العفة والنزاهة

العفة والنزاهة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن العفة وحقيقتها ومجالاتها وعلاماتها، وعلاقتها بالنفس المطمئنة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن العفة من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة؛ فلا يمكن للنفس المملوءة بالقذارات والموبقات أن تصل إلى الطمأنينة، وكيف تصل إليها، وهي تمارس أهواءها وشهواتها ونزواتها من خلال زرع الآلام والصراع؟

ولهذا ترد العفة بمفهومها الشامل في كل صفات المؤمنين والمفلحين والمخبتين في القرآن الكريم.. وهي تعني كونها ركنا ليس في طمأنينة النفس فقط، وإنما هي ركن في أدنى مبادئ الإسلام.. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبايع على العفة من دخل إلى الإسلام جديدا، ليبين له أنه لا يكفي التلفظ بالشهادتين ما لم تتحقق فيه العفة.

قال تعالى يشير إلى ذلك: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 12]

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبايع بنفس البيعة الرجال أيضا، فقد روي في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ألا تبايعون رسول الله؟)، وكنّا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمّ قال: (ألا تبايعون رسول الله؟) فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمّ قال: (أ لا تبايعون رسول الله؟)، فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصّلوات الخمس. وتطيعوا،و أسرّ كلمة خفيّة، ولا تسألوا النّاس شيئا، فلقد رأيت بعض أولئك النّفر يسقط سوط أحدهم. فما يسأل أحدا يناوله إيّاه)([1])

وهذه المعاني هي التي تحدد مفهوم العفة، والذي لا يقتصر على العفة عن الشهوات، وإنما يشمل العفة عن كل ما لا يتناسب مع الفطرة السليمة، وقد قال بعض الحكماء في ذكر بعض موارد العفة ومجالاتها: (العفّة والنّزاهة والصّيانة من شروط المروءة، والعفّة نوعان: أحدهما العفّة عن المحارم، والثّاني العفّة عن المأثم، فأمّا العفّة عن المحارم، فنوعان: أحدهما ضبط الفرج عن الحرام، والثّاني كفّ اللّسان عن الأعراض، فأمّا ضبط الفرج عن الحرام فلأنّ عدمه مع وعيد الشّرع وزاجر العقل معرّة فاضحة، وهتكة واضحة، وأمّا كفّ اللّسان عن الأعراض؛ فلأنّ عدمه ملاذّ السّفهاء وانتقام أهل الغوغاء، وهو مستسهل الكفّ، وإذا لم يقهر نفسه عنه برادع كافّ، وزاجر صادّ، تلبّط بمعّارّه، وتخبّط بمضارّه، وأمّا العفّة عن الماثم فنوعان أيضا: أحدهما: الكفّ عن المجاهرة بالظّلم، والثّاني: زجر النّفس عن الإسرار بخيانة)‏([2])

وقال آخر: (لا يكون الإنسان تامّ العفّة حتّى يكون عفيف اليد واللّسان والسّمع والبصر فمن عدمها في اللّسان السّخرية، والتّجسّس والغيبة والهمز والنّميمة والتّنابز بالألقاب، ومن عدمها في البصر: مدّ العين إلى المحارم وزينة الحياة الدّنيا المولّدة للشّهوات الرّديئة، ومن عدمها في السّمع: الإصغاء إلى المسموعات القبيحة.. وعماد عفّة الجوارح كلّها أن لا يطلقها صاحبها في شي‏ء ممّا يختصّ بكلّ واحد منها إلّا فيما يسوّغه العقل والشّرع دون الشّهوة والهوى)‏([3])

ولهذا، فإن لكل لطيفة من لطائف الإنسان، أو جارحة من جوارحه عفتها الخاصة بها، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الحياء، والذي هو المنبع الذي تصدر منه العفة: (الاستحياء من الله حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء)([4])

وقد ذكر بعض الحكماء سر ضرورة العفة في الكمال الإنساني، فقال: (الكمال عزيز والكامل قليل الوجود، وأوّل أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن، فصورة البدن تسمّى خَلقا، وصورة الباطن تسمّى خُلقا، ودليل كمال صورة البدن حسن السّمت واستعمال الأدب، ودليل كمال صورة الباطن حسن الطّبائع والأخلاق.. فالطّبائع: العفّة، والنّزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشّره.. والأخلاق: الكرم والإيثار وستر العيوب وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل.. فمن رزق هذه الأشياء رقّته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلّة أوجبت النّقص)‏([5])

وقال آخر: (الكمال في ثلاثة: العفّة في الدّين، والصّبر على النّوائب، وحسن التّدبير في المعيشة)([6])

وقال آخر: (كان أهل الجاهليّة لا يسوّدون إلّا من كانت فيه ستّ خصال وتمامها في الإسلام سابعة: السّخاء، والنّجدة، والصّبر، والحلم، والبيان، والحسب، وفي الإسلام زيادة العفاف)([7])

وقال آخر: (العالم إذا كان عليما ولم يكن عفيفا كان ضرره أشدّ من ضرر الجاهل)([8])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن من أهم موارد العفة ومجالاتها التي ورد الحض عليها في النصوص المقدسة: العفة المرتبطة بالأعراض، والعفة المرتبطة بالأموال.. وكلاهما ركنان أساسيان لا تستقيم الحياة إلا بهما.

عفة الأعراض:

أما أولهما، وهو العفة عن الأعراض؛ فهو من الأخلاق التي ترفع الإنسان عن عالم البهائم والحيوانات، وتجعله إنسانا مكرما نزيها ممتلئا بالنظافة، ولهذا ورد النهي الشديد عن كل ما يتسبب في الإخلال بهذه العفة، سواء من جانب ممارسة الرذيلة، أو من ناحية إشاعتها ونشرها، والحديث عنها، والدعوة إليها.

بل إن القرآن الكريم خص العفاف بمنظومة كاملة من الأحكام والقيم التي تضمن ممارستها لا للفرد وحده، وإنما للمجتمع جميعا، ومن ذلك ما ورد من الأحكام في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 30، 31]

ففي هاتين الآيتين منظومة كاملة للعفاف، فهي لا تأمر فقط بغض البصر، والذي قد يطيقه فرد من الناس، وتعجز عنه أمة منهم، ولكنه يوفر الجو المناسب للعفاف والبراءة والطهر.

ومن ذلك أمر النساء بألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الأحزاب:59)

ومن ذلك النهي عن الفواحش، وكل ما يؤدي إليها، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم لا يقعون في مثل هذه الفواحش، فقال:﴿ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ (الفرقان:68)

ولم يكتف الإسلام بتحريم الزنا، بل حرم كل ما يقرب منه، أو يؤدي إليه، قال تعالى:﴿ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ (الأنعام:151)، وقال::﴿ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾ (الاسراء:32)

ولم يكتف الإسلام بهذا.. بل وضع معه الكثير من التشريعات الرادعة التي تملأ النفس نفورا من هذا النوع من المعاصي.. ومن هذه العقوبات ما نص عليه قوله تعالى:﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (النور:2)

ولينمي القرآن الكريم هذه القيمة الرفيعة في النفس يذكر قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، وكيف تحقق بالعفة في أجمل صورها، بل إنه آثر السجن على أن يستسلم لما تقتضيه تلك النزوات الخسيسة، قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23]

وقال مخبرا عن دعائه الرقيق الذي آثر به ذل السجن على ما وفر له في قصر العزيز من متاع: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]

أما السنة المطهرة، فهي مليئة بالنصوص المحذرة من الفواحش، والتي تعتبر العفة ركنا من أركان القيم الإسلامية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:: (إذا زنى الرجل أخرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)([9]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم الزنا فإذا فشا فيهم الزنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب)([10]

وقال: (برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم وعفّوا تعفّ نساؤكم)([11]).

وقال: (ثلاثة حقّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الّذي يريد الأداء، والنّاكح الّذي يريد العفاف)([12])

وقال: (ثلاثة لا ترى أعينهم النّار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفّت عن محارم الله)([13])

وقال: (ثلاث أخافهنّ بعدي على أمتي: (الضلالة بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج)([14])

وقال: (إنّ الله يحبّ الحييّ المتعفّف، ويبغض السائل الملحف)([15])

وقال: (أولّ مَن يدخل الجنّة شهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربّه ونصح لسيّده، ورجل عفيف متعفّف ذو عبادة)([16])

وروي أن أعرابيا أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: (أوصني يا رسول الله، فقال: (نعم، أوصيك بحفظ ما بين رجليك)([17])

وهكذا دعا أئمة الهدى إلى هذا النوع من العفاف، وحذروا من الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، وقد روي أن رجلا قال للإمام الباقر: إني ضعيف العمل قليل الصيام، ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالا، فقال له: (وأي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج)([18])

وروي أنه قال لبعض أصحابه: (كلكم في الجنة معنا، إلا أنه ما أقبح بالرجل منكم أن يدخل الجنة قد هُتك وبدت عورته)، فقال له صاحبه: (جعلت فداك..وإنّ ذلك لكائن؟).. قال: (نعم، إن لم يحفظ فرجه وبطنه)([19])

وقال الإمام الصادق: (برُّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم، وعفّو عن نساء الناس تعفّ نساؤكم)([20])

عفة الأموال:

أما العفة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي العفة عن الأموال الحرام، وأولها رضى العفيف بالفاقة والفقر والحاجة عن أن يمد يده إلى الناس يستجديهم، ويذل نفسه بذلك.

وهو ما وصف الله تعالى به الفقراء الصالحين، حين قال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273]

ودعا إليها الأغنياء الذين قد تمتد مطامعهم إلا من يتكفلون به من اليتامى، فيأكلون من أموالهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 6]

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من كل ما يمس بهذا النوع من العفة، لتأثيره الخطير، لا على المجتمع فقط بمزاحمة الأغنياء للفقراء، وإنما على النفس أيضا، ذلك أن لأمثال تلك السلوكات آثارها في جميع الصفات.. فالنفس كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..

وهكذا السؤال والشحاذة يجعلان النفس أمة للأموال وأصحابها، ذليلة بين أيديهم، ومستعدة لأن تترفع عن كل مكارمها في سبيل إرضائهم.

ومن تلك الأحاديث ما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: سرّحتني أمّي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيته وقعدت فاستقبلني، وقال: (من استغنى أغناه الله عزّ وجلّ، ومن استعفّ أعفّه الله عزّ وجلّ، ومن استكفى كفاه الله عزّ وجلّ ومن سأل وله قيمة أوقيّة، فقد ألحف)، وبعد أن سمع الصحابي هذا، قال في نفسه: (ناقتي الياقوتة خير من أوقيّة فرجعت ولم أسأله)([21])

وروي أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتّى إذا نفد ما عنده، قال: (ما يكن عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبّره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصّبر)([22])

وروي أن بعض الطلقاء قال: سألت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ قال: (إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه وكان كالّذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السّفلى)([23])

وروي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تحمّلت حمالة([24]) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسأله فيها. فقال: (أقم حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها)، ثمّ قال: (إنّ المسألة لا تحلّ إلّا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتّى يصيبها ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتّى يصيب قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة حتّى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلّت له المسألة حتّى يصيب قواما من عيش (أو قال سدادا من عيش) فما سواهنّ من المسألة، سحتا يأكلها صاحبها سحتا)([25])

وقال آخر: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقالت لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسله لنا شيئا نأكله، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك؛ فولّى الرّجل عنه، وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنّك لتعطي من شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّه ليغضب على أن لا أجد ما أعطيه، من سأل منكم وله أوقيّة أو عدلها فقد سأل إلحافا)، قال الرجل: فقلت: للقحة لنا خير من أوقيّة، فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك شعير وزبيب، فقسم لنا منه حتّى أغنانا الله عزّ وجلّ)([26])

وروي أنّ رجلا من الأنصار أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فقال: (أما في بيتك شي‏ء؟) قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء، فقال: (ائتني بهما)، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال: (من يشتري هذين) قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: (من يزيد على درهم؟) مرّتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إيّاه، وأخذ الدّرهمين وأعطاهما الأنصاريّ، وقال: (اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالاخر قدوما فأتني به)، فأتاه به، فشدّ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده، ثمّ قال له: (اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينّك خمسة عشر يوما) فذهب الرّجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا خير لك من أن تجي‏ء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إنّ المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)([27])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل كل وسائل الترغيب والترهيب للتحذير من تلك السلوكات وآثارها على النفس، ومن ذلك قوله في تعريف المسكين: (ليس المسكين الّذي تردّه التّمرة والتّمرتان، ولا اللّقمة ولا اللّقمتان، إنّما المسكين الّذي يتعفّف، اقرؤا إن شئتم: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273])([28])

وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بهذا إلى البحث عن هذا النوع من المساكين، وتسليم الحقوق الشرعية المرتبطة بالأموال لهم، لا لأولئك الذي قد يتخذون التسول وسيلة لطلب الرزق، ويقعدون عن العمل رضى بذلك.

ومثل ذلك صحح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفهوم الغنى، فقال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النّفس)([29])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن دور العفة في السبق إلى الجنة، فقال: (عرض عليّ أوّل ثلاثة يدخلون الجنّة: شهيد وعفيف متعفّف، وعبد أحسن عبادة الله، ونصح لمواليه)([30])

وكان يقول: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنّة)([31])

ويقول: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه)([32])

وأخبر عن أفضلية العفيف المحتاج على غيره، فقال: (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدّق به، ويستغني به من النّاس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك، فإنّ اليد العليا أفضل من اليد السّفلى، وابدأ بمن تعول)([33])

وأخبر عن دور الاستعفاف في تحقق الاستعانة بالله، فقال: (من أصابته فاقة فأنزلها بالنّاس لم تسدّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إمّا بموت عاجل أو غنى عاجل)([34]).

وأثنى على العمل المؤدي إلى العفاف، وأخبر أنه جهاد في سبيل الله، فقد روي أنه مرّ عليه رجل نشيط، فقال أصحابه عند رؤيته: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشّيطان)([35])

ومثّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل جميع الأنبياء العفة في قمة قممها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90)، وقال: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان:57)، وقال: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (صّ:86)

ولهذا اعتبر القرآن الكريم من أدلة صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عفافه عن أموالهم، قال تعالى: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ (الطور:40)، وقال: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (المؤمنون:72)

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينال على تلك الوظيفة الخطيرة التي كلف بها، والتي جعلته لا يرتاح ليل نهار، أي أجر سوى الأجر الذي أعده الله له.

وفي الحديث روي أنه قال: (إنّي لأنقلب إلى أهلي فأجد التّمرة ساقطة على فراشي، ثمّ أرفعها لآكلها ثمّ أخشى أن تكون صدقة فألقيها)([36])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تتحقق بهذه الأخلاق النبيلة؛ فلا يمكن لنفسك أن تزكو، أو تتطهر، أو ترتقي في مراتب الكمال، وهي تفتقدها، أو تتخلف عنها.

واعلم أن العفة الكاملة عفتك عن الأكوان جميعا، بحيث لا ترى فيها إلا بارئها وفاطرها ومبدعها، لتنهل منه وحده كل ما تحتاجه؛ فتستغني به عمن سواه.


([1]) مسلم(1043)

([2]) أدب الدنيا والدين(384 ـ 390) بتصرف شديد.

([3]) الذريعة إلى مكارم الشريعة(319)

([4]) الترمذي (2458)

([5]) صيد الخاطر(289)

([6]) أدب الدنيا والدين(393 ـ 394)

([7]) الآداب الشرعية(2/ 215)

([8]) الفتح(13/ 149)

([9])رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والبيهقي.

([10]) رواه أحمد.

([11]) رواه الطبراني بإسناد حسن.

([12]) الترمذي(1655) والنسائي(6/ 61) وابن ماجة(2518)

([13]) رواه الطبراني.

([14]) الكافي 2/79.

([15]) أمالي الطوسي 1/37.

([16]) عيون الأخبار 2/28.

([17]) بحار الأنوار: 68/274، وكتاب الحسين بن سعيد.

([18])الكافي 2/79.

([19])الخصال 1/15.

([20])الخصال 1/29.

([21]) النسائي(5/ 98) وأبو داود(1628)

([22]) البخاري [فتح الباري]، 3(1469) ومسلم(1053)

([23]) مسلم(1035)

([24]) الحمالة بفتح الحاء: الدية والغرامة التي يحملها الإنسان بسبب الصلح بين الناس

([25]) مسلم(1044)

([26]) النسائي(5/ 98 ـ 99) وأبو داود(1627)

([27]) أبو داود(1641) وابن ماجة(2198) والترمذي(1218)

([28]) البخاري [فتح الباري]، 8(4539) ومسلم(1039)

([29]) البخاري [فتح الباري]، 11(6446) ومسلم(1051)

([30]) الترمذي(1642)

([31]) البخاري [فتح الباري]، 11(6474)

([32]) مسلم(1054)

([33]) مسلم(1042)

([34]) أبو داود(1645) والترمذي(2326)

([35]) رواه الطبراني في الكبير(19/ 129)

([36]) البخاري [فتح الباري]، 5(2432) ومسلم(1070)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *