القيم الثابتة

القيم الثابتة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أولئك الذين يذكرون أن القيم الأخلاقية وغيرها مجرد معان متعارف على حسنها وقبحها، وأنها في ذاتها لا تحمل أي دلالة على ذلك، وما يعطيها ذلك الوصف هو أمر الله تعالى بها.

ذلك أنه ـ كما يقول بعضهم ـ (هو المالك، القاهر، الذي ليس بمملوك، ولا فوقه مبيح، ولا آمر، ولا زاجر، ولا حاظر، ولا مَن رَسَمَ له الرسوم، وحدّ له الحدود.. فإذا كان هذا هكذا، لم يقبح منه شيء، إذ كان الشيء إنَّما يقبح منّا، لأنَّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا، وأتينا ما لم نملك إتيانه.. فلمَّا لم يكن الباري مملوكاً ولا تحت آمر، لم يقبح منه شيء.. فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبّحه، قيل له: أجل، ولو حسّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض.. فإن قالوا: فجوِّزوا عليه أن يكذب، كما جوزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم: ليس كل ما جاز أن يأمر به، جاز أن يوصف به)([1]

وقد ذكر هؤلاء أن الله تعالى يمكن أن يعذب الطائعين الصالحين، وينعم على المنحرفين الفاسدين، لأنه يفعل في ملكه ما يشاء، وكل ما يفعله حسن، و﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]

وذكروا أنه يمكن أن يكلف الله عباده بما لا يطيقون، وأنه عادل في ذلك التكليف، وله أن يعاقبهم على تقصيرهم.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذا القول الذي ذكرته يتنافى مع النصوص المقدسة، ويتنافى بعد ذلك مع الفطرة السليمة، ويتنافى قبله مع معارف النفس المطمئنة، والتي تجعلها ممتلئة بالرضا التام، ومن كل الجوانب.

ذلك أن طمأنينة النفس ناشئة عن ذلك الثبات الذي يحكم الكون جميعا، فهو ملك إله واحد، وتحت إدارته وحكمه المباشر، وقوانينه ثابتة راسخة، تُطبق على الجميع، وبنفس المعايير والموازين..

ولهذا يرد في النصوص المقدسة تطمين الله لعباده بأن قوله لا يرد، وكلماته لا تتبدل، ووعده أو وعيده لا يتخلف، ولذلك توصف كلمات الله بكونها تامات، فالتمام هنا هو التحقق، فالشيء لا يتم إلا بعد تحققه، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام:115) أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.

وقال تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام:34) أي أن الله لا يبدل الكلمات التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين.

بل إن الله تعالى ليطمئن عباده يذكر في كلماته المقدسة التزامه بتلك القوانين والقيم مثل إلزامهم بها.. فهو كما حرم الظلم على خلقه حرمه على نفسه.. وكما أوجب الصدق والعدل وكل القيم الرفيعة على خلقه أوجبها على نفسه.. بل إنه هو المتصف بها ابتداء، ولذلك دعا خلقه إليها لينسجم الكون جميعا وفق تلك القوانين الثابتة.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ (الليل:12) فقد أخبر الله تعالى أن عليه هدى الناس جميعا، وهو تعريفهم بالسبل كلها، ومنحهم الإدراك، ليختار كل منهم بعد ذلك ما يتناسب مع هواه وإرادته.

وليس معنى ذلك تخصيص قوم بالهداية دون غيرهم.. فهداية الله شاملة للخلق جميعا، كما قال تعالى:﴿ وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيل﴾ (النحل: 9)، وقال:﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ (الحجر:41) فمن معانيها أن عليه بيان الطريق المستقيم.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى:﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام:54)، فالآية الكريمة تشير إلى أن الرحمة قيمة ثابتة، وأن الله تعالى كتبها على نفسه، وألزمها بها؛ فيستحيل عليه أن يتصرف خلاف ما تقتضيه.

 ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى:﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (هود:6)، فقد أوجب تعالى ـ رحمة منه وفضلا ـ على نفسه رزق كل دابة في الأرض.

ومن الأمثلة على ذلك، قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:103)، ومثلها قوله تعالى في وعده لعباده المرسلين بالنصر: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171 – 173]، فالله تعالى أوجب على نفسه ـ حسب هذه الآيات وغيرها ـ رحمة منه وفضلا إنجاء المؤمنين من المهالك ونصرهم، وهي مما تتفق العقول على اعتبارها من الأعمال الحسنة.

ومثلها إيجابه على نفسه ـ رحمة منه وفضلا ـ نصر المؤمنين، كما قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47)، وهي من القيم التي تسلم لها العقول السليمة، ذلك أن المؤمنين في القرآن الكريم لا يقصد بهم سوى أولئك الطيبين المتواضعين الذين قد يظلمهم المستكبرون؛ فيحتاجون إلى الدفاع عن أنفسهم.

ومثلها إيجابه على نفسه ـ رحمة منه وفضلا ـ إدخال المجاهدين المضحين بأنفسهم في سبيل الحق والعدالة، ومواجهة الظلم والاستبداد الجنة، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:111)، وهي من القيم الثابتة التي تسلم لها العقول؛ فالمضحي بنفسه في سبيل الحق والعدل يستحق كل ذلك التكريم..

ولذلك كان ما ذكرته ـ أيها المريد الصادق ـ عن أولئك الذين جوزوا لله تعالى تعذيب المطيع وتكريم العاصي منافيا لكل ما ورد في القرآن الكريم من الجزاء المعد المحسنين، والعقاب المعد للمسيئين، وهو مما يؤثر في المعرفة بالله والرضا عنه وعدم التسليم له باعتباره العدل المطلق.

وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه:(أتدري ما حق الله على عباده) قال:(الله ورسوله أعلم) قال:(حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)، فقال:(أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك)، قال:(الله ورسوله أعلم) قال:(حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار)([2]

فهذا الحديث يشير إلى أن هناك عقدا بين الله وعباده، وأن من أوفى منهم بعقده، أوفى الله له بما وعده به.

وهكذا ترد في الأحاديث الكثيرة وعود الله تعالى لعباده، بصيغة الحق الواجب عليه، الذي أوجبه على نفسه، ولا تبديل لكلماته، ومن ذلك وعده بأن يضع ما ارتفع من أمور الدنيا، مما لم يقصد به، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن حقا على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من أمر الدنيا إلا وضعه) ([3]

ومنها وعده بالإعانة والبركة لمن فعل أمورا معينة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث من فعلهن ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له: من سعى في فكاك رقبة ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له، ومن تزوج ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له، ومن أحيا أرضا ميتة ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له)([4]

ومنها وعده بإجابة من رفع كفه إليه سائلا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما رفع قوم أكفهم إلى الله تعالى يسألونه شيئا إلا كان حقا على الله أن يضع في أيديهم الذي سألوا)([5]

ومنها المغفرة لمن عرف ربه غافرا ومعذبا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من أذنب ذنبا فعلم أن له ربا إن شاء أن يغفر له غفر له، وإن شاء أن يعذبه عذبه؛ كان حقا على الله أن يغفر له)([6]

ومنها وقاية من ذب عن عرض أخيه من النار، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يقيه من النار)([7]

ومنها تهديد من أدخل الرعب في قلوب المؤمنين، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من أخاف مؤمنا كان حقا على الله أن لا يؤمنه من افزاع يوم القيامة)([8]

 ومنها الغضب على من شفع للمجرمين حتى لا تقام عليهم قوانين العدالة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله لم يزل في سخط الله حتى ينزع) ([9])

ومنها عقوبة من اتهم الأبرياء بما لم يفعلوه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما رجل أشاع على رجل بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يدنيه يوم القيامة في النار حتى يأتي بإنفاذ ما قال)([10]

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي يصدقها القرآن الكريم، ويصدقها العقل، لأنها تنسجم مع الفطرة السليمة التي تميز بين الحسن والقبيح من دون حاجة لأي جهة خارجية تدلها على ذلك.

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتوهم من هذه النصوص المقدسة، ما ذكره بعضهم مما يتنافى مع الأدب مع الله، حيث راح يفرض عليه ما يريده بمحض عقله.. ففرق بين أن يوجب الله على نفسه شيئا، وبين أن يوجب عليه خلقه ذلك.

ومثل تلك النصوص ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى التأمل والتدبر في الشرائع والقيم التي دعا إليها الله تعالى، ولولا أن معانيها ثابتة في العقول حسنها وقبيحها ما كان الله ليدعو لذلك، بل يكتفي بالأوامر والنواهي باعتبارها صادرة عنه.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76]

فهذا المثل الموجه للعقول يبين الفرق بين ذلك الإنسان السلبي الذي لا يفعل أي خير، وبين غيره من الصادقين الآمرين بالعدل الملتزمين بالسراط المستقيم، وهو القيم الثابتة التي تتفق عليها العقول والشرائع.

ومثله قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فهو يخبر أن كل الشرائع الإلهية متناسبة مع تلك القيم المستحسنة في النفوس، وهي العدل والإحسان والصلة وغيرها.. ومثلها نواهيه؛ فكل النفوس تنفر من الفحشاء والمنكر والبغي.

وهكذا يكثر في القرآن الكريم الدعوة لإعمال العقول لتبين مدى الحق الذي يحمله الدين الإلهي، سواء في جانب حقائقه، أو في جانب قيمه، ولهذا يستحيل أن يكون مصير المجرمين شبيها بمصير الصالحين، قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28]، وقد جاء بعدها قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، والتدبر والتذكر يعني أن هناك قيما ثابتة في العقول، وهي التي تنسجم مع النصوص المقدسة، ولولا ذلك ما دعا إلى التدبر والتذكر.

ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35، 36]، وقوله: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]

وغيرها من الآيات الكريمة التي ترد على كل ما ذكره أولئك الذين توهموا أن القيم مجرد أوامر أو نواه أو تشريعات لا علاقة لها بواقع الأمر.

أما دعواهم بأن الله تعالى يمكن أن يكلف النفوس بما لا تطيق؛ فهو مخالف لما ورد في القرآن الكريم من ذلك، فالنصوص القرآنية صريحة في أن الله تعالى لا يكلف النفوس إلا بحسب طاقتها، قال تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: 286)، وقال: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ (الطلاق:7)، وقال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: 50)

ولهذا أنكر الله تعالى عمل الرهبان واعتبارهم لتعذيب الجسد عبادة، فاعتبر ذلك بدعة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد:27)

ومثل ذلك أنكر على من أراد أن يحرم ما لم يحرم الله من أنواع الزينة، فقال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف:32)

ومثل ذلك أخبر أن الإنسان على ما عمل غيره، إن لم يكن له علاقة به، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [فاطر: 18]، وقال: ﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء:15]

وهكذا وردت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنهى عن تكليف النفس ما لا تطيق، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فان المنبت لا أرضا قطع ولاظهرا أبقى)([11]

وقال: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت لا بلغ بعدا، ولا أبقى ظهرا، واعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت إلا هرما) ([12])

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتشدد مع المتشددين، بل يخبر بهلاكهم في تشددهم، فيقول:(هلك المتنطعون([13])، قالها ثلاثاً([14]

وروي أنه: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)([15]

وغيرها من الأحاديث الكثيرة، ومثلها تلك الآيات الكريمة التي تخبر عن رفع الحرج عن المؤمنين، وأن الله تعالى لم يرد بتكاليفه أن يعذبهم، وإنما أراد أن يهذبهم، كما قال تعالى في المقصد من التشريعات المرتبطة بالطهارة: ﴿مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة:6)

ومثلها تلك الآيات الكثيرة التي تخبر عن يسر الدين، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185)، وقال: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 28)، وقال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ (الأعلى:8)، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ﴾ (التوبة: 91)

أما ما ورد من الشرائع المشددة في الأديان السابقة، فهي ليست من تشريع الله ابتداء، ولكن أهل تلك الأديان هم الذين ألزموا بها أنفسهم، حتى أصبحت جزءا من أديانهم، ولهذا جاءت الشريعة الخاتمة لترفع كل تلك الأغلال، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾ (الأعراف)

هذه جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فبشر بهذه المعاني التي تجعل الشريعة التي أنزلها الله على رسله متوافقة مع الشريعة التي وضعها في عقول عباده.. وتجعل الكون جميعا يسير وفق شريعة وموازين دقيقة ثابتة لا مجال فيها للتغير والتبدل.


([1]) اللّمع، ص 117.

([2]) رواه البخاري ومسلم.

([3]) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي.

([4]) رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

([5]) رواه الطبراني.

([6]) رواه الطبراني في الأوسط.

([7]) رواه أحمد والطبراني.

([8]) رواه الطبراني في الأوسط.

([9]) رواه الطبراني في الكبير.

([10]) رواه الطبراني في الكبير.

([11]) رواه البزار.

([12]) رواه ابن عساكر.

([13]) المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد.

([14]) رواه مسلم.

([15]) رواه البخاري.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *