الورع الصادق

الورع الصادق

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الورع وحقيقته ومنزلته ودرجاته، والفرق بينه وبين ما يطلق عليه الورع الكاذب، أو الورع البارد.

 وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الشيطان والأهواء مثلما تدخل في الصلاة، فتوسوس لأصحابها، وتشغلهم عنها؛ فكذلك تفعل في كل المكارم والمنازل التي أمر الله تعالى عباده بها، والتي لا تتحقق تزكيتهم من دونها.

والورع من بينها.. ولذلك يُميز صادقه عن كاذبه.. وشرعيه عن بدعيه.. والحقيقي منه عن المزور والبارد والكاذب.. ولا يمكن للسالك طريق الله أن يسير إليه من دون ذلك التمييز، وإلا وقع في مصايد الشيطان، وفرط في بعض ما يفرض عليه نتيجة ما يعتبره ورعا.

ومن الأمثلة على ذلك تورع الصالحين عن الوظائف التي يمكنهم أن ينفعوا الخلق من خلالها بحجة الخوف على أنفسهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد بديل عنهم؛ فإن هؤلاء قد تورعوا في مصلحة أنفسهم، ولم يتورعوا لمصلحة الخلق، ولو أنهم تورعوا في ذلك لسارعوا إلى تلك المناصب، لا لأجل أنفسهم، وإنما لأجل حماية حقوق المستضعفين من أن يختلسها اللصوص والمجرمون.

ولهذا كان الورع الحقيقي هو ورع يوسف عليه السلام، الذي لم يكتف بقبول المناصب وإنما طالب بها، وذكر أهليته لها، قال تعالى: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 55، 56]

وهكذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والدعوة إلى الله، وكلها واجبة؛ فقد يتوقف بعضهم عن ذلك بحجة الخوف من أن يقول ما لا يفعل، فيجمع في ذلك بين الإثمين: إثم الذنب، وإثم السكوت عليه، مثلما كان يفعل المشركون الذين يجمعون بين إثمي تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن اتباعه، قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: 26]

ومما يروى في هذا أن بعض العلماء طلب من بعض تلاميذه أن يخرج إلى قرية من القرى ليعظهم، فقال الرجل: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال: (يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول؟!، ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر)

وقال بعضهم لمن دعاه إلى العزلة، والاكتفاء بالعبادة: (إنَّ الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر)

وروي أن بعضهم كان يختلف إلى بعض العلماء، وكان ذا سمت، وخشوع، وكان العالم يحترمه، فغاب عن مجلسه مدة، ثم عاد إليه، وقد نحل جسمه، وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمع قد ألصقها بها، فقال له العالم: ألست صاحبنا الذي كنت تأتينا؟ قال: بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟ فقال: قد رزقني الله سبحانه الإنابة إليه، وحبب إلى الخلوة، وأنست بالوحدة، واشتغلت بالعبادة، قال له: فما بال عينك هذه؟ قال: نظرت إلى الدنيا فإذا هي دار فتنة، وبلاء قد ذمها الله تعالى إلينا، وعابها، وذم ما فيها، فلم يمكني تغميض عيني كلتيهما عنها، ورأيتني، وأنا أبصر بإحداهما نحوا مما أبصر بهما جميعا، فغمضت واحدة، وتركت الأخرى، فقال له العالم: ومنذ كم هذه الشمعة على عينك ؟قال: منذ شهرين، أو نحوهما !فقال له: (يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين، وطهارة شهرين.. انظروا إلى هذا البائس قد خدعه ا لشيطان، فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه، ويتعهده ويلقنه العلم) ([1])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الورع الصادق هو الورع الذي ينطلق من الشريعة، لا من الهوى، فيجعل صاحبه مؤتمرا في كل حياته بأوامر الله، منزجرا عن زواجره، لا يراه إلا حيث أمر، ولا يفقده إلا حيث نهى.

وقد عرف بعضهم المتورع بقوله: (المتورع: من يتورع في الطعام والشراب واللباس والمنطق والنظر والخواطر والأفعال الظاهرة والباطنة، حتى لا تكون حركته في الظاهر إلا لله، ولا يقصد في الباطن إلا الله، ويتورع عما سوى الله)([2])

 وقال آخر: (المتورع تورعاً كاملاً: هو الذي يتورع بقلبه ولسانه وسمعه وبصره وسائر أعضائه عن المباح المختص بكل عضو إلا في قدر الضرورة فحسب)([3])

ولهذا عرف بعضهم الورع، فقال: (الورع: هو ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك، وترك الفضلات)([4])

وقال آخر: (الورع: المجانبة لكل ما كره الله تعالى من مقال، أو فعل، بقلب أو جارحة والحذر من تضييع ما فرض الله تعالى عليه في قلب أو جارحة)([5])

وقال آخر: (الورع: هو الوقوف على حد العلم من غير تأويل ولا قياس)([6])

وقال آخر: (الورع: هو ألا يتكلم العبد إلا بالحق، غضب أم رضى، ويكون اهتمامه بما يرضي الله تعالى)([7])

وقال آخر: (الورع: أن تتورع أن يتشتت قلبك عن الله طرفة عين)([8])

وقال آخر: (قيل: الورع: هو ألا يدخل في شبهة، ولا يأخذ برخصة)([9])

وقال آخر: (الورع: هو الجبن والتأخر عن الإقدام على المشكلات وعن الهجوم في الشبهات. لا يقول ولا يفعل ولا يعقد حتى تنكشف)([10])

وقال آخر: (الورع: هو لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال النفس)([11])

وقال آخر: (الورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة)([12])

وغيرها من التعريفات التي تجتمع جميعا في قول الإمام الصادق عند حديثه عن أصل الورع، حيث قال: (أصل الورع: دوام محاسبة النفس، وصدق المقاولة، وصفاء المعاملة، والخروج من كل شبهة، ورفض كل عيب وريبة، ومفارقة جميع ما لا يعنيه. وترك فتح أبواب لا يدري كيف يغلقها، ولا يجالس من يشكل عليه الواضح، ولا يصاحب مستخف الدين، ولا يعارض من العلم ما لا يتحمل قلبه، ولا يتفهمه من قائله، ويقطع عمن يقطعه عن الله تعالى)([13])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الورع من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة؛ فلا يمكن أن تتحقق لها الطمأنينة من دون أن تتصف به.. وهو كذلك من المناهج الضرورية للنفس اللوامة، حتى تتخلص من أسر النفس الأمارة ومثالبها.

ولهذا اعتبره أئمة الهدى شرطا من شروط اتباعهم والاهتداء بهديهم، وذكروا أن كل من يزعم الاهتداء بهم، مع خلوه من الورع كاذب.

وقد روي أن بعضهم قال للإمام الصادق: ما نلقى من الناس فيك؟..فقال الإمام الصادق: (وما الذي تلقى من الناس فيّ؟)، فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول: جعفريٌّ خبيث، فقال: (يعيّركم الناس بي؟)، فقال له: نعم، قال: (فما أقلّ والله من يتبع جعفراً منكم، إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، هؤلاء أصحابي)([14])

وقال: (ليس منا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه)([15])

وقال: (إنّا لا نَعدُّ الرجل مؤمناً حتى يكون لجميع أمرنا متّبعاً ومريداً، ألا وإنّ من اتّباع أمرنا وإرادته الورع، فتزيّنوا به يرحمكم الله، وكيدوا أعداءنا به ينعشكم الله)([16])

وقال: (ليس من شيعتنا من لا يتحدّث المخدّرات بورعه في خدورهنّ، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق الله أورع منه)([17])

وكان يوصي أصحابه به كثيرا، وقد روي أن بعض أصحابه قال له: (إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني بشيء آخذ به)، فقال: (أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم أنّه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه)([18])

وقال لآخر: (عليك بتقوى الله، والورع، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق، وحسن الجوار، وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإنّ أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه فقال: (يا ويله.. أطاع وعصيتُ، وسجد وأبيتُ)([19])

وقبله قال الإمام الباقر يوصي بعض أصحابه: (أبلغ موالينا السلام عنّا، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأعلمهم أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل، ولن ينالوا ولايتنا إلاّ بورع، وإنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره)([20])

وقبلهما قال الإمام علي: (أيّها الناس.. لا خير في دين لا تفقّه فيه، ولا خير في دنيا لا تدبير فيها، ولا خير في نسك لا ورع فيه)([21])

وقبلهم جميعا قال سيد الأئمة والهداة والرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)([22])

وقال: (كن ورعاً تكن أعبدَ الناس)([23])

وقال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)([24])

وقال: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)([25])

وقال: (ثلاث مَنْ كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُقٌ يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحِلم يردُّ به جهل الجاهل)([26])

وروي أنه مر برجل يبيع طعاماً فأعجبه، فأدخل يده فيه، فرأى بللاً، فقال: ما هذا؟ قال: أصابته السماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس)، ثم قال له تلك الكلمة التي رددها جميع أئمة الهدى: (من غشنا فليس منا)([27])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما بايع بعض الصحابة على الإسلام ذهب لينصرف، فجذب ثوبه، واشترط عليه النصح لكل مسلم، وقد أخبر ذلك الصحابي عن تأثير هذه الوصية في نفسه، فذكر أنه كان إذا قام إلى السلعة يبيعها بصر عيوبها للمشتري، ثم خيره وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم)([28])

وروي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان واقفاً فباع رجل ناقةً له بثلثمائة درهم، فغفل الصحابي، وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقباً قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال للصحابي: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال له: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصح لكل مسلم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يحل لأحد يبيع بيعاً إلا أن يبين آفته، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا تبيينه)([29])

وهكذا مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الورع في حياته أحسن تمثيل، وقد روي أنه وجد تمرة في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)([30])

وقال: (إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)([31])

وروي أنه أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة، فقال: (إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه)([32])

وروي أن الحسن بن علي في صغره الباكر أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كخْ كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة، أو أنَّا لا تحل لنا الصدقة)([33])

وروي أن امرأة بعثت إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فرد إليها الرسول: (أنى لك هذا اللبن؟) قالت: من شاة لي؛ فرد إليها رسولها: (أنى لك هذا الشاة؟) قالت: اشتريتها من مالي؛ فشرب، فلما كان من غد، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله: بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر، فرددت فيه إلي الرسول! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بذلك أمرت الرسل قبلي، أن لا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا)([34])

هذه هي سنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وهي سنة أئمة الهدى من بعده؛ فاحذر من أولئك الذين يبحثون لك عن الرخص، أو يستهينون بمثل هذا، ويسخرون منه.. فالدين لا يمثله إلا من تمثلت فيه الهداية، وكان وارثا للنبوة، ولم يدخل معها أهواءه وأمزجته.

ولهذا كان بعض الصالحين يقول: (كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام)، وقال آخر: (إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حتى يكون حجابا بينه وبين النار) ([35])

أما سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ عن درجات الورع؛ فأحسب أنك من خلال رسائلي السابقة صرت عارفا بكيفية تقسيم الحكماء لهذه المنازل.

لكني مع ذلك سأذكر لك بعض ما ذكروا، فقد قال بعضهم: (الورع على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: لصون النفس، وتوفير الحسنات، وصيانة إلايمان.. والدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به إبقاءً على الصيانة والتقوى، وصعوداً على الدناءة، وتخلصاً عن اقتحام الحدود.. والدرجة الثالثة: التورع عن كل داعيةٍ تدعو إلى شتات الوقت، والتعلق بالتفرق، وعارضٍ يعارض حال الجمع)([36])

وقال آخر: (أهل الورع على ثلاث طبقات: فمنهم: من تورع عن الشبهات التي اشتبهت عليه، وهي ما بين الحرام البين والحلال البين، وما لا يقع عليه اسم حلال مطلق، ولا اسم حرام مطلق، فيكون بين ذلك فيتورع عنهما.. ومنهم: من يتورع عما يقف عنه قلبه، ويحيك في صدره عند تناولها، وهذا لا يعرفه إلا أرباب القلوب والمتحققون.. وأما الطبقة الثالثة في الورع: فهم العارفون والواجدون، فكل ما شغلك عن الله فهو مشئوم عليك.. فالأول: ورع العموم، والثاني ورع الخصوص، والثالث ورع خصوص الخصوص)([37])

وقال آخر: (الورع له أربع درجات: الدرجة الأولى: وهي درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه، وهذا لا يحتاج إلى أمثلة.. الدرجة الثانية: الورع عن كل شبهة لا يجب اجتنابها، ولكن يستحب.. الدرجة الثالثة: الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام.. الدرجة الرابعة: الورع عن كل ما ليس لله تعالى، وهو ورع الصديقين)([38]

وقال آخر: (الورع ورعان: ورع فرض وورع حذر.. فورع الفرض: الكف عن معاصي الله.. وورع الحذر: الكف عن الشبهات في محارم الله تعالى.. فورع العام: من الحرام والشبهة، وهو كل ما كان للخلق عليه تبعة وللشرع فيه مطالبة.. وورع الخاص: من كل ما كان فيه الهوى وللنفس فيه شهوة ولذة.. وورع خاص الخاص: من كل ما كان لهم فيه إرادة ورؤية.. فالعام يتورع في ترك الدنيا، والخاص يتورع في ترك الجنة، وخاص الخاص، يتورع في ترك ما سوى الذي برأ)([39]

وقال آخر: (الورع على خمسة أقسام: ورع عن الحرام، وورع عن المكروهات، وورع عن الشبهات، وورع عن المباحات، وورع عن الأغيار.. فأما الورع عن المحرمات: فهو سلامة الدين عن طعن الشارع فيه.. وأما الورع عن المكروهات: فهو السلامة عن الوقوف في العطب.. وأما الورع عن الشبهات: فهو استبراء العرض والدين.. وأما الورع عن المباحات: فهو فضيلة لكنه عند القوم واجب إلا على حد الضرورة.. وأما الورع عن الأغيار: فهو أن لا يختلج سره بغير الله ولا يطرق عليه سواه)([40]

وقال آخر: (الورع على ثلاثة أقسام هي: ورع العام: أن لا يتكلم إلا بالله ساخطاً أو راضياً.. والورع الخاص: وهو أن يحفظ كل جارحة عن سخط الله.. وورع الأخص: وهو أن يكون شغله برضاء الله به)([41]

وقال آخر: (الورع على مرتبتين: ورع في الظاهر: وهو أن لا يتحرك إلا بالله.. وورع في الباطن: وهو أن لا يدخل قلبك سوى الله تعالى)([42]

وقال آخر: (الورع على ثلاثة مقامات: ورع في الطعام، وورع في اللسان، وورع في القلب)([43])

وذكر بعضهم الدرجة العليا في الورع، فقال: (أهل الورع: هم الذين انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله، وعن الله، والقول بالله، والعمل لله، وبالله، على البينة الواضحة، والبصيرة الفائقة. فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم: لا يدبرون، ولا يختارون، ولا يريدون، ولا يتفكرون، ولا ينظرون، ولا ينطقون، ولا يبطشون، ولا يمشون، ولا يتحركون، إلا بالله، ولله، من حيث يعلمون. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فهم مجموعون في عين الجمع، لا يتفرقون فيما هو أعلى، ولا فيما هو أدنى، وأما أدنى الأدنى، فالله يورعهم عنه، ثواباً لورعهم، مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم) ([44])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تنزل نفسك في هذا المنزل الرفيع، حتى لا يراك الله إلا حيث أمرك، ولا يفقدك إلا حيث نهاك، واسع لأن تعمر قلبك به؛ فلا يكون فيه من الأغيار ما يحول بينه وبين التواصل مع ربه.. فالله خير وأبقى.


([1]) كتاب العزلة ص91

([2]) منار السائرين ومطار الطائرين، ص 132.

([3]) جامع الأصول في الأولياء، ج 2 ص 375، 376.

([4]) كوكب الشاهق الكاشف للسالك، ص 121.

([5]) أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي، ص 185.

([6]) مذكرة المرشدين والمسترشدين، ص 38.

([7]) أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ص 285.

0

([8]) عوارف المعارف (ملحق بكتاب احياء علوم الدين – ج 5) ص 232.

([9]) علم القلوب، ص 27.

([10]) علم القلوب، ص 78.

([11]) طهارة الأنفس في علم تهذيب الأخلاق، ص 13.

([12]) الرسالة القشيرية، ص 91.

([13]) مصباح الشريعة ص 23.

([14])الكافي 2/77.

([15])الكافي 2/78.

([16])الكافي 2/78.

([17])الكافي 2/79.

([18])الكافي 2/76.

([19])الكافي 2/77.

([20])مشكاة الأنوار ص46.

([21])المحاسن ص5.

([22]) رواه البخاري ومسلم، وهو في بحار الأنوار: 67/306، وأمالي الطوسي 1/390.

([23]) رواه ابن ماجة بإسناد حسن.

([24]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

([25]) رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.

([26]) رواه البزار.

([27]) رواه مسلم.

([28]) رواه البخاري ومسلم.

([29]) رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد.

([30]) رواه البخاري ومسلم.

([31]) رواه البخاري ومسلم.

([32]) رواه أحمد وابن سعد.

([33]) رواه البخاري ومسلم.

([34]) رواه ابن أبي الدنيا في (الورع) والطبراني في الكبير والحاكم وأبو نعيم في الحلية.

([35]) إحياء علوم الدين (2/ 95)

([36]) منازل السائرين، ص 31، 32.

([37]) اللُّمَع في التصوف، ص 44، 46.

0

([38]) مختصر منهاج القاصدين، ص 114، 1150

([39]) الغنية لطالبي طريق الحق، ج 1 ص 211.

([40]) تحفة السالكين ودلالة السائرين لمنهج المقربين، ص 49.

([41]) جامع الأصول في الأولياء، ج 1 ص 199.

([42]) حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب (هامش قوت القلوب ج 2) ص 115.

([43]) نهج الخواص إلى جناب الخاص، ص 72.

([44]) أبو الحسن الشاذلي الصوفي المجاهد والعارف بالله، ص 131 (بتصرف)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *