الوعد والوعيد

الوعد والوعيد

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عما ورد في النصوص المقدسة من الوعد والوعيد، وعلاقتها بأسماء الله الحسنى، وعلاقتها بالنفس المطمئنة ورضاها، وعن أولئك الذين قد يتلفظون بألفاظ يبدو فيها بعض الاحتقار لبعضها، ومدى شرعيته.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن من مقتضيات ربوبية الله تعالى لعباده، أن يستعمل معهم كل الوسائل التي تحبب لهم تزكية أنفسهم وتهذيبها، لتتحقق بالطيبة التي تستدعيها التربية الإلهية، وهو معنى إخراجهم من الظلمات إلى النور.

فلا يمكن أن تخرج شخصا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ولا من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ولا من ظلمات الوهم إلى نور الفهم إلا بعد أن تملأ نفسه المملوءة بالحرص والطمع بأنواع المثيرات التي تدعوها لذلك.

فإذا ما جُر بحبال تلك الحوافز والزواجر إلى عالم الأنوار والطهارة والصدق أصبح مستغنيا بها عنها، لأنه سيجد فيها مقصوده الذي كان غافلا عنه.

وذلك مثل التلميذ الذي يفر من الدراسة، ولا يهتم بها، لكن معلمه الحكيم، أو والده الحريص، يظل يشجعه بأنواع الجوائز، والتي قد تختلط ببعض التهديد إلى أن يتعود على الدراسة، وحينها قد تصبح لذته التي لا يحتاج معها إلى أن يُدفع إليها بأي دافع.

وهذا ما يفسر ما قد تسمعه من بعضهم من كونه قد وصل إلى مرحلة لا يحتاج فيها إلى أن يُرغب بجنة أو يُحذر من نار؛ فيكفيه عبوديته لربه؛ فهي جنته العظمى، ويكفيه البعد عن الحجاب فهي النار الأعظم.

وهذا لا يعني عدم الرغبة في الجنة، ولا عدم الحذر من النار؛ فمعاذ الله أن يستهزئ مؤمن بوعد الله أو وعيده، أو يسخر من هدايا الله لعباده، أو من تهديده لهم.. وإنما قد يفعل ذلك بناء على حال نفسية تعتريه، أو مشاعر حالية تتنزل عليه.

أما إذا وجدت من يتجاوز الحد في ذلك؛ فيسخر من الحور والقصور، أو من الجنات التي تحتها الأنهار، أو من السلاسل والنيران؛ فاعلم أنه كاذب مستدرج، ذلك أن هذا الذي يدعي مثل هذا قد يبيع كل شيء من أجل كوخ حقير، أو مال قليل، وقد يتخلى عن كل شيء من أجل تهديد من شرطي، في نفس الوقت الذي يدعي فيه عدم خوفه من تهديد الله تعالى ووعيده.

لذلك كان الأدب مع الله يستدعي الأدب مع كل شيء يرتبط به.. الأدب مع شريعته.. والأدب مع الحوافز التي رغب بها إلى السلوك إليه.. والأدب مع الزواجر التي وضعها للنفوس الأمارة حتى تقلع عن غيها، وتستقيم لربها.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أولئك الذين يذكرون مثل هذا، وفي محضر عوام الناس وخواصهم، إنما يمارسون دورا معاكسا للدور الذي جاء به الرسل عليهم السلام، بل إنهم يكادون يشبهون أولئك الساخرين من الأنبياء عليهم السلام حينما كانوا يستعجلون تحقيق الوعيد الإلهي بالعذاب، كما قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 54، 55]

ولهذا؛ فإن ورثة الرسل عليهم السلام الصادقين في وراثتهم هم الذين يخلفونهم في التبشير والإنذار، ولا يترفعون عن وعد الله ولا وعيده، بل إنهم يستعملونه وسيلة للهداية مثلما استعمله ربهم، ومثلما استعمله نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.

فلو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ رجعت إلى كتاب ربك، لوجدت أنه لا يكاد يذكر عملا صالحا إلا ويمهد له أو يذكر عقبه ما يدفع إليه، أو يحذر من التهاون في شأنه.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى تعقيبا على قول النصارى المؤمنين، الذين قالوا: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِالله وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ [المائدة: 84]، فقد عقب على قولهم بقوله: ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة: 85، 86]

ففي الآيتين الكريمتين اجتماع الحوافز مع الزواجر في محل واحد، حتى تمتلئ النفس هيبة وخوفا، كما تمتلئ حرصا وطمعا في فضل الله تعالى.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى في بيان جزاء المحسنين والمسيئين: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: 26، 27]

وهكذا يمتلئ القرآن الكريم بذكر الحوافز والزواجر، ومثله السنة المطهرة؛ حيث لا تكاد تجد طاعة إلا وتقترن بالجزاء الإلهي المرتبط بها، كما أنك لا يمكن أن تجد معصية إلا وترتبط بالعقوبة الإلهية التي وضعها الله تعالى لها.

ولا يغرنك ـ أيها المريد الصادق ـ ما يذكره بعضهم من أن الله تعالى صادق في وعده، وفي الحوافز التي وعد بها، لكنه قد يخلف في وعيده.. فكل ذلك غرور وأماني؛ فالله تعالى صادق في الجميع، في وعده ووعيده، وكيف لا يكون صادقا، وكلماته تامات، لا مبدل لها، قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115]

وقد شاء الله أن تعقب هذا الآية الكريمة بقوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 116، 117]

وكأنها تنبه أولئك الذين يمنون أنفسهم بالتساهل في حق جرائمهم ومعاصيهم بأن ذلك مجرد ظن كاذب، وغرور قاتل، وأماني نفسية، وأن الواقع الذي ينتظرهم أخطر مما يتصورون.

ولهذا يشيد الله تعالى بالمؤمنين الذين ينفعلون لتلك الزواجر والحوافز؛ فيفرحون، ويحزنون بحسب ما يمر عليهم منها، قال تعالى: ﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57]

وكيف لا يكون الأمر كذلك، وقد أخبر الله تعالى عن خيرة خلقه، وأدبهم مع حوافز ربهم وزواجره، وقد قال آمرا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الأنعام: 15، 16]، وقال: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 13 – 16]

وحكى عن إبراهيم عليه السلام قوله: ﴿ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 87 – 89]

وحكى عن مؤمن آل فرعون قوله: ﴿ يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إلى الله وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر: 39 -43]

وهكذا يحكي الله تعالى عن الصالحين وطمعهم في فضل الله، وخشيتهم من عقوبته، ولا يمكن لأحد من الناس مهما ادعى أن يكون له ما كان لهم من الإيمان والتقوى والصلاح.. فكيف يتجرأ على ادعاء ما لم يدعوه، أو ينسب لنفسه من الكمال ما لم ينسبوه لأنفسهم.

وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن أدلك على النموذج الأكمل في الهداية، ذلك الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عينه، فصار إماما للمتقين، ويعسوبا للمهتدين.. فاسمع إلى دعائه، وهو يقول:

(يا إلهي وسيدي وربي، أتراك معذبي بنارك بعد توحيدك، وبعدما انطوى عليه قلبي من معرفتك، ولهج به لساني من ذكرك، واعتقده ضميري من حبك، وبعد صدق اعترافي ودعائي خاضعا لربوبيتك، هيهات! أنت أكرم من أن تضيع من ربيته، أو تبعد من أدنيته، أو تشرد من آويته، أو تسلم إلى البلاء من كفيته ورحمته، وليت شعري يا سيدي وإلهي ومولاي! أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة؟! ما هكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك يا كريم)

وقال متضرعا: (يا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على أن ذلك بلاءٌ ومكروهٌ قليلٌ مكثه، يسيرٌ بقاؤه قصيٌر مدته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاءٌ تطول مدته ويدوم مقامه ولا يخفف عن أهله، لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك؟! وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيدي فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين؟! يا إلهي وربي وسيدي ومولاي، لأي الأمور إليك أشكو، ولما منها أضج وأبكي، لأليم العذاب وشدته، أم لطول البلاء ومدته؟! فلئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك، وجمعت بيني وبين أهل بلائك، وفرقت بيني وبين أحبائك وأوليائك؛ فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟ وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟ أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك؟ فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقا، لئن تركتني ناطقا لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينك أين أنت يا ولي المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، ويا إله العالمين)

وقال: (أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وحبس بين أطباقها بجرمه وجريرته، وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسل إليك بربوبيتك، يا مولاي فكيف يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك؟ أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك؟ أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وترى مكانه؟ أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه؟ أم كيف يتقلقل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه؟ أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا رباه؟ أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها؟ هيهات! ما ذلك الظن بك ولا المعروف من فضلك، ولا مشبهٌ لما عاملت به الموحدين من برك وإحسانك! فباليقين أقطع، لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلها بردا وسلاما، وما كان لأحد فيها مقرا ولا مقاما، لكنك تقدست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنة والناس أجمعين، وأن تخلد فيها المعاندين، وأنت جل ثناؤك قلت مبتدئا، وتطولت بالإنعام متكرما: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)

هذا هو أدب العارفين بربهم، السائرين على خطى نبيهم، الذين لم يغيروا، ولم يبدلوا، ولم يتجرؤوا على كلمات ربهم؛ فيحتقروا أو يهونوا من شأنها.

مع العلم أنه هو نفسه من دعا إلى عبودية الأحرار، أولئك الذين يعبدون الله لله، لا طمعا، ولا خوفا، وإنما يصدقون في عبادتهم ويخلصون لله تعالى فيها، فقد قال في ذلك: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار)([1])

لكن فرق بين تحرير العبودية، وبين تحقير وعد الله ووعيده، أو توهم تخلفهما، أو تخلف أحدهما، ولهذا وصف الصالحين بقوله: (عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم،، فهم والجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنّار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون) ([2]

وقال في أول خطبة في خلافته: (الفرائض، الفرائض! أدّوها إلى اللّه تؤدّكم إلى الجنّة)([3])

ومنها قوله في بعض خطبه: (عباد اللّه، أوصيكم بتقوى اللّه، فإنّها حقّ اللّه عليكم، والموجبة على اللّه حقّكم، وأن تستعينوا عليها باللّه، وتستعينوا بها على اللّه، فإنّ التّقوى في اليوم الحرز والجنّة، وفي غد الطّريق إلى الجنّة) ([4])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تجمع بين عبودية العارفين وأدبهم؛ فكلما عظمت المعرفة، كلما عظم معها الأدب، وكلما عظم الأدب، كلما تعاملت مع الحقائق بحسب ما تتطلبه من الانفعالات والمشاعر.. فليس من الأدب أن تسمع اسم الجنة، ثم لا تهتز شوقا إليها، ولا أن تسمع اسم النار، ثم لا تتألم خوفا منها.. فالله تعالى ما أورد لك ذلك إلا لتعبده بتلك المشاعر.. فلكل لطيفة من اللطائف عبوديتها الخاصة بها.

فمثلما تكون عبودية سماعك لأذان الصلاة مسارعتك لأدائها، وعبودية رؤيتك لشهر الصيام مسارعتك للصيام.. فإن عبودية سماعك أو تذكرك لوعد الله أن تهتز شوقا إليه، وحرصا عليه.. وعبودية سماعك لوعيد الله أن تمتلئ مخافة وخشية، وتمد يديك بالدعاء والتضرع مثلما كان يفعل الأنبياء وأئمة الهدى.


([1]) نهج البلاغة ج 2 ص 197.

([2]) نهج البلاغة: الخطبة رقم (193)

([3]) نهج البلاغة: الخطبة رقم (167)

([4]) نهج البلاغة: الخطبة رقم (191)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *