الوحدة والكثرة

الوحدة والكثرة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الوحدة والكثرة التي يتحدث عنها الحكماء، ويشيرون إلى أنها من المعارف الضرورية للنفس الراضية، وأنها لن تتحقق برضاها حتى تميز بين محال الوحدة، ومحال الكثرة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن النفس لن تنال طمأنينتها، ولا رضاها، ولا سعادتها إلا بتحققها بهذه المعرفة، لا في الذهن والعقل فحسب.. بل في كل الكيان واللطائف.. وفي كل السلوكات والمواقف.

ولا تكفيها تلك المعرفة، حتى تتوحد معها، بحيث تتوجه إلى الواحد الأحد، وبكل الوجوه، حتى لا يجعلها الشرك الخفي أسيرة للشتات والآلام.

ولتفهم هذا، وأثره في النفس والسلوك أذكر لك هذا المثال، لتطبقه على حقائق الوجود.. تصور أنك ذهبت إلى مدينة من المدن؛ فتعرض لك فيها بعض المجرمين، الذين استطعت التعرف عليهم، وأخذ صورهم، بل معرفة أسمائهم.. لكنك عندما سألت عن الشرطة الذين تشكو إليهم حالك، أخبروك أن للشرطة في المدينة مراكز مختلفة، لكل مركز جهته الخاصة به.. فسألتهم عن المحكمة.. فأخبروك أنها كذلك.. وأن بعض أولئك المجرمين الذين سطوا عليك لديهم علاقات ببعض تلك المحاكم.. وهكذا إلى أن سألتهم عن صاحب الأمر في المدينة.. فأخبروك أنها موزعة على عدد من الحكام، لكل منهم قوانينه الخاصة به.. أو أنها تحت إمرة حاكم واحد، لكنه فوض شؤون المملكة لوزراء ومستشارين مختلفين، بحيث يتصرف كل منهم بحسب ما تملي عليه رغبته، ويملي عليه مزاجه.

هذا مثال يدلك على الكثرة بكل معانيها.. وهي قد تنطبق على أولئك المشركين الذين امتلأت قلوبهم آلاما نتيجة توزعها على آلهة شتى، فكلما أرضوا إلها أسخطوا غيره.

وهو ينطبق كذلك على أولئك الموحدين بألسنتهم، لا بقلوبهم، ولذلك تتشتت نفوسهم بحسب عدد الآلهة التي يعبدونها، وإن لم يشعروا بعبوديتهم لها.

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29]

فهذا المثال القرآني يوضح قيمة الوحدة، وأن العبودية للواحد، تجعل صاحبها ممتلئا بالراحة والسكينة والسلام، لأنه يعلم ما الذي يرضيه، وما الذي يسخصه.. لكنه إن كان موزعا بين سادة مختلفين متشاكسين، إن أرضى أحدهم أسخط الآخر، عاش المعاناة والآلام، ولن تطمئن نفسه، ولن ترضى أبدا.

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الوحدة لا تنفي الكثرة، وإنما تحميها، وتحفظها، وتجعلها منظمة منسقة يؤدي كل منها دوره الخاص به.. ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا كانت لها الرقابة التامة على كل أفراد الكثرة حتى لا يخرج أحدهم عما وكل إليه من مهام.. فبقدر سيطرة الوحدة على الكثرة يكون النظام والعدالة، وتمتلئ الحياة بالسلام.

ولذلك كانت وحدانية الله تقتضي سريانها في كل شيء، وتناسقها مع كل شيء، حتى لا يطغى جانب على جانب.. ولذلك كان حضور الله تعالى الدائم، هو الحصن الحصين الذي يحتمي به كل من عرف هذه المعرفة، كما قال تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]

وقال للملائكة عليهم السلام: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تملأ المؤمن بالسعادة لحضور الله تعالى، ومعيته لخلقه، وأنه الوحيد في ذلك.. فليس هناك من ينازعه في ملكه، أو يتصرف معه فيه.

وهكذا، فإن أسماء الله الحسنى جميعا، تتعلق بالوحدانية، فهي متناسقة معها، ومنطلقة منها، ولذلك كان للرحمة محلها الخاص بها، وكان للعذاب أهله الذين يتعلق بهم.. كما قال تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49، 50]

ولو أن الرحمة كانت مستقلة عن الوحدانية.. والعذاب كان مستقلا عنها.. لحصل الاختلال الذي يؤثر في كل شيء.

ولهذا، فإن كثرة أسماء الله الحسنى، والتي لا حدود لها، لا تتنافى مع الوحدة.. فهي كثرة تشبه الجوارح واللطائف التي يتكون منها الإنسان، ولكنها جميعا تخضع له ولإرادته، فيحرك منها ما يشاء، ويسكن منها ما يشاء، وفي الوقت الذي يشاء.

ولذلك كان الفرار من الله إلى الله.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إلى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]، ثم قال بعدها: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 51]

فالمؤمن هو الذي يفر من غضب الله إلى رضاه.. ومن عدله إلى رحمته.. من انتقامه إلى لطفه.. ومن إضلاله إلى هدايته.. وإذا أراد عبادة الله أو شكره لم يفعل ذلك إلا مستعينا بربه، كما قال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]

هذه هي المعارف التي تنفعك ـ أيها المريد الصادق ـ حول الكثرة والوحدة، وهي كافية لك، ولكل الخلق، وأعلم أن من أصحابك من لا يرضيه مثل هذا الجواب، فهو يريد أن أذكر له ما قاله الحكماء والعرفاء في كيفية صدور الكثرة عن الوحدة..

ولا يرضى عني إلا إذا رددت على مسامعه ما قاله الفلاسفة من أن هناك عقلاً أولاً، هو مبدأ الوجود الأول، عنه نتج عقل معلول هو المعلول الأول، ومن بعده المعلول الثاني، ثم الثالث فالرابع فالخامس… ثم نتج عن هذه العقول جملة من الأفلاك المتحركة.. بحسب ما يصفونه، ويختلفون فيه.

أو ما قاله من تأثر بهم ممن يدعون معرفة الله، والذين حاولوا تطبيق تلك المقولات على الحقائق العقدية، فيفسروها تفسيرا يتناسب مع ما يقوله الفلاسفة، مخبرين أن ذلك ما أداه إليهم الكشف والشهود.. ولكنهم بدل أن يسموه عقلا أولا يسمونه [حقيقة محمدية]، أو غيرها من التسميات.

وأنا لا أريد أن أرد على هؤلاء، ولا أن أوافقهم، ولكني أكتفي بأن أردد قوله تعالى: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف: 51]، والتي جاء بعدها قوله: ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا﴾ [الكهف: 52]

وكلا الآيتين تشير إلى أن البشر ـ نتيجة انشغالهم بالعلوم التي لا يملكون أدواتهم ـ تصوروا أن هناك من آتاهم الله تعالى العلوم، فراحوا يثقون في كل ما يقولون، من غير أن يكون لهم أي برهان، لا من العقل والمنطق، ولا من الكشف والشهود.

ومما يدلك على ذلك اختلاف الفلاسفة فيما بينهم في مثل هذه القضايا، بل إن كبار المتكلمين والفلاسفة([1]) ينكرون القاعدة التي تنطلق منها تلك المقولات، وهي أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.. فهي قاعدة قد تنطبق على المكونات، لكنها لا تنطبق على ربها وخالقها وبارئها صاحب الإرادة المطلقة، والمشيئة النافذة.

وقد أخبر الله تعالى عن كيفية صدور الخلق عنه، بعيدا عن كل تلك الترهات الفلسفية أو الكشفية، فقال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، وقال: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (البقرة:117)، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (غافر:68)

وأخبر أنه خالق كل شيء من غير حاجة لأي وسائط، فقال:P قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ الله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ O (الرعد:16)

وغيرها من الآيات الكريمة التي يخبر الله تعالى فيها عن صدور الكثرة عنه، من دون حاجة لأي وسائط، فيكفي أن تتوجه إرادته ومشيئته لذلك؛ فيتحقق ما يريد.

لذلك كانت تلك المراتب التي يذكرونها في كيفية صدور الكون نوعا من التكلف الممقوت، الذي قد يحجب صاحبه عن السير في طريق المعرفة الحقيقية التي تمتلئ بالتعظيم والتسليم والتواضع.. لا تلك المعرفة التي تدعي أنها يمكنها أن تصل إلى حقائق كل الأشياء من غير امتلاك لأدواتها.

وما ذكرته لك من هذا المعنى هو نفس ما ذكره الكثير من الحكماء والعلماء، وقد قال بعضهم في ذلك رادا على الذين قاسوا الله تعالى على خلقه، ولذلك طبقوا قوانين العلل عليه: (إن ارتباط المعلول بالعلة الطبيعية يفترق عن ارتباط المعلول بالعلة الفاعلية في نقطة ويشترك معه في نقطة، أما نقطة الافتراق فهي: أن المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلة وينبثق من صميم كيانها ووجودها، ومن هنا قلنا إن تأثير العلة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب، وأما المعلول في الفواعل الإرادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلة ولا ينبثق من صميم وجودها، ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على أساس مسالة التناسب، نعم يرتبط المعلول فيها بمشية الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتياً يعني يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءاً، ومتى تحققت المشية تحقق الفعل ومتى انعدمت انعدم، وعلى ذلك فمرد ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الازلي وتعلقها به ذاتاً إلى ارتباط تلك الأشياء بمشيته وإعمال قدرته، وأنها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً، وتتعلق بها حدوثاً وبقاءاً فمتى تحققت المشية الإلهية بإيجاد شيء وجد، ومتى انعدمت انعدم، فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها، ولا تتعلق بالذات الأزلية ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها كما عليه الفلاسفة)([2]

وقال آخر: (ولا يخفى أنّ القاعدة المشار اليها بأصلها وعكسها (أصل القاعدة: الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد)، وعكس القاعدة: (الواحدلا يصدر الا عن الواحد) أسسها أهل المعقول لإثبات وحدة الصادر الاول من المبدأ الأعلى، وهي على تقدير صحتها لا تجري في الفعل بالإرادة، بل موردها الفعل بالايجاب، لإمكان صدور فعلين عن فاعل بالارادة مع كونهما من مقولتين، وبما أن الصادر من المبدأ الأعلى يعدُّ من الفعل بالإرادة فلا شهادة لها بوحدة الصادر الاول)([3])

وقال آخر مبينا مدى البعد الذي وقع فيه من يقول بهذه المقولات عن الوحي الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام، والذي يتوافق مع كل العقول: (ولعمري من قال: بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وكل حادث مسبوق بمادة، وما ثبت قدمه امتنع عدمه، وبأن العقول والافلاك وهيولى العناصر قديمة، وأن الانواع المتوالدة كلها قديمة وأنه لا يجوز إعادة المعدوم، وأن الافلاك متطابقة، ولا تكون العنصريات فوق الافلاك، وأمثال ذلك كيف يؤمن بما أتت به الشرائع ونطقت به الآيات وتواترت به الروايات من اختيار الواجب وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وحدوث العالم، وحدوث آدم، والحشر الجسماني، وكون الجنة في السماء مشتملة على الحور والقصور والابنية والمساكن والاشجار والانهار، وأن السماوات تنشق وتطوى، والكواكب تنتثر وتتساقط بل تفنى، وأن الملائكة أجسام ملئت منهم السماوات ينزلون ويعرجون.. ومن أنصف ورجع إلى كلامهم علم أنهم لا يعاملون أصحاب الشرائع إلا كمعاملة المستهزئ بهم، أومن جعل الأنبياء: كأرباب الحيل والمعميات الذين لا يأتون بشئ يفهمه الناس، بل يلبسون عليهم في مدة بعثتهم، أعاذنا الله وسائر المؤمنين عن تسويلاتهم وشبههم)([4])

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاكتف بالمصادر المعصومة؛ فهي تغنيك عن كل تلك التلبيسات التي لا ينفعك علمها، ولا يضرك الجهل بها.. فالعبرة أن تعرف الله وتسير إليه، لا أن تسأل كيف خلق الخلق.

