التفرد والوسيلة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تذكر لي بعض المقولات الواردة في كتب السلوك والتزكية، والتي تدعو إلى التجرد التام، وترك الأسباب، وعدم الانشغال أو الاشتغال بها، واعتبار ذلك قادحا في التوحيد، ودالا على الهمة الدنية، والتي لا يتخلص منها إلا من اعتمد على الله وحده.
وذكرت لي بعض القصص في ذلك، والتي تعرض فيها بعض المتجردين لمهالك كادت تودي بهم، ولكنهم مع ذلك ظلوا على تجريدهم وتوحيدهم وتوكلهم إلى أن تولى الله تعالى إنقاذهم كرامة منه، ومن غير أسباب معلومة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التفريد والتجريد والتوحيد الذي يتحدث عنه الحكماء لا ينافي الأخذ بالأسباب والوسائل، ولا العمل بما تتطلبه، بل هو من الأدب مع الله تعالى.
ومثال ذلك مثال أستاذ كلف تلاميذه بالاستعانة ببعضهم بعضا في القيام بما يكلفهم به من وظائف، وحتى يتمكنوا من فهم دروسهم جيدا، لكن بعض التلاميذ رغب عن ذلك، وأخبر أستاذه أنه لا يمكن لهمته العلية أن تترك الأستاذ وتذهب إلى تلاميذه، مع أن التلاميذ ليسوا سوى صنيعة للأستاذ.
وهذا سوء أدب مع الأستاذ، لأن التلميذ المحترم هو الذي يقوم بكل ما يُكلَّف به لعلمه أن أستاذه لا يريد له إلا الخير، ولذلك لا يعارضه، ولا يعقب على قوله، بل يفعل كل ما يطلبه منه، وبكل تسليم وسكون وخضوع.
وهكذا الأمر مع توجيهات الله تعالى لعباده؛ فهي كما تدعونا إلى مراعاة التوحيد، وكون الله تعالى هو المدبر لكل شيء، تدعونا كذلك إلى الأخذ بالأسباب واستعمالها، من دون الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله تعالى وحده.
ولهذا يرد في القرآن الكريم الجمع بين التوحيد والأسباب، أو بين قدرة الله المطلقة والوسائط التي استعملها، ليخبر أن القدرة لا تتنافى مع الحكمة، والتوحيد لا يتنافى مع الأسباب.
ومن الأمثلة على ذلك ذكره لترتب الأسباب على بعضها، فقد جعل المطر سببا لإنبات النبات، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ (البقرة: 164)، وبذلك فإن البحث في أسباب المطر لا ينافي الإيمان بالله.. بل إنه من دواعي الإيمان بالله.. فالله يأمرنا بالنظر في خلقه، للاعتبار والاستثمار.
وهكذا نرى القرآن الكريم يذكر عن ذي القرنين مراعاته للأسباب، وكيف استطاع بها أن يطور تقنيات كثيرة استفادت بها الشعوب التي حكمها، أو خدمها، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)﴾ [الكهف: 92 – 97]
وبهذا فإن الرؤية الإيمانية التوحيدية لا تستدعي تعطيل البحث في الأسباب احتقارا لها، وتغليبا للقدرة الإلهية، وإنما تؤمن بها، وتبحث فيها، ولكنها لا تقف عندها، وإنما تعبر منها إلى الخالق القادر على كل شيء.
ولهذا ترد الأوامر الكثيرة في النصوص المقدسة بالأخذ بالأسباب، والاحتياط في ذلك، فمع أن الله تعالى هو الحافظ للمؤمنين إلا أنه يأمرهم بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم، قال تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ (النساء: 102)
ويأمرهم بأن يعدوا العدة الكافية، ويستعدوا الاستعداد اللازم لمواجهة الظلمة والمستكبرين الذين يريدون استئصالهم، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال:60)
ويأمر أولئك الذين توهموا أن الرحلة للحج تستدعي التجرد والتوكل وعدم الأخذ بالأسباب، وعدم أخذ الزاد، فقال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة:197)
والعاقل هو الذي يعبر من الأمر بأخذ الزاد والحيطة والاستعداد إلى غيرها، لأن الله تعالى جعل كل ذلك وسيلة لتحقق الحاجات المختلفة.. والذي يريد أن يتخلص من ذلك يريد لنفسه قوانين خاصة تنسخ قوانين الكون..
ولذلك كان الأدب مع الله أن لا نخرق سننه، أو نطلب منه أن يخرقها لنا.. فإن شاء الله أن يخرقها لنا بفضله، فذلك له.. ولهذا عرج بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السموات العلا.. ولكنه اضطر إلى الهجرة متخفيا يقطع الصحاري.. ولم يلح له أن يطلب من الله أن يرسل البراق ليضعه في المدينة.
ولهذا ذم الله تعالى أولئك الذين كان بإمكانهم أن يخرجوا من الحال التي وجدوا أنفسهم عليها، لكنهم قصروا أو أبوا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ (النساء:97)
وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريّة إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسّجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أنا بريء من كلّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين) ([1])
وهكذا لو تتبعت ـ أيها المريد الصادق ـ سير الرسل عليهم السلام الواردة في القرآن الكريم تجد أنهم مع ما أتاح الله لهم من الكرامات والمعجزات، إلا أنهم لم يستخدموا تلك الصلاحيات في مواجهة أعدائهم، أو فيما يتعرضون له من البلاء، بل مارسوا أدوارهم الرسالية بجهودهم البشرية، ولم يدخلوا أي قوة غيبية فيها، حتى يكونوا أسوة لغيرهم.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أسرى الله به إلى بيت المقدس في لحظات معدودات، وعرج به إلى السموات العلا في ليلة واحدة، لم يستعمل البراق، ولا أي وسيلة غيبية عندما هاجر إلى المدينة المنورة، بل هاجر إليها كسائر الناس، وتلقى من العناء ما تلقى حتى يكون أسوة لغيره من الدعاة.
وهكذا كان يقاوم هجمات أعدائه بما أتيح له من سلاح، ومن عدد قليل، وعدة قليلة، ولم يستعمل الوسائل الغيبية المتاحة له، إلا إذا أراد الله ذلك، ولذلك حصل نوع من الهزيمة يوم أحد، واستشهد عمه حمزة، وكان في الإمكان ألا يحصل ذلك كله لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخدم ما أتيح له من ولاية تكوينية، ومن دعاء مستجاب، لكنه لم يفعل، لأن الله تعالى جعله أسوة للأمة، بل للبشر جميعا.
ولهذا كله ورد في الحديث عدم استجابة الله تعالى لدعاء من قدر على أن يخرج من البلاء، لكنه لم يفعل، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم ذهب له بماله فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: يا رب ارزقني، ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول الله عزّ وجلّ له: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والتصرف في الأرض، بجوارح صحيحة، فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كلا على أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قترت عليك، وأنت معذور عندي، ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو: يا رب ارزقني، فيقول الله عزّ وجلّ: ألم أرزقك رزقا واسعا، فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك، ولم تسرف، وقد نهيتك عن الاسراف؟ ورجل يدعو في قطيعة رحم) ([2])
ولهذا حذر أئمة الهدى من تلك الظاهرة التي وقعت في المجتمعات الإسلامية نتيجة التأثر برهبان النصارى وغيرهم، حيث أصبح التدين مرتبطا بالقعود عن الرزق، انتظارا لفضل الله، فقد روي عن الإمام الصادق أنه سئل عن رجل قيل له: أصابته الحاجة، فقال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض إخوانه، فقال: (والله للذي يقوته أشد عبادة منه) ([3])
وقال: (لا تَدَع طلب الرزق من حلّه، فإنّه عون لك على دينك، واعقل راحلتك وتوكّل)([4])
وروي أن بعضهم أنكر على الإمام السجاد حاجته وفاقته، وعدم قدرته على تسديد بعض حاجات المسلمين المادية، وقال: (عجبا لهؤلاء يدّعون مرّة أنّ السماء والأرض وكلّ شيء يطيعهم، وأنّ الله لا يردّهم عن شيء من طلباتهم، ثمّ يعترفون أخرى بالعجز عن إصلاح حال خواصّ إخوانهم)، فرد عليه الإمام السجاد بقوله: (هكذا قالت قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكّة ويرجع إليها في ليلة واحدة من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلّا في اثني عشر يوما؟! وذلك حين هاجر منها.. جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه، إنّ المراتب الرفيعة لا تنال إلّا بالتسليم لله جلّ ثناؤه، وترك الاقتراح عليه، والرضا بما يدبرهم به، إنّ أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبرا لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنّهم مع ذلك لا يريدون منه إلّا ما يريده لهم)([5])
وعلى هذه المعاني اتفق كل الحكماء، واعتبروا خلافه خلافا للسنة، وقد قال بعضهم في ذلك: (قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، وكاللحم على الوضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين؟)([6])
وقال آخر فيمن ترك الطلب والسعى، وتواكل بحجة أن الرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله: (إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا، تحرزا من الطمع وفساد القلب، فلا يضيع حق الزوجة والولد، برغم أن أرزاقهم على الله، فهذا تارك للسبيل والسنة، لقوله تعالى:﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (البقرة: 233)([7])
وقال آخر: (من طعن فى الحركة، فقد طعن فى السنة، ومن طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان، والتوكل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكسب سنته، فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته)([8])
وقال آخر: (إن هناك أقواماً كثيرة يزعمون أن السعي للرزق يتعارض مع التوكل، وهم في الواقع إنما جهلوا حقيقة السنة وسر الأنبياء في كل زمان مما يرويه لنا القرآن)([9])
وقال آخر: (التوكل لا ينافي السبب: لأن التوكل هو الاعتماد على الله تعالى وهو من أعمال القلب، والسبب من أعمال الجوارح، فإذا كان الإنسان معتمدا بقلبه على الله تعالى يرى الأمور كلها من الله تعالى، ويعتقد أن الله تعالى يخلق الرزق عند السبب)([10])
وقال آخر: (الأسباب كلها حجب وأستار دون وجه الحق، وهو الفاعل من خلف أستارها… والشرائع كلها… إنما جاءت باعتبار الأسباب العادية والشرعية، إذ هي مقتضى الحكمة، ومن أسمائه تعالى الحكيم، وترك الأسباب مقتضى القدرة، ومن أسمائه تعالى القادر.. والوقوف مع أحد الاسمين، تعطيل للآخر والمعطل هالك، والكمال في اعتبار الاسمين على وجه لا يناقض التوحيد)([11])
وقال آخر: (الرسل عليهم السلام والعارفون إنما يأمرون برفع حكم الأسباب لا برفع عينها. بل يأمرون بإثبات عينها من حين أن الأسباب وضعها وأثبتها الحكيم العليم، بما يجريه ويثبته سبحانه؛ فمن طلب رفع العوائد الجارية والأسباب العادية فقد أساء الأدب وجهل… هو منازع وليس بمواصل ولا صاحب… فالذي يثبت العادات والأسباب على وجه لا يناقض التوحيد، هو العارف بالله، لأنه يشهد الحق تعالى فيها)([12])
وقال آخر: (ولولا مراعاة حكمة الأسباب وملاحظتها، ما أرسل رسول ولا نزلت شريعة، ولا كان أمر ولا نهي من الله تعالى ورسله عليهم السلام)([13])
وقال آخر: (الأسباب التي وضعها الله تعالى في المخلوقات ليظهر عندها لا بها جميع التأثيرات… والله تعالى مع كل شيء يخلق له مقتضاه على كل حال من الأشياء النافعة والأشياء المضرة ولا تأثير لشيء أصلاً، فلهذا صحت نسبة التأثير إلى الأشياء نسبة مجازية. وإلى المؤثر الحق سبحانه نسبة حقيقية، وهو أمر حق لا شبهة فيه أصلاً سواء كانت الأسباب شرعية، كالطاعات أسباب للخير والمعاصي أسباب للشر أو كانت الأسباب عادية كالسكين للقطع… أو كانت الأسباب عقلية كالفكر والنظر… فالتمسك بالشريعة وحدها هو التمسك مجازاً، والمتمسك بالحقيقة فقط هو المتمسك بالله تعالى وحده بدون أسباب أصلاً من حيث نسبة التأثير إليه سبحانه نسبة حقيقية. لكن الطريق الأول وحده موصل إلى الشرك بالله تعالى، وإلى التجسيم في حقه سبحانه، ونسبة المكان والجهة إليه تعالى، والطريق الثاني وحده موصل إلى الزندقة والإلحاد ونفي الشريعة والدخول في الباطنية المحضة. ويصدق على أهل الطريق الأول وحده، وأهل الطريق الثاني وحده قوله سبحانه: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85] والجمع بين الطريقين بالقيام بالأول في الظاهر، وبالتحقيق بالثاني في الباطن، فيتمسك بالأسباب الشرعية والعادية والعقلية ظاهراً وبالمسبب الحق وحده باطناً)([14])
وقال آخر: (الغنى عن الأسباب من خصائص الحق جل وعلا، ولذا قال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15] وقد نظرنا في افتقارنا الحقيقي فوجدناه إنما هو إلى الأسباب فإذا قلنا: يا ربنا أطعمنا أو اسقنا وعندنا طعام أو شراب، يقول لنا بلسان الشرع: كلوا من ذلك الطعام أو اشربوا من ذلك الماء ويقاس بذلك العري ونحوه، فما استغنينا حينئذ بعين الحق وإنما استغثنا بما هو من الحق فتأمل؛ فإن الاستغناء بالله دسيسة للنفس فهي مثابرة على حصول صفة الغناء لها، فوقعت في منازعة أوصاف الربوبية من حيث لا تشعر مع أنها في أعلى طبقات الفقر والحاجة)([15])
وقال آخر: (لا تتركوا الأسباب لما تجدونه من قوة اليقين، فإن ذلك لا يدوم وربما عاقبكم الله بسبب اليقين، وقد مدح الله تعالى قوماً قاموا في الأسباب ولم تشغلهم أسبابهم عن ذكر الله بقوله تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله﴾ [النور: 37])([16])
وقال آخر: (رفع الأسباب عند الأكابر لا يعول عليه، بل من شأنهم الوقوف عند الأسباب)([17])
وهكذا؛ فإن جميع الحكماء اعتبروا التجرد الحقيقي لله غير مناف لاستعمال الأسباب، وقد قيل لبعضهم: أريد أن أحج على التجريد، فقال له: (جرد أولاً قلبك عن السهو، ونفسك عن اللهو، ولسانك عن اللغو، ثم اسلك حيث شئت)([18])
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع
لأن تجمع بين الرؤيتين، فهما غير متناقضتين، بل متكاملتان، بل هما رؤية واحدة..
فالله هو الفاعل في الجميع، والأدب مع الله يقتضي منك الأدب مع كل فعل من أفعاله،
أو أمر من أوامره.
([1]) أبو داود حديث (2645) الترمذي (1604)
([2]) الكافي: 5 / 67.
([3]) التهذيب 6: 324 / 889.
([4]) بحار الأنوار: 68/138، وأمالي الطوسي 1/196.
([5]) أمالي الصدوق: 367.
([6]) الإحياء: 4/265.
([7]) آداب المريدين وبيان الكسب، للحكيم الترمذى، ص168.
([8]) طبقات الصوفية، ص465.
([9]) عبد الحليم محمود، أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي، ص 183.
([10]) حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب (هامش قوت القلوب ج 2) ص 144.
([11]) عبد القادر الجزائري، المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ج 1 ص 151.
([12]) المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ج 1 ص 95.
([13]) المرجع السابق، ج 2 ص 844.
([14]) عبد الغني النابلسي، رسالة رد الجاهل إلى الصواب، ص 1، 3.
([15]) عبد الوهاب الشعراني، كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان، ص 58، 59.
([16]) عبد الوهاب الشعراني، لطائف المنن والأخلاق في بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، ج 2 ص 37.
([17]) ابن عربي، رسالة لا يعول عليه، ص 4.
([18]) الرسالة القشيرية، ص 122.