الغيب والشهادة

الغيب والشهادة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تشكو لي بعض ما حصل بينك وبين بعض رفاقك في السلوك بسبب ما ذكرتُ لك من مصادر المعرفة ومجالاتها.. وأنه أخبرك أن هذا يخالف ما توافق عليه السائرون إلى الله من أنواع الفتوح التي تُفتح لهم، والمعارف التي يلقنهم الله تعالى إياها، كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله: (ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها النطق)([1]

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن المعارف التي يهبها الله تعالى للسالك الصادق في الطريق إليه هي من النوع الذي أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([2]

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد رؤية الله تعالى التي يتوهمها المجسمة والمشبهة؛ فهي مستحيلة.. وإنما أخبر أن اليقين الذي يحصل للمؤمن بالله يشبه المبصر له.. ذلك أن الرؤية هي أقوى أنواع البراهين.. فلا يحتاج بعد الرؤية إلى برهان يدله على ربه.. أو يدله على كمالات ربه.. فهو يبصر رحمة الله ولطفه وقدرته وكرمه.. حتى أنه لا يقلب بصره في شيء إلا ويرى آثار الله فيه.

وهكذا بالنسبة لسائر العقائد.. فهو في إيمانه بالملائكة تنعقد بينه وبينهم الصحبة؛ فيعيش معهم، ومع المعاني العظيمة التي يلهمها الله له عن طريقهم.. وهذا لا يعني رؤية الملائكة بصورهم الذاتية، فذلك مستحيل لا يطيقه.. ذلك أنهم من عالم مختلف تماما.

وهكذا يتحول إيمانه بالأنبياء عليهم السلام من إيمان مسجون في سجون عقله إلى إيمان يعيش معانيه، فيصبح لكل نبي في نفسه وعقله وخياله وقلبه وكل لطائفه صورة ومذاقا خاصا، وربما يفتح عليه من خلال تلك الصحبة من المعارف والأذواق ما لم يكن يعرفه لولاها.

وهذا المعنى يدل على تحول الغيب بالنسبة للسالك ـ نتيجة ذكره الكثير لربه ـ نوعا من الشهادة، فهو يعيش الحقائق الإيمانية، وكأنه يراها رأي العين.

ولذلك لا يمكن أن ينقل تجربته لغيره.. أو يخبر غيره بما حصل له.. كما أنه لا يمكن لأحد أن يصف لذة العسل لغيره.. فأحسن طريق لتوضيح تلك اللذة هو أن يقدمها له، ليذوقها بنفسه.

ولو أن ذلك الرفيق الذي ذكرت لي تنبه إلى تلك الكلمة التي أوردها الحكيم، لعرف أن تلك المعاني لا تتلقى من الغير، وإنما يصل إليها صاحبها بحسب المرتبة والقابلية التي توفرت له.. ولذلك لم يكن إنكاري على التجربة الذاتية، وإنما إنكاري على تحويل ذلك إلى عقائد يكلف بها الناس، ويتوهمون أنهم بترديدها قد فتحت لهم أبواب الحقائق، مع أن أبواب الحقائق المعصومة لا تفتح إلا بالوحي.

وهذا المعنى الذي ذكرته لك ـ أيها المريد الصادق ـ هو نفس الذي يردده الحكماء الذين لم يهتموا بتلك التفاصيل التي يذكرها غيرهم، وإنما اهتموا بتطهير أنفسهم لتصبح أهلا لصحبة خالقها، والتواصل معه.. أما تلك الحقائق؛ فسرعان ما ينكشف الغيب عنها، وفي الأوان الذي يريد الله، كما أخبر الله تعالى عن ذلك، فقال: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 21، 22]

وقد قال بعض الحكماء يذكر هذا: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب)

وقال آخر يذكر أنواع الغيب، وما يفتح منها للسالك: (الغيب قسمان: غيب مطلق لا يصير شهادة أبداً، وهو ذات الله تعالى، وحقائق صفاته، وهذا ما لم يعرف.. وغيب يمكن أن يصير شهادة، وهو عالم الملكوت، والجبروت يصير شهادة بالموت الاختياري أو الاضطرار، ولكن انكشافه بالثاني أتم منه بالأول لبقاء التكليف مع الأول دون الثاني، فلا تنقطع العلاقة بالكلية، ولكن ترق بخلاف الموت الاضطراري فإن علاقة الروح عن الجسم تنقطع فيه بالكلية.. فبالموت الاختياري ينكشف له ذلك العالم، وهو لم يزل في هذا العالم، وبالاضطراري يصير في ذلك العالم حقيقة)([3]) 

وهذا يشير إلى ما ذكرت لك من أن اليقين العقلي قد يغلب إلى الدرجة التي يصبح فيها ذلك المعلوم، وكأنه مشاهد بالبصر، كما روي ذلك عن ذلك الصحابي الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن إيمانه جعله يشعر بما في الجنة والنار، كما فسر سر ذلك بعضهم، فقال: (الله غيب وهو مغيب الغيب، والقلب غيب، فإذا آمن الغيب بالغيب رُفع الحجاب عن الغيب، فوجد في الغيب الغيبُ صاحبَ الغيب)([4]) 

وقال آخر عمن يسميهم [أهل الغيب[: (هم الغائبون عن وجودهم بمشاهدة عظمة الله تعالى) ([5])

وهذا ينطبق على كل مسلم؛ فلكل مسلم صادق من هذا، كما يشير إليه قوله تعالى في وصف المتقين ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 2، 3]

وأخبر أن هذا الإيمان هو الذي يؤثر في سلوك المتقين والتزامهم بحدود ربهم، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12]، وقال: ﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18]، وقال: ﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ [يس: 11]

والفرق بين المؤمنين في هذا هو الفرق الذي ذكرت لك بين المبصرين الذي تختلف درجات إبصارهم، فأصحاب النفوس المطمئنة الراضية أصحاب بصائر قوية، فلذلك تتحول الحقائق عندهم من عالم الحروف والأصوات إلى عالم الأعيان والمشاهدات..

وهذا مع مراعاة التنزيه والتقديس.. فعالم المعاني يختلف عن عالم الحس.. ولذلك لم يكن للشخص أن يصف ما رآه بغير ما وصفه به غيره.. والفرق بينهما ليس سوى في درجة إدراك ما يتحدث عنه.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الغيب الذي يشير إليه رفيقك، أو الشيوخ الذين يعتمد عليهم نوعان: غيب مرتبط بالدنيا.. وغيب مرتبط بالدين.

الغيب.. والدنيا:

أما الغيب الأول، وهو المرتبط بشؤون الدينا المختلفة؛ فإنه إن حصل لبعض الناس التحقق ببعض معانيه، فإنه يكون نوعا من الفراسة والكرامة الإلهية، إذا كان الناطق به من الصالحين.. أما إذا لم تتوفر فيه شروط التقوى والصلاح، فقد يكون كاهلا أو دجالا أو منجما.. ولا علاقة لذلك بالتقوى، ولا بالولاية.

ولهذا، فإن الأنبياء عليهم السلام الذي فتح لهم بعض الغيب المرتبط بهذا، يذكرون أنه من الله تعالى، والغرض منه هو تثبيت قلوب أتباعهم، أو ليكون ذلك حجة على المنكرين.. كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام،:﴿ وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:49)، فقد أخبر المسيح عليه السلام أن من دلائل نبوته إخبارهم بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم.

وقبل ذلك ذكر الله تعالى هذا النوع من الإعجاز عن يوسف عليه السلام، فقد ذكر على لسانه قوله:﴿ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ (يوسف: 37)

ومن ذلك ما ورد في الأحاديث الكثيرة من إخباره صلى الله عليه وآله وسلم يما يحصل في عصره مما غاب عنه شهوده، ومن الأمثلة على ذلك ما روي من إخباره صلى الله عليه وآله وسلم وابصة بن معبدبأنه جاء يسأل عن البر والاثم، فعن وابصة بن معبد قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا أريد أن أدع من البر والاثم شيئا الا سألته عنه، فأتيته، وهو في عصابة من المسلمين حوله، فجعلت أتخطاهم لأدنو منه، فانتهرني بعضهم، فقال: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: إني أحب أن أدنو منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوا وابصة، ادن مني وابصة)، فأدناني حتى كنت بين يديه، فقال: (أتسألني أم أخبرك؟) فقلت: لا، بل تخبرني، قال: (جئت تسأل عن البر والاثم؟) قلت: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري وقال: (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)([6])

ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم الثقفي والأنصاري بما جاءا يسألان عنه، فعن أنس قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف فلما سلما، قالا: جئناك، يا رسول الله، لنسألك، قال: (إن شئتما أخبرتكما بما تسألاني عنه فعلت، وان شئتما أن أسكت وتسألاني فعلت)، قالا: لا، أخبرنا يا رسول الله، نزدد ايمانا أو نزدد يقينا، فقال الأنصاري للثقفي: سل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بل أنت فسله، فاني أعرف حقك، فسأله، فقال: أخبرنا يا رسول الله، قال: (جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام ومالك فيه، وعن طوافك بالبيت، ومالك فيه، وركعتيك بعد الطواف، ومالك فيهما، وعن طوافك بالصفا والمروة، وعن وقوفك بعرفة، ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، وعن نحرك ومالك فيه، وعن حلاقك رأسك، ومالك فيه، وعن طوافك، ومالك فيه)، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق عن هذا جئت أسألك!.. إلى آخر الحديث([7]

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي لا يخبر فيها صلى الله عليه وآله وسلم بالغيوب التي كانت في عصره فقط، وإنما في العصور التالية، والتي حصلت بكل دقة، وكما ذكرها، وهذا كله من امتداد نبوته صلى الله عليه وآله وسلم لكل العصور.

وهذا لا يتنافى مع تلك الآيات الكريمة التي تخبر عن عدم علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب، كقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 188]

وقوله: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴾ [الجن: 26 – 28].

وقوله: ﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 50]

وهذا ما ردده جميع الأنبياء عليهم السلام، كما قال الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 31]

ولذلك؛ فإن الذي يدعي معرفة هذا النوع من الغيب، ويحرص عليه، ويعتبره من علامات الكمال، لا يعرف حقيقة السير إلى الله.. ذلك أن الله تعالى ما أعطى أنبياءه أو أولياءه هذا النوع من العلم إلا للضرورات التي تستدعيه؛ فإذا ما أصبح نوعا من اللهو الفارغ، كان ذلك حجابا بين المدعي وبين الحق.

ذلك أن أول ما يصل إليه السالك هو تجرده من نفسه وأهوائه ودعاواه.. ليصبح عبدا لله تعالى، لا يدعي شيئا ليس له، أو لا حاجة إليه.

أما من يمارس من الأسباب ما يحاول به أن يصل إلى ذلك الغيب الذي حفظه الله عنه، فهو لا يختلف عن المشعوذين والدجالين..

ولذلك كان من العلوم التي أقحمت في السلوك إلى الله ذلك العلم الذي يسمونه [علم السيمياء]، ويذكرون أنه (يتفرع إلى سبعة فروع، هي: علم الكواكب والأفلاك والبروج والمنازل.. علم التنجيم.. علم الطبائع.. علم الحروف.. علم الأعداد.. علم الأوفاق.. علم الأسماء والرقي)([8])

والتي جعلت عوام الناس لا يفرقون بين السحرة والسالكين إلى الله حتى أن بعض المشايخ راح يدافع عن السالكين بهذه الحجة التي قد لا يقبلها أحد من الناس، فقد قال: (فإن قيل: إن هذه الكرامات تشبه السحر، فإن سماع الإنسان الهواتف في الهواء، وسماع النداء في بطنه، وطي الأرض له، وقلب الأعيان، ونحو ذلك غير معهود في الحس أنه صحيح، إنما يظهر ذلك من أهل السيمياء والنارنجات؟ فالجواب ما أجاب به المشايخ العارفون والعلماء المحققون في الفرق بين الكرامة والسحر، أن السحر يظهر على أيدي الفساق والزنادقة والكفار الذين هم على غير شريعة، وأما الأولياء رضي الله عنهم فإنهم وصلوا إلى ذلك بكثرة اجتهادهم واتباعهم للسنة)([9])

ونحن ـ أيها المريد الصادق ـ لا ننكر الكرامات، ولكن ننكر تلك الرياضات والمجاهدات التي لا تهدف إلى تزكية النفس وترقيتها، وإنما تهدف إلى كشف الغيوب، والاستفادة منها في الحياة، كما عبر عن ذلك بعضهم بقوله متحدثا عن فضائل الذكر: (وفضيلته: أنه ينفع في سبع خواص من السيمياء، ويفسد تسع خواص من السحر، ومن أراد استعمال قوى الكواكب بحسب صناعة أهل العلم الرياضي لا بد له من الذكر، وذلك بعد الدستورية أعني: أن يكون الكوكب في بيته أو شرفه في الوتد، وينظر الكوكب إليه من بيته أو شرفه من الوتد كالزهرة في الميزان في الطالع، وزحل في الجدي أو في الميزان، والمريخ في الجدي، واعلم أن الكوكب إذا كان في الحيز أو البرج أو الدستورية؛ كان أظهر فعلا، وأقوى تأثيرا، ثم يعمد إلى اتخاذ الصورة والاسم والبخور والأفعال.. ومثال ذلك برج الثور تستعمل صورة إذا كان في الوجه الثاني، ويريد الحكيم أن يخدم أمره، يتخذ صورة ثور مضروب الوسط ويناديه: (لهرلرل)، ويبخر بذنب الفأرة ويفعل الأمور المهلكة بإذن الله، ويقول في جميع خدمته: يا حمر لايل، يا دبر لايل، يا جبر لايل، مفهوم ذلك، يا مالك القوى السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية والذوات العارفة بك والتي فوقها، يا نور النور)([10])

هذا مجرد مثال عن تلك الرسائل والكتب التي حشيت بأمثال هذه المعاني، والتي تحول فيها ذكر الله وأسماءه الحسنى إلى وسيلة من الوسائل التي لا تختلف عن الوسائل التي تستعمل في السحر والطلاسم وغيرها.

بل إنهم قد يثنون على بعض الناس، ويعتبرونه وليا وصالحا، لاستعماله لأمثال هذه الوسائل التي ما أنزل الله بها من سلطان.

الغيب.. والدين:

أما الغيب والدين؛ فالأمر فيه أخطر.. ذلك أن مصدر الدين هو الوحي المعصوم، فإذا ما أتيح لأي شخص يدعي الولاية أن يضيف لعقائد الدين ما يتوهم أنه كُشف له، يتحول الدين، وتتحول عقائده وقيمه إلى أمر مختلف تماما.

لذلك يرد في القرآن الكريم التحذير من الاستماع إلى غير المصادر المعصومة، واعتباره نوعا من الكفر، كما قال تعالى:﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 41]

واعتبر الشك والريب في المصادر المعصومة، أو التحاكم إلى غيرها حولها فتنة وطبعا على القلوب، قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16]

وللأسف فقد فتح هذا الباب على مصراعيه لهذه الأمة، كما فتح في غيرها من الأمم؛ فلم تنحصر العقائد فيما ورد في النصوص المقدسة، وإنما أضيف إليها الكثير من العقائد التي لا مصدر لها سوى الرؤى والإلهام والكشف وغيرها، مما لم يدل الدليل على عصمته.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد من تصنيفات للصالحين وأعدادهم مما لم يرد الدليل عليه من الكتاب والسنة، والتي اقتصرت على ذكر أوصافهم، ثم تركت المجال مفتوحا للمؤمنين للتنافس فيما بينهم في التحقق بذلك.

لكن هؤلاء لم يرتضوا بذلك، وإنما راحوا يذكرون أوصافا غريبة لأصناف الصالحين؛ فمنهم كما يذكر بعضهم: (رجال الغيب: وهم عشرة لا يزيدون ولا ينقصون، هم أهل خشوع، فلا يتكلمون إلا همسا لغلبة تجلي الرحمن عليهم دائماً في أحوالهم.. وهؤلاء هم المستورون الذين لا يُعرفون، خبأهم الحق في أرضه وسمائه فلا يناجون سواه ولا يشهدون غيره، يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، دأبهم الحياء، إذا سمعوا أحداً يرفع صوته في كلامه ترعد فرائصهم ويتعجبون، وذلك أنهم لغلبة الحال عليهم يتخيلون أن التجلي الذي أورث عندهم الخشوع والحياء يراه كل أحد.. واعلم أن رجال الغيب في اصطلاح أهل الله يطلقونه ويريدون به هؤلاء الذين ذكرناهم وهي هذه الطبقة، وقد يطلقونه ويريدون به، من يحتجب عن الأبصار من الإنس، وقد يطلقونه أيضاً ويريدون به رجالاً من الجن من صالحي مؤمنيهم، وقد يطلقونه، على القوم الذين لا يأخذون شيئاً من العلوم والرزق المحسوس من الحس ولكن يأخذونه من الغيب)([11])

وهو لا يذكر دليلا على وجود هؤلاء، ولا انحصارهم في العدد الذي ذكره، ولا أوصافهم، وإنما يكتفي بذكر هذه المعاني جميعا، باعتباره حقائق مقررة، نتيجة شهوده لها.

ونحن لا ننكر ـ أيها المريد الصادق ـ شهوده، ولا أنه قد يكون رآها، ولكن ليس كل ما يُرى يُصدق، ولا كل كشف بصحيح، ما لم يدل عليه الدليل المعصوم.

والمشكلة الأكبر ليس في ذكر ما رآه أو كشف له عنه، وإنما في استغلال البعض لذلك؛ فما أسهل أن يأتي أي شخص من الناس، ويزعم لنفسه أنه أحد هؤلاء.. وما أسرع أن يجد من يصدقه، مخافة الإنكار على أولياء الله.. وبذلك تصبح هذه المعاني، وإن صحت، وسيلة للتلاعب بالدين، وبالمتدينين البسطاء، والانحراف بهم عن دين الله إلى دين البشر.

والأمر لا يقتصر على رجال الغيب، بل هناك غيرهم كثير، ومنهم (الرجبيون)، الذين يذكرون أنهم (أربعون نفساً في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، وهم رجال حالهم القيام بعظمة الله، وهم من الأفراد وهم أرباب القول الثقيل.. وسمو (رجبيون)؛ لأن حال هذا المقام لا يكون له إلا في شهر رجب من أول إستهلال هلاله إلى إنفصاله، ثم يفقدون ذلك الحال من أنفسهم، فلا يجدونه إلى دخول رجب من السنة الآتية. وقليل من يعرفهم من أهل هذا الطريق وهم متفرقون في البلاد ويعرف بعضهم بعضا)([12])

ومما يذكرونه من تفاصيل لم يرد الدليل عليها تلك التفاصيل المرتبطة بالأبدال([13])، والتي لم يدل عليها الدليل من الكتاب والسنة، ومن الأمثلة عنها قول بعضهم: (وترتيب الأبدال كترتيب السماوات السبع بحيث يكون ارتباط البدل الأول بالسماء السابعة على الوجه الآتي: البدل الأول: يحكم الإقليم الأول للسماء السابعة على قلب الخليل عليه السلام.. والبدل الثاني: يحكم الإقليم الثاني للسماء السادسة على قلب موسى عليه السلام.. والبدل الثالث: يحكم الإقليم الثالث للسماء الخامسة على قلب هارون عليه السلام.. والبدل الرابع: يحكم الإقليم الرابع للسماء الرابعة على قلب إدريس عليه السلام.. والبدل الخامس: يحكم الإقليم الخامس للسماء الثالثة على قلب يوسف عليه السلام.. والبدل السادس: يحكم الإقليم السادس للسماء الثانية على قلب عيسى عليه السلام.. والبدل السابع: يحكم الإقليم السابع للسماء الأولى على قلب آدم عليه السلام)([14])

وقال آخر يصفهم، ويذكر وجود غيرهم: (إنه تنزل عليهم العلوم لكل يوم علم من رقائق على قلب من هؤلاء، ويلي هؤلاء في المقام النجباء والرجباء والنقباء وأهل الغيب وأهل النجدة، وغيرهم، وكل منهم ينظم عملاً في الحكومة الباطنية ويستهدف رسالة فيها)([15])

وينقل آخر عن الخضر عليه السلام أنه قال: (ثلاثمائة من الأولياء، سبعون هم النجباء، وأربعون هم أوتاد الأرض، وعشرة هم النقباء، وسبعة هم العرفاء، وثلاثة هم المختارون، وواحد منهم هو القطب الغوث الفرد)([16]

وهكذا تجد الخلافات بينهم في أعداد هؤلاء، وأسرارهم، ووظائفهم، مما شكل عبئا كبيرا على السالك إلى الله، والذي قد ينشغل بكل ما ورد في النصوص المقدسة من قيم ليبحث عن هؤلاء، أو ليقع ضحية في أيدي من يزعم أنه منهم.

والأمر لا يقتصر على هذا الجانب، بل إن كل عقيدة وردت في النصوص المقدسة أضاف إليها هؤلاء أضعاف ما ورد فيها، بناء على ما كشف لهم.. حتى أن الحقائق القرآنية الناصعة القوية تحولت إلى حقائق ممتلئة بالدخن، وشوهت الدين وملأته بأصناف الخرافات.

ولذلك أرجو أن تنصح رفيقك بأن يسلك إلى ربه، عبر المصادر المعصومة، والطرق المشروعة، ويكتفي بها، فالعبرة ليس بكثرة المعلومات عن عوالم الغيب، ولكن العبرة بالتواصل الصادق معه.. وما في الكتاب والسنة يكفي ويشفي.


([1]) المنقذ من الضلال (ص: 178)

([2]) رواه مسلم.

([3]) عبد الغني النابلسي، أسرار الشريعة أو الفتح الرباني والفيض الرحماني، ص 242.

([4]) زيادات حقائق التفسير، ص 8.

([5]) شرح مكتوبات عبد القادر الكيلاني، ص 107 (بتصرف)

([6]) رواه أحمد وأبو يعلى.

([7]) رواه مسدد والبزار والاصبهاني البيهقي.

([8]) د. عبد الحميد صالح حمدان، علم الحروف وأقطابه، ص 15.

([9]) طبقات الشعراني: (1/14)

([10]) رسائل ابن سبعين، ص: 222.

([11]) الفتوحات المكية، ج 2 ص 11، 12.

([12]) الفتوحات المكية، ج 2 ص 8.

([13]) وهم ممن ورد ذكرهم في الحديث، لكن لم ترد تلك التفاصيل الكثيرة التي تتحدث عنهم، ومن الأحاديث الواردة فيهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبوا أهل الشام؛ فإن فيهم البدلاء، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر) رواه أحمد.

([14]) الفتوحات المكية، ص 370، 376.

([15]) اليواقيت والجواهر، ج 2 ص 82.

([16]) اليواقيت والجواهر، ج 2 ص 82.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *