القرب والبعد

القرب والبعد

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن معنى قرب الله تعالى وبعده، وكيفية انسجامه مع التنزيه والتقديس والحمد.. والمعارف المرتبطة بذلك.

وقد ذكرت لي أثناء سؤالك ما أشكل به عليك بعضهم من قوله: إن كان الله قريبا من خلقه، فهذا يستدعي الحلول أو الاتحاد.. وإن كان بعيدا عنهم، فهذا يستدعي الجسمية، وأن يكون لله محل خاص به، يباين به خلقه..

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن صاحب النفس المطمئنة الذي أدرك عظمة ربه وقدوسيته وكماله، وعرف استحالة إدراكه بالقياس أو الخيال أو التوهم والتصور.. وعرف أن كل ما يخطر بباله، فربه بخلافه.. لن يعجز عقله عن الإيمان بالقرب والبعد المنزه عن الجسمية والمكان والحلول والاتحاد.. ذلك أن كل تلك المعاني ناشئة عن الخيالات التي تتحكم في العقول، فتتوهم أن الأمر لا يعدو تلك الاحتمالات التي ذكرتها..

ولذلك؛ فإن هذا العقل يسلم لكل تلك الآيات الكريمة التي تخبر عن قرب الله تعالى من خلقه، ومعيته لهم، وفي كل الأحوال.. وأنه أدنى إليهم من حبل الوريد، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]

ويذكر الله له معيته وحضوره مع كل شيء، فيقول: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الحديد 4]

ويقول: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]

ويذكر معيته مع المؤمنين الصالحين، فيقول: ﴿ وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المائدة: 12]، ويقول: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ [التوبة 40]، ويقول: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12]

ويذكر حضوره مع المنحرفين الذين يستخفون من الناس، ولكنهم لا يستطيعون الاستخفاء منه، فيقول: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُم﴾ [النساء 108]

وهكذا نجد الأحاديث الصحيحة الموافقة للمعقول والمنقول، والتي لم تتلطخ بتشويهات المجسمة والمحرفة تنص على هذا، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للصحابة لما رأى رفعهم لأصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)([1])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن قرب الله تعالى مثل سائر صفاته وأسمائه الحسنى منزه عن كل ما أُشكل به عليك من الحلول والاتحاد أو الحاجة للمكان والمحل.. ذلك أن كل ذلك مرتبط بالأجسام.. فهي التي باقترابها يحل بعضها في بعض، أو يتحد بعضها ببعض.. وهي التي ببعدها يكون لها محلها الخاص بها، والذي لا تداني أو تلامس به غيرها.

أما سؤالك عن البعد في حق الله تعالى، وكيف ينسجم مع القرب، فجوابه أن إيمانك بقدوسية الله تعالى والتي تجعلك تؤمن بقربه المطلق من خلقه جميعا، ومن دون مسافة أو ما يشابهها مما يرتبط بالأجسام.. هو نفسه الذي يجعلك تؤمن بالبعد والحجاب الذي وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم..

فقد ذكر الله تعالى بعد الكفار عن ربهم وحجابهم عنه، فقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]

ومثل ذلك ذكر قرب المؤمنين، والصالحين منهم خصوصا، فقال:﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]

وذكر تقريبه لداود عليه السلام، فقال: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 24، 25]

ولذلك كان المقربون من أصناف الصالحين، بل من أعلاهم درجة، كما قال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: 10، 11]، وقال عن الملائكة: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: 172]

وكل ذلك لا يعني القرب المكاني.. أو قرب الحلول والاتحاد.. بل يعني القرب الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي، فقال ـ حاكيا عن ربه تبارك وتعالى ـ: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته)([2])

وهو يشير بذلك إلى أن القرب هو قرب العبد من الله، بكثرة طاعته له.. أما الله تعالى فهو قريب من كل شيء، كما عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (القرب عندنا: هو ارتفاع الغفلة عن ذات الله تعالى)، ثم قرب ذلك بقوله: (أليس أن من نظر إلى الزجاج على ضربين: ضرب إنما همه الزجاج، ورؤية ما وراء ذلك بالعرض.. وضرب إنما همه ما وراء الزجاج، ورؤية الزجاج بالعرض.. فكلاهما ناظر إلى الزجاج والى ما ورائه ولكن افترقا في ارتفاع الغفلة والتيقظ والشعور والالتفات فاتضح بهذا المثال معنى قولنا: ارتفاع الغفلة)([3])

وقال آخر: (معنى قربه منك وقربك منه: أنك متقرب منه بالخدمة، وهو يتقرب بالرحمة.. وأنت تتقرب بالسجود، وهو يتقرب بالجود.. وأنت تتقرب بالطاعة، وهو يتقرب بتوفيقك الاستطاعة)([4])

وقال آخر: (لا يقترب مخلوق من الله عز وجل قرباً مكانياً، فإنه تعالى لا يحويه مكان، ونسبة الأمكنة إليه واحدة، ولكن القرب المقصود في كلام الصوفية عامة هو قرب معنوي.. هو قرب محبة ورضى، قرب مكانة لا مكان)([5]

وقال آخر: (قربك منه أن تكون شاهداً لقربه، وإلا فمن أين أنت ووجود قربه ؟)

وقال آخر: (قرب المسافات والنسب والمداناة: وهو قرب الأجسام، وسائر المحدثات، فلا يليق بالحق سبحانه، ولا يجوز عليه)([6])

وقال آخر: (القرب منه ليس بالمكان، وإنما هو باكتساب الكمال على حسب الإمكان.. وأن كمال النفس بالعلم والعمل، والاطلاع على حقائق الأمور، مع حسن الأخلاق)([7])

وقال آخر: (القرب على ثلاثة أوجه: قرب من حيث المسافة، وهو محال.. وقرب من حيث العلم والقدرة، وهو واجب.. وقرب من حيث الفضل والرحمة، وهو جائز)([8]

وقال آخر: (القرب: كناية عن قرب العبد من ربه بطاعته وتوفيقه)([9])

وقال آخر: (القرب: هو تحصيل الولاية برفع الحجب وإخلاص العبودية إليه)([10])

وقال آخر: (القرب من الحق تعالى: هو قرب معنوي وليس ذلك إلا برفع حجاب الجهل)([11])

وقال آخر: (القرب: هو القرب من طاعته، وشغل الأوقات بعبادته)([12])

وقال آخر: (القرب منه تعالى: هو التخلي عن كل صفة ذميمة، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإقبال عليه والطاعة له والإعراض عن كل ما سواه، وفعل كل ما يقرب إليه، وذلك هو معنى طريق الله، أو قل طريق القرب إلى الله تعالى)([13]

وقال آخر: (حقيقة القرب: هو أن تغيب في القرب عن القرب لعظيم القرب، كمن يشم رائحة المسك فلا يزال يدنو منها، وكلما دنا منها تزاد ريحها، فلما دخل البيت الذي هو فيه انقطعت رائحته عنه)([14]

ولهذا كان السلوك إلى الله كله رحلة إلى التقرب إلى الله.. وكان علم السلوك هو العلم الباحث في أقصر الطرق الموصلة لذلك، كما عبر عن ذلك بعضهم بقوله: (ما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار، لأن ملازمة العبودية تورث دوام الخدمة، وإظهار الافتقار إليه يورث دوام الالتجاء والتضرع، ولذا علمهم في الفاتحة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]هذا إظهار الافتقار)([15]

وقال آخر: (القرب ينقسم إلى تسعة أقسام: الأول: قرب العلم، وهو يتولد من خالص الجد، ودوام الجهد، ولزوم الطلب.. الثاني: قرب العمل، وهو يتولد عن حقيقة الإخلاص، وتصحيح القصد، واستدامة الصدق.. الثالث: قرب الحال، وهو يتولد عن صفاء المحل، وتخليص الأفعال، وصفاء الوقت.. الرابع: قرب إلى القلب، وهو يتولد عن لطائف الذكر، وحقائق الفكر، وجمع التفرقة.. الخامس: قرب النفس، وهو يتولد عن حقيقة التذكار، وفقد الهوى، وسلب الاختيار، وعدم الإرادة.. السادس: قرب الروح، وهو يتولد من الاستغراق في المحبة، والتوغل في بحار العظمة، ودوام الحمد.. السابع: قرب السر، وهو يتولد عن تجلي الحقيقة، وظهور الطريقة، ومصافات الوقت بطيب استرواح الملكوت.. الثامن: قرب للرسول، وهو يتولد من امتثال الأوامر، ودوام التعظيم، واستشعار الأدب.. التاسع: القرب من الله تعالى، وهو يتولد عن ألا يخطر بباله ما نهاه عنه، ولا يغيب عن خاطره ما أمره به، مع التزام الأدب في العبودية، والوقوف تحت قهر الربوبية)([16])

