الرضا المطلق

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرضا عن الله تعالى، وحقيقته، وعلاماته، ومجالاته، ودرجاته، وكيفية تحصيله، وسر كونه من منازل النفس المطمئنة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الرضا عن الله تعالى من المنازل الضرورية لأصحاب النفوس المطمئنة؛ فلا يمكن أن تطمئن نفس تعارض ربها، أو تختار ما لم يختر لها، أو تتمنى أن تكون على حال غير التي أنزلها فيها، أو تتعرض لامتحانات غير التي امتحنها بها.
ولذلك بين الله تعالى أن هذه المنزلة هي منزلة الصادقين مع ربهم، فلا يزال رضاهم بالله ورضاهم عنه رائد علاقتهم بربهم إلى يوم يلقونه، قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119]
وللآثار الحميدة التي يتركها الرضا في النفس، على خلاف تلك الآثار التي يتركها الجزع والاعتراض، نجد ارتباط كل الآيات التي تتحدث عن الرضوان المتبادل بين الله تعالى وعباده الصالحين، بالجنة؛ وكأنها تشير إلى أن الرضوان جنة أخرى من جنان الله، وهي جنة لا تختص بالآخرة، بل تعجل للمؤمنين في الدنيا.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]
وقد علق عليها بعض الحكماء بقوله: (ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما)([1])
ويدل على هذا قوله تعالى، وهو يخاطب النفس المطمئنة التي لا تقبض انتزاعا ـ كما تقبض أرواح المتمردين على الله ـ وإنما تقبض بأمرها، بالرجوع إلى بارئها فتطير شوقا إليه، قال تعالى: ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: 27 – 30]
ومثل ذلك قوله تعالى، وهو يخبر عن حزبه الذي اعتبر رضوانه فوق كل رضوان: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]
وهكذا يقترن الرضا عن الله تعالى بالراحة والفرح في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اللّه بحكمته وجلاله جعل الرَّوح([2]) والفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)([3])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه المنزلة الرفيعة لا ينالها لفضلها إلا العلماء بالله، الذين أداهم علمهم إلى الثقة فيه، وفي تدبيره، فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاءه بعض الناس، فقال: (مَنْ القوم ؟).. قالوا: (مؤمنون يا رسول الله)، قال: (ما بلغ من إيمانكم ؟)، قالوا: (الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بالقضاء)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حلماء.. علماء.. كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء، إن كنتم كما تصفون، فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتّقوا الله الذي إليه ترجعون)([4])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان رزقه كفافا، ورضي به) ([5])
وقال: (من رضي من اللَّه تعالى بالقليل من الرزق رضي اللَّه تعالى منه بالقليل من العمل) ([6])
وقال: (إذا أحب اللَّه تعالى عبدا ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه)
وقال: (إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائقة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها ويتنعمون كيف شاؤوا قال: فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً فيقولون: هل جزتم الصراط فيقولون: ما رأينا الصراط فيقال لهم: رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً فتقول الملائكة: من أمة مَنْ أنتم؟ فيقولون مِنْ أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: نشدناكم الله، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته فيقولون: وما هما؟ فيقولون كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم الله لنا، فتقول الملائكة: يحقّ لكم هذا) ([7])
وقال: (يا معشر الفقراء أعطوا اللَّه، الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا)
وفي الحديث القدسي، أنّ اللّه تعالى قال: (أنا اللّه لا إله إلّا أنا من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي ولم يشكر نعمائي فليتّخذ ربّا سواي) ([8])
وفي رواية أخرى: (قدّرت المقادير ودبّرت التدبير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرّضا عنّي حتّى يلقاني، ومن سخط فله السخط منّي حتّى يلقاني)
وفي حديث آخر: (يقول اللّه عزّ وجلّ: خلقت الخير والشرّ فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه وويل لمن خلقته للشرّ وأجريت الشرّ على يديه، وويل ثمّ ويل لمن قال: لم وكيف) ([9])
وقال: (من أحبّ أن يعلم ماله عند اللّه عزّ وجلّ فلينظر ما للَّه تعالى عنده فإنّ اللّه تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه) ([10])
وروي أنّ موسى عليه السّلام قال: يا ربّ دلّني على أمر فيه رضاك حتّى أعمله فأوحى اللّه تعالى إليه: رضاي في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره، فقال: يا ربّ دلّني عليه؟ فقال: إنّ رضاي في رضاك بقضائي.
وروي في مناجاته عليه السّلام: أي ربّ أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني، قال: فأيّ خلقك أنت عليه ساخط، قال: من يستخيرني في الأمر فإذا قضيت له كره قضائي.
وفي أخبار داود عليه السّلام: (ما لأوليائي والهمّ بالدّنيا إنّ الهمّ يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود إنّ محبّتي من أوليائي أن يكونوا روحانيّين لا يغتمّون) ([11])
ويروى أن اللَّه تعالى أوحى إليه: (يا داود إنك تريد وأريد وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد. وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد) ([12])
وسئل عيسى عليه السّلام: ما أفضل الأعمال؟ فقال: الرّضا عن اللّه والحبّ له.
وهكذا روي عن أئمة الهدى بيان فضل الرضا، وعظم مكانته، فقد روي من حكم الإمام علي في الترغيب فيه وبيان دوره في تحصيل الراحة والسكينة في الدنيا قبل الآخرة قوله:(مَن رضيَ مِن الله بما قسم له استراح بدنه) ([13])
وقال: (إرضَ تَستَرِح) ([14])
وقال: (الرضا ينفي الحزن) ([15])
وقال: (إنّ أهنأ الناس عيشاً مَن كان بما قسم اللهُ له راضياً) ([16])
وقال: (نِعم الطاردُ للهَمّ الرضا بالقضاء) ([17])..
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إنّ الله بعدله وحكمته وعلمه، جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرضا عن الله، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ، فارضوا عن الله وسلّموا لأمره)([18])
وقال: (الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين)([19])
وقال: (أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا) ([20])
وقال: (مَنْ أراد أن يعرف كيف منزلته عند الله، فليعرف كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله ينزّل العبد مثل ما ينزّل العبد الله من نفسه)([21])
قال: (اعلموا أنّه لن يؤمن عبدٌ من عبيده حتّى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به، على ما أحَبّ وكَرِه، ولن يصنع الله بمَن صبر ورضيَ عن الله إلاّ ما هو أهلُه وهو خيرٌ له، ممّا أحبّ وكرِه) ([22])
وقال: (لقي الحسن بن علي عبد الله بن جعفر، فقال: (يا عبد الله!.. كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسَمْه ويحقّر منزلته والحاكم عليه الله، فأنا الضامن لمن لا يهجس في قلبه إلا الرضا أن يدعو الله فيُستجاب له)([23])
وهكذا اتفق جميع الحكماء على علو مرتبة اليقين، وكونه علامة على الإيمان الحقيقي، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (الرضا: هو ثمرة من ثمار المحبة، وهو من أعلى مقام المقربين..فهو سبب دوام النظر، فإنهم رأوه، غاية الغايات، وأقصى الأماني لما ظفروا بنعيم النظر)([24])
وقال آخر: (الرضا هو نهاية المقامات وبداية الأحوال، وهذا محل أحد طرفيه الكسب والاجتهاد، وطرفه الآخر المحبة وغليانها، وليس فوق ذلك مقام، وتنتهي المجاهدة عندها. فبدايتها في المكاسب، ونهايتها في المواهب)([25])
وقال آخر: (الرضا: اسم للوقوف الصادق، حيث ما وقف العبد، لا يلتمس متقدماً، ولا متأخراً، ولا يستزيد مزيداً، ولا يستبدل حالاً، وهو من أوائل مسالك أهل الخصوص، وأشقها على العامة)([26])
أما حقيقة الرضا التي سألت عنها، فهي ما عبر عنه بعض الصالحين بقوله: (لا يبلغ العبد إلى مقام الرضا حتى يقيم نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به، يقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت)([27]).
وقال آخر: (الرضا: هو سكون القلب إلى أحكامه، وموافقة القلب بما رضى الله واختاره)([28])
وقال آخر: (الرضا أن يكون قلب العبد ساكناً تحت حكم الله تعالى)([29]).
وقال آخر: (الرضا: هو أن تحسن أحكامه عندك حتى تكون كالحجر)([30]).
وقال آخر: (ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، إنما الرضا: أن لا تعترض على الحكم والقضاء)([31]).
وقال آخر: (الرضا: هو سكون القلب إلى الحكيم، وترك الاختيار مع التسليم، ولا شيء أشد على النفس من الرضا بالقضاء؛ لأن الرضا بالقضاء يكون إلى خلاف رضا النفس وهواها)([32])
وقال آخر: (الرضا: هو تلقي النفس لما يأتي به القدر من الحوادث الجرمانية على وجه لا يتألم بوقوعه، بل مع ابتهاج لطيف نظراً إلى العلة السابقة العجيبة)([33])
وقال آخر: (الرضا: سكون القلب تحت مجاري الأقدار، بنفي التفرقة حالاً، وعلم التوحيد جمعاً، فيشهد القدرة بالقادر، والأمر بالآمر، وذلك يلزمه في كل حال من الأحوال)([34])
أما مجالات الرضا؛ فقد تبين لك من خلال هذه التعريفات أنه شامل لكل ما جاء عن الله تشريعا كان أم قضاء، فلا فرق بينهما؛ فكلاهما مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
وقد قال تعالى عن الأول، وهو الرضى عن شريعته، وأحكامها، وتكاليفها: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]
وقال عن الثاني، وهو التسليم بربوبية الله على عباده، وحاكميته وتدبيره لهم: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:164)
وقال في أول السورة: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام:14)
وقد جمع هذه المعاني بعض الحكماء، فقال: (الرضا بالحق، والرضا له، والرضا عنه.. فالرضا به: مدبراً ومختاراً.. والرضا عنه: قاسماً ومعطياً.. والرضا له: إلهاً ورباً)([35])
وقال آخر: (الرضا على قسمين: رضا به، ورضا عنه.. فالرضا به: مُدَبِّراً، والرضا عنه: فيما يقتضي حاكماً وفاصلاً)([36])
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تقع فيما وقع فيه بعض من أعرض عن النصوص المقدسة، وأئمة الهدى؛ فراح يضع للرضا مجالات لا تتفق مع العقل، ولا مع الفطرة، ولا مع عدالة الله، ولا مع رحمته، ولا مع التزكية السليمة وفق السراط المستقيم.
ومن الأمثلة على ذلك قوله بعضهم: (الرضا: هو أن لا تسأل الله الجنة، ولا تعوذ به من النار)([37])
فهذا مخالف للنصوص المقدسة الكثيرة الدالة على أن المؤمنين يطلبون من الله تعالى الجنة، وبإلحاح شديد، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور، والذي كان يعلمه لأصحابه: (اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا) ([38])
ومثل ذلك قول بعضهم في تعريف الرضا: (الرضا عن الله: هو إذا ابتلاه في بدنه لم يحب العافية، فإن عافاه لم يحب أن ينقله حتى يكون هو الذي يحوله، وإن أغناه لم يحب أن يفقره، وإن فقره لم يحب أن يغنيه وأن يرضى ما يرضاه ويهوى ما يهواه)([39])
فهذا كله مخالف للفطرة السليمة، والتي تحب العافية، وتسأل الله أن يرزقها إياها، ولكنها لا تعترض عليه إن أنزل بها البلاء.. وفرق كبير بين الأمرين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك من أن أغتال من تحتي) ([40])
وروي أن بعض أصحابه سأله، فقال: يا رسول الله، علمني شيئا أسأله الله عز وجل، فقال: (سل الله العافية)، ثم مكث أياما، ثم سأله نفس السؤال، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (سل الله، العافية في الدنيا والآخرة) ([41])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية)([42])
وقال: (ما من دعوة أحب إلى الله أن يدعوه بها عبدٌ من أن يقول: اللهم إني أسألك المعافاة أو قال: العافية في الدنيا والآخرة) ([43])
والأخطر من ذلك كله ما ادعاه بعضهم من أن الرضى يقتضي ترك الدعاء، وعدم إنكار المنكر، وهذا مخالف للنصوص المقدسة.
أما الدعاء، فكثرة دعوات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى من بعده تدل عليه، وقد أثنى اللَّه تعالى على عباده الصالحين بقوله: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90]
وأما إنكار المعاصي وكراهتها، وعدم الرضا بها، فمن أوجب الواجبات، بل إن الله تعالى ذم الراضين عن المعاصي أو أسبابها، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يونس: 7، 8]
وقال عن المخلفين: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 87]
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من شهد منكرا فرضي به فكأنه قد فعله)، وقال: (الدال على الشر كفاعله) ([44])
أما ما سألت عنه من درجات الرضا، فهي ـ أيها المريد الصادق ـ أكثر من أن تعد أو تحصى، لأنها تختلف باختلاف درجات السالكين، وهي لا نهاية لها.
وقد ذكر بعضهم مجامعها، فقال: (الرضا على ثلاثة أقسام هي: رضا العام بدين الله، وهو موافقة في الدين.. رضا الخاص بثواب الله، وهو أن يعمل لوجه الله رجاء ثوابه.. رضا الأخص، وهو الله بالله)([45])
وقال آخر: (الرضا قسمان: قسم: يكون لكل مكلف، وهو ما لا بد منه في الإيمان، وحقيقته: قبول ما يرد من قبل الله تعالى من غير اعتراض على حكمه وتقديره.. وقسم: لا يكون إلا لأرباب المقامات. وحقيقته: ابتهاج القلب، وسروره بالمقضي)([46])
وقال آخر: (أهل الرضا في الرضا على ثلاثة أحوال: فمنهم: من عمل في إسقاط الجزع، حتى يكون قلبه مستوياً لله تعالى فيما جرى عليه من حكم الله من المكاره والشدائد والراحات والمنع والعطاء.. ومنهم: من ذهب عن رؤية رضائه عن الله تعالى برؤية رضا الله عنه.. ومنهم: من جاوز هذا، وذهب عن رؤية رضا الله عنه ورضاه عن الله لما سبق من الله تعالى لخلقه من الرضا)([47])
وقال آخر: (الرضا على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: رضا العامة: وهو الرضا بالله رباً بسخط عبادة ما دونه، وهذا قطب رحى الإسلام، وهو يطهر من الشرك الأكبر، وهذا يصح بثلاثة شرائط: أن يكون الله تعالى أحب الأشياء إلى العبد، وأولى الأشياء بالتعظيم، وأحق الأشياء بالطاعة.. والدرجة الثانية: الرضا عن الله تعالى، وبهذا الرضى نطقت آيات التنـزيل، وهو الرضا عنه في كل ما قضى، وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص. ويصح بثلاثة شرائط: باستواء الحالات عند العبد، وبسقوط الخصومة مع الخلق، وبالخلاص من المسألة والإلحاح.. والدرجة الثالثة: الرضا برضى الله، فلا يرى العبد لنفسه سخطاً، ولا رضا، فيبعثه على ترك التحكم، وحسن الاختيار، وإسقاط التمييز ولو أدخل النار)([48])
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن ترقى بنفسك إلى هذه المرتبة الرفيعة، فلا يمكن أن تصحح علاقتك بالله من دون أن تكون من الراضين عنه، وقد قال بعضهم يوماً عند بعض الصالحين: اللهم ارض عني، فقال له: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقيل له: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قال: (إذا لم يعترض عن الله في أي قضاء نزل به)
ويروى عن بعض العباد أنه قال: إني أذنبت ذنباً عظيماً، فأنا أبكي عليه منذ
ستين سنة ـ وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب ـ فقيل له: وما هو؟
قال: (قلت مرة لشيء كان، ليته لم يكن)
([1]) مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (12/ 469)،، والفخر الرازي يخالف ـ بهذا ـ الأسلوب الجاف الذي يتعامل به المتكلمون عادة مع مثل هذه الأمور، وقد عقب على قوله هذا بقوله:(وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له)
وقد بين الغزالي علة إنكار بعض المتكلمين للرضى بقوله:(اعلم أنّ من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصوّر؟ فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة، فأما إذا ثبت تصوّر الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أنّ الحب يورث الرضا بأفعال الحبـيب)، الإحياء: 4/347.
([2]) بفتح الراء أي الراحة وطيب النفس.
([3]) رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي.
([4]) بحار الأنوار: 68/153، والتمحيص.
([5]) رواه الترمذي.
([6]) رواه الكليني في الكافي ج 2 ص 137.
([7]) رواه ابن حبان في الضعفاء وأبو عبد الرحمن السلمي.
([8]) رواه الطبراني في الكبير وابن حبان في الضعفاء
([9]) رواه ابن شاهين في شرح السنة، ورواه الكليني في الكافي ج 1 ص 154.
([10]) رواه الحاكم
([11]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء (ص: 2758)
([12]) إحياء علوم الدين (ص: 2535)
([13]) الخصال:632
([14]) غرر الحكم:60
([15]) غرر الحكم: 31
([16]) عيون الحكم 58:6
([17]) غرر الحكم:320
([18]) بحار الأنوار: 68/152، والتمحيص.
([19]) بحار الأنوار: 68/152، والتمحيص.
([20]) الكافي 62:2
([21]) بحار الأنوار: 68/156، وعدة الداعي ص106.
([22]) بحار الأنوار 217:78 / ح 93 ـ عن: الكافي
([23]) بحار الأنوار: 68/159، ومشكاة الأنوار ص34.
([24]) إحياء علوم الدين، ج 4 ص 317.
([25]) د. قاسم غني، تاريخ التصوف في الإسلام، ص 450.
([26]) عبد الله الهروي، منازل السائرين، ص 51.
([27]) نجم الدين داية الرازي، منار السائرين ومطار الطائرين، ص 136، بتصرف.
([28]) القشيري، الرسالة القشيرية، ص 152.
([29]) اللمع في التصوف، ص 53.
([30]) أبو طالب المكي، علم القلوب، ص 230.
([31]) الغنية لطالبي طريق الحق، ج 1 ص 617.
([32]) أحمد الرفاعي،حالة أهل الحقيقة مع الله، ص 177
([33]) سليمان سليم علم الدين، التصوف الإسلامي، ص 209.
([34])بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، ص 379.
([35]) نجم الدين داية الرازي، منار السائرين ومطار الطائرين، ص 75.
([36]) الغنية لطالبي طريق الحق، ج 2 ص 617.
([37]) جامع الأصول في الأولياء، ج 2 ص 326.
([38]) رواه ابن ماجه (3846)
([39]) أبو عبد الرحمن السلمي، المقدمة في التصوف وحقيقته، ص 37.
([40]) البخاري في الأدب المفرد (1200)، وأبو داود (5074)، والنسائي في المجتبى (8/ 282)
([41]) الترمذي (3514)
([42]) الترمذي (3558
([43]) المعجم الكبير (346)
([44]) أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس
([45]) جامع الأصول في الأولياء، ج 1 ص 200، 201.
([46]) أبهى القلائد في تلخيص أنفس الفوائد، ص 56.
([47]) اللمع في التصوف، ص 54.
([48]) منازل السائرين، ص 51، 52.