زهد العارفين

زهد العارفين

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الزهد وحقيقته ومنزلته ومجالاته ودرجاته، وسر علاقته بالنفس المطمئنة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الزهد ـ بحقيقته الشرعية ـ من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة، لأنه لا يمكن أن تترقى النفس إلى تلك المرتبة الرفيعة في سلم كمالها، وهي لا تزال تتثاقل إلى الأرض، أو تحمل تلك الأوهام التي تحملها النفس الأمارة، والتي تجعلها تفضل الأولى على الآخرة، والعاجلة على الآجلة، والخلق على الله.

بل إنه لا يمكن التحقق بكل مقامات الدين إلا بعد تحقق النفس بالزهد، ولو في أدنى درجاته.. ذلك أن كل خلق من الأخلاق يقتضي زهدا خاصا به لولاه لم يتحقق ذلك الخلق.

فالذي يصدق، لم يفعل ذلك إلا لاعتقاده أن الكذب ـ مهما جلب من المصالح ـ رديء ومهلك، وأن العاقبة في الصدق، ولذلك زهد في المصالح لأجله.. ولو أنه كان صاحب رغبة وتثاقل إلى الأهواء لما استطاع التخلص من كذبه.

وهكذا العفيف.. فهو لا يفعل ذلك إلا لنفور نفسه من تلك الشهوات التي قد تجره إلى خراب حقيقته وآخرته.. ولذلك ترك اللذات العاجلة طلبا للذات الآجلة.

وهكذا الكريم.. فهو لا يفعل ذلك بغضا في المال، وإنما طمعا في أن يتحول ذلك المال إلى أداة تجلب له رضوان الله ونعيمه.. ولو كان حريصا على الدنيا وحطامها، لما استطاع فعل ذلك.

وهكذا الشجاع.. فهو لا يضحي بنفسه، ويقدم بها على مواضع الخطر إلا لتحققه من أن ما يضحي لأجله أفضل من الذي يضحي به.. ولولا ذلك لحرص على حياته ونفسه، ولم يبذلها في سبيل الله.

وهكذا؛ فإن الزهد ركن ضروري في جميع الأخلاق، ذلك أنه يعني المعارف التي تجعله يفضل الآخرة على الأولى، والآجلة على العاجلة، والله على خلقه..

بل إن المنحرف أيضا زاهد.. ولكن على عكس التقي الصالح، ذلك أنه بعد موازنته نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، راح يختار الدنيا.. وبذلك تحقق له الزهد في الآخرة.. ولذلك روي عن بعض الصالحين، أنه عندما قيل له: أنت زاهد.. قال: لا.. بل الزاهد من آثار الأولى على الآخرة.. فهو الذي ضحى بالعظيم لأجل الحقير.. وبالكثير لأجل القليل.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أول المصادر التي تحث على الزهد، وتعطي المعارف المرتبطة به، هو القرآن الكريم.. فلا يكاد يقرؤه أحد بصدق وتدبر إلا هداه الله تعالى إلى حقائق الوجود التي ترفع عنه تلك الأغلال التي تحول بينه وبين طلب الكمال.

وقد ذكرت لك في رسائل سابقة ما ذكره القرآن الكريم عن الدنيا وحقارتها، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60]، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن كل ما في الدنيا من متاع وزينة يوجد ما هو خير منه وأدوم في الآخرة.. ولذلك فإن الزاهد في الدنيا، لن يضيع زهده، بل سيكسب أضعاف ما يتوهم المتثاقلون أنه خسره، بإضافة عنصر الزمان وامتداده، والذي حرم منه المتثاقلون إلى في الدنيا.

وقد عقب الله تلك الآية الكريمة بقوله: ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [القصص: 61]، وهي تدل على أنه لا وجه للمقارنة بين المؤمن الذي وثق في وعد الله الذي سيلقاه لا محالة، وبين ذلك الذي اكتفى بالنصيب المحدود الذي يعيش به في الدنيا، ثم يلاقي في الآخرة الأهوال بسبب تثاقله.

وهكذا يخاطب القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن ما أعد الله تعالى لهم في الآخرة، لا يمكن مقارنته بما يرونه من النعيم الذي يعيشه المتثاقلون إلى الدينا، ذلك النعيم الممتلئ بكل أصناف المنغصات، قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55]

ويخاطب الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسليا له وللمؤمنين على ما فاتهم أو يفوتهم من الدنيا، فيقول: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى: 4]، ويقول: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32]

ويبين مدى غفلة المتثاقلين إلى الدنيا وغبائهم عندما يسخرون من الزاهدين في الدنيا، فيقول: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [البقرة: 212]

ويذكر بعض مجامع نعيم الدنيا، ويبين مدى انحطاطها مقارنة بنعيم الآخرة، فيقول: ﴿زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]

ثم يبين بعض مظاهر ذلك النعيم المعد للمؤمنين في الآخرة، والذي لا يمكن مقارنة أي نعيم في الدنيا به، فيقول: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَناتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 15]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تعرف المؤمن بحقائق الوجود وقيمه، وهي كثيرة جدا، بل يمكن اعتبار القرآن الكريم جميعا كتاب المعارف المرتبطة بالزهد.. ذلك أن الزهد ليس سوى ثمرة للمعرفة بالحقائق.. والقرآن هو كتاب الحقائق المعصومة الأكبر.

ومثل ذلك ورد في السنة المطهرة الكثير من الأحاديث المبينة لفضل الزهد، أو المعارف المرتبطة به،ومنها ما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)([1]

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان حقيقة الزهد: (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك)([2])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ثمار الزهد: (إذا رأيتم الرجل قد أُعطي الزهد في الدنيا فاقتربوا منه، فإنه يُلقّى الحكمة)([3])

ومثله ما ورد في بيان ثماره: (الزاهد يحبُّ من يحبُّ خالقه، ويبغض من يبغض خالقه، ويتحرّج من حلال الدنيا، ولا يلتفت إلى حرامها، فإنّ حلالها حساب، وحرامها عقاب، ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه، ويتحّرج من الكلام كما يتحرّج من الميتة التي قد اشتدّ نتنها، ويتحرّج عن حطام الدنيا وزينتها، كما يتجنّب النار أن يغشاها، وأن يقصّر أمله، وكان بين عينيه أجله)([4])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المعارف المؤدية للزهد: (من أصبح والدّنيا أكبر همّه فليس من الله في شي‏ء، وألزم الله قلبه أربع خصال: همّا لا ينقطع عنه أبدا، وشغلا لا يتفرّغ منه أبدا، وفقرا لا ينال غناه أبدا، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا)([5])

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في اعتبار كل شيء في الدنيا يحول بين المؤمن وسعادة الآخرة ملعون، فيقول: (الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ما كان للَّه منها)([6])

ويعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا والآخرة مثل الضرتين إذا أحب أحدهما أبغض الأخرى، فيقول: (من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)([7])

ويبين المصير الذي يصير إليه المتثاقلون إلى الدينا، فيقول: (ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار، فقيل: يا رسول الله أمصلّين؟ قال: نعم كانوا يصومون ويصلّون ويأخذون هنة من اللّيل فإذا عرض لهم من الدّنيا شي‏ء وثبوا عليه)([8])

ويقول في بعض خطبه: (المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، فإن الدّنيا قد خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة، والّذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب‏ ولا بعد الدّنيا من دار إلّا الجنة أو النار)([9])

أما سنته العملية، وهي حياته صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد كانت مثالا أعلى للزهد، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد نام على حَصِير، وقد أثَّرَ في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخَذنا لك وطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير، يقيك منه؟ فقال: (ما لي وللدنيا؛ ما أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلّ تحت شجرة ثم راح وتركها)([10]

وقد حدث أبو ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرة بالمدينة، فاستقبلنا أحد، فقال: (يا أبا ذر) قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، ثم سار، فقال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه (وقليل ماهم)([11])

وفي حديث آخر: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الدنيا، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: (اجمعوها لي في الآخرة)، فأنزل الله:﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً﴾ (الفرقان:10)

وعن أم سلمة قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: (يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: (لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت)([12]

وحدثت عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة؟) فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إلي بهذا الفراش، فقال: (رديه)، قالت: فلم أرده، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: (رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة)([13]

وعنها قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر، فقال: (يا عائشة ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفئ ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا)([14]

وهكذا كانت سنة أئمة الهدى؛ فقد روي عنهم الكثير من الأحاديث التي تحض على الزهد، وتبين مكانته من الدين، وخاصة بعد ما رأوا تثاقل المسلمين إلى الدنيا، وتحريف بعضهم للدين بسببها.

ومن أمثلتها قول الإمام علي: (طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، ومائها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم عليه السلام)([15])

وحدث عن نفسه قال: (ألا وإنّ لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخّير الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أن أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى) ([16]

وقال الإمام الصادق: (من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه منها سالماً الى دار السلام)([17])

وقال: (الزهد مفتاح باب الآخرة، والبراءة من النار، وهو تركك كل شئ يشغلك عن الله، عن غير تأسف على فوتها، ولا إعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا عوض منها، بل ترى فوتها راحة، وكونها آفة، وتكون أبدا هاربا من الآفة، معتصما بالراحة والزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا، والذل على العز، والجهد على الراحة والجوع على الشبع، وعاقبة الآجل على محبة العاجل، والذكر على الغفلة ويكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة)([18])

وغيرها من الروايات الكثيرة التي تبين حقيقة الزهد ومنزلته الرفيعة، بل تعتبره شرطا من شروط التزكية التي لا تتم من دونها؛ فلا يمكن للحريص المتثاقل إلى الدنيا، أن تنبت في أرض نفسه أي مكرمة من المكارم.

ومثل ذلك اتفق الحكماء على ضرورة الزهد ومنزلته، وكله مما فهموه من المصادر المقدسة، أو اكتسبوه بتجاربهم، وهم ـ كما تعلم ـ غير معصومين؛ فلذلك قد يختلط بعض ما ذكروه ببعض الدخن؛ فخذ الحقيقة والحكمة، ودعك من الدخن.

ومن تعريفاتهم للزهد قول بعضهم: (الزهد: هو خلو القلب عما خلت منه اليد)([19])

وقال آخر: (الزهد: وهو خلو البدن من الدنيا، وخلو القلب من طلبها)([20]

وقال آخر: (الزهد: هو النظر في الدنيا بعين الزوال، فتصغر في عينك، فيسهل الإعراض عنها)([21]

وقال آخر: (الزهد: النظر إلى الدنيا بعين النقص، والإعراض عنها تعززاً وتظرفاً)([22])

وقال آخر: (الزهد: تحويل القلب من الأشياء إلى رب الأشياء)([23])

وقال آخر: (الزهد كله: أخذ ما لا بد منه، وإسقاط ما بقى)([24])

وقال آخر: (يقال: الزهد: هو عزوف القلب عما فيه ريب.. وهو أن لا تملك ما تملك ولا تؤثر ما تدرك.. وهو ترك الأسف على معدوم ونفي الفرح بمعلوم.. وهو منع الحرام من الشدق، وصون القلب عن الخلق)([25])

وقال آخر: (الزهد: هو النظر إلى الدنيا بعين النقص، والإعراض عنها تعززاً وتظرفاً. ومن استحسن من الدنيا شيئاً فقد نبه على قدرها)([26])

وقال: (الزهد: هو أساس الأحوال المرضية، والمراتب السنية، وهو أول قدم القاصدين إلى الله تعالى، والمنقطعين إلى الله، والراضين عن الله، والمتوكلين على الله. فمن لم يحكم أساسه في الزهد لم يصح له شيء مما بعد)([27])

 وذكر بعضهم أصل الزهد ومنابعه، فقال: (أصل الزهد: الرضا عن الله تعالى)([28])

وقال آخر: (أصل الزهد هو العلم والنور يشرق في القلب حتى ينشرح به الصدر، ويتضح فيه أن الآخرة خير وأبقى، وأن نسبة الدنيا إلى الآخرة أقل من نسبة خرقة إلى جوهرة)([29])

ومثل جميع منازل النفس المطمئنة؛ فإن للزهد درجات كثيرة بحسب مرتبة النفس في سلم الكمال المتاح لها، وقد ذكر بعضهم مجامع ذلك، فقال: (أقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه على ثلاث درجات: أحدها: الزهد للنجاة من العذاب، والحساب، والأهوال التي بين يدي الآدمي، وهذا زهد الخائفين.. الدرجة الثانية: الزهد للرغبة في الثواب، والنعيم الموعود به، وهذا زهد الراجين فإن هؤلاء تركوا نعيماً لنعيم.. الدرجة الثالثة: وهي العليا، وهو أن لا يزهد في الدنيا للتخلص من الآلام، ولا للرغبة في نيل اللذات، بل لطلب لقاء الله تعالى، وهذا زهد المحسنين العارفين، فإن لذة لقاء الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى لذات الجنة، كلذة ملك الدنيا، والاستيلاء عليها)([30]

وقال آخر: (الزهد عند العوام خلو اليد من المال، وعند الخواص خلو القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى)([31]

وقال آخر: (الزهد خمسة أقسام: الأول: أن تزهد ما في أيدي الناس تحبك الناس.. الثاني: أن تزهد في الدنيا يحبك الله.. الثالث: أن تزهد أقوالك وأفعالك وأحوالك وترحل عن علمك وعملك.. الرابع: أن تزهد في المقامات والتصرف والكرامات عند الواردات.. الخامس: أن تزهد فيما سوى الله)([32]

وقال آخر: (الزهد على درجات ثلاث: الدرجة الأولى وهي السفلى منها: أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفها، وهذا يسمى: المتزهد.. الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين.. الدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً. إذ عرف أن الدنيا لا شيء، فهذا هو الكمال في الزهد)([33]

وقال آخر: (الزهد وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الزهد في الشبهة بعد ترك الحرام بالحذر من المعتبة، والأنفة من المنقصة، وكراهة مشاركة الفساق.. والدرجة الثانية: الزهد في الفضول وما زاد على المسكة والبلاغ من القوت، باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت، وحسم الجأش والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين.. والدرجة الثالثة: الزهد في الزهد بثلاثة أشياء: باستحقار ما زهدت فيه، واستواء الحالات عندك، والذهاب عن شهود الاكتساب ناظراً إلى وادي الحقائق)([34])

وغيرها من الأقوال التي ترجع جميعا إلى التقسيم القرآني لأصناف المؤمنين، والتي تجتمع في أهل اليمين والمقربين؛ فزهد أهل اليمين مرتبط بمتاع الدنيا، وزهد المقربين مرتبط بكل ما يصرف عن الله.

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تتخلق بهذا الخلق الرفيع، وتنزل هذه المنزلة السامية؛ فلا يمكنك أن تترقى في مراتب الكمال قبل أن تزهد في مراتب النقص، وتتخلى عن كل القيود التي تحول بينك وبين سيرك الذي لا نهاية له. ..


([1]) رواه ابن ماجه وغيره.

([2]) رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، وراه ابن ماجة والطبراني.. وغيرهم.

([3]) بحار الأنوار: 67/311، وروضة الواعظين.

([4]) معاني الأخبار ص261.

([5]) الطبراني في الأوسط وابن أبي الدنيا والحاكم.

([6]) ابن ماجه رقم 4112، والترمذي ج 9 ص 198.

([7]) الحاكم ج 4 ص 319.

([8]) أبو نعيم في الحلية وأبو منصور الديلمي.

([9]) الكافي ج 2 ص 70.

([10]) رواه الترمذي.

([11]) رواه البخاري ومسلم.

([12]) رواه أبو ذر الهروي.

([13]) رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور، وابن عساكر.

([14]) رواه ابن حبان.

([15])الخصال 1/164.

([16]) نهج البلاغة، 2/72.

([17])ثواب الأعمال ص151.

([18]) مصباح الشريعة ص22.

([19]) د. عبد الحليم محمود، شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث، حياته ومعراجه الى الله، ص 71.

([20]) أحمد الكمشخانوي النقشبندي، جامع الأصول في الأولياء، ج 2 ص 257.

([21])عبد الحكيم عبد الغني قاسم، المذاهب الصوفية ومدارسها، ص 50.

([22]) أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ص 216.

([23]) المرجع السابق، ص 341.

([24]) المرجع السابق، ص 428.

([25]) المرجع السابق، ص61.

([26]) علي بن يوسف الشطنوفي، بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، ص 401.

([27]) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، ص 477.

([28]) أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ص 10.

([29]) الغزالي، الأربعين في أصول الدين، ص 235، 236.

([30]) أحمد بن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، ص 412، 413.

([31])حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب (بهامش قوت القلوب ج 2)، ص 128.

([32]) محمد بن حسن السمنودي، تحفة السالكين ودلالة السائرين لمنهج المقربين، ص 50.

([33]) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 211، 212.

([34]) عبد الله الهروي، منازل السائرين، ص 30، 31.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *