السماحة واللين

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن السماحة واللين واللطف، ومظاهرها وعلاقتها بالنفس المطمئنة، وكيفية التحقق بها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن من علامات النفس المطمئنة الضرورية السماحة واللين واللطف والعفو والحلم وغيرها من الصفات الدالة على الهدوء الداخلي للنفس، والذي يأبى إلا أن يسري خارجها؛ فلا يشعر المقتربون من هذه النفس بما يزعجهم أو يحرجهم أو يؤذيهم، بل يشعرون بها كما يشعرون بالنسيم العليل، والروائح الطيبة.
ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحبة الصالحين بذلك، فقال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (يعطيك)، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة) ([1])
وهكذا أخبر الله تعالى عن عباد الرحمن، وكيف كانوا يتكلمون، وكيف كانوا يسيرون، وكيف كان الهدوء والسلام ينبعث من جميع مواقفهم حتى مع أعدائهم، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) ﴾ [الفرقان: 63 – 67]
وهذه الآيات الكريمة تدل على شمول السماحة واللين لكل الجهات، ابتداء من الأرض التي يسيرون عليها بكل تواضع، وانتهاء بالله تعالى عندما يسجدون له ويقومون، ثم بعد ذلك يطلبون منه أن يقيهم العذاب، وفي ذلك دليل على انتفاء الغرور والعجب عنهم.
كما وصفهم بذلك في قوله عند بيانه لتأثير قراءة القرآن الكريم في النفوس المطمئنة:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)﴾ (الزمر)
وهكذا؛ فإن السماحة ـ أيها المريد الصادق ـ من الأخلاق التي لا يمكن تقسيمها أو الأخذ ببعض أجزائها، وترك غيره.. بل هي خلق شامل عامل مستوعب لكل المجالات، وإلا كان مجرد ادعاء.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قمة السماحة واللين، ومع كل الناس، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، كم وصفه الله تعالى بذلك في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]
وقد ذكر الإمام علي في وصفه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من مظاهر لينه وسماحته، فقال: (كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه راجيه، ولا يخيّب فيه مؤمّليه. قد ترك نفسه من ثلاث: من المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطّير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه. ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، وكان يقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه، وكان لا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام)([2])
وهكذا وصفه كل أصحابه، فقد قال أنس بن مالك:(خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين، لا والله ما سبني قط، ولا قال لي: أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته)([3])، وفي رواية:(خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين، فلا والله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء لم أصنعه ألا صنعته؟ ولا لامني، فإن لامني بعض أهله قال: دعه، وما قدر فهو كائن أو ما قضي فهو كائن)
وهذا الحديث يدل على المعارف الإيمانية التي تؤسس لذلك الهدوء النفسي، وهو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (دعه، وما قدر فهو كائن أو ما قضي فهو كائن)
ومثل ذلك ما روي عن أم سلمة، أنها قالت: يا رسول الله، لا تزال نفسك فى كل عام وجعة من تلك الشاة المسمومة التى أكلتها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أصابنى من شيء منها إلا وهو مكتوب على وآدم فى طينته)([4])
وكأن أم سلمة في هذا الحديث تدعوه صلى الله عليه وآله وسلم ـ من غير أن تقصد ـ إلى التأسف على أكله من تك الشاة، أو إلى أشياء أخرى يتنزه عنها صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرها صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تنظر من كوة سر التوحيد لتصرف عنها كل أسف أو حقد أو انتقام.
ذلك أن العارف بالله، لا تعتريه ذلك الجنون والاضطراب الذي يعتري غيره، فهو ينظر إلى كل شيء من زاوية التوحيد، ويعتبر كل انتصار للنفس، أو حقد أو حسد أو عداوة لغيرها، شركا بالله تعالى.
وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه في شيء قط إلا ان تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)([5])
وهكذا ذكر الإمام علي الكثير من منابع اللين والسماحة باعتبارها من علامات المعرفة بالله، وبحقائق الوجود، ذلك أنه لا يجهل في سلوكه إلا الجاهل بتلك الحقائق.
ومن تلك الأحاديث قوله في وصف أولياء الله: (إنّ أولياء اللّه هم الّذين نظروا إلى باطن الدّنيا إذا نظر النّاس إلى ظاهرها، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل النّاس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالا، ودركهم لها فوتا، أعداء ما سالم النّاس، وسلم ما عادى النّاس، بهم علم الكتاب وبه علموا، وبهم قام الكتاب وبه قاموا، لا يرون مرجوّا فوق ما يرجون، ولا مخوفا فوق ما يخافون) ([6])
وقال في وصف المؤمن: (المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شي ء صدرا، وأذلّ شي ء نفسا، يكره الرّفعة، ويشنأ السّمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصّلد، وهو أذلّ من العبد) ([7])
وقال في وصف بعض إخوانه الصادقين: (كان لي فيما مضى أخ في اللّه، وكان يعظمه في عيني: صغر الدّنيا في عينه، وكان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتا، فإن قال بذّ القائلين، ونقع غليل السّائلين، وكان ضعيفا مستضعفا، فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب، وصلّ واد، لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضيا، وكان لا يلوم أحدا على ما يجد العذر في مثله حتّى يسمع اعتذاره، وكان لا يشكو وجعا إلّا عند برئه، وكان يقول ما يفعل، ولا يقول ما لا يفعل، وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السّكوت، وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم، وكان إذا بدهه أمران ينظر أيّهما أقرب إلى الهوى فيخالفه) ([8])
ومثله سائر أئمة الهدى الذين اعتبروا المعرفة بالله المنبع الذي تستقي منه كل الفضائل، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الصادق مشيرا إلى منبع الحلم، وعلاقته بالمعرفة بالله: (الحلم سراج الله يستضئ به صاحبه إلى جواره، ولايكون حليما إلا المؤيد بأنوار الله، وبأنوار المعرفة والتوحيد، والحلم يدور على خمسة أوجه: أن يكون عزيزا فيذل، أويكون صادقا فيتهم، أو يدعو إلى الحق فيستخف به، أو أن يوذى بلاجرم، أو أن يطالب بالحق ويخالفوه فيه، فان آتيت كلامنها حقه فقد أصبت، وقابل السفيه بالاعراض عنه وترك الجواب، يكن الناس أنصارك، لان من جاوب السفيه وكأفاه قدوضع الحطب على النار) ([9])
ثم ساق حديثا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (مثل المؤمن مثل الارض، منافعهم منها وأذاهم عليها ومن لايصبر على جفاء الخلق لايصل إلى رضا الله تعالى، لان رضى الله مشوب بجفاء الخلق) ([10])
وهكذا وصف منابع العفو المعرفية، فقال: (العفو عند القدرة من سنن المرسلين والمتقين وتفسير العفو أن لاتلزم صاحبك فيما أجرم ظاهرا وتنسى من الاصل ما اصبت منه باطنا، وتزيد على الاختيارات إحسانا ولن يجد إلى ذلك سبيلا إلا من قد عفى الله عنه، وغفر له ماتقدم من ذنبه وماتأخر، وزينه بكرامته، وألبسه من نور بهائه، لان العفو والغفران صفتان من صفات الله عزوجل أو دعهما في أسرار أصفيائه، ليتخلقوا مع الخلق بأخلاق خالقهم، وجعلهم كذلك قال الله عز وجل: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]، ومن لايعفو عن بشر مثله كيف يرجو عفو ملك جبار)
ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله ـ حاكيا عن ربه يأمره بهذه الخصال ـ: (صل من قطعك، واعف عمن ظلمك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك) ([11])
ثم قال: (العفو سر الله في القلوب قلوب خواصه ممن يسرله سره، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، قالوا: يارسول الله وما أبوضمضم؟ قال: رجل كان ممن قبلكم كان إذا أصبح يقول: اللهم إني أتصدق بعرضي على الناس عامة) ([12])
وذكر الإمام الباقر دور اللين والعفو في الترقي في مراتب المعرفة، وتوقي الانحطاط، فقال: (مَنْ كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة، ومَنْ ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا غضب، حرّم الله جسده على النار)([13])
ويروى أن الإمام علي سمع رجلا يشتم قنبرا، وقد رام قنبر أنْ يردّ عليه، فناداه الإمام علي: (مهلا يا قنبر..دع شاتمك مُهانا: تُرضي الرحمن، وتُسخط الشيطان، وتُعاقب عدوك.. فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عُوقب الأحمق بمثل السكوت عنه)([14])
وقال: (متى أشفي غيظي إذا غضبت: أحين أعجز عن الانتقام، فيُقال لي: لو صبرت؟.. أم حين أقدر عليه فيُقال لي: لو غفرت؟)([15])
ويروى عن الإمام الكاظم أنه أحضر وُلْدَه يوماً فقال لهم: (يا بنيَّ.. إني موصيكم بوصيّة فمَنْ حفظها لم يَضِعْ معها: إن أتاكم آت فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروها، ثم تحوّل إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئا، فاقبلوا عذره)([16])
هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تعمر نفسك بالحقائق، وتذوقها؛ فهي وحدها من يطهر نفسك من كل الصفات التي تجعلها قاسية غليظة صعبة..
واعلم أنك لن تطمئن في الدنيا والآخرة إلا بذلك.. فلا راحة ولا سعادة ولا
فوز إلا للهينين اللينين الممتلئين بالسهولة، أولئك الذين سلموا أنفسهم للحق،
فكساهم الله من أنواره ما ملأهم هدوءا ولينا وطمأنينة…..
([1]) رواه البخاري، الفتح 4 (2101)، مسلم (2628)
([2]) مكارم الاخلاق: 8.
([3]) رواه عبد الرزاق في المصنف.
([4]) رواه ابن ماجه.
([5]) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
([6]) نهج البلاغة: الحكمة (432)
([7]) نهج البلاغة: الحكمة (333)
([8]) نهج البلاغة: الحكمة (289)
([9]) مصباح الشريعة: 37.
([10]) مصباح الشريعة: 37.
([11]) مصباح الشريعة: 39.
([12]) مصباح الشريعة: 39.
([13])تفسير القمي ص604.
([14]) مجالس المفيد ص77.
([15]) نهج البلاغة، 2/188.
([16])كشف الغمة 3/12.