ثم بين النتائج المترتبة على كل قسم من أقسام القرب، فقال: (فحقيقة قرب العلم: الظفر بالراحة، وظهور الأدب وحسن الخلق.. وحقيقة قرب العمل: تصحيح المكاسب، واسترواح المواهب، وراحة الباطن.. وحقيقة قرب الحال: تـنوير الباطن بأنوار المكاشفة، والظاهر بأنوار السكون والهيبة.. وحقيقة القرب من القلب: ظهور السكينة بلطائف الإيمان، واستحلاء الطاعة بدوام الجد، وثبوت الحال.. وحقيقة القرب من النفس: استغراق الأوقات في المناجاة، وطهارة الحركات والسكنات من ظلمات الغفلات.. وحقيقة قرب الروح: كشف أسرار المحبين، والثبوت عند تواجد الواجدين.. وحقيقة القرب من السر: لطائف الإلهام، واضمحلال الرسوم، وذهاب الحس.. وحقيقة القرب من الرسول: بروز الحكمة على صراط الحق والشرع، مع الاستغراق في الحال، والحماية من خاطر النفس، والفهم عن الله تعالى.. وحقيقة القرب من الله تعالى: ظهور الحقيقة والأنفاس، وذهاب الأكوان والإحساس، واستيحاش الحقيقة من الإيناس)([17])

وقال آخر: (القرب على ثلاث مراتب: قرب بالطاعة وترك المخالفة، وقرب بالرياضة والمجاهدة، وقرب بالوصول والمشاهدة.. فقرب الطالبين: بالطاعة، وقرب المريدين: بالمجاهدة، وقرب الواصلين: بالمشاهدة)([18])

وقال آخر: (العبد له في قربه ثلاث مراتب: القرب الأول: قربة الأبدان: وهو العمل بالأركان.. الثاني: قرب القلب: بالتصديق والإيمان.. الثالث: قرب الروح: بالتحقيق والإحسان)([19]

وقال آخر: (لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع عنك ست عقبات: العقبة الأولى: فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية.. العقبة الثانية: فطم النفس عن المألوفات العادية.. العقبة الثالثة: فطم القلب عن المرغوبات البشرية.. العقبة الرابعة: فطم السر عن الكدورات الطبيعية.. العقبة الخامسة: فطم الروح عن البخارات الحسية.. العقبة السادسة: فطم العقل عن الخيالات الوهمية.. فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية.. وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية.. وتلوح لك في العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية.. وتلمع لك في العقبة الرابعة أنوار أعلام المنازل القريبة.. وتطلع لك في العقبة الخامسة أقمار المشاهدات الحبية.. وتهبط من العقبة السادسة إلى رياض الحضرة القدسية، فهناك تغيب من ما تشاهد من اللطائف الإنسية عن الكثائف الحسية)([20]

وقال آخر: (الرواح إلى المولى بالقرب لا يكون إلا بالأركان العشرة وهي: التوبة، والزهد، والتوكل، والقناعة، والعزلة، والذكر، والتوحيد، والتسليم، والمراقبة، والرضى، وإلا فلا يسمى من المقربين)([21]

وهكذا، فإن قرب الله تعالى من خلقه، وإن كان شاملا للجميع إلا أن هناك قربا ومعية وخاصة للصالحين من عباده، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر من أن تنسب للصالحين ما رماه به أعداؤهم بسبب سوء فهمهم لبعض أقوالهم، فراحوا يتهمونهم بالقول بالحلول والاتحاد، مع أنهم لو اطلعوا على ما كتبوه في الرد على ذلك لكان كافيا لهم في التراجع والتوبة عن هذه التهمة الشنيعة، وقد قال بعضهم في ذلك: (ولعمري إذا كان عُباد الأوثان لم يتجرؤوا أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا: ﴿ أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، فكيف يُظَن بأولياء الله تعالى أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حد ما، تتعقله العقول الضعيفة ؟! هذا كالمحال في حقهم رضي الله عنهم، إذ ما من ولي إلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها الخارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط) ([22]

وقال آخر مبينا فساد هذه العقيدة ووجوه بطلانها عقلا: (وأما الاتحاد: فذلك أيضاً أظهر بطلاناً، لأن قول القائل: إن العبد صار هو الرب كلام متناقض في نفسه، بل ينبغي أن ينـزه الرب تعالى عن أن يجري اللسان في حقه بأمثال هذه المحالات، ونقول قولاً مطلقاً: إن قول القائل: إن شيئاً صار شيئاً آخر محال على الإطلاق، لأننا نقول إذا عقل زيد وحده وعمرو وحده ثم قيل أن زيداً صار عمراً واتحد به، فلا يخلو عند الاتحاد إما أن يكون كلاهما موجودين، أو كلاهما معدومين، أو زيد موجوداً وعمرو معدوماً أو بالعكس، ولا يمكن [وجود ]قسم [ آخر ]، وراء هذه الأربعة، فإن كانا موجودين فلم يصير عين أحدهما عين الآخر، بل عين كل واحد منهما موجود، وإنما الغاية أن يتحد مكانهما، وذلك لا يوجب الاتحاد، فإن العلم والإرادة والقدرة قد تجتمع في ذات واحدة، ولا تتباين محالها، ولا تكون القدرة هي العلم ولا الإرادة، ولا يكون قد اتحد البعض بالبعض وإن كانا معدومين فما اتحدا، بل عدما، ولعل الحادث شيء ثالث.. وإن كان أحدهما معدوماً والآخر موجوداً فلا اتحاد، إذ لا يتحد معدوم بموجود، فالاتحاد بين شيئين مطلقاً محال، وهذا جار في الذات المتماثلة فضلاً عن المختلفة، فإنه يستحيل أن يصير هذا السواد ذاك السواد، كما يستحيل أن يصير هذا السواد ذلك البياض أو ذلك العلم، والتباين بين العبد والرب أعظم من التباين بين السواد والعلم، فأصل الاتحاد إذاً باطل) ([23])

ثم بين وجوه فساد الحلول، فقال: (وجه استحالة الحلول لا يفهم إلا بعد فهم معنى الحلول، فإن المعاني المفردة إذا لم تدرك بطريق التصور لم يمكن أن يفهم نفيها أو إثباتها، فمن لا يدري معنى الحلول، فمن أين يدري أن الحلول موجود أو محال ؟)([24])

ثم فسر ذلك، فقال: (المفهوم من الحلول أمران: أحدهما: النسبة بين الجسم ومكانه الذي يكون فيه، وذلك لا يكون إلا بين جسمين، فالبريء عن معنى الجسمية يستحيل في حقه ذلك.. والثاني: النسبة التي بين العرض والجوهر، فإن العرض يكون قوامه بالجوهر، فقد يعبر عنه بأنه حال فيه، وذلك محال على كل ما قوامه بنفسه.. فدع عنك ذكر الرب تعالى وتقدس في هذا العرض، فإن كل ما قوامه بنفسه يستحيل أن يحل فيما قوامه بنفسه إلا بطريق المجاورة الواقعة بين الأجسام، فلا يتصور الحلول بين عبدين، فكيف يتصور بين العبد والرب ؟) ([25]

وعلى هذا اتفق جميع الحكماء، وذكروا أن سبب ما رماهم به المخالفون هو بعض ما ورد في أشعارهم من أنواع الاستعارة والمجاوز ونحوها، مما عُهد مثله عند الشعراء، لبيان مدى قربهم من محبوبهم، كما قال بعضهم في قول بعض الشعراء: (أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا): (هذا إِنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبّين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل؛ وهذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إِذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر: غبتُ بكَ عنِّي… فظننْتُ أنَّك أنِّي.. فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ)([26])

وقال آخر: (اعلم أنه وقع في عبارة بعض المحققين لفظ الاتحاد، إشارة منهم إلى حقيقة التوحيد، فإن الاتحاد عندهم هو المبالغة في التوحيد، والتوحيد معرفة الواحد والأحد، فاشتبه ذلك على من لا يفهم إشارتهم فحملوه على غير محمله، فغلطوا وهلكوا بذلك.. فإن أصل الاتحاد باطل محال مردود شرعاً وعقلاً وعرفاً بإجماع الأنبياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين، وليس هذا مذهب الصوفية، وإنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حظهم من الله تعالى، فشابهوا بهذا القـول النصارى الذين قالوا في عيسى عليه السلام: (اتحد ناسوته بلاهوته)، وأما من حفظه الله تعالى بالعناية، فإنهم لم يعتقدوا اتحاداً ولا حلولاً، وإن وقع منهم لفظ الاتحاد، فإنما يريدون به محو أنفسهم، وإثبات الحق سبحانه.. وقد يذكر الاتحاد بمعنى فناء المخالفات، وبقاء الموافقات، وفناء حظوظ النفس من الدنيا وبقاء الرغبة في الآخرة وفناء الأوصاف الذميمة، وبقاء الأوصاف الحميدة، وفناء الشك، وبقاء اليقين وفناء الغفلة وبقاء الذكر.. وأما قول أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: (سبحاني ما أعظم شأني) فهو في معرض الحكاية عن الله، وكذلك قول من قال: (أنا الحق) محمول على الحكاية، ولا يظن بهؤلاء العارفين الحلول والاتحاد، لأن ذلك غير مظنون بعاقل، فضلاً عن المميزين بخصوص المكاشفات واليقين والمشاهدات، ولا يظن بالعقلاء المميزين على أهل زمانهم بالعلم الراجح والعمل الصالح والمجاهدة وحفظ حدود الشرع الغلط بالحلول والاتحاد، كما غلط النصارى في ظنهم ذلك في حق عيسى عليه السلام، وإنما حدث ذلك في الإسلام من واقعات جهلة المتصوفة، وأما العلماء العارفون المحققون فحاشاهم من ذلك)([27])

وقد قال بعضهم يذكر ذلك في قصيدة له:

يظنوا بي حلولاً واتحاداً

  وقلبي من سوى التوحيد خالي

فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول، ثم فسر ذلك، فقال:

وعلمك أن كل الأمر أمري

   هو المعنى المسمى باتحاد

فذكر أن المعنى الذي يريدونه بالاتحاد إذا أطلقوه هو تسليم الأمر كله لله، وترك الإرادة معه والاختيار، والجري على مواقع أقداره من غير اعتراض وترك نسبة شيء ما إلى غيره.

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تتحقق بمعاني القرب من الله تعالى، واحذر من أن تقع فريسة لتلك الشبه التي تبثها الشياطين لتصرفك عن الحق وتبعدك عن التقرب منه.


([1]) البخاري 13/372 ح 7386.

([2]) رواه البخاري 6502.

([3]) ولي الله الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج2 ص 260.

([4]) عز الدين بن عبد السلام المقدسي، حل الرموز ومفاتيح الكنوز، ص 86.

([5]) ابن عربي، الإسرا إلى المقام الأسرى، ص 24.

([6]) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 319 0

([7]) الإمام الغزالي، ميزان العمل، ص 293 0

([8]) محمد بن المنور، أسرار التوحيد في مقامات أبو سعيد، ص 349.

([9]) معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ص 38، 39.

([10]) عبد القادر الجزائري، المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ج 1 ص 134.

([11]) المرجع السابق، ج 1 ص 135.

([12]) أحمد الكمشخانوي النقشبندي، جامع الأصول في الأولياء، ج 2 ص 281.

([13]) السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله، ص 224.

([14]) ابن عباد الرندي، غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 2 ص 22، 23.

([15]) أبو عبد الرحمن السلمي، حقائق التفسير، ص 801.

([16]) أحمد البوني، مواقف الغايات في أسرار الرياضات، ص 354، 355.

([17]) أحمد البوني، مواقف الغايات في أسرار الرياضات، ص 354، 355.

([18]) معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ص 38، 39.

([19]) عز الدين بن عبد السلام المقدسي، حل الرموز ومفاتيح الكنوز، ص 88.

([20]) عز الدين بن عبد السلام المقدسي، حل الرموز ومفاتيح الكنوز، ص 32، 34.

([21]) مكتوبات للشيخ نور الدين البريفكي، ص16.

([22]) اليواقيت والجواهر، ج 1، ص83.

([23]) المقصد الاسنى، ص 168.

([24]) المقصد الاسنى، ص 168.

([25]) المقصد الاسنى، ص 168.

([26]) مجموع رسائل ابن تيمية ص 52.

([27]) جلال الدين السيوطي، الحاوي للفتاوي، ج2 ص 134.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *