العجز والانبهار

العجز والانبهار
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني عن أشواقك العظيمة لمعرفة الله، حتى تصيرمن أولئك الذين يُطلق عليهم لقب [العارف بالله]، أولئك الذين فتح الله على مرائي قلوبهم أنوار معرفته؛ فتحولوا إلى هداة يدلون عليه، ويعرفون به.
وأنا أشكر لك ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الهمة العلية التي حول الله قلبك إليها؛ فليس مثل معرفة الله معرفة، فهي الغاية العظمى التي هفت إليها قلوب المؤمنين، وقد قال الإمام الصادق: (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلَّ عندهم مما يطوونه بأرجلهم، ولنَعِمُوا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله) ([1])
ثم فصل بعض آثار ذلك بقوله: (إن معرفة الله عز وجل أنْسٌ من كل وحشة، وصاحبٌ من كل وحدة، ونورٌ من كل ظلمة، وقوةُ من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم)([2])
لكني ـ أيها المريد الصادق ـ أريد أن أنبهك إلى أن معرفة الله ليست كمعرفة غيره.. فمعرفة الغير تبدأ بإدراكه وتحديده، بحيث يمكن أن يوصف وصفا شاملا تاما لا مزيد عليه.. أما الله، فيستحيل أن يُعرف بهذا النوع من المعرفة.. ذلك أنه غير محدود، ولا محاط به، ولا يمكن أن يُدرك أبدا..
ولهذا كان لقب [العارف بالله] الذي حننت إليه، لا يحمل معناه بدقة.. بل فيه الكثير من المجاز.. وهو يشبه من يحمل دلوا صغيرا، وهو يريد أن ينقل به البحر المحيط من محل إلى محل.. فلا يمكن أن يقال لمثل هذا بأن وظيفته حمل المحيط.
بل إن أمر معرفة الله تعالى أعظم بكثير، ذلك أن أساس معرفته هي العلم بإطلاقه وعدم محدوديته، وذلك مما يدل على استحالة معرفته، كما عبر الإمام علي عن ذلك بقوله: (ليس له [ سبحانه وتعالى ] حدّ ينتهي إلى حدّه) ([3])، وقال: (من زعم أنّ إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود) ([4])، وقال: (من حدّه [تعالى ] فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله)([5])
وروي أن بعض الناس طلب من الإمام علي بن موسى الرضا أن يحدّ الله تعالى له، فقال له الإمام: لا حدّ له. قال الرجل: ولم؟ قال الإمام: (لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ. وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة. وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّئ) ([6])
ولهذا كان سيد العارفين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي)([7])
وفي دعاء آخر يقول: (اللهم اعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)([8])
وقد حكى بعض الحكماء من باب الإشارة ما فهمه بعض العارفين من هذا الدعاء، فقال: (ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، أنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم اسجد واقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرضا والسخط وصفان، ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات، فقال أعوذ بك منك، ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء، فأثنى بقوله لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور فقال أنت كما أثنيت على نفسك)([9])
وقد عبر الشاعر عن هذه المعاني، فقال:
ومع
تفنن واصفيه بحسنه |
يفنى
الزمان وفيه ما لم يوصف |
وهذه المعرفة ـ أيها المريد الصادق ـ تجعل صاحبها يعيش في انبهار عظيم، ذلك أن المعرفة التامة التي تحيط بأي شيء، قد تثمر نوعا من الإلف به، والذي يزول أثره مع الأيام.. لكن معرفة اللامحدود، واللامتناهي تجعل القلب دائما مشتاقا.. يشعر بالعجز.. وفي نفس الوقت يشعر بالانبهار..
فهو ليس عجزا ناشئا عن جهل.. ولا عن ضعف.. وإنما عن عظمة ذلك الذي يريد أن يعرفه، وليس له من الأدوات ما يمكنه أن يعرفه به؛ فيظل قلبه مشتاقا إلى تلك المعرفة.
ولهذا كان أجهل الناس بالله أولئك الذين راحوا يخضعونه لخيالاتهم وأوهامهم وتصوراتهم؛ فأنزلوه عن قدوسيته وسبوحيته وجلاله إلى قياسه بخلقه، وتحويله إلى شبيه لهم.
ويستوي في هذا كل من تحدث في معرفة الله، وتوهم أنه قد أحاط بالحقائق، وراح يصورها بدقة، وكأنه شاهدها، من غير أن يكون له بذلك سلطان من وحي إلهي، أو من برهان عقلي.
فلذلك لا تطلب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتحقق بتلك المعرفة التي يذكرونها.. فهي الجهل عينه.. فالعارف بالله هو الذي لا يستند في معرفته بربه إلا لربه.. ويتواضع، وينتظر فتوح الله عليه في هذا العالم، أو في العوالم التي أعد الله له فيها من القدرات ما يمكنه أن ينهل من المعرفة الصحيحة ما يحفظه من المعرفة المدسوسة.
وأنا أذكر لك هذا ـ أيها المريد الصادق ـ حتى لا تكون ضحية لبعض من يدعي المعرفة بالله، ثم يرسم لك صورة لحقائق جميع الأشياء، ويطالبك بأن تعتقد ما فيها لتتحقق بالمعرفة.. فكما أن الله منزه مقدس.. فكذلك معرفته منزهة مقدسة.. ويستحيل أن تُتلقى بتلك الطرق التي يذكرونها، والتي يختلط فيها الحق بالباطل، والوحي بالهوى، والإلهام الإلهي بالإلهام الشيطاني.
وهذا ليس قولي ـ أيها المريد الصادق ـ بل هو قول كل الهداة الذين كلفنا بالرجوع إليهم، وقد قال الإمام الإمام علي يصف الله تعالى: (لا تحيط به الأفكار، ولا تقدّره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، فكلّ ما قدّره عقل أو عرف له مثل فهو محدود) ([10])
وقال الإمام الحسن: (لا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها، ولا الألباب وأذهانها صفته) ([11])
وسئل الإمام السجاد عن التوحيد فقال: (إن الله تعالى علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد) والآيات من سورة الحديد إلى قوله: (وهو عليم بذات الصدور) فمن رام ما وراء ذلك فقد هلك)([12])
وقال الإمام الباقر: (دعوا التفكير في الله، فإنّ التفكير في الله لا يزيد إلاّ تيهاً)([13])
وقال الإمام الصادق: (من نظر في الله كيف هو هلك) ([14])
وقال: (إن الله يقول: (وأن إلى ربك المنتهى) فإذا انتهى الكلام إلى الله فامسكوا) ([15])
وقال: (إن الناس لايزال لهم المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله الشئ) ([16])
وقال الإمام الكاظم: (إنّ الله تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن تحيط بصفته العقول)([17])
وقال الإمام الرضا: (أخطأ من اكتنهه) ([18])
وهكذا ورد عنهم التحذير الشديد من الحديث في ذات الله عزّ وجلّ، فعن الإمام الباقر أنه قال: (اذكروا من عظمة الله ما شئتم ولا تذكروا ذاته)([19])
وقال الإمام الباقر: (تكلّموا في خلق الله، ولا تكلّموا في الله، فإنّ الكلام في الله لا يزيد صاحبه إلاّ تحيّراً) ([20])
وهو قول أكثر الحكماء، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (كمال العبودية: هو العجز والقصور عن تدارك معرفة علل الأشياء بالكلية)([21])
وقال آخر: (لا يوصل إلى معرفته تعالى إلا بالعجز عن معرفته، لأن كل إشارة يشير بها إلى الحق فهي مردودة عليهم، لأنها من جنسهم مخلوقة مثلهم حتى يشيروا إلى الحق بالحق ولا سبيل لهم إلى ذلك)([22])
وذكر آخر سر ذلك وأسبابه، فقال: (لمعرفة الله سبحانه وتعالى سبيلان: أحدهما قاصر، والآخر مسدود، أما القاصر فهو ذكر الأسماء والصفات وطريقة التشبيه بما عرفناه من أنفسنا، فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا.. لأن حياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه، بل لا مناسبة بين البعيدين، وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم لكن يقطع التشبيه بأن يقال ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين.. وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ ﴾ ولا الأكمه يفهم معنى قولنا إنه بصير، ولذلك إذا قال القائل كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء؟ فنقول: كما تعلم أنت الأشياء، فإذا قال: فكيف يكون قادرا؟ فنقول: كما تقدر أنت، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم أولا ما هو متصف به، ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه، فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم لم يتصور فهمه البتة، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه، وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا، فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه، فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم)([23])
هذا هو السبيل الأول، وهو السبيل الوحيد المتاح.. والذي يرتبط بمدى قابلية العبد لتلقي المعارف الإلهية.. وأما (السبيل الثاني المسدود)، فقد عبر عنه بقوله: (هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا كما ينتظر الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة، وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى، وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى) ([24])
وبناء على هذا الكلام المنطقي ذكر استحالة معرفة الله، فقال: (فإذا يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله، بل أقول يستحيل أن يعرف النبي غير النبي، وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه.. بل أزيد وأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة أو النار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها، والنار عبارة عن أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار، وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات وهي المطعم والمنكح والمنظر فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات.. ولذات الجنة أبعد من كل لذة أدركناها في الدنيا.. بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. فكيف يتعجب المتعجبون من قولنا: لم يحصل أهل الأرض والسماء معرفة من الله تعالى إلا على الصفات والأسماء ونحن نقول لم يحصلوا من الجنة إلا على الصفات والأسماء وكذلك في كل ما سمع الإنسان اسمه وصفته وما ذاقه وما أدركه ولا انتهى إليه ولا اتصف به)([25])
وبناء على هذا كانت نهاية المعرفة هو العجز عن المعرفة، يقول في ذلك: (فإن قلت فماذا نهاية معرفة العارفين بالله تعالى؟ فنقول: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله عز وجل، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته)([26])
وبذلك فإن المعرفة الإلهية ـ أيها المريد الصادق ـ تقوم على التعظيم والتنزيه.. أو التسبيح والثناء.. فهي دائما في ارتقاء وسفر بهذين الجناحين في العوالم التي لا تنتهي.. كما أشار إلى ذلك بعضهم عند الحديث عما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن الذات الإلهية فقد قال: (كما أن أنفس اليواقيت أجل وأعز وجودا، ولا تظفر منه الملوك لعزته إلا باليسير، وقد تظفر مما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات أضيقها مجالا وأعسرها منالا وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر؛ ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات وإشارات، ويرجع ذكرها إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11] وسورة الإخلاص، وإلى التعظيم المطلق كقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 100] وأما الصفات: فالمجال فيها أفسح، ونطاق النطق فيها أوسع، ولذلك كثرت الآيات المشتملة على ذكر العلم والقدرة والحياة، والكلام والحكمة، والسمع والبصر وغيرها.. وأما الأفعال: فبحر متسعة أكنافه، ولا تنال بالاستقصاء أطرافه، بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، وكل ما سواه فعله، لكن القرآن يشتمل على الجلي منها الواقع في عالم الشهادة، كذكر السماوات والكواكب، والأرض والجبال، والشجر والحيوان، والبحار والنبات، وإنزال الماء الفرات، وسائر أسباب النبات والحياة، وهي التي ظهرت للحس. وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها)([27])
هذه هي المعرفة القرآنية التي دلت عليها الآيات الكثيرة.. والتي لا يرى العقل فيها أي تناقض مع ما تقتضيه الفطرة السليمة.. فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ من أن تقع ضحية لأصحاب المعرفة البشرية، والذين لم يكتفوا بقبول ما ورد في النصوص المقدسة من حقائق المعرفة وأصولها، وإنما راحوا إلى الأوهام والخيالات والتصورات والرؤى يستندون إليها بدل الاكتفاء بما ورد في النصوص المقدسة، وتعقل ما فيها بعيدا عن التجسيم والتحديد والتقييد والتكييف.
وأول نتائج هذه المعرفة ـ أيها المريد الصادق ـ هي تلك اللذة التي تعيشها، وأنت تنبهر كل حين بعظمة خالقك وجلاله وجماله وكماله الذي لا حدود له؛ فالعقل السليم هو من يجد نفسه أمام المعارف الإلهية يردد كل حين وبانبهار شديد: (الله أكبر)
فالله أكبر من تصوراتنا وتعقلاتنا وتوهماتنا وأفكارنا وتأملاتنا..
والله أكبر من أن ينحصر في حيز محدود، أو أمد معدود، أو مكان أو زمان.
والله أكبر من أن تجري عليه القوانين التي تجري علينا، أو تحكمه السنن التي تقيدنا.
والله أكبر في ذاته وصفاته وكل ما يرتبط به.
وهكذا فإن الغاية من الخلق هي الرحلة إلى الله.. وهي رحلة لا تنتهي.. والحادي لها أشواق لا تنتهي، وحيرة لا تنتهي، كما عبر عن ذلك الشاعر العاشق، فقال:
زدني بفرط الحب
فيك تحيُّرا |
وارحم
حشى بلظى هواك تسعَّرَا |
وقد عبر العارفون على هذه الحقيقة الذوقية العظيمة، واعتبروها النهاية التي لا تنتهي، وقد قال بعضهم معبرا عنها: (الحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم، وحضورهم، وتفكرهم، تحجبهم عن التأمل والفكرة)([28])
وسئل بعضهم عن المعرفة: ما هي؟ فأجاب: (التَحَير، ثم الاتصال، ثم الافتقار، ثم الحَيَرةُ)
وقال آخر:
قد
تحيَّرتُ فيك خذ بيدي |
يا دليلاً لِمَنْ تحيَّر فيك |
وقال آخر: (أعرف الناس بالله أشدهم تحيراً فيه)([29])
وقال آخر: (الحيرة في معرفته تعالى: هي عين الهداية، وليست كالحيرة التي هي عدم الاهتداء)([30])
وقال آخر: (التحير على ضربين: تحير وحشة، وتحير دهشة، فتحير الوحشة للمطرودين، وتحير الدهشة للعارفين المشتاقين)([31])
وقد اعتبروا الحيرة منزلا من منازل النفس المطمئنة التي لا تتناقض مع طمأنينتها، ذلك أنها حيرة مبنية على التعظيم والانبهار لا على الشك والريب، وقد قال بعضهم في ذلك: (التحير: منازلة تتولى قلوب العارفين بين اليأس والطمع في الوصول إلى مطلوبه ومقصوده، لا تطمعهم في الوصول فيرتجوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فعند ذلك يتحيرون)([32])
وقال آخر: (الحيرة: هي بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم، تحجبهم عن التأمل والفكرة)([33])
وقال آخر: (الحيرة حيرتان: حيرة الجاهل وحيرة العالم.. أما حيرة الجاهل: فهي تخبطه في معميات هذا الوجود، ومحاولته الجادة أو غير الجادة لفهم أسرارها.. أما حيرة العالم: فهي خاصة بالراسخين في العلم.. أبحر العارفون في بحر العلم، ثم عادوا فعاينوا فشاهدوا فعلموا، لكنهم ظلوا أسرى معاينة الظواهر دون كشف المطلق أو الجوهر، وهذه هي حيرة العالم)([34])
وقال آخر: (الحيرة قبل الوصول، والحيرة في الوصول، والحيرة في الرجوع، كيف لا تحار العقول والأسرار فيمن لا تقيده البصائر والأبصار)([35])
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تلحق بركب العارفين
بالله، لا من تلك الأبواب التي يختلط فيها الدعاة باللصوص، ولكن من تلك الأبواب
التي فتحها الله لك من خلال هداته الذين أذن لك باتباعهم، والانصياع لهم، ولم يأذن
لك باتباع غيرهم، ولا أن تسلم لهم كلما ذكروه حتى لا تختلط معرفتك بالأوهام..
فالمعرفة القليلة الصافية خير من المعارف الكثيرة المختلطة.
([1]) الكافي:8/247.
([2]) الكافي:8/247.
([3]) التوحيد، الصدوق: باب 2، ح 1، ص 35.
([4]) المصدر السابق، ح 34، ص 77.
([5]) نهج البلاغة، الشريف الرضي: قسم الخطب، خطبة 152، ص 278 ـ 279
([6]) التوحيد، الصدوق: باب 36، ح 3، ص 246
([7]) رواه أحمد (1/391) (3712) (1/452) (4318)
([8]) رواه أَحمد (1/ 96 و18 أو 150) وأبو داود (1427) والنسائي (3/ 248، 249) وابن ماجه (1179)
([9]) إحياء علوم الدين (1/ 293)
([10]) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ص 76 ـ 77.
([11]) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ص 46.
([12]) بحار الأنوار (3/ 264)
([13]) التوحيد، الشيخ الصدوق: ص 443.
([14]) بحار الأنوار (3/ 264)
([15]) بحار الأنوار (3/ 264)
([16]) بحار الأنوار (3/ 264)
([17]) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ص 38.
([18]) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ص 38.
([19]) الكافي: ج 1، ص92.
([20]) الكافي: ج 1، ص92.
([21]) أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ص 363.
([22]) يحيى بن علي البريفكي، مصطلحات الصوفية، ص6.
([23]) المقصد الأسنى (ص: 53)
([24]) المقصد الأسنى (ص: 53)
([25]) المقصد الأسنى (ص: 54)
([26]) المقصد الأسنى (ص: 54)
([27]) جواهر القرآن (ص: 26)
([28]) اللمع، ص 421.
([29]) أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ص 380.
([30]) عبد الله اليافعي، نشر المحاسن الغالية، ص 272
([31]) أحمد أبو كف، أعلام التصوف الإسلامي، ص 24.
([32]) اللمع في التصوف، ص 345.
([33]) اللمع في التصوف، ص 345.
([34]) محمد غازي عرابي، النصوص في مصطلحات التصوف، ص 106.
([35]) ابن عربي، التراجم، ص 59.