وإن اضطررت إلى ذلك السؤال، فافعل ما فعل إبراهيم عليه السلام عندما اشتاقت نفسه إلى معرفة كيفية إحياء الله للموتى، فهو لم يذهب للفلاسفة، ولا للكشف والشهود، وإنما سأل ربه أن يريه كيفية ذلك..

فافعل أنت مثل ذلك، وإن رأيت أن الله تعالى لم يجبك.. فاسكت عن البحث فيما لا يطيقه عقلك.. واعلم أنك والخلق جميعا مثل أولئك الذين لم يغادروا مدارسهم الابتدائية.. ولا يصح للتلميذ في المدرسة الابتدائية أن يتجاوز قدره، ويبحث فيما لا يطيقه عقله.

نعم.. إنهم قد يرمونك بالجهل بالمعارف، وقد يحرمونك من لقب الحكمة والمعرفة.. فلا تعتب عليهم.. فالعبرة ليست بكثرة معارفك، وإنما بصوابها وصحتها وانطباقها مع الحقيقة والبرهان.. ولو كان لتلك المعارف التي يذكرونها أي دليل لدل عليها البرهان.. ولو كان فيها ضرورة للتزكية والترقية لدلت عليها النصوص المقدسة.


([1]) ولعل أحسن مثال لذلك العلامة (نصير الدين الطوسي) فهو من الذين أنكروا هذه المقولة مع اطلاعه الواسع على ما يقوله الفلاسفة، وقد قال عبد الله نعمة مبينا دوره في نقضها: (ومن آثارهم البارزة أن بعض فلاسفتهم ومنهم (نصير الدين الطوسي) قد أتى على نظرية الصدور والعقول العشرة يهدمها من أساسها. ونظرية العقول العشر لتعليل كيفية صدور الكثير من الواحد البسيط وتفسير صدور المخلوقات الكثيرة المتضادة عن المبدأ الاول، كانت هي النظرية البارزة التي أخذ بها الفلاسفة الإسلاميون أمثال الفارابي وابن سينا. وهي نظرية إغريقية نمت في أحضان الصابئة الحرانيين، وتلقفها عنهم الفلاسفة الإسلاميون باعجاب وتقدير. اما فيلسوفنا الطوسي فقد اثبت بالبرهان المنطقي انها غير صحيحة وخاصة في الفاعل المختار) [فلاسفة الشيعة، عبد الله نعمة، ص38 و39]

ومن أقواله في ردها: (قالت الفلاسفة: الواحد لا يصدر عنه الا واحد. وكل شبهة لهم على هذه الدعوى هي في غاية الركاكة ولذلك قالوا: لا يصدر عن الباريء تعالى بلا واسطة الا عقل واحد والعقل فيه كثرة، هي الوجوب والامكان وتعقّل الواجب وتعقّل ذاته ونفس وفلك مركب من الهيولي والصورة ويلزمهم أن أيّ موجودين فرضنا (وجودهما) في العالم، كان احدهما (ضرورة) علّة للآخر بواسطة أو بغيرها. وأيضاً: التكثرات التي في العقل، ان كانت موجودة صادرة عن الباريء لزم صدورها عن الواحد وان صدرت عن غيره لزم تعدد الواجب وإنْ لم تكن موجودة لم يكن تأثيرها في الموجودات معقولاً) [ جامع الاسرار ومنبع الانوار، سيد حيدر الآملي، ص482]

وهكذا أنكرها ورد عليها الكثير من المتكلمين وغيرهم من أمثال الفخر الرازي والعلامة الحلي في كتاب [كشف المراد]، و[مناهج اليقين في اصول الدين]، ومحمد صالح المازندراني في شرحه للكافي، والعلامة المجلسي، والبهائي العاملي. وغيرهم كثير.

([2]) انظر: وجود العالم بعد العدم عند الامامية، السيد قاسم علي الاحمدي، ص158، والكلام للسيد أبي القاسم الخوئي.

([3]) دروس في مسائل علم الأصول، الميرزا جواد التبريزي، ج1 ص5.

([4]) بحار الأنوار (8/ 328)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *