الهمة العالية

الهمة العالية

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الهمة العالية وعلاقتها بالإرادة والعزيمة، والصدق والإخلاص، وعلاقتها بعد ذلك كله بالنفس اللوامة والمطمئنة.. وكيفية التحقق بها.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الهمة العالية من مراتب كمال النفس المطمئنة، وليست من الضرورات اللازمة لها إلا في حدها الأدنى..

ذلك أن النفس المطمئنة يختلف أصحابها ـ كما تذكر النصوص المقدسة ـ بين الصالحين من أصحاب اليمين من الذين اكتفوا بتزكية أنفسهم وتطهيرها لتتحقق لهم النجاة من النار، والفوز بالجنة ورضوان الله.. وبين المقربين الذين أضافوا إلى ذلك الاهتمام بالرقي للتعرف على الله، والتواصل الدائم معه، وجعلوا ذلك همهم الأكبر، وغايتهم القصوى، فلذلك لم يكتفوا بالطمع في فضل الله، وإنما راحوا يسيرون إليه ويجاهدون أنفسهم لتصبح أهلا لذلك.

والفرق بينهما ـ أيها المريد الصادق ـ واضح؛ فالذي يتقرب من ملك من ملوك الدنيا ليحقق بعض المكاسب البسيطة لنفسه، يختلف عن الذي لا يكتفي بذلك، وإنما يريد أن يقربه الملك منه.. فالتقريب يحتاج همة أعظم، ومجاهدة أكبر.

ولهذا؛ فإن الهمة العالية هي التي تحدد وجهة الإرادة ونهايتها.. ذلك أن الإرادة هي تلك الدوافع المحركة للعمل، وهي تختلف باختلاف درجات أصحابها وهممهم.

وهي كذلك التي تحدد درجة الصدق.. وتفرق بين الصادق والصديق.. فالصادق هو الذي يكتفي بالصدق في حدوده الدنيا.. والصديق هو الذي لا يكتفي بذلك.. بل يظل متلهفا للتحقق التام بحقيقته، كما هي في الواقع.. وذلك ما يقتضي منه السير الدائم الذي لا توقف فيه ولا كسل ولا ملل.

وهي كذلك التي تحدد درجة الإخلاص.. فالمخلص قد يطمع في فضل الله، وقد يكون ذلك الفضل هو المحرك له إلى العمل والمجاهدة، بينما صاحب الهمة العالية، لا يحركه إلا الله نفسه.. رغبة في التعرف عليه والتواصل معه.

وبذلك؛ فإن الهمة العالية ـ أيها المريد الصادق ـ هي التي تفرق بين أصحاب الدرجات العليا ومن دونهم من الذين يكتفون بالحدود الدنيا من أي محل أو منزل أو مقام أو حال يكونون عليه.

ولهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بألا يصبر صبرا عاديا، وإنما يصبر صبر أولي العزم من الرسل، فقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، وفي ذلك إشارة إلى أن الصبر يختلف باختلاف همم أصحابه.

ومثل ذلك أخبر عن إبراهيم عليه السلام، وأثنى عليه ثناء كثيرا، بل اعتبر أنه كان أمة قائمة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النحل: 120 – 122]

وكل ذلك لهمته العالية، والتي عبر عنها القرآن الكريم عند ذكره لتأملاته في الكون، عندما رغب عن الآفلين، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 75 – 79]

وقد ذكر بعض الحكماء المعنى الذي تشير إليه هذه الآيات، وارتباطه بهمة إبراهيم عليه السلام، ودور الهمة في ذلك، فقال: (وليس المعنى بالكواكب التي رآها هذه الأجسام المضيئة، فإنه كان يراها في الصغر، ويعلم أنها ليست آلهة، وهي كثيرة وليست واحدا.. والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله. فمثل إبراهيم عليه السّلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية.. ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب اللّه عز وجل، وهي على طريق السالكين، ولا يتصور الوصول إلى اللّه تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب، وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض، وأصغر النيرات الكوكب، فاستعير له لفظه، وأعظمها الشمس، وبينهما رتبة القمر. فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات يصل إلى نور بعد نور، ويتخيل إليه في أوّل ما كان يلقاه أنه قد وصل، ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا، فيترقى إليه ويقول قد وصلت، فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده، فقال هذا أكبر.. فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص، والانحطاط عن ذروة الكمال قال: ﴿ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 78، 79]، وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب، وقد يغتر بالحجاب الأول. وأول الحجب بين اللّه وبين العبد هو نفسه. فإنه أيضا أمر ربانى، وهو نور من أنوار اللّه تعالى، أعنى سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله، حتى أنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به، وتنجلي فيه صورة الكل. وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه، وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له، فإذا تجلى نوره، وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور اللّه عليه، وربما التفت صاحب القلب إلى القلب، فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول: أنا الحق. فإن لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به، ووقف عليه وهلك، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية، ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس. فهو مغرور) ([1])

وهكذا؛ فإن السالكين طريق الله، وإن اتفقوا في الوجهة إلا أنهم يختلفون في المحال التي ينزلون فيها، فبينما يكتفي بعضهم بالمحال الدنيا، يرتقي آخرون إلى ما فوقها.. إلى ما لا نهاية لذلك.

وليس ذلك خاصا بالمعارف أو بالقيم الروحية فقط، بل يشمل كل شيء ابتداء من القيم الأخلاقية والسلوكية؛ ففرق كبير بين من يكتفي بكظم الغيض عندما يؤذى، وبين من يتفضل على من آذاه بالأحسان، كما قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134]

وفرق كبير بين من يكتفي بالصفح، ومن يصفح الصفح الجميل، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]

وفرق كبير بين من يكتفي بالصبر، ومن يصبر الصبر الجميل، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]

وهكذا؛ فإن لكل قيمة من القيم الأخلاقية مراتب كثيرة، وصاحب الهمة العالية هو الذي لا يكتفي بالحد الأدنى.. وإنما تدعوه همته إلى المزيد الذي لا نهاية له.

وهكذا في القيم الروحية؛ فصاحب الهمة العالية لا يكتفي بالفرائض، وإنما يضم إليها النوافل.. ولا يكتفي بالذكر القليل، بل يسارع إلى الذكر الكثير.. ويكون حاله كحال أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 15 – 17]

ولهذا لا يكتفي باتباع عامة الناس البسطاء، وإنما يكون قدوته الرسل وورثتهم من الذين اكتملت لهم الهداية، وكمل عندهم الصدق، كما قال تعالى ـ بعد ذكره للأنبياء عليهم السلام ـ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]

وهكذا في وظائفه الرسالية، لا يقف موقف المحايدين الساكنين الخاضعين الذين يتملصون من مسؤولياتهم اتباعا للرخص، وإنما يضحي بكل شيء في سبيل رسالته اتباعا للأنبياء عليهم السلام وورثتهم الصادقين.

ولهذا لم ينصر الله تعالى رسله عليهم السلام بالمعجزات التي تقطع دابر المعتدين، وإنما نصرهم بجهودهم الشخصية، وبتلك الهمم العالية التي لا تبالي في سبيل الله ما يصيبها من ضيق وضنك وألم حتى يصبحوا حججا لأممهم في ذلك.

ولهذا قال الله تعالى على ألسنة رسله مخاطبين أقوامهم:﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ ‏‏(إبراهيم:12)

أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. قدوتنا الأكبر، وأسوتنا الأعظم، فأنت تعلم ـ أيها المريد الصادق ـ ما حصل له.. لقد أُخرج من داره من مكة، ورُجم ‏بالحجارة في الطائف حتى سال دمه، وهاجر إلى المدينة فارًا بدعوته، وجاهد حتى ‏كسرت رباعيته، وشج وجهه، وكان يؤذى في صلاته، وهو بمكة قبل الهجرة، ‏ويوضع السلى على ظهره أثناء ركوعه وسجوده، وما زاده ذلك إلا إصرارًا وعزمًا ‏وثباتًا وصبرًا.

لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المواقف الشديدة آيات كثيرة لا تدعوه إلا إلى الثبات والصبر.. فبهما وحدهما يتحقق التمكين..

وفي بعض تلك المواقف الشديدة جاءه خباب بن الأرت فقال: ألا ‏تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في ‏الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط ‏بأمشاط من حديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)([2])

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم بذلك إلى رفع هممهم والاقتداء بالصادقين من أتباع الأنبياء عليهم السلام، باعتبارهم المثل الأعلى.

ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الفرق بين طاقات التحمل، والتي تحددها أنواع الهمم، فقال: (إن ‏عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله ‏الرضا، ومن سخط فله السخط)([3])

وأخبر الله تعالى عن الفرق بين المؤمنين من أصحاب الهمم العالية ومن دونهم، فقال: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ‏يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23)

وهكذا أخبر عن الفروق بين المؤمنين بسبب أعمالهم ومواقفهم التابعة لهممهم، ومن ذلك قوله: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ﴾ [الحديد: 10]

وقال:﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 95، 96]

وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تدعو المؤمنين إلى الاهتمام بالترقي بهممهم إلى أرفع المراتب، وعدم اتباع الرخص التي تنزل بهم عنها.

ولهذا يقسم الله تعالى المؤمنين بحسب مراتبهم وهممهم إلى مقربين وأصحاب اليمين.. ويذكر فضل نعيم المقربين على نعيم غيرهم مع كونهم جميعا في الجنة، حتى يحث النفوس على الترقي، وعدم الاكتفاء بالدون، قال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)﴾ [الواقعة: 1 – 11]

وهكذا ورد في سورة الرحمن، قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: 46 – 61]، ويدل على هذا أن الله تعالى قال بعد ذكره لهذا النعيم: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 62]، أي تحتهما في الفضل، وهذا يدل على أن الجنة الأولى هي جنة المقربين.

وقد ورد في الحديث أن موسى عليه السلام سأل ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة أجابه، لكن عندما سأله عن أعلاهم منزلة قال: (أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) ([4])

وفي الحديث القدسي قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال اللّه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ([5])

ولهذا عندما ذكر الله هؤلاء المقربين العارفين بربهم الساجدين بكل كيانهم له، فقال ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 15، 16] ذكر بعدها ما أعد لهم من النعيم، فقال: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]

وقد عبر الحكماء عن الكثير من هذه المعاني، وأسراها، فقال بعضهم: (الهم لا يكون له من القلب جهة مخصوصة، بل قد يكون تارة إلى فوق، وتارة إلى تحت، وعن اليمين، وعن الشمال على قدر صاحب ذلك القلب.. فإن في الناس من يكون همه أبداً إلى فوق، أي: لتلقي التجليات والواردات كالعارفين.. ومنهم: من يكون همه من تحت أبداً، كأهل الدنيا فيكون لهمها وجلبها وجمعها.. ومنهم: من يكون همه أبداً إلى الشمال، وأكثر البطالين لا يكون لهم إلا أنفسهم.. وأما المحققون فما لهم هم، بل يقابلون بالكلية والأسماء والصفات، فلا يختص وقتهم باسم ولا بغيره، لأنهم ذاتيون؛ فهم مع الحق بالذات لا بالأسماء والصفات)([6]

وقال آخر يذكر درجات الهمة: (أدناها: أن لا يكون لك بغير الله حاجة.. وأوسطها: أن تترك حوائجك وتدبيرك ومصلحتك إليه.. وأعلاها: أن لا تلتفت منه إلى ما سواه)([7]

وقال آخر: (الهمة على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: همة تصون القلب من خسة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني.. والدرجة الثانية: همة تورث أنفةً من المبالاة بالعلل، والنـزول على العمل، والثقة بالأمل.. والدرجة الثالثة: همة تصاعد عن الأحوال والمقامات، وتُزري بالأعواض والدرجات، وتنحو عن النعوت نحو الذات)([8])

وقال آخر في بيان حقيقتها: (الهم: هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر)([9])

وقال آخر: (الهم: هو اسم لتوجه القلب إلى أي محل كان، إما قاص وأما دان)([10])

وقال آخر: (الهم: ثاني الحركات النفسية الخمسة التي تتقدم الفعل، وهي: الخاطر، ويقال: نقر الخاطر. ويقال: الهاجس. ويقال السيد الأول. ثم الهم، ثم العزم، ثم القصد، ثم النية تقارن الفعل الظاهر.والهم يعطي الحيرة في الأمر الفعل والترك، ولا يكون إلا في المعاني لا يكون في الأعيان)([11])

وقال آخر: (الهمة: هي تنـزيه القصد عما له ضد أو ند.. وهي سمو الأفكار إلى علو الأقدار.. وهي ترقي الأسرار عن مساكنة الأغيار.. وهي شرف الطلب، والأنفة من كل أرب.. وهي الإسراع إلى المعالي والنزاع إلى شرف المعاني)([12])

وقال آخر: (الهمة: هي ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً، لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها)([13])

وقال آخر: (الهمة: هي ما يبعثك من نفسك على طلب المعاني، وقيمة كل امرئ على قدر همته)([14])

وقال آخر: (الهمة: حالة الرجل مع الله، يتفاوت علو مرتبة الإيمان بعلو الهمة، من أيقن أن الله الفعال المطلق صرف همته عن غيره. من علت في الله همته صحت إلى الله عزيمته، وانفصلت عن غير الله هجرته)([15])

وقال آخر: (الهمة: هي نور في القلب متوجه إلى العالم الأعلى)([16]

وقال آخر: (الهمة: هي القدرة والإرادة والطلب للشيء بكليتك)([17])

وقال آخر: (الهمة: حالة للقلب، وهي إرادة وغلبة انبعاث إلى نيل مقصود ما، وتكون عالية إن تعلقت بمعالي الأمور، وسافلة إن تعلقت بأدانيها)([18]

وقال آخر: (الهمة: هي توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق، لحصول الكمال له أو لغيره)([19]

وقال آخر: (الهمة: قوة انبعاث في النفس إلى مقصود ما تعلو بعلوه، وتسفل باستفاله)([20])    

وقال آخر: (الهمة: قوة انبعاث القلب في طلب الشيء والاهتمام به، فإن كان ذلك الأمر رفيعاً كمعرفة الله وطلب رضاه سميت: همة عالية، وإن كان أمراً خسيساً كطلب الدنيا وحظوظها سميت: همة دنية)([21])

وقال آخر: (الهمة.. اصطلاحاً هي الباعث الطلبي المنبعث من النفوس والأرواح لمطالب كمالية ومقاصد غائية)([22])

وقال آخر: (الهمة: وهي التوجه إلى الحق بالكلية، مع الأنفة من المبالاة بحظوظ النفس من الأغراض والأعواض وبالأسباب والوسائط، كالعمل والأمل والوثوق به)([23])

وغيرها من التعريفات التي تبين حقيقتها، ودرجاتها وغايتها وارتباطها بكل نواحي السلوك إلى الله تعالى.

فاسع ـ أيها المريد الصادق ـ لأن تكون من أصحاب الهمم العالية، وما تتطلبه من مجاهدات ورياضات؛ فالهمة ليست كلمات تردد، ولا شعارات ترفع، ولا قصائد تنشد، وإنما هي عمل ومجاهدة بكل شيء، وفي كل مجال. ….


([1]) إحياء علوم الدين، 11/127.

([2]) رواه البخاري.

([3]) رواه الترمذي وحسنه.

([4]) رواه مسلم (1/ 120 و121)

([5]) رواه البخاري، 1/ 32، ومسلم، 3/ 1.

([6]) جامع الأصول في الأولياء، ج 2 ص 290، 291.

([7])معالي الهمم في التصوف، ص 43.

([8])منازل السائرين، ص 86، 87.

([9]) الشريف الجرجاني، التعريفات، ص 278.

([10])الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، ج 2 ص 23.

([11])المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ج 2 ص 819.

([12])أربع رسائل في التصوف لأبي القاسم القشيري، ص 69.

([13])منازل السائرين، ص 86.

([14])آداب المريدين، ص12.

([15])الحكم الرفاعية، ص 12.

([16])شرح الأنفاس الروحية، ص 49.

([17])كوكب الشاهق الكاشف للسالك، ص 89.

([18])غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 55.

([19]) الشريف الجرجاني، التعريفات، ص 278.

([20]) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 14.

0

([21]) أحمد بن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 1 ص 15.

([22])المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ج 3 ص 1226.

([23])جامع الأصول في الأولياء، ص 249 (بتصرف).

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *