اليقظة والإرادة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن اليقظة والإرادة التي يذكرها الحكماء، ويعتبرون أنهما من المنازل الضرورية للسالكين.. وهل هما متعلقان بالنفس اللوامة فقط، أم أنهما من منازل النفس المطمئنة؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن كل المناهج التي ذكرتها لك في رسائلي حول النفس اللوامة، هي منازل لأصحاب النفوس المطمئنة.. والفرق بينهما هو في طمأنينة النفس للمنزل، واستقرارها فيه؛ فإن كانت مطمئنة مستقرة، فهي نفس مطمئنة، وإن كانت متذبذبة يشق عليها الاستقرار، فهي نفس لوامة.. وإن لم يكن لها فيه أي رغبة، بل تنفر منه نفورا كليا؛ فهي نفس أمارة.
ولذلك فإن اليقظة والإرادة من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة؛ فلا يمكن أن تترقى في معارج الكمال ما لم تتحقق بهما.. فالنائم لا يمكن أن يتحرك أو يسير.. والعاجز الذي فقد الإرادة لا يختلف عن النائم.
ولذلك كانا من المنازل والمناهج الضرورية، ولهذا خاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أول النبوة بالقيام، لأنه لا يمكن أن يتحقق أي شيء للمدثر أو المزمل ما لم يقم.. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1، 2]، وهو أمر بالعبادة والتواصل الروحي مع الله.
ثم قال له بعدها: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2]، وهو أمر بأداء رسالة الله، وإنقاذ خلقه، وتخليصهم من نفوسهم الأمارة.
وكل ذلك إيذان بالمشقات التي قد تلاقي القائم الذي ينفض عنه كل ما يسببه النوم من راحة ودعة وكسل ليستقبل ما تتطلبه الإرادة من مجاهدة وتكاليف، ولهذا ذكر الله تعالى من علل أمره بالقيام في سورة المزمل: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]
وبما أنك ـ أيها المريد الصادق ـ طلبت مني الحديث في كلام الحكماء عنهما، وتجاربهم حولهما؛ فسأذكر لك ما ذكروه، وما يؤيده من النصوص المقدسة، والفطرة السليمة.
أما أولهما، وهي اليقظة، وهي السابقة والمقدمة للإرادة.. فإنها لا تختلف كثيرا عن تلك اليقظة التي يخرج بها الإنسان من عالم النوم والأحلام إلى عالم الواقع والحياة.. ذلك أن الإنسان الغافل عن ربه ومصيره ونفسه وحقائق الوجود لا يختلف عن النائم، كما وردت الإشارة إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن خياركم أولوالنهى)، قيل: يا رسول الله ومن أولوالنهى؟ قال: (هم أولوالاخلاق الحسنة، والأحلام الرزينة، وصلة الأرحام، والبررة بالأمهات والآباء والمتعاهدين للفقراء، والجيران واليتامى، ويطعمون الطعام، ويفشون السلام في العالم، ويصلون والناس نيام غافلون) ([1])
وعبر عنه في حديث آخر، فقال: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ([2])
وسبب ذلك هو أن الحقائق المصيرية التي يدعي الغافلون الإيمان بها، لا تؤثر في حياتهم، وإنما هي منحصرة في زوايا مهملة من أذهانهم.. ولا يمكن للحقائق أن تؤتي ثمارها النافعة إلا بعد أن تصبح رأي العين.. فـ (ليس الخبر كالعيان)([3])؟
ولهذا طلب إبراهيم الرؤية ليعايش تلك الحقائق الإيمانية، ويطمئن بها ولها.. قال تعالى يذكر ذلك:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)﴾ (البقرة)؟
وهذا ليس خاصا بإبراهيم عليه السلام، بل إن الله تعالى لكل إنسان إذا ما استيقظ من نوم غفلته أن يرى الحقائق بقلبه، ويطمئن لها، وتلك اليقظة.
وقد ورد في الحديث أن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:يا رسول اللّه، نكون عندك تذكّرنا بالنّار والجنّة، حتّى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضّيعات، نسينا كثيرا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (والّذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن ساعة وساعة)([4])
ولهذا، فإن اليقظة تتطلب أمرين لا يمكن أن تحقق من دونهما:
أولهما: التعرف على الحقائق التي يقوم عليها الكون، مثلما يتعرف المستيقظ على المحل الذي هو فيه، والذي كان غافلا عنه بالنوم..
والثاني: أن يتعرف على نفسه وحقيقته ومحله وكل ما يرتبط به، ليؤدي الوظائف المناطة به، والتي كان النوم يحول بينه وبينها.
وكل هذا يشبه المستيقظ من النوم تماما.. فالمستيقظ يعرف حقيقته وحقيقة ما يحيط به.. بخلاف النائم الذي انشغل عن كلا المعنيين.
ولتعلم حقيقة هذا تحتاج إلى التعرف على الفرق بين رؤية الحقائق والعلم بها.. فالعلم قد تجده عند أكثر الناس، بل عند أغلظهم طبعا.. لكن الكثير ينشغل عن العلم بالجهل، فيغطي جهله علمه.. فلذلك يحتاج إلى أن يبصر الحقائق حتى يتغلب علمه على جهله.
ومن الأمثلة على ذلك الموت، فإنه عند كل الناس ما عدا المستيقظ لا ينطبق عليه إلا تلك المقولة المشهورة: (لم نجد يقينا أشبه بالشك من الموت)، أما المستيقظ؛ فإن الموت عنده حقيقة حاضرة يعيشها.. ويلتزم بلوازمها.. فلا يركن إلى الدنيا ولا يركن إلى الأهواء، ولا ينشغل بالعاجلة عن الباقية..
وقد روي عن بعض الصالحين، وحاله في استيقاظه، أنه قال: (مثّلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، ثم مثّلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا. قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي)
وحدثوا عن آخر أنه كان يقرأ الآية ويكررها، ويتلذذ بذلك كما يتلذذ أحدنا بالعسل، وعندما سئل عن سر ذلك قال: (كنت أقرأ القرآن ولا أجد له حلاوة، فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت حلاوة قليلة، فقلت لنفسي: اقرئيه كأنك سمعتيه من جبريل u حين يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فازدادت الحلاوة، ثم قلت لها: اقرئيه كأنك سمعتيه حين تُكِّلم به، فأتت الحلاوة كلها)
انظر ـ أيها المريد الصادق ـ إلى هذا المستيقظ كيف صار يسمع الكلام من ربه.. هذه هي اليقظة الحقيقية التي دعا الله تعالى خلقه إليها، وبلغ دعوته أنبياءه ورسله وأولياءه.
وهي اليقظة التي ذكرها الحكماء، واعتنوا بالبحث في حقيقتها، ومجالاتها، ودرجتها، وكيفية تحصيلها.
وقد قال بعضهم يذكر حقيقتها: (حقيقة اليقظة: هي نور قدحه الله تعالى بزيادة الإيمان بيد اليقين في حراق الوهم، فأشعل مصباح البصيرة في ليل الظلمة الطبيعية)([5])
وقال آخر: (اليقظة: هي القومة لله من سنة الغفلة، والنهوض من ورطة الفترة. وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه ([6])
وقال آخر: (اليقظة: هي الفهم عن الله في زجره، فإذا فهمت عن الله انتبهت)([7])
وقال آخر: (اليقظة: هي انتباه النفس من سنة الغفلة بداعية الموعظة الحسنة، بلسان المخيلة الصالحة)([8])
وقال آخر: (اليقظة: هي الانتباه من الغفلة والطريق المؤدي لصحة المجاهدة)([9])
وذكر آخر غايتها، فقال (وغايتها: النظر في تحصيل أسباب النجاة)([10])
وذكر آخر المنبهات التي تعين النائم على الاستيقاظ، فقال: (اليقظة هي ثلاثة أشياء: الأول: لحظ القلب إلى النعمة على الإياس من عدها، والوقوف على حدها، والتفرغ إلى معرفة المنة بها والعلم بالتقصير في حقها.. والثاني: مطالعة الجناية والوقوف على الخطر فيها، والتشمر لتداركها والتخلص من ربقها، وطلب النجاة بتمحيصها.. والثالث: الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان في الأيام، والتنصل عن تضييعها، والنظر إلى الظن بها ليتدارك فائتها ويعمر باقيها)
ثم شرح كيفية تحصيل كل واحد منها، فقال: (فأما معرفة النعمة فإنها تصفو بثلاثة أشياء: بنور العقل، وشيم برق المنة، والاعتبار بأهل البلاء.. وأما مطالعة الجناية فإنها تصح بثلاثة أشياء: بتعظيم الحق، ومعرفة النفس، وتصديق الوعيد.. وأما معرفة الزيادة والنقصان في الأيام فإنها تستقيم بثلاثة أشياء: بسماع العلم، وإجابة دواعي الحرمة، وصحبة الصالحين. وملاك ذلك كله: خلع العادات)([11])
أما الإرادة؛ فإنها ذلك الانزعاج الذي يصيب النفس نتيجة تقصيرها، وخوفا من مصيرها، وشوقا للجمال الذي كان مغيبا عنها بسبب نومها.. ولذلك تحث صاحبها وتدفعه بقوة إلى استعمال كل الوسائل للتغيير والتجدد وتصحيح كل ما فرط فيه.
وقد عرفها بعضهم، فقال: (الإرادة: هي توديع الوسادة.. وأن تحمل من الوقت زاده.. وأن يألف سهاده، ويهجر رقاده.. وهي لوعة تهون كل روعة.. وهي اهتجاج اللب، وانزعاج القلب)([12])
وقال آخر: (الإرادة: هي قصد الوصول إلى المحبوب بنعت المجاهدة، أو التحبب إلى الله بما يرضى، والخلوص في نصيحة الأمة، والأنس بالخلوة، والصبر على مقاساة الأهوال، ومنازلات الأحوال، والإيثار لأمره، والحياء من نظره، وبذل المجهود في محبوبه، والتعرض لكل سبب يوصل إليه، وصحبة من يدل عليه، والقناعة بالخمول، وعدم سكون القلب إلى شيء دون الوصول. وهي أول منـزلة القاصدين، وبدء طريق السالكين)([13])
وقال آخر: (الإرادة: حبس النفس عن مراداتها، والإقبال على أوامر الله، والرضا بموارد القضاء عليه)([14])
وقال آخر: (الإرادة: سمو القلب لطلب المراد، وحقيقة الإرادة استدامة الجد وترك الراحة)([15])
وقال آخر: (الإرادة: هي لوعة في الفؤاد، لدغة في القلب، غرام في الضمير، انزعاج في الباطن، نيران تتأجج في القلوب)([16])
وقال آخر: (الإرادة: هي إرادة الطلب من الله تعالى، وإرادة الحظ من الله تعالى، وإرادة الله سبحانه. فإرادة الطلب موضع التمني، وإرادة الحظ موضع الطمع، وإرادة الحق موضع الإخلاص)([17])
وقال آخر: (الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض، أما في الحال أو في المآل)([18])
وهي تصحب السالك في كل مراحل سلوكه إلى نهايته التي لا نهاية لها.. بل لولاها لم يتحقق سلوك السالكين.. فلا يمكن أن يتم سلوك من دون إرادة، كما عبر بعضهم عن ذلك بقوله: (الإرادة: بدء طريق السالكين، وهي إسم لأول منـزلة القاصدين إلى الله تعالى، وإنما سميت هذه الصفة إرادة: لأن الإرادة مقدمة كل أمر، فما لم يرد العبد شيئاً لم يفعله، فلما كان أول الأمر لمن سلك طريق الله عز وجل سمي إرادة تشبيهاً بالقصد في الأمور الذي هو مقدمتها)([19])
وهي بذلك ليست مرتبطة بالمؤمنين السالكين فقط، بل هي عامة لكل الخلق.. فحقيقة الإنسان تكمن في مراداته التي يختارها بمحض حريته، كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 18 – 20]
فالله تعالى ـ كما تذكر الآيات الكريمة ـ يمد الجميع بحسب ما تقتضيه رغباتهم في الدنيا.. ثم يعاينون بعد ذلك نتائج اختياراتهم التي لم يظلموا فيها، ولم يرغموا عليها.
وحين ذاك يعرف الخلق جميعا قيمة الذين اختاروا الله وأرادوه، والذين كانوا ربما من المحتقرين في الدنيا، كما قال تعالى:﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)﴾ (الأنعام)
واعتبر أهلها من المفلحين، فقال:﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)﴾ (الروم)
ولهذا ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة، واعتبر أنها مثل النية هي المحددة لقيمة الأعمال، قيم أصحابها، ففي الحديث عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة فقال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض)، وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر)([20])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)([21])
وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الإرادة يمكنها أن تنزل الإنسان أي منزلة يريدها، حتى لو لم يكن معها عمل.. فهي تنزل المؤمن منازل الشهداء حتى لو مات على فراشه.. وتنزله منازل الكرماء حتى لو لم ينفق دينارا ودرهما.. وتنزله منازل المجاهدين حتى لو لم يخرج من بيته.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم أصناف الناس على أساسها، فقال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء)([22])
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن النية الصادقة، والرغبة الأكيدة، والإرادة الجازمة، يمكنها أن تصل بالإنسان وحدها إلى أرقى المراتب.
وبما أن مراتب السالكين لا نهاية لها.. فكذلك مراداتهم، تكون تابعة للمنازل التي يحلون بها.. وفضلهم يكون على أساسها.
ولهذا صنف الحكماء الإرادة بحسب نوع المرادات إلى درجات كثيرة، عبر عنها بعضهم بقوله: (الإرادة: حلية العوام، وهي تجريد القصد إلى الله تعالى، وجزم النية والجد في الطلب له، وذلك في طريق الخواص نقص وتفرق ورجوع إلى الأسباب والنفس، فإن إرادة العبد عين حظه وهو رأس الدعوى. وإنما يراد بالعبد من الله لا فيما يريد، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107]،فيكون مراده ما يراد به مما ورد في الشرع بإرادته واختياره ما يختار له بالشرع، إذ لا اختيار للعبد مع ربه وسيده، ولا إرادة له مع إرادته)([23])
أما كيفية التحقق بها، فقد أشار إلى مجامعها الإمام الصادق، فقال:
(أُوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفّقك لاستعماله، ثلاثةٌ منها في رياضة النفس، وثلاثةٌ منها في الحلم، وثلاثةٌ منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها، أمّا اللّواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل مالا تشتهيه فإنّه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلّا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله، واذكر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ماملأ آدميٌّ وعاءاً شرّاً من بطنه فإن كان ولابدّ فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفسه.. وأمّا اللّواتي في الحلم: فمن قال لك: إن قلت واحدةً سمعت عشراً فقل: إن قلت عشراً لم تسمع واحدةً، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنى فعده بالنصيحة والرعاء.. وأمّا اللّواتي في العلم: فاسأل العلماء ماجهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربةً وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ماتجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولاتجعل رقبتك للناس جسراً) ([24])
ومما يعين على ذلك أيضا ما ذكره بعض الحكماء، فقال مخاطبا تلاميذه([25]): (اعلموا يا من اصطفاكم الله لإرادته أن أول الطريق باعث قوي يقذف في قلب العبد يـحثه على الإقبال على الله والدار الآخرة، والإعراض عن الدنيا وعما الـخلـق مشغولون به من عمارتـها وجمعها والتـمتع بشهواتها والاغترار بزخارفها.. وهذا الباعث من جنود الله الباطنة، وهو من نفحات العناية وأعلام الهداية، وكثيرا ما يفتح به على العبد عند التخويف والترغيب والتشويق، وعند النظر إلى أهل الله تعالى والنظر منهم، وقد يقع بدون سبب.. والتعرض للنفحات مأمور به ومرغب فيه والانتظار والارتقاب بدون التعرض ولزوم الباب حمق وغباوة)
وقال آخر ذاكرا كيفية التعامل مع هذا الفضل الإلهي: (ومن أكرمه الله بهذا الباعث الشريف فليعرف قدره المنيف، وليعلم أنـه من أعظم نعم الله تعالى عليه التي لا يقدر قدرها ولا يـبلغ شكرها فلـيبالغ في شكر الله تعالى على ما منحه وأولاه، وخصه به من بين أشكاله وأقرانه فكم من مسلم بلغ عمره ثمانين سنة وأكثر لم يجد هذا الباعث ولم يطرقه يوما من الدهر)
وقال آخر ذاكرا كيفية تقويته لنيل المزيد من بركاته: (تقوونه بكثرة ذكر لله، والفكر فيما عند الله، والمجالسة لأهل الله.. وتحفظونه بالبعد عن مجالسة المحجوبين، والإعراض عن وسوسة الشياطين، وبأن تبادروا بالإنابة إلى الله تعالى، وبالصدق في الإقبال عليه)
وقال آخر داعيا إلى عدم الاهتمام بالذرائع التي تتذرع بها النفس: (سيروا إلى الله عرجا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة.. فإن إحالتكم العمل على وجود الفراغ من رعونات النفوس)
وقال آخر داعيا إلى تفعيل الإرادة في تصحيح كل الأخطاء السابقة: (أول شيء يبدأ به المريد الصادق في طريق الله تصحيح التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب، وإن كان عليه شيء من المظالم لأحد من الخلق فليبادر بأدائها إلى أربابها إن أمكن وإلا فيطلب الإحلال منهم، فإن الذي تكون ذمـته مرتهنة بحقوق الخلق لا يمكنه السير إلى الحق.. وليكن المريد على الدوام في غاية من الاعتراف بالتقصير عن القيام بما يجب عليه من حق ربه، ومتى حزن على تقصيره وانكسر قلبه من أجله فليعـلم أن الله عنده إذ يقول سبحانه: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي)
وقال آخر داعيا إلى مراقبة القلب وكل ما يؤثر فيه: (على المريد أن يحترز من أصغر الذنوب فضلا عن أكبرها أشد من احترازه من تناول السم القاتل، ويكون خوفه لو ارتكب شيئا منها أعظم من خوفه لو أكل السم، وذلك لأن المعاصي تعمل في القلوب عمل السم في الأجسام، والقلب أعز على المؤمن من جسمه بل رأس مال المريد حفظ قلبه وعمارته.. وعلى المريد أن يجتهد في حفظ قلبه من الوساوس والآفات والخواطر الردية، وليـقم على باب قلبه حاجبا من المراقبة يمنعها من الدخول إليه فإنها إن دخلته أفسدته، ويعـسر بعد ذلك إخراجها منه.. وليبالغ في تـنقية قلبه الذي هو موضع نظر ربه من الميل إلى شـهوات الدنيا، ومن الحقد والغل والغش لأحد من المسلمين، ومن الظــن السوء بأحد منهم، وليكن ناصحا لهم رحيما بهم مشفقا عليهم، معتقدا الخير فيهم، يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر.
وقال آخر داعيا إلى مراقبة الجوارح، وكل ما ينتج عنها: (على المريد أن يجتهد في كف جوارحه عن المعاصي والآثام، ولا يحرك شيئا منها إلا في طاعة، ولا يعمل بها إلا شيئا يعود عليه نفعه في الآخرة. وليبالغ في حفظ اللسان فإن جرمه صغير وجرمه كبير، فليكفه عن الكذب والغيبة وسائر الكلام المحظور، وليحترز من الكلام الفاحش، ومن الخوض فيما لا يعنيه، وإن لم يكن محرما فإنـه يقـسي القلب، ويكون فيه ضياع الوقت، بل ينبغي للمريد أن لا يحرك لسانه إلا بتلاوة أو ذكر أو نصح لمسلم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو شيء من حاجات دنياه التي يستعين بها على أخراه)
وقال آخر يصف المريدين الصادقين([26]): (لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد، ويعرف النقصان من المزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد، ويستوي عنده الذهب والصعيد.. والمريد من حفظ الحدود، ووفى بالعهود، ورضي بالموجود، وصبر عن المفقود.. والمريد من شكر على النعماء، وصبر على البلاء، ورضي بمر القضاء، وحمد ربه في السراء والضراء، وأخلص له في السر والنجوى.. والمريد من لا تسترقه الأغيار، ولا تستعبده الآثار، ولا تغلبه الشهوات، ولا تحكم عليه العادات. كلامه ذكر وحكمة، وصمته فكرة وعبرة، يسبق فعله قوله ويصدق علمه عمله، شعاره الخشوع والوقار، ودثاره التواضع والانكسار، يتبع الحق ويؤثره، ويرفض الباطل وينكره، يحب الأخيار ويواليهم، ويـبغض الأشرار ويعاديهم، خبره أحسن من خبره، ومعاشرته أطيب من ذكره، كثير المعونة، خفيف المؤونة، بعيد عن الرعونة)
وقال آخر: (المريد الصادق أمين مأمون، لا يكذب ولا يخون، لا بخيلا ولا جبانا، ولا سبابا ولا لعانا، ولا يشتغل عن بده، ولا يشح بما في يده، طيب الطوية، حسن النية، ساحته من كل شر نقية، وهمته فيما يقربه من ربه علية، ونفسه على الدنيا أبية، لا يصر على الهفوة، ولا يقدم ولا يحجم بمقتضى الشهوة، قرين الوفاء والفتوة، حليف الحياء والمروة، ينصف كل أحد من نفسه ولا ينتصف لها من أحد. إن أعطي شكر، وإن منع صبر، وإن ظلم تاب واستغفر، وإن ظلم عفا وغفر، يحب الخمول والاستتار، ويكره الظهور والاشتهار، لسانه عن كل ما لا يعنيه مخزون، وقلبه على تقصيره في طاعة ربه محزون، لا يداهن في الدين ولا يرضي المخلوقين بسخط رب العالمين، يأنس بالوحدة والانفراد، ويستوحش من مخالطة العباد، ولا تلقاه إلا على خير يعمله، أو علم يعلمه، يرجي خيره، ولا يخشى شره، ولا يؤذي من آذاه، ولا يجفو من جفاه)
وقال آخر: (المريد الصادق كالنخلة ترمى بالحجر فترمي بالرطب، وكالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، تلوح أنوار صدقه على ظاهره، ويكاد يفصح ما يرى على وجهه عما يضمر في سرائره، سعيه وهمته في رضا مولاه، وحرصه ونهمته في متابعة رسوله وحبيبه ومصطفاه، يتأسى به في جميع أحواله، ويقتدي به في أخلاقه وأفعاله وأقواله)
هذا جوابي على
أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على التحقق بهذه الصفات، لتنال أعلى الدرجات،
وتفوز بأسمى الغايات؛ فلا سعادة إلا لمن وجه إرادته إلى عالم النور والجمال، ولم
يتثاقل إلى الدنيا، ولم يركن إلى الأهواء.
([1]) الكافى ج 2 ص 240.
([2]) بحار الأنوار (4/ 43)، وقال العراقي في تخريج الإحياء (3611): لم أجده مرفوعًا، ويُعزى إلى علي بن أبي طالب.
([3]) روى كثيرون منهم أحمد وابن حبان قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر)
([4]) رواه مسلم.
([5]) الباعث على الخلاص في أحوال الخواص، ص 1.
([6]) منازل السائرين، ص 11 (بتصرف).
([7]) الفتوحات المكية، ج 2 ص 128.
([8]) الباعث على الخلاص في أحوال الخواص، ص 1.
([9]) معالم الطريق إلى الله، ص 309.
([10]) معالم الطريق إلى الله، ص 1.
([11]) منازل السائرين، ص 11، 13.
([12]) أربع رسائل في التصوف لأبي القاسم القشيري، ص 64.
([13]) معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ص 13.
([14]) طبقات الصوفية، ص 351.
0
([15]) غنية الطالبين في إيضاح طريق المشايخ العارفين، ص 35.
([16]) الرسالة القشيرية، ص 158.
([17]) الرسالة القشيرية، ص 56، 57
([18]) إحياء علوم الدين، ج 4ص 336.
([19]) الرسالة القشيرية، ص 156، 157.
([20]) رواه مسلم.
([21]) رواه مسلم.
([22]) رواه الترمذي (2325)، وأحمد (18031)
([23]) محاسن المجالس، ص 76، 77.
([24]) بحار الأنوار (1/ 226)
([25]) الكلام الوارد هنا منقول بتصرف من [رسالة آداب سلوك المريد] للشيخ الحبيـب عبد الله بن علوي الحداد الحضرمي الشافعي.
([26]) هذه كلمات متفرقة من علامات المريد الصادق.