الظلمات والنور

الظلمات والنور

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الظلمات والنور، وحقيقتهما، وسر ذكر النصوص المقدسة الكثير لهما، وعن علاقتهما بالنفس المطمئنة ورضاها.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن كل رحلة السالك إلى الله هي رحلة مرتبطة باجتثاث الظلمات، واستبدالها بالأنوار، ولذلك كان الترقي مساويا للتنور، وكان التدني مساويا للانغماس في الظلمات.

ولذلك كانت علامة النفس المطمئنة امتلاؤها بالأنوار، وكان رضاها هو ما أتاحت لها تلك الأنوار من معاينة ما لم تكن تعاينه، وتذوق ما لم تكن تذوقه.

ولهذا اعتبر الله تعالى انشراح الصدر بالإيمان بسبب امتلائه بالأنوار، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22]

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير الأنوار في القلب، فقال: (إذا دخل النور القلب، انفسح وانشرح)، قالوا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجاني عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله) ([1])

وإن شئت تقريبا لهذا ـ أيها المريد الصادق ـ فتوهم نفسك قد ذهبت إلى قصر مهيب فيه من كل ألوان الزينة، أو ذهبت إلى جنة فيحاء فيها من كل ألوان الأزهار والثمار.. لكن الظلمة كانت مطبقة، بحيث لا يمكن رؤية شيء.. فهل يمكن التنعم بذلك القصر، أو بتلك الجنان، أم أنها تصبح مشابهة للصحارى والفيافي الخالية من كل زينة، والممتلئة بكل وحشة؟

لكن الأمر يتغير تماما بعد إضاءة القصر والجنان.. وبقدر تلك الإضاءة يبدو جمال الأشياء الذي كان مخبأ في الظلمات، والذي كان حينها أشبه بالعدم منه بالوجود.

ولذلك؛ فإن ذلك النور الحسي البسيط هو الذي مكن المدارك الحسية من رؤية الأشياء، والتمييز بينها، والتمتع بما فيها من جمال.. ولو لم يكن ذلك النور، لما كان هناك أي معنى للعين، فواسطة رؤيتها للأشياء هي تلك الأنوار التي أتاحتها لها.

ولو لم تكن تلك الأنوار والعين التي تشاهدها لكان ذلك القصر أو تلك الجنان معدوما في نظرها، أو ميتا لا حياة له.

ولهذا قرن الله تعالى بين النور والظلمات، والرؤية والعمى، والحياة والموت، والظل والحرور، فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 19 – 22]، وقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ [الرعد: 16]

وبذلك فإن النور هو الواسطة التي من خلالها يمكن للمدارك التي وهبت للإنسان أن تؤدي وظائفها.. سواء كانت مدارك حسية ظاهرية، أو مدارك وجدانية باطنية.

وكما أن للمدارك الحسية الظاهرية أنوارها الخاصة بها، والتي تهتدي بها إلى الموجودات الغليظة الحسية؛ فكذلك للمدارك الباطنية أنوارها الخاصة بها، والتي تهتدي بها إلى الموجودة اللطيفة المعنوية.

ولهذا كانت رحلة السالك إلى الله هي رحلة إنارة لبصيرته، لتتمكن من رؤية الحقائق رأي العين، لأنه لا يحصل اليقين إلا بذلك.

وبما أن السالك لا يملك إلا مداركه، ولا قدرة له على توفير الأنوار؛ فإن دوره في سلوكه قاصر على توفير القابلية لبصيرته لمشاهدة الأنوار، وآثارها على الكائنات.. وهو يشبه في ذلك من يزيل الغشاوة عن عينيه حتى تتمكن عينه من رؤية الأشياء كما هي، لا كما يتوهمها.

ولهذا أخبر الله تعالى عن رحمته بعباده المتواضعين المخبتين المستعدين للسلوك إليه بأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257]، وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]

وهذه الآيات الكريمة تعني أن الله تعالى بلطفه بعباده يوفر لهم الأنوار المناسبة لبصائرهم لترى الحقائق، حتى لا تقع في جحودها، أو تتسرب إليها الأوهام التي تسيء إليها.

ومن تلك الأنوار التي وفرها الله تعالى لعباده، ليخرجهم من ظلمات الأوهام والدجل والجدل أنوار الهداية التي أرسلها إليهم عبر أنبيائه وكتبه، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ﴾ [إبراهيم: 5]

وقال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من القرآن الكريم: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]

وأخبر عن دور القرآن الكريم في توفير الأنوار للمؤمنين ليبصروا الحقائق، فقال:﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1]، وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 9]، وقال: ﴿فَاتَّقُوا الله يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ ﴾ [الطلاق: 10، 11]

وبذلك فإن فضل الله تعالى على عباده بتوفير ما يحتاجونه من أنوار الهداية شامل لهم جميعا، لكن الظالمين منهم هم الذين راحوا يضعون الغشاوات على بصائرهم حتى لا يبصروا الأنوار، ولذلك كانوا ظالمين لأنفسهم، مستحقين لما حصل لهم، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39]، وقال: ﴿الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]

وأخبر عن المؤمنين الذين لم يستكبروا عن أنوار ربهم، وإنما انفعلوا لها، وأبصروا بها، حتى خرجوا بها من ظلمات الموت إلى أنوار الحياة، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122] 

ولهذا؛ فإن المؤمنين الذين امتلأوا بالأنوار في الدنيا، يطلبون من الذين قصروا في التماس الأنوار في الدنيا بالعودة إليها لشحن أنفسهم منها، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ﴾ [الحديد: 13]

ولهذا يخبر الله تعالى أن نوره متسع لكل شيء.. ولكنه مع اتساعه لا يمكن رؤيته لمن أغلق عينيه، أو وضع الحجب بينه وبين رؤية نور ربه، قال تعالى: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 35]

ولذلك، فإن كل مراحل السلوك إلى الله عبارة عن اجتثاث للظلمات، واستزادة من الأنوار.. فكلما ازداد النور كلما ازدادت المعرفة، وظهرت الأشياء بصورتها الحقيقية التي كانت محجوبة عنها بسبب الظلمات.. وكلما ازدادت المعرفة ظهرت آثارها في النفس عبر القيم الطيبة التي تتنزل عليها، وتظهر بها، وتترقى من خلالها.

وقد أشار إلى ذلك الإمام الصادق، فقال: (الأنوار مختلفة: أولها نور حفظ القلب، ثم نور الخوف، ثم نور الرجاء، ثم نور التذكر، ثم نور النظر بنور العلم، ثم نور الحياء، ثم نور حلاوة الإيمان، ثم نور الإسلام، ثم نور الإحسان، ثم نور النعمة، ثم نور الفضل، ثم نور الآلاء، ثم نور الكرم، ثم نور العطف، ثم نور القلب، ثم نور الإحاطة، ثم نور الهيبة، ثم نور الحيرة، ثم نور الحياة، ثم نور الأنس، ثم نور الاستقامة، ثم نور الاستكانة، ثم نور الطمأنينة، ثم نور العظمة، ثم نور الجمال، ثم نور القدرة، ثم نور الجلال، ثم نور الألوهية، ثم نور الوحدانية، ثم نور الفردانية، ثم نور الأبدية، ثم نور السرمدية، ثم نور الديمومية، ثم نور الأزلية، ثم نور البقاء، ثم نور الكلية، ثم نور الهوية.. ولكل واحد من هذه الأنوار أهل وله حال ومحل، وكلها من أنوار الحق التي ذكر الله تعالى في قوله: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ولكل عبد من عبيده مشرب من نور هذه الأنوار، وربما كان له حظ من نورين أو ثلاثة.. ولن تتم هذه الأنوار لأحد إلا للمصطفى، لأنه القائم مع الله تعالى بشرط تصحيح العبودية والمحبة. فهو نور وهو من ربه على نور)([2])

وقد عبر بعض الحكماء عن حاجة السالك في كل مراحل سيره إلى الأنوار، وعدم استطاعته القيام بأي حركة في التزكية والترقية من دونها، فقال: (اهتدى الراحلون إليه بأنوار التّوجّه، والواصلون لهم أنوار المواجهة، فالأولون للأنوار، وهؤلاء الأنوار لهم لأنهم للّه لا لشي ء دونه)

وهو يقصد بأنوار التوجه تلك المجاهدات التي يقوم بها السالك أثناء سيره التحققي والتخلقي.. ويقصد بأنوار المواجهة تلك المكافآت الإلهية للصادقين من عباده، والتي عبر عنها بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]

وبذلك فإن للسالك نوعان من الأنوار: أنوار كسبية، ممتلئة بالتعب والجهد، وأنوار وهبية، وهي فضل إلهي، وهي ممتلئة بالراحة والسعادة.

وقد وصف بعض الحكماء كلا النورين فقال: (أنوار التوجه: هو ما صدر منهم إلى الله تعالى من عبادات ومعاملات ومكابدات ومجاهدات.. وأنوار المواجهة: هو ما صدر من الله لهم من تعرف وتقرب وتودد وتحبب. فالأولون عبيد الأنوار لوجود حاجاتهم إليها في الوصول إلى مقصودهم، والآخرون الأنوار لهم لوجود غناهم عنها بربهم)([3]

وعبر آخر عن ذلك بتعابير مختلفة، فقال: (أنوار التوجه: هي أنوار الإسلام والإيمان، وأنوار المواجهة: هي أنوار الإحسان) ([4])

وبعبارة أخرى: (أنوار التوجه: أنوار الطاعة الظاهرة والباطنة، وأنوار المواجهة هي أنوار الفكرة والنظرة)

وبعبارة أخرى: (أنوار التوجه: أنوار الشريعة والطريقة، وأنوار المواجهة: أنوار الحقيقة)

وبعبارة أخرى: (أنوار التوجه: أنوار المجاهدة والمكابدة، وأنوار المواجهة: هي أنوار المشاهدة والمكالمة)

ثم فسر ذلك بأن (الحق سبحانه إذا أراد أن يوصل عبده إليه توجه إليه أولا بنور حلاوة العمل الظاهر، وهو مقام الإسلام فيهتدي إلى العمل ويفنى فيه ويذوق حلاوته، ثم يتوجه إليه بنور حلاوة العمل الباطن وهو مقام الإيمان من الإخلاص والصدق والطمأنينة والأنس باللّه والتوحش مما سواه، فيهتدي إليه ويفنى فيه ويذوق حلاوته ويتمكن من المراقبة، وهذا النور أعظم من الأول وأكمل، ثم يتوجه إليه بنور حلاوة المشاهدة، وهو عمل الروح وهو أول نور المواجهة، فتأخذه الدهشة والحيرة والسكرة، فإذا أفاق من سكرته وصحا من جذبته وتمكن من الشهود وعرف الملك المعبود ورجع إلى البقاء، كان للّه وباللّه فاستغنى عن النور بمشاهدة نور النور، لأنه صار عين النور، فصار مالكا للأنوار بعد أن كانت مالكة له لافتقاره لها قبل وصوله إلى أصلها، فلما وصل صار عبدا للّه، حرّا مما سواه، ظاهره عبودية وباطنه حرية، والحاصل أن المريد ما دام في السير فهو يهتدي بأنوار التوجه مفتقرا إليها لسيره بها، فإذا وصل إلى مقام المشاهدة حصلت له أنوار المواجهة فلم يفتقر إلى شي ء لأنه للّه لا لشي ء دونه. فالراحلون وهم السائرون للأنوار لافتقارهم إليها وفرحهم بها، وهؤلاء الواصلون الأنوار لهم لاستغنائهم عنها باللّه، فهم للّه وباللّه لا لشي ء دونه) ([5])

وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ من يسير في الظلمات صحبة سراج مضيء، لكنه كلما اقترب من الهدف، كلما ازدادت الأنوار تألقا وإشعاعا إلى أن يرى نفسه غير محتاج للسراج الذي كان يسير به، لأنه صار مغمورا بالأنوار.

أو بتعبير آخر ـ ربما يكون أدق ـ يصبح نتيجة صقله لنفسه وتهذيبه لها مرآة عاكسة للأنوار؛ فلذلك يستغني بتلك الأنوار المنعكسة عليها عن غيرها.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن السالك كلما اكتسب المزيد من الأنوار كلما اقترب من ربه، ذلك أن الله هو النور الأعظم الذي لا يوجد نور إلا منه، ولذلك كان من أسمائه النور، وهو الوحيد الجدير بهذا الاسم، وكل من عداه فقد استعاره منه، مثلما استعار القمر نوره من الشمس.

وقد عبر بعضهم عن هذا المعنى، فقال: يقول: (النور عز وجل: هو الحق، ويسمى: نور الأنوار: لأن جميع الأنوار منه، والنور المحيط: لإحاطته جميعها وكمال إشراقه ونفوذه فيها للطفه.. والنور القيوم: لقيام الجميع به.. والنور المقدس: أي المنـزه عن جميع صفات النقص.. والنور الأعظم الأعلى: إذ لا أعظم ولا أعلى منه)([6])

وقال آخر: (النور عز وجل: هو الظاهر الذي به كل ظهور، فإن الظاهر بنفسه المظهر لغيره يسمى نورا، ومهما قوبل الوجود بالعدم، كان الظهور لا محالة للوجود، ولا ظلام أظلم من العدم.. فالبريء عن ظلمة العدم، بل عن إمكان العدم، والمخرج كل الأشياء من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود – جدير بأن يسمى: نوراً)([7])

وبين سر كون النور في غير حق الله نوعا من الاستعارة والمجاز، فقال: (إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض، إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له، بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض. أفترى أن من استعار ثيابا وفرسا ومركبا وسرجا، وركبه في الوقت الذى أركبه المعير، وعلى الحد الذى رسمه، غنى بالحقيقة أو بالمجاز؟ وأن المعير هو الغنى أو المستعير؟ كلا، بل المستعير فقير في نفسه كما كان، وإنما الغنى هو المعير الذى منه الإعارة والإعطاء، وإليه الاسترداد والانتزاع.. فإذن النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولا والإدامة ثانيا. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكا، وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا وألبتة) ([8])

وهذا المعنى هو الذي يشاهده أصحاب النفوس المطمئنة الذين يكتشفون في رحلتهم إلى الله أن كل كمال وجمال ولطف ورحمة وحسن وبهاء إنما هو لله وحده، وكل ما عداه فهو أثر من آثار جماله، وقد قال بعض الحكماء معبرا عن هذا: (من هنا ترقي العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية لكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فهو باعتبار وجه نفسه عدم، وباعتبار وجه الله تعالى موجود.. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه.. فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء البارئ تعالى ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16]، بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبدا) ([9])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تلتمس الأنوار في الدنيا قبل الآخرة، فلا يمكنك أن تعرف الحقائق، ولا أن تذوق الإيمان، ولا أن تترقى في معارج المقربين، ولا أن تنزل منازلهم من دون أن تصقل مرآة قلبك لتنعكس فيها الأنوار، وحينها ستكتشف الجمال الذي كان مختبئا وراء حجاب الظلمات.


([1]) البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 258) الطبري في تفسيره (12 / 101 رقم 13856)

([2]) د. علي زيعور، التفسير الصوفي للقرآن عند الصادق، ص 176.

([3]) ابن عباد الرندي، غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 124.

([4]) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 110.

([5]) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 110.

([6]) د. عبد المنعم الحفني، معجم مصطلحات الصوفية، ص 258.

([7]) المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ص 129.

([8]) مشكاة الأنوار (ص 54)

([9]) مشكاة الأنوار (ص 56)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *