الخفض والرفع

الخفض والرفع

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن إدارة الله تعالى لشؤون الخفض والرفع، والعزة والذلة، والجاه والخمول، وأسرارها، ومعارفها، وأثرها في النفس المطمئنة، وسر علاقتها برضاها.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن من الأسس التي تقوم عليها ملكية الله تعالى لكونه ومالكيته له انفراده بما ذكرت من الخفض والرفع، والعزة والذلة.. فهو وحده من يخفض، ووحده من يرفع، ووحده من يذل، ووحده من يعز.. لا شريك له في ذلك.

ولذلك كان من أسماء الله تعالى الحسنى اسم (الخافض الرافع)، وهو من الأسماء المركبة، ويعني أو يعنيان جميعا أن الله تعالى هو المتفرد بالخفض والرفع، فيرفع من يشاء ويضع من يشاء، ومثله في الدلالة الاسم الكريم (المعز المذل) أي أن الله هو الذي يعز من يشاء، وهو الذي يذل من شاء.

وقد صرحت بمقتضيات ذينك الاسمين الكثير من النصوص المقدسة، كقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:26)

وقد أخبر رسول صلى الله عليه وآله وسلم أن في هذه الآية:(اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)([1])، وفي ذلك إشارة إلى أن من أدرك مالكية الله للملك، وما يترتب على ذلك من طلاقة مشيئته في الرفع والخفض والإعزاز والإذلال، وانفراده بذلك سيحرر المؤمن من كل توجه إلى غير الله، وهذا التحرر هو نفسه اليقين الذي تستجاب به الدعوة.

والآية الكريمة لا تعني ما يفهمه بعض حماة الاستبداد والظلم من أن الملوك الذين يتربعون على العروش، ويتسلطون على الخلق واجبو الطاعة، ولا يجوز نصحهم أو الخروج عليهم.. فالآية الكريمة لا تذكر ذلك، ومعاذ الله أن تقر الظلم والاستبداد أو السكوت عليه، وإنما هي تخبر عن الإرادة الإلهية التي لولاها ما تمكن الملوك من تلك المناصب التي استولوا عليها؛ فهم لم يستولوا عليها مراغمة على الله، وتعجيزا له، وإنما لأن الله تعالى أذن في ذلك اختبارا لهم ولرعيتهم.

ولذلك؛ فإن كل خفض أو رفع لا يكون على أساس الموازين الإلهية، ليس سوى مرحلة مؤقتة مرتبطة بالاختبار الإلهي، وليست حالة دائمة، كما صرح بذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الأنعام:165)

فقد أخبر الله تعالى أن الدرجات المهيمنة على المجتمعات، هي من جعل الله تعالى وإنشائه، لا باعتبارها صوابا محضا، لا يجوز الخروج عليه، وإنما باعتبارها ابتلاء واختبارا إلهيا.

ولذلك أخبر الله تعالى عن خروج الأنبياء عن تلك المراتب التي وضعها أقوامهم؛ فخفضوا بها من شاءوا ورفعوا من شاءوا.. ووضع الأنبياء عليهم السلام بدلها المراتب الإلهية الصحيحة، والتي تعبر عن الواقع بدون تزييف.

ومن الأمثلة على ذلك ما أجاب به نوح عليه السلام قومه حين احتقروا المؤمنين الذين اتبعوه، وقالوا: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: 27]؛ فرد عليهم نوح عليه السلام: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 29، 30]، وقال: ﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 31]

وهذا الجواب الأخير يشير إلى أن حقيقة الخفض والرفع لا ترتبط بالمناصب، ولا بالجاه الذي يتعبها، وإنما بما يعمر الأنفس من معان، فلذلك أخبر نوح عليه السلام، أنه لا يعرف ما في نفوس أتباعه، وسر اصطفاء الله تعالى لهم.

ومن الآيات الكريمة التي تشير إلى الموازين البديلة التي اختارها البشر لأنفسهم في مقابل الموازين الإلهية ما نص عليه قوله تعالى في أدلة المعترضين على رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذين قالوا:﴿ لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم﴾ (الزخرف: 31)، فرد الله تعالى عليهم بأنه وحده من يملك تقسيم الدرجات، كما يملك تقسيم المعايش، قال تعالى:﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف:32)

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن معرفتك بكون الله تعالى هو الخافض الرافع، ليست معرفة عقدية إيمانية فقط، وإنما لها آثارها النفسية والاجتماعية، وأولها أن تخضع موازين الخفض والرفع والعزة والذلة في نفسك لربك، لا لمجتمعك، ولا للأعراف التي تبناها.

فإذا سمعت ربك يقول: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فاعلم أن التقوى هي أساس الرفعة والعزة والكرامة.. فإذا استبدلت هذا الميزان، بموازين الأنساب التي وضعها البشر لأنفسهم، تكون قد أشركت بربك، لأنك توهمت أن لغيره القدرة على خفض من رفع، أو رفع من خفض.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يشير إلى خطورة الركون لموازين البشر، وترك موازين الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم؛ فأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان خير من فلان بن فلان؛ فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون) ([2])

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذر في كل المناسبات من ترك موازين الله، والعودة إلى موازين الجاهلية، فقد روي في الحديث عن جابر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فليبلغ الشاهد الغائب) ([3])

وقال في حديث آخر محذرا: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) ([4])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا) ([5])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن الله تعالى يختبرك بالصادقين من عباده، والذين أمر بتكريمهم وإعزازهم ورفعهم، فإن عاملتهم بخلاف ما أمرك به سقطت في الاختبار، بل أذنت لنفسك بأن تكون في مواجهة الله تعالى.

بل أذنت لنفسك أن تتشبه بإبليس، الذي اختبره الله تعالى بتكريم آدم عليه السلام، بل السجود تعظيما له؛ فأبى إلا أن يعظم نفسه، ويسجد لها، وهو ما جعله يسقط في الاختبار سقوطا مريعا، ويكون بذلك إماما لكل من راح يخفض ما أمر الله برفعه، ويهين ما أمر الله بتكريمه.

ومن متبعيه في ذلك أولئك النفر من بني إسرائيل الذين عارضوا ما اختاره لهم ربهم ونبيهم ليكون عليهم ملكا، بالموازين التي وضعوها لأنفسهم، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:247)

ولهذا كان كل ما حصل للأمم من البلاء بعد أنبيائها، بسبب وقوعها في هذا النوع من الاختبار، حيث تركت موازين الله تعالى في الاختيار، ولجأت إلى الموازين التي وضعتها لنفسها، حسدا وكبرا، لتوهمها أن الله تعالى وضع المناصب في غير محالها، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213]

وأخبر أن دين الله واحد، وأن الأنبياء كلهم كانوا على الإسلام، ولكن الذي فرق الأديان، وأشاع الصراع بينها، هو تلك الفئة الباغية التي يتصور الناس أنها الفئة الوارثة للرسل، لكنها تخالف منهجهم خلافا جذريا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]

وبذلك وقع الخلق في اختلال الموازين حيث رفعوا من يجب خفضه، وخفضوا من يجب رفعه، وحاربوا من يجب عليهم أن يسالموه، وسالموا من يجب عليهم أن يحاربوه، وبذلك وقعوا لا في حرب الأولياء فقط، وإنما في حرب الله تعالى نفسه.

وقد ورد في الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب. وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته)([6])

فهذا الحديث يشير كل حرف منه إلى خطورة الانحراف عن موازين الله تعالى، واعتبار إهانة ولي الله إهانة لله نفسه.. فهو يذكر أن ذلك الولي الذي تقرب إلى الله تعالى، صار ربانيا، يسمع بالله، ويبصر بالله، ويفعل كل شيء بالله ولله.. فإهانته أو إذيته إهانة لله نفسه.

ولهذا حل المقت بأولئك الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرد أولئك الصادقين الذين لم يريدوا بأعمالهم ولا حياتهم إلا وجه الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الله تعالى أخفى أولياءه في خلقه، ولذلك قد يكون الولي الصالح إنسانا بسيطا، أو صاحب حرفة حقيرة، فإياك أن تخطئ في حق أحد من الناس، حتى لا تقع في الخطأ في حق أولياء الله، وقد ورد في الحديث عن الإمام علي قوله: (إن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئا من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئا من معصيته، فربما وافق سخطه وأنت لاتعلم، وأخفى إجابته في دعوته فلا تستصغرن شيئا من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لاتعلم، وأخفى وليه في عباده فلا تستصغرن، عبدا من عبيد الله فربما يكون وليه وأنت لاتعلم) ([7])

ولهذا، إياك أن تكون كأولئك المشركين الذين حجبوا بأكل أنبيائهم، ومشيهم في الأسواق، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)﴾ (الفرقان)

فولي الله بشر كسائر البشر، ولا يمكنك أن تعرفه من خلال تلك المظاهر التي يبدو بها، والتي لا يخالف بها سائر الناس.. فسر الخصوصية ـ كما يقول الحكماء ـ مستور بظهور البشرية، وإلا فلو أن الله تعالى أظهر أنوار أوليائه لصعق كل من نظر إليهم.

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تحكم ربك في كل شيء، من أمور دينك ودنياك، فلا تنظر إلى الخلق من حيث الدرجات التي وضعوها لأنفسهم، وإنما تنظر إليهم من حيث الدرجات التي وضعها الله لهم، وهي درجات التقوى والإيمان والصلاح.. فانظر إليهم بقدر قربهم من الله، وحبهم له، ولا تنظر إليهم بحسب ما لديهم من الدنيا وأموالها وجاهها؛ فكل ذلك ستغير عليه الأيام، وستنجلي الحقائق يوم القيامة عن الواقع الحقيقي الذي غفل الخلق عنه بركونهم للأهواء.

لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، ودعا إلى وضع ذلك اليوم في الحسبان، فقال: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾ [الواقعة: 1 – 3]، فهي تخفض المرتفعين المستكبرين، وتريهم صورهم الحقيقية التي كانوا يسترونها بكبريائهم وطغيانهم، وفي نفس الوقت ترفع أولئك البسطاء الذين خفضهم الظلمة، واحتقرهم الناس، لتريهم صورهم الحقيقية الممتلئة بالجمال، والذي كان مغطى بذلك الوشاح الدنيوي الذي حال بين البشر ورؤيتهم.

فاسع ـ أيها المريد الصادق ـ لأن تكون من أهل الدرجات الحقيقية، أولئك الذين يجلسون على منابر النور، ويشربون من أحواض الأنبياء، فدرجات الدنيا لا تساوي شيئا أمام درجات الآخرة، قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف، كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع، في تفاضل أهل الدرجات)، فقالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ فقال: (بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل)([8])


([1]) رواه الطبراني.

([2]) قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف، الترغيب والترهيب: 3/ 375.

([3]) المعجم الكبير:18/ 12، شعب الإيمان:4/ 289.

([4]) أحمد:2/ 523، شعب الإيمان:4/ 286.

([5]) شعب الإيمان:4/ 292، مسند أحمد:4/ 158.

([6]) البخاري (6502)

([7]) معانى الاخبار 112.

([8]) رواه أحمد (2/ 339) والترمذي برقم (2556)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *