجدا)، وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبيه، قالوا: وحمل
__________
(1) دقائق التفسير لابن تيمية (2/ 482)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/273)
الآية على الشدة لا يصح بوجه؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك: أن يقال كشفت الشدة عن القوم لا كشف عنها، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 50]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} [المؤمنون: 75]، فالعذاب والشدة هو المكشوف؛ لا المكشوف عنه، وأيضا فهناك تحدث الشدة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود؛ وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة) (1)
قال آخر: وبمثل هذا فسرها علماؤنا الذين يتهمهم شيوخنا الأفاضل بالتعطيل .. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الزمخشري من وجوه لتأويل كلمة {ساق}، حيث قال: (معنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: 42]: يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل، وإنما هو مثل في البخل .. وأما من شبه فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود: (يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجدا، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأنّ فيها سفافيد)، ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن .. فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف، كقوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6]، كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل، ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل: وعن أبى عبيدة: خرج من خراسان رجلان، أحدهما: شبه حتى مثل، وهو مقاتل بن سليمان، والآخر نفى حتى عطل، وهو جهم بن صفوان، ومن أحس بعظم مضارّ هذا العلم علم مقدار عظم منافعه) (2)
__________
(1) الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية (1/ 252 ـ 254)
(2) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 594)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/274)
قال آخر (1): ومثل ذلك ذكر الرازي وجوه تأويل كلمة {ساق} في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، ومنها (الشدة، كما روي أنه سئل ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: (سن لنا قومك ضرب الأعناق .. وقامت الحرب بنا على ساق)، ثم قال: وهو كرب وشدة وروى مجاهد عنه قال: هو أشد ساعة في القيامة، وأنشد أهل اللغة أبياتا كثيرة، منها:
فإن شمرت لك عن ساقها ... فدنها ربيع ولا تسأم
قال آخر: ثم ذكر وجه هذا التأويل عن ابن قتيبة، فقال: (أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشمر عن ساقه، فلا جرم يقال في موضع الشدة: (كشف عن ساقه)، وعقب عليه بقوله: (واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى، يستحيل أن يكون جسما، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز) (2)
قال آخر: ومن الوجوه التي ذكرها في تأويل كشف الساق، ما عبر عنه بقوله: (أي عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر، وساق الإنسان، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها) (3)
قال آخر: ومنها أن المراد (عن ساق العرش، أو عن ساق ملك مهيب عظيم، واللفظ لا يدل إلا على ساق، فإما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه) (4)
__________
(1) مفاتيح الغيب (30/ 613)
(2) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(3) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(4) مفاتيح الغيب (30/ 614)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/275)
قال آخر: ومنها أنّ (يوم يكشف عن ساق ليس المراد منه يوم القيامة، بل هو في الدنيا، لأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة .. لأن يوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، بل المراد منه، إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها، وإما حال الهرم والمرض والعجز وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83]) (1)
قال آخر: ثم رد على ما ذكره المشبهة، من أن المراد ساق الله، تعالى الله عنه، بوجوه، منها (أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث، لأن كل جسم متناه، وكل متناه محدث ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث، ولأن كل جسم ممكن، وكل ممكن محدث) (2)
قال آخر: ومنها (أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن، أما لو حملناه على الشدة، ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم، كأنه قيل: يوم يكشف عن شدة، وأي شدة، لا يمكن وصفها) (3)
قال آخر: ومنها (أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه) (4)
قال آخر: ومثل ذلك قال الشيرازي في تفسيرها، حيث قال: (جملة {يُكْشَفُ عَنْ
__________
(1) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(2) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(3) مفاتيح الغيب (30/ 614)
(4) مفاتيح الغيب (30/ 614)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/276)
ساقٍ} [القلم: 42] كما قال جمع من المفسّرين، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم .. و نقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال: كلّما خفي عليكم شي ء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب، أ لم تسمعوا قول الشاعر: (وقامت الحرب بنا على ساق)، إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب) (1)
قال آخر: ثم ذكر الوجه الآخر لتأويلها، وبين مرجوحيته بالنسبة للتأويل السابق، فقال: (وقيل: إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشي ء، كساق الشجرة، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شي ء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر) (2)
قال آخر: ثم ذكر معنى الآية بناء على هذا التأويل، فقال: (في ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئ عزّ وجلّ، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة) (3)
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 18، ص 551.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 18، ص 551.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 18، ص 551.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/277)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجاباتهم عن المسائل المرتبطة بالإضافات التي يعتبرها المجسمة صفات ذاتية لله تعالى، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: أظن أنكم سمعتم ما ذكروه، وأنهم مصرون على ما هم عليه من الغي، ولذلك لا داعي لأن تجادلوهم، بل علينا أن ننتقل إلى المسألة الخامسة، والمرتبطة بصفات الأفعال.
قال أحد الشيوخ: لقد رأينا أن هؤلاء الجهمية المعطلة، يعطلون عشر صفات أفعال لله، ويعطلون معها كل ما ارتبط بها من معان .. ولذلك نطلب منكم سيادة القاضي، أن تطلب منهم أن يجيبونا عن كل صفة نتحدث عنها، حتى لا يفروا كعادة كل المبتدعة.
قال القاضي: لكم ذلك .. فحدثونا عن الصفة الأولى.
قال كبير الشيوخ: الصفة الأولى هي الاستواء .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [الأعراف: 54، يونس: 3 الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4]، والتي وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، بالإضافة للأحاديث الكثيرة التي سبق ذكر الكثير منها.
قال القاضي: أجل .. فما تفسيركم للاستواء حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسره بحسب ظاهره الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الاستواء صفة من صفات الله تعالى، وهي صفة فعلية خبرية.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/278)
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث الكثيرة تفسيره بالقعود والجلوس، ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن ثعلبة بن الحكم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة ـ إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده ـ: إني لم أجعل علمي، وحكمي فيكم، إلا وأنا أريد أن أغفر لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي) (1)
قال آخر: وقد قوى السيوطي هذا الخبر، وقال: (له طريق لا بأس به قال الطبراني حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا العلاء بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم) (2)، وقال الحافظ ابن كثير: (إسناده جيد) (3)
قال آخر: وقال الذهبي: (ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر: (إذا جلس الرب على الكرسي)، فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث، ولا ينكرونها (4).
قال آخر: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا أدري أخرجه أم لا؟ .. فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح.
قال آخر: فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سرج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث
__________
(1) الطبراني في الكبير، 1364.
(2) اللآليء المصنوعة (1/ 281)
(3) تفسير ابن كثير (3/ 141)
(4) كتاب العرش ص 155.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/279)
بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟ .. بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله عز وجل، وقد قال الإمام أحمد: (لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنعت وإن نبت عن الأسماع)
قال آخر: فانظروا إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث، فإذا كان كل هؤلاء مجسمة، فمن الموحدون؟
قال آخر: وقد قال العلامة سليمان بن سحمان معلقا على كلام الذهبي: (فإذا ثبت هذا عن أئمة أهل الإسلام، فلا عبرة بمن خالفهم من الطغام أشباه الأنعام) (1)
قال آخر: وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن أكثر أهل السنة قبلوا هذا الحديث حيث قال: (ومن ذلك حديث عبد الله بن خليفة المشهور الذي يروي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره) (2)
قال آخر: وهكذا فسرها أكثر سلفنا حتى من ذكر ضعف الحديث، وقد قال قال ابن القيم: (وفي تفسير السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس الرحمن على العرش استوى قال: قعد)، ورواية السدي يصححها جمع أهل العلم، وقد بحث الشيخ أحمد شاكر بحثا طويلا في تفسير الطبري في تقويتها.
قال آخر: وقال الدشتي: (وفيه: عن عباد بن منصور قال: سألت الحسن وعكرمة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، قالا: جالس) (3)
قال آخر: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى
__________
(1) الضياء الشارق ص 178.
(2) مجموع الفتاوى (16/ 435)
(3) إثبات الحد ص 82.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/280)
على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن عبد الوهاب قال الرحمن على العرش استوى قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد) (1)
قال آخر: وقال الدشتي: (قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي قال: سمعت عبدالوهاب يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قال: قعد، وقيل للإمام أحمد بن حنبل: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبد الوهاب .. وقال الإمام أحمد: عبدالوهاب أهل يقتدى به، عافا الله عبدالوهاب، عبدالوهاب إمام، وهو موضع للفتيا .. قيل له: كلما أجاب عبدالوهاب في شيء تقبله؟ قال: (سبحان الله! الناس يختلفون في الفقه، هو موضع) (2)
قال آخر: وعلى هذا التفسير المتأخرون من علمائنا، وقد سئل العلامة ابن عثيمين هذا السؤال: (عثمان الدارمي في رده على بشر المريسي أورد أن الاستواء يأتي بمعنى الجلوس، ما رأي فضيلتكم؟)، فأجاب بقوله: (الاستواء على الشيء في اللغة العربية يأتي بمعنى الجلوس، قال الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 ـ 13]، والإنسان على ظهر الدابة جالس أم واقف؟ .. هو جالس، لكن هل يصح أن نعديه إلى استواء الله على العرش؟ هذا محل نظر، فإن ثبت عن السلف أنهم فسروا ذلك بالجلوس فهم أعلم منا بهذا، وإلا ففيه نظر، وإلا نقول: كيفية الاستواء مجهول، ومن جملة الجهل ألا ندري أهو جالس أو غير جالس، ولكن نقول: معنى الاستواء العلو، هذا أمر لا شك فيه، استوى على العرش يعني: علا علوا خاصا غير العلو العام الذي على جميع المخلوقات) (3)
قال آخر: وتعليقه الأمر على ما ورد عن السلف يدل على إقراره بالجلوس، فقد ورد
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 435)
(2) إثبات الحد ص 88.
(3) لقاء الباب المفتوح (11/ 14)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/281)
عن جماعة كبيرة منهم تفسير الاستواء بالقعود أو الجلوس، ولهذا أورد عبد الله بن أحمد في السنة، والخلال في السنة قول خارجة بن مصعب: (وهل يكون الاستواء إلا بجلوس)، وحتى لو كان خارجة بن مصعب فيه كلام، فإيراد الأئمة لكلامه يعني إقرارهم له، وقد صح عن التابعي الجليل محمد بن كعب القرظي، أنه أثبت الجلوس لله عز وجل، أمام عمر بن عبد العزيز وأقره.
قال آخر: ويدل لهذا ما رواه ابن وهب في تفسيره، قال: وحدثني حرملة بن عمران، عن سليمان بن حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار أقبل الله في ظللٍ من الغمام والملائكة، قال: فيسلم على أهل الجنة في أول درجة فيردون عليه السلام، قال القرظي: وهذا في القرآن {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسألك أي رب، قال: بلى سلوني، قالوا: نسألك أي رب رضاك، قال: رضائي أدخلكم دار كرامتي، قالوا: يا رب، وما الذي نسألك فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لا ينقصنا من ذلك شيئا؛ قال: إن لدي مزيدا؛ قال: فيفعل الله ذلك بهم في درجتهم حتى يستوي في مجلسه؛ قال: ثم تأتيهم التحف من الله تحمله إليهم الملائكة، قال: وليس في الآخرة ليل ولا نصف نهارٍ، إنما هو بكرة وعشيا، وذلك في القرآن، في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، وكذلك قال لأهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]) (1)
قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في الحديث عن عبيد بن حنين، قال: بينا أنا جالس إذ جاءني في قتادة بن النعمان، فقال: انطلق بنا يا ابن حنين إلى أبي سعيد الخدري، فإني قد
__________
(1) تفسير القرآن من الجامع لابن وهب (1/ 83)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/282)
أخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد، فوجدناه مستلقياً رافعاً رجله اليمنى على اليسرى، فسلمنا، وجلسنا، فرفع قتادة ابن النعمان يده إلى رجل أبي سعيد فقرصها قرصةً شديدةً، فقال له أبو سعيد: سبحان الله ياابن أم أوجعتني، فقال له: ذلك أردت، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله عز وجل لما قضى خلقه استلقى، فوضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: لاينبغي لأحدٍ من خلقي أن يفعل هذا)، فقال أبو سعيد: لاجرم والله لا أفعله أبداً (1).
قال آخر: فمع أن الحديث ضعيف، بل هناك من قال بوضعه (2) إلا أنه يجوز الاستدلال به على هذا المعنى.
قال آخر: وقد قال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (نثبت أنه على عرشه استواء يليق بجلاله، سواء فسر ذلك: بالارتفاع، أو بعلوه على عرشه، أو بالاستقرار، أو الجلوس فهذه التفاسير واردة عن السلف) (3)
قال آخر: أما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لا يرد على إثبات صفة الجلوس، فإننا كما أثبتا ذاتا ليست كذوات المخلوقين، فكذلك له صفات لا كصفات المخلوقين، هذه القاعدة العامة، وأما في صفة الجلوس؛ فكما أثبت لله علما وسمعا وبصرا لا كالمخلوقين فكذلك نثبت له جلوسا لا كجلوسهم، وهذه قاعدة عامة أخرى في أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
__________
(1) الطبراني في الكبير، 19/ 13، قال الهيثمي في المجمع، 8/ 100: رواه الطبراني عن مشايخ ثلاثة: فأحمد بن رشدين ضعيف والاثنان لم أعرفهما.
(2) قال ابن الجوزي في [دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه (ص 166)] عنه: (وقد رواه عبدالله بن أحمد عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصاغاني قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح عن سعيد بن الحارث عن عبيدالله بن حنين. قلت: قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث في ديوان من دواوين الشريعة المعتمد عليها. وكان أحمد بن حنبل يذم ابراهيم بن المنذر ويتكلم فيه، وقال زكريا الساجي عنده مناكير، وقال يحى بن معين: فليح ليس حديثه بالجائز. وقال مرة: هو ضعيف وقال: الاحتجاج عند الحفاظ به لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم. قال الإمام أحمد: ثم لو صح طريقه احتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم، فلم يفهم قتادة إنكاره عليهم)
(3) الأجوبة السعدية على الأسئلة الكويتية ص 146.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/283)
قال آخر: وكذلك جلوس المخلوقين لا يتشابه، فما بالك بجلوس الخالق، ولله المثل الأعلى، وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (وإذا كان قعود الميت في قبره ليس هو مثل قعود البدن فما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ (القعود والجلوس) في حق الله تعالى كحديث جعفر بن أبي طالب وحديث عمر بن الخطاب وغيرهما أولى أن لا يماثل صفات أجسام العباد) (1)
قال آخر: ومما يؤكد هذا ما ورد من الروايات في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، فمنها ما رواه أبو يعلى عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يجلسه معه على السرير) (2)
قال آخر: وروى عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المقام المحمود فقال: (وعدني ربي القعود على العرش) (3)
قال آخر: وروي عن عبد الله بن سلام أنه قال: (إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فأقعد بين يدي الله تعالى على كرسيه)، قال: فقلت: يا أبا مسعود إذا كان على كرسيه أليس هو معه؟ قال: (ويلكم هذا أقر حديث في الدنيا لعيني)، قال حجاج في حديثه: (إذا كان يوم القيامة نزل الجبار جل اسمه على عرشه، وقدماه على الكرسي، ويؤتي بنبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، فيقعد بين يديه على الكرسي، فقالوا للحسن: إذا كان على الكرسي هو معه؟ قال: نعم، ويلكم هو معه هو معه) (4)
قال آخر: وقد علق شيخنا أبو يعلى على هذه الروايات وغيرها بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأنه يجلسه معه على عرشه وسريره بمعنى يدنيه من ذاته
__________
(1) شرح حديث النزول ص 149.
(2) إبطال التأويلات (ص 476)
(3) إبطال التأويلات (ص 476)
(4) إبطال التأويلات (ص 477)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/284)
ويقربه منها) (1)
قال آخر: وروي عن أبي هريرة أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: (نعم، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حبيب الله؟ فأتخطى صفوف الملائكة حتى أصير إلى جانب العرش، ثم يمد يده فيأخذ بيدي فيقعدني على العرش) (2)
قال آخر: وروي عن عمرو بن دينار قال: (أن الله عز وجل يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب مثله، فيقوم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيثني على الله بما هو أهله، فيقول الله عز وجل له: ادنه، ثم يغضب فيقوم نبينا، فيثني على الله بما هو له أهل، فيقول له: ادنه، فلا يزال يقول له: ادنه، حتى يقعده على العرش، وجبريل عليه السلام قائم، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا يعني جبريل جاءني برسالاتك، فيقول الله تبارك وتعالى: صدق) (3)
قال آخر: ويدل لهذا ما حدث به محمد بن علي السراج، قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، رحمة الله عليهما ورضوانه، فتقدمت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقمت عن يسار عمر، فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أقول شيئا فأقبل علي، فقال: قل، فقلت: إن الترمذي يقول: إن الله عز وجل لا يقعدك معه على العرش، فكيف تقول يا رسول الله، فأقبل علي شبه المغضب وهو يشير بيده اليمنى عاقدا بها أربعين، وهو يقول: (بلى والله، بلى والله، بلى والله، يقعدني معه على العرش، بلى والله يقعدني معه على العرش، بلى والله يقعدني معه على العرش)، ثم انتبهت) (4)
قال آخر: وقد صاغ شيخنا ابن القيم في نونيته هذا، واعتبره أصلا من أصول
__________
(1) إبطال التأويلات (ص 479)
(2) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.
(3) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.
(4) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/285)
العقائد، فقد قال:
واذكر كلام مجاهد في قوله ... أقم الصلاة وتلك في سبحان
في ذكر تفسير المقام لأحمد ... ما قيل ذا بالرأي والحسبان
إن كان تجسيمًا فإن مجاهدًا ... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني
وقد أتى ذكر الجلوس به وفي ... أثر رواه جعفر الرباني
أعني ابن عم نبينا وبغيره ... أيضًا والحقُّ ذو التِّبيان
والدارقطني الإمام يثبت الآثار ... في ذا الباب غير جبان
وله قصيد ضمنت هذا ... وفيها لست للمروي ذا نكران
وجرت لذلك فتنة في وقته ... من فرقة التعطيل والعدوان
والله ناصر دينه وكتابه ... ورسوله في سائر الأزمان
لكن بمحنة حزبه من حربه ... ذا حكمة مذ كانت الفئتان
قال آخر: وقبله قال أبو الحسن الدارقطني:
حديث الشفاعة عن أحمد ... إلى أحمد المصطفى مسنده
وجاء حديث باقعاده ... على العرش أيضًا فلا نجحده
أمرُّوا الحديث على وجهه ... ولا تُدخلوا فيه ما يفسده
ولا تُنكروا أَنَّه قاعد ... ولا تُنكروا أنه يقعده
قال آخر: وقد نص على هذا كل متقدمي شيوخنا (1) ومنهم أحمد بن حنبل، وهارون بن معروف، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام وعبد الوهاب الوراق، وأبو داود السجستاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر المروذي وأبو بكر
__________
(1) السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 187)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/286)
الخلال .. وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر الآجري، وأبو عبد الله ابن بطة، وغيرهم كثير.
قال آخر (1): بل قال إبراهيم الأصبهاني في الحديث: (هذا الحديث صحيح ثبت، حدث به العلماء منذ ستين ومائة سنة)، وقال أبو بكر بن حماد المقرئ: (من ذكرت عنده هذه الأحاديث فسكت فهو متهم على الإسلام! فكيف من طعن فيها!؟) .. وقال أبو بكر بن صدقة: (ما حكمه عندي إلا القتل) .. وقال أبو بكر بن أبي طالب: (من رده فقد رد على الله عز وجل، ومن كذب بفضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر بالله العظيم) .. وقال محمد بن إسماعيل السلمي: (من توهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل ما قال مجاهد فهو كافر بالله العظيم) .. وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب: (لا علمت أحدا رد حديث مجاهد يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على العرش) .. وقال أبو قلابة: (لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية) .. وقال الحسن بن الفضل: (من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال ما أدركنا أحدا يرده إلا من في قلبه بلية، يهجر ولا يكلم) .. وقال ابن بطة: سمعت أخي القاسم نضر الله وجهه يقول: (لم يكن البربهاري يجلس مجلسا إلا ويذكر فيه أن الله عز وجل يقعد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش) .. وقال محمد بن إسماعيل السلمي: (كل من ظن أو توهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستوجب من الله عز وجل هذه المنزلة في حديث مجاهد فهو عندنا جهمي، وإن هذه المصيبة على أهل الإسلام أن يذكر أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقدموا عليه بأجمعهم!)
قال آخر: بل إن المتأخرين من علمائنا أيضا قالوا بذلك، من أمثال الشيخ ابن فوزان فقد قال في شرحه على النونية عن أثر مجاهد: (هذا حديث صحيح وإن كان يشوش على ضعاف الإدراك فلا عبرة بهم لأنه لا يمكن أن يقال هذا الكلام من جهة الاجتهاد أو الرأي بل له حكم الرفع) (2)
__________
(1) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 10.
(2) شرحه على النونية (2 ـ 453)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/287)
قال آخر: بل إن بعضهم ألف في ذلك رسالة سماها (الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد) (1)، وقد قدم لها بقول محمد بن إسماعيل السلمي: (لولا أن أبا بكر المروذي رحمه الله اجتهد في هذا –أي في الرد على من أنكر أثر مجاهد ـ لخفت أن ينزل بنا وبمن يقصر عن هذا الضال المضل عقوبة، فإنه من شر الجهمية ما يبالي ما تكلم به) (2)
قال آخر: ثم قال: (ومما أعطى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم المقام المحمود يزيده بذلك شرفا وفضلا، جمع الله الكريم له فيه كل حظ جميل من الشفاعة للخلق والجلوس على العرش، خص الله الكريم به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأقر له به عينه يغبطه به الأولون والآخرون، سر الله الكريم به المؤمنين مما خص به نبيهم من الكرامة العظيمة والفضيلة الجميلة تلقاها العلماء بأحسن القبول، فالحمد لله على ذلك، وقد حدث المشايخ المشهورون والأولياء المقبولون بالآثار الواردة في هذا الباب منذ قرون، ورأوا أن الفضيلة المنقولة فيها أعظم فضائل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
قال آخر: ثم نقل قول المروذي: سألت أبا عبد الله بن عبد النور عن فضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث مجاهد، فقال: (والله ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة مثلها، أدركت شيوخنا على ذلك يتلقونه بالقبول، ويسرون بها ولا يردها إلا رجل سوء جهمي) (4)
قال آخر: ولذلك اتفق كل أئمتنا على إثبات الاستواء لله تعالى بمعانيه المختلفة، وقد قال ابن عبد البر في ذلك: (لو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {اسْتَوَى}: تقول العرب استويت فوق الدابة
__________
(1) ألفها إبراهيم بن رجا بن شقاحي الشمري، وهي في موقعه على النت.
(2) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 3.
(3) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 4.
(4) الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 4.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/288)
واستويت فوق البيت، وقال غيره استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد) (1)
قال آخر: وقال ابن قتيبة: (كيف يسوغ لأحد أن يقول أنه بكل مكان على الحلول مع قوله:: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، أي استقر كما قال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] أي استقررت) (2)
قال آخر: وقد ورد هذا الاعتقاد عن العلامة أبي أحمد الكرجي في عقيدته التي ألفها، فكتبها الخليفة القادر بالله وجمع الناس عليها، وذلك في صدر المائة الخامسة، وفي آخر أيام الإمام أبي حامد الإسفراييني شيخ الشافعية ببغداد، وأمر باستتابة من خرج عنها من معتزلي ورافضي وخارجي، فمما قال فيها: (كان ربنا عز وجل وحده لا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجة إليه، فاستوى عليه استواء استقرار كيف شاء وأراد، لا استقرار راحة كما يستريح الخلق)، وقد علق الذهبي عليها بقوله (قلت: ليته حذف (استواء استقرار) وما بعده فإن ذلك لا فائدة فيه بوجه) (3)
قال آخر: وقال العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون) (4)
قال آخر: وقال شيخنا ابن عثيمين: (مثاله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال
__________
(1) التمهيد (7/ 121)
(2) تأويل مختلف الحديث ص 171.
(3) العلو: 315.
(4) الدرر السنية (3/ 215)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/289)
قائل: معنى {اسْتَوَى}: استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه، كما سيأتي إن شاء الله) (1) .. وقال: (فإن سألت: ما معنى الاستواء عندهم؟ فمعناه العلو والاستقرار .. وقد ورد عن السلف في تفسيره أربعة معاني: الأول: علا، والثاني: ارتفع، والثالث: صعد، والرابع: استقر، لكن (علا) و (ارتفع) و (صعد) معناها واحد، وأما (استقر)، فهو يختلف عنها ودليلهم في ذلك: أنها في جميع مواردها في اللغة العربية لم تأت إلا لهذا المعنى إذا كانت متعدية بـ (على) (2)
قال آخر: وكما اتفق أئمتنا على معنى الاستواء اتفقوا على معنى العرش، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]: (يعني بالعرش: السرير)، ثم ذكر بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قوله: (محدقين حول العرش قال: العرش: السرير) (3)، وقال في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ} [البروج: 15]: (ذو السرير المحيط بما دونه) (4)
قال آخر: وقال البيهقي: (وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به كما خلق في الأرض بيتاً وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي الآيات والأحاديث والآثار دلالة واضحة على ما ذهبوا إليه) (5)، وقال: (العرش هو السرير المشهور فيما بين العقلاء) (6)
قال آخر: وقال ابن كثير: (هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم،
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية (1/ 48)
(2) شرح الواسطية (1/ 332)
(3) تفسير الطبري (24/ 37 ـ 38)
(4) تفسير الطبري (24/ 49)
(5) الأسماء والصفات (2/ 272)
(6) الاعتقاد (112)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/290)
وهو سقف المخلوقات) (1)
قال آخر: وقال الذهبي ـ بعد أن ذكر سرر أهل الجنة ـ: (فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته، والكروبيين الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته، فقد ورد أنه من ياقوتة حمراء) (2)
قال آخر: وقال ابن قتيبة في الرد على من فسره بغيره ذلك: (وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء في اللغة لا يعرفون للعرش معنى إلا السرير، وما عرش من السقوف وأشباهها، قال أمية بن أبي الصلت (3):
مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الن ... اس وسوى فوق السماء سريرا
شرجعاً لا يناله بصر العي ... ن ترى دونه الملائك صورا
قال آخر: وقال ابن كثير: (العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] [النمل 23]، وليس هو فلكاً ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم) (4)
قال آخر: وقد أورد شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية ما ورد في صفته، فقال: (وأما العرش فإنه مقبب، لما روي عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي فقال: يا رسول جهدت الأنفس، وجاع العيال ـ وذكر الحديث إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: إن الله على عرشه وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا)، وقال بأصابعه مثل القبة .. وفي علوه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن،
__________
(1) البداية (1/ 12)
(2) العلو (ص 57)
(3) الاختلاف في اللفظ (ص 240)
(4) البداية (1/ 11 ـ 12)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/291)
ومنه تفجر أنهار الجنة) (1) .. فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات، وسقفها، وأنه مقبب) (2)
قال آخر: وهذا القول للسلف في عرش الله هو ما جاءت به الآيات والأحاديث الصحيحة، وقد كان سلف الأمة وأئمتها دائماً يصرحون بذلك في كتبهم عند الحديث عن هذه المسألة، وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: (آية الكرسي، ثم قال: يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) (3)
قال آخر: وهكذا اتفقوا على معنى الكرسي، وعلاقته بالعرش والاستواء، والذي ورد ذكره في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]
قال آخر: فقد ذكروا أن الكرسي جسم عظيم مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وهو موضع القدمين للبارئ عز وجل .. وهو قول السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واقتدى بسنتهم، وهذا هو ما دل عليه القرآن والسنة والإجماع ولغة العرب التي نزل القرآن بها (4).
قال آخر: ومن الأحاديث الواردة في ذلك والدالة عليه حديث أبي ذر الغفاري، والذي قال فيه: دخلت المسجد الحرام فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده فجلست إليه، فقلت يا رسول الله: أيما أنزل عليك أفضل؟ قال: (آية الكرسي، وما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك
__________
(1) البخاري، فتح الباري (13/ 404)
(2) الفتاوى (5/ 151)
(3) ابن أبي شيبة في كتاب العرش (58) وابن حبان في صحيحه (1/ 76 ـ 79) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 648 ـ 649، ح 259) وأبو نعيم في الحلية (1/ 166)
(4) الفتاوى (5/ 54)، تفسير ابن كثير (1/ 309)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/292)
الحلقة) (1)
قال آخر: وقد قال شيخنا الألباني بعد أن سرد طرق الحديث: (وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح، والحديث خرج مخرج التفسير لقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] وهو صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش، وأنه قائم بنفسه وليس شيئاً معنوياً وفيه رد على من تأوله بمعنى الملك وسعة السلطان) (2)
قال آخر: ويدل لهذا ما روي عن ابن عباس وابن مسعود وأبو موسى الأشعري ومجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، حيث ذكروا أن (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره أحد) (3)
قال آخر: وقد نقلنا شيوخنا الإجماع على ذلك، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف) (4) .. وقال محمد بن عبد الله بن زمنين: (ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين) (5)
قال آخر: كما أن أهل اللغة لا يعرفون معنى الكرسي غير هذا المعنى، فقد قال الزجاج: (والذي نعرفه من الكرسي في اللغة: الشيء الذي يعتمد ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السموات والأرض) (6)، وقال ثعلب: (الكرسي ما تعرفه العرب من كراسي الملوك) (7)
__________
(1) ابن أبي شيبة في كتاب العرش (58) وابن حبان في صحيحه (1/ 76 ـ 79)
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 109)
(3) ابن أبي شيبة في كتاب العرش ب (45)
(4) الفتاوى (6/ 584)
(5) أصول السنة (ص 96)
(6) تهذيب اللغة (10/ 53)
(7) تهذيب اللغة (10/ 53)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/293)
قال القاضي: وعينا هذا .. فما تردون على المخالفين المعطلة الذين فسروا الاستواء بغير هذا المعنى.
قال أحد الشيوخ: لقد استعرض شيوخنا كل الأقوال التي ذكرها المعطلة، وردوا عليها بالحجج البالغة التي لا يمكن للعاقل إلا الخضوع لها.
قال آخر: وأول تلك الردود ما ردوا به على أهل التفويض والتجهيل، والذين ذهبوا إلى إثبات لفظ الاستواء فقط مع التوقف في المعنى المراد، وهم يقولون: إن الاستواء ثابت في القرآن حيث إنه قد ورد في سبع آيات، وكذلك قد وردت به الأخبار الصحيحة وقبوله من جهة التوقف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير جائز وهو استواء لا نعلمه (1).
قال آخر: وهم يزعمون كذبا وزورا أن هذا هو قول السلف، ويستدلون لذلك بعبارات نقلت عنهم ظنوا أنها ترمي إلى القول بالتفويض كقول الأوزاعي: (كنا والتابعون متوافرون نقول أن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا)، وقول ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب) (2)
قال آخر: وقد رد عليهم شيخنا شيخ الإسلام بقوله: (وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك) (3)
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي (ص 115)، تلخيص المحصل (ص 114)
(2) الاعتقاد للبيهقي (ص 117)، الإتقان في علوم القرآن (2/ 6)
(3) الفتوى الحموية (ص 64)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/294)
قال آخر: وقال في موضع آخر: (وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي نسميها متشابهات فبين معانيها آية آية، وحديثاً حديثاً ولم يتوقف فيها هو والأئمة قبله مما يدل على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهباً لأهل السنة وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها) (1)
قال آخر: وقال ابن القيم: (تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية) (2)
قال آخر (3): أما ما استدل به أصحاب هذا القول من أن القول بالتفويض هو مذهب السلف وذكرهم لقول الإمام مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، فليس المراد ههنا تفويض معنى الاستواء ولا نفي حقيقة الصفة، ولو كان المراد الإيمان بمجرد اللفظ من غير فهم على ما يليق بالله لما قال: (الكيف مجهول)، لأنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى .. والاستواء على هذا المعنى لا يكون معلوما بل هو مجهول بمنزلة حروف المعجم، لكن الأمر على عكس ذلك، فنفي علم الكيفية؛ لأنه أثبت الصفة وأراد بقوله الاستواء معلوم معناه في اللغة التي نزل بها القرآن فعلى هذا يكون معلوماً في القرآن.
قال آخر: وهكذا رد علماؤنا على ا المعطلة الذين فسروا الاستواء بالاستيلاء والقهر
__________
(1) مجموع الفتاوى (17/ 414)
(2) مختصر الصواعق (1/ 15)
(3) الفتوى الحموية (ص 25)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/295)
والغلبة، واحتجوا لذلك بما يروونه عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: (استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان) (1)
قال آخر: وقد أجاب شيخنا ابن عبد البر على استدلالهم هذا بقوله: (إن هذا الحديث منكر على ابن عباس، ونقلته مجهولون وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا وأنصفوا) (2)
قال آخر: ومثل ذلك ردوا على من أبقى كلمة العرش الواردة في الآية الكريمة على معناها الحقيقي الثابت، وذكر أنه إنما خصص العرش بالذكر من بين جميع المخلوقات لكونه أعظم المخلوقات وأرفعها وأوسطها فخصص بالذكر تنبيهاً على ما دونه.
قال آخر: وردوا كذلك على من يؤول العرش الوارد في الآية بمعنى الملك (3)، ويزعم أن معنى الآية استولى واستعلى على الملك، فيقولون: إن الله قد عبر بالعرش كناية على الملك، لأنه يخاطب الناس على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم، واستقر في قلوبهم، ذلك أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، فجعل العرش كناية عن نفس الملك.
قال آخر: ويستدلون على هذا البهتان بأن هذا الأمر مشهور في اللغة، ويدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3]، حيث قالوا: إن قوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]
__________
(1) التمهيد (7/ 132)
(2) التمهيد (7/ 132)
(3) شرح الأصول الخمسة (ص 226)، تفسير الرازي (14/ 15)، وأصول الدين للبغدادي (ص 112)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/296)
قال آخر (1): وقد أجمع سلفنا الصالح على أن هذا التأويل الذي ذهب إليه هؤلاء الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، ومتأخرو الأشاعرة، هو تأويل باطل ترده نصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة، وهو قول لا أصل له في لغة العرب، بل هو تفسير لكلام الله بالرأي المجرد، لم يذهب إليه صاحب ولا تابع، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون قول السلف.
قال آخر (2): ذلك أنه من المعلوم أن لفظ الاستواء قد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، وهذه المواضع جميعها قد اطرد فيها لفظ الاستواء دون الاستيلاء، وكذلك الأمر بالنسبة لما ورد في السنة، فلو كان معناه استولى ـ كما يزعم هؤلاء ـ لكان استعماله في أكثر موارده كذلك، فإذا جاء في موضع أو موضعين بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود.
قال آخر (3): أما أن يُؤتى إلى لفظ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد فيدعى صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه، فهذا أمر في غاية الفساد ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأبى حمله على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن مما يرد هذا التأويل الباطل أن كلمة استوى قد جاءت بعد [ثم] التي حقها الترتيب والمهلة، فلو كان المعنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض، فإن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام كما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 199)
(2) العرش للذهبي (1/ 199)
(3) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 128 ـ 129)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/297)
الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) (1)
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، وفي الحديث عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض) (2)
قال آخر: فالآيات والحديثان يدلان دلالة واضحة على أن العرش كان موجوداً قبل خلق السموات والأرض فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستولٍ على العرش إلى أن خلق السموات والأرض (3).
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك عام في المخلوقات كالربوبية، والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره كما في قوله تعالى {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86]، فلو كان استوى بمعنى استولى كما هو عام في المخلوقات كلها لجاز مع إضافته للعرش أن يقال: استوى على السماء وعلى الهواء وعلى البحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها إذ هو مستو على العرش، فلما اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، ولا يقال استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش وليس عاما كعموم الأشياء (4).
قال آخر (5): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تفسير الاستواء بالغلبة والقهر يعود إلى معنى
__________
(1) مسلم (8/ 51)
(2) البخاري (ح 7418)
(3) مجموع الفتاوى (5/ 145)
(4) مجموع الفتاوى (5/ 144)
(5) مختصر الصواعق (2/ 140 ـ 141)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/298)
الآيات كلها، لأن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض، ثم غلب على العرش بعد ذلك وقهره وحكم عليه .. أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله ولكلامه أن ينسب ذلك إليه وأنه أراد بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: أي اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ إن ما يستند إليه هؤلاء المعطلة في زعمهم هذا من قولهم أن تفسير استوى باستولى أمر مشهور في اللغة، هو قول باطل مردود لأنه لم يثبت عند أحد من أهل اللغة أن لفظة استوى يصح استعمالها بمعنى استولى بل إن هذا القول منكر عند اللغويين؛ فهذا ابن الأعرابي أحد علماء اللغة أتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؟ فقال: (هو كما أخبر عز وجل)، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه، إنما معناه استولى، قال: (اسكت ما أنت وهذا، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاداً فإذا غلب أحدهما قيل استولى، أما سمعت النابغة: إلا لمثلك أو من أنت سابقة .. سبق الجواد إذا استولى على الأمد) (1)
قال آخر (2): وقد سئل الخليل بن أحمد: هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: (هذا ما لا تعرفه العرب ولا هو جائز في لغتها) .. والخليل إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا نعرف في اللغة هو قول باطل.
قال آخر: وقد روي عن جماعة من أهل اللغة قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم ظهر، والله سبحانه لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى.
قال آخر: وقد روي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: (استوى: أقبل عليه وإن لم يكن
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/ 399)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 144، 149)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/299)
معوجاً، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11]، و {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]: علا، واستوى الوجه: اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلاهما وإن لم تتشابه شخوصهما، هذا الذي نعرفه من كلام العرب) (1)
قال آخر: وقد قال أبو عمر بن عبد البر في تقرير كل ذلك: (وأما ادعائهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه أحد ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطبتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى {اسْتَوَى} [الحديد: 4] قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد) (2)
قال آخر: أما قول بعضهم بأن معنى {اسْتَوَى} أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، أي عمد إلى خلق السماء، كما ذهب إليه المعطلة (3) .. فقد رد عليهم شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (وهذا الوجه من أضعف الوجوه، فإنه قد أخبر أن العرش على الماء قبل خلق السموات
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/ 399 ـ 400)
(2) التمهيد (7/ 131)
(3) انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (2/ 8 ـ 9)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/300)
والأرض، وكذلك ثبت في صحيح البخاري عن عمران عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء)، فإذا كان العرش مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له!؟) (1)
قال آخر: ثم بين عدم صحة هذا المعنى في اللغة، فقال: (هذا لو كان يعرف في اللغة أن استوى على كذا، بمعنى أنه عمد إلى فعله، فكيف إذا كان لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازاً ولا في نظم ولا في نثر .. ومن قال استوى بمعنى عمد ذكره في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا وقصدت إلى كذا، ولا يقال عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أن ما ذكر في تلك الآية لا يعرف في اللغة أيضاً ولا هو قول أحد من مفسري السلف بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك) (2)
قال آخر: وقال ابن القيم: (إن قولهم هذا يتضمن أن يكون خلقه بعد خلق السموات والأرض، وهذا بخلاف إجماع الأمة، وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السموات والأرض وادعى الإجماع على ذلك، وليس العجيب من جهله، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم) (3)
قال آخر: أما قول بعضهم بأن معنى {اسْتَوَى} علا، ولكن ليس المراد علو المسافة والمكان، وإنما المراد علو المكانة والقهر، كما ذكر ذلك المعطلة (4)؛ فالرد عليهم بسيط جدا، وهو أن الآيات والأحاديث قد أثبتت استواء الله على العرش حقيقة، ولو كان معنى الاستواء ههنا المراد به علو المكانة فإن الله لم يزل متعالياً على الأشياء قبل خلق العرش، فلم
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 520 ـ 521)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 520 ـ 521)
(3) مختصر الصواعق المرسلة (2/ 143)
(4) مشكل الحديث لابن فورك (ص 193)، والأسماء والصفات للبيهقي (ص 518)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/301)
أضاف الاستواء على العرش فيجب على ذلك أن يكون لهذا التخصيص فائدة (1).
قال آخر: أما قول بعضهم بأن الاستواء فعل يفعله الله تعالى في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم به ـ أي بالله ـ فعل اختياري (2)، ويستدلون على ذلك بقولهم: (إن كل ما صح قيامه بالباري تعالى فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثاً، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية من صفة الكمال، والخالي من الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة .. وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الباري بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وهو أمر غير جائز) (3)
قال آخر: وقد رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن المقدمة التي اعتمد عليها هؤلاء وهي قولهم: إن الخالي من الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص، فيقال لهم: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، وعلى هذا فالخلو عنه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به في الأزل، ثم إنه لم يثبت امتناع ما ذكر من النقص بدليل عقلي ولا بنص من كتاب ولا سنة، بل بما ادعوه من إجماع، وإذاً فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسألة النزاع، وقولهم بإجماع الأمة على أن صفاته صفات كمال، فإن قصد بذلك صفاته اللازمة لم يكن في هذا حجة لهم، وإن قصد بذلك ما يحدث بمشيئته وقدرته لم يكن هذا إجماعاً فإن أهل الكلام يقولون أن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف
__________
(1) المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي بعلى (ص 54)
(2) مجموع الفتاوى (5/ 386، 437، 466)، (16/ 393)
الأسماء والصفات (517)
(3) كتاب ابن تيمية السلفي (ص 130)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/302)
بها بعد أن لم يكن موصوفاً) (1)
قال آخر: وبعد أن بين خطأهم في نقل الإجماع، قال: (ثم إن هذا الإجماع الذي ادعوه حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين: أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً، والآخر لا يمكنه ذلك، بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور ولا مراد أو يكون بائناً عنه، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني، وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو مطلقاً أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك لكانت العقول تقصي بأن الأول أكمل، فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والقدرة صفات كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به والتي يفعل بها المفعولات المباينة له صفات كمال) (2)
قال آخر: ومثل ذلك رد عليه ابن القيم بقوله: (إنه لو كان الاستواء عائداً على العرش لكانت القراءة برفع العرش، ولم تكن بخفضة، فلما كانت بخفض العرش دل على أن الاستواء عائد إلى الله تعالى) (3)
قال آخر: وهكذا رد شيوخنا وأئمتنا على تفسير المعطلة للعرش، وقد قال شيخنا الدارمي في ذلك: (العرش هو أحد ما أنكرته المعطلة، فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش ويقرون به .. فقلت لبعضهم: ما إيمانكم به إلا كإيمان {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، وكالذين {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، أتقرون أن لله عرشاً معلوماً، موصوفاً فوق السماء السابعة، تحمله الملائكة، والله فوقه كما وصف نفسه، بائن من خلقه؟
__________
(1) الموافقة بين صريح العقل وصحيح النقل (2/ 73 ـ 175)
(2) الموافقة بين صريح العقل وصحيح النقل (2/ 73 ـ 175)
(3) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 64 ـ 65)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/303)
فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب وخلط ولم يصرح .. فقال لي زعيم منهم كبير: لا، ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والأرض وما فيهن سمى ذلك كله عرشاً له، واستوى على جميع ذلك كله) (1)
قال آخر: ومما يدل على هذا من قول المعطلة قول الزمخشري: (إنه لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يرادف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضاً في شهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح، وأبسط، وأدل، على صورة الأمر) (2)
قال آخر: وقال البغدادي: (والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثُلَ عرش فلان، إذا ذهب ملكه، قال متمم بن نويرة في هذا المعنى:
عروشٌ تفانوا بعد عز وأمة ... هووا بعد ما نالوا السلامة والبقا
وأراد بالعروش، ملوكاً انقرضوا، وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر:
قد نال عرشاً لم ينله حائل ... جن ولا إنس ولا ديار
وأراد بالعرش، الملك والسلطان.
وقال النابغة:
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه ... والحارثين يؤمنون فلاحا
وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه، فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه) (3)
__________
(1) الرد على الجهمية (ص 12 ـ 13)
(2) الكشاف (2/ 530)
(3) أصول الدين (ص 112)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/304)
قال آخر (1): والرد على هؤلاء المعطلة سهل يسير، لأن تفسيرهم صرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله، ذلك أن لكلمة (عرش) عدة معان في اللغة العربية، ومن المعلوم أن معرفة المعنى المراد من تلك المعاني لهذه الكلمة أو غيرها، إنما يتحدد بحسب سياق الكلمة وبحسب ما أضيفت إليه، وليس في سياق الآيات ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه، كما أن ما استدل به هؤلاء المخالفون من الأبيات الشعرية ليس إلا دليلا على أن الملك هو من المعاني اللغوية لكلمة (عرش)، وهذا أمر لا خلاف فيه.
قال آخر (2): وهذا الاستدلال يماثل ما لو استدللنا على أن من معاني كلمة العرش: السقف، بقوله تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، فليس في هذه الأبيات أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على أن الملك هو المعنى المراد في الآيات الواردة في العرش.
قال آخر (3): بل إن المتأمل للآيات والأحاديث الواردة في هذه المسألة يرى أنها تدل دلالة واضحة وصريحة على أن المراد بالعرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله تعالى فوق العالم كله، ثم استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وكذلك ترد على هؤلاء المخالفين زعمهم الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف لكلام الله.
قال آخر (4): فيا ترى ماذا يصنع ذلك المخالف الذي يزعم أن العرش إنما هو كناية عن الملك والسلطان بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، هل يزعم أن الملك كان على الماء؟ .. وكذلك ماذا يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟
قال آخر: وهكذا رد شيوخنا من زعم من الفلاسفة أن العرش فلك مستدير من
__________
(1) العرش للذهبي (1/ 286)
(2) العرش للذهبي (1/ 286)
(3) العرش للذهبي (1/ 286)
(4) العرش للذهبي (1/ 286)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/305)
جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدود الجهات، وربما سموه الفلك الأطلس، أو الفلك التاسع، أو الأثير، أو الفلك الأعلى (1)، كما عبر عن ذلك ابن سينا بقوله في رسالته [إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم]: (ومن السهل عليك أن تفهم كيف أن العرش بنص القرآن يحمله ثمانية، فهذه الثمانية هي: الثمانية أفلاك التي تحت هذا الفلك المحيط) (2)
قال آخر (3): والمتأمل لكلام هؤلاء الفلاسفة كابن سينا وأمثاله يرى مدى انحرافهم، حتى إنهم وصلوا إلى درجة اعتقادهم أنه لا موجود إلا ما علموه، ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا إخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، صاروا حائرين ومتأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وعلى ما تعلموه، وإن كان هذا التأويل لا دليل لهم عليه سوى ظنهم الفاسد بأنه لا موجود إلا ما عرفوه، فقالوا العرش هو: الفلك التاسع، والكرسي هو: الفلك الثامن، فنفوا ما ليس لهم به علم؛ فانطبق عليهم بذلك قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]
قال آخر (4): وقد ثبت أنه ليس لهؤلاء دليل يتمسكون به لا من الشرع ولا من العقل، وأن الذي دفعهم إلى هذا القول هو أنهم نظروا في علم الهيئة وعلوم الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو الأطلس محيط بها ومستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة الشوقية، وأن لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر عرش الله، وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقاً وإما
__________
(1) البداية (1/ 11)، الرسالة العرشية (ص 2)، مفردات (ص 329)، روح المعاني (24/ 45)
(2) نقلاً عن كتاب ابن سينا بين الدين والفلسفة، ص 137 ـ 139.
(3) الفتاوى (17/ 335 ـ 336)
(4) الرسالة العرشية (ص 2 ـ 3)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/306)
أنه ليس وراءه مخلوق.
قال آخر: وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (إن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون ثبوته ولا انتفاءه .. مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أن الأفلاك مختلفة حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك التدوير وغيره، فأما ما كان موجوداً فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته، فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم، وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل من أن العرش هو الفلك التاسع رجماً بالغيب وقولاً بلا علم) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد رد شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية على هؤلاء الفلاسفة المتكلمين بما ورد من الآيات والأحاديث الدالة على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات وأن الله قد اختصه وميزه بأمور كثيرة منها: (أن له حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، وأن الله قد أخبر بوجوده قبل خلق السموات والأرض وقبل وجود الأفلاك وأن الله سبحانه تمدح نفسه بأنه ذو العرش، ووصف العرش بأنه مجيد، وعظيم، وكريم، فكل هذه الميزات والخصائص تبطل قول المنازع لأنه يقول بأن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، ذلك لأنه لو كان العرش من جنس الأفلاك لكان إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر) (2)
__________
(1) الرسالة العرشية (ص 2)
(2) الرسالة العرشية (ص 3 ـ 7)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/307)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ما ثبت في الشرع من أن للعرش قوائم وأنه يهتز، يرد عليهم، ذلك أنه من المعلوم أن الأفلاك مستديرة وليس لها قوائم، كما أنها متحركة دائماً بحركة متشابهة لا تتغير، كما ثبت أيضاً أن العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون إن الفلك لا ثقيل ولا خفيف (1).
قال آخر: وهكذا رد شيوخنا وأئمتنا على تفسير المعطلة للكرسي، ومنها أن أن المراد منه العلم (2)، كما أولوا العرش بمعنى الملك، وكل ذلك فراراً منهم عن إثبات علو الله واستوائه على عرشه.
قال آخر: وقد استدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، قال: (كرسيه علمه) (3)
قال آخر: وهذا القول، وإن كان قد رجحه الطبري بقوله: (وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد ابن جبير عنه أنه قال: هو علمه) (4)، لكن كبار شيوخنا الذين التزموا منهج السلف بدقة ردوا عليه، وقد قال الدارمي في الرد عليه: (هو من رواية جعفر الأحمر، وليس جعفر ممن يعتمد على روايته إذا قد خالفه الرواة المتقنون)، وقال ابن منده: (لم يتابع عليه جعفر وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير) (5)
قال آخر: ومثل ذلك ردوا على من ذكر أن المراد بالكرسي هو العرش نفسه، وهو مروي عن الحسن البصري، فقد روى ابن جرير بسنده عن جويبر عن الضحاك قال: كان
__________
(1) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص 363)
(2) الكشاف (1/ 385 ـ 386)، ومجموع الفتاوى (5/ 60)، والرد على بشر المريسي (ص 71)، وتفسير روح المعاني (3/ 10)
(3) الطبري في تفسيره (3/ 9) وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة (2/ 167) وابن منده في الرد على الجهمية (ص 45)
(4) تفسير الطبري (3/ 11)
(5) الرد على الجهمية (ص 45)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/308)
الحسن يقول: (الكرسي هو العرش)، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: أدع الله أن يدخلني الجنة، فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: (إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، ثم قال بأصابعه فجمعها: (وإن له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا رُكب من ثقله) (1)
قال آخر: وهكذا ردوا على القائلين بأن المراد من الكرسي قدرة الله تعالى التي يمسك بها السموات والأرض (2)، واستدلوا على ذلك بأن العرب تسمي أصل كل شيء الكرسي، كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسياً، أي اجعل له ما يعمده ويمسكه (3).
قال آخر (4): وهذا القول فاسد، بل مخالف لما دلت عليه الأحاديث والآثار، ومخالف لما عليه الجمهور من أهل السنة والجماعة ومخالف للغة العربية، وهو تأويل باطل ترده الأحاديث، وهو أيضاً تكذيب بالكرسي، وتكذيب للأحاديث الصحيحة التي دلت على وجود الكرسي.
قال آخر: وهكذا ردوا على القائلين بأن المراد من الكرسي ما يطلقون عليه الفلك الثامن، أو فلك البروج، أو فلك الكواكب الثوابت (5) .. وقد قال بهذا القول بعض المتكلمين في علم الهيئة من الفلاسفة المنسوبين للمسلمين كابن سينا وغيره وهؤلاء هم الذين قالوا أن العرش هو الفلك التاسع، ويكفي في إثبات بطلانه أن جماعة منهم ردوا عليهم هذا القول، لأنه ليس لديهم أي دليل عليه.
قال القاضي: وعينا كل ما ذكرتم .. لكنا نريد أن تذكروا لنا المزيد من الشواهد
__________
(1) سيأتي تخريجه في قسم التحقيق ب (98)
(2) أقاويل الثقات في تأويل آيات الأسماء والصفات (ص 116)
(3) تفسير القرطبي (3/ 276)، غرائب القرآن ورغائب الفرقان (3/ 18)
(4) العرش للذهبي (1/ 355)
(5) كتاب الكليات (4/ 122)، البداية والنهاية (1/ 14)، تفسير ابن كثير (1/ 310)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/309)
والأدلة، لتتضح الصورة أكثر.
قال أحد الشيوخ: لا بأس .. سنذكر لكم بعضا مما رواه شيوخنا قد يوضح لكم صورة العرش وكيفية استواء الله عليه بأكمل صورة.
قال آخر: وأولها ما روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]: وكان عرش الله جل وعز على الماء، ثم اتخذ لنفسه جنة ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة، ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] وهي التي لا يعلم الخلائق ما فيهما، وهي التي قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] تأتيهم منها أو منهما كل يوم تحية) (1).
قال آخر: ومع أن الحديث موقوف وضعيف إلا أن معناه صحيح، والشاهد فيه معرفة مكان الجنة بالنسبة إلى عرش الرحمن، والذي دل عليه هذا الأثر، ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن عرش الرحمن تبارك وتعالى هو سقف الجنة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن) (2)
قال آخر: ومن تلك الأحاديث ما روي أبي رزين قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: (كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء) (3)
قال آخر (4): ومع أن الحديث ضعيف جدا (5) إلا أن معناه صحيح، ويدل على جواز
__________
(1) ابن جرير في تفسيره: (21/ 105)، والحاكم في مستدركه: (2/ 475)
(2) البخاري [فتح الباري] (13/ 404)
(3) الترمذي (5/ 288، حديث 3109)، وابن ماجه (1/ 64)، وأحمد (4/ 11، 12)
(4) العرش وما روي فيه (ص 314)
(5) قال الألباني: في تصحيحه نظر، فإن مداره على وكيع بن حدس، ويقال: عدس وهو مجهول، لم يرو عنه غير يعلى بن عطاء، ولذلك قال المؤلف في الميزان: لا يعرف. انظر: مختصر العلو: ص 186، وقال في ظلال الجنة (1/ 271): إسناده ضعيف، وكيع بن عدس، ويقال حدس، وهو مجهول، لم يرو عنه غير يعلى بن عطاء، ولا وثقه غير ابن حبان.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/310)
السؤال عن الله تعالى بأين، والمعلوم أن مذهب عامة أهل السنة وسلف الأمة وأئمتها أنهم يرون إثبات السؤال عن الله تعالى بأين، ولا ينفون ذلك عنه مطلقا، وذلك لثبوت النصوص الصريحة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك سؤالا وجوابا.
قال آخر (1): والسلف يقولون إن من نفى السؤال بأين لا بد له من دليل يستدل به على انتفاء ذلك، ولا دليل لهم، ذلك لأنها مسألة أثبتها الشرع فمن أنكرها فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر (2): وقد خالف السلف في قولهم هذا المعطلة الذين يزعمون أنه لا يجوز السؤال عن الله تعالى بأين، لأن في ذلك سؤالا عن المكان، وهم يزعمون أن الله ليس في مكان، لأن المكان لا يكون إلا للجسم، والله ليس بجسم، لأن الجسم لا يكون إلا محدثا ممكنا.
قال آخر (3): ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم في تقديره: (ولا بد في قوله أين كان ربنا؟ من تقدير مضاف محذوف كما حدث في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] ونحوه، فيكون التقدير أين كان عرش ربنا، ويدل عليه قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7])، فقول ابن الأثير: إنه لا بد من تقدير مضاف محذوف الذي دفعه إليه هو اعتقاد بأنه لا يجوز السؤال عن الله تعالى بأين، لأنه يترتب على ذلك إثبات الجهة والمكان إلى الله تعالى، وهي، منفية عنه كما هو مذهب الأشاعرة المتأخرين الذين يعد ابن الأثير واحدا منهم .. مع أن ما هرب إليه ابن الأثير من تقدير المضاف لا ينجيه مما هرب منه، لأنه
__________
(1) العرش وما روي فيه (ص 314)
(2) العرش وما روي فيه (ص 314)
(3) العرش وما روي فيه (ص 314)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/311)
إذا أثبت الجهة لعرشه سبحانه وتعالى ثبتت له أيضا لكونه مستويا عليه.
قال آخر (1): وليس في هذا الحديث دليل على قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم، وأن مادة السموات والأرض ليست مبتدعة، ذلك أن الله سبحانه أخبرنا في كتابه بابتداء الخلق الذي يعيده، وأخبر بخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام في غير موضع، وجاءت بذلك الأحاديث الكثيرة، وأخبر أيضا أنه يغير هذه المخلوقات ..
قال آخر (2): ولذلك يرى بعض علمائنا أن لفظة عماء هي من حيث الشكل بالمد، ولكن معناها في هذا الحديث هو: (ليس مع الله شيء)، وعلى هذا يكون معنى الحديث: (إن الله تعالى كان ولم يكن شيء معه)، ويشهد لهذا المعنى ما جاء في حديث عمران من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كان الله ولم يكن شيء معه.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث ما روي عن أبي أسامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سلوا الله جنة الفردوس، فإنها صرة الجنة، وإن أهل الفردوس ليسمعون أطيط (3) العرش) (4)
قال آخر: والحديث، وإن كان ضعيفا؛ فإنه يمكن الاستدلال به على عظمة الله تعالى، ذلك أنه ورد في الأحاديث ما يدل على عظمة خلق حملة العرش، ومع ذلك يئط العرش من ثقل الجبار عليه.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث وأشهرها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) (5)، وروي عن ابن عباس أنه قال: (حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى
__________
(1) العرش وما روي فيه (ص 314)
(2) العرش وما روي فيه (ص 314)
(3) الأطيط: نقيض صوت المحامل والرحال إذا ثقل عليها الركبان.
(4) الحاكم في المستدرك: (2/ 371)، والطبراني في المعجم الكبير: ص 7966.
(5) رواه أبو داود، 3701.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/312)
أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، وزعموا أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب) (1)
قال آخر: فهؤلاء الملائكة مع قوتهم العظيمة لا يطيقون هذا الحمل العظيم الذي ذكره أحد أعلامنا المتقدمين، فقال: (إنَّ الرحمن جل وعز سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون، حتى إذا قام المُسَبِّحُونَ خُفِّفَ عن حملة العرش) (2)
قال آخر: وهذه الرواية تدل على الخصائص العجيبة التي يتصف بها العرش، وهو أنه يخف ويثقل بحسب التسبيح .. فيخف عند التسبيح، ويثقل عند عدمه.
قال آخر: وقد رويت روايات كثيرة تذكر أطيط العرش، وتربطه بثقل الله عليه .. ومنها ما روي عن عمر أنه قال: (إذا جلس عز وجل على الكرسي سُمِعَ له أطيط كأطيط الرحل الجديد)، وقد ذكر في الرواية (فاقشعر رجل سَمَّاهُ أبي عند وكيعٍ فغضب وكيعٌ وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يُحَدِّثُونَ بهذه الأحاديث لاينكرونها) (3)
قال آخر: وقد علق البغوي على هذه الرواية بقوله: (هذا حديث أورده أبو داود سليمان بن الأشعث في الرد على الجهمية والمعتزلة، قال أبو سليمان الخطابي: وقوله: (إنه ليئط به) معناه: إنه ليعجز جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله) (4)
قال آخر: وقد روي أنه لشدة قرب أهل الجنة من الله تعالى يسمعون صوت الأطيط، فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سلوا الله جنة الفردوس، فإنها صرة الجنة، وإن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش) (5)
__________
(1) البيهقي في الأسماء والصفادت: ص 505.
(2) رواه عبدالله بن الإمام أحمد في السنة (رقم 1026)، والدينوري في المجالسة (رقم 23، 2812) انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص/252)
(3) رواه عبدالله في السنة (رقم 587)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 52)، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 67)
(4) شَرْحُ السُّنَّةِ (1/ 175 ـ 176)
(5) ابن بطة في الإبانة: ق (195/ ب)، والحاكم في المستدرك: (2/ 371)، والطبراني في المعجم الكبير: ص 7966.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/313)
قال آخر: وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا) (1)
قال آخر: وروي عن امرأة من الأنصار يقال لها أسماء بنت قيس بن السكن قالت: لما توفي سعد بن معاذ صاحت أمه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرقأ دمعك ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له عرش الرحمن) (2)
قال آخر: وروي عن ابن مسعود أنه قال: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار. نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار، اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره، فيغيظه ذلك، فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم، فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة) (3)
قال آخر: بل وردت الإشارة إلى هذا الأطيط في رواية عن ابن عباس، فقد قال في تفسير قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]: (من فوقهن من الثقل)، وفي رواية (يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى) (4)
قال آخر: ولهذا اعتبر شيخنا ابن القيم الإيمان بالأطيط من العقائد الإسلامية الكبرى، فقال في نونيته (5):
واذكر حديثا لابن اسحاق الرضى ... ذاك الصدوق الحافظ الرباني
في قصة استسقائهم يستشفعون ... إلى الرسول بربه المنان
فاستعظم المختار ذاك وقال شأن ... الله رب العرش أعظم شان
الله فوق العرش فوق سمائه ... سبحان ذي الملكوت والسلطان
ولعرشه منه أطيط مثل ما ... قد أط رحل الراكب العجلان
لله ما لقي ابن اسحاق من ... الجهمي إذ يرميه بالعدوان
ويظل يمدحه إذا كان الذي ... يروي يوافق مذهب الطعَّان
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الوجه الحقيقي لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى وجها حقيقيا .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: بما أن شيوخنا الأفاضل اعتمدوا في إثبات الجهة والمكان لله تعالى على ما ذكره سلفهم؛ فإنا نعتمد على نفيه على ما ذكره سادة السلف الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم أعرف الخلق بالله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: وبما أنا ذكرنا الروايات الكثيرة الدالة على ذلك سابقا؛ فسنكتفي هنا بمناظرة من مناظرات الإمام الرضا مع المجسمة لها علاقة بهذا الجانب، فقد حدث صفوان بن يحيى، قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا، فاستأذنته فأذن لي، فدخل فسأله عن الحلال والحرام، ثم قال له: أفتقر أن الله محمول؟ فقال أبو الحسن: كل محمول مفعول به مضاف إلى غيره محتاج، والمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل وهو في اللفظ مدحة وكذلك قول القائل: فوق وتحت وأعلى وأسفل، وقد قال الله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، ولم يقل في كتبه: إنه المحمول، بل قال: إنه
__________
(1) ابن أبي شيبة في المصنف: (12366)، وابن سعد في الطبقات: (3/ 433)، والحاكم في المستدرك: (3/ 206)، وأورده الذهبي في العلو: ص 71.
(2) ابن خزيمة في التوحيد: ص 237، والإمام أحمد في المسند: (6/ 456)، وفي فضائل الصحابة: (1500)، وابن سعد: (3/ 434)، وابن أبي شيبة في المصنف: (12368)، والحاكم في المستدرك: (3/ 306)، والطبراني في الكبير: (6/ 14)، وابن أبي عاصم في السنة: (2/ 246)
(3) الطبراني في الكبير، حديث 8886، 9/ 200، ونقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد (1/ 476)
(4) الحاكم في مستدركه: (2/ 442)، وابن جرير في تفسيره: (25/ 7)
(5) شرح قصيدة ابن القيم 1/ 522 وانظر اجتماع الجيوش 50.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/314)
الحامل في البر والبحر، والممسك السماوات والأرض أن تزولا، والمحمول ما سوى الله ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه: يا محمول .. قال أبو قرة: فإنه قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، وقال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] فقال الإمام الرضا: (العرش ليس هو الله، والعرش اسم علم وقدرة وعرش فيه كل شيء، ثم أضاف الحمل إلى غيره: خلق من خلقه؛ لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه، وخلقا يسبحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه، وملائكة يكتبون أعمال عباده، واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته، والله على العرش استوى، كما قال، والعرش ومن يحمله ومن حول العرش والله الحامل لهم، الحافظ لهم، الممسك القائم على كل نفس، وفوق كل شيء، وعلى كل شيء، ولا يقال: محمول ولا أسفل، قولا مفردا لا يوصل بشيء فيفسد اللفظ والمعنى، قال أبو قرة: فتكذب بالرواية التي جاءت: (أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه؛ أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم، فيخرون سجدا، فإذا ذهب الغضب خف ورجعوا إلى مواقفهم؟) فقال الإمام الرضا: (أخبرني عن الله ـ تبارك وتعالى ـ منذ لعن إبليس إلى يومك هذا هو غضبان عليه، فمتى رضي؟ .. وهو في صفتك لم يزل غضبان عليه وعلى أوليائه وعلى أتباعه، كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغيير من حال إلى حال وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين!؟ سبحانه وتعالى، لم يزل مع الزائلين، ولم يتغير مع المتغيرين، ولم يتبدل مع المتبدلين، ومن دونه في يده وتدبيره، وكلهم إليه محتاج وهو غني عمن سواه) (1)
قال آخر: وبناء على هذا فسر علماؤنا آيات الاستواء بما ينسجم مع تنزيه الله وتقديسه، ومن الأمثلة على ذلك قول بدر الدين بن جماعة في قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
__________
(1) الكافي: 1/ 324.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/315)
الْعَرْشِ} [الحديد: 4]: (القرآن نزل بلغة العرب ومعاني كلامهم وما كانوا يتعقلونه في خطابهم أما العرش لغة فهو سرير الملك وسقف البيت ومنه قولهم ثل عرش فلان أي زال سلطانه وجاهه ويقال لسقف البيت عرشه ومنه قوله تعالى {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]، والعرش سقف العالم بأسره) (1)
قال آخر (2): ثم ذكر معاني الاستواء في اللغة، وأولها تمام الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [ص: 72]، وقوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ} [السجدة: 9]، وقوله: {بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]
قال آخر: والثاني القصد، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] أي قصد خلقها.
قال آخر: والثالث الاعتدال، ومنه قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]، وقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]
قال آخر (3): والرابع القهر والاستيلاء، ومنه قول الشاعر: (قد استوى بشر على العراق)، وقول الآخر: (وأضحى على ما ملكوه قد استوى)
قال آخر: وبعد أن ذكر هذه المعاني، بين وجوه التعامل معها بناء على منهجي التفويض والتأويل، فقال: (واتفق السلف وأهل التأويل على أن ما لا يليق من ذلك بجلال الرب تعالى غير مراد كالقعود والاعتدال، واختلفوا في تعيين ما يليق بجلاله من المعاني المحتملة كالقصد والاستيلاء، فسكت السلف عنه، وأوله المؤولون على الاستيلاء والقهر
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 102)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 102)
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 103)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/316)
لتعالي الرب عن سمات الأجسام من الحاجة إلى الحيز والمكان، وكذلك لا يوصف بحركة أو سكون أو اجتماع وافتراق، لأن ذلك كله من سمات المحدثات وعروض الأعراض والرب تعالى مقدس عنه) (1)
قال آخر: وبناء على منهج المؤولة، فسر قوله تعالى {اسْتَوَى} [الحديد: 4] بقوله: (يتعين فيه معنى الاستيلاء والقهر، لا القعود والاستقرار، إذ لو كان وجوده تعالى مكانيا أو زمانيا للزم قدم الزمان والمكان، أو تقدمهما عليه، وكلاهما باطل، فقد صح في الحديث: (كان الله ولا شيء معه)، وللزم حاجته إلى المكان، وهو تعالى الغني المطلق المستغني عما سواه، كان الله ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، وللزم كونه محدودا مقدرا وكل محدود ومقدر جسم، وكل جسم مركب محتاج إلى أجزائه، ويتقدس من له الغنى المطلق عن الحاجة، ولأن مكان الاستقرار لو قدر حادث مخلوق فكيف يحتاج إليه من أوجده بعد عدمه وهو القديم الأزلى قبله؟) (2)
قال آخر: ثم ذكر الإشكال الذي يذكره أهل الإثبات، وهو كون الجهة ضرورة عقلية لكل موجود، فقال: (فإن قيل نفي الجهة عن الموجود يوجب نفيه لاستحالة موجود في غير جهة، قلنا: الموجود قسمان، موجود لا يتصرف فيه الوهم والحس والخيال والانفصال، وموجود يتصرف ذلك فيه، ويقبله، فالأول ممنوع لاستحالته، والرب لا يتصرف فيه ذلك، إذ ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر، فصح وجوده عقلا من غير جهة ولا حيز، كما دل الدليل العقلي فيه، فوجب تصديقه عقلا، وكما دل الدليل العقلي على وجوده مع نفي الجسمية والعرضية مع بعد الفهم الحسي له، فكذلك دل على نفي الجهة والحيز مع بعد فهم الحس له .. وقد اتفق أكثر العقلاء على وجود ما ليس في حيز، كالعقول والنفوس والهيولي،
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 103)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 104)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/317)
وعلى وجود ما لا يتصوره الذهن كحقيقة نفس الحرارة والبرودة، فإنها موجودة قطعا ولا يتصور الذهن حقيقتها، ولم يقل أحد إنهم ادعوا مستحيلا أو مخالفا للضرورة) (1)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي يذكره أهل الإثبات حول معنى الاستيلاء، فقال: (فإن قيل: إنما يقال استولى لمن لم يكن مستوليا قبل، أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه، أو عاجز ثم قدر .. قلنا: المراد بهذا الاستيلاء القدرة التامة الخالية من معارض، وليس لفظة [ثم] هنا لترتيب ذلك، بل هي من باب ترتيب الأخبار وعطف بعضها على بعض) (2)
قال آخر: ثم بين سر تخصيص الاستواء بالعرش، فقال: (فإن قيل: فالاستيلاء حاصل بالنسبة إلى جميع المخلوقات، فما فائدة تخصيصه بالعرش؟ .. قلنا: خص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات إجماعا كما خصه بقوله {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] وهو رب كل شيء، فإذا استولى على العرش المحيط بكل شيء، استولى على الكل قطعا) (3)
قال آخر: ثم ذكر آراء المخالفين ولوازمها وشناعتها، فقال: (إذا ثبت ذلك، فمن جعل الاستواء في حقه ما يفهم من صفات المحدثين، وقال: (استوى بذاته)، أو قال: (استوى حقيقة)، فقد ابتدع بهذه الزيادة التي لم تثبت في السنة، ولا عن أحد من الأئمة المقتدى بهم، وزاد بعض الحنابلة المتأخرين فقال: (الاستواء مماسة الذات، وأنه على عرشه ما ملأه وأنه لا بد لذاته من نهاية يعلمها)، وقال آخر: (يختص بمكان دون مكان ومكانه وجود ذاته على عرشه .. والأشبه أنه مماس للعرش والكرسي موضع قدميه)، وهذا منهم افتراء عظيم تعالى الله عنه، وجهل بعلم هيئة العالم، فإن المماسة توجب الجسمية، والقدمين يوجب التشبيه، والإمام أحمد بريء من ذلك، فإن المنقول عنه أنه كان لا يقول بالجهة للباري
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 105)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 107)
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 107)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/318)
تعالى، وكان يقول الاستواء صفة مسلمة، وهو قول بعض السلف) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة الاستواء والجلوس لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الأولى .. فحدثونا عن الصفة الثانية.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثانية هي الكلام .. وقد ورد ذكرها في آيات كثيرة جدا، وبأساليب متعددة، منها التصريح بكون القرآن الكريم كلام الله في ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، والمقصود بكلام الله هنا القرآن، ووقوله عن المنافقين: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] أي أمر الله في القرآن.
قال آخر: ووردت صفة الكلام بنسبة فعل التكلم له سبحانه وذلك في آيتين، الأولى في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، فجعل تكليم الله لبعض أنبياءه تفضيلا لهم، والثانية في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فصرح في الآية بأن الله كلّم موسى وأكد ذلك بقوله: {تَكْلِيمًا} [النساء: 164] تأكيدا على اتصافه سبحانه بهذه الصفة، وأنها على الحقيقة في حقه تعالى.
قال آخر: ووردت هذه الصفة بالتصريح بفعل المناداة منسوبا لله تعالى، وذلك في عشر آيات، هي قوله قوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]، وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم:
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 108)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/319)
52]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 8 - 9]، وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]، وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 11 - 12]، وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10]، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46]، وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 15 - 16]
قال آخر: ووردت بصيغة نسبة القول إليه سبحانه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، وقوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، وغير ها من الآيات الكثيرة.
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ (1): نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الله عز وجل يتكلم ويقول ويتحدث وينادي، وأن كلامه بصوت وحرف، وأن القرآن كلامه، منزل غير مخلوق، وكلام الله صفة ذاتية فعلية، ذاتية باعتبار أصله، وفعلية باعتبار آحاده.
قال آخر: وقال البخاري: (ويذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب .. فليس هذا لغير الله جل ذكره وفي هذا دليل أن صوت الله لا
__________
(1) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة (ص 296)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/320)
يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]، فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين) (1)
قال آخر: وقد روى شيخنا أبو يعلى عن عبد الله بن مسعود قوله: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء، ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا) (2)، ثم علق عليه بقوله: (اعلم أن هذه الأخبار تدل على أن كلام الله تعالى بحرف وصوت، لا كحروف الآدميين وأصواتهم، كما أن له علما وقدرة لا تشبه صفات الآدميين، وقد نص أحمد في رواية الجماعة على إثبات الصوت) (3)
قال آخر: وقيل للإمام أحمد: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله، وعدو للإسلام: فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن هذا، عافاه الله) (4)
قال آخر: وقال: (من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب القرآن ورد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه) (5)
قال آخر: وقيل له: الله عز وجل يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟ يكلم عبده، ويسأله .. الله متكلم لم يزل يأمر بما يشاء، ويحكم، وليس له عدل ولا مثيل، كيف شاء، وأنى شاء (6).
__________
(1) خلق أفعال العباد (ص 1992)
(2) البخاري في (خلق أفعال العباد) (ص 194)
(3) إبطال التأويل، (ص 304)
(4) شرح الأصفهانية، (ص 193)
(5) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 310)
(6) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 310)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/321)
قال آخر: وسئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت، فقال: بلى، تكلم بصوت، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها، لكل حديث وجه، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر (1).
قال آخر: وقال أبو نصر السجزي: (فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل، ولا يزال، إذا شاء ذلك، ويكلم من يشاء تكليمه بما يعرفه المخاطب ولا يجهله، وكلامه أحسن الكلام، وفيه سور، وآي، وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو المسموع منه على الحقيقة سماعا يعقله الخلق، وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم في حال واحدة، بما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا) (2)
قال آخر: وقال: (لما وجدنا أحكام الشريعة المتعلقة بالكلام منوطة بالنطق الذي هو حرف وصوت، دون ما في النفس، علمنا أن حقيقة الكلام هو الحرف والصوت، فلو حلف امرؤ أنه لا يتكلم ساعة من النهار، فأقام في تلك الساعة يحدث نفسه بأشياء، ولا ينطق بها، كان بارا، غير حانث، ولو كان الكلام هو ما في النفس، حنث في أول ما يحدث به نفسه) (3)
قال آخر: وقال: (فالله تعالى قد بين في كتابه ما كلامه، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واعترف به الصدر الأول والسلف الصالح، فقال الله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، والمستجير لا يسمع إلا كلاما ذا حروف، والقارئ لا يقرأ إلا كلاما ذا حروف، ولما سمى تعالى هذا القرآن كلامه، علم أن كلامه حروف، وقد أكد ذلك بذكر الحروف المقطعة في أوائل السور {كهيعص} [مريم: 1] ونحوها، فمن زعم أن هذه الحروف ليست من القرآن فهو كافر، ومن قال: إنها من القرآن،
__________
(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 310)
(2) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 88)
(3) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 186)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/322)
والقرآن ليس كلام الله، فهو كافر، ومن زعم أنها عبارة عن الكلام الذي لا حروف فيه، فهو جهل وغباء؛ لأن ذلك لا يعرف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، وبهذا يتبين أن القرآن سور، وآيات، وحروف، وهكذا كلام الله) (1)
قال آخر: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها، فنحن إذا قلنا: إن الله موجود، رؤوف، واحد، حي، عليم، سميع، بصير، متكلم، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان موجودا، حيا، عالما، سميعا، بصيرا، متكلما، لم يكن ذلك تشبيها، ولا خالفنا به أحدا من السلف، والأئمة، بل الله موجود لم يزل، واحد، حي، قديم، قيوم، عالم، سميع، بصير، متكلم فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات، والموجود منا إنما وجد من عدم، وحين ينقضي أجله ثم يصير ميتا يزول ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بحوارح تلحقها الآفات، فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى وإن اتفقت مسميات هذه الصفات .. وقد بين الله في كتابه أن الكلام لا يكون إلا بصوت وحروف، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء: 10] والعرب لا تعرف نداء إلا صوتا، وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا إن النداء غير صوت خالفوا لغات العرب، وإن قالوا: نادى الأمير إذا أمر بالنداء، دفعوا فضيلة موسى صلى الله عليه وآله وسلم المختصة به من تكليم الله إياه بذاته، من غير واسطة، ولا ترجمان، وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه، وكلام الله حروف، وأصوات بحكم النص) (2)
__________
(1) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص 186)
(2) درء تعارض العقل والنقل (2/ 89)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/323)
قال آخر: وقال: (والله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، وإذا شاء تكلم بصوت يسمع، وبحروف، وكل ما قام بذات الله تعالى فليس بمخلوق، سواء كان قديما أو حادثا، وكلامه تعالى وفعله متعلق بمشيئته وإرادته، هذا قول أهل السنة والجماعة) (1)
قال آخر: وقال: (وجمهور المسلمين يقولون إن القرآن العربي كلام الله، وقد تكلم به بحرف وصوت) (2)، ويقول ـ عن موسى عليه السلام ـ: (إن موسى لما نودي من الشجرة: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] أسرع الإجابة وتابع التلبية وما كان ذلك منه إلا استئناسًا منه بالصوت وسكوناً إليه وقال: إني أسمع صوتك وأحسّ حسّك) (3)
قال آخر: وقال ـ في معرض ردّه على الجهمية ـ: (وحديث الزهري قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك، قال: سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله) (4)
قال آخر: وقد قال الشيخ محمد خليل هراس تعليقا على قوله تعالى: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]: (يعني تكليما بلا واسطة لكن من وراء حجاب فيسمع كلامه ولا يرى شخصه) (5)، ويقول: (يسمعون صوته عز وجل بالوحي قويا له رنين وصلصلة ولكنهم لا يميزونه، فإذا سمعوه صعقوا من عظمة الصوت وشدته) (6)
قال آخر: وقال شيخنا محمد بن صالح العثيمين: (في هذا إثبات القول لله وأنه بحرف وصوت، لأن أصل القول لا بد أن يكون بصوت فإذا أطلق القول فلا بد أن يكون بصوت) (7)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (2/ 93)
(2) مجموع الفتاوى: 5/ 556.
(3) شرح حديث النزول، ص 220.
(4) الأسماء والصفات، ص 73.
(5) حاشية كتاب التوحيد، لابن خزيمة، ص 137.
(6) حاشية (كتاب التوحيد)، ص 137، ص 146.
(7) فتاوى العقيدة، ص 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/324)
قال آخر: بل إن شيوخنا، وتأكيدا لكون هذه الصفة حقيقية، لا يكتفون بوصف الله بكونه يتكلم بالحرف والصوت فقط، وإنما يذكرون أنه يتكلم بالفم واللسان، فقد قال شيخنا ابن تيمية في معرض الرد على المعطلة: (وحديث الزهري قال: لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان) (1)
قال آخر: وقال الدارمي في رده على بشر المريسي عن الله تعالى: (إن الكلام لا يقوم بنفسه شيئا يرى ويحس إلا بلسان متكلم به) (2) .. قال آخر: وقال: (وهو يعلم الألسنة كلها، ويتكلم بما شاء منها، إن شاء تكلم بالعربية وإن شاء بالعبرية وإن شاء بالسريانية) (3)
قال آخر: وقال: (قال كعب الأحبار: لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه طفق موسى يقول: أي رب ما أفقه هذا حتى كلّمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته يعني بمثل لسان موسى وبمثل صوت موسى)، ثم قال: (فهذه الأحاديث قد رويت وأكثر منها ما يشبهها كلها موافقة لكتاب الله في الإيمان بكلام الله) (4)
قال آخر: وقال أبو يعلى: (وكلَّمَ الله موسى تكليمًا من فيه ـ يعني من فمه ـ وناوله التوراة من يده إلى يده) (5)
قال آخر: وهكذا قال كل أئمتنا بهذا، ويدل عليه ما وجد في الكتب الإلهية، فقد ورد في سفر أيوب [37/ 2 - 6]: (اسمعوا سماعًا رعد صوته والرمذمة الخارجة من فيه تحت كل السموات)، وفي سفر التثنية [5/ 26]: (من جميع البشر الذي سمع صوت الله)
قال آخر: ولهذا اعتبر شيوخنا وأئمتنا كل منكر لهذا جهميا معطلا كافرا .. وقد روي
__________
(1) الأسماء والصفات، (1/ 73)
(2) رد الدارمي على بشر المريسي، (ص 112)
(3) رد الدارمي على المريسي، ص 123.
(4) الرد على الجهمية، (ص 81)
(5) طبقات الحنابلة) لأبي يعلى (1/ 32)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/325)
عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه قال: سألت أبي رحمه الله قلت: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: (هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق، قالت عائشة: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، فالقرآن ليس بمخلوق) (1)
قال آخر: وقال: (حدثني ابن شبويه، سمعت أبي يقول: (من قال شيء من الله عز وجل مخلوق علمه أو كلامه فهو زنديق كافر لا يصلى عليه، ولا يصلى خلفه ويجعل ماله كمال المرتد ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت المال)، سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: (هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم) (2)
قال آخر: ولهذا رد شيوخنا بشدة على من تأولوا كلام الله تعالى، وابتدعوا فيه بدعا شتى أخطرها ما يطلقون عليه الكلام النفسي .. والذي يعني أن إسماع الله تعالى الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط (3) .. فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاما.
قال آخر: وقد استدلوا لذلك بما ورد في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة: 8]، وقوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً} [الأعراف: 205]، وقوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، فسمى الإسرار قولا .. وقوله: {آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزًا} [عمران: 41]
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 164)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 164)
(3) نقض التأسيس (2/ 52)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/326)
قال آخر: وقد ناقش شيوخنا تأويلاتهم المنحرفة هذه، ومن الأمثلة على ذلك ما أجاب به شيخنا ابن تيمية فهمهم الخاطئ لقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]، حيث ذكر أن المراد (أنهم قالوه بألسنتهم سرا، وحينئذ فلا حجة لهم فيه، وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول) (1)
قال آخر: وذكر أنه (قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل (2)، وهذا رد عليهم مطلقا لأنه قال (ما لم تتكلم) فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق) (3)
قال آخر: وهكذا رد على استدلالهم بقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]، حيث ذكر أن (المقصود الذكر باللسان، لأنه قال: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205]، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ [الحديث]، مثل الحديث السابق: (وما حدثت به أنفسها)، أما لفظ [الكلام] فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط) (4)
قال آخر: وهكذا رد على استدلالهم بقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آخر الآية {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، حيث ذكر أن (هذه حجة ضعيفة جدا؛ لأن قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] يبين أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى،
__________
(1) الإيمان (ص 129)، ومجموع الفتاوى (15/ 35)
(2) رواه البخاري (6664)، ومسلم (127)
(3) الإيمان (ص 129)، ومجموع الفتاوى (15/ 35)
(4) الإيمان (ص 130)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/327)
وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى) (1)
قال آخر: وهكذا رد على استدلالهم بقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] فقد ذكر في مريم {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] و (لم يستثن شيئا، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزا) (2)
قال آخر: أما استدلالهم بقول عمر في قصة السقيفة (زورت في نفسي مقالة)، فقد رد عليهم بقوله: (هي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولا، لكن كان مقدرا في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولا وعملا إلا إذا وجدت في الخارج) (3)
قال آخر: كما رد على استدلالهم على ما ينسب للأخطل (4):
لا تعجبنك من أثير خطبة ... حتى يكون مع الكلام أصيلاً
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
قال آخر: حيث شكك في صحة نسبته إليه، وتعجب من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني، ولم يثبت عنه، فقال: (ولو احتج في مسألة بحديث أخرجاه في
__________
(1) مجموع الفتاوى (15/ 36)، والإيمان (ص 130)
(2) الإيمان (ص 131)
(3) الإيمان (ص 131 ـ 132 – ط المكتب الإسلامي.
(4) الاقتصاد في الاعتقاد ص: 59.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/328)
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد وأكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلا عن مسمى الكلام) (1)
قال آخر: ولم يكتف شيخ الإسلام بالردود على هذه الأدلة، وإنما راح يرد على الأصول التي اعتمدوا عليها، والتي تؤول إلى نفي الكلام مطلقا عن الله تعالى، وقد قال في ذلك مخاطبا المعطلة: (أنتم قلتم إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر والنهي والإرادة؟ لأن الخبر ـ بدون صيغة وألفاظ ـ ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي ـ بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي ـ وليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس، وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة) (2)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الكلام بالحرف والصوت لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن الله تعالى يتكلم بالحرف والصوت .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن
__________
(1) الإيمان (ص 132)
(2) التسعينية (ص 152 ـ 154) – الوجه الخامس عشر.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/329)
الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال آخر: وبما أن شيوخنا الأفاضل اعتمدوا في تفسير كلام الله بالحرف والصوت على ما ذكره سلفهم؛ فإنا نعتمد على نفيه على ما ذكره سادة السلف الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهم أعرف الخلق بالله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أعلم بالقرآن الكريم من كل سلفهم الذين خلطوا بفهمهم ما اقتبسوه من اليهود وتلاميذ اليهود.
قال آخر: ومن سادات هؤلاء الأئمة الإمام علي الذي قال في تنزيه الله تعالى: (يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، يقول لمن أراد كونه: كن، فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا) (1)
قال القاضي: لكن هل يمكن أن يكون هناك كلام من غير صوت ولا حروف؟ .. إن هذا عين المحال.
قال أحد التلاميذ (2): كيف يكون مستحيلا، والعلم أثبت ذلك، ووضحه أحسن توضيح .. ذلك أنه يذكر أن الحواس الخمس مجرد نوافذ يتعلق بكل واحد منها إدراك معين لصفة أو عدد من الصفات التي تكون عليها الأجسام.
قال آخر (3): ولاشك أنكم تعلمون أن مركز الإدراك ليس في هذه النوافذ والآلات التي يجري الحس من طريقها، وإنما في فصوص معينة من قشرة المخ المركوز في جوف رأس الإنسان .. فهذا المخ تنفذ إليه معطيات الحواس عن طريق شبكة الأعصاب المنتشرة فروعها
__________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 179، ج 2، ص 122.
(2) مسألة الكلام الالهي بين الشيعة الاثنا عشرية وأهل السنة دراسة نقدية في ضوء معطيات العلم الحديث.
(3) مسألة الكلام الالهي.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/330)
في جسم الإنسان؛ فيحصل فيه الإدراك، وهذه الشبكة نفسها تحمل أوامر المخ إلى سائر أعضاء الجسم، كما نعرف من معطيات علم الطب الحديث التي صارت جزءا من الثقافة العامة لعصرنا ..
قال آخر (1): فالأذن مثلا نافذة إدراك الأصوات، والعين نافذة إدراك الألوان، والأنف نافذة إدراك الروائح، واللسان نافذة إدراك الطعوم، والجلد نافذة إدراك الخشونة والملاسة، وكذلك الحرارة والبرودة .. والرطوبة واليبوسة .. وبمثل هذا ندرك الضرب المؤلم؛ لكننا ندرك أن جسما أثقل من جسم آخر متى حملناهما بمقدار الجهد العضلي في الحمل .. وندرك مرض أعضاء أجسامنا الجوانية حينما نحس الألم فيها .. وهذه معارف حسية ضرورية أيضا تتولى شبكة الأعصاب نقلها إلى مركز إدراكها بالمخ بلا واسطة النوافذ الخمس.
قال آخر (2): وهكذا؛ فإن للكلام أو للتكليم ـ أي طريقة إخراج المعلومة المرادة وفق النظام اللغوي المتواضع عليه ـ مركزان في قشرة المخ، أحدهما معني بنظام اللغة، والثاني يقود عملية النطق وإنتاج الأصوات المسموعة.
قال آخر (3): وبذلك؛ فإن المسألة في حقيقتها ليست أكثر من معارف تجمع بقدر ما يتاح للإنسان من معطيات حواسه ونتاج استدلاله، وتحفظ في مستودعها من المخ، ثم تُخرج أو تُظهر أو تُعلَن بقدر ما تتعلق به الإرادة من ذلك المستودع في خطاب الإنسان، أو كتابته التي هي رموز تحكي مفردات الخطاب وتنقله للغائب، أو في إشاراته الحسية المتفق عليها، وربما عن طريق التخاطر لمن كان من أهل هذه الهبة.
__________
(1) مسألة الكلام الالهي.
(2) مسألة الكلام الالهي.
(3) مسألة الكلام الالهي.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/331)
قال آخر (1): وقد تكون المعارف الخارجة خبرا عن معلوم أو طلبا لحاجة معلومة، وقد تكون صحيحة في أصلها أو باطلة، وقد تكون صحيحة ويريد الإنسان تزييفها والإخبار عنها بغير ما هي عليه في نفس الأمر، وهذه الإرادة تابعة للعلم بما فيه مصلحة أو مضرة.
قال آخر (2): واللغة في حقيقتها ليست شيئا أكثر من نظام لنقل هذه المعارف أو الرغبات التابعة لها عن طريق رموز صوتية، يتم تعيين إشارة كل رمز منها إلى مرموزه بالتواضع بين أهل اللغة الواحدة على مستوى بناء الكلمة، وعلى مستوى بناء التركيب الذي يتاح للمتكلم في نظمه أكبر مساحة من الحرية في الاختيار، ويكون فيه أكبر التفاوت بين أبناء اللغة الواحدة في بلاغة الخطاب، على ما نجده في لغتنا العربية.
قال آخر (3): وليس في إمكان الإنسان أن يدرك معنى لفظ يشير إلى موجود دون أن يكون عالما به، ودون أن تكون لذلك المرموز صورة مُخَزَّنةٌ في مُخِّهِ، أو مَعرِفةٌ لما ينفصل به وجود ذلك الشيء عن وجود ما سواه إذا لم يسبق له إدراكه حسيا، أو لم يكن مما يدرك بالحواس أصلا .. هذا وإلا فالكلمة مجرد صوت أجوف لا يدل على معنى، ولا يشير إلى ما يزيد عن كونه صوتا مبهما كسائر الأصوات التي تعج بها الأجواء حولنا مما ليس بلغة خطاب.
قال آخر (4): وباعتبار تلك المعارف وذلك التواضع في الخطاب اختلفت في اللغة العربية دلالات الألفاظ، واختلفت دلالة الكلمة الواحدة بين تركيب وآخر، وبين الاستعمال الحقيقي والاستعمال المجازي .. وكل ذلك في السمع الحاصل من طريق الأذن
__________
(1) مسألة الكلام الالهي.
(2) مسألة الكلام الالهي.
(3) مسألة الكلام الالهي.
(4) مسألة الكلام الالهي.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/332)
مجرد وجود أصوات متصلة على هيئات مختلفة، لا تختلف في تنغيمها كثيرا عن تنغيم أصوات العصافير.
قال آخر (1): فمُخُّ الإنسان هُنا متميِّزٌ بتحصيل العلوم الاستدلالية المؤسسة على علوم الضرورة، ومتميز أيضا بإخراج ما يريد نقله أو إظهاره من المعارف في صورة رمزية، أو نسق لغوي، ولذلك فإن الإنسان حينما يرى شيئا أو آلة جديدة لأول مرة، قد يصف شكلها كما يظهر لحاسته؛ لكنه لا يسميها ابتداء ولا يضع لها اسما؛ حتى يُعلَمَ به أو يتواضع مع غيره على اسم لما عرفاه، وكذلك قالت الملائكةُ حينما أُمِرت بذكر أسماء الخلائق: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] .. وذلك لأن علم الملائكة المُحدَث محصور له غاية ينتهي إليها؛ فأنَّى لهم أن يعرفوا أسماءً لموجودات لم يعرفوها من قبل؟
قال آخر (2): وبهذا، فإن المسألة في حقيقتها ليست أكثر من تحصيل المعارف وإخراجها .. ولا نعني بذلك أنه لا تمييز بين حقيقة السمع والبصر والذوق والشم واللمس من جهة، وبين العلم الحاصل للإنسان من جهة أخرى، ولا بين ذلك كله وبين الكلام من جهة ثالثة .. فإنه من المكابرة أن يقول قائل: إن معنى (سمع) هو معنى (علم) بلا فاصل .. أو إن معنى (أبصر) هو معنى (علم) بلا فاصل .. أو أن معنى (الكلام) هو معنى (العلم) بلا فاصل.
قال آخر (3): وبذلك؛ فإن المتاح لنا من خلال ما ذكرناه هو القول بأن السمع في الإنسان هو العلم الحاصل من طريق الأذن بالأصوات وصفاتها المختلفة من الشدة
__________
(1) مسألة الكلام الالهي.
(2) مسألة الكلام الالهي.
(3) مسألة الكلام الالهي.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/333)
والرخاوة والجهر والهمس؛ لأن الإنسان بطبيعته المجردة لا يدرك الصوت إلا من طريق هذه الحاسة .. وكذلك القول في البصر بأنه هو العلم الحاصل من طريق العين بالموجودات الملونة وإدراك طولها وعرضها وكونها ساكنة في مكان أو متحركة عنه؛ لأن الإنسان بطبيعته المجردة لا يدرك الملون إلا من طريق هذه الحاسة .. وكذلك القول في سائر الحواس ..
قال آخر (1): وقد قيدنا هذا بأن يكون الإدراك بمجرد ما خلقه الله تعالى للإنسان في جسمه من الحواس؛ لأن نتاج حضارتنا الحديثة قَدَّم لنا ما يغير في معطيات الحواس؛ حيث صار بإمكان الإنسان المعاصر أن يرى الصوت، وأن يميز بعينه بين بصمة صوتية وأخرى، وأن يميز بين الصور الطيفية للأصوات المختلفة في إطار (اللغة المرئية)، وصار بإمكانه أن يميز بين الأجسام في الظلام تمييز الوطاويط التي لا تدرك الألوان، وأن يدرك حرارتها وملاستها دون أن يمسها، وأن يدرك الطعوم وأن يعرف درجة حموضتها وغير ذلك دون أن يضعها على لسانه، وكل ذلك بطريق الحس والعلم الضروري.
قال آخر (2): وما بقي لنا في معنى السمع سوى أن نقول: إنه إدراك الصوت .. وفي معنى البصر: هو التمييز بين الأجسام في أماكن وجودها بغير مباشرة .. وفي الذوق: هو إدراك الطعوم .. وهكذا.
قال آخر (3): والعلم عام يصدق على ما هو ضروري وما هو استدلالي، والكلام من ذلك كله هو المعارف التي يريد الإنسان نقلها وإخراجها أو إعلانها وإظهارها من خزانتها المسماة بالذاكرة في مخه؛ وفق النظام المتواضع عليه في لغته التي قد تكون العربية، أو الفارسية، أو غير ذلك من لغات بني آدم .. واللغة هنا مجرد نظام، والأصوات رموز تشير
__________
(1) مسألة الكلام الالهي.
(2) مسألة الكلام الالهي.
(3) مسألة الكلام الالهي.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/334)
إلى المعارف المراد نقلها، والكتابة رسوم مرئية ترمز إلى الأصوات حروفا في بعض اللغات، وكلمات في بعضها، وجملا في بعضها، وكل ذلك في إطار النظام اللغوي المتواضع عليه.
قال آخر (1): ويمكننا أن نقول: إن رسوم الكتابة ترمز إلى الأصوات رمز الأصوات إلى المعاني، وكما أن الذي لا يعرف مرموزات رسوم الكتابة من الحروف أو الكلمات والجمل لا يستطيع أن يقرأ وإن رأى الرسوم، فكذلك حال من لا يعرف المعاني لا يتكلم وإن ظهرت منه أصوات، ولا يعقل لغات الناس وإن سمع أصواتهم؛ حتى يُحَصِّلَ العلم بما حوله، ويعرِفَ نظامَ اللغة في نقل المعاني أو الصور العقلية لما علم، وإن لم يكن له علم بذلك؛ فهو فيما يصدر عنه من الأصوات وطير الببغاء الذي يقلد بعض أصوات الإنسان سواء.
قال آخر (2): والنقل هنا لا يعني تحريك المعارف من مخ المتكلم إلى مخ السامع؛ بل هو أشبه بنقل صورة جملة مخزنة في ذاكرة حاسوب إلى آخر، كما أن تخزين الصور العقلية أو الذهنية للمعلومات شبيه بتخزين المعلومات في ذاكرة الحاسوب في صورة رقمية ..
قال آخر (3): والكلام في حقيقته ليس شيئا سوى هذه المعارف التي يراد نقلها في صورة رمزية قد تكون صوتية لغوية، وقد تكون بالإشارة، وقد تكون بغير ذلك.
قال القاضي: لكن كلامكم هذا يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من كلام الله لموسى عليه السلام وسماع موسى عليه السلام لكلامه .. فإن لم يسمع حرفاً ولا صوتاً، فكيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت؟
قال أحد التلاميذ: إن السؤال عن (كيف سمع؟) هو كالسؤال عن (كيف ندرك بحاسة الذوق حلاوة السكر؟)، ولا سبيل إلى الجواب عن هذا السؤال إلا بوجهين ..
__________
(1) مسألة الكلام الالهي.
(2) مسألة الكلام الالهي.
(3) مسألة الكلام الالهي.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/335)
أولهما، وأعلمهما أن نسلم سكراً إلى هذا السائل حتى يذوقه ويدرك طعمه وحلاوته، فنقول له حينئذ: أدركت أنا كما أدركته أنت الآن حلاوة السكر .. وهذا هو الجواب الشافي، والتعريف التام .. وهو لا يمكن إلا لمن كلمه الله كما كلم موسى عليه السلام .. وأما الثاني، وهو أن يتعذر ذلك إما لفقد السكر، أو لعدم الذوق في السائل للسكر، فنقول له: أدركت طعمه كما أدركت أنت حلاوة العسل، فيكون هذا جواباً صواباً من وجه وخطأ من وجه.
قال آخر: أما وجه كونه صواباً فإنه تعريف بشيء يشبه المسؤول عنه من وجه، وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه وهو أصل الحلاوة، فإن طعم العسل يخالف طعم السكر وإن قاربه من بعض الوجوه وهو أصل الحلاوة، وهذا غاية الممكن .. فإن لم يكن السائل قد ذاق حلاوة شيء أصلاً تعذر جوابه وتفهيم ما سأل عنه.
قال آخر: وهكذا جواب من قال: (كيف سمع كلام الله تعالى؟)، فلا يمكن شفاؤه في السؤال إلا بأن نسمعه كلام الله تعالى القديم وهو متعذر، فإن ذلك من خصائص الكليم عليه السلام، فنحن لا نقدر على إسماعه أو تشبيه ذلك بشيء من مسموعاته وليس في مسموعاته ما يشبه كلام الله تعالى، فإن كل مسموعاته التي ألفها أصوات والأصوات لا تشبه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه، بل الأصم لو سأل وقال: (كيف تسمعون أنتم الأصوات؟)، وهو ما سمع قط صوتاً لم نقدر على جوابه، فإنا إن قلنا كما تدرك أنت المبصرات فهو إدراك في الأذن كإدراك البصر في العين كان هذا خطأ، فإن إدراك الأصوات لا يشبه إبصار الألوان، فدل أن هذا السؤال محال.
قال آخر: لأنه يسأل عن كيفية ما لا كيفية له، إذ معنى قول القائل كيف هو أي مثل أي شيء هو مما عرفناه، فإن كان ما يسأل عنه غير مماثل لشيء مما عرفه، كان الجواب محالاً ولم يدل ذلك على عدم ذات الله تعالى، فكذلك تعذر هذا لا يدل على عدم كلام الله تعالى،
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/336)
بل ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه ليس كمثله شيء، كما أن ذاته ليس كمثلها شيء، وكما ترى ذاته رؤية تخالف رؤية الأجسام والأعراض ولا تشبهها فيسمع كلامه سماعاً يخالف الحروف والأصوات ولا يشبهها.
قال القاضي: فهل ترون أن الآيات الكريمة الكثيرة الدالة على تكليم الله لمن شاء من عباده مجازا، كما فعلتم مع الصفات السابقة؟
قال أحد التلاميذ (1): كلا .. بل نرى أنه أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل، وقد سماه الله في كتابه بالكلام .. ذلك أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبياءه ورسله من النعم التي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإلهية الكبرى، أوأخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم.
قال آخر (2): وبناء على هذا؛ فإن الآيات القرآنية، وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشك فيه إلا مكابر متعسف ولا كلام لنا معه.
قال آخر (3): ولوجاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهية من غير استثناء إلى المادية المحضة النافية لكل ما وراء المادة.
قال آخر (4): وتوضيح ذلك، هو أنه الله تعالى عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]،
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 314.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 314.
(3) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 314.
(4) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 315.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/337)
وقد فسر تعالى هذا الإطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]، فإن الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] لا يتم إلا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: {أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51]، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحوخاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.
قال آخر: وقد ذكر علماؤنا وجه الجمع بين إثبات كون الله تعالى متكلما، وعن تنزيهه عن الأوهام المرتبطة بكيفية كلامه، وربطها بالصوت والحرف .. ومنهم الطباطبائي الذي قدم لذلك بقوله: (والذي عندنا من حقيقة الكلام، هوأن الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، ومنها التكلم وقد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلفة والمختلطة أمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها الإنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، وتكثر الحوائج الإنسانية في حياته الاجتماعية) (1)
قال آخر: ثم بذكر الضرورات الداعية إلى الكلام، فقال: (ومن هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 315.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/338)
الإنسان وهوواقع في ظرف الاجتماع، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحواجتماع وله شيء من جنس الصوت، على ما نحسب، وأما الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلوكان ثم إنسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهم، وكذلك غير الإنسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلا) (1)
قال آخر: ثم ذكر تنزيه الله تعالى عن الكيفيات التي نضطر إليها في كلامنا، فقال: (فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحوخروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية الوضعية، فإنه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أويستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .. لكنه سبحانه فيما مر من قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفي عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإلهي، لكنه بخواصه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحوذلك) (2)
قال آخر: وبناء على هذا فسر معنى تكليم الله لأنبيائه عليهم السلام، فقال: (فقد ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بين لنا إجمالا أنه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله،
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 315.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 316.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/339)
لكنه تعالى لم يبين لنا، ولا نحن تنبهنا من كلامه أن هذا الذي يسميه كلاما يكلم به أنبياءه ما حقيقته؟ .. وكيف يتحقق؟ .. غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا، ويثبت عليه آثاره، وهي تفهيم المعاني المقصودة وإلقاؤها في ذهن السامع) (1)
قال آخر: ثم ذكر السبب في كون الكلام فعلا من أفعال الله، ردا على من يعتبره صفة من صفاته الذاتية، فقال: (وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف ولا فرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقال تعالى {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، وقال: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، وقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]، وقال: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الأفعال كالخلق والإماتة والإحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء) (2)
قال آخر: وبعد هذا التوضيح للفرق بين كلام الله وكلام خلقه، راح يذكر معاني الكلام وما يرتبط بها في القرآن الكريم فقال: (واعلم أن الكلام أوالتكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أوالكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]، أريد به نفس الإنسان، وقال تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 316.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 316.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/340)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، وقال: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]، وقد أريد بها القضاء أونوع من الخلق على ما سيجي ء الإشارة إليه) (1)
قال آخر (2): وذكر أن لفظ القول قد عم في كلامه تعالى الإنسان وغيره، كما قال تعالى في مورد الإنسان: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]، وقال في مورد الملائكة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71]، وقال في مورد إبليس {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقال في غير مورد أولي العقل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، وقال: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35]
قال آخر: ثم ذكر سر الفروق بين هذه المواضع، فقال: (والذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلا، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات، فإن القول منه تعالى إيجاد أمر يدل على المعنى المقصود) (3)
قال آخر: ثم ذكر معنى القول في التكوينيات، فقال: (فأما في التكوينيات فنفس
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 317.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 317.
(3) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 317.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/341)
الشيء الذي أوجده تعالى وخلقه هوشيء مخلوق موجود، وهوبعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم أنه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين الشيء، وليس هناك غير نفس وجود الشيء، فهو بعينه مخلوق وهوبعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهوالإيجاد وهوالوجود وهونفس الشيء) (1)
قال آخر: ثم ذكر معنى القول فيما عدا التكوينيات، فقال: (وأما في غير التكوينيات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الإنسان بأن كذا كذا، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أوبنحوآخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا) (2)
قال آخر: ثم ذكر الخصوصية المرتبطة بكلام الله تعالى مع الملائكة والشياطين وما شابهها، فقال: (وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أوالشيطان، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لوكان لهما شبيه بخصوصية، وهي أن الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما هوباستخدام الصوت أوالإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، ومن المعلوم على ما يعطيه كلامه تعالى أن الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي، وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية .. ويظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والأصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 318.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 318.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/342)
ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، والتأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهوظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أوالشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت) (1)
قال آخر: وبناء على هذه المعاني يذكر خصوصية الكلام في كل نوع من الأنواع بحسب خلقته التي خلقه الله عليها، فيقول: (وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] وقال تعالى {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]) (2)
قال آخر: وهكذا ذكر معنى الكلام في سائر الموارد كالوحي والإلهام ونحوهما، فقال: (وهناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، والإلهام، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8]، والنبأ، قال تعالى: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]، والقص، قال تعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام: 57]، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هوالذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 318.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 319.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/343)
هذا الأمر الحقيقي المتحقق بالضرورة أولم نعلم بحقيقته تفصيلا) (1)
قال آخر: ثم ذكر سر الفروق في التعبير عن هذه المعاني، مع اشتراكها في الدلالة على الكلام، فقال: (وأما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما وبعضها قولا وبعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن، ولذلك سمي هذا الفعل الإلهي في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاما، لأن العناية هناك إنما هوبالمخاطبة والتكليم، ويسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقاؤه وتفهيمه، ولذلك سمي هذا الأمر الإلهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحوذلك قولا كقوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ} [ص: 84 - 85]، ويسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الأنبياء ولذلك عبر في موردهم عليهم السلام بالوحي كقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]) (2)
قال آخر: ثم ذكر السر في التعبير عن هذه المعاني بالكلام، مع كونه يحتمل كيفيات متعددة، فقال: (لقد عرفت أن مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداء ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، وهذا وإن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداء لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم الإنسان في المدنية والحضارة يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، والتبدل فيها دائما مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدل مصاديق
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 319.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 319.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/344)
معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة) (1)
قال آخر: ثم ضرب أمثلة مقربة لذلك، فقال: (وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أوالدهنيات مع فتيله متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضاءة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا وسماه الإنسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أوفلزية، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلا أن الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، وهوالاستضاءة، ونحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة ولا نعرفها إلا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل، وإن تغير الشكل أحيانا أوالكيفية أوالكمية أوأصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال) (2)
قال آخر: وبناء على هذا بين أن (الملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير، وقلما يوجد اليوم في الأمور المصنوعة ووسائل الحياة ـ وهي ألوف وألوف ـ شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الأثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له، وفي اللغات شيء كثير من القسم
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 320.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 320.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/345)
الأول وهواللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير) (1)
قال آخر: ثم لخص كل هذه المعاني، بقوله: (فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الأثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي .. فظهر من جميع ما بيناه: أن إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، وأنه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والإعطاء كذلك) (2)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة الكلام بالحرف والصوت لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثانية .. فحدثونا عن الصفة الثالثة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثالثة هي الإتيان والمجيء .. وقد ورد ذكرها في آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: {هَل يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: 210]، وقوله: {هَل يَنظُرُونَ إلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر: 22]
قال آخر: بالإضافة إلى ما ورد في الحديث بشأنها، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وإن تقرب إلي ذراعا؛ تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة) (3)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 320.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 320.
(3) البخاري (7405)، ومسلم (2675)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/346)
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الله تعالى يجيء ويأتي، مثلما ذكرنا ذلك عند الحديث عن الحركة، ولذلك عد علماؤنا المجيء والإتيان صفتان من صفات أفعال الله تعالى.
قال آخر: وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {هَل يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: 210]: (اختُلِف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى، فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول، وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله أو من رسول مرسل، فأما القول في صفات الله وأسمائه؛ فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج؛ إلا بما ذكرنا) (1)، ثم رجح القول الأول.
قال آخر: وقال أبو الحسن الأشعري: (وأجمعوا على أنه عَزَّ وجَلَّ يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً) (2)
قال آخر: وقال الشيخ محمد خليل الهرَّاس بعد أن ذكر كلام شيخ الإسلام في الآيات السابقة: (في هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل له سبحانه، وهما صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك على حقيقته، والابتعاد عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل) (3)
قال آخر: ثم نقل كلام المعطلة في ذلك، والذين أولوا آية المجيء، بأن الله يأتي بعذاب في الغمام الذي ينتظر منه الرحمة، فيكون مجيء العذاب من حيث تنتظر الرحمة أفظع وأهول،
__________
(1) تفسير الطبري (4/ 265)
(2) رسالة إلى أهل الثغر (ص 227)
(3) شرح الواسطية (ص 112)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/347)
ثم علق عليه بقوله: (فأنت ترى من نقل هذا الرجل عن أسلافه في التعطيل مدى اضطرابهم في التخريج والتأويل على أن الآيات صريحة في بابها، لا تقبل شيئا من تلك التأويلات .. فالآية الأولى تتوعد هؤلاء المصرين على كفرهم وعنادهم واتباعهم للشيطان بأنهم ما ينتظرون إلا أن يأتيهم الله عز وجل في ظلل من الغمام لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة، ولهذا قال بعد ذلك: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210]، والآية الثانية أشد صراحة؛ إذ لا يمكن تأويل الإتيان فيها بأنه إتيان الأمر أو العذاب؛ لأنه ردد فيها بين إتيان الملائكة وإتيان الرب، وإتيان بعض آيات الرب سبحانه) (1)
قال آخر: وقال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]: (لا يمكن حملها على مجيء العذاب؛ لأن المراد مجيئه سبحانه يوم القيامة لفصل القضاء، والملائكة صفوف؛ إجلالا وتعظيما له، وعند مجيئه تنشق السماء بالغمام؛ كما أفادته الآية الأخيرة)) (2)
قال آخر: ثم قال منزها الله تعالى عن مشابهة مخلوقاته: (وهو سبحانه يجيء ويأتي وينزل ويدنو وهو فوق عرشه بائن من خلقه .. فهذه كلها أفعال له سبحانه على الحقيقة، ودعوى المجاز تعطيل له عن فعله، واعتقاد أن ذلك المجيء والإتيان من جنس مجيء المخلوقين وإتيانهم نزوع إلى التشبيه يفضي إلى الإنكار والتعطيل) (3)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة المجيء والإتيان لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى مجيئا
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 113)
(2) شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 113)
(3) شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 113)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/348)
وإتيانا حقيقيا .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الحركة والتغير ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي الحركة والتغير عن الله تعالى.
قال آخر: ذلك أن الله تعالى أعظم من أن يحتاج إلى التنقل أو الحركة .. لأنه لا يحتاجهما إلا القاصر الضعيف البعيد الذي لا تتحقق مطالبه إلا بالانتقال والحركة .. أما القوي القادر القريب، فإنه يحقق مطالبه من غير حركة ولا انتقال.
قال آخر: ولهذا اتفق أئمتنا على ذلك، وحذروا من الوقوع في التجسيم والتشبيه بسببه، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام) (1)، وقال في تنزيه الله تعالى: (المشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها) (2) .. وقال: (لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره!؟) (3)
قال آخر: وهكذا فسر جميع علمائنا الآيات الكريمة على ضوء هذه المعاني المحكمة، ومن الأمثلة على ذلك قول الرازي في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.
(2) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33.
(3) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/349)
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210] بعد أن بين استحالة الحركة لله تعالى ـ كما ذكرناه لكم سابقا ـ: (اختلف أهل الكلام في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}، وذكروا فيه وجوها)، ثم بدأ بذكر منهج أهل التفويض، فقال: (وهو مذهب السلف الصالح .. ذلك أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال، علمنا قطعا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب، وأن مراده بعد ذلك شيء آخر فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ، فالأولى السكوت عن التأويل، وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجه: وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ووجه نعرفه من قبل العربية فقط، ووجه لا يعلمه إلا الله) (1)
قال آخر: ثم ذكر منهج أهل التأويل .. وذكر وجوها لذلك، ومن أحسنها، وقد رجحه بقوله: (وهو أوضح عندي من كل ما سلف): (أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210] حكاية عن اليهود، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه، وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 358)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/350)
ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز، وبالجملة فالآية تدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال) (1)
قال آخر: ثم بين سر قوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحديد: 5]، فقال: (الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}) (2)
قال آخر: ومن وجوه التأويل التي ذكرها (أن المعنى (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب)، فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم، إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في كل وجه، ومثله قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا وكذلك قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 26] فقوله: وأتاهم العذاب كالتفسير لقوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر: قد جاءنا فلان بجوره وظلمه، ولا شك أن هذا مجاز مشهور) (3)
قال آخر: ومن وجوه التأويل التي ذكرها (أن يكون في بمعنى الباء، وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض، وتقديره (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 360)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 360)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 359)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/351)
والملائكة)، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة) (1)
قال آخر: ومن وجوه التأويل التي ذكرها (أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها، وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة، وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهرا وأكبرهم هيبة، فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة، فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] من غير تصوير قبضة وطي ويمين، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي، فكذا هاهنا) (2)
قال آخر: من وجوه التأويل التي ذكرها (أن المراد {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أي آيات الله، فجعل مجيء الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات، كما يقال: (جاء الملك) إذا جاء جيش عظيم من جهته، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزجر، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سببا للتهديد والوعيد، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد، وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية) (3)، وقد علق عليه بقوله:
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 359)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 359)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 358)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/352)
(وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية) (1)
قال آخر: ومن وجوه التأويل التي ذكرها (أن يكون المراد {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أي أمر الله، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلا وأضافه إلى شيء، فإن كان ذلك محالا فالواجب صرفه إلى التأويل، كما قاله العلماء في قوله: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] والمراد يحاربون أولياءه، وقال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، والمراد: واسأل أهل القرية، فكذا قوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] المراد به يأتيهم أمر الله، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] المراد: جاء أمر ربك، وليس فيه إلا حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجاز مشهور، يقال: ضرب الأمير فلانا، وصلبه، وأعطاه، والمراد أنه أمر بذلك، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه) (2)
قال آخر: ثم ذكر الوجوه التي تؤكد هذا التأويل، ومنها أن قوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33] فصار هذا الحكم مفسرا لذلك المتشابه، لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض) (3)
قال آخر: ومنها (أنه تعالى قال بعده: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44] ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق، فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه، وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أي يأتيهم أمر الله) (4)
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 358)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 358)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 358)
(4) مفاتيح الغيب (5/ 358)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/353)
قال آخر: ثم ذكر وجه تفسير الآية الكريمة على هذا التأويل، فقال: (الأمر في اللغة له معنيان، أحدهما الفعل والشأن والطريق، قال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] وفي المثل: لأمر ما جدع قصير أنفه، لأمر ما يسود من يسود فيحمل الأمر هاهنا على الفعل، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة، وهذا هو التأويل الأول) (1)
قال آخر: ثم ذكر الوجه الثاني، فقال: (أما إن حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان أحدهما: أن يكون التقدير أن مناديا ينادي يوم القيامة: ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا، فذاك هو إتيان الأمر، وقوله: في ظلل من الغمام أي مع ظلل، والتقدير: إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد .. والثاني: أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة، أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب) (2)
قال آخر: ثم ختم حديثه عن الآية الكريمة بسبب ذكر إتيان العذاب في الغمام، وقد ذكر لذلك وجوها .. منها أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع، لأن السر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهول وأفظع، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أكثر تأثيرا في السرور، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ومن هذا اشتد على المتفكرين في كتاب الله تعالى قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 359)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 359)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/354)
47]) (1)
قال آخر: ومنها (أن نزول الغمام علامة لظهور ما يكون أشد الأهوال في القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 25 - 26]) (2)
قال آخر: ومنها (أن الغمام تنزل عنه قطرات كثيرة غير محصورة ولا محدودة، فكذا هذا الغمام ينزل عنه قطرات العذاب نزولا غير محصور) (3)
قال آخر: ومثله قال الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]: (وظاهر الآية أن الملائكة عطف على لفظ الجلالة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما أوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ويقضي الأمر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبأ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك، وإلى الله ترجع الأمور، فلا مفر من حكمه وقضائه، فالسياق يقتضي أن يكون قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} [الزخرف: 66] هوالوعيد الذي أوعدهم به في قوله تعالى في الآية السابقة {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209]) (4)
قال آخر: ثم عقب على هذا بذكر تنزيه الله تعالى عن الظاهر الذي فهمه أهل منهج الإثبات، فقال: (من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الأجسام، ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، ويلازم الفقر
__________
(1) مفاتيح الغيب (5/ 360)
(2) مفاتيح الغيب (5/ 361)
(3) مفاتيح الغيب (5/ 360)
(4) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 103.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/355)
والحاجة والنقص، فقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15]، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، إلى غير ذلك من الآيات، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شي ء من الصفات أوالأفعال الحادثة إليه تعالى ينبغي أن يرجع إليها، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافي صفاته العليا وأسماءه الحسنى تبارك وتعالى) (1)
قال آخر: وبناء على هذا المعنى فسر كل الآيات التي استدل بها أهل منهج الإثبات على حملها على الظاهر، فقال: (فالآيات المشتملة على نسبة المجي ء أوالإتيان إليه تعالى كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]، وقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست أسماؤه كالإحاطة ونحوها ولو مجازا، وعلى هذا فالمراد بالإتيان في قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] الإحاطة بهم للقضاء في حقهم) (2)
قال آخر: ثم ذكر قانونا آخر مهما من قوانين التأويل المرتبطة بهذه الآيات وغيرها، فقال: (على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا من الأفعال عن استقلال الأسباب ووساطة الأوساط فربما نسبها إلى نفسه وربما نسبها إلى أمره كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42]، وقوله: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11]، وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]، فنسب التوفي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملائكة، ثم قال تعالى في أمر الملائكة: {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، وكذلك قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} [الجاثية: 17]، وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} [غافر: 78]، وكما في هذه الآية: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 103.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 103.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/356)
أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33] .. وهذا يوجب صحة تقدير الأمر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: {جاءَ رَبُّكَ}، {ويَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}، فالتقدير: (جاء أمر ربك)، و (يأتيهم أمر الله) (1)
قال آخر: ثم عقب على هذا بما يقارب منهج أهل التفويض، فقال: (فهذا هوالذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين، لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك، وذلك أن أمثال قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر: 15]، وقوله: {الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 9]، وقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها، ملي ء بما يهبه ويجود به وإن كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة وأوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور، فالنقص والحاجة هوالملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح إسناده إليه تعالى، بل وجب ذلك لأن كل ما يقع عليه اسم شي ء فهومنه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته) (2)
قال آخر: وبناء على هذا فسر تلك الألفاظ المتشابهة، فقال: (فالمجي ء والإتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصية المادة كان هوحصول القرب، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز؛ فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الأبحاث البرهانية
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 103.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/357)
لنيله إلا بعد إمعان في السير، وركوبها كل سهل ووعر، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الأصيلة) (1)
قال آخر: ثم ذكر ما وقع من الخلاف بين المفسرين في ارتباط ذلك بالدنيا أو بالآخرة، مبينا جواز الأمرين، فقال: (وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة .. ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هوظاهر قوله تعالى في نظير الآية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33]، ومن الممكن أن يكون وعيدا بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47]، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30]، وما في سورة الأنبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا، وكيف كان فقوله {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ} [البقرة: 210] يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده) (2)
قال آخر: ومثله قال الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 210]: (قد يبدو للوهلة الأولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعا من الإبهام والتعقيد، لكنّ ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها؛ فالآية تخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقول معقبّة على الآيات السابقة: أليست كلّ هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصدّ الإنسان عن الهلكة وانقاذه من براثين عدوّه المبين (الشيطان)، هل ينتظرون أن يأتي اللّه إليهم مع الملائكة في وسط الغمامة ويطرح عليهم من الآيات والدلائل أوضح ممّا سبق، وإنّ ذلك محال، وعلى
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 104.
(2) الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/358)
فرض كونه غير محال فإنّه لا ضرورة لذلك) (1)
قال آخر: ثم ذكر معنى {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210] وعلاقتها بمعنى الآية، فقال: (معناها انتهاء حساب البشر يوم القيامة ودخول أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النّار إلى النّار، وعلى هذا الأساس فالآية ناظرة إلى الآخرة في حين أنّ ظاهر الآية يتعلّق بهذه الحياة الدنيا، ولهذا فليس من البعيد أن تكون هذه الآية إشارة إلى نزول العذاب الإلهي على الكفّار المعاندين) (2)
قال آخر: ثم ختم تفسيره للآية بخلاصة للمعاني التي وجهت بها الآية الكريمة، وأولها (أنّ المراد هو أنّ اللّه تعالى قد أتمّ حجّته بمقدار كاف، فلا ينبغي للمعاندين توقّع أن يأتيهم اللّه والملائكة أمامهم ويبيّنوا لهم الحقائق، لأنّ هذا أمر محال وعلى فرض أنّه غير محال لا حاجة لذلك) (3)
قال آخر: ومنها أنّ (هؤلاء مع عنادهم وعدم إيمانهم هل ينتظرون الأمر الإلهي بإنزال العذاب وملائكة العذاب عليهم فيهلكوا عن آخرهم) (4)
قال آخر: ومنها أنّ (هؤلاء بهذه الأعمال هل ينتظرون قيام السّاعة ليصدر الأمر إلى الملائكة بتعذيبهم وينالوا جزاءهم العادل؟)) (5)
قال آخر: ثم ذكر أنّ (التعبير بـ {ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] بناء على التفسير الثاني والثالث ـ الّذي ذهب إليه الكثير من المفسّرين ـ إشارة إلى أنّ العذاب الإلهي يأتي فجأة كالسّحاب الّذي يظلّلهم، وخاصّة أنّ الإنسان إذا رأى السّحاب يتوقّع أمطار الرّحمة، فعند ما يأتي العذاب بصورة الصاعقة وأمثال ذلك وينزل عليهم فسيكون أقسى وأشدّ إيلاما مع
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 80.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 81.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 81.
(4) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 81.
(5) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 81.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/359)
الالتفات إلى أنّ عذاب بعض الأقوام السّالفة نزل عليهم بصورة صاعقة من الغمام) (1)
قال آخر: أمّا على أساس التفسير الأوّل فقد يكون إشارة إلى عقيدة الكفّار الخرافيّة حيث يظنّون أنّ اللّه تعالى ينزل أحيانا من السّماء والسّحاب تظلّله (2).
قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]: (هذا كناية عن حضور الأمر الالهي لمحاسبة الخلائق، أو أنّ المراد: ظهور آيات عظمة اللّه سبحانه وتعالى، أو ظهور معرفة اللّه عزّ وجلّ في ذلك اليوم، بشكل بحيث لا يمكن لأيّ كان إنكاره، وكأنّ الجميع ينظرون إليه بأم أعينهم) (3)
قال آخر: ثم عقب على هذا بقوله: (و بلا شك، إنّ حضور اللّه بمعناه الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحديد بالمكان، هذا المعنى ليس هو المراد، لأنّ سبحانه وتعالى مبرّأ من الجسمية وخواص الجسمية) (4)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة المجيء والإتيان لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثالثة .. فحدثونا عن الصفة الرابعة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الرابعة هي النزول .. وقد ورد ذكرها في أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) (5)
قال آخر: ومثل ذلك ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند
__________
(1) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 81.
(2) الأمثل، الشيرازي، ج 2، ص 81.
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 20، ص 194.
(4) الأمثل، الشيرازي، ج 20، ص 194.
(5) البخاري (7494)، ومسلم (758)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/360)
كل صلاة ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل الأول فإنه إذا مضى ثلث الليل الأول هبط الله تعالى إلى السماء الدنيا فلم يزل هناك حتى يطلع الفجر) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى ليمهل في شهر رمضان كل ليله حتى اذا ذهب الليل الأول هبط إلى السماء ثم قال: هل من سائل يعطى، هل من مستغفر يغفر له، هل من تائب يتاب عليه) (2)
قال آخر: وفي حديث الإسراء عن أنس قال: (حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى) (3)
قال آخر: ومما يؤكد ذلك ما ورد في الكتب الإلهية عن ذلك، فقد جاء في سفر [الخروج 34: 5]: (فنزل الرّبّ في السّحاب، فوقف عنده هناك ونادى باسم الرّبّ) .. وفي سفر الخروج [19: 18]: (وكان جبل سيناء كلّه يدخّن من أجل أنّ الرّبّ نزل عليه بالنّار، وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كلّ الجبل جدا) .. وفي سفر الخروج [19: 11]: (ويكونوا مستعدّين لليوم الثّالث، لأنّه في اليوم الثّالث ينزل الرّبّ أمام عيون جميع الشّعب على جبل سيناء)
قال آخر: وفي سفر [العدد 11: 25]: (فنزل الرّبّ في سحابة وتكلّم معه، وأخذ من الرّوح الّذي عليه وجعل على السّبعين رجلا الشّيوخ، فلمّا حلّت عليهم الرّوح تنبّأوا، ولكنّهم لم يزيدوا)، وفي [عدد 12: 5]: (فنزل الرّبّ في عمود سحاب ووقف في باب الخيمة)
قال آخر: وفي [ميخا 1: 3]: (فإنّه هوذا الرّبّ يخرج من مكانه وينزل ويمشي على شوامخ الأرض)، وفي [التكوين 11: 5]: (فنزل الرّبّ لينظر المدينة والبرج اللّذين كان بنو آدم يبنونهما)
__________
(1) أحمد (967 و 968) (3673)
(2) رواه ابن أبي عاصم في كتاب (السنة) (513)
(3) البخاري (7517)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/361)
قال القاضي: فما تفسيركم لهذه الأحاديث الشريفة وما يؤكدها من الكتب الإلهية .. حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه النصوص بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الله تعالى ينزل ويهبط، مثلما ذكرنا ذلك عند الحديث عن الحركة، وقد قال شيخنا أبو سعيد الدارمي في ذلك بعد أن ذكر ما يثبت النزول من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها) (1)
قال آخر: وقال إمام أئمتنا محمد بن خزيمة: (باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام، رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة: نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب، من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم؛ فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية؛ إذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصف لنا كيفية النزول .. وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه ينزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل) (2)
__________
(1) الرد على الجهمية (ص 79)
(2) كتاب التوحيد (1/ 289)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/362)
قال آخر: وقال شيخنا أبو القاسم اللالكائي في [أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]: (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نزول الرب تبارك وتعالى، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرون نفسا) (1)
قال آخر: وقد قال حنبل بن إسحاق: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا نرد شيئا منها إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على رسول الله قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، حتى قلت لأبي عبد الله ينزل الله إلى سماء الدنيا، قال: قلت: نزوله بعلمه بماذا؟ فقال لي: (اسكت عن هذا، ما لك ولهذا؟ امض الحديث على ما روي بلا كيف، ولاحد، وإنما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب، قال الله عزّ وجلّ {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ينزل كيف يشاء بعلمه، وقدرته، وعظمته، أحاط بكل شيء علما، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب) (2)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص: (فالرب سبحانه إذا وصفه رسوله بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلم موسى بالوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها؛ لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة، حتى يقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر) (3)
قال آخر: وقال الإمام ابن جرير الطبري في فصل (القول فيما أدرك علمه من صفات الصانع خبرا لا استدلالا): (وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميع بصير، وأن له
__________
(1) أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 434)
(2) اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/ 285.
(3) دقائق التفسير (6/ 424)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/363)
يدين بقوله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .. وأنه يهبط إلى السماء الدنيا لخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
قال آخر: وقال ـ نقلا عن الكرجي مؤيدا له ـ: (روي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال في الأحاديث التي جاءت إن الله يهبط إلى السماء الدنيا ونحو هذا من الأحاديث إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها) (2)
قال آخر: وقال ـ بعد أن ذكر روايات ابن منده لحديث النزول ـ: (فهذا تلخيص ما ذكره عبدالرحمن بن منده مع أنه استوعب طرق هذا الحديث وذكر ألفاظه مثل قوله: (ينزل ربنا كل ليلة إلي السماء الدنيا إذا مضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك إلى الفجر) وفى لفظ: (إذا بقي من الليل ثلثاه يهبط الرب إلى السماء الدنيا) وفى لفظ: (حتى ينشق الفجر ثم يرتفع) وفى رواية: (يقول لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يسألني فأعطيه) وفى رواية عمرو بن عبسة: أن الرب يتدلى في جوف الليل إلى السماء الدنيا) (3)
قال آخر: ولذلك؛ فإن معنى النزول عندنا هو نفس المعنى المتداول الذي نعرفه جميعا، أي أنه نزول انتقال، لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهو نظير معنى الاستواء الذي فسره شيوخنا بمعنى قعد وجلس.
قال آخر: وقد قال القاضي أبو يعلى في ذلك: (فذهب شيخنا أبو عبد الله ـ يعني ابن حامد ـ أنه نزول انتقال، وقال: لأن هذا حقيقة النزول عند العرب، وهذا نظير قوله في الاستواء، يعني قعد، وهذا على ظاهر حديث عبادة بن الصامت ـ الذي ورد فيه: (ثم يعلو
__________
(1) التبصير في معالم الدين (132)
(2) مجموع الفتاوى (4/ 186)
(3) مجموع الفتاوى (5/ 394)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/364)
تبارك وتعالى على كرسيه) ـ ولأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا، وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثاً، كما الاستواء على العرش، هو موصوف به مع اختلافنا في صفته، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفاً به في القدم، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت، وإن كان هذا يوجب الحدث في صفاتنا، ولا يوجبه في حقه، كذلك النزول) (1)
قال آخر: وقال ابن القيم: (أما قول ابن حامد أنه نزول انتقال فهو موافق لقول من يقول يخلو منه العرش، والذي حمله على هذا إثبات النزول حقيقة، وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال، ورأى أنه ليس في العقل ولا في النقل ما يحيل الانتقال عليه، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط، وهذه أنواع الفعل اللازم القائم به، كما أن الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والقبض، والبسط أنواع للفعل المتعدي، وهو سبحانه موصوف بالنوعين، وقد يجمعهما كقوله {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]، والانتقال جنس لأنواع المجيء، والإتيان، والنزول، والهبوط، والصعود، والدنو، والتدلي ونحوها؛ وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين .. قالوا: وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور البتة ولا يستلزم ذلك نقصاً، ولا سلب كمال، بل هو الكمال نفسه، وهذه الأفعال كمال ومدح، فهي حق دل عليه النقل ولازم الحق حق) (2)
قال آخر: وسأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: (يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء) (3)
__________
(1) اختلاف الروايتين والوجهين (ص 55)
(2) مختصر الصواعق (2/ 254 ـ 255)
(3) المختار من الإبانة (ص 203 ـ 204، برقم 15)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/365)
قال آخر: وقال إسحاق بن راهويه: (دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا .. قلت: نعم، رواه الثقات الذين يروون الأحكام .. قال: أينزل ويدع عرشه؟ .. قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه؟ .. قال: نعم .. قلت: ولم تتكلم في هذا؟) (1)
قال آخر: وقال أبو عثمان النيسابوري: (ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه في كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف؛ بل يثبتون له ما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء، والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة، وقوله ـ عزّ وجلّ ـ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]) (2)
قال آخر: وقال: (سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت إبراهيم بن أبي طالب سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول: حضرت مجلس الأمير عبد الله ابن طاهر ذات يوم، وحضر إسحاق بن إبراهيم ـ يعني ابن راهويه ـ فسئل عن حديث النزول صحيح هو؟ .. فقال بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم، قال كيف ينزل؟ قال: أثبته فوق؛ حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبته فوق؟ فقال إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا يوم
__________
(1) البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 386)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 452)
(2) موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 3/ 108.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/366)
القيامة .. فقال إسحاق: أعز الله الأمير! من يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم) (1)
قال آخر: وقد ورد في الأحاديث والروايات الكثيرة ما يدل على أن الله تعالى ينزل حقيقة في أوقات أخرى عدا نزوله في الثلث الأخير من كل ليلة.
قال آخر: ومنها نزوله ليلة النصف من شعبان، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (ينزل الله، عز وجل، ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنسان في قلبه شحناء أو مشرك بالله جل اسمه) (2)، وفي رواية: (إن الله جل اسمه يطلع ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب) (3)
قال آخر: وينزل كذلك يوم عرفة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أيام أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض) (4)
قال آخر: ومن المواطن التي ينزل فيها ما روي عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25]، ثم قال: (ينزل أهل السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من الجن والإنس فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا ـ وذكر الحديث ـ ثم يأتي الرب في الكروبيين وهم أكثر أهل السموات السبع والأرضين) (5)
قال آخر: وقد علق عليه شيخنا أبو يعلى على هذه الرواية بقوله: (اعلم أن هذا حديث صحيح يجب الأخذ بظاهره من غير تأويل، ولا يجب أن يستوحش من إطلاق مثل ذلك، وقد نص أحمد عليه في رواية ابن منصور وقد سأله: (ينزل ربنا، تبارك وتعالى، كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا) أليس تقول بهذا الحديث؟ قال أحمد:
__________
(1) موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 3/ 109.
(2) إبطال التأويلات (ص 255)
(3) إبطال التأويلات (ص 255)
(4) إبطال التأويلات (ص 258)
(5) إبطال التأويلات (ص 259)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/367)
صحيح، وقال أحمد بن الحسين بن حسان: قيل لأبي عبد الله: (إن الله، تبارك وتعالى، ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة)، قال: نعم، قيل له: وفي شعبان كما جاء الأثر؟ قال: نعم، وقال يوسف بن موسى: قيل لأبي عبد الله: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء من غير وصف؟ قال: نعم) (1)
قال آخر: ومن مواطن النزول ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إن الله، عز وجل، ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى، الذي لم تره عين فيمحوا الله ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن، وهي داره وهي مسكنه التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر، وهي مسكنه لا يسكنها معه من بني آدم إلا ثلاث: النبيون والصديقون والشهداء، ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى السماء الدنيا وملائكته، فتنتفض فيقول: قومي بعزتي، ثم يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟ حتى تكون صلاة الفجر، ولذلك يقول الله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]) (2)
قال آخر: وقد علق عليها شيخنا أبو يعلى بقوله: (وهذا يسقط التأويل، لأنه قال: (ينزل في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا وملائكته)، فأثبت نزول ذاته ونزول ملائكته فإن قيل: يحتمل قوله: (ينزل وملائكته) معناه ينزل بملائكته قيل: هذا غلط لأن حقيقة الواو للعطف والجمع، ولأنه قال في الخبر: (ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟) وهذا القول لا يكون لملك الثالث: أنه إن جاز تأويل هذا على نزول ملائكته، جاز تأويل قوله: (ترون ربكم على رؤية ملائكته) (3)
__________
(1) إبطال التأويلات (ص 259)
(2) إبطال التأويلات (ص 264)
(3) إبطال التأويلات (ص 264)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/368)
قال آخر: وذكر جوابا آخر لذلك، فقال: (وجواب آخر جيد وهو ما رواه إبراهيم بن الجنيد الختلي في كتاب العظمة بإسناده، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله جل اسمه إذا أراد أن ينزل نزل بذاته) فإن قيل: فقد روي بضم الياء (ينزل الله) وإذا كان كذلك، صح التأويل بأنه ينزل من أفعاله التي هي ترغيب لأهل الخير واستعطاف لأهل العطف قيل: هذا غلط لأنه لا يحفظ هذا عن أحد من أصحاب الحديث أنه روى ذلك بالضم فلا يجوز دعوى ذلك، والذي يبين بطلان ذلك قوله: (ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من داع فأجيبه؟) وهذه صفة تختص بها الذات دون الأفعال، وما هذه الزيادة ألا تحريف المبطلين لأخبار الصفات فإن قيل: يحمل قوله: (ثم يعلوا) المراد به ملائكته قيل: هذا غلط لأنه قال في الخبر: (ثم يعلوا على كرسيه) وليس هذه صفة للملائكة لأن الكرسي مضاف إليه، وكذلك قوله: (ثم يرتفع) لا يصح حمله على الملائكة لأن هاء الكناية ترجع إلى المذكور) (1)
قال آخر: وبناء على كثرة المواطن التي ورد فيها نزول الله تعالى من على عرشه، اهتم علماؤنا بالبحث في المسألة التي يطلق عليها [خلو العرش]، وقد اختلفوا في حل هذه المشكلة، وأشهر الأقوال فيها، أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، وقد انتصر لهذا القول شيخنا ابن تيمية، وذكر أنه قول جمهور أهل الحديث (2)، قال: (ونقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد، وعن إسحاق بن راهويه، وحماد بن زيد، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم) (3).
قال آخر: وقال القاضي أبو يعلى: (وقد قال أحمد في رسالته إلى مسدد: إن الله عز وجل ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا ولا يخلو من العرش. فقد صرح أحمد بالقول إن
__________
(1) إبطال التأويلات (ص 265)
(2) شرح حديث النزول (ص 201)، ومنهاج السنة (2/ 638)
(3) شرح حديث النزول (ص 149)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/369)
العرش لا يخلو منه) (1).
قال آخر: وسأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: (يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء) (2).
قال آخر: وقال إسحاق بن راهويه: (دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ قلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال: تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا. قلت: نعم، رواه الثقات الذين يروون الأحكام. قال: أينزل ويدع عرشه؟ قال: فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه؟ قال: نعم. قلت: ولم تتكلم في هذا؟) (3).
قال آخر: وقد قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذا: (وهذه والتي قبلها حكايتان صحيحتان رواتهما ثقات، فحماد بن زيد يقول: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف يشاء، فأثبت قربه مع كونه فوق عرشه، وعبد الله بن طاهر وهو من خيار من ولي الأمر بخراسان كان يعرف أن الله فوق العرش، وأشكل عليه أنه ينزل، لتوهمه أن ذلك يقتضي أن يخلو منه العرش، فأقره الإمام إسحاق على أنه فوق العرش، وقال له: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ فقال له الأمير: نعم. فقال له إسحاق: لم تتكلم في هذا؟ يقول: فإذا كان قادراً على ذلك لم يلزم من نزوله خلو العرش منه، فلا يجوز أن يعترض على النزول بأنه يلزم منه خلو العرش، وكان هذا أهون من اعتراض من يقول: ليس فوق العرش شيء، فينكر هذا وهذا) (4)
__________
(1) إبطال التأويلات (1/ 261)
(2) ابن بطة في الإبانة، كما في المختار من الإبانة (ص 203 ـ 204، برقم 15)
(3) اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 452) وأورده ابن تيمية في شرح حديث النزول (ص 152) وصحح إسناده.
(4) شرح حديث النزول (ص 153)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/370)
قال آخر: وسئل شيخنا محمد العثيمين هذا السؤال: (النزول عند أهل السنة معناه: أنه ينزل سبحانه بنفسه إلى السماء الدنيا نزولا حقيقيا يليق بجلاله ولا يعلم كيفيته إلا هو، ولكن هل يستلزم نزول الله عز وجل خلو العرش منه أو لا؟)، فأجاب بقوله: (نقول أصل هذا السؤال تنطع وإيراده غير مشكور عليه مورده، لأننا نسأل هل أنت أحرص من الصحابة على فهم صفات الله؟ إن قال: نعم، فقد كذب، وإن قال: لا، قلنا فليسعك ما وسعهم، فهم ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: يارسول الله إذا نزل هل يخلو منه العرش؟ وما لك ولهذا السؤال، قل ينزل واسكت يخلو منه العرش أو ما يخلو، هذا ليس إليك، أنت مأمور بأن تصدق الخبر، لا سيما ما يتعلق بذات الله وصفاته لأنه أمر فوق العقول) (1)
قال آخر: وهكذا ردوا على الإشكال الخاص باختلاف ثلث الليل من بلدة إلى أخرى، وقد قال شيخنا ابن باز في ذلك عند شرحه لحديث النزول: (قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإثبات النزول .. وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة النزول على الوجه الذي يليق بالله سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته .. والنزول في كل بلاد بحسبها لأن نزول الله سبحانه لا يشبه نزول خلقه وهو سبحانه يوصف بالنزول في الثلث الأخير من الليل في جميع أنحاء العالم على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه .. وأول الثلث وآخره يعرف في كل زمان بحسبه فإذا كان الليل تسع ساعات كان أول وقت النزول أول الساعة السابعة إلى طلوع الفجر، وإذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة كان أول الثلث الأخير أول الساعة التاسعة إلى طلوع الفجر وهكذا بحسب طول الليل وقصره في كل مكان) (2)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة النزول والهبوط لله تعالى، توجه
__________
(1) مجموع فتاوى الشيخ محمد العثيمين 1/ 204 ـ 205.
(2) مجموع فتاوى ومقالات عبد العزيز بن باز، ج 4، ص 420.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/371)
القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى نزولا وهبوطا حقيقيا .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على تنزيه الله تعالى عن الحركة والتغير ومقتضياتها، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي الحركة والتغير عن الله تعالى.
قال آخر: ذلك أن الله تعالى أعظم من أن يحتاج إلى التنقل أو الحركة .. لأنه لا يحتاجهما إلا القاصر الضعيف البعيد الذي لا تتحقق مطالبه إلا بالانتقال والحركة .. أما القوي القادر القريب، فإنه يحقق مطالبه من غير حركة ولا انتقال.
قال آخر: بالإضافة إلى أن ما ذكروه يستلزم استلزامات تناقض كل ما يذكرونه في الصفات الأخرى، بل تهدمها هدما.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك أنه من المعروف أن الليل والنهار وأجزاءهما كالنصف والثلث يختلف باختلاف البلدان، فإن قالوا: إن الله ينزل بالنسبة لبلد واحدة كمكة فقط، فمن أين هذا التخصيص ليس عندهم دليل .. وإن قالوا: إنه بالنسبة لكل الدنيا فليل بلد نهار بلد آخر ونصف الليل في بلد يكون نصف النهار في بلد آخر، فيلزم على معتقدهم أن يكون الله نازلا وطالعا كل ساعة من ساعات الليل والنهار، وهذا ينافي قولهم إنه مختص بالعرش.
قال آخر (2): ومنها أنه بناء على قولهم أن العرش أكبر العوالم بحيث أن الكرسي بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة، وأن السموات بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 165)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 165)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/372)
من الأرض، وعلى هذا تكون السماء الدنيا بالنسبة للعرش أقل من خردلة ملقاة في فلاة، فكيف تسع الله الذي هو في معتقدهم بقدر العرش أو أوسع من العرش، فإن قالوا هو ينزل إلى السماء الدنيا وهي على حالها وهو على حاله فهذا محال، وإن قالوا: إن الله يصير أقل من قدر خردلة حتى تسعه السماء الدنيا فهذا أيضا محال، وإن قالوا: إن الكرسي والسموات تكون بقدر العرش أو أوسع منه، فمن أين الدليل على ذلك من الكتاب والسنة؟
قال آخر (1): ومنها أنه بناء على الروايات الكثيرة التي يصححونها فإن السموات السبعة ممتلئة بالملائكة بحيث أنه لا يوجد فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا) (2) فمن أين يكون في السماء الدنيا متسع لذات الله الذي هو على زعمهم بقدر العرش أو أوسع منه، فعلى كل تقدير يلزمهم أن يجعلوا، الله متغيرا والتغير على الله محال.
قال آخر: والمشكلة التي تنجر عن هذا القول أخطر من المشكلة التي يريدون حلها .. ذلك أنه بناء على قولهم بالحيز والحدود والجسمية لله، فإن ذلك يقتضي أمرين: إما أن ينزل الله وهو على عرشه إلى السماء الدنيا أو غيرها من المحال، وذلك محال .. لأن العرش أكبر بكثير من السماء الدنيا .. وإما أن تصعد السماء الدنيا إليه، وذلك أيضا محال، ولا يتناسب مع الحديث الذي يخبر بأن الله ينزل بذاته.
قال آخر: ولهذا اتفق أئمتنا على تنزيه الله تعالى من كل تلك المستلزمات، وحذروا من الوقوع في التجسيم والتشبيه بسببها، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 165)
(2) الترمذي (2313) وابن ماجة (4190) وأحمد 5/ 173.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/373)
هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره!؟) (1)
قال آخر: أما الأحاديث التي رووها في ذلك؛ فإنها لم ترو بصيغ متواترة حتى يتم قبولها في هذا الأمر الخطير .. بالإضافة إلى أنها رويت بالمعنى .. بالإضافة إلى أن الكثير منها من المدسوس والمدلس من اليهود والمجسمة، كما ذكرنا لكم ذلك سابقا، وذكرنا حججه وبراهينه.
قال آخر: وقد روي عن الإمام الرضا أنه سئل: يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة جمعة إلى سماء الدنيا؟)، فقال: (لعن الله المحرفين للكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك إنما قال إن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى سماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادى هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل ويا طالب الشر اقصر .. فلا يزال ينادي بهذا حتى طلع الفجر فإذا طلع الفجر عاد إلى السماء حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
قال آخر: وهكذا فسر الإمام الصادق النزول بنزول الأمر، فقال: (إن الرب تعالى ينزل أمره كل ليلة جمعة إلى سماء الدنيا من أول الليل، وفي كل ليلة في الثلث الأخير، وأمامه ملكان، فينادي: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من سائل فيعطى
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 421 الحديث 1240.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/374)
سؤله؟ اللهم اعط كل منفق خلفاً، وكل ممسك تلفاً، إلى أن يطلع الفجر فإذا طلع الفجر عاد أمر الرب إلى عرشه يقسم الأرزاق بين العباد) (1)
قال آخر: وبناء على هذا؛ فإن أول أساس للتعامل مع أمثال هذه الأحاديث هو التحقيق في ثبوتها وثبوت ألفاظها.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أن حديث النزول روي بروايات أخرى غير التي يحرصون عليها، فقد قال الحافظ أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي في كتابه [مشكل الحديث وبيانه]: (وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤيد هذا الباب وهو بضم الياء من ينزل، وذكر أنه ضبطه عمن سمعه من الثقات الضابطين، وإذا كان ذلك محفوظا مضبوطا كما قال فوجهه ظاهر) (2)
قال آخر: وفي رواية للنسائي: (إن لله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا ينادي يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى) (3)
قال آخر: ونظير هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإن معناه: (فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا)، لأنه من المعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقرأ المعلم على التلميذ.
قال آخر: وهكذا ذكر ابن الجوزي الحديث الذي يرويه المجسمة، وهو ما يروونه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله عزوجل ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل، فيفتح الذكر في الساعة الاولى، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى
__________
(1) تفسير القمي: 2: 204.
(2) مشكل الحديث وبيانه (ص 205)
(3) النسائي في اليوم والليلة (رقم 482)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/375)
جنة عدن وهي داره التي لم يسكنها غيره، وهي مسكنه، ثم يقول طوبى لمن يسكنك ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى السماء الدنيا بروحه وملائكته فيقول: قومي بعزتي) (1)، ثم علق عليه بقوله: (هذا الحديث يرويه زيادة الأنصاري، قال البخاري، هو منكر الحديث وذكر له أهل الحديث هذا الحديث وقال أبو حاتم بن حبان يروي المناكير عن المشاهير، واستحق الترك، ونقول على تقدير الصحة إنها مضافة إليه كما أضيف البيت إليه يقال: هذا بيته وهذا مسكنه، وإنما قلنا هذا لأن السكنى مستحيلة في حقه) (2)
قال آخر: وهكذا حكم ابن جماعة على الكثير من الأحاديث التي يحتج بها المجسمة، ومنها ما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا كان يوم الجمعة ينزل الله تعالى بين الآذان والإقامة عليه رداء مكتوب عليه إنني أنا الله لا إله إلا أنا يقف في قبلة كل مصل مقبلا عليه إلى أن يفرغ من صلاته لا يسأل الله عبد تلك الساعة شيئا إلا أعطاه إياه فإذا سلم إلامام في صلاته صعد إلى السماء)، وعلق عليه بقوله: (رواه ابن عساكر من حديث أنس من طريق أبي علي الأهوازي وهو المتهم به) (3)
قال آخر: ومثله (رأيت ربي بمنى يوم النفر على جمل أورق عليه جبة صوف أمام الناس)، وعلق عليه بقوله: (رواه ابن عساكر من حديث لقيط بن عامر من طريق الأهوازي أيضا وقال فيه وفي الذي قبله كتبهما الخطيب عن الأهوازي تعجبا من نكارتهما وهما باطلان) (4)
قال آخر: ومثله (إذا أراد الله أن ينزل إلى السماء الدنيا ينزل عن عرشه بذاته)، وعلق
__________
(1) رواه البزار (4/ 83 ب 3253)، وذكره الذهبي في الميزان (2/ 98) في ترجمة زيادة بن محمد، وفي سنده زيادة بن محمد الانصاري قال عنه البخاري والنسائي: منكر الحديث، دفع شبه التشبيه لابن الجوزي، تحقيق حسن السقاف (ص 228)
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 228.
(3) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 29)
(4) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 29)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/376)
عليه بقوله: (رواه أبو نعيم في التاريخ من حديث أنس عن طريق محمد بن عيسى الطرسوسي عن نعيم بن حماد عن جرير عن الليث بن أبي سليم عن بشر عن أنس ونعيم يأتي بالطامات فلا يدري البلاء منه أو من الطرسوسي قلت قال الذهبي في كتاب العرش وبشر لا يدري من هو ولعل هذا موضوع) (1)
قال آخر: وبعد التحقيق في صحة الأحاديث وألفاظها، يمكن تأويل ما قد تظن صحته بما ينسجم مع تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله وعظمته، ووفقا لما تقتضيه اللغة العربية.
قال آخر: وقد قال مولي محمد صالح المازندراني في ذلك: (وإذ قد ثبت بالعقل والنقل عندنا وعند أكثر العامة استحالة الجسمية والحركة والانتقال عنه تعالى وجب التأويل في هذه الأخبار على تقدير صحتها وعدم تحريفها)
قال آخر: ثم ذكر الأصول التي يقوم عليها التأويل، فقال: (وقد اختلف فيه، فقيل: المضاف محذوف أي: فإن ملك ربك ينزل .. وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: فإن ربك ينزل ملكا من الإنزال .. وقيل: هو استعارة وتمثيل لتقريبه للداعين وإجابته دعاءهم وعبر بذلك لقصد إفهامهم القرب .. وقيل: النزول بمعنى الإقبال على الشيء، فهو كناية عن إقباله تعالى على المؤمنين وفعله فعلا يظهر به لطفه بهم) (2)
قال آخر: ومن الأمثلة على تلك التأويلات ما ذكره ابن الجوزي عند ذكره لأحاديث النزول، حيث قال: (روى حديث النزول عشرون صحابيا، وقد سبق القول أنه يستحيل على الله عزوجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين، أحدهما: المتأول له بمعنى أنه يقرب رحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:
__________
(1) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 29)
(2) شرح أصول الكافي ـ ج 4 ص 71.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/377)
25]، وإن كان معدنه بالأرض، وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، ومن لم يعرف كيف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيل هذه الجمل .. والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عالي، وهو مكان الساكن، وجسم سافل، وجسم ينتقل من علو إلى أسفل، وهذا لا يجوز على الله تعالى) (1)
قال آخر: ثم نقل كلام المجسمة في هذا، فقال: (قال ابن حامد: هو على العرش بذاته، مماس له، وينزل من مكانه الذي هو فيه فيزول وينتقل، قلت: وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله تعالى .. وقال القاضي أبو يعلى: النزول صفة ذاتية، ولا نقول نزوله انتقال، قلت: وهذه مغالطة، ومنهم من قال: (يتحرك إذا نزل) وما يدري أن الحركة لا تجوز على الخالق، وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه، ولو كان النزول صفة لذاته، لكانت صفاته كل ليلة تتجدد وصفاته قديمة كذاته) (2)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة النزول والهبوط لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الرابعة .. فحدثونا عن الصفة الخامسة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الخامسة هي التردد .. وقد ورد ذكرها في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه،
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 48.
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 49.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/378)
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته) (1)
قال القاضي: فما تفسيركم لهذا الحديث الشريف حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذا الحديث بحسب ظاهره الواضح؛ ولذلك نعتقد أن التردد صفة من صفات الله تعالى، وهو تردد يليق بجلال الله تعالى وعظمته .. من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: وقد أجاب شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية على الإشكالات التي ذكرها المعطلة حول ذلك الحديث، فقال: (هذا حديث شريف، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، فإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة التردد، والتحقيق: أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة، ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة) (2)
قال آخر: ثم بين الفرق بين تردد الله وتردد خلقه، فقال: (لكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، فإنه لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الله ليس كمثله شيء، ثم هذا باطل على إطلاقه؛ فإن الواحد
__________
(1) البخاري (6502)
(2) مجموع الفتاوى 18/ 129.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/379)
يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه، ويكره من وجه .. وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه؛ بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنّة بالمكاره)، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]) (1)
قال آخر: وبناء على هذه المقدمة المهمة، فسر الحديث بقوله: (ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في الحديث، فإنه قال: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له، يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل، التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة، بحيث يحب ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكره محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده محبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه، والله ـ تعالى ـ قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولابد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته) (2)
قال آخر: وقال في محل آخر: (فبين تعالى أنه يتردد؛ لأن التردد تعارض إرادتين، فهو
__________
(1) مجموع الفتاوى 18/ 130.
(2) مجموع الفتاوى 18/ 129 ـ 131.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/380)
تعالى يحب ما يحب عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو تعالى قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت، فسمى ذلك ترددا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك) (1)
قال آخر: ومما يدل على هذا من الكتب الإلهية ما ورد في سفر التكوين في [الإصحاح 6: العدد 5 ـ 8]: (ورأى الرّبّ أنّ شرّ الإنسان قد كثر في الأرض، وأنّ كلّ تصوّر فكر قلبه يتّسم دائما بالإثم، فملأ قلبه الأسف والحزن؛ لأنّه خلق الإنسان، وقال الرّبّ: أمحو الإنسان الّذي خلقته عن وجه الأرض مع سائر النّاس والحيوانات والزّواحف وطيور السّماء؛ لأنّي حزنت أنّي خلقته)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة التردد لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن الله تعالى يتردد .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. ونحن قد ذكرنا لكم سابقا أننا لا نقبل من الحديث في هذه المسائل الخطيرة إلا ما صح وتواتر ووافق القرآن الكريم ..
قال آخر: والجزء الذي استدلوا به من الحديث ليس فيه أي شيء من ذلك، بل هو يدل على أن راويه ومفسره حشوي يقبل كل شيء من دون تمحيص ولا تحقيق.
قال آخر: ولهذا اكتفى أكثر علمائنا بالرد على تلك الزيادة من جهة ثبوتها، وكون ما ورد فيه من إضافة التردد لله تعالى لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هي من زيادة الرواة (2).
__________
(1) المصدر السابق 10/ 58 ـ 59.
(2) ومن الأمثلة على ما قيل في عدم ثبوت تلك الزيادة التي استدلوا بها، قول الحافظ الذهبي في الميزان (1/ 641): (ومما انفرد به ما رواه البخاري في صحيحه ـ فذكر هذا الحديث ـ ثم قال عقبه: (فهذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولانه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرد هذا المتن إلا بهذا الاسناد ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد. وليس هو في مسند أحمد جزما)
وقد علق عليه السقاف بقوله: (بل هو في المسند عن السيدة عائشة مرفوعا، وإنني أعجب من الحافظ كيف يجزم بنفي وجوده من المسند (6/ 256)!؟ ولم ينبه في الفتح بعد ذكر رواية أبي هريرة والكلام عليها أنه في مسند أحمد من حديث السيدة عائشة وانما عزاه للزهد لاحمد وغيره من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها، لكنه عزاه في لسان الميزان (4/ 99) في ترجمة عبد الواحد بن ميمون لاحمد في المسند فالله أعلم. قلت: وعبد الواحد هذا متروك، والخلاصة أن حديث: (من عادى لي وليا) صحيح إلا أن لفظ [التردد] الذي فيه لا يثبت لاحتمال أن يكون من تصرف الرواة وخصوصا أن فيه ضعفاء والله تعالى اعلم. انظر الفتح (11/ 341 ـ 342) دفع شبه التشبيه، ص 265.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/381)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الله تعالى أخبر في القرآن الكريم عن اختبار إيمان اليهود الذين زعموا الولاية لأنفسهم بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]، ثم أخبر أن إيمانهم الهزيل المملوء بالتحريفات لن يسمح لهم بذلك؛ ذلك أنهم في قرارة نفوسهم لا يؤمنون إلا بتلك الحياة البسيطة التي يعيشونها، قال تعالى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 7]
قال آخر: وأخبر عن سر ذلك في آية أخرى، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94]، أي أن الموت لا يسعد به إلا من يعرف الدار الآخرة، وما فيها من الحياة الحقيقية، أما من لا يعرفها؛ فيستحيل أن يراه إلا بتلك الصورة المملوءة بالتشاؤم.
قال آخر: ولهذا أخبر الله تعالى أن هؤلاء اليهود، ومن هو مثلهم، يفضلون أي حياة مهما كانت على الموت، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 95، 96]
قال آخر: ولذلك فإن المؤمنين الصالحين يرون الموت فرصة للقاء الله، ولا يستاءون منه أبدا، وكيف يستاءون منه، وهو هبة من الله تعالى لعباده، وليس غولا أو وحشا يجتث سعادتهم.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/382)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة التردد لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الخامسة .. فحدثونا عن الصفة السادسة.
قال كبير الشيوخ: الصفة السادسة هي الضحك .. وقد ورد ذكرها في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنّة، فقالوا: كيف يا رسول الله؛؟ قال: يقاتل هذا في سبيل الله ـ عزّ وجلّ ـ فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله ـ عزّ وجلّ ـ فيستشهد) (1)
قال القاضي: فما تفسيركم لهذا الحديث حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ (2): نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الضحك صفة فعل له تعالى متعلقة بمشيئته؛ إذا شاء ضحك وإذا شاء لم يضحك، وهي صفة تليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه لأحد من خلقه، أو تمثيل، أو تكييف، أو تعطيل، أو إلحاد فيها، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة خلافا لأهل البدعة.
قال آخر: وقد قال إمام أئمتنا ابن خزيمة في تقرير هذه الصفة، والتحذير من تعطيلها: (باب ذكر إثبات ضحك ربنا عزّ وجلّ، بلا صفة تصف ضحكه جل ثناؤه، ولا يشبّه ضحكه بضحك المخلوقين وضحكهم كذلك؛ بل نؤمن بأنه يضحك كما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسكت عن صفة ضحكه جل وعلا، إذ الله عزّ وجلّ استأثر بصفة ضحكه لم يطلعنا على ذلك، فنحن قائلون بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مصدقون بذلك بقلوبنا، منصتون عما لم يبين
__________
(1) البخاري (2826)، مسلم (1890)
(2) موسوعة محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 3/ 124.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/383)
لنا مما استأثر الله بعلمه) (1)
قال آخر: وقال شيخنا محمد بن الحسين الآجري في باب [الإيمان بأن الله عزّ وجلّ يضحك]: (اعلموا ـ وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل ـ أن أهل الحق يصفون الله عزّ وجلّ وصف به نفسه عزّ وجلّ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما وصفه به الصحابة، وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به: أنّ الله عز وجل يضحك، كذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن صحابته، فلا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق) (2)
قال آخر: ومما يدل على هذه الصفة بالإضافة إلى الحديث السابق، ما روي عن ابن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (آخر من يدخل الجنّة رجلٌ فهو يمشي مرّة ويكبو مرّة وتسفعه النّار مرّة .. فيقول الله: يا ابن آدم ما يصريني منك، أيرضيك أن أعطيك الدّنيا ومثلها معها؟ قال: يا ربّ أتستهزئ منّي، وأنت ربّ العالمين)، فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألونّي ممّ أضحك؟ فقالوا: ممّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا ممّ تضحك يا رسول الله؟ قال: (من ضحك ربّ العالمين حين قال: أتستهزئ منّي وأنت ربّ العالمين؟ فتقول: إنّي لا أستهزئ منك، ولكنّي على ما أشاء قادرٌ) (3)
قال آخر: وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية الأدلة العقلية على هذه الصفة، أثناء رده على الإشكالات التي وضعها المعطلة، فقال: (وقول القائل: إن الضحك خفة روح ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه، ثم قول القائل: خفة الروح إن أراد به وصفا مذموما فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة
__________
(1) التوحيد 2/ 563.
(2) الشريعة 268.
(3) مسلم (187)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/384)
مدح وكمال، وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه، والآخر لا يضحك قط كان الأول أكمل من الثاني، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ينظر إليكم الرب قنطين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)، فقال له أبو رزين العقيلى: يا رسول الله أو يضحك الرب؟ قال: نعم، قال: (لن نعدم من رب يضحك خيرا) .. فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلا على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه يوما عبوسا قمطريرا، وقد روي أن الملائكة قالت لآدم: حياك الله وبياك أي أضحكك، والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزما لشيء من النقص فالله منزه عن ذلك، وذلك الأكثر مختص لا عام فليس حقيق الضحك مطلقا مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن يكون الرب موجدا، وأن لا تكون له ذات) (1)
قال آخر: ومما يدل على هذا من الكتب الإلهية ما ورد في سفر المزامير [2: 4]: (السّاكن في السّماوات يضحك، الرّبّ يستهزئ بهم)، وفي المزامير [59: 8]: (أمّا أنت يا ربّ فتضحك بهم، تستهزئ بجميع الأمم)، وفي المزامير [37: 13]: (الرّبّ يضحك به لأنّه رأى أنّ يومه آت)، وفي الأمثال [1: 26]: (فأنا أيضا أضحك عند بليّتكم، أشمت عند مجيء خوفكم)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الضحك لله تعالى، توجه القاضي
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 6/ 121، 122.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/385)
لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن لله تعالى يضحك حقيقة .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟ .. وقد ذكرنا لكم سابقا الكثير من الأدلة على نفي التغير عن الله تعالى ومقتضياته، وهي وحدها كافية للدلالة على نفي ما يذكرونه عن الله تعالى.
قال أحد التلاميذ: إن كل ما ذكروه أحاديث آحاد، وقد ذكرنا لكم سابقا أن أكثر الأحاديث رويت بالمعنى، ولذلك تعددت ألفاظها، ولا يمكن الاعتماد في العقائد على أمثال هذه الأحاديث.
قال آخر: ومع ذلك، فقد قام علماؤنا بتأويلها بحسب ما يقتضيه تنزيه الله تعالى، ومن الأمثلة على ذلك تأويل ابن الجوزي للضحك المضاف لله تعالى بقوله: (اعلم أن الضحك له معان ترجع إلى معنى البيان والظهور، وكل من أبدى عن أمر كان مستورا قيل قد ضحك .. يقال: ضحكت الأرض بالنبات إذا ظهر ما فيها، وانفتق عن زهره، كما يقال: بكت السماء .. قال الشاعر: كل يوم بالأقحوان جديد تضحك الأرض من بكاء السماء) (1)
قال آخر: ثم ذكر استحالة الضحك الحقيقي على الله، فقال: (وكذلك الضحك الذي يعتري البشر إنما هو انفتاح الفم عند الانسان، وهذا يستحيل على الله تعالى فوجب حمله على إبداء كرم الله، وإبانة فضله .. ومعنى: ضحكت لضحك ربي: أبديت عن أسناني بفتح فمي، لإظهار ربي فضله وكرمه ذكره) (2)
قال آخر: ثم رد على ما رواه الخلال في كتاب السنة، وقوله: (وقال المروزي: قلت
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 44.
(2) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 44.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/386)
لابي عبد الله ـ أحمد بن جنبل ـ: ما تقول في هذا الحديث، قال هذا يشفع .. وعلى تقدير الصحة يحتمل أمرين: أحدها: أن يكون ذلك راجعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كأنه ضحك حين أخبر بضحك الرب، حتى بدت لهواته وأضراسه صلى الله عليه وآله وسلم، كما روي أنه ضحك حتى بدت لهواته وأضراسه، وهذا هو الصحيح لو ثبت الحديث، والثاني: أن يكون تجوزا عن كثرة الكرم وسعة الرضا، كما جوز بقوله: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) قال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع الأخذ بظاهر الاحاديث في إمرارها على ظواهرها من غير تأويل)، ثم علق عليه بقوله: (واعجبا قد أثبت لله صفات بأحاديث آحاد وألفاظ لا تصح، وقد أثبت الأضراس، فما عنده من الإسلام خبر) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة الضحك لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة السادسة .. فحدثونا عن الصفة السابعة.
قال كبير الشيوخ: الصفة السابعة هي العجب .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5]، وقوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]، فقد قرئت بضم التاء وفتحها (2).
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن العجب صفة من صفات الله عز وجل الفعلية الخبرية الثابتة له بالكتاب
__________
(1) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص 45.
(2) التيسير في القراءات السبع 147، النشر في القراءات العشر 2/ 356.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/387)
والسنة.
قال آخر: وقد قال أبو يعلى الفراء بعد أن ذكر ثلاثة أحاديث في إثبات هذه الصفة: (اعلم أنّ الكلام في هذا الحديث كالكلام في الذي قبله، وأنه لا يمتنع إطلاق ذلك عليه وحمله على ظاهره؛ إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه؛ لأنا لا نثبت عجبا هو تعظيم لأمر دهمه استعظمه لم يكن عالما به؛ لأنه مما لا يليق بصفاته؛ بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا غيرها من صفاته) (1)
قال آخر: وقال قوّام السّنة الأصبهاني: (وقال قوم: لا يوصف الله بأنه يعجب؛ لأن العجب ممّن يعلم ما لم يكن يعلم، واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث، وبقراءة أهل الكوفة: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ}؛ على أنه إخبار من الله عزّ وجلّ عن نفسه) (2)
قال آخر: وقال ابن أبي عاصم في (السّنة): (باب: في تعجّب ربنا من بعض ما يصنع عباده مما يتقرب به إليه)، ثم سرد جملة من الأحاديث التي تثبت هذه الصفة لله عزّ وجلّ (3).
قال آخر: وقال ابن جرير في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]: (اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}؛ بضم التاء من {عَجِبْتَ}؛ بمعنى: بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا وتكذيبهم تنزيلي وهم يسخرون، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة {عَجِبْتَ}؛ بفتح التاء؛ بمعنى: بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن .. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ؛ فمصيب .. فإن قال قائل: وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنييهما!؟ قيل: إنهما وإن
__________
(1) إبطال التأويلات ص 245.
(2) الحجة 2/ 457.
(3) السنة 1/ 249، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 4/ 181، 6/ 123 و124.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/388)
اختلف معنياهما؛ فكلّ واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسخر المشركون مما قالوه) (1)
قال آخر: وقال ابن خالويه: (قوله تعالى {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]، يقرأ بضم التاء وفتحها، فالحجة لمن ضم أنه من إخبار الله تعالى عن نفسه، ودليله قوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجب ربكم من آلكم وقنوطكم)، فالعجب من الله عزّ وجلّ إنكار لأفعالهم من إنكارهم البعث، وسخرياتهم من القرآن، وازدرائهم بالرسول جرأة على الله وتمردا وعدوانا وتكبرا فهذا العجب من الله عزّ وجلّ، والفرق بينه وبين عجب المخلوقين أن المخلوق لا يعجب إلا عند نظره إلى ما لم يكن في علمه، ولا جرت العادة بمثله فبهره ما رأى من ذلك فيتعجب من ذلك، وقد جاء في القرآن ما يقارب معنى ذلك كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، وكقوله {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وكقوله {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فالمكر من الله والاستهزاء والحبة على غير ما هي من الخلق وبخلافها، فكذلك العجب منه بخلاف ما هو من المخلوقين؛ لأنّها منه على طريق المجازاة بأفعالهم وإتيان اللفظ مردودا على اللفظ، والحجة لمن فتح أنه جعل التاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: بل عجبت يا محمد من وحي الله إليك وهم يسخرون) (2)
قال آخر: وقبلهم جميعا روي عن أبي وائل شقيق بن سلمة؛ قال: (قرأ عبد الله بن مسعود: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]؛ قال شريح: إنّ الله لا يعجب من شيء، إنما يعجب من لا يعلم .. قال الأعمش: فذكرت لإبراهيم، فقال: إنّ شريحا كان يعجبه رأيه،
__________
(1) جامع البيان في تأويل القرآن 23/ 43: 44.
(2) الحجة في القراءات السبع 194: 195.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/389)
إنّ عبد الله كان أعلم من شريح، وكان عبد الله يقرأها: (بل عجبتُ) (1)
قال آخر: ومما يؤكد هذه الصفة من الأحاديث ما ورد في حديث أبي هريرة: (لقد عجب الله عزّ وجلّ (أو: ضحك) من فلان وفلانة .. قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) (2)
قال آخر: ومثله ما ورد في حديث أبي هريرة أيضا: (عجب الله من قوم يدخلون الجنّة في السلاسل) (3)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة العجب لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن الله تعالى يعجب .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: نحن ننزه الله تعالى عن كل ما لا يليق به .. وما استدل به شيوخنا الأفاضل لا يمكن أن يقوم حجة على إثبات هذا الوصف لله تعالى، لأنه لا يتناسب مع جلاله وعظمته.
قال آخر: وقد ذكر الرازي القراءات الواردة في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]، والتي استدل بها شيوخ شيوخنا الأفاضل، فقال: (قرأ حمزة والكسائي عجبت بضم التاء، والباقون بفتحها .. قال الواحدي: والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش وقراءة أهل الكوفة واختيار أبي عبيدة) (4)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 430، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات ص 587.
(2) رواه البخاري (4889)، ومسلم (2054)
(3) رواه البخاري (3010)
(4) مفاتيح الغيب (26/ 323)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/390)
قال آخر: ثم ذكر أدلة من رجح قراءتها بالفتح، ومنها (أن القراءة بالضم تدل على إسناد العجب إلى الله تعالى وذلك محال، لأن التعجب حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء ومعلوم أن الجهل على الله محال) (1)
قال آخر: ومنها (أن الله تعالى أضاف التعجب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية أخرى في هذه المسألة فقال: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا} [الرعد: 5]) (2)
قال آخر: ومنها (أنه تعالى قال: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] والظاهر أنهم إنما سخروا لأجل ذلك التعجب، فلما سخروا منه وجب أن يكون ذلك التعجب صادرا منه) (3)
قال آخر: ثم ذكر تأويل من قرؤوا بضم التاء، وهو (أن القراءة بالضم لا تدل على إسناد التعجب إلى الله تعالى، وبيانه أن يكون التقدير قل يا محمد (بل عجبتُ ويسخرون)، ونظيره قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] معناه أن هؤلاء ما تقولون فيه أنتم هذا النحو من الكلام، وكذلك قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، وقال: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] وقال: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] والمكر والخداع والسخرية من الله تعالى بخلاف هذه الأحوال من العباد) (4)
قال آخر: ثم ذكر القانون المرتبط بهذا، فقال: (القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، وكذلك هاهنا من تعجب من شيء فإنه يستعظمه، فالتعجب في حق الله تعالى محمول على أنه تعالى يستعظم تلك الحالة إن كانت قبيحة، فيترتب العقاب العظيم عليه، وإن كانت حسنة فيترتب الثواب العظيم عليه) (5)
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 323)
(2) مفاتيح الغيب (26/ 323)
(3) مفاتيح الغيب (26/ 323)
(4) مفاتيح الغيب (26/ 323)
(5) مفاتيح الغيب (26/ 323)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/391)
قال آخر: ثم علق على هذا الاختلاف بقوله: (والأقرب أن يقال القراءة بالضم إن ثبتت بالتواتر وجب المصير إليها ويكون التأويل ما ذكرناه، وإن لم تثبت هذه القراءة بالتواتر كانت القراءة بفتح التاء أولى) (1)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة العجب لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة السابعة .. فحدثونا عن الصفة الثامنة.
قال كبير الشيوخ: الصفة الثامنة هي الاستهزاء والسخرية .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]
قال آخر: وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، وفيه أنه قال يخاطب الله عز وجل: (أتسخر بي؟ أو تضحك بي وأنت الملك) (2)
قال القاضي: فما تفسيركم لهذا حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الاستهزاء والسخرية من صفات الله تعالى الفعلية.
قال آخر: ومن أقوال سلفنا الصالح في إثباتها ما ذكره ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14، 15] بعد أن ذكر الاختلاف في كونها صفة أم لا: (والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أنَّ معنى
__________
(1) مفاتيح الغيب (26/ 323)
(2) البخاري (6571)، ومسلم (186)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/392)
الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزِيء للمستَهْزَأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً، وهو بذلك من قِيِله وفعلِه به مورثه مساءة باطناً، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر .. وأما الذين زعموا أنَّ قول الله تعالى ذكره {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة؛ فنافون عن الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها، وسواء قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم، ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبرنا عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى فيما ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه؛ فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟!) (1)
قال آخر: وقال شيخنا قَوَّام السنة في إثباتها: (وتولى الذب عنهم ـ يعني: المؤمنين ـ حين قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]،فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وقال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]، وأجاب عنهم، فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب، وتولى المجازاة لهم، فقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، وقال: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]؛ لأن هاتين الصفتين إذا كانت من الله؛ لم تكن سفهاً، لأن الله حكيم، والحكيم لا يفعل السفه، بل ما يكون منه يكون صواباً وحكمة) (2)
قال آخر: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على من زعم أن هناك مجازا في
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 304)
(2) الحجة (1/ 168)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/393)
القرآن: (وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن؛ كلفظ (المكر) و (الاستهزاء) و (السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً؛ كما قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]، فكاد له كما كادت إخوته لما قاله له أبوه: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16]، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل: 50 - 51]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]، فأهل السنة والجماعة يثبتون صفة السخرية لله عَزَّ وجَلَّ كما أثبتها لنفسه، كما يثبتون صفة الكيد والمكر، ولا يخوضون في كيفيتها، ولا يشبهونها بسخرية المخلوق؛ فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة السخرية والاستهزاء لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن الله تعالى يسخر ويستهزئ .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: نحن ننزه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله، ولذلك فإن علماءنا فسروا تلك الآيات الكريمة بحسب ما تقتضيه اللغة العربية، وما يقتضيه العقل من تنزيه
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 111)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/394)
الله تعالى عن كل ما لا يليق به.
قال آخر: ومن الأمثلة على تأويلاتهم لذلك ما ذكره الرازي في الآيات المرتبطة بهذا المعنى، وتنزيه الله عن معانيها الظاهرة، فقد قال: (اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى، ونحن نعد منها صورا، فأحدها: الاستهزاء، قال تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ثم إن الاستهزاء جهل، والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] .. وثانيها: المكر، قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] .. وثالثها: الغضب قال تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6] .. ورابعها: التعجب، قال تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوبا إلى الله، والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء .. وخامسها: التكبر، قال تعالى: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] وهو صفة ذم .. وسادسها: الحياء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة: 26] والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح) (1)
قال آخر: ثم بين القانون الذي يتعامل به أصحاب المنزهة معها، فقال: (اعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول: لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية، وآثار تصدر عنها في النهاية، مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فاحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، وقس الباقي عليه) (2)
__________
(1) مفاتيح الغيب (1/ 141)
(2) مفاتيح الغيب (1/ 141)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/395)
قال آخر: وذكر في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وجوه تأويل الاستهزاء، فقال متسائلا: (كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزئ وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] والجهل على الله محال) (1)
قال آخر: ثم أجاب على هذا، بذكر التأويلات المناسبة مع تنزيه الله تعالى، ومنها (أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]) (2)
قال آخر: ومنها (أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم) (3)
قال آخر: ومنها (أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيرا بالسبب عن المسبب) (4)
قال آخر: ومنها (أن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمرا مع أن الحاصل منهم في السر خلافه) (5)، ثم ذكر أن هذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس
__________
(1) مفاتيح الغيب (2/ 309)
(2) مفاتيح الغيب (2/ 309)
(3) مفاتيح الغيب (2/ 309)
(4) مفاتيح الغيب (2/ 309)
(5) مفاتيح الغيب (2/ 309)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/396)
في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا) (1)
قال آخر: ومنها (أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقد قال ابن عباس: (إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] إلى قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] فهذا هو الاستهزاء بهم) (2)
قال آخر: ثم ذكر السر في ذكر استهزاء الله به، وعدم عطفه على ما قبله، فقال: (هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم .. وفيه أيضا أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله) (3)
قال آخر: ثم ذكر السر في مجيء فعل الاستهزاء مضارعا، فقال: (لأن {يستهزئ} يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم، كما قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] وأيضا فما كانوا يخلون في أكثر أوقاتهم من تهتك أستار وتكشف أسرار واستشعار حذر من أن تنزل عليهم آية، كما قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) مفاتيح الغيب (2/ 309)
(2) مفاتيح الغيب (2/ 310)
(3) مفاتيح الغيب (2/ 310)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/397)
مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64]) (1)
قال آخر: ومثله ابن عاشور، فقد قال في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]: (وفعل {يستهزئ} المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته، لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15]، ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا، فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما بشبه فعل المستهزئ بهم، وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم) (2)
قال آخر: ثم ذكر الوجه الثاني للاستهزاء، فقال: (ويجوز أن يكون يستهزئ بهم حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف، وهو نوع من العقاب، فيكون المضارع في يستهزئ للاستقبال، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية) (3)
قال آخر: ثم ذكر وجها آخر للاستهزاء، فقال: (ويجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب، أو نحوه من الإذلال والتحقير، والمعنى يذلهم، وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة، أو مرادا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم) (4)
قال آخر: ثم علق على هذه الوجوه بقوله: (وهذا كله ـ وإن جاز ـ فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه
__________
(1) مفاتيح الغيب (2/ 310)
(2) التحرير والتنوير (1/ 294)
(3) التحرير والتنوير (1/ 294)
(4) التحرير والتنوير (1/ 294)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/398)
المعتزلة أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في (الكشاف) وهو مبني على المتعارف بين الناس) (1)
قال آخر: ومثلهما أبو زهرة، فقد قال في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]: (المعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم، ويسخر بهم، وينتقم من قولهم يوم القيامة، وليس المراد معنى الاستهزاء، وهو الاستخفاف، فإن ذلك لَا يليق بذات الله تعالى، وإنما المراد إنزال الهوان وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين، وهم معهم، ويدهنون بالقول مع المؤمنين، ولا تخفى على أحد حال من أحوالهم، فهم أرادوا ستر كفرهم فكُشف، وأراد إظهار إيمانهم .. لأن الله تعالى يذكر أفعال المشركين، ويوردها بمثل ألفاظها، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون) (2)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة الاستهزاء والسخرية لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة الثامنة .. فحدثونا عن الصفة التاسعة.
قال كبير الشيوخ: الصفة التاسعة هي المكر .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]، وقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]
__________
(1) التحرير والتنوير (1/ 294)
(2) زهرة التفاسير (1/ 137)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/399)
قال آخر: ومثلها صفة الكيد كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وقوله: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16]
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسر هذه الآيات الكريمة بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن المكر والكيد من صفات الله تعالى، وهو مكر وكيد يليق بجلال الله تعالى وعظمته .. من غير تشبيه ولا تعطيل.
قال آخر: وقد قال شيخنا ابن القيم في تقرير هذه الصفة بعد أنَّ ذكر ما ورد في صفة (الكيد): (فنسب الله تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16]، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50]، وقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] .. وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقيل وهو أصوب: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له؛ فالأول مذموم والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده) (1)
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 170)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/400)
قال آخر: ثم قال: (وأما السيئة فهي فيعلة مما يسوء، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها؛ فهي سيئة له حسنة من الحكم العدل، وإذا عرفت ذلك فيوسف الصديق كان قد كيد غير مرة: أولها أن إخوته كادوا به كيدا حيث احتالوا به في التفريق بينه وبين أبيه، ثم إن امرأة العزيز كادته بما أظهرت أنه راودها عن نفسها ثم أودع السجن، ثم إن النسوة كادوه حتى استعاذ بالله من كيدهن فصرفه عنه، وقال له يعقوب: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] وقال الشاهد لامرأة العزيز: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]، وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] فكاد الله له أحسن كيد وألطفه وأعدله، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره، وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضيق السجن إلى فضاء الملك، ومكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وكان له في تصديق النسوة اللاتي كذبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفته، وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وأنه من الصادقين؛ فهذه عاقبة من صبر على كيد الكائد له بغيا وعدوانا) (1)
قال آخر: وقال: (وأما المكر الذي وصف به نفسه فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيء بمكره الحسن فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء؛ لأنه عدل ومجازاة وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله أوليائه فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر) (2)
قال آخر: وقال: (وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم؛ فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه، ليتوصل به إلى مراده، فمن المحمود مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 171)
(2) الفوائد ص 163.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/401)
بفعلهم وجزاء لهم بجنس عملهم، قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]) (1)
قال آخر: وقال: (فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له؛ فالأولى مذموم والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده، وأما السيئة فهي فيعلة مما يسوء ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها فهي سيئة له حسنة من الحكم العدل) (2)
قال آخر: وقال عن صفات المكر والخداع والكيد والاستهزاء ونحوها: (لا ريب أن هذه المعاني يذم بها كثيرا، فيقال: فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء، ولا تكاد تطلق على سبيل المدح بخلاف أضدادها، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازا في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيب وذم .. والصواب: أنّ معانيها تنقسم إلى محمود ومذموم، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب، فما يذم منها إنما لكونه متضمنا للكذب والظلم أو لهما جميعا، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله .. فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازا، والحق خلاف هذا الظن، وأنها منقسمة إلى محمود ومذموم، فما كان منها متضمنا للكذب والظلم فهو مذموم، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم حسن من المجازي له أن يخدعه بحق وعدل) (3)
__________
(1) إغاثة اللهفان 1/ 388.
(2) إعلام الموقعين 3/ 218.
(3) الصواعق المرسلة ص 290 ـ 293.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/402)
قال آخر: ومثله قال الشيخ عبد العزيز بن باز معقبا على الحافظ ابن حجر لما تأول صفة من صفات الله: (هذا خطأ لا يليق من الشارح، والصواب إثبات وصف الله بذلك حقيقة على الوجه اللائق به سبحانه كسائر الصفات، وهو سبحانه يجازي العامل بمثل عمله، فمن مكر؛ مكر الله به، ومن خادع؛ خادعه، وهكذا من أوعى؛ أوعى الله عليه، وهذا قول أهل السنة والجماعة؛ فالزمه؛ تفز بالنجاة والسلامة) (1)
قال آخر: وسئل الشيخ العثيمين: هل يوصف الله بالخيانة والخداع كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فأجاب بقوله: (أما الخيانة؛ فلا يوصف الله بها أبداً؛ لأنها ذم بكل حال؛ إذ إنها مكر في موضع الإئتمان، وهو مذموم؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71]، ولم يقل: فخانهم .. وأما الخداع؛ فهو كالمكر، يوصف الله تعالى به حين يكون مدحاً، ولا يوصف به على سبيل الإطلاق؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]) (2)
قال آخر: وقال ناصر الفهد: (والصحيح في هذه الصفات إثباتها على الوجه اللائق بالله تعالى، وكون الاستهزاء والمكر والكيد ونحوها صفات مذمومة من البشر لا يقتضي هذا نفيها عن الله تعالى لأمرين: الأول .. أنّ الله تعالى لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا يقاس بخلقه ـ كقياسات المعتزلة مشبهة الأفعال ـ فيجعل كل ما حسن من البشر حسن منه، وما قبح منهم قبح منه، فإن هذا لا يكون إلا للنظيرين، والله تعالى لا نظير له، فقد يحسن منه ما لا يجوز للبشر الاتصاف به كالعظمة والكبرياء، وقد يحسن من خلقه ما ينزه عنه تعالى كالعبودية .. الأمر الثاني .. إن كون الاتصاف بهذه الصفات مذموم ليس
__________
(1) الفتح: (3/ 300)
(2) المجموع الثمين: 2/ 66.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/403)
على الإطلاق، لأن هذه الصفات ونحوها لها حالتان: حالة يكون الاتصاف بها مذموما وهو إذا ما تضمن ذلك الظلم والكذب والغش ونحوها .. وحالة يكون الاتصاف بها محمودا وهو ما كان بحق وعدل ومجازاة، فمن مكر بظلم فيحسن أن يمكر به بحق وبعدل .. فمثل هذه الصفات ليست كمالا على الإطلاق، وليست نقصا على الإطلاق؛ بل فيها تفصيل، ومثلها يرد إطلاقها على الله تعالى في حالة كونها كمالا وهي التي تكون على سبيل المقابلة، لذلك فليس من أسمائه تعالى (المستهزئ) ولا (الماكر) ولا (الكائد) ونحوها؛ لأنّها ليست محمودة على الإطلاق، والله تعالى لم يصف نفسه بها إلا على وجه المقابلة والجزاء لمن فعل ذلك بغير وجه حق) (1)
قال آخر: ومن الصفات المرتبطة بهذا صفة [الْمُمَاحَلَةُ والْمِحَالُ]، ويدل عليها قوله تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13]، والتي تعني كما فسرها علماء اللغة: شديد الكيد والمَكْر (2)،
قال آخر: وقد قال الشيخ زيد بن فياض في تقرير هذه الصفة وما يجانسها من الصفات: (وفي هذه الآيات إثبات وصف الله بالمَكْر والكيد والمُمَاحلة، وهذه صفات فعلية تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته، قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13]؛ أي: الأخذ بشدة وقوة، والمِحَال والمُمَاحلة المماكرة والمغالبة) (3)
قال آخر: ومما يدل على هذه الصفة من السنة النبوية ما روي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو يقول: (رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، رب اجعلني لك
__________
(1) الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام ص 61.
(2) تهذيب اللغة: 5/ 95.
(3) الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية، ص 114.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/404)
شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري) (1)
قال آخر: ومما يدل على هذا من الكتب الإلهية ما ورد في في سفر أرمياء [9: 6]: (مسكنك في وسط المكر، بالمكر أبوا أن يعرفوني، يقول الرّبّ)، وفي الرسالة الثانية إلى تسالونكي [2/ 2: 11]: (ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضّلال، حتّى يصدّقوا الكذب)، وفي سفر حزقيال [14: 9]: (فإذا ضلّ رسول الله وتكلّم كلاما، فأنا الرّبّ قد أضللت ذلك النّبيّ)
قال آخر: وفي سفر [أشعيا 37: 10]: (هكذا تكلّمون حزقيّا ملك يهوذا قائلين: لا يخدعك إلهك الّذي أنت متوكّلٌ عليه، قائلا: لا تدفع أورشليم إلى يد ملك أشّور)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة المكر والكيد لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن من صفات الله تعالى المكر والكيد .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: نحن ننزه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله؛ والمكر والكيد لا يليقان بجلاله وعظمته .. وقد ذكر الرازي تنزه الله تعالى عن المكر بمعناه الظاهر المعروف، لأنه (عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في
__________
(1) رواه الترمذي في سننه (3551)، وأبو داود في سننه (1510)، وابن ماجة في سننه (3830))
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/405)
حقه من المتشابهات) (1)
قال آخر: ثم ذكر من وجوه تأويله أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر، كقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء .. ومنها أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر؛ فسمي بذلك.
قال آخر: لكنه ذكر أن هناك من يذكر أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل، ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع (2).
قال آخر: وهكذا ذكر في تفسير قوله تعالى: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] وجوه تأويل الكيد في حق الله تعالى .. ومنها (دفعه تعالى كيد الكفرة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقابل ذلك الكيد بنصرته وإعلاء دينه تسمية لأحد المتقابلين باسمه كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال الشاعر: (ألا لا يجهلن أحد علينا .. ، فنجهل فوق جهل الجاهلينا)، وكقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]) (3)
قال آخر: ومنها أن (كيده تعالى بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم حتى يأخذهم على غرة، في قوله تعالى {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] ثم قال: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17] أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل) (4)
قال آخر: ومثله ابن عاشور، فقد قال في تفسير قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]: (يجوز أن يكون معنى خير الماكرين: أن الإملاء والاستدراج،
__________
(1) مفاتيح الغيب (8/ 236)
(2) مفاتيح الغيب (8/ 236)
(3) مفاتيح الغيب (31/ 123)
(4) مفاتيح الغيب (31/ 123)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/406)
الذي يقدره للفجار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمكر في أنه حسن الظاهر سيء العاقبة، هو خير محض لا يترتب عليه إلا الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصا أو أشخاصا، فهو من هذه الجهة مجرد عما في المكر من القبح، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد من دلالة على سفاهة رأي، أو سوء طوية، أو جبن، أو ضعف، أو طمع، أو نحو ذلك .. أي فإن كان في المكر قبح فمكر الله خير محض، ولك على هذا الوجه أن تجعل (خير) بمعنى التفضيل وبدونه) (1)
قال آخر: ومثله الشيرازي، فقد قال في تفسير قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51]: (وكلمة (مكر) تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الاهتداء إلى أمر ما .. ولا تختص بالأمور التي تجلب الضرر، بل تستعمل بما يضر وما ينفع .. فيصح وصف المكر بالخير إذا كان لما ينفع، ووصفه بالسوء إذا كان لما يضرّ .. قال سبحانه: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]) (2)
قال آخر: ثم ذكر قول الراغب في المفردات بأن المكر صرف الغير عما يقصده، وعلق عليه بأنه (بناء على هذا إذا نسبت هذه الكلمة إلى اللّه فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل الآخرين، وإذا نسبت إلى المفسدين فهي تعني الوقوف بوجه المناهج الإصلاحية، والحيلولة دونها) (3)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول إضافة المكر والكيد
__________
(1) التحرير والتنوير (3/ 257)
(2) مفاتيح الغيب (8/ 236)
(3) الأمثل، الشيرازي، ج 12، ص 93.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/407)
لله تعالى، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الصفة التاسعة .. فحدثونا عن الصفة العاشرة.
قال كبير الشيوخ: الصفة العاشرة هي الغضب .. وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]، وقوله: {كلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13]
قال آخر: ومثلها الأسف، كما في قوله تعالى: {فَلَمّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقد قال ابن قتيبة في تفسيرها: (أي: أغضبونا، والأسف: الغضب، يُقال: أسِفت آسَف أسفاً؛ أي: غضبت) (1)
قال آخر: وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يحكي عن الله تعالى: (إنَّ رحمتي غلبت غضبي) (2)
قال آخر: وفي حديث الشفاعة الطويل: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) (3)
قال القاضي: فما تفسيركم لتلك الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حضرة شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد الشيوخ: نحن نفسرها بحسب ظاهرها الواضح؛ ولذلك نعتقد أن الأسف والغضب من صفات الله تعالى، من غير تشبيه ولا تعطيل.
__________
(1) تفسير غريب القرآن (ص 399)
(2) البخاري (3194)، ومسلم (2751)
(3) البخاري (3340)، ومسلم (194)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/408)
قال آخر: وقد قال ابن أبي العز الحنفي في إثباتها: (ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضى والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة) (1)
قال آخر: وقال قوَّام السُّنَّة الأصبهاني: (قال علماؤنا: يوصف الله بالغضب، ولا يوصف بالغيظ) (2)
قال آخر: وقد رد شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية على من أول هذه الصفة، واعتبر أن (الغضب هوغليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا حركة الدم؛ فإذا سكن غليان الدم سكن الغضب)، وقد قال في الرد عليه: (قيل: ليس الأمر كذلك، بل هذا يستعمل فيما يحدث من الأعراض في المحل شيئًا فشيئًا، وإن لم يكن هناك جسم ينتقل معه، كما تقدم من الحركة في الكيفيات والصفات؛ فإن الماء إذا سخن حدثت فيه الحرارة، وسخن الوعاء الذي فيه الماء من غير انتقال جسم حار إليه، وإذا وضع الماء المسخن في المكان البارد، برد من غير انتقال جسم بارد إليه .. وكذلك الحمى ـ حرارة أو برودة ـ تقوم بالبدن من غير أن ينتقل إلى كل جزء من البدن جسم حار أو بارد .. والغضب ـ وإن كان بعض الناس يقول: إنه غليان دم القلب ـ فهو صفة تقوم بنفس الغضبان غير غليان دم القلب؛ وإنما ذلك أثره، فإن حرارة الغضب تسخن الدم حتى يغلي؛ فإن مبدأ الغضب من النفس، هي التي تتصف به أولًا، ثم يسرى ذلك إلى الجسم، وكذلك الحزن والفرح وسائر الأحوال النفسانية، والحزن يوجب دخول الدم؛ ولهذا يصفر لون الحزين، وهو من الأحوال النفسانية، لكن الحزين يستشعر العجز عن دفع المكروه الذي أصابه وييأس من ذلك، فيغور دمه، والغضبان يستشعر قدرته
__________
(1) شرح الطحاوية (ص 463)
(2) الحجة في بيان المحجة (2/ 457)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/409)
على الدفع أو المعاقبة، فينبسط دمه) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من سرد أدلتهم على نسبة الأسف والغضب الحقيقي لله تعالى، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت أن من صفات الله تعالى الأسف والغضب .. فما تقولون؟ .. أو بالأحرى ما يقول أساتذتكم من الجهمية والمعطلة أعداء الله ورسوله؟
قال أحد التلاميذ: نحن ننزه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله؛ والغضب والأسف الحقيقيان لا يتناسبان مع جلال الله تعالى وعظمته، ولذلك فسرهما علماؤنا بما يتناسب مع جلال الله وما يتوافق مع اللغة العربية.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما فسر به ابن جماعة قوله تعالى {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81] وقوله تعالى {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93]، حيث قال: (اعلم أن الغضب فينا له مبتدأ وغاية كما تقدم في الحياء والمحبة، فمبتدأ حقيقته غليان الدم عند حرارة الغيظ لإرادة الانتقام بالمغضوب عليه أو إرادة ذلك، والرب تعالى منزه من الغليان، أعني مبتدأ الغضب، فوجب تأويله بأن المراد غايته، وهو الانتقام، أو إرادته) (2)
قال آخر: وقال الرازي: (الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، واعلم أن هذا على الله تعالى محال، لكن هاهنا قاعدة كلية، وهي أن جميع الأعراض النفسانية ـ أعني الرحمة، والفرح، والسرور، والغضب، والحياء، والغيرة، والمكر والخداع، والتكبر، والاستهزاء ـ لها أوائل، ولها غايات، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي
__________
(1) شرح حديث النزول (ص 181)
(2) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص 139)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/410)
هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الاضرار، وأيضا، والحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب) (1)
__________
(1) مفاتيح الغيب (1/ 223)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/411)
ثالثا ـ المؤولون .. وعصمة الأنبياء
في اليوم الثالث من المحاكمة، اقتادونا بعد تأديتنا صلاة الفجر مباشرة إلى القفص الذي وضعونا فيه في اليومين السابقين، وبنفس الشدة التي لم نر منهم غيرها .. وكانوا في الطريق ينبزوننا بكل ما سمعوه من شيوخهم من ألقاب، كالمعطلة والجهمية والرافضة والمجوس والقبوريين .. وغيرها من الألقاب التي يحفظها كل من ينتمي لتلك المدارس التي لا تنشر سوى الأحقاد.
بعد دخولنا القفص، وانتظارنا إلى وقت الضحى، ومن دون أن يُسمح لنا بلقمة طعام أو شربة ماء .. جاء القاضي ومعه الشيوخ، ليقوموا بما تعودوا فعله من الأكل والشرب والضحك والسخرية .. وعلى مرأى منا ومن الجماهير المحيطة.
وبعد أن أدوا طقوسهم المرتبطة بذلك، من غير حياء من الجماهير الكثيرة الحاضرة، قال القاضي: نعلن اليوم بدء الجلسة الثالثة لمحاكمة هؤلاء المرتدين الضالين المبتدعين المشركين .. وسأترك شيوخنا الأفاضل، ليذكروا لكم موضوع المحاكمة بدقة؛ فهم أكثر خبرة وعلما.
قال كبير الشيوخ: هذه الجلسة مخصصة لما ورد من تصريحات هؤلاء المعطلة القبوريين بما يرتبط بغلوهم في الأنبياء عليهم السلام، والذين أمرنا أن نتعامل معهم كبشر، لا كمقدسين .. لنستن بخطاياهم كما نستن بصلاحهم.
قال آخر: وموقفهم هذا كان سببا في إعراضهم عن آيات كثيرة من القرآن الكريم، فهموها بغير فهم السلف الصالح .. بل وصلت بهم الجرأة إلى الإعراض عن كثير من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن صحابته الذين أمرنا بالاقتداء بهم .. فهم جميعا
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/412)
كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا.
قال آخر: وقد رأينا أن نتناول في هذه الجلسة أربعة أمور كبرى، تدل على عكس ما يرونه من العصمة المطلقة للأنبياء عليهم السلام، والتي جرهم لها سوء فهمهم لمعناها.
قال آخر: أما الأمر الأول؛ فهو علاقة العصمة بالمعاصي والذنوب، وهل تشمل الصغائر والكبائر؟ .. وهل ترتبط بفترة النبوة فقط؟ .. أم ترتبط بما قبلها أيضا؟ .. وهل هي خاصة بالتبليغ الذي كُلف به النبي، أم أنها شاملة لكل أعماله؟ .. فقد رأينا أن أخطاءهم في الإجابة على هذه الأسئلة هي التي جرتهم إلى ذلك الغلو في التقديس، والذي هو في حقيقته طريق إلى الشرك والبدعة والضلالة.
قال آخر: أما الأمر الثاني؛ فهو بيان عدم تعارض عصمة النبي مع أهواء البشر العادية، فللنبي كسائر الناس غرائز وشهوات، ولديه حرص شديد على الحياة، مثله مثل سائر الناس، وذلك ما قد يجره إلى بعض الأخطاء التي يعاتب أو يعاقب عليها .. وكل ذلك لا يتعارض مع العصمة.
قال آخر: أما الأمر الثالث؛ فهو بيان عدم تعارض عصمة النبي مع الحرص الشديد على الحياة .. ذلك أن حب الحياة شيء فطري لا ينفك عنه أي إنسان.
قال آخر: أما الأمر الرابع؛ فهو بيان عدم تعارض عصمة النبي مع أنواع البلاء التي تصيب سائر الناس، كالأمراض، وتسلط السحرة والشياطين عليه، وغير ذلك .. مما وردت به الأخبار والآثار المستفيضة عن سلفنا الصالح.
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الأمر الأول؟
قال أحد الشيوخ: الأمر الأول هو حدود العصمة .. ذلك أن الخطأ في فهمها هو
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/413)
الذي جر إلى ذلك الغلو والانحراف عما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة والسلف الصالح .. ولذلك اهتم سلفنا وعلماؤنا ببيان هذا الأمر وتوضيحه، حتى لا يساء فهم النبوة التي لا تنفك عن البشرية، كما قال تعالى حاكيا عن الأنبياء عليهم السلام: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11] .. وقال حاكيا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]
قال القاضي: فما الفرق بينكم وبين هؤلاء القبوريين المعطلة الغلاة في هذا؟
قال أحد الشيوخ: الفرق الأكبر بيننا وبين الغلاة هو في هذا الجانب؛ فهم يهملون جانب البشرية في النبي، وذلك ما جعلهم يقعون في الغلو الذي وقع في مثله النصارى .. ولو أنهم تدبروا القرآن الكريم والسنة المطهرة وما روي عن السلف الصالح من الآثار وما ورد في الكتب الإلهية، لعلموا أن النبي ليس سوى إنسان عادي، وقع عليه اختيار الله في مرحلة من عمره ليكلف بأداء مهام معينة .. ولا تميز له عن الناس في هذا الجانب، كما لا تميز له عنهم في الجوانب الأخرى.
قال آخر: ولذلك؛ فإن هذا الاختيار مشيئة إلهية محضة، لا علاقة لها بدين النبي، ولا خلقه .. ولهذا يرى شيوخنا وأئمتنا أنه يجوز على النبي أن يكون قبل نبوته كافرا ومشركا، وعاصيا بمختلف أنواع المعاصي كبائرها وصغائرها.
قال آخر: وبناء على هذا وقف علماؤنا موقفا متشددا من الذين يذهبون إلى ما
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/414)
يطلقون عليه العصمة المطلقة للنبي، والتي تجعلهم يغالون فيه إلى درجة الشرك.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام .. وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول، ولم ينقل عنهم ما يوافق القول)
قال آخر: وبعد أن نقل إجماع طوائف أهل الحق على ذلك، ذكر أقوال المبتدعة، وشنع عليها، فقال: (وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة، ثم عن بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين)
قال آخر: ثم شنع على أكثرهم مبالغة في ذلك، وهم الرافضة الذين يعتبرهم شر الفرق، بل أكثر ضررا على الإسلام من اليهود والنصارى، فقد قال: (وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقا وأعظمهم قولا لذلك الرافضة فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل .. فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة) (1)
قال آخر: بل اعتبرهم من الغلاة الكفار، فقال: (وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين، فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة والاثني عشرية) (2)
قال آخر: بل إنه لم يكتف بهذا، بل راح يتهم كل من اقتنع بهذا القول بالخروج عن جنة السنة إلى نيران البدعة، وقد قال في ذلك: (ليس هو قول أحد من أصحاب أبي حنيفة
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 319)
(2) مجموع الفتاوى (4/ 319)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/415)
ولا مالك ولا الشافعي ولا المتكلمين المنتسبين إلى السنة المشهورين، ولا أئمة التفسير، ولا الحديث، ولا التصوف .. فالمكفر بمثل ذلك يستتاب فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا إلا أن يظهر منه ما يقتضي كفره وزندقته فيكون حكمه حكم أمثاله، وكذلك المفسق بمثل هذا القول يجب أن يعزر بعد إقامة الحجة عليه؛ فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام، وأما التصويب والتخطئة في ذلك فهو من كلام العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة) (1)
قال آخر: بل إنه اعتبر ما قاله المبتدعة القائلون بالعصمة المطلقة محرفين للدين، لأنهم يردون بذلك على ما ورد في الآثار الكثيرة عن السلف الصالح، والتي تذكر الذنوب التي وقع فيه الأنبياء، يقول في ذلك: (تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام)
قال آخر: وهو يشبه غلوهم في العصمة بغلو النصارى في المسيح، فيقول: (وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه) (2)
قال آخر: وهو يذكر أن قصد طوائف المبتدعة من ذلك، وخاصة الرافضة هو القدح في الصحابة الذين وقعهم منهم الخطايا والذنوب، يقول في ذلك: (وأما ما تقوله الرافضة
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 319)
(2) منهاج السنة النبوية (2/ 435)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/416)
من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير، وكذلك الأئمة، فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها، وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف .. ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر لكونهما أسلما بعد الكفر، ويدعون أن عليا لم يزل مؤمنا، وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط، وكذلك تمام الاثني عشر، وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم، ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع، ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا، وأن ذلك يجب تنزيههم عنه، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة، وإما في هذه المقدمة) (1)
قال آخر: وفي مقابل هذا، نراه يثني ثناء شديدا على تفاسير السلف الصالح، والتي تذكر الكثير من الخطايا التي وقع فيها الأنبياء، والتي اتفقت الكتب الإلهية على ذكرها، وقد قال في ذلك (من أئمة أهل التفسير، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة، كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن جرير الطبري، ومحمد بن أسلم الطوسي، وابن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، وغيرهم من العلماء الأكابر، الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير) (2)
قال آخر: وقال ـ مدافعا عما روي فيها من أحاديث أهل الكتاب ـ: (ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء، لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن تبعهم في هذا الباب، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن، وليس فيهم من حرف
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 429)
(2) منهاج السنة النبوية (7/ 179)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/417)
الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام.) (1) .. انظروا كيف اعتبر تلك الروايات المأخوذة عن المؤمنين من أهل الكتاب سنة، وكيف اعتبر القول بعصمة الأنبياء المطلقة تحريفا؟
قال آخر: ولهذا نراه يثني كثيرا على تفسير الطبري، ويعتبره ما روي فيه من الروايات الكثيرة من تفاسير السنة المعتبرة، فقد أجاب في [مجموع الفتاوى] من سأله عن أحسن التفاسير بقوله: (أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي) (2) .. وقال عنه: (تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير المأثورة، وأعظمها قدراً) (3)
قال آخر: ولا نعرف قيمة هذا الكلام إلا عندما نعود إلى تفسير ابن جرير الطبري نفسه، فقد ذكر بعضهم أنه نقل فيه من الروايات عن أئمتنا في التفسير ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وعبد الملك بن جريج بما يقارب ما يقرب من ألفين وخمسمائة رواية .. وكل رواية منها دليل على عدم عصمة الأنبياء بالمفهوم الذي يفهمه الرافضة وغيرهم من المبتدعة.
قال آخر: وبناء على هذا كله، نراه يدافع بشدة عما روي عن السلف الصالح من رمي الأنبياء بأنواع الخطايا، بل يبين أنها كمال في حقهم، ولذلك فإن عصمتهم في الحقيقة تكاد تكون محصورة في التبليغ عن الله فقط.
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 434)
(2) مجموع الفتاوى (13/ 385)
(3) مجموع الفتاوى (13/ 361)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/418)
قال آخر: وقد قال في ذلك: (وما أنبأ به النبي عن الله لا يطابق كذبا؛ لا خطأ، ولا عمدا، فلا بد أن يكون صادقا فيما يخبر به عن الله؛ يطابق خبره مخبره، لا تكون فيه مخالفة؛ لا عمدا، ولا خطأ، وهذا معنى قول من قال: هم معصومون فيما يبلغونه عن الله، لكن لفظ الصادق، وأن النبي صادق مصدوق: نطق به القرآن، وهو مدلول الآيات والبراهين)
قال آخر: ثم يرد على من يستدل بالقرآن الكريم على العصمة المطلقة، فيقول: (ولفظ العصمة في القرآن، جاء في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ أي من أذاهم، فمعنى هذا اللفظ في القرآن: هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأً وعمداً .. وقد يكون معصوماً على لغة القرآن: بمعنى أن الله عصمه من الشياطين؛ شياطين الإنس والجن، وأن يُغيّروا ما بُعث به، أو يمنعوه عن تبليغه؛ فلا يكتم، ولا يكذب؛ كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 26 ـ 28]؛ فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه، وهذا في معنى عصمته من الناس؛ فهو المؤيّد، المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن، حتى يبلغ رسالات ربّه كما أمر، فلا يكون فيها كذب ولا كتمان) (1)
قال آخر: ثم يبين السبب في الانحرافات التي وقع فيها المبتدعة في هذا الجانب، فيقول ـ ردا عليهم ـ: (ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا، وأن ذلك يجب تنزيههم عنه، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة، وإما في هذه المقدمة .. أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه، بل هذا مفضل عظيم مكرم، وبهذا ينحل جميع ما يوردونه
__________
(1) النبوات لابن تيمية (2/ 873)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/419)
من الشبه، وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته، كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة ـ وهم السابقون الأولون ـ يبين صحة هذا الأصل) (1)
قال آخر: ويقول: (والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال، فلا ينظر إلى نقص البداية، ولكن ينظر إلى كمال النهاية، فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة، إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم .. فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله، وإذا لم يكن في ذلك نقص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبني على أن ذلك نقص، وهو نقص إذا لم يتب منه، أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله، فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله، وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه) (2)
قال آخر: بل إنه فوق ذلك كله يعتبر تنزيه الأنبياء عن المعاصي غضا من مرتبتهم، وسلبا للدرجة التي أعطاهم الله، يقول في ذلك: (وجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة) (3)
قال آخر: وهو يستدل لذلك بالصحابة الذين أمرنا بحبهم والاقتداء بهم، فيقول:
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 430)
(2) منهاج السنة النبوية (2/ 434)
(3) منهاج السنة النبوية (2/ 397)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/420)
(ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه، فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام؛ فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم، وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام! وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له) (1)
قال آخر: وما ذكره شيخنا شيخ الإسلام، هو ما دلت عليه الكتب الإلهية، التي ذكرت الكثير من خطايا الأنبياء، والتي أقرهم عليها سلفنا الصالح.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في [سفر الملوك: 8، 46]: (لأنه ليس إنسان لا يخطئ)، وورد في [سفر أيوب: 15، 14 ـ 16] (من هو الإنسان حتى يزكو، أو مولود المرأة حتى يتبرر؟، هوذا قديسوه لا يأتمنهم، والسماوات غير طاهرة بعينيه، فبالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء!)، وورد في [سفر المزامير، المزمور 14، 1:53، 2:53، 3:53] (فسدوا ورجسوا بأفعالهم، وليس من يعمل صلاحا، الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر: هل من فاهم طالب الله؟ كلهم قد ارتدوا معا، فسدوا، ليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد)
قال آخر: ولهذا يتفق أهل الكتاب معنا على هذا، وقد قال شيخهم وبناء على هذه النصوص وغيرها كثير يقصر اليهود العصمة على التبليغ، يقول ابن كمونه (وأما داود وسليمان فلم يكونا من المعصومين عن الخطأ لأنهما لم يكونا من المرسلين، وإنما يجب عصمة النبي المرسل فيما أرسل فيه، وفيما عدا ففي العصمة شك) (2)
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 398)
(2) ابن كمونه، سعد بن منصور، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، ص، 15 ـ 18.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/421)
قال آخر: وما ذكره ابن كمونة هو نفس ما يذكره شيوخنا الذين يقصرون العصمة على التبليغ، كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (قد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ ولاسيما محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ معصومون من الخطأ فيما يبلغونه عن الله عز وجل .. فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصوم في كل ما يبلغ عن الله قولاً وعملاً وتقريراً، هذا لا نزاع فيه بين أهل العلم) (1)
قال آخر: وقال ابن تيمية: (فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقاً وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه) (2)
قال آخر: وقال شيخنا صالح آل الشيخ في حديثه عن حدود عصمة الأنبياء عليهم السلام: (القسم الثاني، من جهة الذنوب: الذنوب أقسام: فمنها الكفر، وجائز في حق الأنبياء والرسل أنْ يكونوا على غير التوحيد قبل الرسالة والنبوة .. والثاني من جهة الذنوب، فالذنوب قسمان كبائر وصغائر: والكبائر جائزة فيما قبل النبوة، ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرسالة أو تَقَحَّمَها عليهم الصلاة والسلام بخلاف من أجاز ذلك من أهل البدع) (3)
قال آخر: وسئل هذا السؤال: (أشكل عليَّ قولك: النبي قد يكون على غير التوحيد قبل الرسالة؟)، فأجاب بقوله: (نعم النبي قد يكون على غير ذلك، فيصطفيه الله عز وجل وينبهه؛ يعني ما فيه مشكل في ذلك، قد يكون غافلا) (4)
__________
(1) فتاوى ابن باز ج 6/ 371.
(2) مجموع الفتاوى ج 18/ 7.
(3) إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، ص: 84.
(4) إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل (ص 86.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/422)
قال القاضي: عجبا لما قاله الشيخ الجليل صالح آل الشيخ عن جواز كفر الأنبياء قبل النبوة .. هذه أول مرة أسمع بهذا.
قال أحد الشيوخ: هذا بسبب تسلط المبتدعة على منابر العلم .. وإلا فإن كل شيوخنا يذكرون ذلك، وينتصرون له بكل الأدلة.
قال آخر: وقد أبدع شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية في ذكر الأدلة على ذلك، مما لم يسبقه إليه أحد .. فقد عقد فصلا خاصا بذلك في كتابه المعنون بهذا العنوان الطويل الجميل [تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير فيها القول الصواب بل لايوجد فيها الا ما هو خطأ] (1)، حيث قال: (هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها، ومنها قوله: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88 - 89] وما في معناها) (2)
قال آخر: ثم راح يبرز قدراته الاستنباطية العظيمة في هذا الجانب، فقال: (التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كما في حديث هرقل، ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا
__________
(1) حققه عبد العزيز بن محمد الخليفة، وطبع في مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ، وأصل الكتاب رسالة نال بها الباحث درجة الماجستير في القرآن وعلومه من كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
(2) مجموع الفتاوى (15/ 30)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/423)
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب، وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا، وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع، وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به .. قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]) (1)
قال آخر: ومثلما وقف شيخنا بشدة في وجه الغلاة الذين يقولون بالعصمة المطلقة للأنبياء، راح يدافع عن جواز كفرهم، بل يبين أن ذلك أيضا كمال في حقهم، فقال: (والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم) (2)
قال آخر: وقال: (وكذلك من قال: إنه لا يبعث نبياً إلا من كان مؤمناً قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصاً، وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم، فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصاً؛ فهو غالط غلطاً عظيماً، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلاً؛ لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه كانوا لا يؤخرون التوبة؛ بل يسارعون إليها ويسابقون إليها؛ لا يؤخرون، ولا يصرون على الذنب، بل هم معصومون من ذلك، ومن أخر ذلك زمناً قليلاً، كفر الله ذلك بما يبتليه به، كما فعل بذي النون صلى الله عليه وآله وسلم هذا على المشهور أن إلقاءه كان بعد النبوة؛ وأما من قال: إن إلقاءه كان قبل النبوة، فلا يحتاج إلى هذا، والتائب من الكفر والذنوب، قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب؛ وإذا كان قد يكون
__________
(1) مجموع الفتاوى (15/ 30)
(2) مجموع الفتاوى (15/ 31)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/424)
أفضل فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم، وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى) (1)
قال آخر: انظروا كيف اعتبر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية إخوة يوسف هم الأسباط المذكورين في القرآن الكريم على الرغم من كل ذنوبهم .. ومع ذلك لا يرى شيخنا ضيرا في أن يكونوا من الأنبياء .. ذلك أن فضل الله واسع، وهو فعال لما يشاء، ولا {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]
قال آخر: وقال في موضع آخر: (فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الإسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب) (2)
قال آخر: وقال في موضع آخر: (وأما قولهم: إن شعيباً والرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر، فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال، فهذا خبر يحتاج إلى دليل سمعي أو عقلي، وليس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك، وأما العقل: ففيه نزاع، والذي عليه نظار أهل السنة: أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك .. وأما تحقيق القول فيه: فالله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان من خيار قومه .. ومن نشأ بين قوم مشركين جهال، لم يكن عليه منهم نقص ولا بغض ولا غضاضة، إذا كان على مثل دينهم، إذا كان عندهم معروفاً بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه واجتناب ما يعرفون قبحه .. فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة، وإن كان لا هو ولا هم يعرفون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما علم قبحه، وبين من يفعل ما لم يعرف، فإن هذا الثاني لا يذمونه، ولا
__________
(1) مجموع الفتاوى 10/ 309 ـ 210)
(2) مجموع الفتاوى 11/ 690)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/425)
يعيبون عليه، ولا يكون فعله مما هم عليه منفراً عنه بخلاف الأول) (1)
قال آخر: وهكذا فسر شيخنا وتلاميذه الآيات الصريحة في القرآن الكريم، والتي تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان على دين قومه قبل أن يكرمه الله بنبوته، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6، 7]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86]
قال آخر: وبما أن الحديث في هذا صعب قبوله في البيئة التي كان فيها شيخنا شيخ الإسلام، بسبب تسلط المبتدعة، والذين سجنوه مرارا؛ فلذلك كان يمرر تفسيره لتلك الآيات بطرق متأنية ومتدرجة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أنه يردد كثيرا الحديث الذي يدل على أن زيدا بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب كان أكثر ورعا عن الشرك وأسبابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى في [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم] وغيره من كتبه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرة في لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه) (2)
قال آخر: وهو يضيف إليها كل الروايات التي ورد بها الحديث ليؤكد المعنى، فيقول: (وفي رواية له: وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على
__________
(1) تفسير آيات أشكلت 1/ 178 ـ 193)
(2) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/426)
غير اسم الله؟!) إنكارا لذلك وإعظاما له) (1)
قال آخر: بل إنه في كتابه [الفتاوى الكبرى] يدافع عن وقوع الشرك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، فقد قال: (وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة؛ فإن النبي هو المنبئ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين .. ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته؟ هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك، والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، وقالوا: إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت: قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا، وقالوا في قوله: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] هو حديث النفس، وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 ـ 54] فقالوا الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير، والحديث، والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها، وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 63)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/427)
قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ) (1)
قال آخر: وهكذا نرى شيخنا ابن تيمية يعتبر نطق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالشرك قول السلف وأنه السنة، بل إنه يراه من كمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن أدلة صدقه، فيقول معقبا على كلامه السابق: (وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق) (2)
قال آخر: ولهذا نرى شيوخنا وأئمتنا من السلف والخلف يفسرون قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 ـ 54] بناء على هذا المعنى.
قال آخر: وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية الخلاف الوارد فيه، ثم رجح قول السلف، فقال: (وما جرى في (سورة النجم). من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 256)
(2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 257)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/428)
وأبطله) (1)
قال آخر: وقد وافقه على هذا أكثر شيوخنا، ومنهم سليمان آل شيخ في قوله عن قصة الغرانيق: (وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبدالرحمن وعكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم وذكرها أيضا أهل السير وغيرهم وأصلها في الصحيحين والمقصود منها قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فإن الغرانيق هي الملائكة على قول وعلى آخر هي الأصنام) (2)
قال آخر: وهكذا نرى شيوخنا وأئمتنا في التفسير والحديث، يتفقون على كون إبراهيم عليه السلام كان مشركا قبل نبوته، ويستدلون على ذلك بما ورد في القرآن الكريم من قصته مع الكواكب، ويردون على المبتدعة الذين يذكرون أن ذلك منه كان أسلوبا من الأساليب التي مارسها مع قومه لدعوتهم.
قال آخر: وقد حكى الطبري أقوال الذين فسروا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79] وفق القول بعصمة الأنبياء عن الكفر، فقال: (وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه،
__________
(1) منهاج السنة النبوية (2/ 409)
(2) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: ص 219.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/429)
من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: هذا ربي، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبي ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلا وهو لله موحد، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ، قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة، قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة، وزعموا أن خبر الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: هذا ربي، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأ وأحسن وأبهج من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلة زائلة غير دائمة، والأصنام التي [هي] دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم، أحق أن لا تكون معبودة) (1)
قال آخر: ثم علق على هذا القول وغيره بقوله: (وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]، الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأن الصواب من القول في ذلك، الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه) (2)
قال آخر: وهكذا استدل شيوخنا بالروايات التي تدل على أن آدم عليه السلام وقع في الشرك بعد نزوله للأرض، وذلك عند تفسيرهم لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ
__________
(1) تفسير الطبري (11/ 481)
(2) تفسير الطبري (11/ 485)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/430)
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189، 190]
قال آخر: فقد ذكروا في تفسيرها أن المراد بالنفس الواحدة نفس آدم عليه السلام، وبقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] حواء، ورووا في ذلك حديثا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لما حملت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث، فسمته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره) (1)
قال آخر: ورووا في ذلك حديثا آخر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض) (2)
قال آخر: وهكذا فسر شيوخنا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]
قال آخر: فقد رووا أن إبراهيم عليه السلام حصل له شك في قدرة الله على إحياء الموتى، ولهذا أراد أن يتأكد، وقد رجح الطبري هذا كما رجحه الكثير من شيوخنا، بناء على حديث يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) (3)
قال آخر: بل إن شيوخنا يذكرون أن الشك لا يؤثر في الإيمان، ولذلك يعتبرون أن حكاية الله لشك إبراهيم عليه السلام وعدم عقوبته عليه أرجى آية في القرآن الكريم، وقد
__________
(1) أحمد 5/ 11، والحاكم 2/ 545 وصححه، ووافقه الذهبي، والطبري (15513)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) تفسير القرطبي: ج 7 ص 338.
(3) رواه البخاري (4/ 179، 6/ 39) ومسلم (ص/ 133، 1839) وابن ماجة (ح/ 4026) وأحمد (2/ 326)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/431)
رووا في ذلك عن سعيد بن المسيب قوله: اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا، قال: ونحن يومئذ شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] (1)
قال آخر: وقد رجح الطبري هذا القول، فقال تعقيبا على الروايات التي أوردها في ذلك: (وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟)، وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا: من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: (أولم تؤمن)؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت) (2)
قال آخر: وهذا الذي ذكره مفسرونا هو ما ينسجم مع الآيات التي تذكر ظن الرسل عليهم السلام وشكهم في وعد الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا
__________
(1) تفسير الطبري (5/ 489)
(2) تفسير الطبري (5/ 491)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/432)
نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109]، وقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]
قال آخر (1): فقد استدل شيوخنا بظاهر الآية على ذلك .. وهو واضح، فالضمائر الثلاثة في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] ترجع إلى الرسل عليهم السلام، ومفاد الآية أن رسل الله عليهم السلام كانوا ينذرون قومهم، وكان القوم يخالفونهم أشد المخالفة، وكان الرسل يعدون المؤمنين بالنصر عن الله والغلبة ويوعدون الكفار بالهلاك والإبادة، لكن لما تأخر النصر الموعود وعقاب الكافرين ظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا به من جانب الله من نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين.
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت حدود العصمة، وتبين بدعية المغالاة في الأنبياء .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال آخر: بل ما ذهب إليه أكثر علماء المسلمين، والذين قولهم شيخهم ابن تيمية ما لم يقولوا.
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/433)
قال آخر: وقد قال ابن النجار في ذلك: (ومنع الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ وجمع من أصحابنا وغيرهم من الذّنب مطلقا، كبيرا أو صغيرا، عمدا أو سهوا، أخلّ بصدقه أو لا، وهو اختيار أبي المعالي في [الإرشاد] والقاضي عياض وأبي بكر وابن مجاهد وابن فورك، نقله عنه ابن حزم في [الملل والنّحل]، وابن حزم، وابن برهان في [الأوسط]، ونقله في [الوجيز] عن اتّفاق المحقّقين، وحكاه في [زوائد الرّوضة] عن المحقّقين، وقال القاضي حسينٌ ـ هو الحسين بن محمد بن أحمد المروذي، أبو علي الفقيه الشافعي ـ: هو الصّحيح من مذهب أصحابنا، وهو قول أبي الفتح الشّهرستانيّ، وابن عطيّة المفسّر، وشيخ الإسلام البلقينيّ، والسّبكي وولده التّاج) (1)
قال آخر: وبعد أن ذكر هذا العدد الكبير من العلماء وغيرهم، قال: (فالعصمة ثابتة له صلى الله عليه وآله وسلم ولسائر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من كل ذنب كبير أو صغير، عمدا كان أو سهوا في الأحكام وغيرها، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم على الإطلاق من غير التزام قرينة، وسواء في ذلك قبل النبوة وبعدها، تعاضدت الأخبار بتنزيههم عن النقائص منذ ولدوا، ونشأتهم على كمال أوصافهم في توحيدهم وإيمانهم عقلا أو شرعا، على الخلاف في ذلك، ولا سيما فيما بعد البعثة فيما ينافي المعجزة) (2).
قال آخر: وقال آخر: (والذين قالوا بوقوعها إنما هو عقلا فقط، لكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليّين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلا لم يقع فعلا) (3)
قال آخر: وقال القاضي عياض: (وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة فمنعها قوم وجوزها آخرون والصحيح إن شاء الله تنزيههم من كل عيب وعصمتهم من
__________
(1) شرح الكوكب المنير 2/ 177: 174، الإبهاج في شرح النهاج 5/ 1752.
(2) شرح الكوكب المنير 2/ 177: 174.
(3) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 4/ 585.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/434)
كل ما يوجب الريب) (1)
قال آخر: وقال إسحاق بن عقيل: (وذهب كثير من العلماء منهم ابن حزم، والقاضي عياض، والقسطلاني، والزرقاني، وكثير من المحققين ـ وهو الذي نختاره ـ إلى أن الأنبياء معصومون قبل النبوة من الكبائر والصغائر مطلقا، قالوا: لأن مقترف الذنوب ممقوت عند الناس ويلازمهم عارها وعيبها بها) (2)
قال آخر: وقال آخر: (إنما بعث من نشأ على التوحيد، والأمانة والصدق، والأخلاق الكاملة، والصفات الفاضلة، وعلى إشراق أنوار المعارف، ونفحات ألطاف السعادة، بهذا تواترت الأخبار، وتعاضدت الآثار، عن الأنبياء جميعهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ولو وقع شيء من هذه المستحقرات قبل النبوة: لنقل ذلك لاعتناء النفوس، وتوافر الدواعي على البحث عن جميع أحوالهم ونقلها، من حين تخرجوا إلى الدنيا، إلى أن فارقوا الممات) (3)
قال آخر: وقال آخر: (صفوة القول أنه يمتنع وقوع صورة المعصية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل بعثتهم، لا لكونها معصية حقيقية تترتب عليها المؤاخذة والعقاب، بل لأن الله تعالى خلقهم مجبولين على مجانبتها والمنافرة لها، لما علمه جل شأنه من أنهم سيكونون مصابيح الظلام، وهداة الأنام، يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويرشدونهم إلى صراط العزيز الحميد، فلا تمر بهم طرفة عين إلا وهم مراقبون لحضرته، مشاهدون لعظمته كما تشهد بذلك سوابقهم الحميدة، وتواريخهم المجيدة) (4)
قال آخر: وقبل ذلك كله .. وقف أئمة الهدى موقفا متشددا من كل من يسيء إلى
__________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 162.
(2) إعلام المسلمين بعصمة النبيين ص 20 ـ 21.
(3) حجية السنة ص 108 ـ 109.
(4) رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم1/ 28.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/435)
الأنبياء عليه السلام باتهامهم بعدم العصمة.
قال آخر: فقد حدث أبو الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا ابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء؟ .. قال: نعم .. قال: فما تعمل في قول الله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] وفي قوله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وفي قوله عز وجل في يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] وفي قوله عزوجل في داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] وقوله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] .. فقال الإمام الرضا: (ويحك يا علي اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتاب الله برأيك فإن الله عز وجل قد قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7]) (1)
قال آخر: ثم راح يذكر له التفسير الصحيح لتلك الآيات، وهي نفسها التي استند إليها ابن تيمية وأصحابه، فقال: (وأما قوله عز وجل في آدم: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]) (2)
قال آخر: ثم ذكر الآية الثانية، وهي قوله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(2) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/436)
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، وفسرها بقوله: (إنما ظن بمعنى استيقن أن الله لن يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عز وجل: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16]؟ .. أي ضيق عليه رزقه، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر) (1)
قال آخر: ثم ذكر الآية الثالثة، وهي قوله عز وجل في يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، وفسرها بقوله: (فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عز وجل: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24] يعني القتل والزنا) (2)
قال آخر: ثم سأله عن قولهم في داود عليه السلام، وما يقولون فيه، فقال علي بن محمد بن الجهم: (يقولون إن داود عليه السلام كان في محرابه يصلي، فتصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من طيور فقطع داود صلاته، وقام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان، فاطلع داود في أثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا فتزوج داود بامرأته) (3)
قال آخر: فضرب الإمام الرضا بيده على جبهته وقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل) (4)
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(2) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(3) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(4) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/437)
قال آخر: ثم فسر تلك الآيات بما يتناسب مع عصمة داود عليه السلام، فقال: (ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا في المحراب فقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 22 - 23] فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] فلم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عز وجل يقول: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26]؟) (1)
قال آخر: ثم فسر القصة الحقيقية لداود عليه السلام مع أوريا، فقال: (إن المرأة في أيام داود عليه السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود عليه السلام، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل، وانقضت عدتها منه، فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا) (2)
قال آخر: ثم فسر الآيات المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تعلق بها المخطئة، وهي قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، فقال: (فإن الله عز وجل عرف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في دار الآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وإحداهن من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، فقال
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(2) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/438)
الله عز وجل: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] يعني في نفسك وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم عليه السلام وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وفاطمة من علي) (1)
قال آخر: وقد ذكر الرواة تأثير هذا الهدي في علي بن محمد بن الجهم، حيث أنه بكى بعد أن سمع هذا، وقال: (يا ابن رسول الله، أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلا بما ذكرته) (2)
قال آخر: تمنينا لو أن شيوخنا الأفاضل آثروا هذا الحديث الوارد عن العترة الطاهرة، والمتوافق مع القرآن الكريم عن تلك الأحاديث الكثيرة التي سمعوها من كعب الأحبار وغيره من اليهود وتلاميذهم .. لكان ذلك أجدى لهم عند ربهم.
قال القاضي: أتريدون أن تعلمونا ممن نأخذ ديننا، هاتوا أدلتكم، ودعونا من غيكم.
قال آخر: أدلتنا كثيرة جدا، وهي من الوضوح، بحيث يمكن أن يفهمها كل الناس، وبسهولة ويسر.
قال آخر: وبما أن القائلين بالعصمة المطلقة من مدارس مختلفة، فسنذكر لكم نماذج مختلفة عن الأدلة التي أوردوها، ليأخذ كل شخص منها ما يتناسب مع عقله ومزاجه.
قال آخر: وسنبدأ بالفخر الرازي، والذي ذكر في كتابه الذي خصصه لعصمة الأنبياء عليهم السلام خمسة عشر حجة على عصمتهم.
قال آخر: وأولها أنه (لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلا
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(2) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/439)
والعقاب آجلا أشد من حال عصاة الأمة، وهذا باطل، فصدور الذنب أيضا باطل .. وبيان الملازمة: أن أعظم نعم الله على العباد هي نعمة الرسالة والنبوة، وكل من كانت نعم الله تعالى عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أفحش، وصريح العقل يدل عليه ثم يؤكده النقل من ثلاثة وجوه) (1) .. ثم ذكر الأدلة القرآنية على ذلك، وهي قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] .. وقوله: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 30]
قال آخر: وأما الحجة الثانية، فهي أنه (لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، فقد أمر بالتثبت والتوقف في قبول شهادة الفاسق، إلا أن هذا باطل فإن من لم تقبل شهادته في حال الدنيا فكيف تقبل شهادته في الأديان الباقية إلى يوم القيامة) (2)
قال آخر: وأما الحجة الثالثة، فهي أنه (لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم، لأن الدلائل دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن زجر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير جائز، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] فكان صدور الذنب عنهم ممتنعا) (3)
قال آخر: وأما الحجة الرابعة، فهي أنه (لو صدر الفسق عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنا إما أن نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا لا يجوز، أو لا نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا أيضا باطل، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، ولقوله
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 9)
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 9)
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 10)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/440)
تعالى: {فَاتَّبِعُونِي} [الأنعام: 153]، ولما كان صدور الفسق يفضي إلى هذين القسمين الباطلين كان صدور الفسق عنه محالا) (1)
قال آخر: وأما الحجة الخامسة، فهي أنه (لو صدرت المعصية عن الأنبياء عليهم السلام لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله بعذاب جهنم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، ولكانوا ملعونين؛ لقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وبإجماع الأمة هذا باطل فكان صدور المعصية عنهم باطلا) (2)
قال آخر: وأما الحجة السادسة، فهي أنهم (كانوا يأمرون بالطاعات وترك المعاصي ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 ـ 3]، وتحت قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، ومعلوم أن هذا في غاية القبح) (3)
قال آخر: وأما الحجة السابعة، فهي أن الله تعالى قال في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، فدخل تحت لفظ {الْخَيْرَاتِ} فعل كل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي، وذلك يدل على أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات وتاركين لكل المعاصي) (4)
قال آخر: وأما الحجة الثامنة، فهي ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47]، ذلك أن (اللفظين أعنى قوله تعالى: {الْمُصْطَفَيْنَ} وقوله: {الْأَخْيَارِ} يتناولان جملة الأفعال والتروك، بدليل جواز الاستثناء، يقال: فلان من
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 10)
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 10)
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 11)
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 11)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/441)
المصطفين الأخيار إلا في كذا، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فدلت هذه الآية على أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور، وهذا ينافي صدور الذنب عنهم) (1)
قال آخر: وأما الحجة التاسعة، فهي قوله تعالى حكاية عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]، (حيث استثنى المخلصين من إغوائه وإضلاله، ثم إنه تعالى شهد على إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام أنهم من المخلصين، حيث قال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص: 46]، وقال في حق يوسف صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فثبت أن إغواء إبليس لم يصل إليهم، وذلك يوجب القطع بعدم صدور المعصية عنهم) (2)
قال آخر: وأما الحجة العاشرة، فهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]، (فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال: إنهم الأنبياء أو غيرهم، فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم، لقو له تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإجماع، فوجب القطع بأن أولئك الذين لم يتبعوا إبليس هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكل من أذنب فقد اتبع إبليس، فدل هذا على أن الأنبياء صلوات الله عليهم ما أذنبوا) (3)
قال آخر: وأما الحجة الحادية عشرة، فهي أنه (تعالى قسم المكلفين إلى قسمين: حزب الشيطان كما قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، وحزب الله كما قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الجادلة: 22]، ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يريد الشيطان ويأمره به فلو
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 11)
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 12)
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 13)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/442)
صدرت الذنوب عن الأنبياء لصدق عليهم أنهم حزب الشيطان) (1)
قال آخر: وأما الحجة الثانية عشر، فهي أن (العلماء بينوا أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وثابت بالدلالة على أن الملائكة ما أقدموا على شيء من الذنوب، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لامتنع أن يكونوا زائدين في الفضل على الملائكة لقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]) (2)
قال آخر: وأما الحجة الثالثة عشر، فهي قول الله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] / (والإمام هو الذي يقتدى به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم، لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبا وإنه باطل) (3)
قال آخر: وأما الحجة الرابعة عشر، فهي قوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، (فكل من أقدم على الذنب كان ظالما لنفسه لقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] .. فذلك العهد الذي حكم الله تعالى بأنه لا يصل إلى الظالمين، إما أن يكون هو عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان الأول فهو المقصود، وإن كان الثاني فالمقصود أشهر، لأن عهد الإمامة أقل درجة من عهد النبوة، فإذا لم يصل عهد الإمامة إلى المذنب العاصي، فبأن لا يصل عهد النبوة إليه أولى) (4)
قال آخر: وأما الحجة الخامسة عشر، فهي أنه (صح أن خزيمة بن ثابت الأنصاري شهد على وفق دعوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه ما كان عالما بتلك الواقعة فقال خزيمة: (إني أصدقك فيما تخبر عنه من أحوال السماء، أفلا أصدقك في هذا القدر!؟) (5)، فلما ذكر ذلك صدقه
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 13)
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 13)
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 14)
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 14)
(5) أحمد (5/ 215)، وأبو داود (3602)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/443)
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه ولقبه بذي الشهادتين، ولو كان الذنب جائزا على الأنبياء لكانت شهادة خزيمة غير جائزة) (1)
قال آخر: ومن الأدلة على ذلك أيضا قول الله تعالى: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] والذي جاء بالصدق كما يدل عليه سياق هذه الآية هو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شهد لما جاء به من عنده سبحانه (قرآنا وسنة) سماه صدقا، ويلزم من صدق ما أتى به، صدقه هو في نفسه، إذ لا يأتي بالصدق إلا كامل الصدق، وذلك مما لا جدال فيه حيث كان صدقه معلوما منذ حداثة سنه، وشهد له بذلك أعداؤه قبل أصدقائه، فإن الأعداء من الكفرة والمشركين لم يكونوا يشكون يوما في صدقه، كما قال عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وكما كانوا يشهدون له بذلك في مواقف مختلفة.
قال آخر: وإذا كانت الآيات السابقة شهادات حسية على صدقه في كل ما يبلغ عن ربه، فهناك شهادات معنوية على صدقه صلى الله عليه وآله وسلم تتمثل في تأييد الله عز وجل له بالمعجزات المنزلة منزلة قوله عز وجل: (صدق عبدي فيما يبلغ عني)
قال آخر: إذ أن تأييده بذلك كله، وهو يدعى أنه مرسل من عند ربه، وهو على مسمع من ربه سبحانه ومرأى، وهو جل شأنه لا يزال يؤيده بكل ذلك: دليل على كمال صدقه، وعصمته في كل ما يبلغه من قرآن وسنة، إذ لو كان بخلاف ذلك لما أيده، ولفضح أمره للملأ، كما هي سنته سبحانه فيمن حاولوا الكذب عليه.
قال آخر: ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]، فالآيات نصت على أن الله
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، (ص 14)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/444)
سبحانه وتعالى لا يؤيد من يكذب عليه بل لابد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه .. ولو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الجنس كما يزعم الكافرون فيما حكاه الله عنهم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الشورى: 24]ـ وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ـ لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره في هذه الآيات، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع له شيء من ذلك فلم يهلكه الله ولم يعذبه، فهو على هذا لم يتقول على الله ما لم يقله ولم يفتر شيئا من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته في كل ما بلغه عن ربه عز وجل.
قال آخر: ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 ـ 4]، فكلمة [ينطق] في لسان العرب، تشمل كل ما يخرج من الشفتين قول أو لفظ أي: ما يخرج نطقه صلى الله عليه وآله وسلم عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل .. ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفي والاستثناء، والفعل إذا وقع في سياق النفي دل على العموم، وهذا واضح في إثبات أن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم محصور في كونه وحيا لا يتكلم إلا به وليس بغيره وفى هذا دليل واضح على عصمته صلى الله عليه وآله وسلم، في كل شيء، فهو لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه، ولا يقول إلا ما أمر به فبلغه إلى الناس كاملا من غير زيادة ولا نقصان، وهذه شهادة وتزكية من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما بلغه للناس من شرعه تعالى.
قال آخر: ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 ـ 75]، وهذه الآيات دالة على عصمة الله وتثبيته لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ ما أوحى إليه، كما تدل على عصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ومظهر دينه على من
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/445)
عاداه وخالفه في مشارق الأرض ومغاربها.
قال القاضي: فما تقولون فيما استدل بها شيخ الإسلام ابن تيمية من الآيات الواضحة الدالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا على أديان أقوامهم قبل أن يكرمهم الله بنبوته.
قال آخر: تلك الأقوال الشنيعة لم يقل بها إلا الذين تتلمذوا على اليهود، أو تلاميذ اليهود، وهي تخالف ما استقر عليه إجماع المسلمين، وقد قال القاضي عياض: (والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا ونشأتهم على التوحيد والإيمان بل على إشراق أنوار المعارف نفحات ألطاف السعادة .. وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله) (1)
قال آخر: ثم قال: (وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا بكل ما افترته، وغير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته مما نص الله تعالى عليه أو نقلته إلينا الرواة ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهته وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه، ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين وبتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] كما حكاه الله عنهم) (2)
قال آخر: ثم ذكر استدلال القشيري على تنزيههم بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
__________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 126.
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 126.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/446)
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وبقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، حيث قال: (وطهره الله في الميثاق وبعيد أن يأخذ منه الميثاق قبل خلقه، ثم يأخذ ميثاق النبيين بالإيمان به ونصره قبل مولده بدهور ويجوز عليه الشرك أو غيره من الذنوب، بهذا ما لا يجوزه إلا ملحد، هذا معنى كلامه، وكيف يكون ذلك) (1)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات التي استدل بها شيوخنا الأفاضل في شأن آدم عليه السلام، وأنه وقع في الشرك بعد نزوله للأرض، وذلك عند تفسيرهم لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189، 190]
قال أحد التلاميذ: لقد أجاب علماؤنا على هذا أجوبة كثيرة، كلها تتوافق مع اللغة العربية، ومع تنزيه الأنبياء عليهم السلام، وبذلك ردوا هذا المتشابه إلى المحكمات التي دل عليها القرآن الكريم، ودلت عليها معه العقول.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشريف المرتضى في تفسيرها، وقد قدم لذلك بذكر الإشكال الذي ذكره المخطئة، وأدلته، فقال: (أوليس ظاهر هذه الآية يقتضي وقوع المعصية من آدم عليه السلام؛ لأنه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام
__________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 126.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/447)
إليه إلا ذكر آدم عليه السلام وزوجته؛ لأن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء، فالظاهر على ما ترون ينبي عما ذكرناه، على أنه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى، لما أن حملت حواء عرض لها وكانت ممن لا يعيش لها ولد، فقال لها: ان أحببت أن يعيش ولدك فسميه عبد الحارث، وكان إبليس قد سمي الحارث، فلما ولدت سمت ولدها بهذه التسمية، فلهذا قال تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190]) (1)
قال آخر: ثم ذكر المحكم الذي ينطلق منه ليفسر المتشبه والمشكل الذي فهم من الآية، فقال: (يقال له: قد علمنا أن الدلالة العقلية أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر، والشرك والمعاصي غير محتملة في حقهم، ولا يصح دخول المجاز فيها .. والكلام في الجملة يصح فيه الاحتمال وضروب المجاز، فلا بد من بناء المحتمل على ما لا يحتمل، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل، لكنا نعلم في الجملة أن تأويلها مطابق لدلالة العقل) (2)
قال آخر: وبناء على هذه القاعدة المطبقة في جميع أنواع المتشابهات، راح يذكر الاحتمالات التي تطيقها اللغة العربية لمعنى الآية .. وأولها أن (الكناية في قوله سبحانه: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] غير راجعة إلى آدم وحواء عليهما السلام، بل إلى الذكور والإناث من أولادهما، أو إلى جنسين ممن اشترك من نسلهما، وإن كانت الكناية الأولى تتعلق بهما ويكون تقدير الكلام: (فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى) (3)
قال آخر: ثم ذكر الأدلة التي تقوي هذا الاحتمال، وأهمها ما ورد في الآية من قوله
__________
(1) نفائس التأويل، ج 2، ص: 379.
(2) نفائس التأويل، ج 2، ص: 379.
(3) نفائس التأويل، ج 2، ص: 380.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/448)
تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]، وهذا ينبئ على أن المراد بالتثنية الجنسين أو النوعين، (وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدمة راجعة إلى آدم وحواء عليهما السلام، أن يكون جميع ما في الكلام راجعا إليهما؛ لأن الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره، ومن كناية إلى خلافها) (1)
قال آخر: ثم استدل لذلك بما ورد في القرآن الكريم مما يدل عيه، ومنها قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 - 9]، حيث انصرف من مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مخاطبة المرسل إليهم، ثم قال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] يعني الرسول، ثم قال: {وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] يعني مرسل الرسول، فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة (2).
قال آخر: وبعد أن ذكر ما يدل على ذلك من الشعر، أجاب على الإشكال الذي يذكره المخالفون حول جواز التكنية عمن لم يتقدم له ذكر، وذكر أن ذلك جائز، واستدل له بقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، ولم يتقدم للشمس ذكر، ثم قال: (والشواهد على هذا المعنى كثيرة جدا، على أنه قد تقدم ذكر ولد آدم عليه السلام، وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189]، ومعلوم أن المراد بذلك جميع ولد آدم عليه السلام، وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} [الأعراف: 190]؛ لأن المعنى أنه لما أتاهما ولدا صالحا، والمراد بذلك الجنس، وإن كان اللفظ لفظ وحدة، وإذا تقدم مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما، وجب أن يضاف إلى من يليق به، والشرك لا يليق بآدم عليه السلام، فيجب أن ننفيه عنه، وإن تقدم ذكره وهو
__________
(1) نفائس التأويل، ج 2، ص: 379.
(2) نفائس التأويل، ج 2، ص: 379.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/449)
يليق بكفار ولده ونسله فيجب أن نعلقه بهم) (1)
قال آخر: وعلى هذا المنهج التنزيهي فسرها الطباطبائي، فقال: ({فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} [الأعراف: 190] كما سألاه وجعله إنسانا سويا صالحا للبقاء وقرت به أعينهما {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] من الولد الصالح، حيث بعثتهما المحبة والشفقة عليه أن يتعلقا بكل سبب سواه، ويخضعا لكل شيء دونه مع أنهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له غير كافرين لنعمته وربوبيته فنقضا عهدهما وشرطهما .. وهكذا عامة الإنسان إلا من رحمة الله مهتمون بنقض مواثيقهم وخلف وعدهم، وعدم الوفاء بعهدهم مع الله {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]) (2)
قال آخر: ثم ذكر ارتباط الآية الكريمة بوصف النفس البشرية في هذا الجانب، ولا علاقة لها بآدم عليه السلام، فقال: (و القصة ـ كما ترى ـ يمكن أن يراد بها بيان حال الأبوين من نوع الإنسان في استيلادهما الولد بالاعتبار العام النوعي فإن كل إنسان فإنه مولود أبويه، فالكثرة الإنسانية نتيجة أبوين يولدان ولدا كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات: 13]، والغالب على حال الأبوين وهما يحبان ولدهما ويشفقان عليه أن ينقطعا طبعا إلى الله في أمر ولدهما وإن لم يلتفتا إلى تفصيل انقطاعهما كما ينقطع راكب البحر إلى الله سبحانه إذا تلاطمت وأخذت أمواجها تلعب به ينقطع إلى ربه وإن لم يعبد ربا قط فإنما هو حال قلبي يضطر الإنسان إليه) (3)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي أورده المخالفون، فقال: (ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]، فإن المراد بالنفس وزوجها في صدر
__________
(1) نفائس التأويل، ج 2، ص: 379.
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 208)
(3) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 208)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/450)
الكلام لو كان شخصين من الإنسان بعينهما كآدم وحواء مثلا كان من حق الكلام أن يقال: فتعالى الله عن شركهما أو عما أشركا) (1)
قال آخر: ثم استدل لذلك بما ورد في سياق الآيات الكريمة من ذم للمشركين، فقال: (على أنه تعالى يعقب هذه الآية بآيات أخر يذم فيها الشرك، ويوبخ المشركين بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله، وحاشا أن يكون صفي الله آدم عليه السلام يعبد غير الله) (2)
قال آخر: ثم استدل لعصمة آدم عليه السلام بما ورد في القرآن الكريم في حقه، كما في حق جميع الرسل عليهم السلام، فقال: (وقد نص الله سبحانه على أنه اجتباه وهداه، ونص على أن لا سبيل للضلال على من هداه الله وأي ضلال أضل من عبادة غير الله، قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]، وقال: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء: 97]، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5]، وبذلك يظهر أن الضلال والشرك غير منسوب إلى آدم عليه السلام، وإن لم نقل بنبوته أو قلنا بها ولم نقل بعصمة الأنبياء عليهم السلام.
قال آخر: ثم بين الفهم الصحيح للآية الكريمة على ضوء ما دل عليه العقل والقرآن، فقال: (وإن أريد بالنفس وزوجها في القصة آدم عليه السلام وزوجته كان المراد بشركهما المذكور في الآية أنهما اشتغلا بتربية الولد واهتما في أمره بتدبير الأسباب والعوامل، وصرفهما ذلك عن بعض ما لهما من التوجه إلى ربهما والخلوص في ذلك، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى حكاية عنهما: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] وقد تقدم في تفسير أوائل هذه السورة في قوله: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] أن الشاكرين في عرف القرآن
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 209)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 209)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/451)
هم المخلصون ـ بفتح اللام ـ الذين لا سبيل لإبليس عليهم ولا دبيب للغفلة في قلوبهم فالعتاب المتوجه إليهما في قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] إنما هو بالشرك بمعنى الاشتغال عن الله بغيره من الأسباب الكونية يوجه خلاف إخلاص القلب له تعالى) (1)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي قد يرد على هذا التفسير، وهو إتيان قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] بصيغة الجمع، وتعقيبه بما ظاهره أنه الشرك بمعنى عبادة غير الله، ثم ذكر من الأجوبة على هذا بأن الآية في التخصيص أولا والتعميم ثانيا عكس قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] حيث خاطب أولا عامتهم بالتسيير ثم خص الكلام براكبي الفلك منهم خاصة، وهذه الآية تخص أول القصة بآدم وزوجته فهما المعنيان بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] ثم انقضى حديث آدم وزوجته، وخص بالذكر المشركون من بني آدم الذين سألوا ما سألوا، وجعلوا له شركاء فيما آتاهم أي إن كل اثنين منهم يولدان ولدا هذا حالهما من العهد ثم النقض (2).
قال آخر: وعلى هذا المنهج التنزيهي فسرها الشيرازي، حيث بدأ بطرح الإشكال المرتبط بها على الشكل التالي: (هل أن المراد من (النفس الواحدة) وزوجها آدم وحواء؟ مع أن آدم من الأنبياء وحواء امرأة مؤمنة كريمة، فكيف ينحرفان عن مسير التوحيد ويسلكان مسير الشرك!؟ .. وإذا كان المراد من النفس الواحدة غير آدم وتشمل الآية جميع أفراد البشر، فكيف ينسجم التعبير إذا وقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر: 6]!؟ .. ثم بعد
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 209)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 209)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/452)
هذا ما المراد من الشرك، وأي عمل أو تفكير قام به الزوجان فجعلا لله شركاء!؟) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن هناك منهجين في تفسير الآية الكريمة، أولهما أن المراد من نفس واحدة، هو الواحد الشخصي كما ورد هذا المعنى في آيات أخرى (2) من القرآن أيضا، ومنها أول آية من سورة النساء .. وعلى هذا (فالمراد بالشرك ليس هو عبادة غيرالله أو الاعتقاد بألوهية غيره، بل لعل المراد شي آخر من قبيل ميل الإنسان لطفله، الميل الذي ربما يجعله غافلا عن الله أحيانا) (3)
قال آخر: أما المنهج الثاني، فهو يرى أن (المراد من النفس الواحدة هو الواحد النوعي، أي أن الله خلقكم جميعا من نوع واحد كما خلق أزواجكم من جنسكم أيضا) (4)
قال آخر: وبناء على هذا؛ فإن هذه الآية الكريمة وما بعدها تشير إلى نوع الناس، فهم (يدعون الله وينتظرون الوالد الصالح في كمال الإخلاص لله والإنقطاع إليه، كمن يحدق بهم الخطر فيلتجؤوا إلى الله، ويعاهدون الله على شكره بعد حل معضلاتهم، ولكن عندما يرزقهم الله الولد الصالح، أو يحل مشاكلهم ينسون جميع عهودهم فإن كان الولد جميلا قالوا: إنه اكتسب جماله من أبيه أو أمه، وهذا هو قانون الوراثة .. وتارة يقولون: إن غذاؤه والظروف الصحية تسببت في نموه وسلامته .. وتارة يعتقدون بتأثير الأصنام ويقولون: إن ولدنا كان من بركة الأصنام وعطائها! وأمثال هذا الكلام .. وهكذا يهملون التأثير الرباني بشكل عام، ويرون العلة الأصلية هي العوامل الطبيعية أو المعبودات الخرافية) (5)
قال آخر (6): ثم ذكر القرائن الدالة على هذا التفسير، وأولها أن تعبيرات الآي تحكي
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (5/ 328)
(2) التعبير بالنفس الواحدة جاء في خمسة مواطن في القرآن الكريم، واحدة منها في الآية التي نحن بصددها، والأربعة الأخرى هي في سورة النساء (الآية الأولى) وسورة الأنعام، الآية (98)، وسورة لقمان، الآية (28)، وسورة الزمر، الآية (6)
(3) الأمثل، الشيرازي: (5/ 329)
(4) الأمثل، الشيرازي: (5/ 329)
(5) الأمثل، الشيرازي: (5/ 329)
(6) الأمثل، الشيرازي: (5/ 330)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/453)
عن حال زوجين كانا يعيشان في مجتمع ما من قبل، ورأيا الأبناء الصالحين وغيرالصالحين فيه، ولهذا طلبا من الله وسألاه أن يرزقهما الولد الصالح .. ولو كانت الآيات تتكلم على آدم وحواء فهو خلاف الواقع، لأنه لم يكن يومئذ ولد صالح وغير صالح حتى يسألا الله الولد الصالح.
قال آخر (1): ومنها أن الضمائر الواردة في آخر الآية الثانية والآيات التي تليها، كلها ضمائر جمع، ويستفاد من هذا أن المراد من ضمير التثنية هو إشارة إلى الفريقين لا إلى الشخصين.
قال آخر (2): ومنها أن الآيات التي تلت الآيتين الأوليين تكشف عن أن المقصود بالشرك هو عبادة الأصنام، لا محبة الأولاد والغفلة عن الله، وهذا الأمر لا ينسجم والنبي آدم وزوجه.
قال آخر: ثم رد على الروايات الواردة في هذا، والتي تعلق بها المخطئة، فقال: (جاء في بعض المصادر الحديثية لأهل السنة، وبعض كتب الحديث الشيعية غير المعتبرة، في تفسير الآيات محل البحث، حديث لا ينسجم مع العقائد الإسلامية، ولا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام أبدا، وهذا الحديث كما جاء في مسند أحمد هو أن سمرة بن جندب روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه: عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره (الحارث اسم من أسماء الشيطان) .. وجاء في بعض الروايات الوارد فيها هذا المضمون ذاته أن آدم رضي بهذا الأمر) (3)
قال آخر: ثم علق على هذه الرواية، فقال: (سواء أكان راوي هذه الرواية سمرة بن
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (5/ 330)
(2) الأمثل، الشيرازي: (5/ 330)
(3) الأمثل، الشيرازي: (5/ 331)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/454)
جندب ـ الكذاب المشهور ـ أم غيره أمثال كعب الأحبار أو وهب بن منبه اللذين كانا من علماء اليهود ثم أسلما، ويعتقد بعضهم أنهما أدخلا في الثقافة الإسلامية خرافات التوراة وبني إسرائيل .. ومهما يكن الأمر فالرواية بنفسها خير دليل على فسادها وبطلائها، لأن آدم عليه السلام الذي هو خليفة الله في أرضه ونبيه الكبير، وكان يعلم الأسماء، بالرغم من كونه بترك الأولى هبط إلى الأرض، إلا أنه لم يكن إنسانا يختار سبيل الشرك ويسمي ولده عبد الشيطان، فهذا الأمر يصدق في مشرك جاهل فحسب لا في آدم) (1)
قال آخر: ثم ذكر ما تحمله الرواية نفسها من الشرك، فقال: (والأعجب من ذلك أن الحدىث يتضمن معجزة للشيطان أو كرامة له، إذ بتسميته الولد باسمه عاش الولد خلافا للأبناء الآخرين) (2)
قال آخر: ثم راح يتأسف على المفسرين الذين ينقلون أمثال هذه الأحاديث، ليشوهوا بها القرآن الكريم، فقال: (وإنه لمدعاة للأسف الشديد أن ينساق كثير من المفسرين تحت وطأة هذا الحديث المختلق وأضرابه، فيجعلون مثل هذه الأباطيل تفسيرا للآي .. وعلى كل حال، فإن مثل هذا الكلام لما كان مخالفا للقرآن، ومخالفا للعقل أيضا، فينبغي أن ينبذ في سلة المهملات) (3)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات التي استدل بها شيوخنا الأفاضل في شأن شعيب عليه السلام، وأنه كان على دين قومه قبل أن يكرمه الله بنبوته، كما قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (5/ 331)
(2) الأمثل، الشيرازي: (5/ 331)
(3) الأمثل، الشيرازي: (5/ 332)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/455)
مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88 - 89] وما في معناها) (1)
قال أحد التلاميذ: لقد رد علماؤنا على الاشتباه الذي وقع فيه المخطئة نتيجة عدم تدبرهم للآية الكريمة، وعدم فهمهم للمتشابه على ضوء المحكم.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الطباطبائي في تفسيره لها، فقد قال: (من أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] على أن شعيبا عليه السلام كان قبل نبوته مشركا وثنيا ـ حاشاه ـ .. فهو يتكلم عن نفسه وعن المؤمنين به من قومه، وقد كانوا كفارا مشركين قبل الإيمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك وهداهم بشعيب عليه السلام إلى التوحيد، فقول شعيب: {نَجَّانَا اللَّهُ} [الأعراف: 89] تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل) (2)
قال آخر: ثم ذكر أن هذا بناء على كون التنجية مرتبطة بالشرك، أما التنجية العامة، فإن شعيبا عليه السلام يشاركهم فيها، يقول الطباطبائي: (هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي، وأما لو أريد بها التنجية الحقيقية وهي الإخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب عليه السلام ـ وهو لم يشرك بالله طرفة عين ـ وقومه ـ وهم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب ـ جميعا ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الإنسان لنفسه الهالكة ضرا ولا نفعا وما أصابه من خير فهو من الله سبحانه) (3)
قال آخر: ثم ذكر أن قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}
__________
(1) مجموع الفتاوى (15/ 30)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 105)
(3) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 105)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/456)
[الأعراف: 89] هو (كالإضراب والترقي بالجواب القاطع، كأنه قال: (نحن كارهون العود إلى ملتكم لأن فيه افتراء على الله، بل إن ذلك مما لا يكون البتة)، وذلك أن كراهة شيء إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فأجاب عليه السلام ثانيا بتعذر العود بعد جوابه أولا بتعسره، وهو ما ذكرناه من الإضراب والترقي) (1)
قال آخر: ثم بين سر ورود المشيئة في الآية، والتي تعلق بها المخطئة، فقال: (ولما كان قوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89] في معنى أن يقال: (لن نعود إليها أبدا) والقطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: (لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله)، وهو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشيئة الله سبحانه فقال: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، فإن الإنسان كيفما كان جائز الخطإ، فمن الجائز أن يخطئ بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال) (2)
قال آخر: ومثله الشريف المرتضى، فقد ذكر وجوها في تأويل الآية، ومنها (أن تكون الملّة التي عناها اللّه إنّما هي العبادات الشرعيات؛ التي كان قوم شعيب متمسكين بها؛ وهي منسوخة عنهم، ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في اللّه وصفاته؛ مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه، والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة؛ من حيث تبعت المصالح والألطاف والمعلوم من أحوال المكلّفين؛ فكأنّه قال: إنّ ملتكم لا نعود فيها؛ مع علمنا بأنّ اللّه قد نسخها وأزال حكمها؛ إلّا أن يشاء اللّه أن يتعبّدنا بمثلها فنعود إليها؛ وتلك الأفعال التي كانوا متمسّكين بها؛ مع نسخها عنهم ونهيهم عنها ـ وإن كانت ضلالا وكفرا ـ فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن يكون إيمانا وهدى؛ بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك؛ وليس تجري هذه
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 105)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (8/ 105)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/457)
الأفعال مجرى الجهل باللّه تعالى، الذي لا يجوز أن يكون إلّا قبيحا) (1)
قال آخر: ثم رد على من يطعن في هذا التأويل، فقال: (وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: كيف يجوز أن يتعبّدهم اللّه تعالى بتلك الملّة مع قوله: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89]؟ فيقال له: لم ينف عودهم إليها على كل وجه؛ وإنما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيا عنها؛ والذي علقه بمشيئة الله تعالى من العود إليها هو بشرط أن يأمر بها، ويتعبد بمثلها، والجواب مستقيم لا خلل فيه) (2)
قال آخر: ومن الوجوه التي فسر بها الآية الكريمة هو أن شعيبا عليه السلام (أراد أن ذلك لا يكون أبدا من حيث علقه بمشيئة الله تعالى، لما كان معلوما أنه لا يشاؤه؛ وكل أمر علق بما لا يكون فقد نفي كونه على أبعد الوجوه؛ وبذلك تجري الآية مجرى قوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وكما يقول القائل: (أنا لا أفعل كذا حتى يبيضّ القار؛ أو يشيب الغراب) (3)
قال آخر: ومنها ما نقله عن قطرب من (أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وأن الاستثناء من الكفار وقع لا من شعيب؛ فكأنه تعالى قال حاكيا عن الكفار: (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، إلا أن يشاء الله أن تعودوا في ملتنا)؛ ثم قال حاكيا عن شعيب: (وما يكون لنا أن نعود فيها على كل حال) (4)
قال آخر (5): ومنها (أن تكون الهاء التي في قوله {فيها} إلى القرية لا إلى الملة؛ لأن ذكر القرية قد تقدم كما تقدم ذكر الملة؛ ويكون تلخيص الكلام: (إنا سنخرج من قريتكم، ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم، والظفر بكم، فنعود
__________
(1) نفائس التأويل، ج 2، ص: 297.
(2) نفائس التأويل، ج 2، ص: 298.
(3) نفائس التأويل، ج 2، ص: 298.
(4) نفائس التأويل، ج 2، ص: 298.
(5) نفائس التأويل، ج 2، ص: 299.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/458)
إليها) (1)
قال آخر (2): ومنها أن يكون المعنى: (إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق، فنكون جميعا على ملة واحدة غير مختلفة)؛ لأنه لما قال تعالى حاكيا عنهم: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] كان معناه: أو لنكونن على ملة واحدة غير مختلفة، فحسن أن يقول من بعد: إلا أن يشاء الله أن يجمعكم معناه على ملة واحدة (3).
قال آخر (4): ومنها أن يكون المعنى (إلا أن يشاء الله أن يمكنكم من إكراهنا، ويخلي بينكم وبينه، فنعود إلى إظهارها مكرهين؛ ويقوي هذا الوجه قوله تعالى: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]
قال آخر: وقد ذكر أكثر هذه الوجوه، وبسطها الشيرازي بقوله: (قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير {لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] أن شعيبا عليه السلام كان قبل ذلك في صفوف الوثنيين، والحال ليس كذلك، بل حيث إن شعيبا لم يكن مكلفا بالتبليغ، لذلك كان يسكت على أعمالهم، وكانوا يظنون أنه كان على دين الوثنية، في حين أن أحدا من النبيين لم يكن وثنيا حتى قبل زمان النبوة، وإن عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف، هذا مضافا إلى أن هذا الخطاب لم يكن موجها إلى شعيب وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضا ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم) (5)
قال آخر: ثم قال: (على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات أخرى .. وقد أجابهم شعيب عليه السلام في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: (وهل في إمكانكم أن تعيدوننا
__________
(1) نفائس التأويل، ج 2، ص: 298.
(2) نفائس التأويل، ج 2، ص: 299.
(3) نفائس التأويل، ج 2، ص: 299.
(4) نفائس التأويل، ج 2، ص: 299.
(5) الأمثل، الشيرازي: (5/ 116)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/459)
إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]؟ .. وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم: هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا، وتكرهوننا على أن نعتنق دينا ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافا إلى أنه ما جدوى عقيدة مفروضة، ودين جبري!؟) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] (توضيح للجملة السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإلهي في التوحيد بأذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أن الله سيعاقبنا على ذلك بشدة) (2)
قال آخر: ثم وضح معنى الاستثناء في جواب شعيب عليه السلام، فقال: (ومراد شعيب من هذا الكلام هو أننا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلا إذا أمر الله بذلك، ثم من دون إبطاء يضيف: إن الله يأمر بمثل هذا، لأن الله يعلم بكل شيء ويحط علما بجميع الأمور {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89] وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلا من كان علمه محدودا، واشتبه ثم ندم على أمره، أما الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأمور علما فيستحيل أن يعيد النظر) (3)
قال آخر: ثم ذكر ما ورد في تتمة الآيات الكريمة مما يؤكد هذا، فقال: (ثم لأجل أن
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (5/ 116)
(2) الأمثل، الشيرازي: (5/ 116)
(3) الأمثل، الشيرازي: (5/ 116)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/460)
يفهمهم بأنه لا يخاف تهديداتهم، وأنه ثابت في موقفه، قال: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 85]، وأخيرا لأجل أن يثبت حسن نيته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، أي: يا رب أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين) (1)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات التي استدل بها شيوخنا الأفاضل في شأن إبراهيم عليه السلام، والتي تدل على كونه مشركا قبل أن يكرمه الله بالنبوة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79]
قال أحد التلاميذ: لقد فسرها علماؤنا بحسب ما يقتضيه مقام النبوة؛ وهو استحالة الكفر على الأنبياء عليهم السلام لتناقضها مع عصمة الله لهم.
قال آخر: ومن الأمثلة على تفسيراتهم لذلك ما عبر عنه الطباطبائي بقوله: (وعلى هذا فقوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] جار مجرى التسليم والمجاراة بعد نفسه كأحدهم ومجاراتهم وتسليم ما سلموه، ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم وبطلان قولهم، وهذا الطريق من الاحتجاج أجلب لإنصاف الخصم، وأمنع لثوران عصبيته وحميته، وأصلح لإسماع
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (5/ 116)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/461)
الحجة)
قال آخر: وذكر الرازي فساد قول المخطئة في تفسير الآية الكريمة، وقدم لذلك بذكره لما ذكره أغلب المفسرين لها، فقال: (اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد، فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام، فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه، وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا، فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت أبوك، فقال للأب: ومن ربك؟ فقال: ملك البلد، فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء، فقال: هذا ربي إلى آخر القصة) (1)
قال آخر: ثم رد على قولهم هذا بوجوه متعددة، منها (أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء) (2)
قال آخر (3): ومنها أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل، والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]
قال آخر (4): ومنها أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام
__________
(1) مفاتيح الغيب (13/ 38)
(2) مفاتيح الغيب (13/ 39)
(3) مفاتيح الغيب (13/ 39)
(4) مفاتيح الغيب (13/ 39)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/462)
بالرفق، حيث قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن، ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق.
قال آخر (1): ومنها أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه، والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] ولم يقل على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه.
قال آخر (2): ومنها أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار، وهذا باطل، لأنه لو كان الأمر كذلك، فكيف يقول {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم.
قال آخر (3): ومنها قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: 80] وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم، وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] ردا عليهم وتنبيها لهم على فساد قولهم.
قال آخر (4): ومنها أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنعام: 81] وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام،
__________
(1) مفاتيح الغيب (13/ 40)
(2) مفاتيح الغيب (13/ 39)
(3) مفاتيح الغيب (13/ 39)
(4) مفاتيح الغيب (13/ 39)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/463)
كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار.
قال آخر (1): ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم، ثم غربت، فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للإلهية، وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضا في القمر والكوكب بطريق الأولى.
قال آخر (2): ومنها أن المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم، ولذلك اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده.
قال آخر (3): ومنها أن إبراهيم عليه السلام لم يقل {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] على سبيل الإخبار، بل (الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وإلههم، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله، ومثاله: أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم، فيقول: الجسم قديم؟ فإذا كان كذلك، فلم نراه ونشاهده مركبا متغيرا؟ فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه، فكذا هاهنا قال: هذا ربي والمقصود منه حكاية قول الخصم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على فساده وهو قوله: لا أحب الآفلين وهذا الوجه هو المعتمد في الجواب، والدليل عليه: أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]
__________
(1) مفاتيح الغيب (13/ 39)
(2) مفاتيح الغيب (13/ 39)
(3) مفاتيح الغيب (13/ 39)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/464)
قال آخر (1): ومنها أن قوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] معناه (هذا ربي في زعمكم واعتقادكم)، ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء: (إن إلهه جسم محدود)، أي في زعمه واعتقاده، كما قال تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [القصص: 74].
قال آخر (2): ومنها أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه.
قال آخر (3): ومنها أن يكون القول مضمرا فيه، والتقدير: (قال يقولون هذا ربي)، وإضمار القول كثير، كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [البقرة: 127] أي يقولون: ربنا، وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي يقولون ما نعبدهم، فكذا هاهنا التقدير: إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه: يقولون هذا ربي، أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني.
قال آخر (4): ومنها أن يكون إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما: هذا سيدكم، على سبيل الاستهزاء.
قال آخر (5): ومنها أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده
__________
(1) مفاتيح الغيب (13/ 41)
(2) مفاتيح الغيب (13/ 41)
(3) مفاتيح الغيب (13/ 41)
(4) مفاتيح الغيب (13/ 41)
(5) مفاتيح الغيب (13/ 41)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/465)
وأن يقبلوا قوله.
قال آخر: ثم وضح ذلك وبرهن عليه بقوله: (وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأمورا بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر، ومعلوم أن عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤيد كان ذلك أولى) (1)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى، والذي يدل على شك إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]
قال أحد التلاميذ: لقد أجاب علماؤنا على هذا أجوبة كثيرة، كلها تتوافق مع اللغة العربية، ومع تنزيه الأنبياء عليهم السلام، وبذلك ردوا هذا المتشابه إلى المحكمات التي دل عليها القرآن الكريم، ودلت عليها معه العقول.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشريف المرتضى في تفسيرها، والذي قدم له بذكر الشبهات التي أثارها المخطئة، فقال: (فإن قيل: ما معنى هذه الآية، أو ليس هذا الكلام والطلب من إبراهيم عليه السلام يدلان على أنه لم يكن موقنا بأن الله تعالى يحيي الموتى؟ .. وكيف يكون نبيا من يشك في ذلك؟ .. أو ليس قد روى المفسرون أن إبراهيم
__________
(1) مفاتيح الغيب (13/ 41)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/466)
عليه السلام مر بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر، ودواب البر والبحر تأكل منه، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا، مع تفرق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر؟ فشك، فسأل الله تعالى ما تضمنته الآية، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام) (1)
قال آخر: ثم ذكر وجوها للتفسير الصحيح للآية الكريمة، فقال: (ليس في الآية دلالة على شك إبراهيم في إحياء الموتى، وقد يجوز أن يكون عليه السلام إنما سأل الله تعالى ذلك ليعلمه على وجه يبعد عن الشبهة، ولا يعترض فيه شك ولا ارتياب، وإن كان من قبل قد علمه على وجه للشبهة فيه مجال، ونحن نعلم أن في مشاهدة ما شاهده إبراهيم من كون الطير حيا ثم تفرقه وتقطعه وتباين أجزائه ثم رجوعه حيا كما كان في الحال الأولى، من الوضوح وقوة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات، وللنبي عليه السلام أن يسأل ربه تخفيف محنته وتسهيل تكليفه) (2)
قال آخر: ثم ذكر ما يدل على صحة هذا الاحتمال من الآية الكريمة، فقال: (والذي يبين صحة ما ذكرناه قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فقد أجاب إبراهيم عليه السلام بمعنى جوابنا بعينه، لأنه بين أنه لم يسأل ذلك لشك فيه وفقد إيمان به، وإنما أراد الطمأنينة، وهي ما أشرنا إليه من سكون النفس وانتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن اعتراض الشبهة) (3)
قال آخر: ثم ذكر وجها آخر في تفسير الآية، وهو (أنه قد قيل: ان الله تعالى لما بشر إبراهيم عليه السلام بخلته واصطفائه واجتبائه، سأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى ليطمئن
__________
(1) نفائس التأويل، ج 1، ص: 549.
(2) نفائس التأويل، ج 1، ص: 550.
(3) نفائس التأويل، ج 1، ص: 550.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/467)
قلبه بالخلة؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون صحة ما تضمنه الوحي إلا بالاستدلال، فسأل إحياء الموتى لهذا الوجه لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك) (1)
قال آخر: ومن الوجوه التي ذكرها في تفسير الآية (أنه يجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام إنما سأل إحياء الموتى لقومه ليزول شكهم في ذلك وشبهتهم، ويجري مجرى سؤال موسى عليه السلام الرؤية لقومه، ليصدر منه تعالى الجواب على وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى، ويكون قوله: ليطمئن قلبي على هذا الوجه، معناه أن نفسي تسكن إلى زوال شكهم وشبهتهم، أو ليطمئن قلبي إلى إجابتك إياي فيما أسألك فيه) (2)
قال آخر: ثم علق على هذه الوجوه بقوله: (وكل هذا جائز، وليس في الظاهر ما يمنع منه؛ لأن قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ما تعلق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسك بالظاهر، و ما تعلقت هذه الطمأنينة به غير مصرح بذكره، قلنا: إن تعلقه بكل أمر يجوز أن يتعلق به) (3)
قال آخر: ثم أجاب على ما تعلق به المخطئة من قوله تعالى في الآية الكريمة: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260]، واستدلالهم بأن (هذا اللفظ استقبال، وعندكم أنه كان مؤمنا فيما مضى)، بقوله: (معنى ذلك أو لم تكن قد آمنت؟ .. والعرب تأتي بهذا اللفظ، وإن كان في ظاهره الاستقبال، وتريد به الماضي، فيقول أحدهم لصاحبه: (أو لم تعاهدني على كذا وكذا، وتعاقدني على أن لا تفعل كذا وكذا؟) وإنما يريد الماضي دون المستقبل) (4)
قال آخر: ومثله الطباطبائي، والذي ابتدأ تفسيره للآية الكريمة بتنزيه إبراهيم عليه السلام عن قول المخطئة، فقال: (وفي قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] دلالة
__________
(1) نفائس التأويل، ج 1، ص: 550.
(2) نفائس التأويل، ج 1، ص: 550.
(3) نفائس التأويل، ج 1، ص: 551.
(4) نفائس التأويل، ج 1، ص: 551.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/468)
على أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي، فإن الأنبياء وخاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل أرفع قدرا من أن يعتقد البعث ولا حجة له عليه، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناشئ عن اختلال فكري وشيء منهما لا ينطبق على إبراهيم عليه السلام، على أنه عليه السلام إنما سأل ما سأل بلفظ كيف، وإنما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشيء لا عن أصل وجوده فإنك إذا قلت: أرأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، وإذا قلت: كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه، وإنما السؤال عن خصوصيات الرؤية، فظهر أنه عليه السلام إنما سأل البيان بالإراءة والإشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال) (1)
قال آخر: ثم فسر الآية بحسب ما يقتضيه ذلك، فقال: (إن إبراهيم عليه السلام إنما سأل أن يشاهد كيفية الإحياء لا أصل الإحياء، كما أنه ظاهر قوله: {كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، وهذا السؤال متصور على وجهين: الوجه الأول: أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الأجزاء المادية الحياة، وتجمعها بعد التفرق والتبدد، وتصورها بصورة الحي، ويرجع محصله إلى تعلق القدرة بالإحياء بعد الموت والفناء .. الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الأموات وفعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة، ويرجع محصله إلى السؤال عن السبب وكيفية تأثيره، وهذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من قائل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 82 - 83]) (2)
قال آخر (3): ثم ذكر الأدلة عن كون إبراهيم عليه السلام سأل عن الكيفية بالمعنى
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (2/ 210)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (2/ 211)
(3) تفسير الميزان، الطباطبائي: (2/ 211)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/469)
الثاني دون المعنى الأول .. ومنها أنه قال: {كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، بضم التاء من الإحياء فسأل عن كيفية الإحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحي بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الأجزاء وعودها إلى صورتها الأولى وقبولها الحياة، ولو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية.
قال آخر (1): ومنها أنه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، ولكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شيء من الحيوان بعد موته.
قال آخر (2): ومنها أنه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: (وأعلم أن الله على كل شيء قدير) لا بقوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة والحكمة فإن العزة والحكمة ـ وهما وجدان الذات كل ما تفقده وتستحقه الأشياء وإحكامه في أمره ـ إنما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها.
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] والذي يدل على شك إبراهيم عليه السلام في قدرة الله تعالى.
قال آخر (3): إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن يونس عليه السلام كان مبعوثا إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذبهم، فلما أشرف عليهم العذاب تابوا
__________
(1) تفسير الميزان، الطباطبائي: (2/ 211)
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي: (2/ 211)
(3) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 77.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/470)
وآمنوا، فكشفه الله عنهم، وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضبا لقومه ظانا بأنه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.
قال آخر (1): وهذا الظن الذي نسبه الله تعالى إلى يونس عليه السلام، ليس ظنا قائما بمشاعره، فنحن نجله ونجل ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء!؟ .. بل المراد أن عمله هذا ـ أي ذهابه ومفارقة قومه ـ كان ممثلا بأنه يظن أن مولاه لا يقدر عليه، وهو يفوته بالابتعاد عنه، فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسما وممثلا لهذا الظن في كل من رآه وشاهده؟ .. فما يخالف العصمة هو الأول لا الثاني.
قال آخر: وقد أشار إلى هذا المعنى الرازي عند رده على الذين تمسكوا بهذه الآية الكريمة على تخطئة يونس عليه السلام، حيث ذكر أن قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] لا يدل على كونه شاكا في قدرة الله تعالى، وإنما يدل على أنه (ذهب مغاضبا، ولم تدل على أنه غاضب الله، وكيف ومغاضبة الله تعالى لا تجوز على أحد من المسلمين، فكيف على النبي عليه السلام!؟ .. فلعله إنما خرج مغاضبا لقومه، فلم قلتم إن ذلك معصية؟) (2)
قال آخر: ثم رد على استدلال المخطئة بقوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]، بأن هذا (ليس لأنه ثقلت عليه أعباء النبوة لضيق خلقه، بل المراد أنه لم يقو على الصبر على تلك المحنة التي ابتلاه الله بها ولو صبر لكان أفضل فأراد الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل المنازل وأعلاها) (3)
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 77.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 87.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 87.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/471)
قال آخر: ثم رد على اتهامهم له بالشك، فقال: (الشك في قدرة الله تعالى كفر، ولا نزاع أنه لا يجوز اتصاف الأنبياء به، بل المراد أن لا نضيق الأمر عليه، قال الله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وقال: {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52] أي يوسع ويضيق، وقال: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي ضيقه) (1)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات التي استدل بها شيوخنا الأفاضل على شك الأنبياء وكذبهم، وهي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]
قال أحد التلاميذ: الإشكال الذي وقع فيه المخطئة هو عدم فهمهم للآية الكريمة وتأويلهم لها بما يتناسب مع ما يعتقدونه في العصمة، وكان في إمكانهم أن يفهموها على ضوء ما ورد في الأدلة الكثيرة من عصمة الرسل عليهم السلام لكنهم للأسف لم يفعلوا.
قال آخر (2): ذلك أن الآية الكريمة تحتمل أن يكون المراد منها أن الظروف التي حاقت بالرسل عليهم السلام بلغت من الشدة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أن النصر الموعود كأنه نصر غير صادق، لا أن هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم.
قال آخر (3): وكم من فرق بين كونهم ظانين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعدا مكذوبا، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنها تشهد في
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 87.
(2) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 76.
(3) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 76.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/472)
بادئ النظر على أنه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.
قال آخر (1): فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذبا أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأول.
قال آخر (2): ولذلك نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى في سورة الحشر حاكيا عن بني النضير ـ إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ـ والذين تعاقدوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيق عليهم النبي، فلجئوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]
قال آخر (3): فالظن الذي نسبه الله تعالى لهم، لا يعني أنهم كانوا يظنون بقلوبهم أن حصونهم مانعتهم من الله؛ فإن ذلك بعيد جدا، لأنهم كانوا موحدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أن علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبين لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنهم مصدر هذا الظن وصاحبه.
قال آخر (4): ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأن الموت كأنه كتب على غيرهم، ولا شك أن هذه النسبة نسبة
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 76.
(2) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 76.
(3) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 76.
(4) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 76.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/473)
صادقة، لكن بالمعنى الذي عرفنا، أي أن عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.
قال آخر (1): وعلى ذلك فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] يشير إلى أن البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء عليهم السلام طيلة حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنهم أعداء ألداء، وكان المؤمنون بهم في قلة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضراء، مظنة لأن يتخيل كل من وقف عليها من نبي وغيره، أن ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما قال تعالى: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]
قال آخر (2): ويدل لهذا قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] فإن كلمة {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم، لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفنا من كونه ظاهرا من أحوالهم لا من أقوالهم.
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 78.
(2) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 78.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/474)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات التي استدل بها شيوخنا الأفاضل في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان على دين قومه قبل أن يكرمه الله بنبوته، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6، 7]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86]
قال أحد التلاميذ: أول من يرد على شيوخكم في هذا هو أحمد بن حنبل الذي تزعمون أنه إمام من أئمة سلفكم، بل إمامكم الأكبر، والذي تعتبرونه ناصرا للسنة وإماما لها، فقد قال الحافظ ابن رجب ـ وهو من أئمة الحنابلة ـ في كتابه (لطائف المعارف): (وقد استدل الإمام أحمد رضي الله عنه بحديث (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته) .. على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل على التوحيد مذ نشأ وردَّ بذلك على من زعم غير ذلك، قال الحافظ: بل يستدل بذلك على أنه صلى الله عليه وآله وسلم ولد نبياً، فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق، حيث استخرج من صُلب آدم فكان نبياً من حينئذ، لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك، وذلك لا يمنع كونه نبياً قبل خروجه كمن يولى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته وإن كان تصرفه متأخراً إلى حين مجيء الوقت) (1)
قال آخر: ثم نقل عن حنبل قوله: (قلت لأبي عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ: من زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان على دين قومه قبل أن يبعث؟ قال: هذا قول سوء، ينبغي لصاحب هذه
__________
(1) لطائف المعارف لابن رجب (ص 82)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/475)
المقالة أن يحذر كلامه ولا يجالس .. قلت: إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة. قال: قاتله الله، وأي شيء أبقى إذا زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان على دين قومه وهم يعبدون الأصنام؟ قال الله تعالى مخبراً عن عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. ثم قال الإمام أحمد: ماذا يحدث الناس من الكلام، هؤلاء أصحاب الكلام من أحب الكلام لم يفلح، سبحان الله لهذا القول، واحتج الإمام أحمد برؤيا أمه النور عند ولادته حتى أضاءت له قصور الشام، قال: وليس ذلك عندما ولدت رأت ذلك، وقيل: وقبل أن يبعث كان طاهراً مطهراً من الأوثان، ثم قال الإمام أحمد: احذروا الكلام فإن أصحاب الكلام لا يؤول أمرهم إلى خير. أخرجه أبو بكر عبد العزيز في كتاب السنة) (1)
قال آخر: ثم عقب ابن رجب على قول أحمد بقوله: (ومراد الإمام أحمد الاستدلال بتقديم البشارة بنبوته من الأنبياء من قبل خروجه إلى الدنيا وولادته، وهذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض) (2)
قال آخر: أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، فكل علمائنا يفسرونها بحسب ما تقتضيه عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي ذكرنا لكم أدلتها الكثيرة.
قال آخر (3): ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره السبحاني في تفسيرها؛ فقد ذكر من خلال تحليله لمعنى الضلالة في القرآن الكريم أنها تنقسم إلى قسمين .. أولهما تكون فيه الضلالة وصفاً وجودياً، وحالة واقعية كامنة في النفس، توجب منقصتها وظلمتها، كالكافر والمشرك والفاسق ..
__________
(1) لطائف المعارف لابن رجب (ص 82)
(2) لطائف المعارف لابن رجب (ص 82)
(3) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 273.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/476)
قال آخر (1): فالضلالة في هؤلاء صفة وجودية تكمن في نفوسهم، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّي على المولى سبحانه، كما قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]، فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37]
قال آخر (2): أما القسم الثاني من الضلالة، فهو الذي تكون فيه أمراً عدمياً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، وعندئذ يكون الإنسان ضالاً، بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز، وكاد أن يعرف الخير من الشر، والصلاح من الفساد، والسعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضال، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا ضال بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.
قال آخر: ثم علق على هذا التقسيم بقوله: (إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لو كان المراد من الضال في الآية، ما يخالف الهداية والرشاد، فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل، بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثمّ أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى، فآواه وأكرمه، بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب، وكان ضالاً في هذه الفترة من عمره، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء) (3)
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 273.
(2) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 273.
(3) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 273.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/477)
قال آخر: ثم ذكر البعد العرفاني لهذا المعنى، والذي على أساسه تفهم أمثال هذه النصوص، فقال: (والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الأفعالي، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، والاعتقاد بالهداية الذاتية، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الأفعالي) (1)
قال آخر: وما ذكره السبحاني وغيره من علمائنا هو ما دلت عليه النصوص القرآنية الكثيرة التي تذكر كل حين بأن الهداية مكتسبة من الله سبحانه وتعالى، من غير فرق بين الإنسان وغيره، كما قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وقال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2، 3]، وقال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقال: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] وغيرها من الآيات الكريمة.
قال آخر: وبذلك فإن الآية على هذا الفهم العرفاني (تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين، ويؤيّد ذلك قول الإمام علي: (ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 273.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/478)
أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره) (1)
قال آخر: بناء على هذا الفهم التوحيدي العرفاني يمكن تفسير كل الآيات المشكلة على خلاف الطريقة التي فسر بها المخطئة تلك الآيات الكريمة .. وبذلك يمكن أيضا الجمع بين النصوص التي تدل على أن كل نبي يولد وهو متصف بوصف النبوة، وإنما يؤخر تنفيذها أو يؤخر الإرسال وتكاليفه إلى الأجل الذي يراه الله مناسبا.
قال آخر: ومثل السبحاني أجاب الشريف المرتضى على ما ذكره المخطئة من الآية الكريمة، فقال: (فإن قيل: ما معنى هذه الآية؟ .. أو ليس هذا يقتضي إطلاقه الضلال عن الدين؟ وذلك ممّا لا يجوز عندكم قبل النبوّة ولا بعدها؟) (2)
قال آخر (3): ثم أجاب على ذلك بوجوه أولها ما عبر عنه بقوله: (أراد وجدك ضالّا عن النبوّة، فهداك إليها، أو عن شريعة الإسلام الّتي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق، وبارشاده صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما ذكرناه أعظم النعم عليه .. والكلام في الآية خارج مخرج الإمتنان والتذكير بالنعم) (4)
قال آخر: ثم رد على من اعتبر أنّ ظاهر الآية بخلاف ذلك؛ بقوله: (لأنّه لا بدّ في الظاهر من تقدير محذوف يتعلّق به الضلال؛ لأنّ الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بدّ من أمر يكون منصرفا عنه، فمن ذهب إلى أنّه أراد الذهاب عن الدين فلا بدّ له من أن يقدّر هذه اللفظة ثمّ يحذفها ليتعلّق بها لفظ الضلال، وليس هو بذلك أولى منّا فيما قدّرناه وحذفناه) (5)
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 178، والتي تسمّى بالقاصعة، وانظر: عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 274.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 465.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص: 466.
(4) نفائس التأويل، ج 3، ص: 466.
(5) نفائس التأويل، ج 3، ص: 466.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/479)
قال آخر (1): أما الوجه أو الاحتمال الثاني، فهو (أن يكون أراد الضلال عن المعيشة وطريق الكسب؛ يقال للرجل الّذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكسبه: (هو ضالّ لا يدري ما يصنع ولا اين يذهب)، فامتنّ اللّه تعالى عليه بأن رزقه وأغناه وكفاه)
قال آخر (2): أما الوجه أو الاحتمال الثالث، فهو (أن يكون أراد: وجدك ضالّا بين مكّة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلّمك من أعدائك .. وهذا الوجه قريب لولا أنّ السورة مكية وهي متقدّمة للهجرة إلى المدينة، اللهم إلّا أن يحمل قوله تعالى: {ووَجَدَكَ} على أنّه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل فيكون له وجه)
قال آخر (3): أما الوجه أو الاحتمال الرابع، فهو (أن يكون أراد بقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] أي مضلولا عنه في قوم لا يعرفون حقّك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك. وهذا له نظير في الاستعمال؛ يقال: فلان ضالّ في قومه وبين أهله إذا كان مضلولا عنه)
قال آخر: ويدل لذلك ما ورد في القرآن الكريم من الثناء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى الاهتداء والاقتداء به، كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ففي هذه الآية الكريمة جعل الله تعالى التأسي بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من لوازم رجائه تعالى واليوم الآخر، وما كان سبحانه ليجعل الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من لوازم رجائه تعالى واليوم الآخر، إلا وهو صلى الله عليه وآله وسلم معصوم في سلوكه من كل أنواع الذنوب (4).
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 466.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 466.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص: 466.
(4) رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم 1/ 35.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/480)
عمران: 31]، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فقوله: {فاتّبعوني}، {واتبعوه} أي: اسلكوا مسلكه، واحذوا حذره صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أموره من قول وفعل .. ووجه الاستدلال في الآيتين أنه تعالى جعل الاقتداء والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم لازمة من محبته عز وجل الواجبة، ولازمة للهداية والفلاح في الدنيا والآخرة، وما تلك الملازمة وسابقتها إلا شهادة من رب العزة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم على عصمته من كل الذنوب في كل أقواله وأفعاله.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، والتي تدل على أن الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأكرم السجايا، وجميل الأخلاق، وحسن الطوية وصفات الخير جميعها، كما نزهه عن كل ما يحط من قدره وينقص من منزلته، كما قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، فهو صلى الله عليه وآله وسلم منزه من كل ضلال وغواية، وقد كان من صيانة الله وحفظه له أن حماه من أقذار الجاهلية قبل مبعثه ونزول الوحي إليه، فهو معصوم عن كل ما يحط من قدره ويدق في شخصه.
قال آخر: ويدل لذلك كله سيرته العطرة صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أنها تشهد بعصمته في أحواله كلها، حيث لم يعلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم الوقوع في صغيرة ولا الدنو من شيء منها، مع أن سبل النقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أحصت كل حركة من حركاته، وكل قول من أقواله، حتى أن المحدثين وصفوا يقظته، ونومه، كما وصفوا حديثه وصمته، وقيامه وجلوسه، وسيره وركوبه وترجله وجميع شمائله، إلى غير ذلك مما هو مدون في كتب الحديث والشمائل والمغازي والسير، لأنهم كانوا يرون ذلك تبليغا عنه، وقد أمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ عنه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: (ألا ليبلّغ الشّاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه) (1)، فلو رأوا
__________
(1) البخاري (5550)، مسلم (1679)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/481)
أو سمعوا منه شيئا مما أجازه عليه المخطئة من قربه الصغائر ـ وحاشاه من ذلك ـ لما فاتهم نقل ذلك عنه ضمن ما نقلوه من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته.
قال آخر: لذلك كان القول بعصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، سرها، وجهرها، عمدها وسهوها هوما ندين لله تعالى به؛ فقد كانت أقواله وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله كلها تشريعا تقتضى المتابعة والاقتداء، إلا ما ورد الدليل فيها على أنه من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أوما ورد الدليل فيه أنه ليس من جنس ما يشرع لهم التأسي به فيه إلا عند وجود السبب.
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 ـ 54]
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نعتقد ما اعتقدوه، أو نذكر ما ذكروه من تلك الطامات التي تدل على جهلهم التام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا فكيف يتوهمون أن ذلك صدر منه.
قال آخر: أما تلك الأحاديث التي أوردوها، فهي من تدليس أعداء القرآن الكريم، والذين أرادوا تشويه النبوة؛ فلم يجدوا من يروي عنهم ذلك مثل أولئك السلف الذين اعتمد عليهم شيوخنا الأفاضل.
قال آخر: أما الآية الكريمة التي استندوا إليها؛ فلا علاقة لها بما ذكروه، ولذلك فسرها جميع علمائنا بحسب ما تدل عليه اللغة العربية، ويدل عليه معها تنزيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/482)
وتنزيه القرآن الكريم من أن يصبح لعبة بين يدي الشياطين.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما فسرها به الشريف المرتضى، فقد أورد الخرافة التي تعلق بها المخطئة، ثم قال: (أمّا الآية فلا دلالة في ظاهرها على هذه الخرافة الّتي قصّوها، وليس يقتضي الظاهر إلّا أحد أمرين: إمّا أن يريد بالتمنّي التلاوة كما قال حسّان بن ثابت: (تمنّى كتاب اللّه أوّل ليله .. وآخره لاقى حمام المقادر) .. أو يريد بالتمنّي تمنّي القلب) (1)
قال آخر: ثم فسرها على الاحتمال الأول، فقال: (فإن أراد التلاوة، كان المراد أنّ من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرّفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا، كما فعلت اليهود في الكذب على نبيّهم، فأضاف ذلك إلى الشيطان؛ لأنّه يقع بوسوسته وغروره، ثمّ بيّن أنّ اللّه تعالى يزيل ذلك ويدحضه بظهور حجّته وينسخه ويحسم مادّة الشبهة به .. وإنّما خرجت الآية على هذا الوجه مخرج التسلية له صلى الله عليه وآله وسلم لمّا كذب المشركون عليه، وأضافوا إلى تلاوته مدح آلهتهم ما لم يكن فيها) (2)
قال آخر: ثم فسرها على الاحتمال الثاني، فقال: (وإن كان المراد تمنّي القلب، فالوجه في الآية أنّ الشيطان متى تمنّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقلبه بعض ما يتمّناه من الأمور، يوسوس إليه بالباطل ويحدّثه بالمعاصي ويغريه بها ويدعوه إليها، وأنّ اللّه تعالى ينسخ ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان وعصيانه وترك إسماع غروره) (3)
قال آخر: ثم رد على الأحاديث التي استدلوا بها، فقال: (وأمّا الأحاديث المروية في هذا الباب، فلا يلتفت إليها من حيث تضمنت ما قد نزهت العقول الرسل عليهم السّلام عنه، هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة مضعفّه عند أصحاب الحديث بما يستغني عن
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 118.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 119.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص: 119.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/483)
ذكره) (1)
قال آخر: ثم ذكر معارضتها للقرآن الكريم، وهو كاف وحده للرد عليها، فقال: (وكيف يجيز ذلك على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من يسمع اللّه تعالى يقول: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] يعني القرآن، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]؟) (2)
قال آخر: ثم ذكر تعارض ما ذكروه مع كل القيم النبيلة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو مثلها في حياته، فقال: (على أنّ من يجيز السهو على الأنبياء عليهم السّلام يجب أن لا يجيز ما تضمنته هذه الرواية المنكرة لما فيها من غاية التنفير عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ اللّه تعالى قد جنّب نبيه من الأمور الخارجة عن باب المعاصي، كالغلظة والفظاظة وقول الشعر وغير ذلك مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون اللّه تعالى) (3)
قال آخر: ثم رد على ما أورده المخطئة من أنه فعل ذلك سهوا، فقال: (ولا حاجة بنا إلى إبطال القصد في هذا الباب والعمد لظهوره .. وإن كان فعله ساهيا، فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقها، ثمّ لمعنى ما تقدّمها من الكلام؛ لأنّا نعلم ضرورة أن من كان ساهيا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتّى يتفق منه بيت شعر في وزنها وفي معنى البيت الّذي تقدّمه، وعلى الوجه الّذي يقتضيه فائدته، وهو مع ذلك يظنّ أنّه من القصيدة الّتي ينشدها، وهذا ظاهر في بطلان هذه الدعوى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .. على أنّ الموحى إليه من اللّه النازل بالوحي وتلاوة القرآن جبريل عليه السّلام، وكيف يجوز السهو عليه؟) (4)
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 119.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 119.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص: 119.
(4) نفائس التأويل، ج 3، ص: 120.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/484)
قال آخر: ومثله الفخر الرازي؛ فقد ذكر ما ذكره المخطئة من تفسير الآية الكريمة من ذلك الحديث المكذوب الموضوع، ثم علق عليه بقوله: (هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول) (1)
قال آخر: ثم استعرض ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمة التي تفندها، ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15]، وقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ثم علق عليها بقوله: (فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم) (2)
قال آخر (3): ومثلها قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء: 73]، (وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل)
قال آخر (4): ومثلها قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا
__________
(1) مفاتيح الغيب (23/ 44)
(2) مفاتيح الغيب (23/ 44)
(3) مفاتيح الغيب (23/ 44)
(4) مفاتيح الغيب (23/ 44)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/485)
قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، فـ (كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل)
قال آخر: ثم ذكر ردود المحدثين للخرافة التي أوردوها، فقال: (وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتابا، وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق، وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق) (1)
قال آخر (2): ثم ذكر الردود العقلية .. وأولها أن من جوز على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وآله وسلم كان في نفي الأوثان.
قال آخر (3): ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى، ويقرأ القرآن الكريم عند الكعبة آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة، وذلك يبطل قولهم.
قال آخر (4): ومنها أن معاداة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
قال آخر (5): ومنها أن إحكام الآيات الوارد في قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}
__________
(1) مفاتيح الغيب (23/ 44)
(2) مفاتيح الغيب (23/ 44)
(3) مفاتيح الغيب (23/ 45)
(4) مفاتيح الغيب (23/ 45)
(5) مفاتيح الغيب (23/ 45)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/486)
[الحج: 52] يكون بإزالة ما يلقيه الشيطان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.
قال آخر (1): ومنها أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي، وبين الزيادة فيه.
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول حدود العصمة، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الأمر الأول .. فحدثونا عن الثاني.
قال أحد الشيوخ: الأمر الثاني؛ هو بيان عدم تعارض عصمة النبي مع أهواء البشر العادية، فللنبي كسائر الناس غرائز وشهوات، مثله مثل سائر الناس، وذلك ما قد يجره إلى بعض الأخطاء التي يعاتَب أو يعاقَب عليها .. وكل ذلك لا يتعارض مع العصمة.
قال القاضي: فما الفرق بينكم وبين هؤلاء القبوريين المعطلة الغلاة في هذا؟
قال أحد الشيوخ: هذا من الفروق الكبرى بيننا وبين الغلاة هو في هذا الجانب؛ فهم يردون كل ما ورد في القرآن الكريم، أو الأحاديث الشريفة، أو الأخبار الواردة عن السلف الصالح .. والتي تدل على ذلك بقوة.
قال القاضي: فهلا ذكرتم لنا بعض ما يدل على ذلك، لنقطع ألسنة هؤلاء الغلاة.
__________
(1) مفاتيح الغيب (23/ 45)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/487)
قال أحد الشيوخ: سنذكر لكم سيدي القاضي، ولهؤلاء الغلاة .. أربعة أمثلة منها.
قال القاضي: فما أولها؟
قال أحد الشيوخ: أولها ما أورده سلفنا الصالح من العلماء والمحققين في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ} [يوسف: 24]، حيث وضحوا الهم المجمل الوارد في الآية الكريمة بأحسن توضيح، ومن خلاله عرفنا أن الأنبياء عليهم السلام عكس ما يذكره الغلاة من التكلف الزائد في وصفهم بالعفاف المثالي الذي لا وجود له في الواقع.
قال آخر: ولعل أحسن من صور ذلك أحسن تصوير شيخ مفسرينا الإمام الطبري، فقد نقل الروايات الكثيرة التي فسرت الآية الكريمة أحسن تفسير.
قال آخر: ومن تلك الروايات ما رواه عن السدي أنه قال: قالت له امرأة العزيز: يا يوسف، ما أحسن شعرك! .. قال: هو أول ما ينتثر من جسدي .. قالت: يا يوسف، ما أحسن وجهك! .. قال: هو للتراب يأكله؛ فلم تزل حتى أطمعته، فهمت به وهم بها، فدخلا البيت، وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت، قد عض على إصبعه، يقول: (يا يوسف لا تواقعها .. فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتد، فأدركته، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته، حتى
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/488)
أخرجته منه وسقط، وطرحه يوسف واشتد نحو الباب) (1)
قال آخر: وروى عن ابن إسحاق، قال: (أكبت عليه ـ يعني المرأة ـ تطمعه مرة وتخيفه أخرى، وتدعوه إلى لذة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها وملكها، وهو شاب مستقبل يجد من شبق الرجال ما يجد الرجل؛ حتى رق لها مما يرى من كلفها به، ولم يتخوف منها حتى هم بها وهمت به، حتى خلوا في بعض بيوته) (2)
قال آخر: وروى عن ابن عباس، أنه سئل عن هم يوسف ما بلغ؟ قال: (حل الهميان، وجلس منها مجلس الخاتن) (3)
قال آخر: وروى عن ابن أبي مليكة، قال: سألت ابن عباس: ما بلغ من هم يوسف؟ قال: (استلقت له، وجلس بين رجليها) (4)
قال آخر: وبعد أن روى أمثال هذه الروايات عن سلفنا الصالح من أمثال مجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم .. راح يجيب عن الإشكالات التي يطرحها الغلاة، فقال: (فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا، وهو لله نبي؟) (5)
قال آخر: ثم أجاب على هذا، بمثل ما أجاب به من قبله ومن بعده من شيوخنا، فقال: (قيل: إن أهل العلم اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: كان من ابتلي من الأنبياء بخطيئة، فإنما ابتلاه الله بها، ليكون من الله عز وجل على وجل إذا ذكرها، فيجد في طاعته إشفاقا منها، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته .. وقال آخرون: بل ابتلاهم الله بذلك، ليعرفهم موضع نعمته عليهم، بصفحه عنهم، وتركه عقوبته عليه في الآخرة .. وقال آخرون: بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله، وترك الإياس
__________
(1) تفسير الطبري (16/ 33)، ورواه في تاريخه 1: 173.
(2) تفسير الطبري (16/ 34)
(3) تفسير الطبري (16/ 35)
(4) تفسير الطبري (16/ 35)
(5) تفسير الطبري (16/ 37)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/489)
من عفوه عنهم إذا تابوا) (1)
قال آخر: وبعدما ذكر إجابات أهل العلم من سلفنا الصالح عن سر ما وقع من يوسف عليه السلام من الهم، ذكر أقوال الغلاة المبتدعة المنحرفين، فقال: (وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف وتأولوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة، فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف، وهم بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه، لولا أن يوسف رأى برهان ربه، وكفه ذلك عما هم به من أذاها لا أنها ارتدعت من قبل نفسها، قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24]، قالوا: فالسوء هو ما كان هم به من أذاها، وهو غير الفحشاء .. وقال آخرون منهم: معنى الكلام: ولقد همت به، فتناهى الخبر عنها، ثم ابتدئ الخبر عن يوسف، فقيل: (وهم بها يوسف لولا أن رأى برهان ربه)، كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهم بها، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهم بها، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم بها، كما قيل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]) (2)
قال آخر: ثم رد على هذه الأقوال المنحرفة المبتدعة على وفق مقتضى اللغة، بل على مقتضى القرآن الكريم، فقال: (قال أبو جعفر: ويفسد هذين القولين: أن العرب لا تقدم جواب لولا قبلها، لا تقول: (لقد قمت لولا زيد)، وهي تريد: (لولا زيد لقد قمت)، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن، الذين عنهم يؤخذ تأويله) (3)
قال آخر: وبعد أن فسر شيخنا الطبري المراد من الهم في الآية الكريمة راح يفسر
__________
(1) تفسير الطبري (16/ 38)
(2) تفسير الطبري (16/ 38)
(3) تفسير الطبري (16/ 39)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/490)
البرهان، فقال: (أما البرهان الذي رآه يوسف، فترك من أجله مواقعة الخطيئة، فإن أهل العلم مختلفون فيه) (1)
قال آخر: ثم ذكر الروايات الكثيرة الدالة على ذلك، ومنها ما رواه عن ابن عباس، أنه قال: (نودي: يا يوسف، أتزني، فتكون كالطير وقع ريشه، فذهب يطير فلا ريش له؟) (2)
قال آخر: ومنها ما روى عنه أنه (لم يعط على النداء، حتى رأى برهان ربه، تمثال صورة وجه أبيه عاضا على أصبعه، فقال: يا يوسف، تزني، فتكون كالطير ذهب ريشه؟) (3)
قال آخر: ومنها ما روى عنه أنه ((نودي: يا ابن يعقوب، لا تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه، وبقي لا ريش له! فلم يطع على النداء، ففزع) (4)
قال آخر: ومنها ما روى عنه أنه (نودي: يا ابن يعقوب لا تكونن كالطائر له ريش، فإذا زنى ذهب ريشه ـ أو قعد لا ريش له ـ فلم يعط على النداء شيئا، حتى رأى برهان ربه، ففرق ففر) (5)
قال آخر: ومنها ما روى عن قتادة أنه قال: (نودي يوسف فقيل: أنت مكتوب في الأنبياء، تعمل عمل السفهاء؟) (6)
قال آخر: ومنها ما روى عن الحسن أنه قال: (رأى تمثال يعقوب عاضا على إصبعه يقول: يوسف! يوسف!) (7)
قال آخر: ومنها ما روى عن القاسم بن أبي بزة أنه قال: (نودي: يا ابن يعقوب، لا تكونن كالطير له ريش، فإذا زنى قعد ليس له ريش، فلم يعرض للنداء وقعد، فرفع رأسه،
__________
(1) تفسير الطبري (16/ 39)
(2) تفسير الطبري (16/ 39)
(3) تفسير الطبري (16/ 39)
(4) تفسير الطبري (16/ 39)
(5) تفسير الطبري (16/ 39)
(6) تفسير الطبري (16/ 39)
(7) تفسير الطبري (16/ 39)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/491)
فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه، فقام مرعوبا استحياء من الله، فذلك قول الله: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، وجه يعقوب) (1)
قال آخر: ومنها ما روى عن سعيد بن جبير: (رأى تمثال وجه يعقوب، فخرجت شهوته من أنامله)، وروى عنه، أنه قال: (رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضا على أصابعه، فدفع في صدره، فخرجت شهوته من أنامله، فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلا إلا يوسف، فإنه نقص بتلك الشهوة، ولم يولد له غير أحد عشر) .. وهكذا أصبح إخوة يوسف عليه السلام أفضل من أخيهم في هذا الجانب، لأنه هم ولم يهموا، ولهذا أكرموا بالمزيد من الولد على خلافه.
قال آخر: بل إن شيوخنا وسلفنا الصالح يروون أنه رأي آيات قرآنية، وباللغة العربية .. ومنها ما وراه الطبري عن محمد بن كعب، أنه قال: (رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ، فرأى كتابًا في حائط البيت: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]) (2)
قال آخر: وروى عن أبي صخر، قال: سمعت القرظي يقول في البرهان الذي رأى يوسف: ثلاث آيات من كتاب الله: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9 - 12]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] قال نافع: سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي، وزاد آية رابعة: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ
__________
(1) تفسير الطبري (16/ 39)
(2) تفسير الطبري (16/ 48)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/492)
سَبِيلًا} [الإسراء: 32]) (1)
قال آخر: وبعد أن أورد شيخنا الطبري جميع هذه الأقوال وغيرها، ذكر أرجح الأقوال عنده، فقال: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن هم يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من الله، زجرته عن ركوب ما هم به يوسف من الفاحشة، وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك كان من أي. والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه) (2)
قال آخر: وقد رد شيوخنا وسلفنا الصالح على كل الشبهات والإشكالات التي أثارها الغلاة في هذا، ومنهم شيخنا أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي المعروف بابن خمير، الذي قال في كتابه الذي ألفه للدفاع عن عصمة الأنبياء، بالمفهوم الصحيح لها، والمسمى [تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء]: (ومنهم من قال هم هم الفحولية، وذلك أنه كان عليه السلام فحلا شابا خلت به امرأة ذات جمال وغنج وطالبته تلك المطالبة فاهتز هزة الفحل بهز ضروري غير مكتسب، فسمي ذلك الاهتزاز هما لكونه من أسباب الهم .. ويكون الهم على هذا التفسير ضروريا، ولا طلب في الضروريات) (3)
قال آخر: ثم عقب على ذلك بأن هذا الهم مغفور حتى لو كان مقصودا ومكتسبا، فقال: (وأقول إنه إن كان هم مكتسبا لهمه ولم يفعل فلا لوم ولا ذنب، بدليل الحديث الذي منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا) معناه لم يكتب له صغيرة ولا كبيرة،
__________
(1) تفسير الطبري (16/ 48)
(2) تفسير الطبري (16/ 48)
(3) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 47)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/493)
وجاء في حديث آخر: أن تارك الخطيئة من أجل الله تكتب له حسنة، بدليل قوله تعالى للملائكة: اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي، أي من أجلي، وهذا ينظر إلى قول الله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، وإذا كان هذا في حق الرعية فالأنبياء عليهم السلام أولى بهذا الترك لا محالة، كيف وقد أثنى الله تعالى عليه ونزهه .. فهذا مما يدل على أنه تركها من أجل الله وأنه مأجور في تركها، وإذا كان هذا فلا ذنب ولا عتب يلحق يوسف عليه السلام صغيرا ولا كبيرا، بل يكون مأجورا في الترك) (1)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الأول .. فحدثونا عن الثاني؟
قال أحد الشيوخ: الثاني هو ما فسر به سلفنا الصالح من العلماء قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 21 ـ 25]
قال آخر: وقد قدم شيخنا الطبري للروايات التي أوردها في هذا بخلاصة رأيه فيها ورأي السلف الصالح، فقال: (القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له، وذلك أن داود كانت له فيما قيل: تسع وتسعون
__________
(1) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 47)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/494)
امرأة، وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة؛ فلما قتل نكح فيما ذكر داود امرأته، فقال له أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي} [ص: 23] يقول: أخي على ديني) (1)
قال آخر: ولذلك، فقد اتفق جميع علمائنا ومفسرينا على أنه يجوز القول هنا بالمجاز والكناية، فلذلك فسروا [النعجة] بالمرأة من باب الكناية، يقول الطبري: (وإنما كنى بالنعجة ها هنا عن المرأة، والعرب تفعل ذلك، ومنه قول الأعشى: (قد كنت رائدها وشاة محاذر .. حذرا يقل بعينه إغفالها)، يعني بالشاة: امرأة رجل يحذر الناس عليها، وإنما يعني: لقد ظلمت بسؤال امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه) (2)
قال آخر: وبعد أن مهد شيخنا الطبري بكل هذه الحجج القوية، أصبح نص الآية واضحا جدا، ذلك أن النعجة تعبير عن المرأة، وذلك يعني أنه كان لداود عليه السلام تسعة وتسعون امرأة .. وأنه لم يكفه تلك النساء؛ فراح يضم امرأة أخرى لرجل آخر لا يملك غيرها.
قال آخر: وبعد أن مهد شيخنا لهذا، أخذ يذكر الروايات عن السلف من أهل العلم المعتبرين التي تفسر ذلك، وقد بدأها بما رواه عن ابن عباس أنه قال: (إن داود قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله، قال الله: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك؛ فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه، فكاد أن ينساه؛ فبينا هو في محرابه، إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطار إلى كوة المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت، فاطلع من الكوة، فرأى امرأة تغتسل، فنزل نبي الله عليه السلام من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها،
__________
(1) تفسير الطبري (21/ 177)
(2) تفسير الطبري (21/ 179)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/495)
فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السرية أن يؤمره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل، فكان يصاب أصحابه وينجو، وربما نصروا، وإن الله عز وجل لما رأى الذي وقع فيه داود، أراد أن يستنقذه؛ فبينما داود ذات يوم في محرابه، إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه؛ فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت، وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يستورون علي محرابي، قالا له: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا؛ قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] أنثى {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23] يريد أن يتمم بها مئة، ويتركني ليس لي شيء {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشد مني، فذلك قوله {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] .. إلى قوله {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ونسي نفسه عليه السلام، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فرآه داود وظن أنما فتن {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] أربعين ليلة، حتى نبتت الخُضرة من دموع عينيه، ثم شدّد الله له ملكه) (1)
قال آخر: بل إن شيوخنا وجدوا حديثا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك، فقد رووا عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فأهم، قطع على بني إسرائيل، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو، فقرب فلانا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من
__________
(1) تفسير الطبري (21/ 181)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/496)
دموعه على رأسه) (1)
قال آخر: وقد قام شيخنا الأموي في كتابه [تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء] ببيان تبريرات شيوخنا لشرعية ما فعله داود عليه السلام، وقد بدأ ذلك بقوله: (اعلموا أحسن الله إرشادنا وإياكم أن كل من تكلم في هذه القصة بما صح في حق داوود عليه السلام، وبما لم يصح إنما بنوه على أس هذه الخمس كلمات التي هي {أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23] {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] و {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24] و {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وهي بحمد الله تخرج له على مذهب أهل الحق بأجمل ما ينبغي له وأكمله والله المستعان) (2)
قال آخر: ثم بدأ بالتبريرات المرتبطة بكل واحدة من تلك الكلمات .. أما الأولى، وهي {أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23]، فقد بررها بقوله: (فهذا بمعنى أنزل لي عنها بطلاق وأتزوجها بعدك، وهذا من القول المأذون في فعله وتركه، ومباح أن يقول الرجل لأخيه أو صديقه: انزل لي عن زوجك، بإضمار إن شئت، وهذا بمثابة من يقول لصاحبه أو أخيه: بع مني أمتك إن شئت، وهذا قول مباح، ليس بمحظور في الشرع، ولا مكروه، ومن ادعى حظره أو كراهته في الشرع فعليه الدليل، ولا دليل له عليه، كيف وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما واخى بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف قال له الأنصاري: لي كذا وكذا من المال أشاطرك فيه، ولي زوجان أنزل لك عن إحداهما، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أرني طريق السوق، ووجه الاستدلال بهذا الحديث قوله بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنزل لك عن إحداهما فأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا القول، ولم ينكره عليه، وهو لا يقر على منكر، وهو المعلم الأكبر صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق إلا الإباحة، لكن تركها بمعنى الأولى والأحرى
__________
(1) تفسير الطبري (21/ 187)
(2) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 31)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/497)
في كمال منصب النبوة كان أولى وأتم) (1)
قال آخر: وهكذا استطاع شيخنا الأموي أن يستخرج من القصة هذه السنة العظيمة، وهي أن يذهب أي رجل من الناس لأخيه أو صديقه، ويطلب منه أن يتنازل له عن زوجته، ليتزوجها .. لأنه لا حرج في ذلك .. وما رواه شيوخنا يدل عليه.
قال آخر: أما الثانية، وهي {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، فقد بين مشروعيتها بقوله: (أي غلبني، فنزلت له عنها، فهو غلب الحشمة، لا غلب القهر، لعظم منزلة السائل في قلب المسؤول، ولا غلب الحس بالقهر المنهي عنه، فإنه ظلم منهي عنه شرعا تتحاشى عنه الأنبياء عليهم السلام) (2)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي يذكره المخالفون، فقال: (فإن قيل: كان داوود عليه السلام خليفة وصاحب سيف، والمطلوب منه رعية، ومن شأن الرعية هيبة الملوك والمبادرة لقضاء حوائجهم لكونهم قاهرين لهم فيقضون حوائجهم باللين خوفا من العنف والإكراه، وفي سؤال داوود عليه السلام حمل على المسؤول من هذا الباب، قلنا: صحيح ما اعترضت به إلا أن هذا الحمل على المسؤول لا يتصور إلا فيمن عهد منه الظلم والغصب من الأمراء، وأما من عهدناه العدل والإحسان كخلفاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلا يتصور ذلك في حقهم إذا منعوا المباحات، وإذا لم يتصور ذلك في حقهم مع عدم العصمة فما ظنك بالمعصومين المنزهين عن الخطايا تنزيه الوجوب كما تقدم، فبطل اعتراض هذه القولة في حق داوود عليه السلام في هذا الباب) (3)
قال آخر: وأما الثالثة، وهي {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24]، فقد نص شيخنا الأموي على
__________
(1) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 32)
(2) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 33)
(3) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 33)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/498)
الاعتراض الوارد بشأنها بقوله: (كيف يكون داوود عليه السلام من خلف الله في أرضه ويقطع على الظلم بقول الواحد قبل أن يسمع قول الآخر؟) (1)
قال آخر: ثم أجاب على هذا الاعتراض بقوله: (فالجواب عن هذا يتصور من وجهين: أحدهما أنه سمع من الآخر حجة لا تخلصه، فقال للأول {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24]، أو صدقه الآخر في قوله فقال للأول {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24]، والثاني أن يقول {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24] بإضمار إن كان حقا ما تقول، وهذا سائغ، وأما أن يقول له {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24] من غير أن يسمع حجة الآخر فهذا لا نسوغه في حق عاقل منصف فكيف في حق من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب .. ألا ترى موقف يعقوب عليه السلام لما جاءه بنوه عشيا يبكون وهم جماعة فقالوا ما قالوا فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] ولم يقبل أقوالهم ولا دموعهم بغير دليل، فكيف يقبل داوود عليه السلام قول الخصم من غير حجة حتى يقول له {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24] هذا لا يصح في حقه، وأما قوله للخصم {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24]، فعنى به بخسك وغبنك في قول كان غيره من المباحات أولى بك منه، وحد الظلم في اللسان وضع الشيء في غير موضعه، وقد قدمنا أن قول قائل لغيره أكفلني زوجك ليس بظلم منهي عنه شرعا، فلم يبق إلا ما ذكرناه في حقه) (2)
قال آخر: أما الرابعة، وهي {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24]، فقد فسر شيخنا الأموي الإشكالات الواردة بشأنها بقوله: (فيخرج البغي مخرج الظلم حرفا بحرف، فإنه إذا ساغ في اللسان والمعتاد أن يسمى مالك الكثير إذا طلب من المقل قليله ظالما، فلا غرو أن يسمى باغيا، ولو أن رجلا كان له عبدان مطيعان له مستقيمان غاية ما يمكنهما من وجوه
__________
(1) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 34)
(2) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 35)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/499)
الاستقامة، فأحسن إلى أحدهما وأعطاه ووسع عليه ورفه معيشته، ولم يحسن للآخر بعين ما ألزمه الله مما يتعين للعبيد على السادة، لسمى العقلاء هذا السيد ظالما باغيا من حيث إنه أحسن لأحدهما ولم يحسن مع الآخر مع تساويهما في الطاعة والنصيحة، والسيد مع هذا التخصيص بالإحسان لأحدهما لم يأت في الشرع بمحظور ولا بمكروه، بل كل ما فعل معهما مباح له فهذا وجه من وجوه التخلص من هذه الأقوال، وأنها مباحة لقائلها وفاعل ما وقع منها من غير أن يلحقه ذم من الشرع ولا ثلب) (1)
قال آخر: وهكذا استطاع شيخنا الأموي أن يستخرج من القصة هذه الفائدة العملية البديعة، وهي أنه ما دام الجائر يتصرف في ملكه، فإنه ليس جائرا بفعله ذلك .. لأن الجور فقط مرتبط بملك الغير.
قال آخر: أما الخامسة والأخيرة، فهي {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، فقد بين شرعيتها بقوله: (فمقصوده الأكابر الأفراد من المحسنين المؤثرين فإنهم يحسنون في المباحات كإحسانهم في المشروعات فيتعاونون في العشرة ويتناصفون في الخلطة كما قال تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، ثم قال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، فإنهم الكبريت الأحمر) (2)
قال آخر: وهكذا استطاع شيخنا الأموي أن يبرهن من خلال قصة داود عليه السلام على أن من الإيثار تنازل الرجل لأخيه وصديقه عن زوجته إذا ما أعجبته .. وأن مثل ذلك في الناس كمثل الكبريت الأحمر في أهميته وندرته.
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثاني .. فحدثونا عن الثالث؟
__________
(1) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 36)
(2) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 36)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/500)
قال أحد الشيوخ: هو ما ورد من الروايات في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]، فقد حكى شيخنا وهب بن منبه قصة طويلة وعجيبة في تفسيرها، منها قوله: (سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها صيدون، بها ملك عظيم السلطان لم يكن للناس اليه سبيل، لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع منه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه إذا ركب على الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها واستفاء ما فيها) (1)
قال آخر: ثم ذكر بعض ما فتح الله عليهم من رزق في تلك الحرب، فقال: (وأصاب فيما أصاب ابنة لذلك الملك لم ير مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، ووقعت نفسه عليها، فكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فقال لها، لما رأى ما بها وهو يشق عليه من ذلك ما يرى: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ! قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله) (2)
قال آخر: ثم ذكر طلبها له، وكيف احتال الشيطان من خلاله لعبادة الأصنام في بيته، فقال: (قالت: إن ذلك لكذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما قد ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوروا صورة أبي في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال:
__________
(1) تاريخ الطبري (1/ 496)
(2) تاريخ الطبري (1/ 497)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/501)
مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى ما تنكر منه شيئا، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها في نفسه، إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه لها فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، مثل ما كان يكون فيه من هيئة، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن له، كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، لا يعلم سليمان بشيء من ذلك أربعين صباحا) (1)
قال آخر: هذا هو الجزء الأول من القصة، وهو يظهر سليمان عليه السلام بصورة الحاكم القوي الذي يتسلط على غيره من الملوك، ثم يأسر بناتهم .. وكل ذلك يدل على جواز كل هذه التصرفات، وفي جميع الشرائع، وأنها لا علاقة لها بالاستبداد والظلم الذي يذكره المنحرفون المبتدعون.
قال آخر: وكما رزق الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصحابة الكرام الذين كانوا نعم المستشارين والناصحين، فقد رزق الله تعالى نبيه سليمان عليه السلام كذلك بمن لا يقل عنهم علما وحكمة، وقد ذكر ذلك وهب، وهو يحكي قصة الجسد الملقى على الكرسي، فقال: (وبلغ ذلك آصف بن برخيا ـ وكان صديقا، وكان لا يرد عن أبواب سليمان أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضرا كان سليمان أو غائبا ـ فأتاه فقال: يا نبي الله، كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان منى ذهاب .. وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضله الله به، حتى انتهى الى سليمان وذكره، فقال: ما كان أحملك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك،
__________
(1) تاريخ الطبري (1/ 497)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/502)
ثم انصرف فوجد سليمان عليه السلام في نفسه حتى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه، فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليُعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال: في دارى! فقال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد عرفت أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك) (1)
قال آخر: هذا جزء قصير من الرواية التي ذكرها شيخنا وهب بن منبه، وهي تدل على أن تأثير النساء ليس خاصا فقط بالملوك والسلاطين، وإنما يمكن أن يشمل الأنبياء أيضا .. فبسبب حب سليمان عليه السلام لتلك المرأة الظالمة حصل له ما حصل.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، هناك رواية قريبة منها رواها السدي، قال فيها: (كان لسليمان مائة امرأة، وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة، وهي آثر نسائه عنده، وآمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه، ولا يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي فأعطاها خاتمه، ودخل المحرج فخرج الشيطان في صورته، فقال: هاتي الخاتم، فأعطته، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائها، قال: ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما) (2) إلى آخر القصة التي رواها شيوخنا، وفسروا بها الآيات الكريمة ..
قال آخر: وقد انبرى شيخنا الأموي في كتابه العظيم [تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء] ليزيل الشبه المرتبطة بها، وأول تنزيه بدأ به هو (قصة التمثال الذي صنع لها، وما قيل
__________
(1) تاريخ الطبري (1/ 497)
(2) تاريخ الطبري (1/ 500)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/503)
أنه حكم لأخيها)، وقد خرجها على وجهين، فقال: (يتصور فيها الجواز من وجهين: أحدهما أن يكون صنع التمثال مباحا له كما كان مباحا لعيسى عليه السلام قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، فصح من هذه الآية أن عيسى عليه السلام كان يصور التماثيل بإذن الله، وكذلك سليمان عليه السلام إذا صح أنه لم يحرم عليه فعله في شرعه والأظهر فيه أنه لم يحرم بدليل قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] والتماثيل قد تكون على صور الأناسي .. وأما إن عبدت هي صنما من غير أن يشعر به سليمان عليه السلام فلا بأس عليه في ذلك، فإن الأنبياء عليهم السلام عنوا بالظواهر، وأمر البواطن إلى الله تعالى .. وأما قولهم إنها طلبت منه أن يحكم لأخيها على خصمه فقال لها: نعم، فيجوز له أن يقولها وهو يضمر في نفسه إذا كان الحق له، لا عليه، ثم طيب نفسها بنعم لكون النساء تطيب أنفسهن بمثل هذه المشتبهات لضعف عقولهن وجهلهن بالحقائق، ولا يجوز في حقه سوى هذا بدليل أنه لو أضمر في نفسه أن يحكم له والحكم عليه لوقع في كبيرة محرمة وهي أن ينوي أن يحكم بالجور وحاشاه من ذلك وهو لا يجوز عليه ذلك كما تقدم) (1)
قال آخر: ثم رد على الشبهة الثانية، وهي (كون الشيطان يخلفه على كرسيه، ويحكم بالباطل)، فقد أجاب عليها بقوله: (ليس على نبي الله عليه السلام لو صح في ذلك دقيق ولا جليل من الإثم، وهذا بمثابة عيسى عليه السلام حين عُبد من دون الله) (2)
قال آخر: هذا هو الوجه الأول الذي فُسرت به فتنة سليمان عليه السلام، والوجه الثاني، وهو أصح بكثير من الوجه الأول، لأن راويه ليس الطبري فقط، وإنما هما البخاري ومسلم، بالإضافة إلى أن الراوي المباشر له عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أبو هريرة.
__________
(1) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 40)
(2) تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء (ص 40)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/504)
قال آخر: والحديث الذي أوردوه للدلالة على الفتنة التي وقعت لسليمان عليه السلام هو ما رووه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود: لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة ـ أو تسع وتسعين ـ كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) (1)
قال آخر: وقد استدل شيوخنا بهذا الحديث في مواضع كثيرة، أهمها ما وهبه الله تعالى لأنبيائه من قوة الغريزة التي لا يمكن تصورها، والتي هي هدية من الله لهم على الجهود التي يقومون بها في الدعوة إلى الله.
قال آخر: ولذلك نراهم يذكرون للأنبياء النساء الكثيرات كما في هذا الحديث، وإن كان الخلاف قد وقع في عدد نسوته بالضبط، لأن أبا هريرة أو رواة الحديث لم يضبطوا عددهن جيدا، فمرة يذكرون أنهن مائة، وتارة أنهن تسعون، وتارة أنهن سبعون، وتارة أنهن ستون .. وهم معذورون في ذلك، فلم يكن في ذلك الحين تسجيل لعقود الزواج، وليس هناك مكاتب للأحوال المدنية.
قال آخر: ومع ذلك فقد حاول شيوخنا والمحققون من علمائنا أن يجدوا حلا لتلك الأعداد المتضاربة، ومن ذلك ما ذكرته أكبر هيئة دينية إسلامية في العالم، وهي اللجنة الدائمة للفتوى، والتي تولت التحقيق في ذلك، وقد نصوا على نتائج التحقيق، فقالوا ـ ردا على من رمى الحديث بالاضطراب ـ: (الحديث المضطرب: هو الذي روي من طرق مختلفة متساوية في القوة، ولم يمكنه الجمع بينهما، أما إن كان بعضها أقوى أو أمكن الجمع فلا اضطراب، وعلى هذا فلا يعتبر الاختلاف في عدد النساء في الحديث المسؤول عنه اضطرابا
__________
(1) البخاري (3424)، مسلم (1654)، النسائي (3831)، أحمد (2/ 506)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/505)
يرد به الحديث لأمرين: رجحان الرواية التي ذكر فيها أن عددهن تسعون، فقد قال البخاري في صحيحه: قال شعيب وأبو الزناد: تسعين، وهو أصح. إمكان الجمع بين هذه الروايات، وقد ذهب إلى ذلك ابن حجر رحمه الله في كتابته على هذا الحديث في الباب الذي ذكرته في السؤال، قال رحمه الله: (فمحصل الروايات ستون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة، والجمع بينها أن الستين كن حرائر، وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مائة، جبره، ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر) (1)) (2)
قال آخر: وهكذا استطاع شيوخنا أن يحلوا مشكلة العدد التي أثارها الغلاة بكل سهولة .. ومثل ذلك ردوا على كل الشبه التي عرضت لهم، وخاصة تلك التي تستعمل العقل المجرد، لتضرب به النقل الصحيح الواضح.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ردهم على هذا السؤال الخطير الذي قال فيه صاحبه: (لا ريب في صحة هذا الحديث باعتبار الرواة والإسناد، ولكن مفهوم الحديث خلاف للعقل والشعور صريحا، ومفهومه يعلن ويجهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال هكذا كما نقل الراوي، بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أباطيل وخرافات اليهود مثالا، وفهم الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بيانا واقعيا؛ لأن كل إنسان إن حاسب في نفسه فوضح عليه أن فرض عدد الأزواج ستون 60، إن باشرهن سليمان عليه السلام في ساعة 6 أزواج باشرهن كل الليل بغير توقف متواليا عشر ساعة، فهل هذا ممكن عقلا؟) (3)
قال آخر: وقد ردت اللجنة الدائمة للفتوى بما لديها من عقول جبارة استطاعت أن
__________
(1) فتح الباري (6/ 460.
(2) فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 295)
(3) فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 294)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/506)
تحل هذه المشكلة أيضا، وبكل سهولة، فقد قالوا جوابا للسائل: (دعوى مخالفة هذا الحديث للعقل الصريح دعوى باطلة؛ لبنائها على قياس الناس بعضهم على بعض في الصحة، وقوة البدن، والقدرة على الجماع، وسرعة الإنزال وبطئه، وهو قياس فاسد لشهادة الواقع بتفاوتهم فيما ذكر وفي غيره وخاصة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالنسبة لغيرهم، فقد أوتوا من قوة البدن والقدرة على الجماع مع كمال العفة وضبط النفس، وكبح جماح الشهوة ما لم يؤت غيرهم، فكانت العفة وصيانة الفرج عن قضاء الوطر في الحرام مع القدرة على الجماع وقوة دواعيه معجزة لهم عليهم الصلاة والسلام، وكان من السهل على أحدهم أن يطأ عشر نسوة في ساعة ومائة امرأة في عشر ساعات أو أقل، لتحقق الاختصاص بالقوة، وإمكان الإنزال في خمس دقائق أو أقل منها) (1)
قال آخر: وقد ذكروا للسؤال من أقوال شيوخنا والمحققين من علمائنا ما يدل على ذلك .. ومنها ما نقلوه عن العيني أنه قال: (وفيه ما كان الله تعالى خص به الأنبياء من صحة البنية وكمال الرجولية، مع ما كانوا فيه من المجاهدات في العبادة. والعادة ـ في مثل هذا لغيرهم ـ الضعف عن الجماع، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم في معجزاتهم وأحوالهم، فحصل لسليمان عليه الصلاة والسلام من الإطاقة أن يطأ في ليلة مائة .. وليس في الأخبار ما يحفظ فيه صريحاً غير هذا إلا ما ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً في الجماع (2) .. وكان إذا صلى الغداة دخل على نسائه فطاف عليهن بغسل واحد ثم يبيت عند التي هي ليلتها (3)، وذلك لأنه كان قادراً على توفية حقوق الأزواج وليس يقدر على ذلك غيره مع قلة الأكل) (4)
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 296)
(2) عبد الرزاق في مصنفه: (7/ 507) (14052)، وابن خزيمة في صحيحه: (1/ 426) (233).
(3) صحيح ابن خزيمة: (5/ 423) (1225)
(4) عمدة القاري: (21/ 244 ـ 245)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/507)
قال آخر: أما ما ورد في الحديث من ذلك الجزم من سليمان عليه السلام، من غير إرجاع الأمر لله، مع تذكير الملاك أو غيره له، والذي قد يوهم بأن هبة الولد ليست لله، وإنما هي نتيجة الطواف ـ كما ورد في الحديث ـ فقد استطاعوا حلها أيضا، وبكل سهولة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، ما قاله شيخنا الطبري في تبريره: (إن النسيان على وجهين: أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط .. والآخر: على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله .. فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو تركٌ منه لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة) (1)
قال آخر: ومثله قال العيني: (قوله (فلم يقل إن شاء الله): فلم يقل سليمان إن شاء الله بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فإنه لا يليق بمنصب النبوة. وإنما هذا كما اتفق لنبينا لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين فوعدهم أن يأتي بالجواب غداً جازماً بما عنده من معرفة الله تعالى، وصدق وعده، في تصديقه وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بها لا عن التفويض بقلبه، فاتفق أن يتأخر الوحي عنه ورمي بما رمي به لأجل ذلك) (2)
قال آخر: ومما يؤكد هذا الجانب في قصة سليمان عليه السلام، وهو ما يدل على أن الحرص والشهوات لا تتنافى مع النبوة، ولا علاقة لها بالعصمة، قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 30 ـ 33]
__________
(1) جامع البيان: (6/ 133).
(2) عمدة القاري: (21/ 242 ـ 243)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/508)
قال آخر: فقد ذكر شيوخنا في تفسير الآيات الكريمة أن سليمان عليه السلام عرض عليه الخيل الجياد في وقت العصر، فألهاه هذا العرض عن صلاة العصر، فلما اقترب المغرب غضب وطلب من الله أن يرد الشمس بعد أن غربت ليصلي العصر فردت .. وكصورة من غضبه على الخيل لأنها كانت السبب في فوات العصر وألهته عن الصلاة قام وقطع سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف (1).
قال آخر: وقد رد شيوخنا على الطبري الذي خالف عادته في تفسيره لها، حيث انتصر لرواية لابن عباس يقول فيها: (جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها: حبا لها)، والتي علق عليها بقوله: (وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية، لأن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنطر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها) (2)
قال آخر: وقد رد عليه شيخنا ابن كثير بقوله: (وهذا القول اختاره ابن جرير، واستدل له بأنه لم يكن سليمان عليه السلام ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها .. وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه شغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل) (3)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثالث .. فحدثونا عن الرابع؟
__________
(1) تفسير الطبري (21/ 195)
(2) تفسير الطبري (21/ 196)
(3) تفسير ابن كثير: 7/ 65.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/509)
قال أحد الشيوخ: هو ما ذكره شيوخنا وسلفنا الصالح في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]
قال آخر: فقد قال الطبري في تفسيرها: (يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم عتابا من الله له (اذكر يا محمد {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] بالهداية {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] بالعتق، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعجبته، وهي في حبال مولاه، فألقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] وهو صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها {وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] وخف الله في الواجب له عليك في زوجتك {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] يقول تعالى ذكره: وتخاف أن يقول الناس: أمر رجلا بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس) (1)
قال آخر: ثم أورد الروايات عن سلفنا الصالح الدالة على ذلك، ومنها ما رواه عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، ابنة عمته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما يريده وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر
__________
(1) تفسير الطبري (20/ 273)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/510)
فانكشف، وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: ما ذاك، أرابك منها شيء؟ قال: لا والله ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيرا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله، فذلك قول الله تعالى {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت خضوع الأنبياء لغرائزهم وشهواتهم كسائر الناس .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ} [يوسف: 24]، والروايات الكثيرة الواردة عن السلف الصالح في تفسيرها.
قال أحد التلاميذ: القرآن الكريم أكرم من أن تفسره تلك الروايات المدلسة المكذوبة التي سربها إلى هذه الأمة كل المغرضين والحاقدين والشياطين لينفذوا من خلالها إلى كل القيم الجميلة، فيشوهوها وينحرفوا بها.
قال آخر: ولذلك اكتفى سلفنا الصالح وعلماؤنا بما يدل عليه ظاهر الآية الكريمة،
__________
(1) تفسير الطبري (20/ 274)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/511)
مما تقتضيه اللغة، ويقتضيه معها العقل والحكمة.
قال آخر: بل يقتضه معها وقبلها القرآن الكريم، فـ {بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] كما فسره القرآن الكريم هو تلك الحجج اليقينية التي تجلّي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب، كما قال تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174]، وقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]
قال آخر: وهذا البرهان هنا هو (العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية، وانقياد لا تصاحبه مخالفة .. ذلك أن إحدى أسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علما لا يغلب، وانكشافا لا يقهر، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صده عما اقترحت عليه امرأة العزيز) (1)
قال آخر: هذا هو تفسير شيوخنا القائلين بالعصمة المطلقة للهم وللبرهان .. وهو تفسير يتوافق مع القرآن الكريم كما يتوافق مع اللغة العربية .. فيوسف عليه السلام يمثل في القرآن الكريم الكثير من القيم الإنسانية الرفيعة، التي تتناول الكثير من جوانب الحياة، والتي أشار إليها إخبار القرآن الكريم عند حديثه عن إعداده إعدادا خاصا، حيث ذكر اجتباءه من بداية حياته وصباه، وتعليمه من تأويل الأحاديث، وإتمام نعمته عليه .. إلا أن أهمها جميعا، أو أصلها جميعا هو تلك الروح الطاهرة الممتلئة بالعفاف، والتي صورها القرآن الكريم أحسن تصوير.
قال آخر: وأول تصوير لها هو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله ـ بعد ذكر حادثة
__________
(1) مفاهيم القرآن: 4/ 385 ـ 392.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/512)
الإغواء التي تعرض لها ـ {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فقد علل الله تعالى تلك القوة التي استطاع أن يواجه بها الإغراء بكل جوانبه بكونه من المخلَصين.
قال آخر: والمخلَصون هم أولئك الطاهرون الذين تخلصوا من رق أنفسهم وشهواتهم، وصاروا أحرارا بعبوديتهم لله وحده، ولذلك لا يستطيع أي شيء في الدنيا ولا في الآخرة أن يأسرهم، بعد أن فنوا في محبوبهم الأول، واستغرقوا في رحلتهم إليه.
قال آخر: ولذلك؛ فإن سر نجاة يوسف عليه السلام من ذلك الإغواء هو أن يوسف عليه السلام مثله مثل سائر أنبياء الله وأولياء الله لا يغيب الله عنهم لحظة واحدة .. وكيف يغيب وهم في تلك المرتبة التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) (1)؟
قال آخر: وكيف يعصي الله من يشعر أن الله يراه .. وكيف يعصيه من قلبه في كل لحظة يرى ربه، ويعيش معه؟
قال آخر: بل كيف يعصيه، ومن دونه من الناس ممن لا يصل إلى عشر معشار ما وصل إليه من فضل الله يمكنه أن يتحكم في نفسه في مواضع الإغراء، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره للسبعة الذين يظلهم الله بظل كرمه الخاص: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) (2)؟
قال آخر: هذا هو التفسير القرآني لذلك الموقف العظيم الذي وقفه شاب جميل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى معصية الله .. بعد أن غلقت الأبواب .. وكان هو مجرد عبد من عبيدها لا يملك إلا طاعتها .. وكانت هي فوق ذلك تملك من السلطة ما تقتله أو تعذبه أو
__________
(1) مسلم (8)، وأبو داود (4695)
(2) البخاري 2/ 143، ومسلم 2/ 715 ـ 716.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/513)
تسجنه إن هو رفض طلبها .. ولكنه مع ذلك رفض طلبها، وبكل قوة، بل لم يبد لها أي لون من ألوان القبول .. وبعد أن خلعت كل جلابيب الحياء في مراودتها له، وحتى يتخلص منها توجه إلى الله تعالى بهذا الدعاء العظيم الذي هو شعار العفة والطهارة: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]
قال آخر: وإنما قال يوسف عليه السلام ذلك تواضعا لله وعبودية له، لأنه لا يملك من أمره شيئا .. ولذلك ألح على الله في أن يسجن حتى يضمن لنفسه الخلاص منهن.
قال آخر: وفي الآية الكريمة دليل على أن يوسف عليه السلام لم يتعرض لإغواء امرأة واحدة، بل تعرض لإغواء نساء كثيرات، ومع ذلك أصر على موقفه العظيم في مواجهة الفتنة.
قال آخر: وقد شهد له بهذا النبل وهذه الغيرة امرأة العزيز وجميع النسوة التي قمن بإغرائه، كما قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 51، 52]
قال آخر: ولو أن يوسف عليه السلام أبدى ولو طرفا خفيفا من الإجابة لمطالبهن لما قلن هذا .. ولذكرن كل ما حصل منه .. ولما كان أصلا طلب من العزيز أن يدعوهن ليشهدن على ما حصل بالضبط، كما قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]
قال آخر: وهذه الرؤية القرآنية، هي التي يتبناها شيوخنا القائلين بالعصمة المطلقة للأنبياء عليهم السلام، كما عبر عن لسانهم الطباطبائي بقوله ـ عند بيان أسرار العصمة التي واجه بها يوسف عليهم السلام تلك الفتنة العظيمة ـ: (فقد كان يوسف رجلا، ومن غريزة
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/514)
الرجال الميل إلى النساء، وكان شابا، بالغا أشده، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى .. هذا من جانب، ومن جانب آخر كان مستغرقا في النعمة وهنيء العيش، محبورا بمثوى كريم، وذلك من أقوى أسباب التهوس .. وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء، وكانت لا محالة متزينة لما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف، وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان وقد تعرضت له، ودعته إلى نفسها، والصبر مع التعرض أصعب، وقد راودته هذه الفتانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه، والصبر معه أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي رتبة خصها بها العزيز، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء .. وكانا في خلوة، وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الأمر وانتهاك الستر؛ لأنها كانت عزيزة، بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحا لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزة والمال) (1)
قال آخر: ثم ذكر الأسباب الحقيقة لعفاف يوسف عليه السلام، وهي عكس التي ذكرها أولئك المتعلقون بالخرافات والأساطير، فقال: (فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته، أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها، ولم يكن هناك مما يتوهم
__________
(1) الميزان: 11/ 137 ـ 139.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/515)
مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر، أو مناعة نسب يوسف، أو قبح الخيانة للعزيز، ولكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل .. أما الخوف من ظهور الأمر فقد كان في أمن منه، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء، فلم يؤاخذها بشيء، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن .. وأما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا وأشد إثما .. وأما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، وهي إنما تؤثر بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة؛ وذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة، وأما لو أغفلت القوة المجرية، أو فسقت فأهملت، أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين) (1)
قال آخر: وبعد أن نفى كل ما يمكن أن يكون حاجزا ليوسف عليه السلام عن الوقوع في هذه الخطيئة، ذكر سر العصمة الحقيقي، فقال: (فلم يكن عند يوسف عليه السلام ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه، إلاّ أصل التوحيد وهو الإيمان بالله، وإن شئت قلت: المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع) (2)
قال آخر: ومثله القاضي أبو طاهر الطوسي، فقد نقل عنه الرازي قوله في الرد على تلك الروايات الشنيعة: (شهد ببراءة يوسف عليه السلام من الذنب كل من له تعلق بتلك الواقعة من زوج وحاكم ونسوة وملك وادعى يوسف ذلك واعترف له خصمه بصدق ما قاله مرتين، وشهد بذلك رب العالمين الذي هو أصدق القائلين، واعترف إبليس فكيف
__________
(1) الميزان: 11/ 137 ـ 139.
(2) الميزان: 11/ 137 ـ 139.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/516)
يلتفت إلى قول هؤلاء الحشوية!؟) (1)
قال آخر: أما شهادة الزوج فقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطئين} [يوسف: 28 - 29]، وأما شهادة الحاكم فقوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] وأما شهادة النسوة فقولهن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] أما شهادة الملك فقوله: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] وأما ادعاء يوسف عليه السلام ذلك فقوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] وقوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وقوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] وأما اعتراف الخصم فقولها للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] وقوله: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] وأما شهادة رب العالمين فقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24] وأما اعتراف إبليس بذلك فقوله تعالى حكاية عنه: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] فبين أنه يغوي الكل إلا المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فأية شبهة تبقى مع هذه الشهادات في براءة يوسف عن الذنوب؟) (2)
قال آخر: ثم عقب على هذا بقوله: (وهؤلاء الطاعنون في يوسف عليه السلام إن كانوا من حزب الله فليقبلوا قوله، وإن كانوا من حزب الشيطان فيجب أن لا يتركوا قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]) (3)
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 53.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 53.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 54.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/517)
قال آخر (1): ثم راح يفسر الكلمة التي تعلقوا بها، وهي كلمة {الهم}، وأنها في اللغة ترد لمعان أربعة .. وأولها العزم على الفعل لقوله تعالى: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11]، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه .. وثانيها خطور الشئ بالبال، كما قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122]، فإنما أراد الله تعالى أن الفشل خطر ببالهم، ولو كان المراد هاهنا العزم لما صح أن يكون الله وليا لهم، لأن العزم على المعصية معصية .. وثالثها أن يستعمل بمعنى المقاربة يقولون هم بكذا أي كاد يفعله .. ورابعها الشهوة وميل الطباع لأن الإنسان قد يقول فيما يشتهيه هذا من همي.
قال آخر (2): ثم راح ينفي كون الهم معلق بذاته وذاتها، (لأن الذوات لا تراد، فلا بد من ترك هذا الظاهر وتعليق الهم بشئ غير الذات)
قال آخر: ثم بين أن اللغة ما دامت تحتمل جميع المعاني التي ذكرها؛ فإن العقل والنقل يدعوان إلى حمل اللفظة على أحسن محاملها، مما يتناسب مع عصمة يوسف عليه السلام.
قال آخر (3): ثم بين المراد من همها من خلال القرآن الكريم هو كونه متعلقا بالفاحشة دون سائر الأمور .. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] وقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] وقوله حاكيا عنها: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وفي موضع آخر {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]
قال آخر: ثم ذكر الفرق بين همه وهمها، فقال: (وأما همه فقد دللنا على أنه لا يجوز
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 54.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 54.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 55.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/518)
أن يكون متعلقا بالفاحشة، وليس في ظاهر الآية ما يقتضيه، فلا جرم علقناه بدفعه إياها عن نفسه، كما يقول القائل: لقد كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا) (1)
قال آخر: ثم رد على الإشكال المرتبط بهذا، فقال: (لا يقال: فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنه، لأنا نقول يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها أري برهانا على أنه لو قدم على ما هم به أهلكه أهلها وقتلوه، وإنها تدعي عليه المراودة على القبيح وتنسبه إلى أنه دعاها إلى نفسه وضربها لامتناعها منه، فأخبره الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمراودة وظن القبح واعتقاده فيه) (2)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 21 ـ 25]
قال أحد التلاميذ: الآيات واضحة في دلالتها، ومن خلال ظاهر ألفاظها، وهي تنسجم تماما مع تلك الروحانية العميقة التي وصف الله بها نبيه داود عليه السلام .. خاصة وأن الله تعالى قدم لذلك بقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 55.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 55.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/519)
مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 17 ـ 19]
قال آخر: وهي آيات كريمة تشير إلى تلك الروحانية، وتشير معها إلى ذلك التحليق الروحي الجميل الذي تجاوبت له الكائنات من حوله، والذي لم يمنعه من أداء وظيفته المرتبطة بالرعية والخلافة عليها.
قال آخر: ولذلك بمجرد أن تسور الرجلان عليه المحراب، وأخبره أولهما بالظلم الذي لحق به، سارع فانتصر له، مثلما فعل قبل ذلك أخوه موسى عليه السلام حين سارع لنصرة المستضعف .. وهنا عاتبه الله لأنه لم يستمع للثاني من الخصمين.
قال آخر: ولكونه أوابا وصاحب روحانية عالية، فقد تأثر لذلك العتاب تأثرا شديدا، وهوى ساجدا لله بكل رقة وعبودية وخضوع.
قال آخر: هذه هي الدلالة الظاهرة للقصة كما وردت في القرآن الكريم، وهذا هو تفسير شيوخنا وسلفنا الصالح القائلين بالعصمة المطلقة لها .. وهو تفسير يتوافق مع القرآن الكريم كما يتوافق مع اللغة العربية.
قال آخر: وقد ذكرنا لكم سابقا تفسير الإمام الرضا لها، ورده على ما ذكره المخطئة بشأنها، وقوله في ذلك: (إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل) (1)
قال آخر: ثم فسر تلك الآيات بما يتناسب مع عصمة داود عليه السلام، فقال: (ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا في المحراب فقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/520)
فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 22 - 23] فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] فلم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عز وجل يقول: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26]؟) (1)
قال آخر: ثم فسر القصة الحقيقية لداود عليه السلام مع أوريا، فقال: (إن المرأة في أيام داود عليه السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود عليه السلام، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل، وانقضت عدتها منه، فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا) (2)
قال آخر: وهكذا فسرها شيوخنا وعلماؤنا، وردوا على تلك الخرافات الواردة في تفسيرها، وقد ذكر الرازي الأدلة الكثيرة على ذلك، وقد قدم لذلك بقوله: (اعلم أن الذي أقطع به عدم دلالة هذه الآية على صدور الكبيرة من داود عليه السلام، وبيانه من وجوه) (3)، ثم ذكر أولها، وهو أن (الذي حكاه المفسرون عن داود عليه السلام وهو أنه عشق امرأة أوريا فاحتال حتى قتل زوجها فتزوجها لا يليق بالأنبياء، بل لو وصف به أفسق الملوك لكان منكرا) (4)
قال آخر (5): والثاني .. أن الدخول في دم أوريا أعظم من التزوج بامرأته فكيف ترك الله الذنب الأعظم، واقتصر على ذكر الأخف؟
قال آخر (6): والثالث .. أن السورة من أولها إلى آخرها في محاجة منكري النبوة فكيف
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(2) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 71.
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 71.
(5) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 71.
(6) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 71.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/521)
يلائمها القدح في بعض أكابر الأنبياء بهذا الفسق القبيح؟
قال آخر (1): والرابع .. أن الله تعالى وصف داود عليه السلام في ابتداء القصة بأوصاف حميدة، وذلك ينافي ما ذكروه في الحكاية بيان وصفه تعالى بأوصاف حميدة .. فقد وصفه بقوله: {ذا الأيد} [ص: 17] والأيدي: القوة، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في الملوك الكفار، وما استحقوا بها مدحا، إنما المستحق للمدح هو القوة في الدين .. ولما ثبت كونه موصوفا بالقوة في الدين؛ فإنه لا معنى للقوة في الدين إلا العزم الشديد على أداء الواجبات واجتناب المحظورات .. وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن الفجور والقتل؟
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك .. وصفه بكونه أوابا، والأواب هو الرجاع، والرجاع إلى ذكر الله يستحيل أن يكون مواظبا على أعظم الكبائر.
قال آخر (3): وقال في حقه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 17 - 19]، فهل يمكن أنه سخر له ذلك ليتخذه وسيلة إلى القتل والزنا؟ .. وقيل: إنه كان محرما عليه صيد كل شئ فكانت الطيور تأمنه، فكيف يجوز أن تأمنه الطير ولا يأمنه المسلم على زوجته؟
قال آخر (4): وقال في حقه: {وشددنا ملكه} [ص: 20]، ومحال أن يكون المراد منه شدة ملكه بالمال والعسكر مع كونه مسلما من طريق الدنيا لا من طريق الدين لأن ذلك سبيل الملوك الكفرة، لأن قوله: {وشددنا ملكه} [ص: 20] عام في الدين والدنيا.
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 71.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 72.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 72.
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/522)
قال آخر (1): وقال في حقه: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [ص: 20] والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا، فكيف يجوز أن يقول الله {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [ص: 20] مع إصراره على ما يستنكفه أخبث الشياطين من مزاحمة أفضل أصحابه وأحبائه في الزوج والمنكوح.
قال آخر (2): وبعد أن ذكر كل هذه المناقب الشريفة الواردة في حقه في القرآن الكريم، علق عليها بقوله: (فبان أن الله تعالى لما وصفه بهذه الصفة كان القول بما ذكروه من الفاحشة باطلا، إذ ما قبل تلك الصفة هي هذه الممادح، وما بعدها قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26] وهذا أيضا من أجل الممادح فلو توسطها ما يدل على أفحش المقابح لجرى ذلك مجرى قول من يقول فلان عظيم الدرجة في الدين على الرتبة في طاعة الله، يقتل ويزني، وقد جعله الله تعالى خليفة لنفسه وصوبه في أحكامه، وأمر أكابر الأنبياء بالاقتداء به فكما أن هذا الكلام لا يليق بعاقل فكذا هاهنا.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فقد قال تعالى بعد تمام القصة: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26] وترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم، فعلى ما ذكروه يلزم أن يكون تفويض خلافة الأرض إليه بسبب إقدامه على القتل والفسق، وذلك مما لا يقول به عاقل.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك، فقد قال تعالى في حق الرسل عليهم السلام: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 46 - 47]، وكل ذلك ينافي وصفهم بالإقدام على الكبيرة والفاحشة.
قال آخر (5): ثم ناقش روايتهم نفسها، والتي ذكروا فيها أن داود عليه السلام تمنى
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 72.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 73.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 73.
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 73.
(5) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 73.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/523)
منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: (رب إن آبائي قد ذهبوا بالخير كله فأوحى إليه: إنهم إنما وجدوا ذلك لأنهم لما ابتلوا صبروا فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا فاحترس)، ثم وقع فيما وقع فيه إلى آخر القصة، فدل أول حكايتهم على أن الله تعالى ابتلاه بالبلاء الذي يزيد في منقبته، فكيف يليق العشق والقتل بذلك؟
قال آخر (1): أن في قول داود عليه السلام {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] استثناء الذين آمنوا من هذا البغي، فإن كان هو الفاعل لذلك وجب أن يكون حاكما على نفسه بعدم الإيمان.
قال آخر (2): أن قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40] لا يلائم العشق والقتل.
قال آخر: وبعد أن ذكر كل هذه الوجوه، رد على الأحاديث والروايات التي استندوا لها، فقال: (فإن قلتَ: إن كثيرا من المحدثين روى هذه الحكاية، قلتُ: هذه الدلائل الباهرة لما أبطلت قولهم وجب القطع بفسادها، فالعجب اتفاق الناس على أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والظن إنما ينتفع به في العمليات، وهذه المسألة ليست من العمليات، فصارت روايتهم ساقطة العبرة من كل الوجوه) (3)
قال آخر: ثم روى عن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن الإمام عليا قال: (من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائتين وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام) (4)
قال آخر: وروي أن (واحدا ذكر ذلك الخبر عند عمر بن عبد العزيز وعنده رجل
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 74.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 74.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 75.
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 75.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/524)
من أهل الحق فكذب المحدث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله تعالى فما ينبغي أن نلتمس خلافها، وإن كان على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيه فيما ينبغي إظهار ما عليه، فقال عمر: سماعي هذا الكلام أحب إلى مما طلعت الشمس عليه) (1)
قال آخر: وبناء على هذا، راح يفسر الآية بحسب ما تقتضيه عصمة الأنبياء عليهم السلام، وبدأ بنقل وجه من وجوه تفسيرها، وهو ما عبر عنه بقوله: (فإذا ثبت هذا فلنبحث أنه هل في الآية ما يدل على صدور الصغيرة عنه أم لا؟ فنقول: قال كثير من أهل الحق قول الله {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص: 21] أخبر عن جماعة أنهم تسوروا قصره قاصدين قتله والإساءة إلى أهله، فدخلوا قصره في وقت ظنوا أنه غافل، فلما رآهم داود عليه السلام خافهم لما تقرر في العرف أنه لا يتسور أحد دار غيره بغير أمره إلا لسوء يريده من قتله أو لمكاره على أهله أو سرقة ماله خصوصا إذا كان صاحب الدار شخصا معظما، فلما رأوه مستيقظا انتقض عليهم التدبير، فاقترح بعضهم عند فزعه خصومة لا أصل لها زاعما أنهم قصدوه لأجلها دون ما توهمه فقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]، ثم ادعى أحدهما على الآخر مالا، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] فقال داود عليه السلام: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} [ص: 24] الآية ثم قال الله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] أي امتحناه، لكنه لم يعمل على ظاهر الحال، ولم ينتقم منهم مع كونه ذا أيد وقوة وسلطان وقدرة، بل صار مستغفرا للقوم الذين قصدوه وطالبا من الله تعالى العفو عنهم، وذلك أن الله تعالى لم يقل إنه أذنب، ولا أنه استغفر لنفسه، فإن المستغفر قد يستغفر لنفسه تارة ولغيره أخرى، قال الله تعالى في وصف الملائكة: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]، وقال أولاد يعقوب لوالدهم: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا} [يوسف: 97]، ثم قال الله تعالى: {فَغَفَرْنَا
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 76.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/525)
لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25]، معنى غفرنا لأجل حرمة داود عليه السلام لأولئك وقبلنا شفاعته في التجاوز عنهم) (1)
قال آخر: ثم علق على هذا الوجه من وجوه تفسير القصة بقوله: (فهذا الذي قلناه مما ينطبق عليه لفظ الكتاب العزيز، فلا يحتاج فيه إلى المجاز من حمل الخصمين على الملكين، وادعاؤهما الخصومة على التمسك لا على التحقيق، وحمل النعجة على المرأة ويناسبه أمر رسولنا عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وتأدب به صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد لما هشمت ثناياه فقال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ويناسبه ما حصل عقيبه من المنصب العظيم وهو خلافة الله في أرضه) (2)
قال آخر: ثم ذكر وجها آخر لتفسير الآية بما يتناسب مع عصمة الأنبياء عليهم السلام، فقال: (لعل الاستغفار إنما كان لأن القوم لما تسوروا ظن داود عليه السلام بهم أنهم يقصدون قتله، فلما لم يظهر الأمر كما ظن، ندم على ذلك الظن، فكان الاستغفار عليه) (3)
قال آخر: وعلى منهج التنزيه والعصمة فسرها الشريف المرتضى، الذي ذكر ما ذكره المخطئة من الروايات، وعقب عليه بقوله: (نحن نجيب بمقتضى الآية ونبين أنه لا دلالة في شيء منها على وقوع الخطأ من داود عليه السلام، فهو الذي يحتاج إليه، فأما الرواية المدعاة، فساقطة مردودة، لتضمنها خلاف ما يقتضيه العقول في الأنبياء عليهم السلام، قد طعن في رواتها بما هو معروف، فلا حاجة بنا إلى ذكره) (4)
قال آخر: ثم راح يرد على ما تعلق به المخطئة، فقال: (فأما خوفه منهما؛ فلأنه عليه
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 77.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 77.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 77.
(4) نفائس التأويل، ج 3، ص: 260.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/526)
السلام كان خاليا بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه أحد على مجرى عادته، فراعه منهما أنهما أتيا في غير وقت الدخول، أو لأنهما دخلا من غير المكان المعهود) (1)
قال آخر: ثم ذكر أن الفتنة في قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] هي الاختبار والامتحان لا وجه لها إلا ذلك في هذا الموضع، كما قال تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، فأما الاستغفار والسجود (فلم يكونا لذنب كان في الحال، ولا فيما سلف على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب، بل على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل والعبادة والسجود، وقد يفعله الناس كثيرا عند النعم التي تتجدد عليهم وتنزل وتؤول وترد إليهم شكرا لمواليها، وكذلك قد يسبحون ويستغفرون الله تعالى تعظيما وشكرا وعبادة) (2)
قال آخر: ثم ذكر أن قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] يدل على أنه (لما كان داود عليه السلام بما فعله راجعا إلى الله تعالى ومنقطعا إليه، قيل فيه: إنه أناب، كما يقال في التائب الراجع إلى التوبة والندم: إنه منيب) (3)
قال آخر (4): وأما قوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] فمعناه أنا قبلنا منه وكتبنا له الثواب عليه؛ فأخرج الجزاء على وجه المجازات به، كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقال: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] فأخرج الجزاء على لفظ المجازى عليه.
قال آخر: ثم ذكر الوجوه التي ذكرها المخطئة، وعلق عليها بقوله: (وكل هذه الوجوه لا يجوز على الأنبياء عليه السلام؛ لأن فيها ما هو معصية، وقد بينا أن المعاصي لا
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 260.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 262.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص: 262.
(4) نفائس التأويل، ج 3، ص: 262.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/527)
تجوز عليهم، وفيها ما هو منفر، وإن لم يكن معصية، مثل أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه فتقدم عليه وتزوجها، ومثل التعريض بالنزول عن المرأة وهو لا يريد الحكم .. فأما الاشتغال عن النوافل فلا يجوز أن يقع عليه عتاب؛ لأنه ليس بمعصية ولا هو أيضا منفر، فأما من زعم أنه عرض أوريا للقتل وقدمه أمام التابوت عمدا حتى يقتل، فقوله أوضح فسادا من أن يتشاغل برده) (1)
قال آخر: وهكذا رد الشيرازي على تلك الأراجيف في حق داود عليه السلام في مواضع مختلفة من كتبه، ومن ذلك قوله: (هناك تفاسير مقبولة قدمت تفسيرا مقنعا لهذه الآيات، كما أن هناك روايات موضوعة وردت في بعض الكتب، تعرضت لمعاني هذه الآيات بشكل مسيء ومشوه) (2)
قال آخر: ثم ذكر ما يمكن أن يصح اعتباره متوافقا مع القرآن الكريم، فقال: (أما ما يتفق ومحتوى الآيات المذكورة، فهو القول: إن الشيء الوحيد الذي صدر من داود عليه السلام كان فقط تركه للأولى، وذلك بتسرعه في القضاء، لكن لا بتلك السرعة التي تكون على خلاف واجبات موازين القضاء، إذ يستحب للقاضي التمعن أكثر ما يمكن، فلو ترك الأكثر واكتفى بالحد الأوسط أو الأقل فقد ترك الأولى، وهذا ما فعله داود عليه السلام، فقد قضى بظلم الأخ لأخيه الفقير، وربما كان السبب وراء هذا التسرع هو ذعره من دخولهما المفاجئ عليه في خلوته، فضلا عن أن إجحافا كهذا من قبل أخ لأخيه يبعث على الأسف والشفقة) (3)
قال آخر: ثم بين عذر داود عليه السلام في هذا، فقال: (صحيح أن داود عليه السلام
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 264.
(2) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 103)
(3) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 104)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/528)
أصغى لادعاء طرف واحد فقط، لكن سكوت الطرف الآخر وعدم التفوه بأي كلام، أو اعتراض يعد في نفسه دليلا على اعترافه) (1)
قال آخر: ثم بين سبب سجود داود عليه السلام، وعدم ارتباطه بالمعصية، فقال: (وما استغفار داود عليه السلام إلالتركه الأولى، وقد تقبل الله تعالى توبته وغفر له، وهو أفضل دليل على عدم صدور أي ذنب عن داود عليه السلام) (2)
قال آخر: ثم ذكر ما يدل على ذلك من القرآن الكريم، فقال: (والجملة الواردة في ذيل نفس هذه الآيات: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40] تشير إلى ذلك، كما أن هناك أوصافا أخرى كثيرة في حقه قد وردت في الآيات السابقة، ونُعت بتلك المنزلة الرفيعة عند الله تعالى بحيث غدت سيرته نموذجا لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم يقتدي به، ولا شك أن هذا المعني لا يتناسب مع العصيان والذنب أبدا) (3)
قال آخر: ثم ذكر دلالة قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] على ذلك، فقال: (حينما يصرح القرآن الكريم في ذيل هذه الآيات يتبين بكل وضوح أن خليفة الله لا يذنب، ومسألة ردعه من اتباع هوى النفس إنما هي بمثابة الأمر، ولا تدل على ارتكاب معصية، ومن هنا يتضح مدي تفاهة تلك القصة التي أبرزتها التوراة بشكل مشوه، وبالغت في تضخيمها أكثر من الوضع الطبيعي، وربطت هذه القضية بحادثة مختلقة، وهي عشق داود عليه السلام لزوجة أحد ضباط جيشه وهيامه في حبها، والتدبير لقتله في خاتمة المطاف وأخذ زوجته) (4)
__________
(1) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 104)
(2) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 104)
(3) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 104)
(4) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 105)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/529)
قال آخر: ثم تحدث عن تسرب تلك الخرافات والأساطير المشوهة للأنبياء عليهم السلام إلى مفسري القرآن من المسلمين متعجبا من ذلك، فقال: (تشتمل التوراة التي حرفت عن مواضعها على بعض العبارات التي تبين مدي فضاعة هذه القصة، والتي لا تسمح عفة القلم ومنزلة الأنبياء عليهم السلام بذكرها .. هذه القصص الموضوعة، والعبارات البذيئة تعد بنفسها أفضل دليل علي تحريف التوراة الحالية .. ومن الطبيعي أن مثل هذا التحريف ليس غريبا بالنسبة لمحققي تاريخ التوراة على مدي آلاف السنين، لكن العجب إنما هو من كيفية إقدام بعض المفسرين المسلمين على نقل تلك الخرافات القبيحة في كتبهم، في الوقت الذي نقرأ في رواية عن الإمام علي أنه قال: (لا أوتى برجل يزعم أن داود تزوج امرأة أوريا إلاجلدته حدين حدا للنبوة وحدا للإسلام) (1)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]
قال أحد التلاميذ: الآية الكريمة واضحة، وليس فيها أي دلالة على تلك الأساطير والخرافات التي فسرت بها، والتي لم يرد منها إلا تشويه سليمان عليه السلام، وهو تشويه للأنبياء عليهم السلام جميعا.
قال آخر: ولذلك رد شيوخنا وعلماؤنا عليها بشدة .. ومن الأمثلة على ذلك ما أورده الشريف المرتضى في شأنها، حيث قال: (فإن قيل: ما معنى هذه الآية؟ .. أو ليس قد روي في تفسير هذه الآية أن جنيا ـ كان اسمه صخرا ـ تمثل على صورته وجلس على سريره، وأنه أخذ خاتمه الذي فيه النبوة فألقاه في البحر، فذهبت نبوته وأنكره قومه حتى عاد إليه من
__________
(1) نفحات القرآن، ج، ص: 108.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/530)
بطن السمكة)
قال آخر: ثم أجاب على ذلك بقوله: (أما ما رواه الجهال في القصص في هذا الباب فليس مما يذهب على عاقل بطلانه، وأن مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام، وأن النبوة لا تكون في خاتم، ولا يسلبها النبي عليه السلام ولا ينزع عنه، وإن الله تعالى لا يمكن الجني من التمثيل بصورة النبي عليه السلام ولا غير ذلك مما افتروا به على النبي عليه السلام، وإنما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن، وليس في الظاهر أكثر من أن جسدا ألقي على كرسيه على سبيل الفتنة له، وهي الاختبار والامتحان، مثل قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]) (1)
قال آخر: ثم أورد بعض الوجوه التي ذكرها المفسرون في ذلك، وأحسنها ما عبر عنه بقوله: (ذكروا أنه كان لسليمان عليه السلام ولد شاب ذكي، وكان يحبه حبا شديدا فأماته الله تعالى على بساطه فجأة بلا مرض اختبارا من الله تعالى لسليمان عليه السلام وابتلاء لصبره في إماتة ولده، وألقى جسده على كرسيه، وقيل: إن الله جل ثنائه أماته في حجره وهو على كرسيه فوضعه من حجره عليه .. و منها ما ذكره أبو مسلم، فإنه قال: جائز أن يكون الجسد المذكور هو جسد سليمان عليه السلام، وأن يكون ذلك لمرض امتحنه تعالى به) (2)
قال آخر: ثم ذكر الأدلة اللغوية على هذا، فقال: (وتلخيص الكلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [ص: 34]، وذلك لشدة المرض، والعرب تقول في الإنسان إذا كان ضعيفا: (إنه لحم على وضم). كما يقولون: (إنه جسد بلا روح) تغليظا للعلة ومبالغة في فرط الضعف، {ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]، أي رجع إلى حال الصحة،
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 267.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 268.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/531)
واستشهد على الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]، ولو أتي بالكلام على شرحه لقال: يقول الذين كفروا منهم، أي من المجادلين) (1)
قال آخر: وهكذا رد الشيرازي على تلك الأراجيف، حيث قال متسائلا: (ولنر ما هو هذا الاختبار؟ .. ولمن يعود هذا الجسد الجامد الذي القي علي كرسيه؟) (2)
قال آخر: ثم أجاب على ذلك بقوله: (فهذا ما لم يتعرض القرآن لبيانه، لكن هناك تفاسير إسلامية تناولت هذه الحادثة، وروايات تعرضت لها، كما أن الرواة الذين وجدوا في هذا الموضوع أرضا خصبة لهم فحاكوا حوله أساطير وهمية لا أساس لها، ونسبوا إلي هذا النبي العظيم ما لا يتناسب حتى مع المنطق والعقل السليمين، فضلا عن منزلة العصمة والنبوة) (3)
قال آخر: ثم ذكر ما ذكره الرواة حول أسطورة الخاتم، فقال: (ومن جملة ذلك أسطورة شنيعة وملفقة تدعى ضياع خاتم سليمان، واختطافه من قبل أحد الشياطين وجلوسه على عرش سليمان، ثم استلامه للحكم، وذلك لوجود علاقة بين الخاتم والحكومة والتسلط على الإنس والجن طبقا لهذه الأسطورة، وهذه الأسطورة المذكورة في بعض الكتب بكل جدية واعتقاد، والتي تبدو حسب الظاهر من خرافات الإسرائيليات الممتدة جذورها إلى (التلمود) كتاب اليهود ـ وهو عبارة عن مجموعة روايات في تفسير قوانين موسى عليه السلام ـ والتي يصعب التفوه بها أو نقلها لوقاحتها) (4)
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 268.
(2) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 107)
(3) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 107)
(4) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 107)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/532)
قال القاضي: فما تقولون في الحديث الصحيح الذي أورده شيوخنا الأفاضل، والذي طلب فيه سليمان عليه السلام الولد .. فهل ترون ذلك أيضا مخلا بعصمته؟
قال آخر: أجل .. فطلبه بتلك الطريقة لا يتناسب أبدا مع النبوة، فقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم كيفية طلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام للولد، وهو مخالف تماما للطريقة التي وردت في هذا الحديث.
قال آخر: فقد كانوا متواضعين جدا أمام ربهم سبحانه وتعالى، يعلمون أن الولد وغير الولد هبة من الله لا يمكن لأحد أن يزعم أنه من دون الله يمكن أن ينال هذه الهبة العظيمة.
قال آخر: ولو رجع شيوخنا الأفاضل إلى القرآن الكريم لوجدوا إبراهيم عليه السلام، وبعد تلك المعاناة الشديدة التي واجهه بها قومه، وبعد بلوغه من الكبر عتيا، يتوجه إلى الله بحياء عظيم يطلب منه أن يرزقه من الصالحين .. ولم يحدد لا عددا ولا نوعا .. يكفي فقط أن يكون من الصالحين، كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99 ـ 101]
قال آخر: وهكذا لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا زكريا عليه السلام يقف نفس موقف جده إبراهيم عليه السلام، يطلب من الله الولد بتواضع وحياء عظيم، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38، 39]
قال آخر: بل إن القرآن الكريم يشير إلى احترام أنبياء الله لسنن الله في الولد كاحترامهم لغيرهم من السنن، ولذلك لما بشرت الملائكة زكريا عليه السلام أجابهم: {
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/533)
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]
قال آخر: وهكذا لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا سليمان عليه السلام العبد الشكور، وهو يلجأ إلى الله كل حين، لا يغفل عنه أبدا .. فكيف يغفل عنه، وهو يطلب ـ وفي ليلة واحدة ـ أن يرزق مائة ولد كلهم يعيش إلى أن يجاهد في سبيل الله؟
قال آخر: إن هذا التألي على الله يستحيل على عوام الناس من المسلمين، فكيف يقع من عبد شكور أواب ممتلئ بالطاعة لله والعبودية لله؟
قال القاضي: فما تقولون فيما أورده شيوخنا في تفسير قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 30 ـ 33]
قال أحد التلاميذ: لقد ذكر شيوخنا ما نقله الطبري عن ابن عباس، وترجيحه له، وفي إمكانهم أن يأخذوا به، فهم يعتبرونه من شيوخهم المحققين المعتبرين.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك .. فقد فسر شيوخنا الآية الكريمة على وفق مقتضى اللغة تفسيرا جميلا ينطلق من كمال الرسل عليهم السلام، ويدل على مكانتهم الرفيعة، فقد قال السبحاني في الآية الكريمة بعد أن أورد الوجوه النحوية في كل كلمة منها: (وتقدير الجملة: أحببت الخير حبا ناشئا عن ذكر الله سبحانه وأمره، حيث أمر عباده المخلصين بالإعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل؛ ولأجل ذلك قمت بعرض الخيل، كل ذلك امتثالا لأمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/534)
الْمَآبِ} [آل عمران: 14]) (1)
قال آخر: وانطلاقا من هذا المعنى فسر قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] (أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركّابها ومربّيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد) (2)
قال آخر: ثم قرب ما حصل بطريقة مبسطة، فقال: (إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الأنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيام ملكه وقدرته، وحاصله: إن سليمان النبي الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الإنس والجن، وتعرفه على منطق الطير، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصها به بين الأنبياء قام في عشية يوم بعرض عسكري، وقد ركب جنوده من الخيل السراع، فأخذت تركض من بين يديه إلى أن غابت عن بصره، فأمر أصحابه بردها عليه، حتى إذا ما وصلت إليه قام تقديرا لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها، ولم يكن قيامه بهذا العمل صادرا عنه لجهة إظهار القدرة والسطوة أو للبطر والشهوة، بل إطاعة لأمره سبحانه وذكره حتى يقف الموحدون على وظائفهم، ويستعدوا للكفاح والنضال ما تمكنوا، ويهيئوا الأدوات اللازمة في هذا المجال، وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقا واضحا، فهلم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات، وهي بعيدة عن تحمله وبريئة منه) (3)
قال آخر: ومثله الشيرازي، فقد رد على ما أورده المخطئة بشأنها، فقال: (لا يبدو هناك أي إشكال في عمل سليمان عليه السلام هذا، فهو يعتد بقدرته العسكرية ويلتذ
__________
(1) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 175.
(2) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 175.
(3) عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص 175، وقد ذكر أن هذا التفسير اختاره السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء: 95 ـ 97، والرازي في مفاتيح الغيب: 7/ 136، والمجلسي في البحار: 14/ 103 ـ 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/535)
بالتطلع إلى الجياد المهيأة للجهاد، ويأمر بردها عليه ثانية لاعتزازه بها، وهذه التصرفات كلها تبدو بشكل عام معقولة ومنطقية وإلهية .. لكن البعض فسر هذه الآية بشكل آخر، واعتبرها كبداية للإشكال على سليمان عليه السلام، وقال: إن الضمير في كلتا جملتي (توارت) و (ردوها) يعود إلى الشمس التي لم ترد في العبارة، والتي يمكن استنتاجها من التعبير ب (العشي) الوارد في الآية، وطبقا لهذا التفسير فقد ذهل سليمان بالنظر إلي هذه الجياد، إلى أن غابت الشمس وتوارت وراء الحجب، فغضب لذلك كثيرا لفوات صلاة العصر عليه، وحينئذ طلب من الملائكة إعادة الشمس، ثم توضأ وصلى، وأن جملة {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] إشارة إلى وضوئه) (1)
قال آخر: ثم استنكر خرافة أخرى فسرت بها الآية الكريمة، فقال: (كما ذهب البعض إلى أبعد من هذا أيضا، وقال: إن المراد من هذه الجملة هو: أنه أعطي أمرا بقطع أعناق الجياد وقوائمها، باعتبارها السبب وراء غفلته عن ذكر الله، العذر الذي هو أقبح من الفعل، والقول: إنه ذبحها ووزع لحومها في سبيل الله يبدو عجيبا أيضا، لأن جيادا بتلك القيمة والخاصية التي تلفت نظره إليها حتى يذهل لذلك لا ينبغي ذبحها كالأبقار والأغنام، إذ لو أراد إنفاقها لوجب إعطاءها للآخرين، وهي على قيد الحياة، ولا يخفى على أحد سقم هذه التفاسير) (2)
قال آخر: ثم بين الأدلة على فساد تلك الأقوال، ومنها أنه (لو كانت هذه الجملة {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] إشارة إلى وضوئه، فليس لديه سوى رقبة واحدة، والتعبير بـ (الأعناق) بصيغة الجمع مما يكون، كما أن لديه ساقين، والتعبير ب (السوق) بصيغة الجمع يكون لا معنى له أيضا، ومن قال إن الوضوء كان بالمسح لا معنى
__________
(1) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 111)
(2) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 111)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/536)
له .. ولو كانت بمعنى قطع أعناق وقوائم الجياد، فهو عمل غير منطقي جدا، لا يقدم عليه حتى الفرد العاقل العادي فكيف بنبي عظيم كسليمان عليه السلام، إذ لا ذنب لها، بل لو كان هناك ذنب فهو منه حينما انشغل بالنظر إليها .. أكثر ما يمكن أن يقال هنا هو أن يهبها للآخرين لتبقى بعيدة عنه ولا تشغله بنفسها، ولا داعي للقتل أبدا!؟) (1)
قال آخر: ومنها أنه (لم يرد في هذا الحوار كلام عن الشمس، والاستدلال عليها عن طريق العشي بعيد جدا، لأن أقرب ما يعود إليه الضمير هنا هو الخير الذي يعني هنا (الجياد) بكل تأكيد، كما لم يرد شي ء عن الملائكة أيضا ليكونوا من مخاطبي سليمان، فضلا عن أن هذا التعبير الذي وجهه سليمان عليه السلام إلى الملائكة تشم منه رائحة صيغة الأمر، ويبدو مستبعدا جدا لعدم لياقته وشأن الملائكة) (2)
قال آخر: ومنها أنا (لو قبلنا هذا التفسير على سبيل الفرض، لأمكن القول: إن الصلاة التي أداها قضاء كانت صلاة مندوبة، قد فاتت سليمان، وأنها كانت قبل غروب الشمس، فكيف يثبت كونها صلاة واجبة؟ وأساسا كيف يثبت كون الفائت هي الصلاة!؟ ربما كانت أذكارا خاصة يؤديها سليمان قبل الغروب، وقال بعض المفسرين أيضا: إن (ذكر ربي) لو كان يعني الصلاة الواجبة، وأن سليمان عليه السلام كان قد غفل عنها لانشغاله بالجياد استعدادا للجهاد، فلن يرد عليه إشكال أبدا، لأن نفس عمل سليمان هذا يعد عبادة عظيمة قد أغفلته عن عبادة أخرى) (3)، لكنه علق على هذا الوجه من التفسير بقوله: (لكن هذا التفسير أيضا يبدو بعيدا، نظرا للأهمية الخاصة التي تتمتع بها الصلاة، والصحيح هو ما قيل أولا) (4)
__________
(1) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 112)
(2) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 112)
(3) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 112)
(4) نفحات القرآن، الشيرازي: (7/ 112)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/537)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]، وما أورده شيوخنا من الروايات الدالة على تفسيرها.
قال أحد التلاميذ: لقد اتفق علماؤنا من السلف والخلف على رفض تلك الروايات التي هي من وضع الكذبة الذين أرادوا تشويه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يجدوا أحسن من أولئك الرواة الحشوية الذين همهم الجمع لا التحقيق.
قال آخر: وقد ذكرنا لكم سابقا قول الإمام الرضا في معناها، فقد قال: (إن الله عز وجل عرف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في دار الآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وإحداهن من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، فقال الله عز وجل: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] يعني في نفسك وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم عليه السلام وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وفاطمة من علي) (1)
قال آخر: وهكذا رد جميع علمائنا على تلك الأراجيف المشوهة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم أبو زهرة الذي قال عنها: (راجت هذه الأكذوبة بين المفسرين الذين يتلقون الأخبار
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/538)
من غير تمحيص لذاتها، ولا تعرف دقيق لمصادرها .. ووقع فيها شيخ المؤرخين والمفسرين محمد بن جرير الطبري، وتكلف وخرج عليها تفسير هذه الآيات الكريمة، وتبعه في ذلك المفسرون، حتى الذين من شأنهم أن يمحصوا الحقائق كالزمخشري والرازي وغيرهما، وتلقاها الذين لا يرجون للقرآن ولا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وقارا في عصرنا، فكتب كاتب في كتاب له [محمد العاشق] وتبعه غيره من تلاميذه أو أشباهه الذين لا يمحصون الحقائق، وليس للحقائق الإسلامية في قلوبهم روعة تدفعهم إلى التمحيص، وخاض كل المفسرين الذين كانوا قبل الحافظ ابن كثير، الذي ردها ومحصها ونقد ابن جرير الذي خاض فيها، وأثبت أنه لا توجد رواية عن الصحابة في هذا صحيحة أو غير صحيحة) (1)
قال آخر: ثم ذكر تعارض تلك الأراجيف مع الآية الكريمة، فقال: (وظواهر النص القرآني، ومعانيه تنافيها جميعا، وصريح القرآن يردها، فالله تعالى يحكي أن زواجها كان بأمر من الله تعالى، ويخبر أن طلاقها كان بأمر من الله، فالله يصرح بأن الأمر كان الحرج من المسلمين في تزوج زوجة المتبنى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كان قد تبنى زيد بن حارثة، وتزوج زيد زينب على أنه ابنه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ألغي التبني بحكم الإسلام تململت به، وتململ من كبريائها، فأراد أن يطلقها، فقال له محمد الأمين صلى الله عليه وآله وسلم كما أخبر القرآن: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]، وهو إرادة الله في الطلاق، وتزويجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
قال آخر: ومثله الشيرازي، الذي قال في تفسيره لها: (مع أن القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصة زواج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من زينب، وفي تبيان هذه المسألة، والهدف من هذا الزواج، وأعلن أن الهدف هو محاربة سنة جاهلية فيما يتعلق بالزواج من مطلقة الابن المدعى، إلا أنها ظلت مورد إستغلال جمع من أعداء الإسلام، فحاولوا اختلاق قصة غرامية
__________
(1) زهرة التفاسير (1/ 27)
(2) زهرة التفاسير (1/ 27)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/539)
منها ليشوهوا بها صورة النبي المقدسة، واتخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوحون بها) (1)
قال آخر (2): ثم ذكر الدلائل على كذب تلك الأراجيف .. ومنها أن زينب كانت بنت عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تربيا وكبرا معا في محيط عائلي تقريبا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي خطبها بنفسه لزيد، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق الذي ذكروه، وعلى فرض أنه استرعى انتباهه، فلم يكن جمالها أمرا خافيا عليه، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمرا عسيرا، بل إن زينب لم تبد أي رغبة في الاقتران بزيد، بل أعلنت مخالفتها صراحة، وكانت ترجح تماما أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث أنها سرت وفرحت عندما ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخطبتها ظنا منها بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطبها لنفسه.
قال آخر (3): ومنها أن زيدا عندما كان يراجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطلاق زوجته زينب، كان النبي ينصحه مرارا بصرف النظر عن هذا الأمر، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الإدعاءات والأساطير.
قال آخر (4): ومنها أن ما ورد في القرآن الكريم من ذكر خشية الله تعالى توحي بأن هذا الزواج قد تم كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كل الاعتبارات الشخصية جانبا من أجل الله تعالى ليتحقق هدف مقدس من أهداف الرسالة، حتى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتهاماتهم للنبي، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولا زال يدفعه إلى الآن ـ في مقابل طاعة أمر الله سبحانه، وإلغاء عرف خاطئ وسنة مبتدعة .. إلا أن هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (13/ 264)
(2) الأمثل، الشيرازي: (13/ 264)
(3) الأمثل، الشيرازي: (13/ 265)
(4) الأمثل، الشيرازي: (13/ 265)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/540)
تحتم عليهم أن يضحوا ويعرضوا أنفسهم فيها لاتهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقق هدفهم.
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول العصمة والغرائز والشهوات، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الأمر الثاني .. فحدثونا عن الثالث.
قال أحد الشيوخ: الأمر الثالث هو بيان عدم تعارض عصمة النبي مع الحرص الشديد على الحياة .. ذلك أن حب الحياة شيء فطري لا ينفك عنه أي إنسان.
قال القاضي: فما الفرق بينكم وبين هؤلاء القبوريين المعطلة الغلاة في هذا؟
قال أحد الشيوخ: هذا من الفروق الكبرى بيننا وبين الغلاة هو في هذا الجانب؛ فهم يردون كل ما ورد في القرآن الكريم، أو الأحاديث الشريفة، أو الأخبار الواردة عن السلف الصالح .. والتي تدل على ذلك بقوة.
قال القاضي: فهلا ذكرتم لنا بعض ما يدل على ذلك، لنقطع ألسنة هؤلاء الغلاة.
قال أحد الشيوخ: سنذكر لكم سيدي القاضي، ولهؤلاء الغلاة .. أربعة أمثلة منها.
قال القاضي: فما أولها؟
قال أحد الشيوخ: أولها ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن آدم عليه السلام، وحرصه على الحياة، على الرغم من عنائه الشديد في الأرض .. وعلى الرغم أنه عاش ألف سنة كاملة.
قال آخر: ومن تلك الروايات ما رواه شيوخنا وسلفنا الصالح عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أول من جحد آدم عليه السلام قالها ثلاث مرات، إن الله لما خلقه
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/541)
مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال: أى رب من هذا؟ قال ابنك داود قال: كم عمره؟ قال: ستون، قال: أى رب زد فى عمره، قال: لا إلا أن تزيده أنت من عمرك، فزاده أربعين سنة من عمره فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما أراد أن يقبض روحه، قال: بقي من أجلي أربعون فقيل له: إنك جعلته لابنك داود قال: فجحد، قال: فأخرج الله عز وجل الكتاب وأقام عليه البينة فأتمها لداود، عليه السلام، مائة سنة وأتمها لآدم عليه السلام عمره ألف سنة) (1)
قال آخر: وفي رواية عن أبي هريرة يرفعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اتفق شيوخنا على صحتها، أنه قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا فأعجبه وبيص مابين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ قال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته) (2)
قال آخر: ويدل لهذه الرواية ما ورد في القرآن الكريم من ذكر معصيته لله، والتي تفند كل ما ادعاه الغلاة من العصمة المطلقة للأنبياء عليهم السلام .. فالله تعالى أخبر أنه كان عاصيا، والعاصي لا بد أن يكون صاحب الكبيرة.
قال آخر (3): ويدل لكونه عاصيا قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ..
__________
(1) أحمد 1/ 251 (2270)
(2) الترمذي (3076) قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2683) وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 325 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 16.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/542)
ويدل لكونه صاحب الكبيرة ما ورد في القرآن الكريم من الدلالة على كونه معاقبا، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه .. بالإضافة إلى ذلك، فإن العصيان اسم ذم، فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أنه تاب والتائب مذنب، لقوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] وقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، والتائب مذنب، لأن التائب هو النادم على فعل الذنب، والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلا للذنب، فإن كذب في ذلك الأخبار فهو مذنب بفعل الكذب وإن صدق فيه فهو المطلوب.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أنه ارتكب المنهى عنه، لقوله تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] وقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [الأعراف: 19] وارتكاب المنهي عنه عين الذنب
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فقد سماه الله تعالى ظالما في قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19] وهو أيضا سمى نفسه ظالما في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] والظالم ملعون لقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] ومن كان كذلك كان صاحب كبيرة.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك، فإنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله تعالى له لكان خاسرا في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وذلك يقتضي
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 16.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 16.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 16.
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 16.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/543)
كونه صاحب كبيرة.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك، فإنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإنزاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان، وذلك يدل على كونه صاحب كبيرة.
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الأول .. فحدثونا عن الثاني؟
قال أحد الشيوخ: هو ما أشار إليه، بل صرح به قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56، 57]
قال آخر: فقد ورد في تفسيرها عن سلفنا الصالح ما يدل على حرص إدريس عليه السلام على الحياة، فعن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعبا، وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملا، فأتاه خليل له من الملائكة فقال: إن الله أوحى إلي كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت، فليؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه، حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدرا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري. قال ملك الموت: فالعجب! بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]) (2)
قال آخر: وقد ورد في رواية أخرى ذكر الأعمال التي كان يعملها، والتي كان يرغب في أن تستمر حياته لأجل القيام بها، وهي ما روي عن ابن عباس أنه قال: (إن إدريس كان
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 16.
(2) تفسير الطبري (16/ 72)، وتفسير ابن كثير (5/ 240)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/544)
خياطا، فكان لا يغرز إبرة إلا قال: (سبحان الله)، فكان يمسي حين يمسي، وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه) (1)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثاني .. فحدثونا عن الثالث؟
قال أحد الشيوخ: الدليل الثالث هو ما رواه شيوخنا وسلفنا الصالح عن إبراهيم عليه السلام، وحرصه على الحياة على الرغم من كونه ـ كما تذكر الرواية ـ بلغ من العمر مائتي سنة، وقيل ابن مائة وخمس وسبعين سنة.
قال آخر: فقد حدث السدي عن سلفنا الصالح، قال: (كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس، ويضيفهم، فبينا هو يطعم الناس إذا هو بشيخ كبير يمشي في الحره، فبعث إليه بحمار، فركبه حتى إذا أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه، فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره، وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وجل ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال للشيخ حين رأى من حاله ما رأى: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم، الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك صرت مثلك! قال: نعم، قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقام الشيخ فقبض روحه، وكان ملك الموت) (2)
قال آخر: فهذه الرواية تصور الكيفية التي احتال بها ملك الموت على إبراهيم عليه السلام ليقنعه بالموت، وذلك لعلمه بشدته، وكونه مكروها من كل الفطر السلمية حتى فطر الأنبياء عليهم السلام.
__________
(1) تفسير ابن كثير (5/ 241)
(2) تاريخ الطبري، (1/ 312)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/545)
قال آخر: بل ورد من الأدلة على حرص إبراهيم عليه السلام على الحياة، ما هو أكثر صحة، وأعظم دلالة، وقيمة هذا الدليل أن راويه أبو هريرة، ومخرجه البخاري ومسلم.
قال آخر: ونص الرواية كما رواها أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لم يكذب ابراهيم عليه السلام غير ثلاث: ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، إذ نزل منزلا، فأتى الجبار رجل فقال: إن في أرضك رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فجاء فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: هي أختي، قال: اذهب فأرسل بها إلي، فانطلق إلى سارة، فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، فإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، قال: فانطلق بها وقام ابراهيم عليه السلام يصلي قال: فلما دخلت عليه فرآها أهوى إليها وذهب يتناولها، فأخذ أخذا شديدا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل فأهوى إليها، فذهب يتناولها، فاخذ أخذ شديدا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم فعل ذلك الثالثة، فأخذ، فذكر مثل المرتين فأرسل قال: فدعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر، فأقبلت بها، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته، فقال: مهيم! فقالت: كفى الله كيد الفاجر الكافر! وأخدم هاجر) (1)
قال آخر: وقد قال بعض شيوخنا في بيان دلالتها وتأويل ما ورد فيها: (وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة؛ فلكونه قال قولا يعتقده السامع كذبا، لكنه إذا حقق لم يكن كذبا؛ لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين، فليس بكذب محض، وقوله (هذه أختي)
__________
(1) رواه البخاري 6/ 277 ـ 280، ومسلم (2371)، وأبو داود (2212)، والترمذي (3165)، وأحمد (2/ 403) والنسائي في فضائل الصحابة (268)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/546)
يعتذر عنه بأن مراده أنها أخته في الإسلام، قال ابن عقيل: دلالة العقل بتصرف ظاهر إطلاق الكذب على إبراهيم، وذلك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به؛ ليعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، وإنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام ـ يعني إطلاق الكذب على ذلك ـ إلا في حال شدة الخوف لعلو مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا لكنه قد يحسن في مواضع وهذا منها) (1)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثالث .. فحدثونا عن الرابع؟
قال أحد الشيوخ: الدليل الرابع هو ما رود في الحديث الصحيح العظيم الذي اهتم به سلفنا الصالح كثيرا، بل جعلوا قبوله علامة على السنة، ورفضه علامة على البدعة.
قال آخر: وهو ما رواه أبو هريرة، وأخرجه الشيخان، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، فقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده من شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر) (2)
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (6/ 451)
(2) أحمد (2/ 269) والبخاري (2/ 113) وفي (4/ 191) ومسلم (7/ 99) والنسائي (4/ 118)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/547)
قال آخر: وقد اهتم سلفنا الصالح كثيرا بهذا الحديث، وقد روي عن إمامينا أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه أنهما سئلا عن هذا الحديث في جملة من أحاديث الصفات، فقال أحمد: كل هذا صحيح، وقال إسحاق: (هذا صحيح ولا يدفعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي) (1)
قال آخر: بل إن شيخنا الحافظ عبد الغني المقدسي جعل الإيمان بما في هذا الحديث من عقائد أهل السنة، فمن أنكره خرج عنهم مذؤوما مدحورا، فقال: ( .. ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه السلام فصكه ففقأ عينه، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ينكره إلا ضال مبتدع أو ضعيف الرأي) (2)
قال آخر: وهكذا رد شيوخنا على كل الإشكالات والشبه التي أثارها الغلاة المخالفون المبتدعة .. وأولها ما ذكروه من أن تمثل ملك الموت في صورة بشر أمر غير مستغرب ولا ممتنع؛ فقد دلت نصوص القرآن والسنة على ظهور الملائكة في صورة البشر بما يخفي حالهم على الأنبياء ـ فضلا عن عموم الناس ـ ولا يلزم من ذلك خروج الملك عن ملكيته، وفقء موسى لعين الصورة البشرية التي تمثل فيها ملك الموت رد فعل طبيعي يتصف بالشرعية مع رجل غريب اقتحم بيته بغير إذنه يطلب روحه.
قال آخر: وهكذا برروا كراهية موسى عليه السلام للموت بأنه أمر جبلي فطر الله الناس عليه، لأن الله سمى الموت في القرآن مصيبة وبلاء.
قال آخر: وبرروا لطم موسى عليه السلام لملك الموت بأنه ليس اعتراضا من موسى على قضاء الله؛ بل لأن ملك الموت قد أتى موسى عليه السلام في صورة بشرية، ولم يعرفه فلطمه لأنه رآه آدميا قد دخل داره بغير إذنه يريد نفسه، فدافع موسى عليه السلام عن نفسه
__________
(1) انظر: الشريعة، أبو بكر الآجري، (2/ 94) التمهيد، (7/ 147، 148)
(2) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، ص 533.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/548)
مدافعة أدت إلى فقء عين ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دارغيره بدون إذنه.
قال آخر: وقد قال شيخنا ابن حبان في ذلك: (كان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غيورا، فرأى في داره رجلا لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله عليها .. ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره، أنه لا جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، للأخبار الجمة الواردة فيه .. كان جائزا اتفاق الشريعة بشريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيا بأمر آخر، هو أمر اختبار وابتلاء، فلما علم موسى كليم الله أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: الآن، فلو عرف موسى في المرة الأولى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به) (1)
قال آخر: بل إن شيوخنا وعلماءنا بنوا الكثير من العقائد على هذا الحديث، حتى أن بعضهم ـ وهو شيخنا العلامة محمد بن أحمد العلوي ـ ألف في ذلك كتابا بعنوان [توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى عليه السلام للملك الموكل بقبض أرواح العباد]
قال آخر: وقد ذكر فيه أصناف الأدلة التي تبين أن الملاك الذي فقأ موسى عليه السلام هو ملاك الموت، وأن عينه فقئت حقيقة، ولولا أن الله ردها عليه لبقي أعور .. وقد قال في ذلك: (إن ملك الموت جاء في صورة يمكن فقء البشر لعينها، والمعهود في مجيء
__________
(1) صحيح ابن حبان (14/ 112).
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/549)
الملك للبشر هو مجيئه له على صورة البشر، كما قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وكما أفادته النصوص القرآنية التي ذكر فيها مجيء الملائكة لإبراهيم وللوط وداود، وكذا نصوص الأحاديث التي ذكر فيها مجيء جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وبه تبين أن فقأ العين هنا هو على ظاهره، وأنه وقع في الصورة البشرية التي جاء ملك الموت عليها، وهو ممكن غير متعذر إلا في الصورة الملكية الأصلية النورانية البعيدة عن ذلك، إذ لم يعهد مجيء الملائكة للبشر فيها .. أما رؤية نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل على صورته الأصلية في السماء مرة، وبين السماء والأرض أخرى، فهي خارجة عن مجيء الملك الذي عليه مدار الحديث هنا، وبمجموع هذا الذي قررناه يكون قد حل استشكال صك موسى لعين الملك، وحصول فقء عين الملك من أثره) (1)
قال آخر: ثم فسر دوافع موسى عليه السلام لفقء عين ملك الموت، فقال: (وعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلا لا يعرفه قد دخل عليه بغتة، وقال ما قال، حمله حب الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدة حب الحياة لتأنى وقال: من أنت وما شأنك؟ ونحو ذلك، ووقوع الصكة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس، فأما قوله في القصة: (فرد الله عليه عينه)، فحاصله: أن الله تعالى أعاد تمثيل الملك في ذاك الجسد المادي سليما، حتى إذا رآه موسى قد عاد سليما مع قرب الوقت، عرف لأول وهلة خطأه أول مرة) (2)
قال آخر: أما مسألة القصاص بين موسى عليه السلام وملك الموت، وكيف لم يطلب الملاك القصاص من موسى عليه السلام، فقد أجاب عليها شيوخنا بقولهم: (ومن قال: إن الله لم يقتص لملك الموت من موسى، فهذا دليل على جهله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين
__________
(1) توضيح طرق الرشاد، ص 196 بتصرف.
(2) الأنوار الكاشفة، ص 215.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/550)
الآدميين قصاص!؟ ومن قال: إن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه، وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسا، ولم يقاصص الله منه لقتله!) (1)
قال آخر: وهكذا ردوا على القول بأن العين التي فقأها موسى عليه السلام (إنما هي تمثيل وتخييل، لا حقيقة لها؛ لأن ما تنتقل الملائكة إليه من الصور ليس على الحقائق، وإنما هو تمثيل وتخييل)، فقد أجاب على ذلك بعضهم بقوله: (إن هذا يقتضي أن كل صورة رآها الأنبياء من الملائكة فإنما هي مجرد تمثيل وتخييل لا حقيقة لها، وهذا باطل، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى جبريل على صورته التي خلق عليها سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض) (2)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت خضوع الأنبياء لغرائزهم وشهواتهم كسائر الناس .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال القاضي: فما تقولون في الأحاديث التي أوردها شيوخنا الأفاضل، والتي تدل على حرص آدم عليه السلام الشديد على الحياة.
قال أحد التلاميذ: نحن لا نؤمن بهذه الرواية، ولا نصدقها، لأنها تصور آدم عليه السلام بصورة حقيرة لا تتناسب مع عامة الناس، فكيف بنبي كريم علمه الله أسماء كل شيء، ورضيه خليفة، وأسجد له ملائكته .. ومع ذلك، وبعد أن نزل من الجنة، وتألم بآلام
__________
(1) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، ص 538.
(2) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، ص 538.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/551)
الأرض يصورونه وكأنه حريص على البقاء مدة أطول.
قال آخر: وفي الأحاديث التي أوردوها ما يدل على كونها روايات إسرائيلية .. فالروايات بطرقها المختلفة تنص على أنه عندما عرضت ذريته جميعا عليه، بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يشد انتباهه إلا لداود عليه السلام لأنه كان مميزا بكثرة نوره .. والنور يعني القرب والكمال .. وهم بذلك يصورون داود عليه السلام بأنه الأقرب والأكمل .. وهو موقف اليهود الذي لا زالوا يؤمنون به، فهم يعتبرون داود هو مثلهم الأعلى، بل يعتبرونه أكثر من موسى، لأن الهدف عندهم هو الملك، وقد تحقق في داود، ولم يتحقق في موسى عليهم السلام جميعا.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الذين ذكروا تلك الروايات واستدلوا بها من دون وعي يغفلون عما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أكرم الخلق على الله، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81، 82]
قال آخر: ومن الروايات الشبيهة بها ما رووه عن ابن عباس قال: (كنت في حلقة في المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء أيهم أفضل، فذكرنا نوحا وطول عبادته ربه، وذكرنا إبراهيم خليل الرحمن، وذكرنا موسى مكلم الله، وذكرنا عيسى بن مريم، وذكرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ما تذكرون بينكم؟)، قلنا: يا رسول الله، ذكرنا فضائل الأنبياء أيهم أفضل، فذكرنا نوحا وطول عبادته ربه، وذكرنا إبراهيم خليل الرحمن، وذكرنا موسى مكلم الله، وذكرنا عيسى بن مريم، وذكرناك يا رسول الله، قال:
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/552)
(فمن فضلتم؟)، فقلنا: فضلناك يا رسول الله، بعثك الله إلى الناس كافة، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت خاتم الأنبياء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ينبغي أن يكون أحد خيرا من يحيى بن زكريا)، قلنا: يا رسول الله، وكيف ذاك؟ قال: (ألم تسمعوا كيف نعته في القرآن {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 12 ـ 15] {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] لم يعمل سيئة ولم يهم بها) (1)
قال آخر: ورووا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا) (2)
قال آخر: ورووا عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يحيى بن زكريا، ما هم بخطيئة، ولا عملها) (3)
قال آخر: ورووا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب، وقد يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان {سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]. وأهوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: (ذكره مثل هذه القذاة) (4)
قال آخر: وغيرها من الروايات المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمسيئة معه ليحي عليه السلام .. والتي لا شك في كونها أثرا من آثار اليهود التي دخلت إلى الإسلام، لتحوله إلى المشروع الشيطاني، كما حولت اليهودية.
__________
(1) رواه البزار والطبراني، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 209)
(2) أحمد [1/ 254، 292]، وأبو يعلى [4/ 418]، ب [2544] والحاكم في المستدرك [2/ 591]، والحديث سكت عنه الحاكم وقال الذهبي: إسناده جيد.
(3) رواه البزار، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 209)
(4) رواه الطبراني في الأوسط، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 209)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/553)
قال القاضي: فما تقولون فيما أورده شيوخنا الأفاضل في معصية آدم عليه السلام، وكونها من الكبائر العظيمة .. وهو ما يتنافى مع العصمة المطلقة التي تقولون بها، كما يقول بها كل الغلاة المبتدعة؟
قال أحد التلاميذ: أول جواب لذلك، ما ذكره الإمام الرضا، والذي ذكرناه لكم سابقا، فقد قال لمن استدل بذلك على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام: (وأما قوله عز وجل في آدم: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]) (1)
قال آخر: وهكذا أجاب علماؤنا على هذا أجوبة مختلفة، منها ما عبر عنه الرازي بقوله ـ نقلا عن القائلين بالعصمة المطلقة ـ: (المعصية مخالفة الأمر، فالأمر قد يكون بالواجب والندب، فإنهم يقولون: أشرت عليه في أمر ولده بكذا فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإن كان كذلك لم يمتنع أن يكون إطلاق اسم العصيان على آدم، لا لكونه تاركا للواجب بل للمندوب) (2)
قال آخر (3): ومنها أن التوبة قد تحسن ممن لم يذنب قط على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه، ويكون وجه حسنها استحقاق الثواب بها ابتداءا، والذي يدل عليه أنا نقول: (اللهم اجعلنا من التوابين)، فلو كان حسنها مسبوقا بفعل الذنب لكان ذلك سؤالا
__________
(1) بحار الأنوار، ج 11، ص: 72.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 17.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 18.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/554)
لصيرورتنا مذنبين، وهو لا يجوز.
قال آخر (1): ومنها أن النهي ليس للتحريم فقط، بل هو مشترك بين التحريم والتنزيه، ذلك أن النهي يفيد أن جانب الترك راجح على جانب الفعل، فأما جانب الفعل فهل يقتضي استحقاق العقاب أو لا يقتضي؟ فذلك خارج عن مفهوم اللفظ وإذا كان كذلك سقط الاستدلال.
قال آخر (2): ومنها أنه حتى لو سلمنا أن النهي للتحريم لكنه ارتكبه ناسيا لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وحينئذ لم يكن ذنبا لأن التكليف مرتفع عن الناسي.
قال آخر (3): ومنها أن تسمية الله تعالى له ظالما، لكون ترك الأولى ظلم، لأنه لما كان متمكنا من فعل الأولى حتى يستحق به الثواب العظيم فلما تركه من غير موجب فقد ترك حظ نفسه ومثل هذا يجوز أن يسمى ظالما لنفسه، لأن حقيقة الظلم وضع الشئ في غير موضعه وهاهنا كذلك.
قال آخر (4): ومنها أن إخراج آدم عليه السلام من الجنة عند إقدامه على هذا الفعل، أو لأجل إقدامه على هذا الفعل، وذلك لا يدل على أن ذلك كان على سبيل التنكيل والاستخفاف وكيف والله تعالى إنما خلق آدم ليكون خليفة في الأرض؟ فلما كان المقصود الأصلي من خلقه ذلك، فكيف يقال: إنه وقع ذلك عقوبة واستخفافا.
قال آخر (5): ومنها أن آدم عليه السلام لو كان عاصيا في الحقيقة وكان ظالما في الحقيقة لوجب الحكم عليه بأنه كان مستحقا للنار، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
__________
(1) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 18.
(2) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 18.
(3) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 19.
(4) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 20.
(5) عصمة الأنبياء، الرازي، ص 20.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/555)
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] وبأنه كان ملعونا لقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] فلما اجتمعت الأمة على أن ذلك لا يجوز علمنا قطعا أنه لا بد من التأويل.
قال آخر: وهكذا رد الشريف المرتضى على من يستدلون بما حصل لآدم عليه السلام على جواز المعاصي على الأنبياء عليهم السلام، فقال: (المعصية هي مخالفة الأمر، والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معا، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة، ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا، وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا، كما يسمى بذلك تارك الواجب؛ فإن تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهرة، ولهذا يقولون: (أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني)، وإن لم يكن ما أمره به واجبا، وأما قوله {فَغَوَى} [طه: 121]، فمعناه أنه خاب؛ لأنا نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم، فإذا خالف الأمر ولم يصر إلى ما ندب إليه، فقد خاب لا محالة، من حيث أنه لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحق بالامتناع، ولا شبهة في أن لفظ (غوى) يحتمل الخيبة، قال الشاعر: (فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما) (1)
قال آخر: ثم ذكر معنى الغواية، وعدم علاقتها بالمعاصي التي يذكرها المخطئة، فقال: (على أن قوله تعالى: {فَغَوَى} [طه: 121] بعد قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] لا يليق إلا بالخيبة، ولا يليق بالغي الذي هو القبيح وضد الرشد؛ لأن الشيء يعطف على نفسه، ولا يكون سببا في نفسه، ومحال أن يقال: عصى فعصى، ولا بد أن يراد بما عطف بالفاء غير المعنى الأول .. و الخيبة هي حرمان الثواب بالمعصية التي هي ترك المندوب وسبب فيها،
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 94.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/556)
فجاز أن يعطف عليها، والغي الذي هو الفعل القبيح، ولا يجوز عطفه على المعصية ولا أن يكون سببا فيه) (1)
قال آخر: ثم رد على من قصر العصيان على ترك الواجب، فقال: (الظاهر من قوله تعالى: (عصى فغوى) أن الذي دخلته الفاء جزاء على المعصية، وأنه كل الجزاء المستحق بالمعصية؛ لأن الظاهر من قول القائل: سرق فقطع، وقذف فجلد ثمانين، أن ذلك جميع الجزاء لا بعضه .. و كذا إذا قال القائل: من دخل داري فله درهم، حملناه على أن الظاهر يقتضي أن الدرهم جميع جزائه، ولا يستحق بالدخول سواه .. ومن لم يفعل الواجب استحق الذم والعقاب وحرمان الثواب، ومن لم يفعل المندوب إليه فهو غير مستحق لشيء كان تركه للندب سببا تاما فيه إلا حرمان الثواب فقط، وبينا أن من لم يفعل الواجب ليس كذلك، وإذا كان الظاهر يقتضي أن ما دخلته الفاء جميع الجزاء على ذلك السبب لم يلق إلا بما قلناه دون ما ذهبوا إليه) (2)
قال آخر: ثم رد على الإشكال الذي يذكره المخالفون والذين يقولون فيه: (كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية؟ .. أو ليس هذا يوجب أن توصف الأنبياء عليه السلام بأنهم عصاة في كل حال، وأنهم لا ينفكون من المعصية؛ لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب؟) (3)، بقوله: (وصف تارك الندب بأنه عاص توسع وتجوز، والمجاز لا يقاس عليه و لا يعدى به عن موضعه، ولو قيل: إنه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الأولى والأفضل، ولم يجز إطلاقه أيضا في الأنبياء عليهم السلام إلا مع التقييد؛ لأن استعماله قد كثر في القبائح، فإطلاقه بغير تقييد موهم، لكنا نقول: ان أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبائح،
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 95.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 95.
(3) نفائس التأويل، ج 3، ص: 95.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/557)
فلا يجوز ذلك، وإن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه استحقوا الثواب وكان أولى، فهم كذلك) (1)
قال آخر: ثم رد على استدلالهم بالتوبة والاجتباء، فقال: (التوبة قد تحسن أن تقع ممن لا يعهد من نفسه قبيحا على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه، ويكون وجه حسنها في هذا الموضع استحقاق الثواب بها أو كونها لفظا، كما يحسن أن تقع ممن يقطع على أنه غير مستحق للعقاب، وأن التوبة لا تؤثر في اسقاط شي ء يستحقه من العقاب، ولهذا جوزوا التوبة من الصغائر وإن لم تكن مؤثرة في إسقاط ذم ولا عقاب) (2)
قال آخر: والأمر لا يقتصر على من ذكرنا، بل إن الأمر تعداهم إلى من يستند إليهم شيوخنا الأفاضل أنفسهم، ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي، فقد ذكر الكثير من الحجج في الرد على المخطئة الذين يستدلون بما حصل من آدم عليه السلام على جواز المعاصي بل الكبائر على الأنبياء عليهم السلام.
قال آخر: وقد قال في مقدمة رده على المخطئة في هذا: (والذي ينبغي أن يعول عليه في قصة آدم عليه السلام، أن نهيه عن الشجرة كان نهي إرشاد وإعلام على جهة الوصية والنصيحة لا على جهة التكليف، فإنه ما صح تكليفه في الجنة، ولا نبوته، لا في كتاب ولا سنة، والأوامر والنواهي تنقسم إلى مشروع وغير مشروع، كالأوامر اللغوية، فإن السيد قد يقول لعبده، والأخ لأخيه، والصاحب لصاحبه على جهة الإعلام والإرشاد والنصيحة: افعل كذا، واترك كذا تسلم من كذا وتظفر بكذا، وكذلك أوامر الأطباء للعليل بالحمية والدواء والغذاء إلى غير ذلك) (3)
__________
(1) نفائس التأويل، ج 3، ص: 96.
(2) نفائس التأويل، ج 3، ص: 96.
(3) تنزيه الأنبياء، ص 81.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/558)
قال آخر: ثم طبق هذا المعنى على نهي الله تعالى لآدم عليه السلام، فقال: (فكان أمر الله تعالى لآدم عليه السلام بسكنى الجنان والأكل الرغد ونفوذ المشيئة من باب الإعلام والتأنيس بالبشارات بأنه لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى، وكان نهيه له على جهة الإرشاد المتقدم ذكره، أو التحذير مما تؤول إليه عقباه إن فعل ما نهي عن فعله في خروجه عن الجنة وشقائه في الدنيا، والإعلام بمكيدة الشيطان، والتحفظ منه، وكونه عدوا حاسدا له) (1)
قال آخر: ثم ذكر توافق هذا مع اللغة والعرف، فقال: (وهذا معلوم في اللسان، وما جرت به العادات، وقد أمر الله تعالى إبليس بقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64] فهذه أوامر على جهة الوعيد له والتهديد، كقوله تعالى للكفرة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وليست بتكليف، إذ لو كانت على جهة التكليف بفعلها لكان وقوعها منه طاعة، وهو عاص في هذه الأفعال إجماعا)) (2)
قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من أمر الله تعالى لموسى عليه السلام بأخذ الحية ونهيه عن الخوف منها حيث قال له: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} [طه: 21]، (والخوف أمر ضروري فلا يقع الأمر به جزما؛ فكان الأمر له على جهة التأنيس والإعلام بأنها لا تؤذيه إذا أخذها، وكان مكلفا إذ ذاك ولم يكن ذلك الأمر والنهي له مشروعين، وكذلك قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص: 32]، وقوله لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} [القصص: 7]) (3)
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 81.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 81.
(3) تنزيه الأنبياء، ص 82.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/559)
قال آخر: ثم استدل لهذا بما يراه الكثير من العلماء من أن (الآخرة ليست بدار تكليف وفيها أوامر ونواه مثل قوله تعالى للمؤمنين على جهة البشارة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70]، وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، وقوله للكافرين على جهة الإغلاظ والترويع: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29]، وقوله: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] على جهة التحقير والخزي والطرد، وقوله تعالى على جهة التصير لأصحاب السبت: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله تعالى على جهة التعجيز {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50]، إلى غير ذلك من أنواع الأوامر والنواهي .. وإذا كان هذا، فمن أين لقائل أن يقول: إن نهي آدم عليه السلام كان على جهة الحظر أو الكراهة؟) (1)
قال آخر: ثم رد على من احتجوا بما ورد في القرآن الكريم من أنه عصى وغوى وظلم نفسه بقوله: (إذا لم يثبت تكليفه في الجنة فتخرج هذه الألفاظ على مقتضى اللغة؛ فإن المعصية في اللسان عدم الامتثال: كانت مقصودة أو غير مقصودة، وظلم النفس: غبنها وبخسها في منافعها، لكونه وضع الفعل في غير موضعه، وكذلك غوى: أدخل على نفسه الضرر، يقال: غوى الفصيل: إذا رضع فوق حده من اللبن فبشم، فعلى هذه الوجوه تخرج هذه الألفاظ) (2)
قال آخر: ثم رد على استدلالهم بقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا} [البقرة: 36]، وقوله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] وغيرها، فقال: (تخرج هذه الألفاظ أيضا على جهة قصد الشيطان، والتعريض بالوسوسة إليه لا على قصد القبول من آدم عليه السلام لوسوسته وخدعه، فإن الشيطان قد يوسوس إلى الأنبياء ولكن لا يقبلون منه، كما
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 82.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 83.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/560)
قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36]، وقال له: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98]) (1)
قال آخر: ثم لخص النتيجة التي وصل إليها بعد هذه المقدمات، فقال: (وجملة الأمر أنه إذا لم يثبت تكليف لم يثبت إيجاب ولا حظر ولا طاعة ولا معصية يقع فيها ذم شرعي ولا مدح ولا ثواب ولا عقاب) (2)
قال آخر: ثم ذكر الفهم الصحيح للقصة على ضوء القول بعصمة الأنبياء عليهم السلام، فقال: (التخلص منها عند أهل الحق إن شاء الله: أن الله تعالى نهاه على جهة الإرشاد والإعلام والنصيحة لا على نهي التكليف ووسوس إليه الشيطان على جهة الإغواء والحسد والمكر فلم يقبل منه، ثم أنساه الله تعالى بعد ذلك إرشاده إياه ووصيته له، ووسوسة الشيطان إليه، فأكل منها غافلا عن الوصية والوسوسة .. وإذا كان ذلك لم يبل: هل كان عند ذلك نبيا أو لم يكن نبيا، فإن الناسي لا طلب عليه في الشرع ولا ذم، بالإجماع) (3)
قال آخر: ثم ذكر الأدلة على نسيانه، فقال: (والدليل على أنه نسي قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، يعني: عهدنا إليه في أمر الشجرة فنسي العهد، فأكل منها من غير عزم على أكلها، ولا متعمدا لاطراح الوصية والنهي، أو نسي المراقبة لتلك الوصية، ولم نجد له عزما على المراقبة، فألقي عليه النسيان بتركه المراقبة، فأكل منها، ولا يصح في حقه عليه السلام مع شهادة القرائن وعظم المكانة غير هذين الوجهين، مع أن العزم في اللسان هو: الإرادة التي يقع معها الفعل، وقد نهاه تعالى عنه، فلم
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 84.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 84.
(3) تنزيه الأنبياء، ص 85.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/561)
يبق إلا أنه أكل ناسيا من غير عزم) (1)
قال آخر: ثم ذكر اللوازم الناتجة عن القول بأنه قصد ذلك وتعمده، وبإصرار، فقال: (لو قصد آدم عليه السلام ارتكاب نهي الله تعالى، وترك نصيحته له مراعاة لمكيدة الشيطان ومكره به وقبوله منه فأكل منها متعمدا لصحة قول اللعين، تاركا لوصية الله ونهيه، متعمدا لتركهما لكان متهما لخبره تعالى مفندا لحكمه، مرتكبا لنهيه، وهذه كانت فعلة الشيطان عند امتناعه من السجود حذوك النعل بالنعل، وبها حكم بكفره .. فمن اعتقد هذا في حقه عليه السلام فقد رماه برجام الكفر، والابتراك في أوضار الجهل، ودحض المزلات فأما ما كان يبترك فيه من الجهالات: ففي تقليده عدوه الشيطان، وقبول قوله من غير دليل في أنها شجرة الخلد التي توجب الملك الدائم والحياة الدائمة، وهذا هو القول بالطبع فإنه لا يخلو أن تفعل الشجرة ذلك باختيارها أو توجبه بنفسه، ومحال أن تفعل باختيارها فإنها جماد، ولو قدرت حيا لم يصح فعلها في غيرها، فإن القدرة الحادثة لا تتعلق بما خرج عن محلها، فلم يبق إلا الطبع، والقول به كفر، فمن قال إنه أكلها قاصدا لما ذكرناه، ألزم اعتقاد وقوع هذه الجهالات كلها من آدم عليه السلام وهي لا تجوز عليه، فإنها تؤدي إلى الكفر الصراح) (2)
قال آخر: ثم رد على من يقول بجواز الكفر على الأنبياء عليهم السلام، فقال: (ومعلوم من دين الأمة أنه ما كفر نبي قط، ولا جهل الله تعالى، ولا سجد لوثن، ولا أخبر تعالى عن واحد منهم بالكفر، ولا بما دون الكفر من المعاصي قبل النبوة وبعدها، سوى قصة آدم عليه السلام، فمن قال بسوى هذا فعليه الدليل، ولا دليل) (3)
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 85.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 85.
(3) تنزيه الأنبياء، ص 86.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/562)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56، 57]، والرواية التي وردت في تفسيرها.
قال أحد التلاميذ: نحن لا نصدق الرواية، فابن عباس أشرف وأكرم من أن يرجع في تفسير القرآن الكريم إلى كعب الأحبار .. كيف، وهو القائل: (يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب!؟ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب؛ فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم!؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الوصف الوارد في الرواية لا يتناسب مع نبي كريم ارتقى في المقامات العالية من العرفان والتحقق، بالإضافة إلى ما كلف به من وظائف خطيرة، بل هو وصف لإنسان عادي بسيط، لا يستحق كل ذلك الثناء العظيم الذي وصفه به القرآن الكريم، والذي أُمرنا من خلاله بذكره.
قال آخر: بالإضافة إلى هذا، فإن الولاية التي تشكل الركن الأساسي في النبوة تقتضي تسليم الوجه لله، تسليما مطلقا ينتفي معه كل اختيار، وقد نقل ابن القيم ـ وهو من الشيوخ الذين يستند إليهم شيوخنا الأفاضل ـ هذا المعنى عن أولياء هذه الأمة، حيث نقل عن بعضهم قوله: (التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء .. وهو ترك الاختيار، والاسترسال مع مجاري الأقدار)، ونقل عن آخر قوله: (هو ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة. وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه) (2) .. فهل يمكن أن يكون هؤلاء الأولياء
__________
(1) البخاري 3: 237.
(2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 115)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/563)
الذين نقل ابن القيم كلامهم وأقرهم عليه أعرف بالله من أنبياء الله؟
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل من أدلة على حرص إبراهيم عليه السلام على الحياة، وتضحيته في سبيلها بكل شيء، حتى بأهله.
قال أحد التلاميذ: أما الرواية الأولى التي أوردوها، فهي لا تستحق منا أي رد؛ فديننا أعظم من أن نأخذه عن السدي وغيره من الذين تتملذوا على اليهود.
قال آخر: وأما الرواية الثانية، وما قاله شيوخهم فيها، فنحن نوافقهم في كون إبراهيم عليه السلام يستحيل أن يكذب، وما قاله من سقمه ونحو ذلك معاريض أراد منها أن يستدرج قومه لدعوتهم إلى الله كما استدرج الملك، وكما استدرج عبدة الكواكب .. وذلك كله لا حرج فيه، ولا يعتبر كذبا بحال من الأحوال.
قال آخر: لكن المشكلة فيما أطلقوا عليه الكذبة الأخيرة .. فتلك ليست كذبة فقط .. بل هي دياثة وجبن وتصرف لا يليق بنبي كريم .. بل لا يليق بإنسان عادي بسيط.
قال آخر: فهل يمكن أن يقبل أي رجل في الدنيا أن يترك امرأته عند الجبارين من دون أن يدافع عنها؟ ثم كيف تنظر المرأة بعد ذلك لزوجها الذي فرط فيها من أجل نفسه أحوج ما تكون إليه؟ .. ثم ما الذي جعل إبراهيم عليه السلام يذهب إلى ذلك المكان الذي يعلم أنه ستأخذ منه زوجته قهرا؟
قال آخر: ثم كيف نطبق هذه السنة الإبراهيمية في حياتنا لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع ملته، ونسير سيرته، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]، وقال: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/564)
مكلف باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] .. فكيف نحيي هذه السنة الإبراهيمية كما يذكر شيوخنا الأفاضل؟
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإنا لو رجعنا إلى القرآن الكريم، فإنا سنجد صورة مختلفة تماما عن إبراهيم الذين يذكرونه، ويروون عنه أمثال هذه الروايات المسيئة.
قال آخر: فالله تعالى يخبر أنه تعرض للتهديد الشديد من أقاربه وقومه، فواجههم جميعا، وبكل قوة قائلا: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 80، 81]
قال آخر: ولم يقف قومه عند تهديده، بل راحوا يجمعون الحطب الكثير، وراحوا يرمونه فيه، ولم يكن يبالي بكل الحطب الذي يجمع له، ولا بتلك النيران التي أوقدت من أجله، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 51 ـ 70]
قال آخر: ومع ذلك كله لم يتزحزح قيد أنملة، بل ظل ثابتا .. حتى وهو في النار لم يغب ربه عنه لحظة واحدة .. فقد كان مستغرقا فيما يستغرق فيه الأنبياء من توجه للملأ الأعلى.
قال آخر: ولذلك اعتبره الله تعالى نموذجا مثاليا للرجل الأمة، أو الرجل الذي يشكل بمفرده أمة كاملة من القيم، كما قال تعالى في وصفه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/565)
قال آخر: فهو أمة بروحانيته العميقة التي أهلته لأن يكون خليلا لله {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]
قال آخر: وهو أمة بقنوته وخشوعه وتوحيده الخالص لله، كما قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]
قال آخر: وهو أمة بوقوفة تلك المواقف النبيلة في الدعوة إلى الله مع كل من لقيه ابتداء من أقاربه وقومه، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]، وانتهاء بالملك المستبد الظالم، الذي ناظره بكل رباطة جأش، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]
قال القاضي: فما تقولون في هذا الحديث العظيم الذي ذكره شيوخنا، واعتبروا منكره مبتدعا ضالا مضلا.
قال أحد التلاميذ: نحن نرى أن هذا الحديث من جملة الأحاديث التي تسربت إلى هذه الأمة عند هجرها لكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك .. فإنا لو رجعنا إليهما لوجدنا أنها تعارض معارضة تامة ما ورد في الحديث.
قال آخر: أما معارضته للقرآن الكريم، فقد أخبرنا الله تعالى عن المقياس الذي نقيس به الأولياء والصالحين، فقال ـ مخاطبا اليهود ـ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/566)
خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] وقال: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]
قال آخر: وهذا اختبار موجه لعوام الناس من اليهود الذين تصوروا أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس، أو أنهم أولياء لله من دون الأمم، ولذلك طلب الله تعالى منهم تصديقا لدعواهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين حقيقة في إيمانهم .. لأن من يؤمن بأن له دار السعادة الأبدية، وأنه فيها في محل الرضوان الذي لا ينقطع، وأنه في هذه الحياة الدنيا كالأسير والمسجون مقارنة بسعة الدار الآخرة .. لا محالة يطلب الدار الآخرة، ويلتمس كل السبل الصالحة للرحيل إليها.
قال آخر: لكن الله تعالى الخبير بنفوس اليهود، وتعلقهم بالحياة، وحرصهم عليها، أخبر أنهم لن يتمنوا ذلك: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]
قال آخر: بل إن الله تعالى أعطى قاعدة يميز بها كل يهودي، بل كل مشرك، بل كل بعيد عن الدين الحق، وهي الحرص على الحياة، فقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]
قال آخر: ولهذا فإن القرآن الكريم يجعل من علامات المؤمنين العاديين تلك التضحيات العظمى في سبيل الله، وذلك الشوق العظيم للقاء الله، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 5، 6]
قال آخر: ولهذا، فإن المؤمن لا يخاف إلا الله، حتى لو اجتمع عليه العالمون، قال
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/567)
تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
قال آخر: وقد ذكر القرآن الكريم قصة السحرة الذين بمجرد إيمانهم بموسى عليه السلام تشكلت فيهم هذه القوة العظمى التي حررتهم تحريرا تاما من الخوف من الموت، إلى الدرجة التي صاحوا فيها في وجه فرعون قائلين: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 72 ـ 75]
قال آخر: وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ كما يصورهم القرآن الكريم ـ أول من اتصف بهذه الصفات، بل أول من أعطى المثل الأعلى فيها، لأن أرواحهم كانت معلقة بربهم، لا تهيم في غيره، ولا تطلب سواه، ولذلك كانت حركاتهم كلها لله ..
قال آخر: ولذلك لم يبالوا بكل أولئك المستكبرين الذين وقفوا في وجه دعوتهم، بل صرخوا فيهم كما صرخ إبراهيم عليه السلام بكل قوة: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 80، 81]
قال آخر: بل إن القرآن الكريم ذكر لنا مثالا عن تضحية الأنبياء، واستسلامهم لأمر الله في حياتهم ومماتهم، عندما ذكر لنا قصة إبراهيم عليه السلام، وإقدامه على ذبح ابنه إسماعيل لمجرد رؤيا رآها علم أنها وحي لله، ولم يكن موقف ابنه النبي بأقل من موقفه ..
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/568)
لأنه ـ ومباشرة بعد طرح الأمر عليه، ومن غير تردد ولا تفكير ـ طلب من أبيه أن ينفذ أمر الله، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 99 ـ 107] .. فهل يمكن لمن هذا حاله أن يكون فيه ذرة حرص على حياة، أو ذرة اعتراض على الله بسبب تقدير الموت عليه؟
قال آخر: وهكذا؛ فإن ذلك الحديث، وأمثاله من الأحاديث يتعارض مع ما ورد في الأحاديث التي يقر بها شيوخنا الأفاضل ومن يستندون إليهم.
قال آخر: ومن تلك الأحاديث التي تكفي وحدها للرد عليهم ما رواه الشيخان عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة، ثم يحيا أو يخير. فلما اشتكى وحضره القبض، ورأسه على فخذ عائشة، غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت: إذا لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا، وهو صحيح) (1)
قال آخر: وفي رواية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فعلمت أنه خير) (2)
__________
(1) البخاري 8/ 15 ومسلم (2444) أحمد (6/ 274)
(2) البخاري 8/ 15 ومسلم (2444) أحمد (6/ 274)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/569)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول حرص الأنبياء عليهم السلام على الحياة، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الأمر الثاني .. فحدثونا عن الثالث.
قال أحد الشيوخ: الأمر الرابع هو بيان عدم تعارض عصمة النبي مع أنواع البلاء التي تصيب سائر الناس، كالأمراض، وتسلط السحرة والشياطين عليه، وغير ذلك، بالإضافة إلى مفهوم البلاء نفسه، فهو عندنا لا يعدو أمورا محدودة بسيطة، بخلاف ما يدعيه الغلاة.
قال القاضي: فما الفرق بينكم وبين هؤلاء القبوريين المعطلة الغلاة في هذا؟
قال أحد الشيوخ: هذا من الفروق الكبرى بيننا وبين الغلاة هو في هذا الجانب؛ فهم يردون كل ما ورد في القرآن الكريم، أو الأحاديث الشريفة، أو الأخبار الواردة عن السلف الصالح .. والتي تدل على ذلك بقوة.
قال القاضي: فهلا ذكرتم لنا بعض ما يدل على ذلك، لنقطع ألسنة هؤلاء الغلاة.
قال أحد الشيوخ: سنذكر لكم سيدي القاضي، ولهؤلاء الغلاة .. أربعة أمثلة منها.
قال القاضي: فما أولها؟
قال أحد الشيوخ: هو ما ذكره علماؤنا في تفسير الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام، والواردة في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، فقد ذكر شيوخنا أمورا بسيطة يطيقها كل الناس، بخلاف ما يذكره الغلاة في تفسيرها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/570)
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روى شيوخنا عن ابن عباس في تفسيرها، أنه قال: (ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء) (1)
قال آخر: ورووا عن قتادة قال: (ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط) قال أبو هلال: ونسيت خصلة (2).
قال آخر: ورووا عن أبي الخلد قال: (ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة: الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج) (3)
قال آخر: بل ذكروا في الرواية التي يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختصار الكلمات في بعض الأذكار، فقد رووا عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] حتى يختم الآية) (4)
قال آخر: أو في بعض الركعات، كما رووا عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، قال، أتدرون ماوفى؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفى عمل يومه، أربع ركعات في النهار) (5)
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 9)، ورواه الحاكم 2: 266، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. ورواه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه.
(2) تفسير الطبري (2/ 9)
(3) تفسير الطبري (2/ 10)
(4) رواه أحمد في المسند: 15688 ج 3 ص 439.
(5) تفسير الطبري (2/ 16)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/571)
قال آخر: أما الإمامة التي يبالغ فيها الغلاة، ويعتبرونها مرتبطة بجميع مناحي الحياة، فقد اختصرها شيوخنا في الإمامة في الحج (1).
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الأول .. فحدثونا عن الثاني؟
قال أحد الشيوخ: الدليل الثاني هو ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث والأخبار التي فسرته عن البلاء العظيم الذي اختبر الله تعالى به أيوب عليه السلام، وهو ما ورد في قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]، وقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41، 44]
قال آخر: وبما أن هذه الآيات الكريمة لا توضح جيدا ما حصل لأيوب بدقة، فقد اهتم سلفنا الصالح بتوضيح ذلك، وتفسيره، حتى لا يبقى في ذهن متدبر القرآن الكريم أي إشكال نحوها.
قال آخر: وقد ذكر سلفنا الصالح السبب الذي من أجله عوقب أيوب عليه السلام بذلك البلاء، حتى يكون ذلك عبرة للمعتبرين، فقال وهب: (استعان رجل بأيوب على ظلم يدرؤه عنه فلم يعنه فابتلي) (2)
قال آخر: وروى حيان عن الكلبي: أن أيوب كان يغزو ملكا من الملوك كافرا وكانت
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 10)
(2) تفسير الثعلبي (22/ 559)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/572)
مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك فداهنه ولم يغزه فابتلي (1).
قال آخر: وقال آخر: (كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلي) (2)
قال آخر: ومن القصص التي فسروا بها تلك الآيات الكريمة ما رووه عن عبد الرحمن بن جبير، قال: (لما ابتلي نبي الله أيوب عليه السلام بماله وولده وجسده، وطرح في مزبلة، جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه، فحسده الشيطان على ذلك، وكان يأتي أصحاب الخبز والشوي الذين كانوا يتصدقون عليها، فيقول: اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم، فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها، فالناس يتقذرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك؛ وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لما لقي أيوب، فيقول: لج صاحبك، فأبى إلا ما أتى، فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فتجيء، فتخبر أيوب، فيقول لها: لقيك عدو الله فلقنك هذا الكلام، ويلك، إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته، وإن لم يأتها بشيء طردته، وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفر به، ونبدل فيره! إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنك مئة، قال: فلذلك قال الله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]) (3)
قال آخر: ومن الروايات التي رووها في هذا ما رووه عن الحسن، قال: (لقد مكث أيوب عليه السلام مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا، ما يسأل الله عز وجل أن يكشف ما به .. فما على وجه الأرض أكرم على الله من أيوب، فيزعمون أن بعض الناس، لو كان لرب هذا فيه حاجة ما صنع به هذا! فعند ذلك دعا) (4)
__________
(1) تفسير الثعلبي (22/ 559)
(2) المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 507.
(3) تفسير الطبري (21/ 212)
(4) تاريخ الطبري (1/ 322)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/573)
قال آخر: ومن الروايات في هذا ما رووه عن وهب بن منبه ـ مع إقرار شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه الرواية ـ أن أيوب لم يقل تلك الكلمة التي ذكرها القرآن الكريم عنه، وإنما قال بدلها: (رب لأي شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت، والعمل الذي عملت، فصرفت به وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي الكرام، فالموت كان أجمل بي ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما، إلهي أنا عبدك إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي، وجعلتني للبلاء عرضا وللفتنة نصبا وقد وقع علي بلاء لو سلطته على جبل لضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي وإن قضاءك هو الذي أذلني وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه فلا نظر إلي فيرحمني ولا دنا مني ولا أدناني فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي) (1)
قال آخر: وهكذا روى أن الله تعالى لم يجبه فقط بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، وإنما أجابه بنزوله على الغمام وخطابه له، قال وهب بن منبه: (فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا ثم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك، وقم مقام جبار يخاصم جبار إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا شبه لي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ما تبلغه بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها
__________
(1) تفسير البغوي (3/ 306)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/574)
وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا محفوظا في الهواء) (1)
قال آخر: وقد استدل شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه القصة على دنو الله من خلقه، فقال: (وقد جاء أيضاً من حديث وهب بن منبه وغيره من الاسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام .. ولفظه الذي ساقه البغوي أنه أظله غمام ثم نودى يا أيوب أنا الله، يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا) (2)
قال آخر: وهذا أكبر رد على المميعين الذين يتهمون شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بصورة الورع الذي ينفي الإسرائيليات، وكيف ينفيها، وهو يدعو إلى قراءة القرآن من خلالها؟
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد ورد في الحديث ما يبين حرص أيوب عليه السلام على الدنيا، وهو ما ينفي ما يذكره الغلاة في هذا الجانب، ففي حديث اجتمع على روايته البخاري ومسلم وغيرهما ـ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما أيوب عليه الصلاة والسلام يغتسل عريانا، خر عليه جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، قال: فناداه ربه عز وجل: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك؛ قال: بلى. يارب ولكن لا غنى بي عن بركاتك) (3)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثاني .. فحدثونا عن الثالث؟
قال أحد الشيوخ: الدليل الثالث هو ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث والأخبار
__________
(1) تفسير البغوي (3/ 303)
(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.
(3) أحمد 2/ 314 (8144) والبخاري 1/ 78 (278) النسائي 1/ 200
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/575)
التي فسرته عن قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ الواردة في قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 23 ـ 26]
قال آخر: فقد ذكر مفسرونا من الأحاديث والحكايات ما وضحها تماما، ومن خلالها نستطيع أن نستنبط الكثير من الأدلة على الفتنة التي وقع فيها سليمان عليه السلام، والتي جعلته يقع في الحرص على الدنيا كما وقع الملوك .. وطبعا في الحلال، لا في الحرام .. على عكس ما يذكره الغلاة الذين يتهمونه بالزهد ونحوه.
قال آخر: فقد ذكر شيوخنا أن هدف سليمان عليه السلام من دعوة ملكة سبأ، أن يتزوج بها، ويظهر لها سلطانه وسطوته، ويفتخر عليها بذلك .. وقد ذكروا أن اسمها بلقيس بنت شراحيل .. وقد ذكر الثقاة منهم أنه ولدها أربعون ملكا، آخرهم أبوها .. وكان أحد أبويها من الجن (1).
قال آخر: وقد اتفق شيوخنا على ذمهم لأهل اليمن بسبب توليتهم لامرأة، وقد رووا عن خالد بن صفوان أنه قال واصفا أهل اليمن: (هم من بين دابغ جلد، وسايس قرد، وحائك برد، ملكتهم امرأة، ودل عليم هدهد وغرقتهم فأرة) (2)
قال آخر: وقد ذكر شيوخنا الهدية التي أرسلتها، وأنها كانت مائة غلام، ومائة جارية .. وقيل أنها أرسلت إليه مائتي غلام ومائتي جارية، وكان بعضهم يشبه البعض في
__________
(1) تفسير السمعاني (4/ 89)
(2) تفسير السمعاني (4/ 90)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/576)
الصورة والصوت والهيئة، وقالت للرسول: قل له: ليميز بين الغلمان والجواري (1).
قال آخر (2): وقد استطاع سليمان عليه السلام أن يجد حلا لهذا اللغز المحير الذي أوقعته فيه ملكة سبأ، فقد أمرهم بالجلوس ودعا بالغلمان والجواري بأن يتوضئوا، فمن صب الماء على بطن ساعده قال: هي جارية، ومن صب الماء على ظهر ساعده قال: هو غلام.
قال آخر: وذكر بعض شيوخنا أنه جعل من بدأ بالمرفق في الغسل غلاما، ومن بدأ بالزند في الغسل جارية .. وذكر آخرون أنه جعل من أغرف الأناء غلاما، ومن صب على يده جارية (3).
قال آخر: أما قصة القصر الممرد من قوارير، فقد ذكروا أن سليمان عليه السلام جعل تحته تماثيل من الحيتان والضفادع، وكان الواحد إذا رآه ظنه ماء .. وقد أمر سليمان عليه السلام أن يوضع سريره في وسط الصرح، ثم دعا بلقيس إلى مجلسه، فلما وصلت إلى الصرح ونظرت ظنت أنه ماء، فكشفت عن ساقيها لتدخل في الماء، فصاح سليمان: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44]
قال آخر: أما سبب تكلفه لبنائه أو لصناعته، فقد ذكروا أنه قيل لسليمان عليه السلام أن على رجليها شعرا كثيرا .. أخبرته الجن بذلك .. فأراد أن يتأكد، فوجدوا الأمر كما ذكروا.
قال آخر: ولهذا ذكروا أن سليمان عليه السلام قال للشياطين: ما الذي يذهب الشعر؟ فاتخذوا النورة، وهو أول من اتخذ الحمام والنورة.
قال آخر: أما سبب استقدامها لقصره .. فهو واضح .. فقد أراد أن يتزوج بها، ولذلك قصد أن ينظر إلى ساقيها (4).
__________
(1) تفسير السمعاني (4/ 96)
(2) تفسير السمعاني (4/ 96)
(3) تفسير السمعاني (4/ 96)
(4) تفسير السمعاني (4/ 102)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/577)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الرابع .. فحدثونا عن الخامس؟
قال أحد الشيوخ: ما ورد في الأحاديث المفسرة للمعوذتين من تعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للسحر مدة من الزمن، وقد وردت في أمهات كتب الحديث المعتمدة كالبخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة والنسائي والبيهقي وغيرها، بل إنها موجودة حتى في مصادر الروافض المبتدعة (1).
قال آخر: ونص الحديث كما ـ في صحيح البخاري في كتاب الطب عن عائشة ـ قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل من بني زُريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخيلُ إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: (يا عائشة أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟)، قلت وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: (أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجعُ الرجل، فقال: مطبوب (أي مسحور)، قال: ومن طَّبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي قال: في أي شيء؟ قال: في مُشط ومُشاطَة [أي الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند ترجيلهما)، وجُفَّ طلعة ذكر [أي على الغشاء الذي يكون على الطلع]، قال: أين هو؟ قال: في بئر ذي أروان، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها، وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال: (والله لكأن ماءها نُقاعةُ الجفَّاء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين)، قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: (لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني،
__________
(1) ومنها: تفسير فرات الكوفي، ص 621، والتبيان، 1/ 435، وتفسير الصافي: 5/ 357، وهي بنفس الصيغ الواردة في الكتب السنية، وربما تكون مأخوذة منها، ولهذا نرى علماء الشيعة يتفقون على البراءة منها، وردها، واعتبارها من روايات غيرهم التي نقلت إليهم، كما عبر عن ذلك المجلسي بقوله: (لكن لما عرفت أن السحر يندفع بالعوذ والآيات والتوكل وهم عليهم السلام معادن جميع ذلك فتأثيره فيهم مستبعد والأخبار الواردة في ذلك أكثرها عامية أو ضعيفة ومعارضة بمثلها فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك) (بحار الأنوار (63/ 41)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/578)
وخشيت أن أثُوَر على الناس منه شراً)، وأُمر بها فدفنت البئر.
قال آخر: وفي رواية أخرى عن زيد بن أرقم قال: سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما فأتاه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستخرجها فحلها، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأنما أنشط من عقل، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط).
قال آخر: ولهذا اتفق علماؤنا على رمي كل من أنكر هذه الأحاديث بالضلال والبدعة، وقد نقل قال الحافظ ابن حجر عن المازري قوله: (أنكر المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم هناك، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء .. وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض الأمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين) (1)
قال آخر: ونقل عن المهلب قوله: (صون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، ففي الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر، ما ناله من ضرره لا يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا
__________
(1) فتح الباري: 10/ 226.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/579)
يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين) (1)
قال آخر: وقال ابن القيم في فصل بعنوان [هديه صلى الله عليه وآله وسلم في علاج السحر الذي سحرته اليهود به]: (قد أنكر هذا طائفة من الناس، وقالوا: لا يجوز هذا عليه، وظنوه نقصا وعيبا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جنس ما كان يعتريه من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: (سحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن، وذلك أشد ما يكون من السحر) قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته .. وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله؛ فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز أن يطرأ عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها، ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه كما كان) (2)
قال آخر: ولهذا اعتبر علماؤنا هذا الحديث من الأحاديث التي يُجرح على أساسها العدول، وقد جرح الشيخ مقبل الوادعي الشيخ محمد رشيد رضا مع كونه من أهل الحديث، بسبب إنكاره لهذا الحديث، بل ألف فيه رسالة سماها [ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر]، ومما جاء في مقدمتها قوله: (إن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الدعوة إلى الله بل ومن الجهاد في سبيل الله بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والذّب عنها، وكشف عوار أهل البدع والملحدين والتحذير منهم .. وجزى الله أهل السنة خيرًا فهم من زمن قديم يتصدون لأهل البدع، حتى فضّل بعضهم الرّدّ على أهل البدع على الجهاد في
__________
(1) فتح الباري: 10/ 227.
(2) زاد المعاد (4/ 124)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/580)
سبيل الله .. وفي هذا الزمن شاع وذاع أن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، من المجددين وأنّهم علماء الفكر الحر، فقام غير واحد من المعاصرين ببيان ضلالهم وأنّهم مجدّدون للضلال وترهات الإعتزال فعلمت حقيقتهم .. فصارت معرفة ضلالهم كلمة إجماع بين أهل السنة، لكن محمد رشيد رضا لم يوفّ حقه واغترّ بعض الناس ببعض كلماته في الردود على بعض أهل البدع، وما يدري أن عنده من البدع والضلال ما يقاربهم .. لذا رأيت أن أكتب هذه الرسالة الموسومة بـ[ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية]) (1)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت خضوع الأنبياء لغرائزهم وشهواتهم كسائر الناس .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل من الأحاديث والروايات في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]
قال أحد التلاميذ: نرى أن فيما اذكروه اختزالا خطيرا لكل تلك الجهود التي استحق بها إبراهيم عليه السلام ذلك الثناء العظيم من الله تعالى، كما شهد له بذلك قوله تعالى:
__________
(1) ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر، مقبل بن هادي الوادعي، دار الآثار، صنعاء، 1420، ص 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/581)
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]
قال آخر: ولذلك؛ فإن الابتلاء بالكلمات تعني كل أنواع البلاء التي تعرض لها ابتداء بالنفي، وانتهاء بمحاولة الحرق.
قال آخر: ولهذا؛ فإن تلك الروايات التي ذكرها شيوخنا الأفاضل، إما أن تكون مكذوبة ومدسوسة، وإما أن تكون قد رويت بالمعنى؛ وتصرف فيها الرواة.
قال آخر: وقد أشار إلى أحد هذين المعنيين الشيخ محمد عبده، في تعقيبه على ما ذكره المفسرون في تفسيرها، فقال: (إن هذا من الجراءة الغريبة على القرآن، ولا شك عندي في أن هذا مما أدخله اليهود على المسلمين ليتخذوا دينهم هزوا، وأي سخافة أشد من سخافة من يقول: إن الله تعالى ابتلى نبيا من أجلّ الأنبياء بمثل هذه الأمور، وأثنى عليه بإتمامها، وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماما للناس وأصلا لشجرة النبوة، وإن هذه الخصال لو كلف بها صبي مميز لسهل عليه إتمامها ولم يعد ذلك منه أمرا عظيما؟) (1)
قال آخر: وبعد أن اعترض عليه بعضهم في هذا قائلا: (إن تفسير الكلمات بخصال الفطرة مروي عن ترجمان القرآن ابن عباس فكيف تخالفه فيه؟) (2) .. وشدد النكير في ذلك وأطنب في مدح ابن عباس .. رد عليه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا بقوله: (إننا لم نر أحدا من المفسرين ولا من أئمة العلماء التزم موافقة ابن عباس في كل ما يروى عنه، وإن صح سنده عنده، فكيف إذا لم يصح؟ وقد قال الشيخ محمد عبده: إنه يجل ابن عباس عن هذه الرواية ولا يصدقها) (3)
قال آخر: وهكذا فسر الشيرازي تلك الكلمات بخلاف تلك التفاسير الهزيلة، فقال:
__________
(1) تفسير المنار (1/ 373)
(2) تفسير المنار (1/ 374)
(3) تفسير المنار (1/ 374)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/582)
(من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه السلام، وما أداه هذا النبي العظيم من أعمال جسيمة استحق ثناء الله، نفهم أن المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها الله على عاتق إبراهيم عليه السلام، فحملها وأحسن حملها، وأدى ما عليه خير أداء، وهي عبارة عن: أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه، إطاعة لأمر الله سبحانه .. وإسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان .. النهوض بوجه عبدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران .. وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل .. والهجرة من أرض عبدة الأصنام والابتعاد عن الوطن، والاتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته، وأمثالها) (1) .. ثم عقب على كل هذه الاختبارات بقوله: (كان كل واحد من هذه الإختبارات ثقيلا وصعبا حقا، لكنه بقوة إيمانه نجح فيها جميعا، وأثبت لياقته لمقام الإمامة) (2)
قال آخر: وهكذا ذكر فضل الله دور الابتلاء في تمحيص شخصية إبراهيم عليه السلام، وتحويلها إلى شخصية نموذجية صالحة للإمامة، فقال: (يدور الحديث هنا، عن بعض الجوانب الحية من شخصية إبراهيم عليه السلام في رسالته، حيث نلاحظ في هذه الشخصية التي يصورها القرآن طابعا مميزا فيما يتحدث الله عنه، في صفاته الذاتية من الملكات الروحية التي تزخر بها روحه وتتحرك بها حياته، وفي مواقفه الإيمانية الرسالية المتمثلة في هذا الاستسلام المطلق لله في أشد المواقف صعوبة وحراجة، سواء في ابتلاء الله في ذبح ولده أو في موقفه من أبيه ومجابهته لقومه ومواجهته لطاغية زمانه، من دون أن نلمح في أي موقف من هذه المواقف شعورا بالضعف أو الإحراج أو الصعوبة، بل هو الانسجام
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (1/ 367)
(2) الأمثل، الشيرازي: (1/ 367)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/583)
القوي مع المهمة والمسؤولية، والانطلاق معها في قوة وإخلاص، والانسياب الروحي في عمق الإيمان الكبير بالله الذي يتفايض بالحب والوداعة والحياة في كل كلمة وفي كل موقف، فلا نجد، حتى في أشد المواقف صعوبة وخطورة، أي ابتعاد عن جو الإيمان، أو أي غياب عن الله، بل هو الحضور الدائم الذي يشعر معه بوجود عين نفاذة في القلب والضمير واللسان والفكر والشعور والوجدان وهي تحدق بالله هنا وهناك، في كل مظهر من مظاهر الخلق وفي كل سر من أسرار الوجود .. وفي هذا الجو الرائع من ملامح شخصيته، يمكن للعاملين، في كل زمان ومكان، استيحاء هذا النموذج النبوي الرسالي في وداعة الروح الرسالية وصفائها، وفي استغراقها في الله في حضور روحي منفتح لا في غيبوبة صوفية غارقة في الضباب) (1)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]، وقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41، 44]، والأخبار التي فسرتها؟
قال أحد التلاميذ: أول ما نجيب به على تلك الروايات التي أساءات للقرآن الكريم، ولأيوب عليه السلام هو ما قاله الإمام الصادق: (إن الله ابتلى أيوب بلا ذنب فصبر حتى عير، وإن الأنبياء لا يصبرون على التعيير) (2)
__________
(1) من وحي القرآن، فضل الله: (3/ 7)
(2) بحار الأنوار: 12/ 347 نقلا عن أنوار التنزيل.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/584)
قال آخر: ومثله قال الإمام الباقر: (إن أيوب ابتلي من غير ذنب، وإن الأنبياء لا يذنبون، لأنهم معصومون، مطهرون، لا يذنبون ولا يزيغون، ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا)، وقال: (إن أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدود شيء من جسده، وهكذا يصنع الله عزوجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره، من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) وإنما ابتلاه الله عزوجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية، إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، ليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله تعالى ذكره على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه، ولا فقيرا لفقره، وليعلموا أنه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء، بأي سبب شاء، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشفاء لمن شاء وسعادة لمن شاء، وهو عزوجل في جميع ذلك عدل في قضائه، وحكيم في أفعاله، لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم، ولا قوة لهم إلا به) (1)
قال آخر: وقد أورد الشريف المرتضى الشبهة التي تعلق بها المخطئة حول أيوب عليه السلام، فقال: (فإن قيل: فما قولكم في الأمراض والمحن التي لحقت أيوب عليه السلام أوليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء على ذنب في قوله: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، والعذاب لا يكون إلا جزاء كالعقاب والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمى عذابا ولا عقابا، أوليس قد روى جميع المفسرين أن الله تعالى إنما عاقبه
__________
(1) الخصال: 2/ 400.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/585)
بذلك البلاء لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها؟) (1)
قال آخر: ثم أجاب على هذه الشبهة بقوله: (أما ظاهر القرآن فليس يدل على أن أيوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل، لأنه تعالى قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] والنصب هو التعب .. والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار، وأما العذاب فهو أيضا يجري مجرى المضار التي يختص إطلاق ذكرها بجهة دون جهة، ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم، وربما قيل معاقب على سبيل المجاز، وليست لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب، لأن لفظة العقاب يقتضي ظاهرها الجزاء لأنها من التعقيب والمعاقبة، ولفظة العذاب ليست كذلك، فأما إضافته ذلك إلى الشيطان، وإنما ابتلاه به فله وجه صحيح، لأنه لم يضف المرض والسقم إلى الشيطان، وإنما أضاف إليه ما كان يستضر به من وسوسته ويتعب، به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء، ودعائه له إلى التضجر والتبرم مما هو عليه، ولأنه كان أيضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما كان عليه من الأمراض) (2)
قال آخر: ثم ذكر تلك الصورة البشعة التي لفقها المخطئة عنه، فقال: (فأما ما روي في هذا الباب عن جملة جهلة المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله، لأن هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى وإلى رسله، عليهم السلام كل قبيح ومنكر، ويقذفونهم بكل عظيم، وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع الباطل مصنوع، لأنهم رووا أن الله تعالى سلط إبليس على مال أيوب عليه السلام وغنمه وأهله، فلما أهلكهم ودمر عليهم ورأى من صبره عليه السلام وتماسكه، قال إبليس لربه يا رب إن أيوب قد علم أنك
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 90.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 90.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/586)
ستخلف عليه ماله وولده فسلطني على جسده، فقال تعالى قد سلطتك على جسده كله إلا قلبه وبصره، قال فأتاه فنفخه من لدن قرنه على قدمه فصار قرحة واحدة، فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدواب على جسده، إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته، ومن لا يعلم أن الله تعالى لا يسلط إبليس على خلقه، وأن إبليس لا يقدر على أن يقرح الأجساد ولا يفعل الأمراض كيف يعتمد روايته؟) (1)
قال آخر: ثم فسر سبب البلاء بحسب ما يليق بحقهم من العصمة، فقال: (فأما هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال وقد سئل أي الناس أشد بلاء فقال: (الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس)، فنظهر من صبره عليه السلام على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا، حتى روي أنه كان في خلال ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة، وأنه ما سمعت له شكوى ولا تفوه بتضجر ولا تبرم، فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84] وفي سورة ص {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]، ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية، بأن أركض برجلك الأرض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء، قال الله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]) (2)
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 90.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 90.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/587)
قال آخر: ثم رد على سلف شيوخنا الأفاضل في ادعائهم لتلك الأمراض المنفرة التي أصابت عليه السلام، والتي جعلت محل استقذار من قومه، فقال: (فإن قيل، أفتصححون ما روي أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟ قلنا: إن العمل المستقذرة التي ينفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الأنبياء عليهم السلام .. لأن النفور ليس بواقف على الأمور القبيحة، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا، وليس ينكر أن يكون أمراض أيوب عليه السلام وأوجاعه، ومحنته في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والألم على ما ينال المجذوم، وليس ننكر تزايد الألم فيه عليه السلام، وإنما ننكر ما اقتضى التنفير) (1)
قال آخر: وهذا هو الفهم السليم للنبوة والأنبياء .. لأن الأنبياء كلفوا بأدوارهم التربوية والدعوية مع أقوامهم ولهذا يستحيل عليهم أي آفة أو مرض أو علة تجعل الناس ينفرون منهم.
قال القاضي: فما تقولون في الروايات والأحاديث التي رواها شيوخنا الأفاضل؟
قال أحد التلاميذ: أما الرواية الأولى التي أوردوها؛ فإن خطورتها ليست في صورة البلاء الذي صورت لأيوب عليه السلام فقط، بحيث طرح في المزابل لأجل المرض الذي حل به، وإنما خطورتها في تلك الرعونة والقسوة التي صوروا بها أيوب عليه السلام، وهو يخاطب زوجته التي نصحته أن يدعو الله، فأجابها بذلك الفحش الذي ننزه أنبياء الله عنه.
قال آخر: أما الرواية الثانية، فخطورتها في تصويرهم لأيوب عليه السلام، وكرامته على الله بسبب عدم دعائه، وهذا يتناقض مع ما ذكر في القرآن الكريم من كثرة دعوات الأنبياء لله تعالى .. بل إن الله تعالى ذكر قصة أيوب في سورة الأنبياء من هذا الباب باب
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 90.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/588)
الدعاء والتضرع إلى الله .. ولم يحدد القرآن أي زمن لذلك .. ومن المجازفة تحديد الزمن.
قال آخر: ثم ما هو الدرس التربوي الذي يريدون من خلال حكاية قول الحسن أن يوجهوه للأمة هل هو ترك دعاء الله حتي ينالوا المكانة من الله؟ .. وهل هذا يتناسب مع ما ورد في النصوص المقدسة من حب الله لدعاء عباده وتضرعهم له؟
قال آخر: وأما الرواية الثالثة؛ فخطورة تلك الكلمات التي رووها على لسانه ليس في مخالفتها للقرآن الكريم فقط، وإنما لتصويرها أن أيوب عليه السلام يتعامل مع ربه بتلك الشدة، بل يتهم رحمته، ويطلب منه أن يدنو منه حتى يخاصم عن نفسه؟
قال آخر: أما الرواية الأخيرة .. فلسنا ندري ما جدوى أن يصور النبي عريانا، ثم يصور حرصه على الذهب، وكلاهما تصويران يحرص اليهود على وصف الأنبياء بهما .. والمشكلة في الحديث فوق هذا أن أيوب عليه السلام، وبعد أن سقط عليه جراد الذهب وهو عريان أخذ يحثي بثوبه؟
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل في تفسير قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام؟
قال أحد التلاميذ: عندما نرجع إلى القرآن الكريم بعيدا عن تلك الروايات التي ذكروها، نجد أن الهدهد لم يذكر جمال الملكة، ولا أصلها ولا فصلها كما ذكرت الروايات، وإنما اهتم لدينها ونوع الإله الذي تعبده، وقد استنكر ـ وهو هدهد ـ ذلك أيما استنكار، فلذلك راح يشكوهم لسليمان عليه السلام.
قال آخر: وبما أن وظيفة سليمان عليه السلام هي الدعوة إلى الله، فقد أرسل إليهم يدعوهم إلى الحضور عنده، ليبلغهم دعوة ربه، كما قال تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/589)
كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 27 ـ 32]
قال آخر: وكان لذكاء ملكة سبأ دوره في ذهابها إلى سليمان عليه السلام .. وكان سليمان عليه السلام يعرف المدخل الذي يدخل به إليها وإلى قومها؛ فقد رأى حبهم للترف .. بدليل أنه كان لها عرش عظيم .. فلذلك راح يبين لهم أنهم بإسلامهم وجوهَهم لله لن يفقدوا ذلك النعيم الذي كانوا يعيشونه.
قال آخر: ولذلك، فإن ذكر الله تعالى ما أظهر لسليمان عليه السلام لملكة سبأ من مظاهر الملك الذي أعطاه الله له لم يكن غرضه منه الفخر عليها، وإنما كان غرضه تعريفها بالله، لأنها انشغلت بالعرش العظيم الذي كان لها عن الله، فلذلك كان أول ما لاقاها به سليمان عليه السلام هو عرشها الذي حجبها عن الله، وعن التسليم له، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]
قال آخر: فلما قالت ذلك، وفي غمرة انبهارها بما رأت أخبرها سليمان عليه السلام بأنه مع هذا الملك كان مسلما لله، فلم يحجب به عن الله، فقال تعالى على لسانه: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42]
قال آخر: فلما رأى سليمان عليه السلام حاجتها إلى المزيد من الأدلة، أحضرها إلى الصرح الممرد من القوارير، وقد كان من الجمال بحيث لا يساوي عرشها الذي شغلها عن الله شيئا بجانبه، وحينذاك لم تملك إلا أن تسلم لله، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/590)
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حين ذكر ذكاء ملكة سبأ الذي استطاعت به أن تميز به الملوك من المؤمنين، فقد أرسلت بهدية قيمة لسليمان عليه السلام لتختبر موقفه من المال، قال تعالى على لسانها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]
قال آخر: لكن سليمان عليه السلام نظر إلى ما أعطاه الله من الإيمان والفضل فوجده أعظم بكثير من أن ينحجب بهديتهم، فقال: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]
قال آخر: ولعله لأجل هذا ورد في القرآن الكريم ذلك الطلب الغريب من سليمان عليه السلام والذي أساء سلف شيوخنا الأفاضل فهمه، وشوهوه بسببه أيما تشويه، وهو طلبه من ربه سبحانه وتعالى أن يعطيه ملكا لم يعطه أحدا من عباده، كما نص على ذلك قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]
قال آخر: مع أن سليمان عليه السلام ـ بحسب ما يدل عليه النص القرآني ـ ما طلب ذلك الملك، وبتلك الصورة التي لا ينازعه فيها أحد إلا ليكون حجة على من شغله ملكه عن الله، وكأن سليمان عليه السلام يقول لربه: (يارب هب لي من الملك ما تشاء .. بل هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يحصل عليه .. فإن هذا الملك مهما كان عظيما .. وذلك الفضل مهما كان وفيرا لن يحجباني عنك، ولن يبعدا قلبي عن الرغبة فيك .. فإني لا أرى الأشياء مهما كثرت إلا منك .. ولا أرى نفسي إلا بك .. فكيف أحجب بهداياك الواصلة إلي .. أم كيف أنشغل بفضلك عنك؟)
قال آخر: وقد أشار الشريف المرتضى في رده على المخطئة ما وصموا به نبي الله
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/591)
سليمان عليه السلام في هذا الجانب إلى قريب من هذا المعنى، فقال: (قد ثبت أن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون إلا ما يؤذن لهم في مسألته، لا سيما إذا كانت المسألة ظاهرة يعرفها قومهم، وجائز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان عليه السلام أنه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين والاستكثار من الطاعات، وأعلمه أن غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه من حيث لا صلاح له فيه .. ولو أن أحدنا صرح في دعائه بهذا الشرط حتى يقول اللهم اجعلني أيسر أهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه غيري إذا علمت أن ذلك أصلح لي وأنه أدعى إلى ما تريده مني، لكان هذا الدعاء منه حسنا جميلا وهو غير منسوب به إلى بخل ولا شح .. وليس يمتنع أن يسأل النبي هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن شرط ذلك بحضرة قومه، بعد أن يكون هذا الشرط مرادا فيها، وإن لم يكن منطوقا به) (1)
قال آخر: ثم ذكر وجها آخر أكثر دلالة، فقال: (ووجه آخر: وهو أن يكون عليه السلام إنما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا، وقوله {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممن أتى مبعوث إليه، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين عليه السلام .. ونظير ذلك أنك تقول للرجل أنا أطيعك ثم لا أطيع أحدا بعدك، تريد ولا أطيع أحدا سواك .. ولا تريد بلفظة بعد المستقبل، وهذا وجه قريب) (2)
قال آخر: ثم ذكر وجها ثالثا محتملا، فقال: (وقد ذكر أيضا في هذه الآية ومما لا يذكر فيها مما يحتمله الكلام أن يكون عليه السلام إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة التي لا يناله المستحق إلا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة، فمعنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يستحقه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به لانقطاع
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 140.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 140.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/592)
التكليف) (1)
قال آخر: ثم ذكر الأدلة على هذا الاحتمال، فقال: (ويقوي هذا الجواب قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [ص: 35] وهو من أحكام الآخرة .. وليس لأحد أن يقول إن ظاهر الكلام بخلاف ما تأولتم، لأن لفظة بعدي لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب .. وذلك أن الظاهر غير مانع من التأويل الذي ذكرناه، ولا مناف له، لأنه لا بد من أن تعلق لفظة بعدي بشئ من أحواله المتعلقة به، وإذا علقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفائدة ومطابقة الكلام كغيره مما يذكر في هذا الباب، ألا ترى أنا إذا حملنا لفظة بعدي على نبوتي أو بعد مسألتي أو ملكي، كان ذلك كله في حصول الفائدة به، يجري مجرى أن تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك، فإن ذلك مما يقال فيه أيضا بعدي، ألا ترى أن القائل يقول دخلت الدار بعدي ووصلت إلى كذا وكذا بعدي، وإنما يريد بعد دخولي وبعد وصولي وهذا واضح بحمد الله) (2)
قال آخر: وقريب من هذا الجواب ما ذكره الشيرازي في تفسيره لطلب سليمان عليه السلام الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، حيث قال: (ذكر المفسرون أجوبة كثيرة على هذا السؤال، الكثير منها لا يتطابق مع ظاهر الآيات، والجواب الذي يبدو أكثر تناسبا ومنطقية من بقية التفاسير هو أن سليمان طلب من الباري عزوجل أن يهب له ملكا مع معجزات خاصة، كي يتميز ملكه عن بقية الممالك، لأننا نعرف أن لكل نبي معجزة خاصة به، فموسى عليه السلام معجزته العصا واليد البيضاء، ومعجزة إبراهيم عليه السلام عدم إحراق النار له بعد أن القي فيها، ومعجزة صالح عليه السلام الناقة الخاصة به، ومعجزة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن المجيد، وسليمان كان ملكه مقترنا بالمعجزات الإلهية،
__________
(1) تنزيه الأنبياء، ص 141.
(2) تنزيه الأنبياء، ص 141.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/593)
كتسخير الرياح والشياطين له مع مميزات أخرى) (1)
قال آخر (2): ثم ذكر أن هذا الأمر لا يعد عيبا أو نقصا بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيدهم بمعجزة خاصة، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوتهم، ولهذا فلا يوجد أي مانع في أن يطلب الآخرون ملكا أوسع وأكبر من ملك سليمان، ولكن لا تتوفر فيه الخصائص التي أعطيت لسليمان عليه السلام.
قال آخر (3): والدليل على هذا الكلام الآيات التالية لتلك الآية، وهي قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 36 - 39]، والتي هي ـ في الحقيقة ـ تعكس إستجابة الباريء عزوجل لطلب سليمان، وتتحدث عن تسخير الرياح والشياطين لسليمان، وكما هو معروف فإن هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان.
قال آخر: ويدل لهذا كله ما روي أن بعضهم سأل الإمام الكاظم قائلا: أيجوز أن يكون نبي الله عزوجل بخيلا؟ فقال: (لا)، فقال: فقول سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ما وجهه ومعناه؟ فقال: (الملك ملكان: ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، وملك مأخوذ من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين، فقال سليمان عليه السلام: هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس، فسخر الله عزوجل له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وجعل غدوها شهرا ورواحها شهرا، وسخر الله عزوجل له الشياطين كل بناء وغواص، وعلم منطق الطير ومكن في الأرض، فعلم الناس
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (14/ 507)
(2) الأمثل، الشيرازي: (14/ 508)
(3) الأمثل، الشيرازي: (14/ 508)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/594)
في وقته وبعده أن ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور)، فقيل له: فقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله؟)، فقال: (لقوله صلى الله عليه وآله وسلم وجهان: أحدهما: ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه، والوجه الآخر يقول: ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهال) (1)
قال القاضي: فما تقولون فيما أورده شيوخنا من الأحاديث عما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السحر، فهل تقبلون بها، أم تضعون أنفسكم في زمر المبتدعة الذين أنكروها.
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نقبل بما يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم، وما دل عليه العقل والواقع، من أنه لا سلطان للسحرة على الأنبياء، وأن دعوى كون الأنبياء سحرة، أو وقوعهم تحت تأثير السحر دعاوى أقوامهم المناوئين لهم.
قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى سنة أقوام الأنبياء في ذلك، فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]
قال آخر: وضرب المثل على ذلك بموسى عليه السلام، فقال: {لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101]، وقال: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109]
قال آخر: وأخبر عن رد موسى عليه السلام لتلك الدعاوى، فقال: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس: 77]
قال آخر: وهكذا أخبر عن موقف قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه ومن الهدي الذي جاء به،
__________
(1) علل الشرائع، نقلا عن تفسير نور الثقلين، 4/ 459.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/595)
فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 30]، وقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 7]، وقال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2]، وقال: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، وقال: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8]، وقال: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]، وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]
قال آخر: وغيرها من الآيات الكريمة، والتي كان الأصل أن تكون كافية في رد كل حديث مهما كان راويه أو مخرجه يتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه التهمة الخطيرة التي لا تمس شخصه وكماله وعناية الله تعالى الخاصة به فقط، وإنما تمس الوحي والبلاغ والبيان والوظائف العظيمة التي كُلف بها.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإننا لو تأملنا فيما ذكروه من الأحاديث، ونبدأ بالحالة نفسها، والتي صور بها الحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وأنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله .. فهي حالة خطيرة جدا بالنسبة لإنسان عادي، فكيف بنبي، فكيف بخاتم الأنبياء وسيدهم؟
قال آخر: لأن ذلك الشيء الذي يخيل إليه أنه فعله وهو لم يفعله قد يرتبط بتبليغ الدين، وليس في الحديث ما ينفي ذلك، وبذلك يكون جزء مهم من الدين لم يصل إلينا بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ تعالى عن ذلك علوا عظيما ـ كان قد توهم أنه بلَّغه مع أنه لم يبلغه ..
قال آخر: أما المجادل في ذلك، فهو لم يعلم أن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها دعوة وبلاغ
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/596)
عن الله، كما قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2 - 4]
قال آخر: ويدل لذلك الأحاديث الكثيرة التي تؤكد ذلك، والتي يقبلها شيوخنا الأفاضل أنفسهم، بل يستدلون بها على حجية السنة، ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهتني قريشٌ وقالوا: تكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقا) (1)
قال آخر: ولذلك؛ فإن هؤلاء الذين دافعوا عن تلك الأحاديث المكذوبة يتهمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتهم خطيرة، يكفي تخيلها لنفور النفس منها .. ذلك أنها تشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الذي أصيب بالهلوسة، فصار يتخيل ما لا يكون، ويفعل ما لا يعقل.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد غاب عن هؤلاء ما آتاه الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من القدرات الإدراكية مما ينقضي دونه العجب، ذلك أنهم يذكرون أنه لم يعلم بالسحر طول تلك المدة، حتى جاءه ملكان، وأخبراه بعد أن تنصت صلى الله عليه وآله وسلم لقولهما ..
قال آخر: ولسنا ندري ماذا يفعلون بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 3 - 5]، وغيرها من الآيات الكريمة التي وعد الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بألا يتخلى عنه، وأن يعطيه كل ما يرضى، وأن يبعد عنه كل ما يؤذيه.
قال آخر: ولسنا ندري كيف غاب عنهم تلك الآيات الكريمة التي تذكر ما آتى الله
__________
(1) رواه أبو داود (3646)، وقال العراقي في تخريج الإحياء (2379): رواه الحاكم وصححه.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/597)
أنبياءه عليهم الصلاة والسلام من معرفة المغيبات، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]، وقال على لسان المسيح عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49]
قال آخر: وهكذا ورد في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تنبئ عن قدرات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخارقة في هذا المجال، وهي دليل على كمالاته الكثيرة، والتي هي نبع من فيض إيمانه وتقواه، والتي لأجلها حصلت له تلك العصمة والحفظ الإلهي من أن يتسلط عليه أي متسلط من الإنس أو الجن (1).
قال آخر: وهذا ما يوقع المدافعون عن تلك الروايات في حرج عظيم .. فكيف يخبر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن كل تلك الحوادث، ويخبره مباشرة عما يكاد له، من غير حاجة إلى ملاك أو غيره .. إلا في حديث السحر .. فهل كان للسحرة من الكيد والقدرة على التخفي ما لم يستطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلع عليه؟
قال آخر: ولهذا نجد المحققين من العلماء يردون تلك الأحاديث وأمثالها مما يشوه النبوة، ويرفع الثقة عنها، ومنهم المفسر الكبير الفخر الرازي الذي قال في تفسيره [مفاتيح الغيب] عند تفسير المعوذات في ذكر سبب نزولها وحديث سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قال القاضي هذه رواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة؛ ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل، ولكان الكفار
__________
(1) سنذكر نماذج عنها لاحقا.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/598)
يعيرونه بأنه مسحور. فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة، ولحصل فيه - عليه السلام - ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز) (1)
قال آخر: وقال أبو بكر الجصاص في كتابه [أحكام القرآن]: (زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُحر، وأن السحر عمل فيه حتى أنه يتخيل أنه يفعل الشيء ولم يفعله .. وقد قال الله تعالى مكذباً للكفار فيما أدعوه من ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] .. ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعباً بالحشوا الطغام واستجرار لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها) (2)
قال آخر: وقال جمال الدين القاسمي: (ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرجا في الصحاح؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد، سندا أو معنى، كما يعرفوه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة) (3)
قال آخر: وقال محمد عبده في تفسيره لسورة الفلق: (وقد رووا هنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأثر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله أو يأتي شيئا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي صلى الله عليه وآله وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة، ولا يخفى أن ثأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل شيئا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8]، وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله، وخيل له أن شيئا يقع
__________
(1) تفسير الرازي مفاتيح الغيب ج 32 ص 172.
(2) أحكام القرآن: (1: 49)
(3) محاسن التأويل (9/ 577)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/599)
وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه) (1)
قال آخر: ثم رد على من يتهم منكر ذلك بالبدعة، فقال: (وقد كان كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة وما يجب لها أن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر .. فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح في نظر المقلد بدعة، نعوذ بالله، يحتج على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم) (2)
قال آخر: وقال معتذرا عن عدم قبول الحديث بسبب كونه من الآحاد التي لا يؤخذ بها في العقائد: (نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته، والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين الذى حكاه القرآن عنهم، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8]، وإن صدقنا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قد سحر، فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابه الحكيم: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] .. وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى صلى الله عليه وآله وسلم من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد،
__________
(1) مجلة المنار (33/ 33)
(2) مجلة المنار (33/ 33)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/600)
لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال، فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئا، وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان) (1)
__________
(1) تفسير جزء عم، ص 180.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/601)
رابعا ـ المؤولون .. وحقائق العلم
في اليوم الرابع من المحاكمة، اقتادونا مثل الأيام السابقة بعد تأديتنا لصلاة الفجر إلى القفص الذي تعودنا المكوث فيه طويلا، وبقسوة وشدة تفوق ما رأيناه منهم في اليوم الثالث، وكأنهم ينتقمون من دفاع تلاميذ الراسخ عن أنفسهم، وبتلك الحجج الدامغة.
وبعد انتظار طويل إلى وقت الضحى، من دون أن نذوق لقمة طعام، أو نشرب جرعة ماء .. جاء القاضي ومعه الشيوخ، ومن غير أن يلقوا إلينا التحية، بل اكتفوا بأن ينظروا إلينا نظرة قاسية شديدة، ثم يصعروا خدودهم بكل استعلاء وتكبر، كما تعودنا ذلك منهم.
وبعدها جلس القاضي، ومثله الشيوخ على كراسيهم الفاخرة، وكان بين أيديهم التمر واللبن والماء .. وكانوا يضحكون، وكأنهم في وليمة، لا في محكمة شكلية عقدوها لتبرير حكم الإعدام علينا، وأمام الملأ.
بعد حديث طويل بينهم، تخلله ضحكات عالية، قال القاضي: نعلن اليوم بدء الجلسة الرابعة لمحاكمة هؤلاء المرتدين الضالين المبتدعين المشركين الغلاة .. وسأترك شيوخنا الأفاضل، ليذكروا لكم موضوع المحاكمة بدقة؛ فهم أكثر خبرة وعلما.
قال كبير الشيوخ: هذه الجلسة مخصصة لما ورد من تصريحات هؤلاء الغلاة المعطلة القبوريين بما يرتبط بإنكارهم لبعض الحقائق القرآنية المرتبطة بالكون نتيجة تأثرهم بعلوم الكفرة الذين لا يوثق فيهم، ولا في الأراجيف التي يطلقونها كل حين باسم العلم والبحث.
قال آخر: وموقفهم هذا كان سببا في إعراضهم عن آيات كثيرة من القرآن الكريم، فهموها بغير فهم السلف الصالح .. بل وصلت بهم الجرأة إلى الإعراض عن كثير من
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/602)
الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عن صحابته الذين أمرنا بالاقتداء بهم .. فهم جميعا كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا.
قال آخر: وقد رأينا أن نتناول في هذه الجلسة ثلاثة أمور كبرى، يخالف فيها العلم الحديث القرآن الكريم، ولذلك كان الاختبار الحقيقي للمؤمن هو وقوفه مع القرآن الكريم لا مع العلم الذي هو الحقيقة تلبيسات شيطانية.
قال آخر: لكن هؤلاء الغلاة المعطلة المبتدعة، راحوا يختارون العلم، بل راحوا يطرحون ما ورد عن السلف الصالح في تفسير القرآن الكريم ليأخذوا بآراء الكفرة الضالين.
قال آخر: أما الأمر الأول؛ فهو الموقف من العلم نفسه .. فنحن نرى أن هذا العلم نشأ في أوساط جاهلية وثنية، ولذلك لا يمكن الثقة فيه، وخاصة إذا خالف القرآن الكريم أو خالف ما ذكره سلفنا الصالح؛ فهم أوثق عندنا من كل شيء.
قال آخر: أما الأمر الثاني؛ فهو الخلاف الكبير بيننا وبينهم في بعض القضايا التي ذكرها العلم الحديث، وخالف فيها القرآن الكريم مخالفة صريحة، حيث انحزنا نحن إلى جانب القرآن الكريم، وانحاز هؤلاء الجهلة المعطلة إلى ما يعتبرونه علما، وهو الجهل بعينه.
قال آخر: أما الأمر الثالث؛ فهو الخلاف الكبير بيننا وبينهم في أخطر القضايا التي ذكرها العلم الحديث، وهي قولهم بدوران الأرض حول الشمس، وهي لا تعارض القرآن الكريم فقط، بل تعارض أهم عقيدة في الإسلام، وهي علو الله، بالإضافة إلى مخالفتها لكل ما ذكره سلفنا الصالح من حقائق كونية.
قال القاضي: وعينا هذا .. فحدثونا عن الأمر الأول؟
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/603)
قال أحد الشيوخ: الأمر الأول هو الموقف من العلم نفسه .. فنحن نتعامل معه بالشك وعدم الثقة، لكونه نشأ في بلاد الكفرة، وعلى أيدي ملاحدة ووثنيين، بخلاف هؤلاء الجهلة الذين سلموا أنفسهم له، كما فعل أسلافهم من المبتدعة.
قال القاضي: فهلا ذكرتم لنا بعض ما يدل على ذلك، لنقطع ألسنتهم.
قال أحد الشيوخ: أدلتنا كثيرة جدا .. لكنا سنكتفي في هذا المجلس، ومن باب الاختصار بأربعة منها.
قال القاضي: فحدثونا عن الدليل الأول.
قال أحد الشيوخ: الدليل الأول، هو أننا عندما نبحث في كل تلك العلوم التي يريد هؤلاء الجهلة ربطها بالقرآن الكريم، نجدها علوم كفرة .. وهل يمكن لعاقل أن يترك فهم سلفه الصالح، ليتشبث بفهوم الكفرة؟
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أننا عندما نبحث في أول من قال بأن الشمس هي المركز الثابت الذي تدور عليه السيارات من الكواكب، وأن الأرض من جملة الكواكب السيارة التي تدور على الشمس، فسنجد أنهم من الكفرة.
قال آخر: وقد بحث بعض شيوخنا في ذلك بحثا طويلا، اكتشف فيه أن (أول من قال ذلك هو فيثاغورس الفيلسوف اليوناني وكان زمانه قبل زمان المسيح بنحو من خمسمائة سنة، وقيل ستمائة، وذهب كبير الفلاسفة ومقدمهم بطليموس ـ وكان زمانه قبل المسيح بنحو مائة وخمسين سنة ـ إلى أن الأرض هي المركز الثابت وإن الشمس والقمر وسائر الكواكب تدور على الأرض، وأهل الهيئة القديمة يقولون بهذا القول وهو الحق الذي تدل
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/604)
عليه الآيات والأحاديث الصحيحة وأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم) (1)
قال آخر (2): وأما قول فيثاغورس فكان مهجورا نحو من ألف وثمانمائة سنة حتى ظهر الفلكي البولوني (كوبرنيك) في القرن العاشر من الهجرة فقرر رأي فيثاغورس وأيده بالأدلة الرياضية، ولما كان في أثناء القرن الثاني عشر من الهجرة ظهر هرشل الإنكليزي وأتباعه من فلاسفة الإفرنج أصحاب الرصد والزيج الجديد فنصروا قول فيثاغورس وردوا ما خالفه وشاع قولهم منذ زمانهم إلى زماننا هذا.
قال آخر (3): وقد تلقاه كثير من المسلمين بالقبول تقليدا لأعداء الله تعالى، وذلك بسبب سيطرة الإنجليز وبعض الدول الأوربية على كثير من بلاد الإسلام في آخر القرن الثالث عشر من الهجرة وأكثر القرن الرابع عشر، فامتزج أهل تلك البلاد بأعداء الله تعالى امتزاجا تاما، وظهر النشء منهم متثقفين بالثقافة الإفرنجية يحذون حذو أعداء الله تعالى في هيئاتهم وأنظمتهم وقوانينهم ويسارعون إلى قبول آرائهم وظنونهم وتخرصاتهم، ويتمسكون بها أعظم مما يتمسكون بنصوص الكتاب والسنة، وكثير منهم كانوا يسافرون إلى الجامعات الأوربية ويتروون من تعاليمها الآجنة المسمومة عللا بعد نهل حتى فشت فيهم الزندقة والإلحاد والاستخفاف بشأن القرآن العظيم فكان كثير منهم يحملونه على ما يوافق آراء الإفرنج وأقوالهم الباطلة كما هو موجود في كثير من مصنفاتهم فأدخلوا بذلك على المسلمين شرا كثيرا.
قال آخر: وقد قال محمود شكري الألوسي في مقدمة كتابه الذي سماه [ما دل عليه القرآن
__________
(1) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 4.
(2) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 5.
(3) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 5.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/605)
مما يعضد الهيئة الجديدة] يذكر ذلك: (قد شاع في عصرنا قول فيثاغورس الفيلسوف الشهير في هيئة الأفلاك ونصره الفلاسفة المتأخرون بعد أن كان عاطلا مهجورا وهو القول بحركة الأرض اليومية والسنوية على الشمس وأنها هي مركز نظامها وأن الأرض إحدى الكواكب السيارة وأنها سابحة في الجو معلقة بسلاسل الجاذبية وقائمة بها كسائر الكواكب، لا أنها كما ذهب إليه بطليموس في الأفلاك كالمسامير في الباب، قال وقد سماها الفلاسفة المتأخرون الهيئة الجديدة لكونها شاعت في العصر المتأخر وإلا فالقول بها متقدم جدا) (1)
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فقد ارتبطت نشأة علم الفلك ارتباطا وثيقا بعبادة الأوثان، لاسيما عبادة الشمس والقمر والنجوم والكواكب .. وقد اهتم المصريون القدماء بهذا العلم اهتماما ملحوظا، خدمة لآلهتهم التي يعبدونها من دون الله، إلا أنهم كانوا يرون ثبات الأرض، ودوران الشمس حولها، وأن السماء كانت مرتكزة على أربع قوائم.
قال آخر (3): وكذلك كانت نشأة علم الفلك عند السومريين والأكاديين والبابليين لها ارتباط وثيق بعبادة الأوثان لاسيما الشمس والقمر والزهرة .. وقد استخدم كهنة الرافدين نظام الحساب الستيني بصفته النظام الأكثر ملاءمة للأبحاث الفلكية، وقد أسقطوا القبة السماوية على الأرض فكانت منها الدائرة الهندسية المعروفة، ثم قسموها إلى ستة أجزاء، كل جزء مكون من ستين درجة، فكان المجموع، وبالنسبة إلى السماء قسموها إلى جزءا، كل جزء مكون من ثلاثين درجة، وهي منازل الشمس، اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثين يوما، ومن هنا استطاعوا تقسيم دائرة السماء إلى اثني عشر برجا من البروج المعروفة.
قال آخر: وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: (وإنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم
__________
(1) ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة، 22.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 43.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 43.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/606)
الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة، أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا، هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شئ دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية) (1)
قال آخر: وقال أيضا: (وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ويدعونها بأنواع الدعوات، كما هو معروف من أخبارهم، وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعة في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم، والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده، وكان الشيطان بسبب السحر والشرك يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر، فكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها، ومقادير حركاتها، وما بين بعضها وبعض من الاتصالات، ليستعينوا بذلك على ما يرونه مناسبا لها .. ولما كانت الأفلاك مستديرة، ولم يكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المنحنية والمستقيمة، تكلموا في الهندسة لذلك، ولعمارة الدنيا .. فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور) (2)
قال آخر (3): ثم جاء من بعدهم أرسطو والذي كان له أعظم الأثر على الفكر الإنساني الضال المنحرف، وابتدع أقوالا خرج فيها عن طريقة أسلافه وأساتذته، هي أعظم فسادا وإفسادا من سابقيه، ولقد دخل كثير من بنات أفكاره على أتباع الأنبياء من النصارى والمسلمين، ولقد كان كلامه في الإلهيات ما هو إلا محصلة ونتيجة لكلامه في الرياضيات والفيزياء والفلك، إذ الأربعة عندهم كل واحد لا يتجزأ، وهذا هو الذي أدى به إلى القول بوجود محرك ساكن بدئي عنه تنشأ حركة الأشياء، وهو أيضا القائل بأن هذا المحرك الأزلي
__________
(1) الرد على المنطقيين (133)
(2) الرد على المنطقيين (137)
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 49.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/607)
الساكن لابد أن يبقى دائما مساويا لنفسه، غير قابل للقسمة، وليس له أجزاء، ولا أي مقدار، وكلامه هذا هو الذي قاد من قال بالتعطيل ونفي الصفات ووحدة الوجود من أتباع الأنبياء من النصارى والمسلمين، حتى أوصلهم إلى عبادة العدم، كما أن أرسطو هو أول من ينسب إليه القول بقدم العالم، وأما من تقدمه من الفلاسفة فإنهم يقولون بحدوث العالم، وقد جرى على قول أرسطو جماعة من أتباع الأنبياء، والحاصل أن كلامه في الإلهيات إنما هو ناتج عن كلامه في الطبيعيات.
قال آخر: وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك: (إن جميع العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبا في معرفة العلم الإلهي، وأكثر الناس اضطرابا وضلالا، فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس، والغلط في ذلك قليل نادر، وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد، وفيه باطل، وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته، فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، هو قليل كثير الضلال عظيم المشقة، يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية، فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال) (1)
قال آخر: وقال في الرد على ابن سينا ـ وهو أشهر من نقل كلام أرسطو ـ: (وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة .. أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان، ويشركون بالرحمن، ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان .. أو ليس من أعظم علومهم السحر، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين، ويصوم له ويصلي، ويقرب له القرابين، حتى ينال
__________
(1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 372)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/608)
بذلك عرضا من الدنيا، فساده أعظم من صلاحه، وإثمه أكبر من نفعه .. أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة .. أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة؛ كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة، وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى، فضلا عن مدينة من المدائن، وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع) (1)
قال آخر: وقال: (ثم يقال له: أنت وأمثالك أئمة أتباعكم، وهذا قولك وقول أرسطو، وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود، وصفاته وأفعاله، مع دعواكم نهاية التوحيد، والتحقيق والعرفان، قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم، وأشبههم بالبهائم من الحيوان .. وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجل المطالب، وأرفع المواهب، فاعتصم بالأدنى عن الأعلى إما عجزا وإما تفريطا) (2)
قال آخر: وقال: (وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا، وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم، وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف .. واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية والعرباء، وعوام التتر المشركين الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم، وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة مثل النصير الطوسي وأمثاله، وكذلك عوام أتباع سنان رأس الملاحدة وأمثاله، فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك، وتجد أولئك
__________
(1) درء التعارض (5/ 65 ـ 66)
(2) درء التعارض (5/ 65 ـ 66)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/609)
أفسد عقلا ودينا) (1)
قال آخر: وقال: (وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، وهل كان الطوسي وأمثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين ومكايد المحتالين المنافية للعقل والدين .. وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته أن يكون مشركا سحارا، وزيرا لملك مشرك سحار، كالإسكندر بن فيلبس، وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان .. وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل للمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء) (2)
قال آخر: وقال: (وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء) (3)
قال آخر (4): وهكذا؛ فإن الباحثين الذين كتبوا التاريخ الحديث، وإن ادعوا النزاهة العلمية؛ إلا أن اتجاهاتهم، ومصادرهم التي رجعوا إليها، ومحاولة استخراج آثار الديانات الوثنية القديمة في شتى بقاع الأرض، كذلك تفسيراتهم لما أشكل عليهم، كل ذلك يجعلنا نجزم أنهم كانوا ذوي نزعة وثنية معادية لما جاء به الأنبياء والمرسلون من عند الله خالق
__________
(1) درء التعارض (5/ 65 ـ 66)
(2) درء التعارض (5/ 65 ـ 66)
(3) درء التعارض (4/ 49) و (8/ 286)
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 45.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/610)
السماوات والأرض، حيث إنهم اعتمدوا في نظرية نشوء الكون وارتقائه التي زعموها، بما فيها من أكاذيب وافتراءات، ونبوءات وتكهنات، وافتراضات وتخيلات، اعتمدوا في ذلك كله على ما عثروا عليه من آثار فرعونية وبابلية ويونانية وإغريقية وغيرها، حتى أوغلوا في الكذب والتضليل حين اعتمدوا على حكايات خرافية باعترافهم، وعلى ما وجدوه من كلام شعراء وكتاب لهم مبالغات ممجوجة، وحكايات مكذوبة، ثم سربلوا ذلك كله بسربال العلم، وأكذوبة البحث العلمي النزيه، وأبوا أن يأخذوا ولو حرفا واحدا من الكتب المنزلة من عند الله، وناصبوا الأنبياء وأتباعهم العداء، حتى إنهم عن عمد أسقطوا ذكرهم من التأريخ، لكي يغطوا حيلهم بغطاء سميك، فلا يكتشف أحد كذبهم وتضليلهم، بل إن بعضهم ـ إمعانا في التضليل ـ لم يعترف بوجود الأنبياء أصلا، وقالوا ـ وإن يقولون إلا كذبا ـ بأنهم لم يكونوا سوى خرافات وأكاذيب لا حقيقة لها، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال آخر (1): ثم أمعنوا في تضليل الخلق بعد ذلك حيث جعلوا ذلك الخداع والتضليل المنافي لما جاء به الأنبياء يدرس في المدارس والجامعات، بل منعوا الحقيقة من أن تزاحم كذبهم في جامعاتهم، حتى يخلو لهم الجو، وصار المتلقن يتلقن أحابيلهم في المدرسة والجامعة، وعلموه كيف يرد على ما جاءت به الأنبياء، بحيل دنيئة، وباطل مزين، وعلم مزيف، حتى جرؤوا الخلق على الخالق، بل إنهم حكموا على كل من لم يوافقهم في المذهب بإماتة ذكره، وإدراجه في طي الكتمان، حتى يخيل إلى الناس أن لا ثمة شيء يخالف مذهبهم، كما قال فرديناند هوفر: (فلكيو القرن السادس عشر الذين رفضوا فكرة كوبرنيك كانوا كثرة، وبدلا من ذكرهم لابد أن نحكم عليهم بالنسيان، وهذا لن يكون إلا العدل) (2)
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 45.
(2) تاريخ علم الفلك ص (313)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/611)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الأول .. فحدثونا عن الدليل الثاني.
قال أحد الشيوخ: الدليل الثاني، أننا عندما نبحث فيمن اهتم بهذه العلوم في تاريخ المسلمين نجد أنهم جميعا من فرق الضلال والبدعة .. فقد كان لهم دور كبير في نشر تلك الخرافات الوثنية، بل وتطويرها.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قام به محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي الفيلسوف الرافضي، الذي نعته ابن القيم بقوله: (أم ترضون بعقل نصير الشرك والكفر والإلحاد الطوسي؟ فإن له عقلا آخر خالف فيه سلفه من الملحدين، ولم يوافق فيه أتباع الرسل) (1)
قال آخر: وقال عنه وعن غيره من المبتدعة: (وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه، قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ، ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى، وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول، وهو وأهل بيته برآء منهم نسبا ودينا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا، وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا، ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة، النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد
__________
(1) الصواعق المرسلة (2/ 790)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/612)
والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياء) (1)
قال آخر (2): ثم سار على دربه ابن الشاطر، الذي درس في القاهرة والإسكندرية علمي الفلك والرياضيات، وكان منجما، وقال ـ مخالفا لهيئة بطليموس ـ بأن الأرض تدور حول نفسها مرة كل يوم، وحول الشمس مرة كل سنة، والقمر يدور حول الأرض، وقد حذا في ذلك حذو سابقه نصير الشرك الطوسي، فقال: (وشرعت في تقرير التحريرات الرصدية الجديدة، حاذيا حذو العلامة النصير، ومقتفيا أثر المعلم الكبير، وربما نقلت عبارته بعينها، وزدت فيه من الوجوه القريبة، والتحريرات الغريبة)، وأودع شرح هذه النظرية في كتابه: [تعليق الأرصاد]، واختصره في [نهاية السؤل في تصحيح الأصول]، وذكرها أيضا في [الزيج الجديد]، وعلل ذلك بقوله: (إنه إذا كانت الأجرام السماوية تسير من الشرق إلى الغرب، فالشمس إحدى هذه الكواكب تسير، ولكن لماذا يتغير طلوعها وغروبها؟ وأشد من ذلك أن هناك كواكب تختفي وتظهر سموها الكواكب المتحيرة، لذا الأرض والكواكب المتحيرة تدور حول الشمس بانتظام، والقمر يدور حول الأرض)
قال آخر (3): وليس في ذلك من حجة وبرهان لتأويل ظواهر الكتاب والسنة، بل مثل ذلك مما يفسره القرآن باختلاف المشارق والمغارب، لكن لما عميت بصائرهم عن إدراك الحقائق، خبطوا في الظلمات تائهين، مستمسكين بحبائل أهل اليونان الوثنية البالية.
قال آخر (4): بالإضافة إليهم جميعا المنجم أحمد بن محمد بن عبد الجليل السجزي، وهو رياضي مهندس، وفلكي منجم، يقال بأنه شيعي، وهو ممن قال بحركة الأرض حول محورها، وهو الذي ابتكر الأسطرلاب الزورقي المبني على أن الأرض متحركة تدور حول
__________
(1) إغاثة اللهفان (2/ 266)
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 57.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 57.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 58.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/613)
محور لها،
قال آخر (1): بالإضافة إليهم أبو الريحان البيروني المنجم، وهو فيلسوف فلكي ورياضي وطبيب ومؤرخ وشاعر، زامل ابن سينا قرابة عشرين عاما، متهم بالقرمطة والكفر، وهو ممن قال بحركة الأرض حول محورها، وأن الشمس هي مركز الكون الأرضي، افترض ذلك في كتاب [مفتاح علم الهيئة] وكتاب [تحقيق ما للهند من مقولة]، وهو صاحب كتاب [التفهيم لأوائل صناعة التنجيم]، وهو كتاب مشهور في صنعة التنجيم وادعاء علم الغيب، وكتاب [القانون المسعودي في الهيئة والنجوم]، وغيرهما.
قال آخر (2): بالإضافة إلى هؤلاء كان هناك عدد كبير ممن اعتنى بدراسة علم الفلك والهيئة ممن ينتسب إلى ملة الإسلام، ولم يظهروا القول بالدوران، وذلك خوفا من اتهامهم بالزندقة ومخالفة الكتاب، كما روج بعضهم لهذا العلم من جهة خدمته لبعض الحرف والصناعات، مثل الزراعة والملاحة، ومعرفة أوقات العبادات، وغير ذلك.
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثاني .. فحدثونا عن الدليل الثالث.
قال أحد الشيوخ: الدليل الثالث، هو ما نشرته تلك العلوم من فتن بين المسلمين، حتى شككتهم في عقائدهم، وخاصة عقيدة العلو والجهة، ولذلك لا تجد أحدا يقول بها، إلا وهو ينفي علو الله تعالى على خلقه.
قال آخر (3): ومن الأمثلة على ذلك سيد قطب؛ فإنه لما صدق هذه النظريات، وأورد شيئا منها في تفسيره الموسوم بالظلال، ترتب على ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 58.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 58.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 13.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/614)
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]: (ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز للسيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين، كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصود هنا) (1)، فهذا يبرهن على أن الرجل قد تأثر كثيرا بهذه النظرية؛ حتى قاده ذلك إلى تأويل الآيات الصريحة في إثبات حقيقة الكرسي والعرش والاستواء والسماوات السبع المبنية، وجعلها رموزا ترمز إلى معاني فحسب، ولا تدل على إثبات حقائق هذه الأمور فضلا عن معانيها.
قال آخر: وبعد كل هذه الموبقات التي ذكرناها لكم سيدي القاضي يأتي هؤلاء وشيوخهم ليعتبروا وقوفنا مع القرآن الكريم ضد العلوم الحديثة فتنة، ولذلك صاروا يسخرون من علمائنا بحجة جهلهم بتلك العلوم التي لم تزدهم إلا ضلالة.
قال آخر: وقد قال بعض شيوخنا في الرد على هؤلاء: (أما اعتقادكم بأن طرح ما يخالف ما تعتبرونه علما فتنة؛ فالجواب على هذا هو أن بيان الحق واجب على العلماء وكتمانه حرام عليهم لقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز للعلماء كتمان ما يعلمونه من الحق، بل يجب عليهم بيانه للناس سواء قبلوه منهم أو ردوه، وإذا حدث بسبب بيان الحق ضجة من الجهال لم يكن ذلك مانعاً من بيان الحق والدعاء إليه وإنكار الباطل والتحذير منه، وقد أحدثت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضجة عظيمة عند المشركين، ولم تكن ضجتهم مانعة له من بيان الحق والدعاء إليه وإنكار المنكر والتحذير منه) (2)
__________
(1) الظلال (1/ 54)
(2) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/615)
قال آخر (1): وهذا ما فعله الإمام أحمد وغيره من أهل السنة بعدما أحدث عليهم الجهمية والمعطلة والروافض وغيرهم من أهل البدع ضجة عظيمة .. ولم تكن ضجتهم مانعة لأحمد وغيره من بيان الحق والدعوة إليه، وتكفير الجهمية وغيرهم ممن يستحق التكفير من أهل البدع.
قال آخر (2): وكذلك فعل شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وأصحابه، قد أحدث عليهم القبوريون وأصناف أهل البدع ضجة عظيمة، ولم تكن ضجتهم مانعة للشيخ وأصحابه من بيان الحق والدعوة إليه، وإنكار الباطل والتحذير منه، وتكفير من يستحق التكفير من القبوريين وأهل البدع.
قال آخر (3): وكذلك فعل شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وأنصاره وأولاده وأحفاده ومن سار على منهاجهم في بيان الحق والدعوة إليه، قد أحدث عليهم القبوريون وأصناف أهل البدع ضجة عظيمة، ولم تكن ضجتهم مانعة للشيخ وأتباعه من بيان الحق والدعوة إليه وإنكار الباطل والتحذير منه وتكفير من يستحق التكفير من القبوريين وأهل البدع.
قال آخر (4): وهكذا نقول لهؤلاء المنحرفين، ولكل أتباع العلوم الحديثة ومقلديهم من ضعفاء البصيرة أن الضجة ليست مانعة من بيان الحق، وإنكار الباطل، وتكفير من كذب الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: ولهذا قال شيخنا التويجري في الرد على القائلين بخرافة دوران الأرض حول الشمس: (ما يدريك أن الملايين من المسلمين يعتقدون صحة ما روجه أهل الهيئة
__________
(1) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
(2) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
(3) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
(4) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/616)
الجديدة في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها، هل أخبروك بذلك عن أنفسهم، أو أخبرك الثقاة عنهم، وإذا لم يخبروك فهل أنت مطلع على الغيب وعالم بما يعتقده الناس، وإذا لم يكن عندك علم الغيب فلا بد لك من الأمر الثالث وهو اتباع الظن، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الظن أكذب الحديث) (1)
قال آخر: وقال: (يقال على سبيل الفرض والتقدير إذا كان الملايين من ضعفاء البصيرة قد انخدعوا لما روجه أعداء الله تعالى مما هو مخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدى من بعدهم، فهل يكون قبولهم لزخارف أعداء الله تعالى وتأثرهم من بيان الحق ونشره موجباً لكتمانه ومانعاً من بيانه ونشره، كلا، بل الواجب بيان الحق ونشره ولو صدم الملايين الكثيرة، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 ـ 22]، وقال {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]) (2)
قال آخر: وقال: (إذا كان الملايين من الناس يعتقدون صحة ما قاله أهل الهيئة الجديدة في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها، فهل يكون اعتقادهم ذلك دليلا على صحته في نفس الأمر حتى يتعين الأخذ به وتلغى لأجل ذلك النصوص الدالة على خلاف ما يعتقدون، ويلغى أيضا إجماع المسلمين على خلاف قولهم، كلا، بل الأخذ بالنصوص وإجماع المسلمين هو المتعين وما خالف ذلك فمضروب به عرض الحائط .. فلا عبرة بمخالف لهم ولو كانوا عديد الشاء والبعران .. وقد كان الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعتقدون صحة ما ذهبوا إليه من البدع ولم يكن اعتقادهم ذلك دليلا على صحة مذاهبهم
__________
(1) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
(2) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 80.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/617)
في نفس الأمر) (1)
قال آخر: (وهكذا أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم، فإن قولهم في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها قول باطل واعتقاد مخالف لاعتقاد أهل السنة والجماعة، فلا يعول عليه بل يرد على قائليه) (2)
قال آخر: وهكذا فعل شيخنا ومحدثنا مقبل بن هادي الوادعي، فهو من كبار أعلام المتأخرين الذين اهتموا بإحياء سنة التجريح والرد على كل جديد سواء ارتبط بالدين أو بالعلم .. وقد كتب في كتبه المختلفة الرد الشديد على المهتمين بالعلوم الكونية، والتي يطلق عليها تسميات مختلفة كعلوم الملاحدة، وغيرها.
قال آخر: وقد أشاد بعض شيوخنا في تقديمه لكتابه [البركان لنسف جامعة الإيمان] بتلك الآثار التي تركها في هذا المجال اقتداء بسلفه الصالح، فقال: (وقد ألِّفَتْ كتبٌ في التصدي لأهل البدع ككتاب [الرد على الجهمية والزنادقة] للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب [الرد على بشر المريسي] للإمام الدارمي، وكتاب [الرد على البكري] لابن تيمية، وكتاب [الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة] لابن قيم الجوزية، وغيرها كثير وكثير جدّاً .. وممن ترسم خطى أولئك الأفذاذ عالم من علماء السنة، ولا أبالغ إن قلت أن اليمن لم تنجب مثله من بعد الإمام الشوكاني، ألا وهو الإمام العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي الذي ـ بمجيئه إلى اليمن ودعوته فيها ـ فتح الله به آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا، وكان من جهود الشيخ رعاه الله جهاده الدؤوب لأهل الأهواء والبدع والتصدي لهم والصدع بذلك من غير أن يخاف في الله لومة لائم .. فأخذ يجاهد المبتدعة على اختلاف نحلهم ومذاهبهم، ابتداء بالشيعة الرافضة ثم بالصوفية الخرافية ثم بالحزبيين الملبسيين على عامة الناس، وهكذا غيرهم من الملاحدة الكفرة
__________
(1) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 81.
(2) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 81.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/618)
كالاشتراكيين والبعثيين والناصريين، فانتفع بدعوته القاصي والداني من أهل اليمن وغيرهم من شتى بلدان العالم، فشاع ذكره وانتشرت محاسنه، فتوافد إليه طلبة العلم من هنا وهناك لتلقى ما حباه الله به من علم وهدى وعلى النقيض من ذلك ظهر صنف من أهل البدع قد غرتْهم زخرفة الحياة الدنيا وانقادوا لها دون خوف من الله ولا استحياء من علماء الأمة، ومنهم المدعو عبد المجيد بن عزيز الزنداني، فأخذ يبث ما ألقاه الشيطان عليه في صفوف اليمنيين خاصة، وغيرهم عامة، حتى انطلى البلاء على كثير من شباب الأمة، بل من كبارهم فَعُدَّ عندهم من رواد العلم العاملين به وأن الوقيعة فيه تعد من قبيل السب والغيبة وما شابه ذلك) (1)
قال آخر: وهو يقصد هنا موقفه من العلوم الحديثة، وتدريسه لها في جامعة الإيمان، وذلك ما اعتبره شيخنا الوادعي انحرافا عن سنة السلف الصالح الذين كانوا يقتصرون على العلوم الشرعية.
قال آخر: ومن كتبه في هذا المجال ما كتبه ردا على التفسيرات العلمية لأسباب الزلازل، حيث ألف رسالة في ذلك بعنوان [إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال]، وقد رد فيها بشدة على ما تقوم به مدارس المسلمين من تعليم تلاميذها علوم الكفار، فقال: (نحن نأسف لبعض الملاحدة المخذولين الذين منّ الله عليهم وجعلهم من ذوي اللسان العربي ثم لا يشكرون الله على هذه النعمة، ويتّبعون أناسًا كالأنعام بل هم أضل، ذاك كوبي، وذاك روسي، أعاجم لا يفهمون الإسلام على حقيقته ولا يفهمون قول الله ولا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولعل بعضهم لم يبلغه الإسلام على حقيقته .. جدير بأبناء اليمن أن لا يودّعوا عقولهم لماركس ولينين ومن جرى مجراهم من أئمة الضلال، فأنتم أيها اليمنيون لكم مواقف طيّبة
__________
(1) البركان لنسف جامعة الإيمان (ص 5)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/619)
في الدفاع عن الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الفتوحات الإسلامية، ثم بعد هذا تلحقون بأنفسكم الخزي وتحرمون نعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أي خير تحرمونه أيها الملاحدة؟ وأي خطر تعرّضون له أنفسكم؟ إنّها النار التي وقودها الناس والحجارة، وهناك لا تنفع المكابرة ولا ينفعك ماركس ولينين، بل يكونان أمامك في النار) (1)
قال آخر: ومن تلاميذ مدرسته النجباء، المدعو أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري، والذي ألف كتابا في الرد على الاستدلال بما ورد في العلوم الكونية في القضايا العقدية، سماه [الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق]
قال آخر: وقد قرضه شيخنا الوادعي وشيخنا أحمد بن يحيى النَّجمي، وقد قال في مقدمته للكتاب مبينا بعض الضلالات الواردة في كتاب [توحيد الخالق]: (ومنها استدلاله بأقوال الفلاسفة من اليهود والنصارى من فلكيين وطبائعيين وغيرهم على صدق القرآن وهل القرآن بحاجةٍ إلى شهادة هؤلاء الضلال!؟. ومنها تقريره أنَّ الأرض كوكبٌ من المجموعة الشمسية ثم انفصلت عنها وتبردت كما قرر ذلك سيد قطب في تفسيره، والله تعالى يقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] وصدِّق بعد ذلك من شئت .. ومنها زعمه أنَّ السماوات السبع كانت طبقةً واحدة وأنَّها فتقت فيما بعد، يفسر بذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الفاتحة: 30]، وقد ردَّ عليه الشيخ يحيى الحجوري جزاه الله خيرًا في هذه الفقرات، وغيرها ردًا مفحمًا بالأدلة القاطعة الساطعة من الكتاب وصحيح السنة، فجزاه الله خيرًا وبارك فيه وكثَّر الله من أمثاله الذابين عن الحق
__________
(1) إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال (ص 17)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/620)
الناصرين للتوحيد الذائدين عن حياضه) (1)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثالث .. فحدثونا عن الدليل الرابع.
قال أحد الشيوخ: الدليل الرابع، هو ما قام به شيوخنا من سلفنا الصالح المتقدمين والمتأخرين من التحذير من هؤلاء الذين يعملون عقولهم في الكون أو في الدين .. ولذلك بدعوهم أو كفروهم.
قال آخر: وبما أن معظم تلك العلوم كانت مرتبطة بالفلسفة؛ فلذلك كان موقفهم متشددا منها، ومن كل تلبس بجرمها.
قال آخر: وبناء على هذا اعتبروا من أسباب التجريح والطرد والحرمان من الانتساب للسنة وسلف الأمة الاشتغال بتعلم علوم الأوائل، كما قال ياقوت الحموي في ترجمة بعضهم ذاما له بسبب اشتغاله بالفلسفة وما ارتبط بها من علوم كونية: (وليس ذلك إلا لإعراضه عن نور الشريعة واشتغاله بظلمات الفلسفة، وقد كان بيننا محاورات ومفاوضات فكان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذبّ عنهم، وقد حضرت عدة مجالس من وعظه فلم يكن فيها لفظ قال الله، ولا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا جواب عن المسائل الشرعية، والله أعلم بحاله) (2)
قال آخر: وقال الذهبي منتقدا الغزالي بسبب موقفه المسالم للمباحث العلمية التي وردت في كتب الفلاسفة: (ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب [التهافت]، وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب [رسائل إخوان الصفا] وهو
__________
(1) الصبح الشارق، ص 6.
(2) معجم البلدان (3/ 377)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/621)
داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف؛ فالحذار الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فيلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين) (1)
قال آخر: بل إن سلفنا الصالح كانوا يفتون بحرق تلك الكتب، بل وقتل منتحليها، ومن الأمثلة على ذلك ما قام به السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي لما ملك مدينة الري، حيث أحرق كتب الفلاسفة والنجوم والاعتزال (2) .. مع العلم أن المراد بالنجوم ما يطلق عليه حاليا [علم الفلك] .. وكتب الفلاسفة كانت تشمل كل أصناف كتبهم الرياضية والطبيعية والمنطقية والأخلاقية وغيرها.
قال آخر: وهكذا لما تولى الطبيب المتفلسف أبو الوفاء بن المرخم قضاء بغداد، وأساء السيرة في الرعية، أمر الخليفة العباسي المستنجد بالله بالقبض عليه سنة 555 هـ، فاستُصفيت أمواله، وأخذت منه كتبه، وأُحرق منها ما كان في علوم الفلسفة، كرسائل إخوان الصفا، وكتاب الشفاء لابن سينا وما يشاكلهما، وأُدخل ابن المرخم السجن فمات فيه (3).
قال آخر: وهكذا عندما اُتهم المتفلسف الركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني البغدادي بالتعطيل واعتقاد عقيدة الفلاسفة، جمع الوزير ابن يونس البغدادي الحنبلي كتبه وعقد له محاكمة حضرها أعيان الناس، وفيها كان الطبيب أبو بكر بن المارستانية يقرأ بعض كتب عبد السلام على الحاضرين، ويقول: العنوا من كتبها ومن يعتقدها، فيصيح العوام باللعن حتى تعدى إلى جده الشيخ عبد القادر الجيلاني. ثم وجد
__________
(1) سير أعلام النبلاء (14/ 270)
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 8 ص: 170.
(3) ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3 ص: 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/622)
محاكموه في بعض كتبه مخاطبة كوكب زُحل، بقوله: (أيها الكوكب المنير أنت مدبر الأفلاك، وتحي وتُميت وأنت إلهنا)، فقالوا له: أهذا خطك؟ قال: بلى، كتبته لأرد على قائله ومن يعتقده؛ فأمر الوزير بإحراق كتبه، من بينها: كتب الفلسفة والسحر وعبادة النجوم، ورسائل إخوان الصفا، وأدخل هو السجن مدة ثم أُفرج عنه بعد استتابته (1).
قال آخر: هذا ما حصل من حرق لكتب الفلاسفة بما اشتملت عليه من علوم كونية في المشرق، أما في المغرب، فقد ذكر مؤرخونا (2) أن الحاجب أبا عامر بن أبي عامر الأندلسي لما آلت إليه مقاليد الحكم الأموي بالأندلس عمد إلى خزانة كتب الخليفة المُتوفى: الحكم المستنصر، وأخرجها وفرز منها كتب الفلسفة، وكانت كثيرة جدا، فأحرق منها مجموعة وطمر أخرى بمشهد من العلماء، فعل ذلك تقبيحا للخليفة الحكم المُغرَم بجمع كتب الفلسفة (3) .. وقيل إن سبب إحراقه لها رغبته في التقرّب إلى العوام، مع اشتغاله هو بها شخصيا في الخفاء (4).
قال آخر: ومنها أن السلطان المرابطي أبا الحسن علي بن يوسف بن تاشفين كان شديد الكره للفلسفة وعلم الكلام، فأمر بحرق كتبهما ومعها كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، لما فيها من كلام وفلسفة، وتوعّد بالقتل لمن يُخفي تلك الكتب (5).
قال آخر: وقد علق بعض شيوخنا على هذه المواقف النبيلة بقوله: (ويُستنتج مما ذكرناه أن عمليات حرق كتب الفلسفة ومنع بيعها وتداولها بين الناس وأهل العلم، تمت على أيدي السلاطين ورجالهم، وتحت رعايتهم، لأنهم هم الذين يملكون قوة التغيير والتنفيذ، وتلك العمليات هي حوادث قليلة جدا بالنظر إلى اتساع رقعة العالم الإسلامي،
__________
(1) ابن العماد الحنبلي: شذرات، ج 7 ص: 85.
(2) مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص 80.
(3) الذهبي: السيّر، ج 17 ص: 15.
(4) المقري: نفح الطبيب، ج 1 ص: 221.
(5) الذهبي: السير، ج 19، 334،و ج 20 ص: 124.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/623)
وطول الفترة الزمنية التي تزيد عن عشرة قرون لكنها تدل على وجود مقاومة سنية للفلسفة اليونانية ساهم فيها بعض الخلفاء والسلاطين وأعوانهم، لكنها تشير من جهة أخرى إلى انتشار تلك الفلسفة بين طائفة من أهل العلم، حتى استدعى الأمر تدخل السلطان لحرق مصنفاتها ومنع بيع كتبها والاشتغال بها لكنها ساهمت أيضا في إضعاف نفوذ الفلسفة ورجالها، دون أن تقضي عليها وعلى تراثها وأتباعها) (1)
قال آخر: وهكذا كان يعاني منتحلي الفلسفة وتلك العلوم الأمرين بسبب الموقف المتشدد منهم، كما ذكر ذلك شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني بقوله عند الحديث المعاناة التي كان يعانيها من يهتمون بالفلسفة أو العلوم الكونية في الأندلس، فقال: (وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدة، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري) (2)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت لكم ضلال من يترك كتاب ربه وهدي نبيه وهدي سلفه الصالح، ليتمسك بعلوم الضلالة التي يأخذها من الكفرة، والذين نهينا أن نستمع لهم، أو نستفيد منهم .. فما تقولون؟ .. هل تتوبون إلى الله؟ .. أم تظلون على غيكم؟
__________
(1) مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية، ص 81.
(2) نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب (1/ 221)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/624)
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال آخر: ونحن نتعجب سيدي القاضي من سلوك هؤلاء، ذلك أنهم متناقضون في مواقفهم، فبينما نراهم يسمون كتب اليهود المملوءة بالتحريفات كتبا إلهية، ويستندون إليها، ويجيزون الأخذ منها .. وفي نفس الوقت نجد أكثر شيوخهم تتلمذوا على أحبار اليهود، ككعب الأحبار ووهب بن منبه .. ومع ذلك يعتبرون الاستفادة من غير المسلمين في هذه العلوم المحضة، كفرا وبدعة وضلالة.
قال آخر: ونحن نخالفهم في ذلك مخالفة شديدة .. ذلك أن هذه العلوم لا وطن لها، بل هي وليدة البحث والتفكير الذي أُمرنا به .. ولذلك لا حرج في أن نستفيد من كل ما دل عليه الدليل من ذلك.
قال آخر: ولهذا دعانا أئمة الهدى إلى الاستفادة في هذا المجال من كل الناس بغض النظر عن أديانهم، وقد قال إمامنا علي في ذلك: (خذ الحكمة أنى كانت فإنّ الحكمة ضالّة كلّ مؤمن) (1) .. وقال: (خذ الحكمة ممّن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظره إلى من قال) (2) .. وقال: (الحكمة ضالّة كلّ مؤمن فخذوها ولو من أفواه المنافقين) (3) .. وقال: (ضالّة الحكيم الحكمة فهو يطلبها حيث كانت) (4) .. وقال: (ضالّة العاقل الحكمة فهو أحقّ بها حيث كانت) (5) .. وقال: (قد يقول الحكمة غير الحكيم) (6) .. وقال: (الهيبة خيبة، والفرصة خلسة، والحكمة ضالة المؤمن، فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحقّ بها
__________
(1) غرر الحكم ص 58 و 59 و 60.
(2) غرر الحكم ص 58 و 59 و 60.
(3) غرر الحكم ص 58 و 59 و 60.
(4) غرر الحكم ص 58 و 59 و 60.
(5) غرر الحكم ص 58 و 59 و 60.
(6) غرر الحكم ص 58 و 59 و 60.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/625)
وأهلها) (1)
قال آخر: وهكذا نجدهم يهتمون بالعلوم الكونية، ويدعون تلاميذهم إلى تعلمها، فقد كان جابر بن حيان الذي يعتبر أول من اشتغل بالكيمياء القديمة ونبغ فيها، وكانت له اكتشافاته المهمة التي أقر له بها الغرب والشرق، تلميذا بسيطا من تلاميذ الإمام الصادق.
قال آخر: فقد قال اليافعي في [مرآة الجنان] عنه: (وفيها ـ عام 148 هـ ـ توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام أولي المناقب، وإِنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد ألّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة) (2)
قال آخر: وهكذا نجد الإمام الرضا يترك رسالة مميزة في الطب، يقدم لها الطبيب الكبير المعروف الدكتور محمد علي البار بقوله: (تتميز هذه الرسالة بأنها أول رسالة في الطب يكتبها عربي مسلم .. ولم تكتب قبلها سوى رسائل مترجمة من اليونانية والسريانية .. وإذا علمنا أن الرضا توفي سنة 203 هوأنه كتب هذه الرسالة عندما استقدمه المأمون من المدينة إلى خراسان (أي أنها كتبت في حدود سنة 200 ه) .. ولا تعتبر هذه أول رسالة في الطب يكتبها مسلم فحسب، بل تعتبر أول رسالة في الطب تؤلف في التاريخ الاسلامي .. حيث أن ما كتب قبلها لا يعدو ترجمات من كتب اليونان والسريان الطبية، وهذه الرسالة تختلف عن كل ما كتب أنها ضمت معلومات الإمام الرضا الطبية التي استفادت بدون شك من طب اليونان ولكنها أضافت إليها ما أخذه الامام عن أبيه عن جده، وما استفاده من كلام
__________
(1) أمالي الطوسي ج 2 ص 238.
(2) مرآة الجنان (1: 304)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/626)
جده المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كما أنها تضم أيضا ما استفاده الإمام الرضا من علوم آبائه موسى الكاظم، وجعفر الصادق ومحمد الباقر وعلي زين العابدين والامام السبط الحسين والإمام علي بن أبي طالب، ولم يكتف الإمام الرضا بذلك كله ولكنه أضاف إليها تجاربه الشخصية ومعارفه الذاتية .. واستطاع بعد ذلك كله أن يوجز هذه المعلومات إيجازا بليغا في 14 صفحة فقط .. ومع هذا فقد شرحها العلماء والحكماء في مئات الصفحات) (1)
قال آخر: وما ذكره الدكتور البار عن استفادتها من الطب اليوناني تفيد ذلك الانفتاح على الأمم الذي يدعو إليه القرآن الكريم، والذي تمسك به ورثته من هذه الأمة.
قال آخر: ولهذا انتقد علماؤنا، وفي كل العصور ذلك الموقف المتشدد الذي وقفه شيوخنا الأفاضل وأساتذتهم من العلوم المختلفة، واعتبروا ذلك معارضا للقرآن الكريم، وسببا لفتنة من أمرنا بتبليغهم الإسلام في أجمل صورة.
قال آخر: ومنهم أبو حامد الغزالي الذي أحرق بعض شيوخكم كتبه .. فقد قال ـ عند حديثه عن الفلسفة ـ: (الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كل علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضاً) (2)
قال آخر: ثم ذكر خطر هؤلاء على الإسلام، فقال: (ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي
__________
(1) الإمام علي الرضا ورسالته في الطب النبوي، ص 121.
(2) المنقذ من الضلال (ص 140)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/627)
والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله تعالى لا ينخسفان ِ لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة)، وليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعروف بمسير الشمس والقمر، واجتماعهما أو مقابلهما على وجه مخصوص .. فهذا حكم الرياضيات وآفتها) (1)
قال آخر: وهكذا بالنسبة لعلم الطبيعيات، والذي كان ركنا من أركان الفلسفة القديمة، فقد قال فيه الغزالي: (وأما علم الطبيعيات: فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار، وعن الأجسام المركبة، كالحيوان والنبات والمعادن، وعن أسباب تغيرها وامتزاجها، وكذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان، وأعضائهم الرئيسية والخادمة، وأسباب استحالة مزاجه وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة، وذكرناها في كتاب تهافت الفلاسفة وما عداها مما يجب المخالفة فيها، فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها، وأصل جملتها: أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها، والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته) (2)
قال آخر: وهكذا بالنسبة للعلوم الرياضية، والمتعلقة بعلم الحساب والهندسة، وعلم هيئة العالم، وحكمها كما يقرر الغزالي أنه (لا يتعلق شيء منها بالأمور الدينية، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجا حدتها بعد فهمها) (3)
قال آخر: بل إنه يجعلها من الفروض الكفائية ما دام يحتاج إليها، ولكنه مع ذلك
__________
(1) المنقذ من الضلال (ص 140)
(2) المنقذ من الضلال (ص 141)
(3) المنقذ من الضلال ص 101.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/628)
يحذر من بعض النتائج السلبية المنجرة عن النظر فيها، ولعل أهمها هو اعتقاد أن جميع الآراء الفلسفية من الدقة والوثوق مثل العلوم الرياضية، فيكفر بالتقليد المحض) (1)؛ وليس في هذا التحذير من الغزالي إلا تنبيه للسبيل الانتقائي الذي اختاره وبنى عليه مواقفه.
قال آخر: وهكذا بالنسبة للعلوم المنطقية، والتي تتعلق بالنظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، فقد ذكر الغزالي أنه (لا يتعلق شيء منها بالدين إلا ما حشيت به من أمثلة تتناقض وتتعارض مع الأصول الدينية)، ولأجل ذلك ألف الغزالي كتبه المنطقية، كمعيار العلم وغيره، وحشاها بدلا من ذلك بالأمثلة الفقهية.
قال آخر: وهكذا بالنسبة للعلوم الطبيعية، وتشمل في مدلولها القديم الطب والكيمياء والفلك وغيرها، ويرى الغزالي عدم تعرضها للدين، ولذلك لا ينبغي مخالفتهم في شيء منها إلا بما هدى إليه الدليل العلمي، وهو ينبه فقط إلى قضية مهمة، يدعو من خلالها إلى أسلمة هذه العلوم، فهي إلحادية من حيث جعلها الطبيعة فاعلة بذاتها، ولذلك يجب أثناء مطالعة هذه العلوم (أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، ولا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها، والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره، لا فعل لشيء منها لذاته) (2)
قال آخر: وهكذا بالنسبة للعلوم السياسية، والتي يبحث فيها الفلاسفة عن الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية، ولا يرى الغزالي لذلك أي تعلق بالدين، بل يرى أنه يمكن الاستفادة من أبحاثهم فيها باعتبارها مستمدة ـ كما يرى ـ من كتب الله المنزلة على
__________
(1) المنقذ من الضلال ص 101.
(2) المنقذ من الضلال ص 104.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/629)
الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء (1).
قال آخر: وهكذا بالنسبة للعلوم الأخلاقية، وكلامهم فيها ـ كما يلخصه الغزالي ـ يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وأجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وهو لا يرى ردها باعتبارها لا تناقض الشرع، بل يرى أن كلامهم فيها مأخوذ من كلام الصوفية والمتألهين الذين لم يخلو من وجودهم أي عصر من العصور .. ولذلك فإن الاستفادة منهم تلق لمزيد من التجارب والفوائد التي لم تمنعنا الشريعة من الأخذ بها (2).
قال آخر: وبعد هذا التقسيم للعلوم المرتبطة بالفلسفة في عصره، لا يرى الغزالي حرجا أن يستفيد اللبيب من كل علومهم ما عدا ما عارض الشرع منها، لأن معرفة الحق مطلب كل عاقل، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
قال آخر: وهو ينكر على من يرد عليهم بمجرد كونهم فلاسفة، ويشبه ذلك بالذي يسمع من النصراني قول: (لا إله إلا الله عيسى رسول الله) فينكره، ويقول: هذا كلام نصراني، ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (3).
قال آخر: وبسبب هذا الفكر المتفتح المنتقي استفاد الغزالي من الفلاسفة، وضمن ذلك كتبه بعد مزجه بالنصوص الشرعية، أو بعد أسلمته، وقد لاقى بسبب ذلك النقد اللاذع من كثير من الطاعنين، كقول ابن العربي المالكي: (إن شيخنا هذا ـ الغزالي ـ دخل بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج فما قدر) (4)
قال آخر: وقد حصل له ذلك الاعتراض في حياته، فقال مجيبا: (ولقد اعترض على
__________
(1) المنقذ من الضلال ص 108.
(2) المنقذ من الضلال ص 109.
(3) المنقذ من الضلال ص 110.
(4) ابن العربي، العواصم من القواصم ص 7.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/630)
بعض الكلمات في تصانيفنا في أسرار علوم الدين طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم، وزعمت أن تلك الكلمات من كلمات الأوائل، مع أن بعضها من مولدات الخواطر، ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر، وبعضها يوجد في الكتب الشرعية، وأكثرها موجود معتاد في كتب الصوفية) (1).
قال آخر: ثم عقب على ذلك منكرا: (وهب أنها لا توجد إلا في كتبهم، فإذا كان ذلك الكلام معقولا في نفسه مؤيدا بالبرهان، ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة، فلم ينبغي أن يهجر وينكر؟) (2)
قال آخر: وهذا الموقف مخالف تماما لموقف سلف شيوخنا الأفاضل، والذين حرموا تلك العلوم، واعتبارها كفرا وضلالا، كما فعل ابن تيمية مع علم الكيمياء، ومع العبقري الذي سبق زمانه فيها جابر بن حيان، تلميذ الإمام الصادق.
قال آخر: وقد قال حسن بن فرحان المالكي حول [ابن تيمية وتحريم الكيمياء!]: (ابن تيمية لم يقتصر تطرفه على التحريض على الدماء، بل وصل للكيمياء فحرمها وشن عليها حملة، لأن مؤسسها جابر بن حيان .. وسبب بغضه لجابر بن حيان أنه من تلاميذ الإمام جعفر الصادق) (3)
قال آخر: ثم ذكر نموذجا لذلك بفتوى ابن تيمية في تحريم الكيمياء، فمما جاء فيها قوله: (أهل الكيمياء من أعظم الناس غشا .. هم أهل ذلة وصغار .. الكيمياء محرمة باطلة .. لم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء ولا من علماء الدين ولا الصحابة ولا التابعين .. وجابر بن حيان مجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم والدين .. والكيمياء أشدّ
__________
(1) المنقذ من الضلال ص 111.
(2) المرجع السابق.
(3) موقع الشيخ حسن بن فرحان المالكي، تحت عنوان: ابن تيمية وتحريم الكيمياء.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/631)
تحريما من الربا .. الكيمياء لم يعملها رجل له في الأمة له لسان صدق ولا عالم متبع ولا شيخ ولا ملك عادل ولا وزير ناصح، إنما يفعلها شيخ ضال مبطل) (1)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم يدعونا إلى البحث في هذه العلوم، والاستفادة منها، ليس في حياتنا فقط، وإنما للتعرف على قدرة الله وعظمته .. فبقدر العلم يكون الخشوع، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]
قال آخر: بل إن ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكونية ـ كما يذكر بعض الباحثين ـ تشكل ما يقارب خمس القرآن الكريم، فهناك أكثر من (1200) آية قرآنية على الأقل تشير إلى المعارف العملية المختلفة، وكل آية منها تشير إلى حقائق الوجود الكبرى التي استغرقت من البشر قرونا طويلة للوصول إليها .. ولكن القرآن الكريم يعطيها لنا بسهولة ويسر، ويربطها بحقائق الوجود جميعا،
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [فصلت: 53]، فهذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على وعد الله لعباده بأن يكشف لهم في مستقبل أيامهم عن حقائق الآفاق والأنفس .. وهي واضحة الدلالة أيضا على أن تلك الحقائق تنسجم مع القرآن الكريم انسجاما تاما، بل إنها ستشهد له بالحق، وتدل على مصدره الإلهي، وسبب ذلك أن الله على كل شيء شهيد .. ولذلك يستحيل أن تتناقض المعارف المكتشفة مع المعارف التي أنزلها الله على عباده في كتابه،
__________
(1) مجموع الفتاوي (29/ 368)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/632)
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العظيمة قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} [النمل: 93]
قال آخر: بل أخبر في مواضع مختلفة أن الزمن كفيل بأن يوضح من الحقائق القرآنية ما لم يكن مدركا في الزمن الذي أنزل فيه القرآن، قال تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُون} [الأنعام: 67]، وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين} [ص: 88]
قال آخر: بل أشار الله تعالى إلى تأثير الحقائق القرآنية في هداية أهل العلم، فقال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]
قال آخر: وهكذا نجد القرآن الكريم يدفعنا دفعا للبحث العلمي لاكتشاف حقائق الكون، للاستفادة منها أولا، وللتعرف من خلالها على إبداع الخالق سبحانه وتعالى، لأن الله لا يعرف إلا بالعلم، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19]، وكما أخبر عن أصناف عباده العارفين به، فذكر منهم أولو العلم، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]
قال آخر: وبناء على هذا يأمرنا الله تعالى بالنظر في كل الكائنات التي أبدعها لنزداد قربا منه، ومعرفة به، وخشية له، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28]، فهذه الآيات الكريمة لم تذكر خشية العلماء لله أثناء ذكرها لأحكام الشريعة، وإنما ذكرتها في معرض بيان آيات الله في السموات والأرض، لتبين أن كمال الخشية يكون في تلك الرؤية المفصلة لآيات الله في الكون.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/633)
قال آخر: ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر أولي الألباب، وتوجههم إلى الله بالعبودية قدم الفكر في السموات والأرض على الذكر والعبادة نفسها، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب} [آل عمران: 190]،
قال آخر: بل إننا لو طبقنا مقاييس الفقهاء والأصوليين على الآيات الكريمة التي تتعلق بهذه الجوانب، فإننا نجد الحكم بالوجوب على تعلم هذه الحقائق، فالله تعالى يأمر فيها عباده بالنظر والتفكر في كونه، قال تعالى آمرا بالنظر: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال آمرا بالسير: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20]
قال آخر: وبناء على هذه التوجيهات الإلهية المقدسة نشأ اهتمام المسلمين بالعلوم المختلفة، والذي تشكل منه بنيان الحضارة الإسلامية الحقيقي، وهو البناء المعتمد على البحث والنظر والفكر والتأمل واستعمال كل الأدوات لاكتشاف الحقائق الكونية في مجالاتها المختلفة.
قال آخر: وقد أشار الغزالي إلى سر ذلك، وارتباطه بالقرآن الكريم، فذكر في كتابه [جواهر القرآن] قبل أن تفتح خزائن العلوم التي فتحت في عصرنا أن العلوم كلها متشعبة من القرآن، فقال: (ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد) (1)
قال آخر: ثم ضرب أمثلة على ذلك، ومنها (الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين} [الشعراء: 80]، وهذا الفعل الواحد
__________
(1) جواهر القرآن (ص 45)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/634)
لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه) (1)
قال آخر: ومنها (أفعاله تبارك وتعالى في تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان} [الرحمن: 5] وغيرها من الآيات .. ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان، وخسوفهما وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا من عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه) (2)
قال آخر: وهكذا ذكر أنه لا يعرف كمال معنى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 ـ 8] إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها، وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين) (3)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول العلاقة بين العلم والكون والقرآن الكريم، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الأمر الأول .. فحدثونا عن الثاني.
قال أحد الشيوخ: الأمر الثاني ناتج عن الأمر الأول .. وهو وقوع هؤلاء القبوريين
__________
(1) جواهر القرآن (ص 45)
(2) جواهر القرآن (ص 45)
(3) جواهر القرآن (ص 46)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/635)
المعطلة الغلاة في مواجهة القرآن الكريم والسلف الصالح في الكثير من الحقائق.
قال آخر: وسنذكر لكم سبعة نماذج عنها، لتدركوا مدى الغي الذي وقعوا فيه، حين هجروا القرآن الكريم والسلف الصالح، وراحوا يستمدون العلم من الوثنيين والملاحدة.
قال القاضي: فحدثونا عن النموذج الأول عنها.
قال أحد الشيوخ (1): النموذج الأول هو ذكرهم أن الكون في تمدد مستمر، ثم استدلالهم على ذلك بقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] .. وهذا من جنس ما تقدم ذكره من التلاعب بالقرآن ولي أعناق النصوص لتبرير أفكار اليهود ونظرياتهم بحجة أن القرآن قد سبقهم إلى ذلك.
قال آخر (2): وهذا القول يتعارض تماما مع أدلة الكتاب والسنة، فالله تعالى أخبر أنه قد أتم خلق السماوات والأرض، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، وقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] .. وغيرها من الآيات الكريمة.
قال آخر: وهو يتناقض مع ما ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك) (3)
قال آخر: أما ما استدلوا به؛ فإن جميع المفسرين يفسرون قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 129.
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 130.
(3) البخاري (ج 10 ص 417) (5987)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/636)
بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، بغير ما فسروها به .. فمعناها: قد أوسعناها، أو بنحو هذا التفسير الدال على أن الله عز وجل قد خلق السموات وفرضها وأوسعها وفرغ منها، حتى جاء هؤلاء الدجالون بتفسير محدث يقتضي أن الله عز وجل لا يزال يزيد في السماء قليلا قليلا كحال من يعجز عن إيجاد الشيء دفعة واحدة، تعالى الله عن ذلك، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك فإن في ذلك تكذيب ما صح عن ابن مسعود أنه قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)، ومثل هذا الإخبار عن أمر غيبي مما لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم الرفع.
قال آخر (2): ومسيرة خمسمائة عام بمسير الإبل المعتاد تعادل تقريبا تسعة ملايين كم فقط، لا كما يزعمون أن بين الشمس والأرض وحدهما مائة وخمسون مليون كم، ناهيك عن بقية ملايين الملايين من الأميال بحساب السنين الضوئية في المسافة بين الأرض وأبعد نقطة مكتشفة في الكون، وقد وجدت بعد حساب سريع أن البعد التقريبي بين الأرض وأبعد نقطة مكتشفة في الكون يساوي تقريبا مليون مليون مليون مليون ميل، وهذا أبعد من الخيال.
قال آخر (3): وقد قدر بعض أهل العلم المسافة الحقيقية بين سطح الأرض ونهاية السماء السابعة بمليون كم فقط.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أكذوبة تحديد المسافة بيننا وبين الشمس، وهي كما
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/637)
يزعمون مليون ميل يقطعها الضوء في ثمان دقائق، وقد قال بعض شيوخنا في الرد عليها: (وهي مسألة كسابقتها مبنية على التهوكات والتهويلات .. وإلا فإنكم تلاحظون أنه ما إن يخرج قرص الشمس من المشرق إلا وتمتلئ الدنيا بالضوء دون أقل من دقيقة واحدة، ولو أن الشمس كانت تحت السحاب، ثم تجلى عنها لرأيت أن الدنيا سرعان ما تضيء بدون تحديد أقصر زمن، وكذلك القمر، فمن التخرص الذي لا يصدقه ذو عقل وبصر وفطرة سليمة أن يقال أن الشمس حين تطلع جلية من المشرق أو في السماء لا يصل الضوء إلى الأرض إلا بعد ثمان دقائق، وتبقى السماء صافية والشمس مضيئة مدة سبع دقائق والناس يشاهدون ذلك بين ظلمة الأرض وفي الدقيقة الثامنة يصل إليهم الضوء فتشرق الأرض) (1)
قال آخر (2): انظر سيدي القاضي في هذا الكلام السامج بأقوال الملاحدة الذين يحاولون إدخال الشكوك في قلوب جهال المسلمين وإضاعة أعمارهم في دراسة مثل هذا الهذيان الفارغ، بل الطعن في عقائد المسلمين وعلومهم والحط من قدر علماء الشريعة الإسلامية حيث لم يعلموا المسافة بين الشمس والأرض، ومن حسن حظهم أن تحصلوا على مجموعة خاوية من الحمقى والمغفلين يثبتون لهم هذه الأطروحات على أنها حقائق، ويتعاونون معهم على الإثم والعدوان باسم الدين .. فإنا لله وإنا إليه راجعون،
قال آخر (3): وإن أرادوا أن الشمس لا تطلع والأرض مظلمة لكن عرفوا ذلك فيما يزعمون بسرعة الضوء ونحوه قلنا: كيف عرفوا ذلك وأنى لهم أن يعرفوا المسافة بسرعة الضوء في الأرض وأي ضوء وصل إلى الشمس وأضاء عليها على ذلك البعد الهائل من
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 117.
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 117.
(3) الصبح الشارق، الحجوري، ص 117.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/638)
الأرض، فأف لمن رضي بالكذب وأف للكذابين.
قال القاضي: حدثتمونا عن النموذج الأول .. فحدثونا عن الثاني.
قال أحد الشيوخ: النموذج الثاني هو تكذيبهم لكل ما أخبر الله تعالى به من خلق الأرض أولا قبل الشمس، ثم خلقها في يومين لا في ملايين السنين، وأن الله تعالى ألقى الجبال عليها، لا أنه أخرجها من باطنها، وتقدير الأقوات في الأرض التي عليها معاش العباد، لا كما يتوهمون من احتمال وجود حياة على كوكب آخر، وأن الله تعالى خلق السماء من بخار الماء الذي تصاعد على وجه الأرض، لا أنه خلق السماوات والكون كله من السديم، وأنه بعد ما فرغ من بناء الأرض وبناء السماء الذي ينكرونه أخرج من كل منهما منافعهما، فأخرج من الأرض ثمارها وأشجارها ونباتها وأنهارها، وأخرج من السماء الشمس والقمر والنجوم، لا كما يدعي خلاف ذلك الدهرية، وأن السماوات السبع خلقت في يومين خلافا لما يقوله الوثنيون بأن الأجرام السماوية نشأت في بلايين السنين، وأن خلق هذا الكون المحيط بنا إنما تم في ستة أيام فقط، لا في بلايين السنين.
قال آخر (1): ويدل على ذلك كله قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 ـ 12] أي: يومي الأحد والاثنين.
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 23.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/639)
قال آخر (1): وقوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي: قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم، فجعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم على الحبوب، وبعضهم على السمك، وبعضهم على التجارة {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي: في يومي الثلاثاء والأربعاء، فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام.
قال آخر (2): وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أي: عمد وقصد إلى خلق السماء، وهي دخان، وهو: بخار الماء، فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها .. أي: افعلا ما آمركما، أو أعطيا وأخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد، افعلا ذلك طوعا؛ وإلا أكرهتكما عليه .. فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به.
قال آخر (3): وقد قال ذلك قتادة، وعلقه البخاري في صحيحه، بصيغة الجزم، في كتاب بدء الخلق، باب: في النجوم .. فسبحان من يخبر عن خلقه وفعله فيه .. أنعرض عن خبره فيما أخبر به عن نفسه سبحانه كيف خلق هذا الكون، وكيف أوجده من عدم، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ثم نذهب إلى الجهول الظلوم الذي كان غائبا عدما فنصدقه في ترهاته وتخيلاته التي يكسوها زورا وبهتانا بثوب البحث العلمي النزيه، قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]
قال آخر (4): فإن أشكل عليك بعد ذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 ـ 30]، ففهمت منه أن الله تعالى خلق الأرض بعد خلق السماء وشمسها وقمرها؛ فنقول:
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 23.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 23.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 23.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 24.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/640)
ليس الأمر كما فهمت، فإن الله تعالى لم يقل: والأرض بعد ذلك خلقها، وإنما قال: {دحاها}، ثم فسر الدحي بعد ذلك بقوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31]، فظهر بذلك مراد الله تعالى، فلا تعارض بين الآيات.
قال آخر: ويدل لذلك قول ابن كثير بعد سرد الآيات من سورة فصلت: (فهذا يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء، لأنها كالأساس للبناء) (1)، ثم قال بعد سرد الآيات من سورة النازعات: (قد تمسك بعض الناس بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الأرض، فخالفوا صريح الآيتين المتقدمتين، ولم يفهموا هذه الآية الكريمة؛ فإن مقتضى هذه الآية: أن دحي الأرض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء، وقد كان ذلك مقدرا فيها بالقوة، كما قال تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] أي: هيأ أماكن الزرع، ومواضع العيون والأنهار، ثم لما أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي، دحى الأرض فأخرج منها ما كان مودعا فيها، فخرجت العيون، وجرت الأنهار، ونبت الزرع والثمار، ولهذا فسر الدحي بإخراج الماء والمرعى منها، وإرساء الجبال، فقال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 30 ـ 31] .. وقد اختلف أهل العلم في مقدار هذه الستة الأيام على قولين: فالجمهور على أنها كأيامنا هذه، ومنهم من قال: إن كل يوم منها كألف سنة مما تعدون) (2)
قال آخر (3): فمن ادعى بعد ذلك: أن هذا الكون خلق في بلايين السنين، أو أن الأرض خلقت في بليونين من السنين، فهو مكذب لصريح القرآن .. وقد روي حديث في تفصيل الخلق يوما يوما، خلق الله كذا يوم كذا، وخلق كذا يوم كذا، وقد أعرضت عن ذكره
__________
(1) البداية والنهاية (1/ 15)
(2) البداية والنهاية (1/ 15)
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 25.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/641)
لكونه حديثا معلولا، أعله الحفاظ مثل: ابن معين وابن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم، ولا يصح في هذا الباب حديث.
قال القاضي: حدثتمونا عن النموذج الثاني .. فحدثونا عن الثالث.
قال أحد الشيوخ (1): النموذج الثالث هو تفسيرهم لكيفية تشكل السحاب، حيث يذكرون أنه يتكون حين يرسل الله حرارة الشمس فتتبخر مياه البحار فيصعد ماء عذب لا ملوحة فيه .. وهذا باطل، لأن الأخبار الغيبية كصعود السحاب ونحوه تتوقف على ثبوت الدليل عن الله ورسوله، فإن كان عند المسلم على ما يقول فيها برهان أظهره، وإن لم يكن له ذلك لزمه الكف عما لا يعلم عليه النص الصحيح، وذلك لتحريم القول على الله بغير علم.
قال آخر: بالإضافة إلى أن هذا القول فيه تهوين لشأن القدرة الإلهية وإظهارها بالمظهر اليسير الغير لائق .. والمتأمل للأدلة من القرآن والسنة يرى فيها دفع هذا القول الموهوم، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وقال: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] .. وغيرها .. فأين في هذه الآيات أن السحاب من بخار البحر حين تضربه الشمس؟
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فإن الآيات فيها أن السحاب مسخر، وأنه نشأ من العدم، وأن الله أرسل الرياح فأثارت سحابا إما من الغبار المتصاعد من الأرض، وإما من
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 49.
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 50.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/642)
غيره مما لا نستطيع الجزم به، لعدم الدليل لدينا عن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الأمر الغيبي المسكوت عنه.
قال آخر (1): ومما يعزز ما قلناه حديث أنس بن مالك، فقد ذكر أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت (2).
قال آخر (3): هذا هو الراجح في القول .. وإن الإنسان ليزداد إيمانا حين يذعن لقدرة الله عز وجل، ويعترف بعجزه وضعفه وانحصار إدراك عقله، وعدم الخوض فيما لم يخض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكلفنا الله عز وجل بالبحث عنه.
قال آخر (4): ومثل ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]، فقد ذكروا أن السحاب ماء يطير في الهواء، فإذا كان كثيرا تكونت منه السيول العظيمة .. وليس في الآية دليل على أن السحاب أصله ماء من الأنهار أو البحار التي في الأرض، وأن هذا الماء يصعد وينزل .. وهكذا يبقى ماء الأرض يصعد ثم ينزل، وغاية ما في الآية أن الله ينزل من السماء ماء، ثم إن هذا الماء ينتفع به أهل الأرض فيكون فيها ينابيع، وتحصل منه الثمار، ونحو ذلك، ولا يعود إلى السماء، بل
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 50.
(2) صحيح البخاري (1014) ومسلم (897)
(3) الصبح الشارق، الحجوري، ص 50.
(4) الصبح الشارق، الحجوري، ص 179.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/643)
يبقى في الأرض كما هو ظاهر الآية.
قال آخر (1): وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى أن أصل الماء الذي في الأرض من السماء، كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]؛ فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار بحسب الحاجة إليها، ولهذا قال تعالى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21]، ثم ذكر جملة من الأدلة على ذلك (2).
قال آخر (3): ومثل ذلك قال سائر المفسرين .. فلم يقل أحد من مفسري السلف الصالح بما ذكرتموه؛ فهنيئا لكم تقليد المستشرقين الملاحدة الذين يطالبون بتجديد الدين فيما يزعمون فيريدون توحيدا جديدا وتفسيرا جديدا وفقها جديدا كل ذلك على غير نهج الأنبياء والمرسلين والسلف الصالح .. وتالله إن هذا لم يقله كبار المنافقين في القرون المفضلة؛ فينبغي لكل مسلم عنده محبة لدين الإسلام أن يحذر هذا الخطر الداهم ويحذر غيره منه.
قال القاضي: حدثتمونا عن النموذج الثالث .. فحدثونا عن الرابع.
قال أحد الشيوخ (4): النموذج الرابع .. ما ذكروه عن الرياح وسرعتها، وأنها لو بلغت سرعتها 200 ميل في الساعة لما أبقت شيئا على وجه الأرض إلا دمرته .. وهذا القول ينطوي على لحن شديد في التوحيد .. وهو غير صحيح لأن الريح مأمورة من الله لا يمكن أن تدمر شيئا إلا بأمر ربها تعالى، وقد وصف الله عز وجل ريح عاد بالعتو والشدة، فقال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]، ومع عتوها ذلك لم تهلك وتدمر
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 179.
(2) تفسير ابن كثير، (ج 4 ص 50 ـ 51)
(3) الصبح الشارق، الحجوري، ص 180.
(4) الصبح الشارق، الحجوري، ص 51.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/644)
إلا ما أمرها الله عز وجل بإهلاكه، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24 ـ 25] .. فالله عز وجل لم يأمر الريح أن تدمر المساكن لتبقى عبرة لمن اعتبر، فلم تدمرها.
قال آخر (1): وقد ورد في الحديث عن ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه) (2) .. فلو أن الله عز وجل أرسل الريح بهذا القدر الذي ذكر أو أكثر ولم يرد تدمير الأرض ومن فيها لحفظهم منها كما جعل النار على إبراهيم عليه السلام بردا وسلاما، وكما نجى نوحا عليه السلام ومن معه من الغرق، وأمر الماء أن يغشى من سواهم على وجه الأرض، قال الله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42 ـ 43]
قال آخر (3): وقد روي في الحديث عن جندب بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدث أن رجلا قال: (والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) (4) .. وفي حديث آخر عن أبي هريرة بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر،
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 52.
(2) أحمد ج 5 ص 189،185،182، وأبوداود (4699)
(3) الصبح الشارق، الحجوري، ص 53.
(4) الصبح الشارق، الحجوري، ص 53.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/645)
فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا، وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) (1) .. ونحن نقول لكم .. أكنتم بالله عالمين أم كنتم على ما في يديه قادرين حتى تجزموا بأمر تحت إرادة الله ومشيئته مهما اشتد وعظم؟ .. ما أجهلكم بتوحيد الله عز وجل.
قال آخر (2): ومثل ذلك ما فسروا به قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22]، حيث ذكرتم أن الرياح تحمل الماء من البحار، ثم تصعد به، ثم يعود ينزل من السماء مرة ثانية .. وهذا باطل؛ فقد قال ابن كثير في تفسيرها: (ترسل الرياح فتحمل الماء من السماء ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة، وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة، وقال الضحاك: يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء)
قال آخر: انظر سيدي القاضي .. كيف يستدل بالآية على رفع الرياح للماء من الأرض أو من البحار، ثم ينزل بعد ذلك، فهذا يعتبر هوسا ووساوس شيطانية، وليس فهما صحيحا للقرآن، ولا في الآية ما يدل على هذا الملطب النائي، ولم يفهم السلف الصالح منها هذا الفهم الشاذ.
قال القاضي: حدثتمونا عن النموذج الرابع .. فحدثونا عن الخامس.
__________
(1) أحمد ج 2 ص 363،323، وأبوداود (4901)
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 160.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/646)
قال أحد الشيوخ (1): النموذج الخامس .. ما ذكروه في قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15]، فقد قالوا: (الرواسي: الجبال، ويقول علماء طبقات الأرض: إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة في جو الأرض، وتجمد الغازات فيه) (2) .. وهذا مخالف لما دل عليه الدليل؛ فالميد هو: الميل والاضطراب، يعني: لئلا تضطرب بكم، أو كراهة أن تميد بكم (3)، وعن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد؛ فخلق الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالت: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء، قالت: يا رب! فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالت: يا رب! فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله) (4)
قال آخر (5): ومع أن هذا الحديث ضعيف (6)، إلا أنه يدل على أن الجبال ألقيت على الأرض من فوقها، وأنها لم تخرج من جوفها كما يقول هؤلاء، والآية تدل على هذا المعنى بدلالة الإشارة، فإن قوله تعالى: {وَأَلْقَى}، ففيها إشارة إلى أنه أنزلها من علو، لا أنه أخرجها من سفل.
قال آخر (7): كذلك فإن الجبال لا تنشأ بهذه الطريقة التي ذكرها، والتي تحتاج إلى آلاف أو قل ملايين السنين، وإنما خلقها الله تعالى بقدرته وبقوله: كن فيكون، فألقاها على
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 15.
(2) الظلال (5/ 2786)
(3) جامع البيان (7/ 570)
(4) الترمذي (3369) وأحمد (3/ 124)
(5) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 15.
(6) قال الترمذي: (هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسناده ضعيف؛ فإن سليمان بن أبي سليمان، مولى ابن عباس: مجهول، لم يرو عنه سوى العوام بن حوشب، انظر: التهذيب (2/ 96) الميزان (2/ 211)
(7) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 15.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/647)
الأرض، وقدر فيها أقواتها في يومين اثنين فقط، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]
قال القاضي: حدثتمونا عن النموذج الخامس .. فحدثونا عن السادس.
قال أحد الشيوخ: النموذج السادس هو ادعاؤهم أن العلم الحديث كشف (أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد، وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار الرقيقة) (1)
قال آخر: والسؤال الموجه لهم: (كيف استطاع أساتذتكم الملاحدة أن يعرفوا سمك النهار، وأنه قشرة رقيقة تشبه الجلد، فإن المعلوم يقينا أن الليل والنهار ليست له سماكة محسوسة بحاسة اللمس .. وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، فإذا ذهب الليل فقد انسلخ ودخل النهار وإذا ذهب النهار فقد انسلخ ودخل الليل وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) (2)
قال آخر (3): ثم إن المفسرين من سلفنا الصالح لم يفهموا هذا الفهم الذي فهمه أساتذتكم من اليهود والنصارى .. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]: (أي نصرفه منه فيذهب فيقبل الليل ولهذا قال تعالى: فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 159.
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 159.
(3) الصبح الشارق، الحجوري، ص 159.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/648)
قال القاضي: حدثتمونا عن النموذج السادس .. فحدثونا عن السابع.
قال أحد الشيوخ (1): النموذج السابع ما ذكروه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، فقد ذكروا أن (القرآن الكريم يخبر بتركيز الإحساس في الجلد، خلافا للمعتقد السابق من أن الإحساس من صفات الجسد بكل أجزائه، وأنه متساوي في درجة إحساسه بالأشياء، لكن علم التشريح الحديث جاء بحقيقة جديدة كان الناس جميعا يجهلونها هي أن مركز الإحساس بالألم وغيره إنما تتركز بالجلد بكمية كبيرة حتى إن الإنسان لم يشعر بألم وخزة الإبرة إذا دخلت في جسمه إلا عند دخولها في منطقة الجلد، لكن القرآن يذكر هذه الحقيقة قبل علماء التشريح في القرن العشرين)
قال آخر (2): وهذا القول غير صحيح، لأن الكسور في العظام والإعضال في الأعصاب وليس في الجلود، ومع ذلك فإن كل ذي جسم من الإنسان أو الحيوان يشعر بألم الكسور وانقلاب الأعصاب أو إعضالها، ومن كذب جرب في كسر أصبعه، أو أي عضو منه، وسيذوق شدة الألم، فهذا أمر مسلم به حتى عند الحيوانات، ولا يحتاج إلى تقرير، ولو دق رأس الإبرة في العظم لكان الألم أشد من ألمها حين اختراق الجلد، فوضح لنا أن قوله لم يشعر بألم وخز الإبرة إلا عند دخولها في منطقة الجلد وحصر الألم في الجلد غير صحيح.
قال آخر (3): أما الآية فليس فيها حصر الألم في الجلد كما تذكرون، وغاية ما فيها أن الجلود هي أول ما يباشرها العذاب قبل الروح، وأنها يوم القيامة تتضخم هي وجميع أعضاء
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 181.
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 181.
(3) الصبح الشارق، الحجوري، ص 181.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/649)
الكافر ليذوق العذاب، فقد ثبت أن ضرس الكافر يكون في جهنم مثل جبل أحد، كل ذلك التضخيم ليذوق هذا الكافر العذاب.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على شمول العذاب والألم على جميع أجزاء الإنسان من ذلك قول الله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 19 ـ 20] .. وشاهدنا من هذه الآية قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ}، فالبطون داخل الجلود ومع ذلك من شدة ألم تلك الحرارة تصهر ويذوق صاحبها من ذلك شدة العذاب.
قال آخر (2): ومثل ذلك ألم المغص وصداع الرأس والمفاصل واللوزتين والعينين والحنجرة والأذنين لا ينكر ذلك أحد .. وبذلك فإن الألم سار على أي جزء من أجزاء الإنسان الداخلية والخارجية كما في حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (3)
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت ما تعتبرونه علما للقرآن الكريم والسلف الصالح في الكثير من الحقائق الكونية .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
__________
(1) الصبح الشارق، الحجوري، ص 182.
(2) الصبح الشارق، الحجوري، ص 182.
(3) البخاري (6011، ومسلم (2586)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/650)
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول توسع الكون.
قال أحد التلاميذ: نحن نعجب لمعارضتهم الصريحة للآية القرآنية الواضحة، والتي تدل على توسع الكون، والتي أكدها العلم الحديث، بل أُعجب العلماء من غير المسلمين بها وبدقة وصفها للحقائق التي وصلوا إليها بعد بحوث طويلة.
قال آخر: ولهذا فسرها علماؤنا بحسب ظاهرها، والذي يتطابق مع ما يقوله العلم الحديث، ولهذا أُدرجت ضمن الآيات التي تتحدث عن حقائق علمية لم يسبق القرآن الكريم أحد إليها.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قاله محمد جمال الدين الفندي عنها، فقد قال: (قال الأقدمون: إن هذه الآية الكريمة ـ وهي قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]ـ تشير إلى حقيقة ما لدى الخالق من عظيم القدرة واتساع الملك رغم ما أودعه في الكون الفسيح من ألوان المادة وأجرام السماء، أي أن كلمة {موسعون} إنما تشير إلى اليسر والغنى .. وبتقدم آلات الرصد عرفت المجرات، وأقرب المجرات إلينا مجرة (المرأة المسلسلة) وهي تبعد عن مجرتنا بنحو 700 ألف سنة ضوئية، وما زالت أبعاد الكون تتسع حتى عرف الناس اليوم أن هناك نجوما هي في الواقع مجرات، تبدو لفرط بعدها عنا على هيئة نقط مضيئة هي أشباه النجوم وتبعد عنا بنحو 12 ألف مليون سنة ضوئية! .. إننا مرة أخرى نسلم بحقيقة المعنى الأول لكلمة {موسعون} كما أننا نسلم بصحة التفسير الحديث الذي سقناه، حيث إنه فعلا اتسعت أبعاد الكون المرئي أمام البشر اتساعا يكاد لا يصدقه العقل بتقدم آلات الرصد والتتبع، على أن هناك معنى آخر يشير إلى
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/651)
حقيقة أن الكون يتمدد، أي تزداد أبعاده بمرور الزمن وهذه إحدى نتائج حسابات النسبية، إلا أن الآية الكريمة إنما تضم هذه التفسيرات والحقائق العلمية السليمة كلها، ورأينا إذا كيف ساير ركب العلم ما أثاره القرآن الكريم من قضايا العلم العامة) (1)
قال آخر: وقال آخر في مقدمة تفسيره للآية الكريمة: (أهم اكتشاف في سنة 1929 كان وقعه كالقنبلة عندما نشر في الأوساط العلمية، حتى اللحظة كان الاعتقاد السائد أن المجرات تسير في حركة عشوائية تشابه حركة جزئيات الغازات بعضها في تقارب والبعض الآخر في تباعد، ولكن هذا الاكتشاف قلب ذلك الاعتقاد رأسا على عقب، لقد اكتشف هابل أن كل هذه الملايين المؤلفة من المجرات في ابتعاد مستمر عن بعضها بسرعات هائلة قد تصل في بعض الأحيان إلى كسور من سرعة الضوء، وكذلك بالنسبة لنا فكل المجرات التى نراها حولنا ـ ما عدا الأندروميدا وبعض المجرات الأخرى القريبة ـ في ابتعاد مستمر عنا. ولنا الآن أن نتساءل عن معنى هذا الاكتشاف. إذا كانت وحدات الكون كلها في ابتعاد مستمر عن بعضها فإن ذلك لا يعني إلا شيئا واحدا وهو أن الكون في تمدد حجمي أو اتساع مستمر .. وهو نفس ما يدل عليه قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]) (2)
قال آخر: وبعد أن ذكر الأدلة العلمية على صحة هذه النظرية، وكونها حقيقة علمية، قال: (قد تبدو الآن معاني الآية الكريمة قريبة إلى أذهاننا بعد توصل العلم الى حقيقة أن الكون له بداية يتسع منها ويتمدد {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] .. وهو قول لا يحتمل التأويل .. وهذا ما يحدث للكون الآن بل ومنذ بلايين السنين اتساع وتمدد مستمر ..
__________
(1) الإسلام وقوانين الوجود، ص: 58 ـ 59.
(2) آيات قرآنية في مشكاة العلم، د. يحيى المحجري، نقلا عن: الإعجاز العلمي بين الحقيقة والوهم (ص 41)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/652)
السماوات تتسع والكون يتمدد وكما لاحظنا أن هذه الحقيقة ليست قائمة على نظرية أو افتراض أو نموذج فحسب، ولكن المشاهدات قد أثبتت هذه النظرية، واتفاق التجارب التي قام بها الكثير من الفلكيون في أزمان وأماكن مختلفة قد جعلت من هذه النظرية حقيقة علمية، إذ لم يظهر حتى الآن ما قد يعارضها أو ينال من صحتها فأصبحت حقيقة اتساع الكون كحقيقة دوران الأرض حول الشمس أو كروية الأرض) (1)
قال آخر: ولهذا لم ير مفسرونا المتأخرون حرجا من تفسير الآية الكريمة بذلك .. ومن الأمثلة على ذلك قول الشيرازي في ذكر الأقوال القديمة في تفسيرها: (هناك كلام بين المفسرين في المراد من {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قبل الله على العباد بواسطة نزول الغيث، وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات، وقال بعضهم معناه غنى الله وعدم حاجته، لأن خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه) (2)
قال آخر: ثم ذكر ما دل عليه العلم الحديث، وأنه أولى الأقوال بتفسيرها، فقال: (إلا أنه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما اكتشفه العلماء من اتساع العالم عن طريق المشاهدات الحسية المؤيدة، يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافة لهذه الآية، وهو أن الله خلق السماوات ويوسعها دائما .. والعلم الحديث بين هذه المجرات تتسع أكثر من المجرات القريبة منا بسرعة) (3)
قال آخر: ثم نقل عن بعض الباحثين الغربيين في هذا قوله: (إن أحدث وأدق تقدير طول الأمواج التي تبثها النجوم يكشف الستار عن وجه حقيقة عجيبة ومحيرة أي أنها
__________
(1) آيات قرآنية في مشكاة العلم، د. يحيى المحجري، نقلا عن: الإعجاز العلمي بين الحقيقة والوهم (ص 41)
(2) الأمثل، الشيرازي: (17/ 121)
(3) الأمثل، الشيرازي: (17/ 122)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/653)
تكشف لنا أن مجموع النجوم التي يحويها العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائما، وكلما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها ازدادت سرعتها .. فكأن جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثم تفرقت عنه مجاميع كبيرة من النجوم واتجه كل منها إلى اتجاه خاص) (1)
قال آخر: وبعد أن نقل أقوالا لعلماء متخصصين تدل على هذا، قال: (وليس العلماء المذكورون آنفا يعترفون بهذه الحقيقة فحسب .. فإن هناك آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرنا نقل كلماتهم إلى الإطالة)
قال آخر: ثم بين توافق ذلك التفسير العلمي مع الدلالة اللغوية، فقال: (ومما يستجلب النظر أن التعبير بـ {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] دالة على الدوام والاستمرار، فهي جملة اسمية ذات اسم فاعل، كما أنها تدل على أن هذا الاتساع موجود دائما وكان ولا يزال، وهذا يؤيد تماما ما وصل إليه العلم الحديث أن جميع النجوم والمجرات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد (بوزن خاص له ثقل خارق) ثم انفجرت انفجارا عظيما مثيرا مرعبا، وعلى أثر ذلك تلاشت أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الاتساع والابتعاد عن المركز) (2)
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول كون الأرض خلقت قبل السماء.
قال أحد التلاميذ: هذا ناتج عن سوء فهمهم للآية الكريمة .. أو نتيجة تفسيرها بتلك الروايات الإسرائيلية الكاذبة .. وإلا فإننا عندما نقرؤها مع غيرها من الآيات القرآنية نجد معناها مختلفا تماما.
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (17/ 122)
(2) الأمثل، الشيرازي: (17/ 123)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/654)
قال آخر: لذلك، عندما نرجع للقرآن الكريم نجد أن الآيات الكريمة التي تحدثت عن خلق السموات والأرض يأتي ذكر السموات ثم الأرض غالباً؛ فالله تعالى يقول: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6]، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7]، ويقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] .. حتى عندما يتحدث عن بداية خلق السموات والأرض نجد القاعدة ذاتها تتكرر، كما قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]، ويقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، ويقول: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 11]
قال آخر: إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4]، فقد ذكرت الأرض قبل السماء، ولكن واو العطف هنا لا تدل على الترتيب أو التسلسل، على عكس كلمة (ثم) التي تدل على الترتيب والتسلسل.
قال آخر: أما الآيات في سورة فصلت، فقد ذكرت خلق الأرض في قوله تعالى في الحديث عن خلق الأرض: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 ـ 10]، ثم قوله بعدها: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، والذي يدقق النظر يجد أن الآية الأخيرة لا تتحدث عن خلق السماء، بل عن الحالة الدخانية للسماء، أي أن السماء موجودة أصلاً أثناء فترة خلق الأرض، ولكنها كانت في الحالة الدخانية، وهذا نفس ما يقوله العلماء المعاصرون.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/655)
قال آخر (1): فالعلم يؤكد أن الكون ظل لفترة طويلة في حالة من الغاز والغبار والدخان .. وأثناء هذه الحالة تشكلت الأرض، هذا بالضبط ما جاء في القرآن الكريم {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، حيث أن الله تعالى ذكر أن الأرض خلقت بينما كانت السماء دخاناً، أي أن السماء خلقت قبل الأرض وليس العكس.
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول تشكل السحاب.
قال أحد التلاميذ: نحن نتأسف شديدا لتلك الفهوم الدالة على الجهل المطبق، لا بالعلوم فقط، وإنما بما ذكره القرآن الكريم منها، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه.
قال آخر: ولهذا؛ فإن علماءنا الذين استمعوا للتعاليم القرآنية الحاضة على طلب العلم، لم يروا أي تعارض بين تلك الآيات الكريمة، وما ذكره العلم عنها .. بل إنهم ازدادوا إيمانا لما رأوه فيها من دلائل الإعجاز.
قال آخر: وقد قال بعضهم يذكر ذلك، عند تفسير لقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22]: (قال الأقدمون في ظل ما كان متوفرا لديهم من حقائق العلم أن {لَواقِحَ} هنا إنما تشير إلى تلقيح الرياح لبعض النباتات لكي تثمر أو يوجد الثمر، وهذه حقيقة قائمة لم تتغير لأن الرياح كانت ولا زالت وسوف تستمر في تلقيح بعض النباتات لتوجد الثمر، وفي ظل الآفاق الواسعة التي فتحها أمامنا عصر العلم اتضح للعلماء وثبت لديهم أن الرياح هي التي تثير السحاب
__________
(1) موقع الإعجاز العلمي في القرآن عبد الدائم الكحيل.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/656)
وتكونه، مصدقا لبيانه تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48])
قال آخر: ثم ذكر الإعجاز القرآني المرتبط بهذا، فقال: (والقرآن الكريم هو أول كتاب على الإطلاق قرر تلك الحقيقة العلمية، وفي ظل تلك القضايا العلمية الهامة يستمر القرآن الكريم؛ فيفرق بين السحاب الذي يمطر والسحاب الذي لا يمطر معلنا في إعجاز علمي أخّاذ أن نزول المطر إنما يتم عن طريق تلقيح الرياح للسحاب، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] .. وقد ثبت علميا أن السحب لكي تمطر يجب أن تستمر الرياح وتدأب على تلقيحها أو إمدادها بجسيمات عناصر المطر وهي بخار الماء ونوى التكاثف وبخار الماء عبارة عن جزئيات منفصلة من الماء، تحملها الرياح من أسطح البحار والمحيطات وتصعد بها إلى مناطق إثارة السحب لكي تتجمع من جديد على جسيمات صغيرة أخرى تذروها الرياح وتعرف باسم (نوى التكاثف) .. وهذا التفسير الجديد إنما يربط بين أجزاء الآية الكريمة ويجعلها واضحة المعنى، حيث تكون الفاء في قوله: {فَأَنْزَلْنا} هي فاء السببية، أي نجم عن هذا التلقيح إخصاب السحاب، ومن ثم نزول الماء العذب وهو المطر) (1)
قال آخر: وقبله قال القاسمي في بيان دور القرآن الكريم في تصحيح المفاهيم المرتبطة بالسحاب ـ نقلا عن بعض المتخصصين في عصره ـ: (كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتي ماء المطر، ولهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات .. ولكن القرآن الشريف تنزّه عن الجهل والخطأ فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
__________
(1) الإسلام وقوانين الوجود، ص: 56.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/657)
يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21] ومقتضى الآيتين: أنّ الماء العذب الذي نشربه ونسقي به الأرض ـ سواء كان من الينابيع أو من الأنهار ـ هو من الأمطار الناشئة من السحاب، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من بحار هذه الأرض، أي: أنّ السحاب هو من الأرض، وهو عين قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31]، أي: أن الماء جميعه أصله من الأرض وإن شوهد أنه ينزل من السحاب) (1)
قال آخر: ثم عقب على هذا وغيره بقوله: (فهذه كلها آيات بيّنات، ومعجزات باهرات، دالّة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة القرآن) (2)
قال آخر: ثم ذكر سر تعبير القرآن الكريم عن الحقائق بذلك الأسلوب الذي لا يصدم المعاصرين له، وفي نفس الوقت يستفيد منه غيرهم، فقال: (ومن عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية، التي كانت جميع الأمم تجهلها، بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به، في أيّ زمن كان، مهما كانت معلوماته .. فالناس قديما فهموا أمثال هذه الآية بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء، علمنا أنهم كانوا واهمين، وفهمنا معناها الصحيح؛ فكأنّ هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين، تظهر لهم كلما تقدّمت علومهم .. وأمّا المعاصرون للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمعجزته لهم: إتيانه بأخبار الأوّلين، وبالشرائع التي أتى بها، وبالمغيّبات التي تحقّقت في
__________
(1) القاسمي، محاسن التأويل (1/ 212)
(2) القاسمي، محاسن التأويل (1/ 213)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/658)
زمنه .. وغير ذلك، مع علمهم بصدقه وحاله، وبعده عن العلم، والتعلم بالمشاهدة والعيان؛ فآيات القرآن ـ بالنسبة لهم ـ بعضها معناه صريح لا يقبل التأويل، وفيها بيان كلّ شيء مما يحتاجون إليه، والبعض الآخر يقبل التأويل، وتتشابه عليهم معانيه لنقص علومهم) (1)
قال آخر: وبهذا يتبين أن ما قام به شيوخنا الأفاضل من الرجوع للسلف في تفسير الآيات الكريمة، لا يعود خطؤه للسلف، بقدر ما يعود لهم، لأن السلف فسروها بحسب ما كان لديهم من المعارف، لا بحسب المعنى المراد من الآيات الكريمة، وقد قال القاسمي في ذلك: (وهذا القسم لا يهمهم كثيرا ـ أي السلف ـ فإنه خاصّ بعلوم لم يكونوا وصلوا إليها، وهو معجزات للمتأخرين يشاهدونها، وتتجلّى لهم كلما تقدّموا في العلم الصحيح، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، أي: لها معان كثيرة يشبه بعضها بعضا، وتتشابه عليهم في ذلك الزمن، فلا يمكنهم الجزم بالصحيح منها: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} بتشكيك الناس في دينهم بسببه {وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} في زمنهم لنقص علمهم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، فإذا جعل قوله تعالى {وَالرَّاسِخُونَ} معطوفا على لفظ الجلالة كان المعنى: أنّ تأويله لا يعلمه أحد في جميع الأزمنة إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه، وإذا كان لفظ {وَالرَّاسِخُونَ} مستأنفا كان المعنى: أنّ الراسخين في العلم في زمنهم لا يعلمون تأويله ـ كما قلنا ـ وإنما يؤمنون به لظهور الدلائل الأخرى لهم على صدق النبيّ، ويفوّضون علم هذه الأشياء إلى المستقبل من الزمان، كما نفوض الآن نحن، مسألة رجم الشياطين بالشهب، للمستقبل ونؤمن بالقرآن لثبوت
__________
(1) القاسمي، محاسن التأويل (1/ 213)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/659)
صدقه بالدلائل الأخرى القطعية) (1)
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول الرياح وتشكلها وأدوارها.
قال أحد التلاميذ: نحن نتأسف شديدا لتلك الفهوم الدالة على الجهل المطبق، لا بالعلوم فقط، وإنما بما ذكره القرآن الكريم منها، ذلك أن ما ذكروه من فهوم ليس مقبولا لا في عصرنا هذا فقط، بل حتى في العصور السابقة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أن أبا حامد الغزالي وضع في كتابه [الحكمة في مخلوقات الله] فصلا خاصا بعنوان [باب الحكمة في خلق الهواء]، استهله بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22]
قال آخر: ومما جاء فيه قوله معبرا عن فوائد الرياح بحسب ما وصلت إليه العلوم في عصره: (اعلم رحمك الله أن الهواء في خلقه تتخلخله الرياح ولو لا ذلك لهلك جميع حيوان البر، وباستنشاقه تعتدل الحرارة في أجسام جميع الحيوانات لأنه لهم مثل الماء لحيوان البحر، فلو انقطع عن الحيوان استنشاقه انصرفت الحرارة التي فيها إلى قلبها فكان هلاكها بسبب ذلك .. ثم انظر إلى الحكمة في سوق السحاب به فيقطع المطر بانتقال السحاب في موضع يحتاج إلى المطر فيها للزراعة، فلو لا لطف الباري بخلق الرياح لثقلت السحاب وبقيت راكدة في أماكنها وامتنع انتفاع الأرض بها .. ثم انظر كيف تسير السفن بها وتنتقل بحدوثها وهبوبها فتحمل فيها من أقاليم إلى أقاليم مما لا يخلق تلك الأشياء فيها فينتفع أهلها، فلولا تنقلها بالهواء لم تكن تلك الأشياء إلا بمواضعها التي خلقت فيها خاصة،
__________
(1) القاسمي، محاسن التأويل (1/ 213)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/660)
ولعسر نقلها بالدواب إلى غيرها من الأقاليم، وللعباد ضرورات تدعو إلى ما ينقل إليهم مما ليس يخلق عندهم، ومنافع يكثر تعدادها من طلب أرباح لمن يجلها ويعلم فوائدها) (1)
قال آخر: ثم ذكر خصائص الهواء، ودورها في أداء الوظائف الخاصة بها: (ثم انظر إلى ما في الهواء من اللطافة والحركة التي تتخلل أجزاء العالم فينقي بحركته عفن الأرض، فلولاه لعفنت المساكن وهلك الحيوان بالوباء والعلل .. ثم انظر إلى ما يحصل منه من النفع في نقل السوافي والرمال إلى البساتين وتقوية أشجارها بما ينتقل إليها من التراب بسبب حركة الهواء وتستر وجوه جبال بالسافي فيمكن الزراعة فيه وما فصل إلى السواحل مما ينتفع الناس بسببه، وكل ذلك بحركة البحر بالهواء فيقذف البحر العنبر وغيره مما ينتفع به العباد في أمورهم .. ثم انظر كيف يتفرق المطر بسبب حركة الهواء فيقع على الأرض قطرات، فلولا حركة الهواء لكان الماء عند نزوله ينزل انصبابة واحدة فيهلك ما يقع عليه، ثم يجتمع بلل القطرات فيجتمع أنهارا وبحارا على وجه الأرض من غير تضرر ويحصل بذلك مقصودهم على أحسن وجه .. فانظر إلى أثر رحمة الله، فسبحان اللطيف بخلقه المدبر لملكه) (2)
قال آخر: وكما أن الغزالي استفاد في وصف الرياح ومنافعها وتفسير القرآن الكريم من خلال ذلك من العلوم التي كانت متاحة في عصره، فهكذا فعل المتأخرون، والذين فتحت لهم من العلوم في هذا المجال ما لم يفتح لمتقدميهم.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما فسر به الشيرازي قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46]، فقد قال: (بالرغم من أن آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها، إلا أنه لا يمكن تحديد كلمة {مبشرات} في هذا المضمون فحسب، لأن الرياح تصحب بشائر أخر أيضا .. فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة
__________
(1) مجموعة رسائل الإمام الغزالي (ص 16)
(2) مجموعة رسائل الإمام الغزالي (ص 16)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/661)
إلى الاعتدال .. والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء .. والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس .. كما أن الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضا) (1)
قال آخر: ثم ذكر من فوائدها أنها (تؤدي وظيفة أخرى، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للاناث .. والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر .. والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء، كأنها فلاح مشفق، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يبابا .. والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة .. وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة (الماكنات) مكان الرياح، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها .. سرعة وبطأ!) (2)
قال آخر: ثم بين أن هذه المعاني جميعا تدخل ضمن التبشير الذي أخبر به الله تعالى عن دور الرياح، فقال: (أجل، إن الرياح مبشرات من جهات شتى .. ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46] .. أجل، إن الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضا، وأخيرا فهي سبب للازدهار التجاري .. وقد أشير إلى الموضوع الأول بجملة {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم: 46] وإلى الثاني بجملة {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 46] وللثالث بجملة {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12] والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة، الحركة في ذرات الهواء في
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (12/ 557)
(2) الأمثل، الشيرازي: (12/ 558)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/662)
الفضاء الجوي) (1)
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول تشكل الجبال.
قال أحد التلاميذ: من العجيب أن نسمع مثل هذا الكلام المعارض للقرآن الكريم والعلم في نفس الوقت الذي نجد فيه المختصين يقفون منبهرين من ذكر القرآن الكريم لتلك الحقيقة العظيمة التي لم يكن من الممكن تصورها.
قال آخر (2): فالآيات الكريمة واضحة في وصف تشكل الجبال ودورها، وأنها بضخامتها الهائلة ليست إلا بمثابة أوتاد دقت أو غرزت في الأرض .. ذلك أن الوتد ليس سوى قطعة صغيرة من الخشب تُدق في الأرض لترسو في مكانها ثابتة لا تتزحزح من أجل أن تثبت سقف الخيمة بالحبال فلا يقع على الأرض أو من أجل أن تربط الدابة في مكانها فلا تتوه وتضيع من أصحابها.
قال آخر (3): ولذلك؛ فإن أول ما يلفت نظرنا عندما نتأمل هذه الصورة الفنية المدهشة في بساطتها والمذهلة في أعماقها العلمية التشابه الشكلي بين الجبل والوتد، فإذا كانت الجبال أوتادا فلا بد إذن أن تكون لها أجزاء عميقة مختفية في باطن الأرض لا ترى على سطحها، لأن الوتد يختفي نصفه على الأقل عندما نقول بتثبيته في الأرض.
قال آخر (4): والإعجاز هنا في أن الجبل يشبه فعلا الوتد، إذ إن له عمقا كبيرا في باطن الأرض يكون بمثابة الأساس الذي يوضع للبناء تحت سطح الأرض، وهذه حقيقة علمية
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (12/ 558)
(2) القرآن معجزة كل العصور (ص 110)
(3) القرآن معجزة كل العصور (ص 110)
(4) القرآن معجزة كل العصور (ص 111)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/663)
لم تكتشف بواسطة علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) إلا في القرن العشرين .. فأنى لبشر مخلوق عاش في مطلع القرن السابع أن يشير إلى هذا ويتكلم به بكل هذه الثقة، بل وفي سياق عام يستخدم فيه أسلوبا بلاغيا هو التشبيه، فهو لا يقصد أن يقدم درسا علميا مقصودا في علم الجيولوجيا، بل يسوق الحقيقة العلمية عرضا في نطاق التدليل على كمال رعاية الله سبحانه وتعالي لمخلوقاته وحسن عنايته بهم.
قال آخر (1): وهكذا .. فإن العلم الحديث أثبت وبالأدلة القطعية الكثيرة كل ما ذكره القرآن الكريم بشأن الجبال .. فهي هامة جدا لاستمرار الحياة على سطح الأرض، بل لا يمكن تصور نشأة الحياة واستمرار الكائنات الحية بدون الجبال التي تحفظ القشرة الأرضية ثابتة لا تهتز أثناء الحركة الدائمة المستمرة للأرض في دورانها حول نفسها في كل يوم وحول الشمس مرة كل عام وفي نطاق الحركة الشاملة الناتجة من تمدد الكون، والتي تأخذ كل شيء في طريقها المرسوم.
قال آخر (2): لذلك عندما فصل الله لنا قصة خلق السماوات والأرض، ذكر الجبال كأول شي ء ظهر علي ظهر الأرض وأسماها كما في كثير من الآيات الأخرى (رواسي) إيضاحا لوظيفتها وطريقة تكوينها، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 10]
قال آخر (3): و معنى هذا أن فصل الأرض عن السماء وإعطائها كيانا خاصا قد استغرق يومين، أي حقبتين من أحقاب الخلق، حيث عرفنا من القرآن الكريم أن الأرض
__________
(1) القرآن معجزة كل العصور (ص 111)
(2) القرآن معجزة كل العصور (ص 111)
(3) القرآن معجزة كل العصور (ص 111)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/664)
كانت ملتصقة بالسماوات، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]، و {رتقا} تعني الالتصاق فهما كانتا ملتصقتين أو ملتحمتين، و {فتقناهما} تعني فصلناهما عن بعضهما أي فككنا الالتحام الذي كان يربطهما في كتلة واحدة .. و جعل فيها رواسي من فوقها .. وأنزل في الأرض الجبال التي كانت بمثابة ثوابت وضعت فيها، وهذه الثوابت جاءتها من فوقها يعني من جهة السماء التي تحيط بالأرض والتي فصلت عنها بالفتق.
قال آخر: وبهذه المعاني التي كشفها العلم الحديث فسرها جميع علمائنا الذين لا يرون حرجا في تفسير القرآن الكريم على ضوء العلم القطعي، ما دامت الألفاظ والتراكيب محتملة لذلك.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك تفسير الشيرازي لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق: 7]، حيث قال: (عبر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء، ولعل المراد بـ (إلقاء) هنا بمعنى (إيجاد) لأن الجبال هي الارتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي، أو من المواد البركانية .. ومن بديع خلق الجبال إضافة إلى كونها أوتادا لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي، فإنها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوة العواصف، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون) (1)
قال آخر: ثم أشار إلى سر الألفاظ المستخدمة في وصف الجبال، فقال: (واستعمال كلمة (رواسي) جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ، إشارة لطيفة لما ذكرناه؛ فهي ثابتة بنفسها، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإنسانية عليها) (2)
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (8/ 50)
(2) الأمثل، الشيرازي: (8/ 50)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/665)
قال آخر: ومثله سيد قطب، فقد قال في تفسير قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7]: (تشكل الجبال آية ربانية زاخرة بالعطاء، وتؤدي وظائف كثيرة، منها أنها تحفظ القشرة الأرضية من الانهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها، وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض .. وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر .. وتشكل جدران الجبال سدا منيعا للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة .. وتهيئ للإنسان الملاجيء الهادئة في مغاراتها وبين تعرجاتها لتأمنه من ضربات العواصف المهلكة .. وتقوم بخزن المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها .. بالإضافة لكل ما ذكر، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر ايجابيا على الحياة فوق الأرض .. وفي هذا المجال، يقول العلماء: لو كان سطح الكرة الأرضية مستويا كله، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان، لأن استمرار الإحتكاك) (1)
قال آخر: وذكر السر في وصف الجبال بكونها أوتادا، فقال: (وجعل الجبال أوتادا .. يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها. أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها .. وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال .. وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية .. وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد .. وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم.
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/ 3804)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/666)
ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين!) (1)
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول الليل والنهار.
قال أحد التلاميذ: نحن نعجب من استناد شيوخنا الأفاضل في تفسير الآيات الكريمة إلى سلفهم؛ فأنى لسلفهم أن يعرفوا التفاصيل المرتبطة بذلك؟
قال آخر: إن هذا يدل على أنهم لم يستوعبوا جيدا قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]، فليست كل حقائق القرآن الكريم مكشوفة في تلك العصور .. بل إن الله تعالى بفضله ورحمته وحكمته البالغة يجعل لكل أهل عصر حظا من ذلك.
قال آخر: ولذلك، فإنه كما عاد السلف لمعارف عصرهم، وفسروا على ضوئها القرآن الكريم، فإن العقل والحكمة تدعونا إلى الرجوع إلى معارف عصرنا، وهي أدق وأحكم، ذلك أنها لم تعد مجرد ظنون وتخمينات، بل هي حقائق قطعية دلت عليها كل الأدلة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول الشيرازي في تفسير قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]: ({نسلخ} من مادة (سلخ) وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان، والتعبير في الآية تعبير لطيف، فكأن نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل، ينزع عنه إذا حل الغروب ليبدو لونه الذاتي، والتأمل في هذا التعبير يوضح هذه الحقيقة، وهي أن الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية، وأن النور والإضاءة صفة عارضة عليها تأتيها من مصدر آخر، فهو كاللباس الذي يرتدى، وحينما يخلع ذلك الثوب،
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/ 3804)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/667)
يظهر اللون الطبيعي للبدن) (1)
قال آخر: ومثله قال سيد قطب في تفسيرها: (مشهد قدوم الليل، والنور يختفي والظلمة تغشى .. مشهد مكرور يراه الناس في كل بقعة في خلال أربع وعشرين ساعة ـ فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب ـ وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعو إلى التأمل والتفكير .. والتعبير القرآني عن هذه الظاهرة ـ في هذا الموضع ـ تعبير فريد. فهو يصور النهار متلبسا بالليل ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون .. ولعلنا ندرك شيئا من سر هذا التعبير الفريد حين نتصور الأمر على حقيقته؛ فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس تمر كل نقطة منها بالشمس فإذا هذه النقطة نهار حتى إذا دارت الأرض وانزوت تلك النقطة عن الشمس، انسلخ منها النهار ولفها الظلام ـ وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام. فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير) (2)
قال القاضي: فما تقولون فيما ذكره شيوخنا الأفاضل حول معارضة القرآن الكريم لما ذكره العلم حول الجلد وعلاقته بالألم.
قال أحد التلاميذ: إن ما ذكره القرآن الكريم هو نفس ما ذكره العلم الحديث، وبصورة قطعية لا شك .. فقد أثبت العلم حديثا أن بالجلد مستقبلات الحرارة والآلام فالأعصاب المنتشرة في طبقات الجلد هي أكثر الأعصاب حساسية لمختلف المؤثرات من حرارة وبرودة .. و هذه الأعصاب التي تشعر بالألم وتجعل الإنسان يحس به، وينتقل هذا
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (14/ 183)
(2) في ظلال القرآن: (5/ 2968)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/668)
الإحساس إلي المخ .. ولهذا يذكر الله تعالى أنه كلما أراد أن يذيق الكفار العذاب بدل جلودهم التي احترقت وماتت فيها أعصاب الإحساس بجلود سليمة لم تحترق ليذوقوا العذاب مرات ومرات .. والأعضاء الداخلية بالجسم لا توجد بها مستقبلات الحرارة (1).
قال آخر: وهكذا فسرها علماؤنا الذين لا يرون حرجا في الرجوع لمكتشفات العلم للتعرف على الحقائق القرآنية .. ومنهم الشيرازي الذي قال في تفسيرها: (علة تبديل الجلود ـ على الظاهر ـ هي أنه عندما تنضج الجلود يخف الإحساس بالألم لدى الإنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس الإنسان بالألم إحساسا كاملا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة، وما هذا إلا نتيجة الإصرار على تجاهل الأوامر الإلهية، ومخالفة الحق والعدل، والإعراض عن طاعة الله) (2)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من إجابتهم لما طرحه الشيوخ حول نفي التعارض بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم، قال القاضي للشيوخ: حدثتمونا عن الأمر الثاني .. فحدثونا عن الثالث.
قال أحد الشيوخ: الأمر الثالث هو أخطر الأمور .. وهو وقوع هؤلاء القبوريين المعطلة الغلاة في مواجهة القرآن الكريم والسلف الصالح في أخطر مسألة علمية تهدد العقيدة، وهي مسألة دوران الأرض حول الشمس.
قال آخر (3): وأول لوازم القول بهذا أنه يترتب عليها نفي علوه تعالى على خلقه؛ فإن
__________
(1) الاعجاز الطبي في القران الكريم (ص 29)
(2) الأمثل، الشيرازي: (3/ 276)
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 13.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/669)
القول بفضاء ليس له نهاية، يلزم منه نفي وجود السماوات السبع المبنية المحيطة بهذا الكون المخلوق .. ونفي الكرسي الذي هو فوقها .. ونفي العرش الذي هو فوق الكرسي .. ونفي علو الله تعالى على خلقه .. ونفي وجود الملائكة، والذين يعمرون هذه السماوات .. ونفي وجود الجنة، فإنها فوق السماء السابعة.
قال آخر: ولهذا اهتم علماؤنا بالرد على هذه النظرية الخطرية، وألفوا في ذلك الكتب والرسائل.
قال آخر: وأول من رد عليها قبل ظهورها وانتشارها شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أعطانا صورة للكون تغنينا عن كل ما ذكروه .. ومما قاله في ذلك: (إن الأفلاك مستديرة كرية الشكل، وإن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهي المحدب، وإن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان: العلو والسفل فقط، وأما الجهات الست فهي للحيوان .. لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو، والمركز هو السفل) (1)
قال آخر: وقال أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين، في رسالة في إثبات الاستواء والفوقية: (فصل: في تقريب مسألة الفوقية من الأفهام بمعنى من علم الهيئة لمن عرفه: لا ريب أن أهل هذا العلم حكموا بما اقتضته الهندسة، وحكمها صحيح؛ لأنه ببرهان لا يكابر الحس فيه؛ بأن الأرض في جوف العالم العلوي، وأن كرة الأرض في وسط السماء كبطيخة في جوف بطيخة، والسماء محيطة بها من جميع جوانبها، وأن سفل العالم هو جوف كرة الأرض، وهو المركز، ونحن نقول: جوف الأرض السابعة، وهم لا يذكرون: السابعة، لأن الله تعالى أخبرنا عن ذلك، وهم لا يعرفون ذلك، وهذه القاعدة عندهم هي ضرورية لا يكابر الحس فيها: أن المركز هو جوف كرة الأرض، وهو منتهى
__________
(1) الرسالة العرشية (6/ 545 ـ 601) ضمن مجموع الفتاوى.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/670)
السفل والتحت، وما دونه لا يسمى تحتا، بل لا يكون تحتا، ويكون فوقا، بحيث لو فرضنا خرق المركز وهو سفل العالم إلى تلك الجهة لكان الخرق إلى جهة فوق، ولو نفذ الخرق جهة السماء من تلك الجهة الأخرى لصعد إلى جهة فوق) (1)
قال آخر (2): أما المتأخرون والمعاصرون، فقد كتبوا في ذلك الكثير .. وأهمها ما كتبه العلامة حمود بن عبدالله التويجري حولها، وهو كتابه الموسوم بـ[الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة] في الرد على من زعم أن الأرض تدور، وأن الشمس لا تجري، في الرد على محمد محمود الصواف، الذي نشر بعض المقالات يعارض فيها ما قرره الشيخ الفاضل عبدالعزيز بن عبدالله بن باز من جريان الشمس وسكون الأرض وثباتها .. وما قاله الشيخ عبدالعزيز بن باز هو الحق والصواب، وما قاله الصواف هو الباطل والضلال البعيد، وليس تعقب الصواف مقصوراً على الشيخ عبدالعزيز بن باز فحسب، بل هو والعياذ بالله معارضة للآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة الدالة على جريان الشمس وعدم استقرارها.
قال القاضي: فهلا ذكرتم لنا الأدلة التي تقطع ألسنة هؤلاء الجهلة.
قال أحد الشيوخ: سنذكر لكم أربعة أدلة منها .. وهي كافية لكل عاقل مؤمن بالقرآن الكريم.
قال القاضي: فحدثونا عن الدليل الأول.
قال أحد الشيوخ: الدليل الأول، هو الآيات القرآنية الكثيرة التي ترد عليها، حيث أنها تعتبر الأرض مستقرة ثابتة، لا تتحرك كما ذكروا .. وفوق ذلك ورد في القرآن الكريم ما يدل على دوران الشمس حولها.
__________
(1) مطبوع ضمن الرسائل المنيرية (1/ 186)
(2) الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 3.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/671)
قال آخر: وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} [الرعد: 3]: (والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب: القول بوقوف الأرض وسكونها ومدها، وأن حركتها إنما تكون في العادة بزلزلة تصيبها) (1)
قال آخر (2): وقد بحثنا كثيرا في هذا .. وقد لاحظنا بعد استقراء الآيات الكثيرة أن الله لم يقرن الأرض في القرآن كله من أوله إلى آخره في حال ذكرها مقرونة مع غيرها إلا مع السماوات، وأما الشمس لم يذكرها مقرونة إلا مع القمر والنجوم الأخرى، وهذا له دلالة على أن الثابت يذكر مقرونا مع الثابت، والمتحرك يذكر مقرونا مع المتحرك، بل حتى لو جاء ذكر تلك الأجرام مقرونة فإن الله تعالى يذكر أولا السماوات والأرض بعدها، ثم يذكر الشمس والقمر والنجوم بعد ذلك فلم يأت قط في القرآن أن الشمس ذكرت مقرونة مع السماوات في آية، أو أن الشمس تذكر بعد السماوات في حال ذكر الأجرام الكونية معها، ثم تذكر الأرض مع القمر والنجوم، وهذا يدل على أن الثوابت تذكر مع بعضها وهي السماوات والأرض، وأن المتحركة تذكر مع بعضها وهي الشمس والقمر والنجوم وهذه الحقيقة واضحة لكل من تدبر آيات القرآن.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فإن القول بأن الأرض ما هي إلا هباءة هائمة سابحة في فضاء مطلق لا نهاية له، تدور فيه حول نفسها، وحول الشمس، والتي بدورها تدور بمجموعتها حول مركز المجرة، أو متجهة نحو برج الجبار المزعوم، يستلزم عدم وجود علو ثابت مطلق، أو سفل ثابت مطلق، وهذا عكس ما يقرره قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (9/ 239)
(2) جريان الشمس والقمر وسكون الأرض، الغيص، 1/ 2.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 21.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/672)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 7 ـ 10] .. وقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 ـ 28] .. وقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] .. وقوله: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] .. وقوله: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] .. وغيرها من الآيات الدالة على رفع السماء رفعا مطلقا، والدالة على العلو المطلق.
قال آخر (1): والدالة على أن الأرض موضوعة سافلة سفلا مطلقا، فالله تعالى رفع السماء ووضع الأرض، وجعل كرسيه فوق السماء السابعة، والعرش فوق ذلك كله، وهو تعالى عال على جميع خلقه، مستو على عرشه، فأعلى ما في الكون من المخلوقات هو العرش، وأسفل شيء في الكون هو مركز الأرض، وهو الأرض السابعة.
قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فإنه يلزم من هذه النظرية القول بأن الشمس هي المركز بالنسبة للأرض، وذلك مخالف لقوله تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2]، وقد قال البغوي في تفسيره لها: (أي تناثرت من السماء وتساقطت على الأرض) (3)، مما يعني أن الساقط من السماء إنما يسقط على الأرض، ولو كانت الشمس هي المركز لتساقطت عليها، أو تناثرت في فضائهم الهائل المزعوم.
قال آخر (4): ويدل لذلك أيضا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]، فلو لم تكن السماء جرما مبنيا لما قيل لها ذلك، من الإمساك والوقوع، فالفضاء المطلق لا يمسك ولا يقع، ولو قدر وقوع السماء المبنية لوقعت على الأرض، مما يدل على أنها هي المركز.
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 21.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
(3) تفسير البغوي (4/ 451)
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/673)
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك، فإنه يلزم من هذه النظرية الباطلة القول بأن الأرض كوكب مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية، حيث إن الجميع قد انفصل عن الشمس أمهم، فتشابهوا في التركيب الجيولوجي، وعناصر التربة، وغير ذلك، وهذا من أبطل الباطل .. ذلك أن الأرض خلقت أولا، لأنها كالأساس، والأصل أن يبدأ بالأساس، ثم بعده بالسقف، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، كما قاله ابن كثير (2).
قال آخر (3): ومنها أن الله تعالى خص الأرض دون غيرها بتهيئتها، وإرساء الجبال عليها لتثبتها، ولئلا تميد بأهلها، وبتقدير الأقوات فيها، وخلق البحار والأنهار والأشجار فيها، وقسم أرزاق العباد فيها، وجعلها صالحة لمعاش العباد، واستقرارهم عليها ليعبدوه سبحانه، قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]، وليس لغير الأرض من ذلك شيء،
قال آخر (4): فما أصبرهم على النار! لطول سعيهم، وإنفاق أموالهم، في البحث عن مكان صالح للحياة غير الأرض، يفرون إليه إذا قامت الساعة هربا من الله وعقابه وأليم عذابه، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]
قال آخر: ومن الآيات الصريحة في نفي دوران الأرض قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، وقد قال ابن مسعود: (كفى بها زوالا أن تدور) (5) .. وقال ابن كثير في
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 27.
(2) تفسير ابن كثير (4/ 94)
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 27.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 27.
(5) جامع البيان لابن جرير (22/ 145، المحرر الوجيز (4/ 442)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/674)
تفسيرها: (أي: أن تضطربا عن أماكنهما، كما قال تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه}، وقال تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره}) (1)
قال آخر (2): فهذه الآية حجة ظاهرة على ثبات الأرض؛ إذ لو كانت تدور حول الشمس ـ كما يزعمون ـ لكانت دائمة الزوال من مكان إلى مكان.
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] .. قال ابن مسعود: (قامتا على غير عمد بأمره) (3) .. وقال ابن عطية: (معناه: تثبت) (4) .. وقال ابن كثير: (أي: هي قائمة ثابتة بأمره لها، وتسخيره إياها) (5) .. وقال ابن منظور: (ويجيء القيام بمعنى: الوقوف والثبات، يقال للماشي: قف لي، أي: تحبس مكانك حتى آتيك، وكذلك: قم لي، بمعنى: قف لي، وعليه فسروا قوله سبحانه: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20]} قال أهل اللغة والتفسير: قاموا هنا بمعنى: وقفوا وثبتوا في مكانهم غير متقدمين ولا متأخرين) (6)
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]، وقد قال ابن كثير في تفسيرها: (أي قارة ساكنة ثابتة، لا تميد، ولا تتحرك بأهلها، ولا ترجف بهم، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهادا بساطا ثابتة، لا تتزلزل ولا تتحرك) (7) .. وقال القرطبي في تفسيرها: ({وجعل لها رواسي} يعني: جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة) (8) .. والقرار معناه في لغة العرب: الثبات
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 562)
(2) تفسير ابن كثير (3/ 562)
(3) تفسير البغوي (3/ 481)
(4) المحرر الوجيز (4/ 334)
(5) تفسيره (3/ 431)
(6) لسان العرب (12/ 497)
(7) ابن كثير (3/ 371)
(8) القرطبي (13/ 222)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/675)
والسكون (1).
قال آخر (2): ومنها قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15]، وما كان في معناها من الآيات الكثيرة: أي: أن الله تعالى ألقى الجبال على ظهر الأرض لتكون أوتادا لها ورواسي، أي ثوابت، لئلا تميد الأرض بأهلها، والميد: الحركة، والميل، والاضطراب، والزلزلة، والتكفؤ، والدوران.
قال آخر: وبهذا فسرها القرطبي، فقد قال في تفسيره لها: ({وجعلنا في الأرض رواسي} أي: جبالا ثوابت، {أن تميد بهم} أي: لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها .. والميد: التحرك والدوران، يقال: ماد رأسه، أي: دار) (3)
قال آخر: وقال ابن القيم: (ثم تأمل خلق الأرض على ما هي عليه، حين خلقها واقفة ساكنة؛ لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحاتهم، والنوم لهدوهم، والتمكن من أعمالهم .. ) (4) ثم استشهد على كلامه بهذه الآية.
قال آخر: وقال ابن الجوزي: (أي: نصب فيها جبالا ثوابت، {أن تميد} أي: لئلا تميد، وقال الزجاج: كراهة أن تميد، يقال: ماد الرجل، يميد ميدا: إذا أدير به، وقال ابن قتيبة: الميد: الحركة والميل؛ يقال: فلان يميد في مشيته، أي: يتكفأ) (5)
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6 ـ 7]، وقد قال ابن كثير في تفسيره لها: (أي: ممهدة للخلائق، ذلولا لهم، قارة ساكنة ثابتة، {والجبال أوتادا} أي: جعلها لها أوتادا؛ أرساها بها، وثبتها، وقررها، حتى سكنت، ولم
__________
(1) لسان العرب (5/ 84) القاموس (592)
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 32.
(3) القرطبي (11/ 285)
(4) مفتاح دار السعادة (1/ 217)
(5) زاد المسير (4/ 435)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/676)
تضطرب بمن عليها) (1)
قال آخر (2): وقد وصف الله تعالى الأرض بكونها: {فراشا}، و {قرارا}، و {مهدا}، و {بساطا}، و {ذلولا} كما جاء في آيات كثيرة، وكلها تدل على نفس المعنى، من ثبات الأرض وسكونها، وعدم دورانها.
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، وقد قال الشوكاني في تفسيرها: (أي: تضطرب وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون) (3) .. ومعنى: {تمور} هنا مثل معناها في قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9]، وقد قال فيها مجاهد: (تدور دورا)، وقال الضحاك: (استدارتها وتحركها لأمر الله، وموج بعضها في بعض) (4) .. وقال البغوي في تفسيره لها: (أي تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة) (5)
قال آخر: وقال الشيخ عبد الله الدويش في الاستدلال بها: (إذا علم هذا؛ فآية سورة الملك دالة على أن الأرض قارة ساكنة، لا تدور فتذهب وتجيء، ولهذا امتن الله تبارك وتعالى على عباده بتذليلها لهم، وحذرهم من عقوبته بأن يخسف بهم الأرض، ويجعلها تمور بهم، ولو كان الأمر على ما يزعمه أهل الهيئة الجديدة ومن يقلدهم من العصريين؛ لكانت الأرض تمور دائما كما تمور النجوم والسحاب والريح، ولم يبق للتخويف بمورها فائدة) (6)
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]، وما كان في معناها من الآيات؛ من إسقاط الكسف .. ومثلها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا
__________
(1) ابن كثير (4/ 463)
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 32.
(3) فتح القدير (5/ 262)
(4) جامع البيان (27/ 21)
(5) تفسير البغوي (4/ 237)
(6) المورد الزلال ص (260)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/677)
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقد قال الشيخ الدويش في الاستدلال بها: (ووجه الاستدلال بهذه الآيات الخمس على استقرار الأرض وسكونها: أن الله تعالى جعل الأرض مركزا للأثقال، ومستقرا لما ينزل من السماء، فلو سقطت السماء لوقعت على الأرض، ولو سقط منها شيء لم يستقر إلا في الأرض، ولو كانت الأرض تجري وتدور على الشمس كما زعمه أهل الهيئة الجديدة لكانت الشمس هي المركز والمستقر للأثقال؛ وهذا تكذيب للقرآن) (1)
قال آخر (2): ومنها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، وقوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] .. فهاتان الآيتان دليل على دوران الشمس والقمر والليل والنهار حول الأرض في حركة دائرية؛ لقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، قال ابن عباس: (في فلك كفلك المغزل) (3)، وقال قتادة: (الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء) (4) .. وقال البغوي: (والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلكة المغزل) (5) .. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة: أن الأفلاك مستديرة) (6)
قال آخر (7): ومثل ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]، فقد قال: (تجري فعلا، تجري في اتجاه واحد، في الفضاء الكوني الهائل، بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية) .. وهذا مخالف لما هو معلوم من كون الشمس تدور حول الأرض، وتشرق وتغرب.
__________
(1) المورد الزلال ص (261)
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 34.
(3) جامع البيان (23/ 8)
(4) الجامع لأحكام القرآن (11/ 286)
(5) تفسير البغوي (3/ 243)
(6) المجموع (25/ 193)
(7) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 17.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/678)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الأول .. فحدثونا عن الدليل الثاني.
قال أحد الشيوخ (1): الدليل الثاني، هو ما ورد في السنة المطهرة مما يدل على ذلك، وأول الأحاديث الدالة على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله: (لو أن رصاصة مثل هذه ـ وأشار إلى مثل الجمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض ـ وهي مسيرة خمسمائة سنة ـ لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لصارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها ـ أو: قعرها ـ) (2)، وقد قال الترمذي في الحديث: (هذا حديث إسناده حسن صحيح، وسعيد بن يزيد، هو: مصري، وقد روى عنه الليث بن سعد، وغير واحد من الأئمة)، وقال الحاكم: (صحيح الإسناد)، وقال البغوي: (هذا حديث حسن).
قال آخر (3): ولا يقدح في صحته وجود عيسى بن هلال الصدفي المصري ضمن رواته، فقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وذكره يعقوب بن سفيان الفسوي في ثقات التابعين من أهل مصر، وقال ابن حجر في التقريب: (صدوق) (4)، وبذلك لا يضره من جرحه بعد توثيق هؤلاء.
قال آخر (5): ومثل ذلك لا يضره وجود دراج أبو السمح ضمن رواة الحديث؛ فأكثر ما نقم عليه روايته مناكير عن أبي الهيثم، ونحن أميل إلى قول من فصل فيه، وقد قال فيه أبو داود: (أحاديثه مستقيمة؛ إلا ما كان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد)، وعلى هذا: فإنه هنا: لا
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
(2) الترمذي (2588) والحاكم (2/ 438 ـ 439) وأحمد (2/ 197) وابنه عبد الله في الزهد (19 ـ 20) وابن المبارك في المسند (124) وفي الزهد (290 ـ زوائد نعيم بن حماد)
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 26.
(4) الجرح والتعديل (6/ 290) الثقات (5/ 213)
(5) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 27.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/679)
بأس به.
قال آخر (1): وأما سعيد بن يزيد الحميري، القتباني، أبو شجاع الإسكندراني، فهو: ثقة عابد .. وبناء على ذلك كله .. فهذا إسناد مصري، لا بأس به.
قال آخر: ولهذا اعتبره العلماء من الأحاديث التي يصح الاستدلال بها في قضايا العقيدة، وقد قال الشيخ عبد الله الدويش فيه: (ووجه الاستدلال بهذا الحديث على استقرار الأرض وثباتها: أن الله تعالى جعل الأرض مركزا للأثقال، ومستقرا لما ينزل من السماء، ولو كانت الأرض تجري وتدور على الشمس ـ كما زعمه أهل الهيئة الجديدة ـ لكانت الشمس هي المركز والمستقر للأثقال، وهذا تكذيب لهذا الحديث الصحيح، وفي الحديث دليل آخر على استقرار الأرض وثباتها، وذلك مستفاد من النص على أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، والنص شامل لوجه الأرض من جميع الجهات؛ لأن النبي أطلق ولم يخص جهة منها دون الجهة الأخرى؛ فدل عموم النص على أن المسافة بين السماء والأرض خمسمائة سنة من كل جهة، وقد قرر الإمام أبو الحسين ابن المنادي: أن بعد ما بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد، ووافقه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وغيره على ذلك، وفي حديث عبد الله بن عمرو الذي ذكرنا دليل لما قالوه) (2)
قال آخر: ومن الأحاديث الدالة على هذا ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (غزا نبي من الأنبياء، فقال للقوم: لا يتبعني رجل قد كان ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولما يبن بها، ولا آخر قد بنى بناء له، ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات، وهو ينتظر ولادها، فغزا فدنا من القرية حين صلاة العصر، أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئا، فحبست عليه حتى فتح
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 27.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 28.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/680)
الله عليه، قال: فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فلتبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، فلصقت يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم، قال: فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب، فوضعوه في المال، وهو بالصعيد، فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا) (1)
قال آخر (2): ووجه الدلالة منه من وجوه .. أحدها: قوله للشمس: (أنت مأمورة) ففيه دليل على تسخير الشمس، وأنها مأمورة بالإشراق من المشرق، والغروب من المغرب، والسير في فلكها المقدر لها.
قال آخر (3): والثاني: قوله: (وأنا مأمور) فيه تنبيه على تشبيه الأمر الكوني للشمس بالأمر الشرعي للنبي، حيث إن كليهما مكلف بذلك من قبل خالقه، وعليه فأمر التسخير بالحركة الدائبة موجه إلى الشمس لا إلى الأرض.
قال آخر (4): والثالث: قوله: (اللهم احبسها علي) فهذا الدعاء مبني على علم النبي السابق بحركة الشمس وتسخيرها للخلق، ومعلوم أن علوم الأنبياء ومعارفهم تكون صحيحة، ولو كان هذا الطلب غير موافق لحقيقة الأمر، لنبه النبي، ولم يترك على هذا الاعتقاد الخاطئ.
قال آخر (5): والرابع: أنه بذلك يطلب أمرا ممكنا، ودليل إمكانه: عدم نهي النبي عنه، أو صرفه إلى غيره، فهذا نبي الله موسى صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل الله تعالى أن يراه ببصره في الدنيا، قال
__________
(1) البخاري (3124 و 5157) ومسلم (1747)
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 35.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 35.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 35.
(5) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 35.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/681)
الله تعالى له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فنفي إمكان الرؤية في الدنيا حيث لا تحتملها قدرات البشر، وعلق إمكان الرؤية على استقرار الجبل، فإن كان الجبل الذي هو أشد قوة من البشر لم يحتمل هذه الرؤية فكيف بالبشر، بينما لما سأل خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى، أجابه الله تعالى إلى ذلك، فإذا ثبت كون حبس الشمس أمرا ممكنا، فقد استجاب الله تعالى له، وحبس له الشمس، فدل ذلك على حركتها ودورانها حول الأرض، وإلا لم يكن لذلك معنى.
قال آخر (1): والخامس: قوله: (فحبست) دل على عظيم قدرة الله تعالى وكمالها، فكما أنه سخر الشمس والقمر بالسير الدائب لمصالح الخلق، وجعل ذلك سنة كونية لا تتبدل ولا تتغير، فإنه تعالى قادر على أن يعطل هذه السنة وقتما شاء تعالى، حتى يتمكن يوشع بن نون من هزيمة أعداء الله، فهل من معتبر؟
قال آخر: ومن الأحاديث الدالة على هذا أيضا ما روي عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (إن هذه تجري، حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري، لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها) فقال رسول الله: (أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]) (2)
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 35.
(2) البخاري (3199 و 4802 و 4803 و 7424 و 7433) مسلم (159)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/682)
قال آخر (1): ففي هذا الحديث الصحيح إثبات جريان الشمس، ودورانها حول الأرض، وأنها في كل يوم تذهب فتستقر تحت العرش، ثم تخر ساجدة، فتستأذن فيؤذن لها، فتشرق مرة أخرى من المشرق، وهكذا كل يوم حتى لا يؤذن لها، فتصبح طالعة من المغرب، وفي الحديث إثبات هذه الأفعال للشمس، وأن الله تعالى خلق لها نوع إدراك، وأنها مسخرة مأمورة.
قال آخر: وقد قال أستاذنا العلامة الخطابي في ذلك: (لا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش، من حيث لا ندركه ولا نشاهده، وإنما هو خبر عن غيب فلا نكذب ولا نكيفه؛ لأن علمنا لا يحيط به) (2)
قال آخر: وقال ابن العربي: (وقد أنكر قوم من أهل الغفلة ـ اقتداء بأهل الإلحاد ـ سجودها، وهو صحيح جائز ممكن، وتأوله قوم أنه ما هي عليه من التسخير الدائم) (3)
قال آخر: وقال ابن حجر: (وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار: وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها، ومقابل الاستقرار: المسير الدائم المعبر عنه بالجري، والله أعلم) (4)
قال آخر: بل وقع الإجماع على ذلك، فقد قال عبد القاهر البغدادي في بيان ما اتفق عليه أهل السنة: (وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها، وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها، خلاف قول من زعم من الدهرية: أن الأرض تهوي أبدا) (5)
قال القاضي: حدثتمونا عن الدليل الثاني .. فحدثونا عن الدليل الثالث.
قال أحد الشيوخ: الدليل الثالث، هو ما يستند إليه الجهلة في دعاواهم .. وهو
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 17.
(2) أعلام الحديث (3/ 1893)
(3) عارضة الأحوذي (9/ 25)
(4) فتح الباري (8/ 403)
(5) الفرق بين الفرق ص (290)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/683)
العقل .. ذلك أن العقل نفسه ينكر عليهم ادعاءاتهم.
قال آخر (1): حيث يقال لمن يقول بهذه النظرية: هل نزل القرآن مخاطبا الناس بما عهدوه من سكون الأرض واستقرارها؟ أم بتقرير حركتها ودورانها؟ .. فإن كان الأول؛ فقد سلمتم .. وإن كان الثاني؛ فقد رميتم كتاب الله تعالى بالإيهام والاضطراب؛ حيث لم ينقل إلينا أن الصحابة فمن بعدهم فهموا من آيات الكتاب حركة الأرض ودورانها.
قال آخر (2): ويقال لمن يقول بهذه النظرية: هل أنتم أهدى سبيلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ .. والجواب: لا .. ويقال لهم حينها: فهل نقل عن أحد منهم، فمن بعدهم ممن اتبعهم بإحسان، أنه قال بدوران الأرض حول نفسها، أو حول الشمس، ولو نقل عنهم لما أغفله أئمة المفسرين .. فإن قيل: سكتوا عما لم يعلموا، قيل: أما يسعكم ما وسعهم من السكوت؟ أم أبيتم إلا رميهم بالجهل فيما أولوه، أو أوله التابعون لهم بإحسان من الآيات الدالة على استقرار الأرض وثباتها.
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فإن القائل بهذه النظرية مكابر للحس؛ فالإنسان كل يوم يشاهد بعينه الشمس تشرق من جهة المشرق، ثم تظل سائرة في فلك السماء حتى تغرب من جهة المغرب، لا يرتاب في ذلك أحد باق على فطرته، كما أنه يعلم يقينا أن الأرض التي تحته ثابتة مستقرة، لا تدور ولا تهتز إلا بزلزلة تعتريها عقوبة لأهلها؛ كما قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42]
قال آخر (4): ومن الأدلة العقلية على ذلك أن الأرض لو كانت تسير بهذه السرعة
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 29.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 29.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 29.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 37.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/684)
الهائلة (30 كم في الدقيقة)؛ لما استقر على ظهرها شيء من البناء والشجر فضلا عن الحيوانات؛ وذلك لشدة مخرها للهواء، ولشدة صدم الهواء لوجهها.
قال آخر (1): أما زعمهم أن الغلاف الجوي تابع للأرض في الدوران فهذا زعم كاذب .. فقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على أن الهواء مستقل بنفسه، وليس تابعا للأرض، فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، فدلت الآية الكريمة على أن خلق ما بين السماء والأرض كان مستقلا بنفسه، وأنه مغاير في حقيقته وتكوينه لهما.
قال آخر (2): ويدل على ذلك من العقل أنه من المعلوم أن جرم وكثافة الجزيئات المكونة للهواء من الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء في غاية الخفة والضآلة؛ بحيث لا تؤثر عليها جاذبية الأرض؛ فتجعلها في حكم الملاصق لها، أو في حكم الأجسام التي على سطحها.
قال آخر (3): بالإضافة إلى أنه من المعلوم أن الأجسام التي على سطح الأرض إذا ارتفعت عنه واستقلت في الهواء؛ فإن سلطان الجاذبية عليها يضعف نوعا ما، لا سيما كلما ازداد الارتفاع، وقلت الكثافة.
قال آخر (4): بالإضافة إلى أنه من المعلوم بالحس والضرورة أن الهواء المحصور في المراكب الحديثة، سواء البرية أو البحرية أو الجوية، يكون متحركا بسرعتها، بخلاف ما كان خارجها؛ فإنه لا يتبعها ولا يتحرك بسرعتها، بل يقاومها؛ فكذلك ما على ظهر الأرض من الهواء لا يكون تابعا لها،
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 37.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 37.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 37.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 37.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/685)
قال آخر (1): بالإضافة إلى سير السحاب المسخر بين السماء والأرض؛ فنحن نراه يتحرك في كل اتجاه، ولو صدق افتراؤهم لكان ينبغي أن تكون حركته فقط من الشرق إلى الغرب.
قال آخر (2): ويدل لذلك أيضا هجرة الطيور .. فما كان لهذه الطيور المهاجرة أن تهتدي لمواطن هجرتها، أو مواطنها الأصلية حين عودتها إليها، لولا فضل الله ورحمته بخلقه أن ثبت لهم الأرض التي يسكنونها؛ فجعلها قارة ساكنة.
قال آخر (3): ويدل لذلك أيضا الطائرات التي تطير على ارتفاع شاهق جدا من الشمال إلى الجنوب، أو بالعكس، حيث لا تلحظ حركة الأرض ودورانها من المغرب إلى المشرق كما يزعمون كذبا وزورا .. بل لا ينبغي لهذه الطائرات أن تهتدي لمواضع هبوطها على سطح الأرض بمجرد استقلالها في الهواء .. ومن تفكر في زورهم وبهتانهم تبين له ما يترتب على هذه النظرية الفاسدة من المناقضات العقلية الكثير.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك كله، فإن الله تعالى ما خلق الخلق إلا ليعبدوه؛ فكان لا بد لهم من مستقر يستقرون عليه؛ لتقع منهم هذه العبادة؛ فلهذا خلق الله الأرض ليسكنها الخلق، ويستقرون عليها، ثم خلق بعد ذلك ما يتمم لهم مصالحهم من شمس وقمر ونجوم وجبال وشجر ودواب .. وأما الدهريون فيدعون كذبا وزورا، أن هذه الأرض ليست إلا كوكبا ضمن مجموعة شمسية، هذا الكوكب المزعوم يبعد عن الشمس ـ أمها التي خرجت منها ـ مسافة 93 مليون ميل، وهذه المجموعة الشمسية هي أيضا واحدة من نحو 100 مليون مجموعة شمسية [شموس تتبعها كواكب]، في المجرة الواحدة التي يزعمون أنا
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 37.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 38.
(3) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 38.
(4) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 6.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/686)
داخلون فيها، ثم هذه المجرة قطرها نحو 100 ألف مليون سنة ضوئية، والسنة الضوئية: مسافة 600 مليون ميل، وهذه المجرة هي واحدة من مائة مليون من هذه المجرات المتناثرة في الفضاء الهائل الذي لا نهاية له، تكاد تكون تائهة فيه، وهذا الذي ادعوا أنهم اكتشفوه هو جانب ضئيل لا يكاد يذكر من بناء الكون على حد زعمهم.
قال آخر (1): ثم يذكرون زورا وبهتانا أن هذه الأرض ليست إلا جزءا من مليون جزء من الشمس، وهذه الشمس هناك ما هو أعظم حجما منها بمائة مليون مرة.
قال آخر (2): ولم يكتفوا بذلك، بل زعموا أن هذا الكون نشأ منذ بليون بليون سنة، أما الأرض فهي كائن حديث الولادة؛ إذ لم توجد إلا منذ بليونين من السنين، نشأ هذا الكون من السديم [مادة غازية تكثفت] فنشأ منها الشموس، وشمسنا هذه انفصلت عنها كتل ملتهبة صغيرة الحجم، ظلت تدور حول نفسها كأمها حتى بردت وتكثفت بعد بلايين السنين، فكان منها هذه الكواكب التسعة، التي منها هذا الكوكب الضئيل، الذي يدعونه الأرض .. وهذه الكواكب التسعة ظلت تدور دورتين: إحداهما: حول نفسها، والأخرى: حول الشمس أمهم، وإلى الآن.
قال آخر: ثم لم يكتفوا بذلك حتى أثبت لهم جهلهم: أن هذا الكوكب الأرضي يدور حول نفسه بسرعة ألف ميل في الساعة [30 كم في الدقيقة]، ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة 67 ألف ميل في الساعة، ثم تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل 20 ألف ميل في الساعة، مبتعدة نحو برج الجبار في السماء.
بعد أن انتهى الشيوخ من حديثهم، توجه القاضي لتلاميذ الراسخ، وقال: ها قد
__________
(1) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 8.
(2) لماذا حركوا الأرض؟ ياسر فتحي، ص 8.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/687)
سمعتم كل هذه الأدلة التي تثبت ثبات الأرض، ودوران الشمس حولها .. فما تقولون؟ .. هل تسلمون لها، أم تظلون على غيكم؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن نسلّم لهم في هذا .. وكيف نسلم لهم فيما يخالف القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي أئمة الهدى وما تقتضيه العقول السليمة؟
قال القاضي: فما تقولون في الآيات الكريمة الواضحة الدالة على استقرار الأرض؟
قال أحد التلاميذ: إن كل الآيات التي ذكرها شيوخنا الأفاضل، لا علاقة لها أبدا بما يريدون إثباته .. فالاستقرار لا يعني عدم الحركة .. وإنما يعني ما عبر عنه الشيرازي بقوله: (لقد خلق الله للإنسان الأرض كي تكون مقرا هادئا ومستقرا آمنا له .. إنه المكان الخالي من المعوقات الصعبة، متناسق في تشكيلته مع تكوين الإنسان الروحي والجسدي، حيث تتوفر في الأرض المصادر المختلفة للحياة والوسائل المتنوعة والمجانية التي يحتاجها لمعيشته) (1)
قال آخر: وهذا ما يقال في كل الآيات الكريمة التي تدل على تمهيد الأرض، وجعلها صالحة لسكن الإنسان؛ فهي لا تعني عدم حركتها .. ذلك أننا قد نركب الطائرة التي تسير بسرعة كبيرة جدا، ومع ذلك لا نشعر بأي انزعاج من حركتها، بل نشعر بالراحة والهدوء والاستقرار التام.
قال آخر: وقد قال بعض العلماء المتخصصين في تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]: (إن هذه الآية تحوي حقائق كثيرة من العلم .. فلكي تصبح الأرض محلا صالحا للإنسان، وفراشا وثيرا يستقر فيه تحتاج إلى توفير أسباب كثيرة، كلها يدخل
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (15/ 307)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/688)
ضمن معاني الآية) (1)
قال آخر: ثم ذكر ما تحتاجه ليتحقق لها ذلك، فقال: (أول ما تدل عليه لفظة (قرارا) في اللغة العربية الثبوت الجامد، يقال (قر) في مكانه (يقر قرارا) إذا ثبت ثبوتا جامدا، وأصله من (القر) وهو البرد لأنه يقتضي السكون .. وهذا يشير إلى ما للمادة المشكلة للأرض من دور في الحفاظ على استقرارها، فقد جعل الله الأرض قراراً، أي مستقرة بذاتها .. وبمقارنة متوسط كثافة الصخور المكونة لقشرة الأرض مع متوسط كثافة الأرض ككل نجد أن كثافة المادة المكونة للأرض تزداد باستمرار من سطحها في اتجاه مركزها حيث تتراوح الكثافة من 10 إلي 13،5 جرام للسنتيمتر المكعب .. ويفسر ارتفاع متوسط الكثافة بالقرب من مركز الأرض بوجود نسبة عالية من الحديد، وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض، وتناقص نسبة هذه العناصر الثقيلة بالتدريج في اتجاه قشرة الأرض)
قال آخر: وهكذا راح يفسر سر استقرار الأرض، وصلاحيتها للسكن، من غير أن يكون لذلك أي علاقة بثبات ودورانها.
قال آخر: وهكذا قال مفسرونا في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6]، فقد قال الشيرازي في ذلك: (المهاد ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ المكان الممهد الموطأ، وهو في الأصل مشتق من (المهد)، أي المكان المهيء للصبي .. وفسره بعض أهل اللغة والمفسرين بالفراش، لنعومته واستوائه وكونه محلا للراحة)
قال آخر: ثم راح يذكر سر اختيار الله تعالى لتلك اللفظة، وما قال العلم بشأنها، فقال: (واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزى عميق .. فمن جهة نجد في قسم واسع
__________
(1) الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، الله الذي جعل لكم الأرض قرارا، الدكتور: زغلول النجار، الأهرام:42105 السنة 126 ـ 18/ 3/2002.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/689)
من الأرض الاستواء والسهولة، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة .. ومن جهة ثانية أودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأولية إلى المعادن الثمينة، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها .. ومن جهة ثالثة، تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك .. ومن جهة رابعة، ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصة، بما ينجم عنها الليل والنهار والفصول الأربعة .. ومن جهة خامسة، خزنها لقسم كبير من مياه الأمطار الغزيرة، وإخراج ذلك على شكل عيون، آبار، أنهار) (1)
قال آخر: ثم لخص ذلك بقوله: (والخلاصة: إن جميع وسائل الاستقرار والعيش لبني آدم متوفرة في هذا المهد الكبير، وقد لا يلتفت الإنسان إلى عظم هذه النعمة الربانية، إلا إذا ما أصاب الأرض زلزال .. وعندها سيدرك معنى استقرار الأرض، ومعنى كونها مهادا) (2)
قال آخر: وقال سيد قطب في تفسيرها: (المهاد: الممهد للسير، والمهاد اللين كالمهد، وكلاهما متقارب .. وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته؛ فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية .. غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد .. وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره، كبرت هذه الحقيقة في نفسه وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (19/ 327)
(2) الأمثل، الشيرازي: (19/ 327)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/690)
البيئة والتفاهم معها) (1)
قال آخر: ثم ذكر بعض الأمثلة على ما ذكره العلم الحديث من ذلك، فقال: (وجعل الأرض مهادا للحياة ـ وللحياة الإنسانية بوجه خاص ـ شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر. فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها، أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض .. الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه) (2)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات الكريمة الواضحة الدالة على حركة الشمس، وهي قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]؟
قال أحد التلاميذ: الآية الكريمة واضحة في حركة الشمس، ولا تناقض بينها وبين حركة الأرض، فكلاهما يتحرك، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]
قال آخر: ولهذا فسرها علماؤنا بحسب ظاهرها الذي أكده العلم الحديث، وقد قال الشيرازي في ذلك بعد عرضه لما قال المفسرون القدامى في تفسيرها: (وآخرون اعتبروا الآية إشارة إلى حركة الشمس الموضعية بالدوران حول نفسها، حيث أثبتت دراسات العلماء بشكل قطعي أن الشمس تدور حول نفسها .. وآخر وأحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية، هو ما كشفه العلماء أخيرا من حركة الشمس مع منظومتها باتجاه معين
__________
(1) في ظلال القرآن: (6/ 3804)
(2) في ظلال القرآن: (6/ 3804)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/691)
ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءا منها، وقيل أن حركتها باتجاه نجم بعيد جدا أطلقوا عليه اسم (وجا) (1)
قال آخر: ثم علق على جميع تلك الأقوال بقوله: (وكل هذه المعاني المشار إليها لا تتضارب فيما بينها، ويمكن أن تكون جملة {تجري} إشارة إلى جميع تلك المعاني ومعاني أخرى لم يصل العلم إلى كشفها، وسوف يتم كشفها في المستقبل) (2)
قال آخر: وقال سيد قطب في تفسيرها: (والشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها، ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها، إنما هي تجري، تجري فعلا، تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية .. والله ـ ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها ـ يقول: إنها تجري لمستقر لها، هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه، ولا يعلم موعده سواه .. وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم .. وعلى كل حال، فإن حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرة حجم الأرض، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي، ليس مقدورا لغير الله سبحانه الذي تفوق قدرته كل قدرة وبعلمه اللامتناهي، لذا فإن الآية تضيف في آخرها: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]) (3)
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (14/ 185)
(2) الأمثل، الشيرازي: (14/ 185)
(3) في ظلال القرآن: (5/ 2968)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/692)
قال القاضي: فما تقولون في الآيات الكريمة التي تربط الشروق والغروب بالشمس، كقوله تعالى عن ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86]؟
قال أحد التلاميذ (1): ليس هناك أدنى تعارض ـ ولا حتى شبهة تعارض ـ بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية .. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس ـ غروبها ـ فى هذه البحيرة ـ العين الحمئة ـ وذلك مثل من يجلس أحدنا على شاطئ البحر عند غروب الشمس، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص ـ رويدًا رويدًا ـ فى قلب ماء البحر.
قال آخر (2): فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة، أو فى البحر المحيط .. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.
قال آخر: وقد نقل القفال، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [توفي 507 هـ] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية، متسقًا مع الحقيقة العلمية، فقال: (ليس المراد أنه [أى ذو القرنين] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها .. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [أى البقاع المعمورة والمأهولة] من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها فى رأي العين تغرب فى عين حمئة، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض، ولهذا قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ
__________
(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 274.
(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 274.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/693)
نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف: 90]، ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم) (1)
قال القاضي: فما تقولون في قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 17]، حيث نسب فعل الدوران للشمس؟
قال أحد التلاميذ: اللفظ ليس قاطعا في هذا المعنى، بل إنه ابتدأ بقول: {وَتَرَى الشَّمْسَ} [الكهف: 17]، أي أن هذا الأمر بالنسبة لرؤية الإنسان، وسياق الآية كما هو ظاهر ليس مقصودا في إثبات دوران الأرض حول الشمس أو العكس، فلا ينبغي تحميل النص ما لا يحتمل.
قال القاضي: لا بأس .. قد نسلم لكم بكل ما ذكرتم .. لكن لم لم يذكر القرآن الكريم دوران الأرض كما تذكرون مباشرة، كما ذكر كل المسائل بدقة ووضوح؟ .. ألا تعبترون سكوته عن ذلك إقرارا للمعارف التي كانت موجودة في ذلك الحين؟ .. ألا يعد ذلك وحده كافيا لتأكيد كل حجج شيوخنا الأفاضل.
قال أحد التلاميذ: ومن ذكر لكم سيدي القاضي أن القرآن الكريم ذكر كل شيء، وبالدقة التي تفهمها كل العقول؟ .. ولو أنه فعل ذلك لاستوى في فهمه كل الناس، وكل الأجيال، ولانقضت عجائبه .. ولذلك هو يعطي كل عصر من المعارف بحسب قدراتهم.
قال آخر (2): ولذلك نحن نؤمن بأن القرآن الكريم ذكر دوران الأرض .. ولكن بصيغة خاصة، لا تصادم العقول .. فأنتم تعلمون أن الإيمان بدوران الأرض أعصى من
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، ج 11 ص 49، 50.
(2) معجزات علمية، أبو لحية (167)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/694)
الإيمان بكرويتها، لأن الدوران حركة، وقد تعوّد الناس بالشعور بالحركة، فإذا قيل لهم: إن الأرض تتحرك لسارعوا إلى التكذيب، فكيف تتحرك، وهم يرونها ساكنة لا يشعرون بدورانها، ويعتقدون أنها ثابتة في مركز الكون، بينما باقي الأجرام السماوية تدور حولها.
قال القاضي: فأنتم تؤمنون معنا بأن القرآن الكريم لم يصرح بحركتها كما لم يصرح بكرويتها؟
قال أحد التلاميذ (1): كيف تريده أن يصرح بأمر يتصور العوام أنه يناقض أحاسيسهم .. إن القرآن لو أنزل آية تقول للناس: (إن الأرض التي تسكنون عليها تتحرك حركة حول نفسها، وحركة حول الشمس، وحركة في المجرة) .. وغيرها لاشتغل معهم بمعارك طاحنة لا جدوى منها .. ولظلت المعركة قائمة قرونا عديدة من غير أن يكون لها أي فائدة.
قال آخر (2): يكفي القرآن في هذا أنه لم يذكر ما اجتمعت عليه الأعراف في ذلك الحين من المعلومات الخاطئة كتلك المعلومات التي تبنتها الكنيسة، ثم راحت تحاسب العلماء على أساسها.
قال آخر: لكن هذا لا يعني أنه لم يذكر الإشارات الدالة على حركتها .. بل إنه ذكر الكثير منها، وبطريقة واضحة وسهلة لمن تأملها.
قال آخر (3): وأول الإشارات الدالة على كل حركاتها، ما ورد من الآيات الكريمة من سباحة كل الأجرام في أفلاكها، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الانبياء:33]، وجري الشمس، كما قال تعالى: {
__________
(1) معجزات علمية (167)
(2) معجزات علمية (167)
(3) معجزات علمية (167)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/695)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يّس:38]، لأن الأرض ـ بحسب ما تدل عليه النصوص التي سنذكرها ـ تابعة للشمس، وهي لذلك تتحرك بحركتها.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على دوران الأرض حول نفسها كما يدور المغزل .. إن القرآن الكريم يشير إلى هذه الحركة من خلال الوصف الدقيق لنظام تولد الليل والنهار، وذلك في آيات كثيرة، فالله تعالى يقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [لأعراف: 54]، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]، ويقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [لقمان: 29]، ويقول: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يّس:37]
قال القاضي: كيف فهمتم من هذه الآيات حركة الأرض؟ .. أنا لا أرى ذلك.
قال أحد التلاميذ: ألم نقل لكم إن هذه قضية غريبة على الناس؟ .. فلذلك نحتاج إلى بعض التأمل لفهمها.
قال آخر (2): إن الليل والنهار في هذه الآيات لا يقصد بهما المفهوم الزمني فقط، نعم ذلك هو المعنى الأصلي اللغوي .. ولكنا إذا تدبرنا هذه الآيات لوجدنا معاني أخرى مقصودة تشير إلى أن لفظي الليل والنهار يقصد بهما في القرآن في معظم الآيات لازمين من لوازمهما، وذلك: إذا استخدمنا ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، والذي أخذ به
__________
(1) معجزات علمية (168)
(2) معجزات علمية (169)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/696)
المفسرون في آيات أخرى بمعنى الظلام والنور، وليس بالمعنى الزمني.
قال آخر (1): لقد ورد الليل والنهار في القرآن الكريم بهذا المعنى، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] .. فزمني الليل والنهار لا يساعدان مطلقاً على السكون والإبصار، وإنما يساعد عليها ظلمة الليل ونور النهار، وبهذا يتضح أن المراد هنا هنا من الليل والنهار هو الظلام والنور.
قال آخر (2): انطلاقا من هذا .. فإنا إذا استعرضنا لوازم الليل والنهار في علم الطبيعة نجد عددها ستة بخلاف المعنى الأصلي الزمني، وهي: ظلام الليل ونور النهار، مكان حدوث الليل ومكان حدوث النهار، سبب حدوث الليل وسبب حدوث النهار.
قال آخر: وباستخدام الاحتمالات المنطقية من هذه اللوازم نصل إلى المراد من آيات الإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ، على الترتيب.
قال آخر (3): لنبدأ بآيات الإغشاء، كقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [لأعراف: 54] ومعناها: على اعتبار أن فيها حذفاً تقديره: يغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، أي: أنه تعالى يغطي بالليل النهار ويغطي بالنهار الليل على سطح الأرض، وحيث أنه لا معنى لتغطية زمن بزمن، فيكون المعنى بالمجاز المرسل: (يغطي الله بظلمة الليل مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويغطي الله بنور النهار مكان الليل فيصير نهاراً)، والقرينة على هذا المعنى المقصود كلمة {يغشي} أي: يغطي، لأن الإغشاء يقتضي تغطية شيء بشيء، والأول المراد تغطيته هو مكان النهار ثم مكان الليل، والثاني: وهو الغطاء هو ظلمة الليل ثم نور
__________
(1) معجزات علمية (169)
(2) معجزات علمية (169)
(3) معجزات علمية (170)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/697)
النهار.
قال آخر (1): بل في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [لأعراف: 54]، والتي تصف تعاقب الليل والنهار عقب تمام خلق السماوات والأرض، حيث جعل الله ظلمة الليل تطلب مكان النهار، وضياء النهار يطلب مكان الليل على الأرض بسرعة لا بطء فيها في بداية تاريخ كوكب الأرض، وهذا لا يحدث إلا بدورانها سريعاً حول محورها، بحيث يتعاقب الليل والنهار بدليل العبارة القرآنية {يطلبه حثيثاً}، وبذلك لا يبقى مكان على الأرض دائم الليل أو دائم النهار.
قال آخر (2): كذلك آية التكوير تشير إلى هذا .. فالله تعالى يقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]، فالتكوير ـ كما عرفنا ـ أصل معناه في اللغة (لف شيء على آخر في اتجاه مستدير) .. وبما أنه لا معنى للف زمن على زمن، فإننا منطقياً لا بد أن نبحث عن المعنى المقصود، وذلك باستخدام المجاز المرسل، ذلك أن إطلاق الظرف وإرادة المحل والمكان معروف في اللغة، ومشهور في القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى عن أهل الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]، فالمراد هنا إطلاق الصفة ويراد بها الموصوف، أو الظرف ويراد به المظروف.
قال آخر (3): وبهذا فإن التفسير الصحيح لهذه الآية هو (يلف أو ينشر في اتجاه مستدير) أي أن الله تعالى يكور ظلمة الليل على مكان النهار على سطح الأرض، فيصير ليلا، ويكور نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وكأنه يقول بهذا بلغة العلم (لف
__________
(1) معجزات علمية (170)
(2) معجزات علمية (171)
(3) معجزات علمية (171)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/698)
الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس)، وذلك حتى يحدث تتابع الليل والنهار في الغلاف الجوي للأرض.
قال آخر (1): ويؤيد ذلك آيات الإيلاج وتكرار الفعل يولج، فالله تعالى ذكر هذا في مواضع من القرآن، فهو يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] .. ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29] .. ويقول: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} [فاطر: 13] .. ويقول: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد:6]
قال آخر (2): والإيلاج في أصل معناه هو إدخال شيء في آخر بحيث يحيط به ويساويه، حجماً ومساحة، وبما أنه لا معنى مطلقاً لإيلاج زمن الليل في زمن النهار، أو بالعكس، فإن المقصود من تعاقب الليل والنهار بإيلاج كل منهما في الآخر هو بالمجاز المرسل، إيلاج لازم من لوازم الليل في آخر من لوازم النهار السابق ذكرها والمعنى المنطقي المقصود باختيار اللازم المناسب هو (يولج الله مكان الليل في مكان النهار، فيصير نهاراً، ويولج مكان النهار في مكان الليل فيصير ليلاً) أو بتعبير آخر (يجعل مكان الليل يحل محل مكان النهار، والعكس بالعكس على سطح الأرض)
قال آخر (3): وهذا معناه بلغة العلم أنه تعالى يجعل الأرض تدور حول نفسها أمام مصدر الضياء من الشمس، فيتبادل كل من الليل والنهار مكان الآخر على الأرض، أي:
__________
(1) معجزات علمية (172)
(2) معجزات علمية (172)
(3) معجزات علمية (173)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/699)
يحل الأول محل الثاني، وبالعكس بالتساوي تماماً، وبذلك يتعاقب الليل والنهار على الأرض مع تساوي مساحة مكان كل منهما، أي: تساوي حجم نصفي الكرة الأرضية حول محورها، حتى يتوفر معنى الإيلاج لغوياً.
قال آخر (1): وحيث إن هذا التبادل يستلزم تماثل وتساوي المكانين حجماً ومساحة حتى يمكن إحلال كل منهما محل الآخر، لأنه إذا زاد أو نقص ـ أي: المكانين عن الآخر ـ لا يتحقق هذا التبادل المتماثل في الإحلال، ولا يتحقق المعنى اللغوي للإيلاج في الهندسة الفراغية، وهذا التماثل يؤدي إلى استنتاج كروية الأرض وانتظام شكلها، لأن نصفيها متساويان والمحور ينصف الكرة تماماً.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هناك آية أخرى تشير إلى هذا، بل تكاد تصرح به، وهي قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يّس:37]
قال آخر (2): ذلك أن السلخ في أصل معناه فصل الجلد من اللحم، وحيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل، وأن الآية أو الدليل المقصود على قدرة الصانع ليس هو زمن الليل، بل مكانه الذي ينسلخ منه النهار بدوران الأرض مغزلياً، فيكون تعالى قد ذكر الليل، وقصد مكانه الذي يحدث فيه، وقرينته قوله تعالى: {وآية لهم}،ثم قوله تعالى: {نسلخ منه النهار}، أي نسلخ من الليل، والمقصود: نسلخ من مكان الليل نور النهار، وقرينته قوله: {نسلخ} لأن السلخ يقتضي فصل شيء من شيء، وهو فصل النور من مكانه الذي سيصير مكان الليل.
قال آخر (3): وبناءً على ذلك: يكون معنى الآية: (ودليل لهم (للناس) على قدرتنا
__________
(1) معجزات علمية (173)
(2) معجزات علمية (173)
(3) معجزات علمية (173)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/700)
مكان الليل، إذ نسلخ أو نزيل منه نور النهار من مكانه على الأرض تماماً، كما نسلخ الجلد من اللحم فيدخل الناس في الظلام)
قال آخر (1): ففي تشبيه إزالة نور النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية لبيان أن ضوء النهار ينشأ في سطح الغلاف الجوي للأرض، ولا يمتد إلى باطنها، كما ينشأ جلد الحيوان من لحمه ولا يمتد إلى باطنه، وبهذا فإن نور النهار مكتسب ومعكوس من سطح الأرض ومشتت في غلافها الخارجي، وليس ضوءاً ذاتياً كما في النجوم.
قال آخر (2): وبهذا تظهر الحكمة في التعبير القرآني بسلخ نور النهار من الغلاف الجوي الذي يصبح ظلاماً بدون أشعة الشمس، كما أن الليل أو الظلام هو الأصل في الكون، فظلام الفضاء الكوني سائد حول جميع الأجرام لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث التشتت لضوء النجوم الذي لا يظهر إلا بالانعكاس على سطوح الأجرام أو التشتت في غلافها الجوي.
قال آخر: نعم هذه الآيات ربما تكون صعبة الفهم على ذهن من لم يكن ملماً بعلم الطبيعة والفلك إلماماً كافياً .. لكن ذلك كان ضروريا حتى لا يصطدم الناس بما لا حاجة كبيرة لهم لمعرفته في ذلك الحين.
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك عندما اعتبر إدراك آيات الله محصورا في العاقلين من أولي الألباب، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ
__________
(1) معجزات علمية (174)
(2) معجزات علمية (174)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/701)
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، وأولو الألباب، هم أولو العقول المتعلمة المتخصصة.
قال آخر: ولهذا قال تعالى في الآية التي تشير ـ هي الأخرى ـ إلى دوران الأرض: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:4 - 5] والحجر معناه: العقل المفكر.
قال آخر (1): وهذا القَسم يصف الليل بالحركة، وفي ذلك كناية بالغة عن حركة الأرض حول نفسها، وقد تكرر مثل هذا القسم في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر:33]، ويقول: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] .. وفعل عسعس معناه: أقبل ظلامه أو أدبر، وفعل يسر معناه: التحرك.
قال آخر (2): ولم يصف الله تعالى النهار بالإقبال والإدبار، لأن هذا أمر طبيعي ينتج من إدبار الليل وإقباله، بل وصفه بالوصف الخاص بظواهر النور وسلوك الضوء القادم من الشمس أثناء اختراقه لطبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض مسبباً بالانكسار والتشتت والانعكاس ظواهر الإسفار في أول النهار، والشفق في آخر النهار، والنور أثناء النهار، ولولا الغلاف الجوي لساد الظلام فوق رؤوسنا رغم بزوغ الشمس، كما هو الحال في الفضاء.
قال آخر (3): بالإضافة إلى هذا هناك آيات قرآنية أخرى تشير إلى دوران الأرض حول نفسها مغزلياً كما في قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور:44]، فالتقليب هنا حقيقة تحدث فعلاً، ويعني الحركة، وإحلال أحدهما
__________
(1) معجزات علمية (174)
(2) معجزات علمية (175)
(3) معجزات علمية (175)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/702)
محل الآخر حتى يتم التقليب، مشيراً بذلك على الدوران المغزلي للأرض بصريح العبارة بإحلال مكان الليل مكان النهار وبالعكس.
قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هناك آية أخرى تؤكد هذه الحقيقة باعتبارها سنة كونية سائدة في جميع الأجرام منذ بدأ خلقها، فالله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الانبياء:33]، فهذه الآية تشير إشارة دقيقة لطيفة إلى حركة الأرض ودورانها.
قال آخر (2): فالليل والنهار لغوياً ظرفا زمان، ولا بد لهما من مكان، كما نعرف في الفيزياء النسبية، فلا زمان بدون مكان، والمكان الذي يظهر فيه الليل والنهار، وهو بالتأكيد الأرض، وتشرق الشمس وتغرب ظاهرياً نتيجة الحركة الحقيقية المغزلية للأرض، فيتولد الليل والنهار، ولولا دوران الأرض لما ظهر أي تعاقب ليل ولا نهار، فكأنه تعالى يقول لنا في الآية (أن كل من الأرض والشمس والقمر يسبح في هذا الفضاء الشاسع في فلك مستقل به)
قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فهناك آية أخرى تشير إلى هذا، وتقربه للعقول، وهي قوله تعالى وهو يحدث عن نعمته على عباده بخلق الجبال: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الانبياء:31] أي: لئلا تضطرب بالناس اضطراباً مخلاً وتتزلزل تحتهم فلا يستقرون عليها .. فمع أن هذه الآية تشير إلى حقائق أخرى .. فإنها مع ذلك تشير إلى حركة الأرض، وتهيئ الأذهان لتقبلها.
قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ هناك آيات أخرى تشير إلى هذا النوع من حركة
__________
(1) معجزات علمية (175)
(2) معجزات علمية (176)
(3) معجزات علمية (176)
(4) معجزات علمية (176)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/703)
الأرض، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} [الفرقان:45 - 46]
قال آخر (1): ففي هاتين الآيتين دليل واضح على دوران الأرض حول نفسها، لأنها لو كانت غير متحركة لسكن الظل، ولم يتغير طولاً أو قصراً، لأن ظاهره الظل وتغير طوله لا تعليل لها إلا بالدوران المغزلي للأرض.
قال آخر (2): والقرآن يشير إلى نفي ما يتوهمه الناس من دوران الشمس حول الأرض من الشرق إلى الغرب ـ في الحركة اليومية الظاهرية الخادعة التي لا وجود لها، والتي كان القدماء يعتقدون بوجودها متوهمين أن تغير طول الظل مشروط بانتقال الشمس من الشرق إلى الغرب ـ وذلك بتأكيده أن الشمس هي مجرد مؤشر ودليل ضوئي ندرك به الظلال، ولهذا يقول تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45]
قال آخر (3): والقرآن بعد هذا كله يجعل من هذه الحركات التي تتحرك بها الأفلاك نوعا من سجودها لله، فالله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48] أي: تميل ظلال الأشياء من جانب إلى جانب ساجدة لله سجود خضوع لمشيئته وسجود انقياد، لا تخرج عن إرادته ومشيئته، لأن هذه الظلال مرتبطة بالدوران المغزلي لجميع الكواكب والأجرام، ولو شاء الله لجعل الظل ساكناً بإيقاف هذا الدوران.
__________
(1) معجزات علمية (177)
(2) معجزات علمية (177)
(3) معجزات علمية (177)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/704)
بعد أن انتهى تلاميذ الراسخ من الإجابة على كل الإشكالات، وتبيين ما رأوه من مغالطات، التفت القاضي إلى الشيوخ، وقال: ها قد سمعتم إجاباتهم؛ فما ترون الحكم المناسب فيهم؟ .. هل هم مصيبون، وأنتم بذلك مخطئون في ادعاءاتكم عليهم، أو أنهم مخطئون .. وحينها تحتاجون إلى بيان نوع خطئهم، وهل هو من الخلاف المعتبر والمحتمل والذي لا تضيق به الشريعة، أم أنه خلاف بدعة وضلالة؟ .. وحينها أنتم تعرفون الحكم الذي سأصدره في حقهم .. فأنا لا أبني أحكامي إلا على ضوء ما لديكم من علم وتخصص.
قام بعض الشيوخ، وقال: نحن نتأسف كثيرا أن يكون حكمنا هو الافتراض الأخير الذي ذكرته .. فكل ما ذكره هؤلاء المبتدعون لا يعدو تكرارا لما يذكره أساتذتهم الضالين المبتدعين في كل العصور، أولئك الذين تسببوا في سجن شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله من الذين تسببوا في المحنة الكبرى التي وقعت لإمامنا العظيم إمام أحمد بن حنبل.
قال آخر: ولولا أن الوزير المكلف بهذه الشؤون سمح لهم بالحديث، وطلب منا أن نجلس إليهم، لنسمع منهم، ونحاورهم ما قبلنا ذلك .. فقد حذر سلفنا من ا لسماع للمبتدعة أو حوارهم أو مناظرتهم.
قال آخر: وقد نص على هذا جميع أئمتنا من السلف والخلف، ومن ذلك ما ذكره أبو القاسم اللالكائي في كتابه [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]، فقد قال: (فما جني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدا ودردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/705)
المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانا وأخدانا، وعلى المداهنة خلانا وإخوانا، بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادا، وفي الهجرة في الله أعوانا، يكفرونهم في وجوههم عيانا، ويلعنونهم جهارا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين) (1)
قال آخر: لكن للأسف أمرنا الوزير بالسماع لهم، وإتاحة الفرصة لهم للحديث، ولم يكن من طاعته بد؛ فهو ولي أمرنا، ويحرم علينا مخالفته.
قال القاضي: فما تقولون في الحكم عليهم؟
قال أحد الشيوخ: من خلال سماعنا لكلامهم وأدلتهم نرى أنهم يتصفون بكل ما اتصف به أولئك الذين كفرهم شيوخنا وأساتذتنا من المجددين والمصلحين، وخصوصا شيخنا محمد بن عبد الوهاب، الذي حكم على علماء أهل عصره بالردة، وقاتلهم على ذلك.
قال آخر: ومثله علماؤنا الذين حكموا على الجهمية من الذين أنكروا الحد والجهة وكل الصفات الخبرية والفعلية لله تعالى بالردة والقتل، كما قال إمامنا إمام الأئمة ابن خزيمة: (من لم يقل بأن الله فوق سمواته، وأنه على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة)، وقال: (من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى، فوق سبع سمواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئا) (2)
قال آخر: ومثله ما روي عن أبي العباس السراج، فقد قال: (من لم يقر ويؤمن بأن الله تعالى يعجب ويضحك، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: (من يسألني فأعطيه)،
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج 1، ص 19.
(2) انظر: درء تعارض العقل والنقل 6/ 264.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/706)
فهو زنديق كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين) (1)
قال آخر: ومثلهما أبو معمر الهزلي، فقد قال: (من زعم أن الله تعالى لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب ـ وذكر أحاديث الصفات ـ فهو كافر بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفاً فألقوه فيها) (2)
قال آخر: ومثلهم جميعا ما روي عن عبد الرحمن بن محمد بن حبيب عن أبيه عن جده قال: شهدت خالد بن عبد الرحمن القسري ـ وخطبهم بواسط ـ فقال: (يا أيها الناس، ضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علواً كبيراً)، ثم نزل فذبحه) (3)
قال آخر: فهؤلاء وغيرهم حكموا على أمثال هؤلاء بالقتل، ولذلك لا حكم لنا عليهم إلا به، وأمام الناس، حتى نسد هذه المفسدة، وقد قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين معقبا على ثناء شيخ الإسلام ابن تيمية على خالد القسري وذبحه الجعد بن درهم: (جزاه الله خيرا، فالناس يضحون بالغنم والشاة والمعز والبعير والبقر .. وهذا ضحى بشر منها، فإنه شر من الإبل والغنم والحمير والخنازير، لأن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، ويقول: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وإني أسأل الآن: البعير عن سبع، والبقر عن سبع، وهذا الرجل عن كم .. عن آلاف آلاف وقي الله شرا كبيرا، لكن بعض الناس والعياذ بالله يقولون إن هذا العمل من خالد بن عبد الله القسري ليس دينا، ولكنه
__________
(1) العلو ص 156.
(2) الحجة في بيان المحجة للأصبهاني، 1/ 44.
(3) العلو للذهبي ص 100.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/707)
سياسي، ونقول لهم هذا كذب، لأن الرجل صرح أمام الناس أنه قتله من أجل هذه البدعة) (1)
قال آخر: وقد مدح ابن القيم هذا السلوك العظيم من خالد القسري في (النونية) التي عرض فيها عقيدة السلف، فقال (2):
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ... القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان
بعد أن قالوا هذا، التفت القاضي إلى السياف، وقال: ها قد حكم علماؤنا الأجلاء على هؤلاء الأشقياء بالقتل، وأما الملأ، وخير البر عاجله؛ فابدأ بما وكله الله إليك من إقامة حدوده؛ فأنت بذلك من المجاهدين في سبيل الله، القائمين على نصرته وتحقيق أمره.
قال السياف: فبمن أبدأ منهم؟
قال القاضي: ابدأ بمن شئت .. فهم أمامك كقطيع الغنم .. ضح بهم كما ضحى سلفنا بالجعد بن درهم وغيره من الزنادقة.
تقدم السياف من القفص الذي كنا فيه، ثم نظر إلي كما ينظر الجزار إلى الشاة التي يريد أن يذبحها، ثم قال لي: أنت .. يا من تحمل القراطيس والأقلام، وتكتب كل حين .. تعال .. فأنت ضحيتنا الأولى التي سنرسلها إلى جهنم وبئس المصير.
لا أخفيكم أن بعض الرعب قد سرى إلى نفسي، لكني عندما التفت إلى رفاقي من تلاميذ الراسخ، وثباتهم، لم أشأ أن أكون ممثلا سيئا عنهم .. فلذلك اقتربت من السياف، بعد أن سلمت أوراقي إليهم، وقلت: ها أنذا بين يديك .. فافعل ما تراه مرضيا لك عند ربك ..
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (1/ 240)
(2) الكافية الشافية لابن القيم بشرح ابن عيسى (1/ 50)
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/708)
واعلم أننا سنلتقي هناك جميعا في محكمة لا يقضي فيها هذا القاضي، وإنما يقضي فيها الله الديان الحكم العدل الذي لا يُظلم عنده أحد.
عندما قلت ذلك شاهدت وجهه قد تغير كثيرا، لكنه ظل مع ذلك متمسكا بي، وبشدة، وعندما اقتربنا من المقصلة التي ينفذ عندها الحكم، ووضعت رأسي عليها، وهم بتنفيذ الحكم .. إذا بذلك الوزير الصالح الذي كان يكتم شأنه قد أتى مسرعا بفرسه، وهو ينادي: مهلا أيها السياف .. فهذا الذي أمامك بشر وليس شاة .. فلذلك انتظر، وأخبرنا: هل أنت مقتنع بأن هذا الشخص مستحق للقتل، حتى تقتله، أم أنك فقط تنفذ حكم القاضي؟
قال السياف: أنا لست عالما ولا فقيها .. وإنما أنفذ حكم القاضي فقط.
قال الوزير: هذا لا يكفي لتنفيذك للحكم .. لابد أن تكون مقتنعا بذلك، وإلا فإنك ستعتبر قاتلا مجرما، لا مقيما لحدود الله.
قال السياف: فإذا لم أكن مقتنعا .. ورغبت عن تنفيذ هذا الحكم .. فهل ستسمحون لي بذلك؟
قال الوزير: أجل .. سنسمح لك بذلك .. فدولتنا العادلة لا تجبر أحدا على ما لم يقتنع به .. لكنك حينها ستصبح فردا من هؤلاء الذين تراهم في القفص، وسيحكم عليك القاضي بما حكم عليهم.
كنت أظن أن السياف ـ بعد أن وضع بين هذين الخيارين ـ سيختار أيسرهما، ثم يعتبر نفسه بعد ذلك ممن اجتهد وأخطأ، كما يفتي الكثير من الشيوخ .. لكنه لم يفعل، وإنما اختار التضحية، مما أثار عجب الجميع، فقد قال بكل جرأة: ما دمت قد ذكرت لي هذا .. فإني أنا السياف القاسي الغليظ .. لن أضحي بآخرتي من أجل هذه الدنيا الفانية .. ويسعدني أن
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/709)
أنضم إلى هؤلاء الفتيان الصادقين المخلصين الذين استمعت لكلماتهم المملوءة بالصدق والإيمان والحجة القاطعة.
قال ذلك، ثم رفع رأسي عن المقصلة، وقال: ها هو رأسي في المقصلة .. فإني أريد أن أتشرف بأن أكون أول من يستشهد في سبيل الله في هذا اليوم.
بعد أن قال ذلك، قال الوزير: لا بأس .. وأحسنت على صراحتك هذه .. والآن .. فليتقدم القاضي، ليقيم حد الله على هذا المتمرد الذي أبى تنفيذ ما أمر به.
قال القاضي: اعفني حضرة الوزير .. فأنا مجرد قاض .. ولم أحكم إلا بما أملاه علي هؤلاء الشيوخ.
قال الوزير: ولكنك كنت تستمع إلى كلا الطرفين .. فلم قبلت أحدهما، ورفضت الآخر؟
قال القاضي: نعم .. كنت أستمع إليهما .. لكن شتان بينهما .. فهؤلاء شيوخ يمثلون دولتنا العادلة .. وهؤلاء متهمون .. وأنا في العادة أتعامل مع كل شخص بحسب حاله وموضعه.
قال الوزير: لكن هذا لا يستقيم في دولتنا العادلة .. فلهذا إما أن تقيم الحكم، وتقتل السياف المتمرد، وجميع هؤلاء المتهمين .. وإلا فإن عليك أن تضع رأسك مع رأسه .. ليقيم الحد عليكم شيوخنا الأفاضل الذين لا يشك أحد في قناعتهم بما حكموا به.
ألقى القاضي العمامة عن رأسه، وقال: ما دام الأمر كذلك .. فلن أضحي بديني وآخرتي من أجل هذه الدنيا الفانية ..
وبعد أن اقترب من المقصلة قال: ما دامت هذه هي الساعات الأخيرة من عمري؛ فإني أصرح لكم بأني مقتنع تماما بكلام هؤلاء الفتية المظلومين؛ فهم الأعلم والأحكم، وهم
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/710)
خير من يمثل الإسلام والقرآن.
قال الوزير: ها قد ظهر متمرد جديد .. ولذلك لم يبق أمامنا إلا شيوخنا الأفاضل .. وأنا أطلب من كبيرهم أن يحيي سنة خالد القسري؛ فيبدأ بالتضحية بالقاضي .. ثم يقوم غيره من الشيوخ بقتل الباقين.
لاحظت وجه الشيخ قد تغير كثيرا .. لكنه فعل مثل القاضي تماما .. حيث ألقى عمامته .. واقترب من المقصلة، وقال: ما دامت هذه هي اللحظات الأخيرة من عمري .. فإني أشهد بين أيديكم، وبين يدي الله تعالى، بأني قد تبت إلى الله، ورجعت عن كل الأقوال التي كنت أقولها إبان المحاكمة .. لقد كانت كلمات هؤلاء الفتيان وتضحياتهم كالبلسم الذي داوى كل جراحي .. فلذلك أنا أولى بإقامة الحد علي منهم.
وهكذا قال سائر الشيوخ .. وحينها سمعت التكبيرات من الجماهير الحاضرة .. عندها قال الوزير: شكرا جزيلا لكم .. ولصدقكم في شهادتكم .. وأنا معكم فيها .. وما دمتم قد ذكرتم هذا .. فإني أرى أن الفرصة مناسبة للقضاء على أولئك المتجبرين الظلمة الذين نشروا مثل هذه التأويلات والتحريفات في مدينتنا، واستباحوا بها الدماء والأموال والأعراض .. فهيا بنا جميعا إلى قصر الحكومة، لنقيم حكم الله فيهم.
قال ذلك، ثم نزل من على فرسه، وراح يفتح باب القفص الذي كان يقيم فيه تلاميذ الراسخ، ويصافحهم بحرارة .. ومثلها فعل مع القاضي والشيوخ .. ثم أخذ القراطيس التي كنت أكتب فيها، وسلمها لي، وهو يقول: لا تنس أن تسجل كل ما رأيته .. وأضف إليه بأن دولة العدالة لا يمكنها أبدا أن تقوم على تأويلات الجهلة .. ولا على الجاهلين الذين يتبعونها، مثل الشجرة الطيبة، لا يمكنها أن تثمر إلا بعد أن تتخلص من كل الأعشاب الضارة التي تحيط بها.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/711)
ثم طلب من السياف أن يعتذر مني، ويعرف نفسه لي؛ فراح بكل تواضع يقبل رأسي، ويقول: أعتذر لك بشدة على القسوة التي بدرت مني، ويعلم الله أني كنت أتألم أكثر منك حين كنت أفعل ذلك، ولكن لم يكن مما فعلته بد؛ فخطتنا التي رسمها لنا الوزير المؤمن لم تكن تكتمل إلا بذلك.
تعجبت من قوله هذا، وقلت: هل كنت أيضا شريكا في الخطة .. لم أكن أتصور ذلك أبدا.
قال: أجل .. لقد كنت شريكا فيها .. وقد بدأت شراكتي حين تبت إلى الله، وقصدت الوزارة لأطلب منهم إعفائي عن مهمتي الإجرامية التي كلفوني بها، وكنت أعلم النتائج الخطيرة لذلك .. حينها طلب مني الوزير الذي يكتم إيمانه بألا أعلن توبتي، وأن أبقى في وظيفتي .. ثم أخبرني بالعملية الأخيرة التي رأيتها بعينك.
قلت: لكن لم فعلتم هذا .. ولم احتاجوا إليك في تنفيذها.
قال الوزير: لقد كان هذا جزءا أساسيا من الخطة، ذلك أني كنت أعلم أن القاضي والشيوخ، لم يكونوا ليجرؤوا على ذلك الموقف لو لم يشاهدوا مثالا أمامهم، وقد رأيت أن أحسن مثال هو السياف نفسه، لأنه رمز القسوة والغلظة .. ولهذا استعمله وسيلة لكسر جدار الخوف الذي يسكن قلوبهم.
قلت: ولكن هل كنت مطمئنا إلى أن الشيوخ لن ينفذوا الحكم؟
قال: أجل .. فقد كنت أعلم جبنهم .. وأعلم في نفس الوقت مدى هشاشة المعتقدات التي يحملونها، ولذلك يفرون منها إلى ذكر الرجال الكثيرين الذين يستندون إليهم.
ما قال ذلك، حتى وجدت نفسي في بيتي، وبين يدي القراطيس التي كتبتها، والتي رحت أسرع في تنظيمها وتنسيقها وتنقيحها إلى أن اكتملت في هذا الكتاب.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/712)
وبعد أن طبعت منه مجموعة من النسخ، سرت بها إلى مسجد يسمونه عندنا [مسجد السنة]، والبعض يسميه [مسجد التوحيد]، وهناك وضعتها في رفوف مكتبته من غير أن أكتب اسمي، ومن غير أن يراني أحد.
وبعد أيام سمعت ضجة كبيرة أمام ذلك المسجد؛ حيث أن البعض كان يحمل تلك النسخ، ويريد إحراقها، وآخرون من أصحابه ينهونه عن ذلك .. وبما أن الحوار طال كثيرا بين الطرفين؛ فقد عدت إلى بيتي من غير أن أعرف نتيجة ما حصل.
لكني، وفي منتصف الليل، سمعت الباب يُدق، فخرجت لأفتحه، وإذا بي أرى أولئك الذين اختلفوا في إحراق الكتاب، يقولون لي: لقد علمنا أنك أنت من وضع الكتاب في المسجد .. ونحن قد أتينا هنا لشكرك على ذلك .. فقد أنقذنا من كل تلك الأباطيل التي كنا نلصقها بالقرآن الكريم.
قال آخر: وقد أتينا أيضا لنطلب منك أن تسلم على معلمك، وأن تطلب منه أن يرسلك إلى رحلة لبيان هداية القرآن الكريم الشاملة لكل المجالات؛ فلا يفهم القرآن من أخذ ببعضه دون بعض، أو غلّب بعضه على بعض .. ونحن ما وقع فينا الانحراف إلا بسبب ذلك.
بعد أن شكرتهم، وحمدت الله تعالى على هدايتهم، وعدت إلى بيتي، وجدت معلمي يقول لي: هيئ نفسك لرحلتك الجديدة إلى [القرآن .. والهداية الشاملة] (1)
__________
(1) هو عنوان الكتاب السادس من السلسلة.
القرآن.. وتأويل الجاهلين (2/713)
هذا الكتاب هو المقدمة الخامسة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثالث من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [تأويل الجاهلين]
ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي لا يقتصر تأويلها على الانحراف في فهم القرآن الكريم فقط، بل له تأثيره الواقعي أيضا، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، والتي يمكن أن تشمل الدين، ويمكن أن تشمل الدنيا.
ومع كثرة التأويلات المنحرفة عن التنزيل، والتي تكاد تشمل كل آية من القرآن الكريم إلا أننا وجدنا من خلال تطبيق ما أسميناه [التأويل الواقعي] أن من يُطلق عليهم لقب [السلفية]، أو [أهل الحديث]، أو [الوهابية]، وغيرها من الألقاب، هم أجدر الناس بهذا النوع من التأويل.
ولذلك نراهم يخالفون الأمة جميعا وبمدارسها المختلفة في تلك التأويلات، والتي لم تقتصر على الجانب النظري فقط، بل تعدته إلى إحداث فتن كثيرة في الواقع.
وقد تجلت في بدايتها بتكفير الأمة من خلال اتهامها بالتعطيل والجهمية، نتيجة تنزيهها لله تعالى عن الجسمية ولوازمها.
ثم ترقت إلى ما حصل في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تأويل كل الآيات الواردة في المشركين وتطبيقها على المسلمين بجميع مدارسهم، وعدم الاكتفاء بذلك، بل محاربتهم وسفك دمائهم.
ثم ترقت إلى ما حصل في عصرنا من إنكار للحقائق العلمية القطعية، وتأويل الآيات القرآنية بخلاف ما يقتضيه العلم، مما جر فتنة كبيرة لا نزال نعاني آثارها.
ومثل ذلك ما حصل في كل تاريخ هذه الطائفة من تشويه للأنبياء عليهم السلام، وتفسير ما ورد في القرآن الكريم من المتشابه في شأنهم بالروايات الإسرائيلية، وبذلك شوهوا القيم النبيلة التي ضرب الله تعالى لها الأمثال بتلك القصص التي أوردها.