العزة والشجاعة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن العزة والشجاعة، وعلاقتهما بالنفس المطمئنة، وكيف ينسجم ذلك مع السلام والهدوء والطمأنينة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن طمأنينة النفس لا تعني كسلها ولا ذلتها ولا هوانها ولا امتلائها بالضعف.. بل تعني طمأنينتها للحقائق الوجودية، وتحققها بالقيم المرتبطة بها، وتحاكمها إلى الموازين التي تسير عليها.
ولذلك إن اقتضت تلك القيم الهدوء هدأت النفس وسكنت وسلمت واستسلمت.. لكنها إن اقتضت الثورة.. ثارت النفس.. ومارست كل ما تقتضيه الثورة من أصناف الشجاعة والبطولة.
وذلك ـ أيها المريد الصادق ـ نابع من أن النفس المطمئنة هي النفس المنفعلة بالحقائق العقدية، وما دام الله عزيزا، فالنفس تستعز بعزته، وما دام الله قويا، فالنفس تنفعل لتلك القوة، وتمارسها في كل ما تحتاج إليه.
ولذلك كانت العزة والشجاعة من الصفات الضرورية في التزكية والترقية.. فالعزيز هو الذي يأبى الهوان، ويتعالى على السفاسف، ولذلك يجاهد نفسه حتى يتخلص منها، وحتى يتحقق بما تقضيته عزته من مكارم، ولذلك وصف الله تعالى المؤمنين بالعزة، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]
وبين سبب العزة الحقيقية، وهو الارتباط بالله تعالى، فقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]
ولذلك فإن عزة غيرهم عزة وهمية، سرعان ما تزول عنهم، بل هي زائلة لا محالة ذلك أنهم لا يتعلقون منها إلا بالسراب والوهم، قال تعالى عن المنافقين الذين زعموا لأنفسهم العزة: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]
وبذلك فإن كل من له حظ في الإيمان له حظ من العزة، وهي تشتد وتقوى بحسب درجة الإيمان والسلوك، ولهذا كانت العزة الخاصة بأصحاب النفوس المطمئنة من أرفع الدرجات وأزكاها، ذلك أن صاحبها قد ترفع عن كل ما يحول بينه وبين ربه.
وقد قال بعض الحكماء معبرا عن ذلك: (من أراد عز الدارين فليدخل في مذهبنا هذا يومين) فقال له القائل: كيف لي بذلك؟ قال: (فرق الأصنام عن قلبك، وأرح من الدنيا بدنك ثم كن كيف شئت، فإن اللّه لن يدعك، فإن جاءك شي ء من الدنيا بعد فلا تنظر إليه بعين الرغبة، ولا تصحبه بالرهبة، ولا تجلس معه إلا بالواجب العلمي في صرفه وإمساكه، وإن طلبت شيئا من ذلك يوما فاشهد طلب اللّه لك في طلبك له فإنك مطلوب بالطلب، فإن خرج لك الطلب منه مخرج الرضاء فادخل، ولا تعلق قلبك بالظفر به، فإنك لا تدري أتصل إليه أم لا؟ وإن وصلت إليه فلست تدري ألك هو أم لغيرك؟ فإن كان لك فلست تدري أفيه الخير أم فيه الشر؟ وإن كان لغيرك فليس لك به علم، هل هو لحبيبك أم لعدوك؟ وعلى الجملة: كيف يسكن القلب إلى موهوم تتصور فيه هذه الوجوه كلها وأكثر من ذلك، فاطلبه وأنت متعلق باللّه وناظر إليه، واستعمل الشكر إذا ظفرت به، والصبر والرضا إذا لم تظفر، بل الثناء على اللّه أجمل، لأنه لم يمنعك عن بخل وإنما منعك نظرا لك، فإذا منعك ذلك فقد أعطاك ولكن لا يفقد العطاء في المنع إلا الصديقون، وإن خرج بك الطلب من اللّه مخرج السخط بدلالة مخالفة العلم أو ما يكاد فالجأ إلى اللّه وفر إليه حتى يكون هو الذي يخلصك)([1])
وقال آخر: (العز الذي لا يفنى: هو الغنى عن الأسباب كلها بوجود مسببها، لأنه باق لا يفنى فالتعلق به عز وجل لا يفنى)([2])
وقال آخر: (عزة المؤمن أن يمنعه الله من التقيد للنفس والهوى والشيطان والدنيا أو لشيء من المكنونات في الغيب والشهادة والدنيا والآخرة، والمنافق لا يعلم العزة إلا من الأسباب والتعبد للأرباب)([3])
وقال آخر: (إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى فلا تستعزن بعز يفنى)([4])
وهكذا الشجاعة؛ فإنها ـ أيها المريد الصادق ـ أصل من أصول الأخلاق، ولها علاقة بها جميعا، ولا يمكن للنفس أن تتهذب من دونها، وهي مثل العزة مرتبطة بالإيمان؛ فكلما ازداد الإيمان كانت النفس أكثر شجاعة.
كما حكى الله تعالى ذلك عن السحرة الذين كانوا في منتهى الذلة لفرعون، وكانوا يقولون له: ﴿ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الشعراء: 44]
لكنهم بمجرد أن تنورت قلوبهم بنور الإيمان صاحوا في وجه فرعون بكل قوة، وبعد كل التهديدات التي هددهم بها: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 72، 73]
وقد قال بعض الحكماء معبرا عن ذلك: (إن كل من كان أكثر علما بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلبا وأقل ضعفا، ولهذا قال الإمام علي: (والله، ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولكن بقوة ربانية)، وذلك لأنه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء، فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة، فلاجرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره، وكذلك العبد إذا واضب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله: (كنت له سمعا وبصرا)؛ فإذا صار نور جلال الله سمعا له سمع القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور بصرا له رأى القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور يدا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب) ([5])
وقال آخر معبرا عن دور الشجاعة في التحقق بجميع الفضائل الخلقية: (اعلم أن كل كريهة ترفع، أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة، ألا ترى أنك إذا هممت أن تمنح شيئا من مالك خار طبعك، ووهن قلبك، وعجزت نفسك، فشححت به، وإذا حققت عزمك، وقويت نفسك، وقهرت ذلك العجز، أخرجت المال المضنون به، وعلى قدر قوة القلب وضعفه تكون طيبة النفس بإخراجه، أو كراهية النفس لإخراجه مع إخراجه، وعلى هذا النمط جميع الفضائل، مهما لم تقارنها قوة نفس لم تتحقق، وكانت مخدوعة. فالجبان يفر عن أمه وأبيه. والشجاع يقاتل عمن لا يثوب به إلى رحله، فبقوة القلب يصاب امتثال الأوامر والانتهاء عن الزواجر، وبقوة القلب يصاب اكتساب الفضائل، وبقوة القلب ينتهى عن اتباع الهوى والتضمخ بالرذائل. وبقوة القلب يصبر الجليس على إيذاء الجليس وجفاء الصاحب، وبقوة القلب يكتم الأسرار ويدفع العار، وبقوة القلب يقتحم الأمور الصعاب، وبقوة القلب يتحمل أثقال المكاره، وبقوة القلب يصبر على أخلاق الرجال، وبقوة القلب تنفذ كل عزيمة أوجبها الحزم والعدل) ([6])
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ذم الجبن، واعتباره من المهلكات العظيمة التي تدفع صاحبها إلى المهانة والذل والطمع والكسل (وحبّ الراحة، وتمكين الظالمين من الظلم عليه، وتحمّله للفضائح في نفسه وأهله، واستماع القبائح من الشتم والقذف، وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة، وتعطيل مقاصده وترك بعض تكاليفه كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها) ([7])
ولهذا قال تعالى في وصف المنافقين يوم الأحزاب: ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 19، 20]
وقال في وصف حالتهم مطلقا: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4]
وهكذا حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، بل اعتبره من المهلكات التي توبق صاحبها، فقال في وصيته للإمام علي: (يا عليّ، لا تشاورنّ جبانا، فإنّه يضيّق عليك المخرج.. واعلم يا عليّ، أنّ الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظنّ بالله)([8])
وقال الإمام علي: (البخل عار والجبن منقصة)([9])
ونفى الإمام الباقر الإيمان الحقيقي الكامل عن الجبان؛ فقال: (لا يؤمن رجل فيه الشحّ والحسد والجبن، ولا يكون المؤمن جبانا ولا حريصا ولا شحيحا)([10])
ولهذا كله كانت العزة والشجاعة المرتبطة بها، من صفات الكمّل من الصالحين، وعلى رأسهم الأنبياء وورثتهم، الذين واجهوا أقوامهم بكل قوة، ولم يدخل قلوبهم فزع ولا هيبة ولا جبن، قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 146، 147]
وضرب بعض النماذج عن ذلك، ومنهم داود الذي ذكر أنه كان من النفر القليل الثابتين في جهادهم ضد عدو بني إسرائيل، وأنه كان بشجاعته وإقدامه سبب انتصاراتهم، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ [البقرة: 250، 251]
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثالا للشجاعة والإقدام والبطولة، وقد حدث عن نفسه؛ فقال: (والذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم بأن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل)([11])
وذكر أنس بن مالك بعض مظاهر شجاعته؛ فقال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبقهم على فرس، وقال: وجدناه بحرا)([12])
وذكرها البراء بن عازب حين سأله رجل، فقال له: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: (أشهد على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة. فرموهم برشق من نبل. كأنها رجل من جراد. فانكشفوا. فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته. فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك)([13])
ثم عقب البراء على ذلك بقوله: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([14])
وكان الإمام علي في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده نموذجا حيا ومثاليا لها، حتى أن المؤرخين يؤكدون بالأدلة الدامغة، أنه كان السبب الأكبر في كل الانتصارات التي حصلت للمسلمين، ولذلك بارزه المشركون والطلقاء العداوة.
ومن الأمثلة على تلك الشجاعة ما ذكره الإمام علي في محاجته للمنكرين لحقه، حيث قال لهم في معرض ذلك: (نشدتكم بالله هل فيكم أحد مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عينيه، وأعطاه الراية يوم خيبر فلم يجد حراً ولا برداً غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد قتل مرحباً اليهودي مبارزة فارس اليهود غيري؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد احتمل باب خيبر حين فتحها فمشى به مائة ذراع ثم عالجه بعده أربعون رجلا فلم يطيقوه غيري؟ قالوا: لا)([15])
وهكذا كان جميع أئمة الهدى، فقد كانوا جميعا مثالا للعزة والشجاعة، وتحملوا في سبيل ذلك كل ألوان الأذى.
وقد عبر الإمام الحسين عن عزة القائمين بالحق، والوارثين للأنبياء، بذلك الشعار الذي لا يزال يردده الحسينيون إلى اليوم، وهو قوله: (ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله، ونفوسٌ أبيّة وأنوفٌ حميّة مِنْ أنْ نؤثرَ طاعة اللئام على مصارع الكرام)([16])
وقال مخاطبا أولئك الجبناء الذين قعدوا عن مواجهة الباطل، واستسلموا للدنيا وأهوائها: (إنه قد نزل من الامر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، واستمرت جدا ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقا، فاني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما، وإن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون)([17])
وقال: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون)([18])
وعندما عزم على مغادرة الحجاز والتوجه الى العراق اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجاج وأهل مكة، فخطب فيهم قائلا: (الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني اكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى)([19])
وقد كانت هذه الكلمات وغيرها هي الشعارات التي حركت ما حصل في التاريخ الإسلامي من ثورات على الظلم والاستبداد، والتي اتخذ فيها المسلمون الإمام الحسين أسوة لهم في مقارعة الظالمين، وعدم السكون للظلمة والمستبدين.
ولهذا وصف الإمام الحسين بكونه أبي الضيم وشديد العزة([20])، وقال ابن أبي الحديد في وصفه: (سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية، والموت تحت ظلال السيوف اختيارا على الدنية، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عرض عليه الأمان هو وأصحابه فأنف من الذل، وخاف ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله، فاختار الموت على ذلك)([21])
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع
لأن تتحقق بهذه الصفات الكريمة، لتلحق بأولئك الركب الكرام الطيبين الذين ضحوا بكل
شيء في سبيل إيمانهم وقيمهم ومبادئهم، وإياك والركون للمتثاقلين للدنيا، فتقعد
بنفسك عن الرقي لمراتب الكمّل في سبيل حياة قصيرة منغصة مملوءة بكل ألوان الكدر.
([1]) المفاخر العلية فى المآثر الشاذلية، ص: 72.
([2])غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 236.
([3])جامع الأصول في الأولياء، ج 1 ص 143.
([4])ابن عطاء الله ونشأة الطريقة الشاذلية، ص 123.
([5]) التفسير الكبير، 21/91.
([6]) سراج الملوك، الطرطوشي، (2/ 668- 670)
([7]) جامع السعادات، ج 1 ص 207.
([8]) الخصال ج 1 ص 101.
([9]) نهج البلاغة ص 1089.
([10]) الخصال ج 1 ص 82 ح 8
([11]) رواه البخاري 13 / 187، ومسلم رقم (1876)
([12]) رواه البخاري، الفتح 6 (2820)، ومسلم (2307)
([13]) رواه البخاري، الفتح 7 (4317) ومسلم (1776)
([14]) رواه مسلم (1776)
([15]) الاحتجاج، 1/322.
([16]) نفس المهموم:131.
([17]) تاريخ الطبري 3: 307، بحار الأنوار 78: 116.
([18]) تاريخ الطبري 3/ 318، بحار الانوار 45/ 6.
([19]) كشف الغمة 2 / 241..
([20]) تاريخ اليعقوبي 2 / 293.
([21]) شرح ابن أبي الحديد 1 / 302..