الرجاء والأمل

الرجاء والأمل

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرجاء والأمل وحسن الظن بالله، وعلاقتهما بالنفس المطمئنة، وعلاقتهما بالتزكية والترقية.. وكيفية انسجامهما مع الخشية والشفقة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن المتأمل في النصوص المقدسة، وقبل ذلك في الكون والحياة، يرى المظاهر الكثيرة الدالة على الرحمة الإلهية التي تبرز في كل حرف من حروف الكون، وفي كل حدث من أحداث الحياة، حتى تلك التي قد لا تنسجم معنا في فترة من الفترات، لكننا بعد ذلك نكتشف أنها كانت في مصلحتنا.

ولذلك كان الرجاء في الله تعالى، وحسن الظن به، والأمل العظيم فيه، دليلا على المعرفة الحقيقية بالله، والتي تنسجم مع القرآن الناطق والصامت، أو مع كلمات الله التي بثها في أكوانه، وكلماته التي أنزلها على رسله.

ولهذا كان القرآن الكريم أعظم بشارة للإنسان، كما صرح بذلك قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 1، 2]

فالآيتان الكريمتان تعرفان القرآن الكريم بأمرين مهمين: أحدهما: الهداية والدلالة على حقائق الوجود والقيم المرتبطة بها، والثاني البشارة التي تتضمنها تلك الهداية، وهذا يعني أن البشارة مرتبطة بالهداية، ولذلك جاء بعدها وصف المؤمنين الذين يستحقون تلك البشارة بقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [النمل: 3]

ثم عقبها الله تعالى بوصف الذين لم يقبلوا الهداية، وبيان عدم استحقاقهم للبشارة، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ [النمل: 4، 5]

وتأملك ـ أيها المريد الصادق ـ لهذه الآيات الكريمة يبين لك حقيقة الرجاء والأمل، والموضع المرتبط بهما، حتى لا يتحول إلى أماني كاذبة، ذلك أن الشيطان قد يغر الإنسان عن نفسه، فيوهمه أن الرحمة الإلهية التي اتسعت لكل شيء، لن يضيق بها شيء.

 وهذا صحيح ولكن الخطأ هو عدم إدراك تلك الشروط التي وضعها الله تعالى للإنسان حتى تتحقق له الرحمة بصورتها الجمالية الخالية من الألم، وهي التي عبر عنها قوله تعالى: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 156، 157]

فهاتان الآيتان الكريمتان ذكرتا شروطا كثيرة للفلاح، وأخبر أن الرحمة الإلهية تتحقق لأهلها المهتدين بهديها.. أما من عداهم، فتتحقق لهم رحمتهم الخاصة بهم، وهي الرحمة التي تشبه ذلك الألم الذي يصيب به الأستاذ تلميذه الكسول حتى يعود إلى وعيه، بخلاف الجوائز التي يسلمها للنجباء ليستمروا في جدهم وعملهم.

وهكذا نجد القرآن الكريم يذكر أن لمغفرة الله تعالى الناتجة عن اسمه [الغفور] محلها الخاص بها، وهو تحقق القابلية في الذي يريد أن يُغفر له، والتي عبر عنها قوله تعالى عند ذكر شروط توبة المنافقين: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 145، 146]

وهذه النصوص وغيرها تدلك ـ أيها المريد الصادق ـ على كيفية الجمع بين الرجاء والخشية، والأمل والشفقة، وحسن الظن والخوف.. فلكل منها محله الخاص به، فلا تناقض بينها، ولا نفور.

فالمؤمن يرجو الله، ويحسن الظن به، ويأمل في فضله، نتيجة معرفته بأسماء لطفه ورحمته وكرمه.. وذلك ما يملؤه سرورا وسعادة وفرحا، كما قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]

لكنه في نفس الوقت عندما يتأمل في نفسه ومثالبها وعيوبها، يتذكر أن الرحمة الإلهية مرتبطة بالعدالة الإلهية.. فكلاهما اسمان من أسماء الله الحسنى، ولكليهما القابليات الخاصة به، ولذلك يختلط رجاؤه وأمله وحسن ظنه بخشيته وشفقته وخوفه.. لا لأن الله ليس رحيما، ولكن لأن النفس قد لا تستحق بعض مظاهر رحمته.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 60، 61]، قد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها، فقيل له: أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: (لا، ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه)([1])

والفرق بين هذا، وبين الذي يسيء الظن بالله، هو الفرق بين من يرى أستاذه رحيما لطيفا في غاية الأدب والرقة.. وبين من يراه قاسيا جلفا غليظا ظالما.. فهذه الرؤية هي التي نهينا عنها، لأنها تدل على معرفة مشوهة لله.

أما تلك المعرفة التي تجمع بين رؤية رحمة الأستاذ ورقته وحسن أخلاقه مع ضرورة الالتزام بتوجيهاته، والعمل بطلباته، والخشية عند التفريط أو التقصير فيها؛ فهذا هو الكمال، وهو حسن الظن الحقيقي بالله.. ذلك أن المعرفة بالله كما تستدعي معرفة رحمته ولطفه، تستدعي معرفة عدالته وقهره للظالمين من عباده، كما أخبر عن نفسه بذلك.

هذا جوابي عن كيفية الجمع بين الرجاء والخوف، وبين حسن الظن بالله والخشية منه.. أما عن دور حسن الظن بالله والأمل فيه في التزكية والترقية، فيدل على ذلك كل شيء ابتداء من الواقع.. فالذي ينظر إلى أستاذه باعتباره ظالما قاسيا متجبرا، ليس له من هم سوى إلحاق الضرر به، لن يسعى في تكميل نفسه بالعلم والأدب، وكيف يسعى لذلك، وهو لا يثق في أستاذه، بخلاف الذي ينظر إليه باعتباره رحيما لطيفا، فإن ذلك وحده يكون كافيا لتشجيعه لكل الأعمال الصالحة، حتى لو لم يكافئه عليها مكافأة مادية؛ فيكفيه أن يحسن صورته عنده.

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، حيث اعتبر اليأس دليلا على الكفر والجحود.. ذلك أن اليائس كافر بكل صفات الرحمة واللطف الإلهي.

ولهذا ترد في القرآن الكريم الآيات الكثيرة التي تبين سعة الرحمة الإلهية، وتحدد أهلها وشروطها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]

وقد جاء بعدها من الآيات ما يوضح شروط تلك المغفرة التي وعد الله تعالى بها، حيث قال: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [الزمر: 54 – 56]

وللأسف، فإن الكثير ممن يدعو إلى الرجاء الكاذب، ويتوهم أن الورع وسوسة، والتقوى تطرفا، يكتفي بالآية التي تدعو إلى عدم القنوط من رحمة الله، وتعد بالمغفرة الشاملة، دون أن يقرأ الآيات التي تلتها، والتي تبين شروط تلك المغفرة.

ومما يقرب لك هذا المعنى ـ أيها المريد الصادق ـ مطالعتك لما روي من دعاء الإمام الحسين في يوم عرفة، والذي جمع فيه بين الأمرين، فقال: (أنا الذي أسأت، أنا الذي أخطأت، أنا الذي هممت، أنا الذي جهلت، أنا الذي غفلت، أنا الذي سهوت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمدت، أنا الذي وعدت، أنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت، أنا الذي أقررت)

وفي نفس الوقت قال عن ربه: (أنت الذي أنعمت، أنت الذي أحسنت، أنت الذي أجملت، أنت الذي أفضلت أنت الذي مننت، أنت الذي أكملت، أنت الذي رزقت، أنت الذي أعطيت، أنت الذي أغنيت، أنت الذي أقنيت، أنت الذي أويت، أنت الذي كفيت، أنت الذي هديت، أنت الذي عصمت، أنت الذي سترت، أنت الذي غفرت، أنت الذي أقلت، أنت الذي مكّنت، أنت الذي أعززت، أنت الذي أعنت، أنت الذي عضدت، أنت الذي أيّدت، أنت الذي نصرت، أنت الذي شفيت، أنت الذي عافيت، أنت الذي أكرمت، تباركت ربي وتعاليت، فلك الحمد دائما، ولك الشكر واصبا)([2])

وعلى هذا المعنى الذي دل عليه العقل والمصادر المقدسة، حذر أئمة الهدى من ظاهرة الإرجاء التي أرادت تحريف القيم الربانية التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستغلة في ذلك الدعوة إلى حسن الظن بالله ورجائه، ولو من غير عمل، كما قال تعالى في وصف ما حصل للأديان السابقة: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأعراف: 169]

ومن أشد تلك التحذيرات ردود الإمام علي، فأكثر خطبه وحكمه تحذر من هذه الظاهرة، وتبين خطرها، ومن ذلك قوله لمدّع كاذب يرجو الله: (يدّعي أنه يرجو الله، كذب والله العظيم، ما بالُه لا يتبين رجاؤه في عمله، وكل من رجا عرف رجاؤه في عمله إلا رجاء الله، فإنه مدخول، وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول، يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب، فما بال الله جل ثناؤه يقصر به عما يصنع لعباده، ألا تخاف أن تكون في رجائك له كاذبا، أو تكون لا تراه للرجاء موضعا، وكذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه، فجعل خوفه من العباد نقدا وخوفه من خالقه ضمارا ووعدا)([3])

وقال في الجمع بين الرجاء والخوف: (يا بني.. خف الله خوفا أنّك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك، وارج الله رجاء أنّك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك)([4])

وقال في الجمع بين حسن الظن بالله والخوف: (إن استطعتم أن يحسن ظنكم بالله، ويشتد خوفكم منه، فاجمعوا بينهما، فإنما يكون حسن ظن العبد بربه على قدر خوفه منه، وإنّ أحسن الناس بالله ظنّاً لأشدّهم منه خوفاً)([5])

وهكذا روي عن الإمام السجاد الكثير من الروايات التي تدل على الجمع بين الخشية والرجاء، وفي أدعيته نرى كثيرا جمعه بينهما، وقد قال في ذلك: (ما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، وحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه)([6])

وقال الإمام الباقر في اعتدال الخوف والرجاء، ودورهما في التزكية والترقية: (أنه ليس من عبد مؤمن إلا في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا)([7])

وروي عن الإمام الصادق أنه سئل: (إنّ قوما من مواليك يلمون بالمعاصي ويقولون: نرجو، فقال: (كذبوا ليسوا لنا بموال، أولئك قوم ترجّحت بهم الأماني، من رجا شيئا عمل له، ومن خاف من شيء هرب منه)([8])

وقال مخاطبا بعض أصحابه: (خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك)([9])

وقال: (الخوف رقيب القلب، والرجاء شفيع النفس. ومن كان بالله عارفاً كان [ من ] أمر الله خائفاً وإليه راجياً. وهما جناحا الإيمان يطير بهما العبد إلى رضوان الله، وعينا عقله يبصر بهما إلى وعد الله ووعيده. وللخوف طالع عدل الله باتقاء وعيده. والرجاء داعي فضل الله وهو يحيي القلب، والخوف يميت النفس. قال رسول الله: (المؤمن بين خوفين: خوف ما مضى، وخوف ما بقي)، وبموت النفس يكون حياة القلب، وبحياة القلب يكون البلوغ إلى الاستقامة. ومن عبد الله على ميزان الخوف والرجاء لا يضل، ويصل إلى ما هو له. وكيف لا يخاف العبد، وهو غير عالم بما يختم صحيفته، ولا له عمل يتوسل به استحقاقاً، ولا قدرة له على شيء ولا مفر. وكيف لا يرجو وهو يعرف نفسه بالعجز، وهو غريق في بحر آلاء الله ونعمائه، من حيث لا تحصى ولا تعد. والمحب يعبد ربه على الرجاء بمشاهدة أحواله بعين سهر، والزاهد يعبد على الخوف)([10])

وقال عن وصية لقمان عليه السلام: (كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجلّ خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك)([11])

وسئل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]، فقال: (هي إشفاقهم ورجاؤهم، يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا الله عز ذكره، ويرجون أن تقبل منهم)([12])

وعلى هذا المعنى اتفق جميع الحكماء، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (ينبغي أن يكون الخوف والرجاء كلاهما كاملين في النفس ولا تنافي بينهما، فإنّ ملاحظة سعة رحمة الله وغنائه وجوده ولطفه على عباده سبب الرجاء، والنظر إلى شدة بأس الله وبطشه وما أوعد العاصين من عباده موجب للخوف، مع أنّ أسباب الخوف ترجع إلى نقص العبد وتقصيره، وسوء أعماله وقصوره عن الوصول إلى مراتب القرب والوصال، وانهماكه فيما يوجب الخسران والوبال، وأسباب الرجاء تؤول إلى لطف الله ورحمته وعفوه وغفرانه ووفور إحسانه، وكل منهما في أعلى مدارج الكمال)([13])

وفسر ذلك، فقال: (الرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب، ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب، فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه، فاسم الرجاء عليه صادق، وإن كان ذلك انتظارا مع عدم تهيئ أسبابه واضطرابها، فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء، وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاء، فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب)

وشبه آخر ذلك بعمل الفلاح الذي يبذل جهده في تنقية الأرض وبذر البذور، ثم ينتظر فضل الله تعالى بإنزال المطر، فهذا هو الرجاء الحقيقي، وهكذا الأعمال، فـ (الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها، والقلب المستغرق بالدنيا كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.. فينبغي أن يقاس رجاء العبد للمغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضا طيبة، وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم أمدّه بما يحتاج إليه وهو سياق الماء إليه في أوقاته، ثم نقّى الأرض عن الشوك والحشيش، وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم جلس منتظرا من فضل الله رفع الصواعق والآيات المفسدة إلى أن يثمر الزرع ويبلغ غايته، سمي انتظاره رجاء، وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصبُّ الماء إليها، ولم يشغل بتعهد البذر أصلا، ثم انتظر حصاد الزرع يسمى انتظاره حمقاً وغروراً لا رجاء، وإن بث البذر في أرض طيبة ولكن لا ماء لها، وينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا يمتنع، سمي انتظاره تمنياً لا رجاء)

وقال آخر في الترجيح بين الخوف والرجاء: (من ترجح خوفه على رجائه وقع في زمهرير الأفكار، ومن ترجح رجاؤه زل عن الصراط في جحيم الاغترار. وصفة الحق العدل شديد العقاب ذي الطول، فعقابه أوجب له جناح الخوف، وفضله أوجب له جناح الرجاء)([14])

وقال آخر في الدعوة للموازنة بين الخوف والرجاء: (مثال الخوف والرجاء كمثال الحرارة والبرودة، فمن غلب عليه أحدهما حتى خيف عليه الانحراف والتلف، يداوى بالآخر حتى يرجع إلى حد الاعتدال)([15])

وقال آخر في تأثير كليهما، وضرورته: (القبض والبسط يعني: الخوف والرجاء، فالرجاء يبسط إلى الطاعة، والخوف يقبض عن المعصية)([16])

وقال آخر في بيان العلامة الصادقة لكليهما: (إذا عرف الرجل نفسه علامة الخوف وعلامة الرجاء، فقد استمسك بالأمر الوثيق. وعلامة الخوف: هي اجتناب ما نهى الله عنه، وأما علامة الرجاء: فهي العمل بما أمر الله به)([17])

وقال آخر في ضرورة الجمع بينهما: (لا يكون رجاء بلا خوف، لأن من رجا أن يصل إلى شيء خاف أن يفوته.. والرجاء بلا خوف أمن، والخوف بلا رجاء قنوط)([18])

وقال آخر: (لا يكون رجاء بلا خوف؛ لأن من رجا أن يصل إلى شيء خاف أن يفوته، وحسن الظن بالله تعالى معرفته بجميل صفاته، ثم أمل به من حيث هو لا من حيث العبد علماً منه بأن من صفاته محسن، كريم، رحيم، لطيف، رؤوف. وحسن الظن بالله تعالى تعليق الهمم على ما سبق من نظر العناية، ونظر القلب إلى الرب بلا تطميع للقلب ولا تمنيته الأرواح. وطمع العامة نهايات، أكثر أسبابه صدق عليه اسم الرجاء، ومتى انخرمت عليه أكثر أسبابه فاسم الطمع أولى به من اسم الرجاء. والرجاء بلا خوف أمن، والخوف بلا رجاء قنوط)([19]).

وقال آخر في بيان كيفية الجميع بينهما: (إذا أردت أن ينفتح لك باب الرجاء، فاشهد ما منه إليك.. وإذا أردت أن ينفتح لك باب الخوف، فاشهد ما منك إليه)([20]).

وقد علق بعضهم على هذا بقوله: (الرجاء والخوف حالان عن مشاهدتين، فمن أراد أن يفتح له باب الرجاء، فليشهد ما من الله له من الفضل والكرم والإسعاف والألطاف، فسيغلب عليه حينئذ حال الرجاء.. ومن أراد أن يفتح له باب الخوف، فليشهد ما منه إلى الله تعالى من المخالفة والعصيان وسوء الأدب بين يديه، فسيغلب عليه حينئذ حال الخوف)([21])

وقال آخر: (الرجاء هو ما هاج من الطمع والأمل في الله تعالى، فسخي نفس العاصي بالتوبة، وحال بينه وبين القنوط، وبعث العبد على الطاعة لله تعالى والتشمير والاجتهاد رجاء ما وعد العاملين.. والغرة: خدعة من النفس والعدو بذكر الرجاء بالتوحيد، أو بالآباء الصالحين، أو بعمل قليل ضعيف، فتطيب نفسه بتلك الخدعة، حتى تهون عليه ذنوبه لظنه أنها مغفورة)([22])

 وقال آخر: (كونوا دائماً بين الخوف والرجاء، فالخوف أن يخاف القلب من الله لما علم من ذنوبه، والرجاء سكون الفؤاد بحسن الوعد)([23])

وقال آخر: (الرجاء ثلاثة: رجل عمل حسنة، فهو يرجو قبولها. ورجل عمل سيئة ثم تاب، فهو يرجو المغفرة. والثالث الرجل الكاذب يتمادى في الذنوب ويقول: أرجو المغفرة)([24])

وقال آخر: (الرجاء والخوف حالان عن مشاهدتين، فمن أراد أن يفتح له باب الرجاء فليشهد ما من الله له من الفضل والكرم والإسعاف والألطاف، فسيغلب عليه حينئذ حال الرجاء.. ومن أراد أن يفتح له باب الخوف، فليشهد ما منه إلى الله تعالى من المخالفة والعصيان وسوء الأدب بين يديه، فسيغلب عليه حينئذ حال الخوف)([25])

وقال آخر: (العارفون إذا خوفوا رجوا، وإذا رُجُّوا خافوا)([26])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الرجاء والأمل وحسن الظن بالله تتنوع مظاهره وصوره ودوافعه بحسب الدرجة التي يحل فيها السالك مثلها مثل كل المناز، وقد ذكر بعض الحكماء درجات الرجاء، فقال: (الرجاء ثلاثة مراتب: الأولى: الشفاعة مع حالة الإسراف وقلة العمل.. ثانيها: رجاء قبول الأعمال.. ثالثها: رجاء الرحمة وينشأ ذلك من سعة الرحمة والمنة)([27]).

وقال آخر: (الرجاء على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: رجاء يبعث العامل على الاجتهاد، ويولد التلذذ بالخدمة، ويوقظ لسماحة الطباع بترك المناهي.. والدرجة الثانية: رجاء أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفاً تصفو فيه هممهم، برفض الملذوذات، ولزوم شروط العلم، واستقصاء حدود الحمية.. والدرجة الثالثة: رجاء أرباب طيب القلوب، وهو رجاء لقاء الحق عز وجل، الباعث عن الاشتياق، المنغص للعيش، المزهد في الخلق)([28])

وقال آخر: (الرجاء على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: رجاء يبعث العلماء على الاجتهاد في العمل.. والدرجة الثانية: الرجاء بزيادة القرب وزيادة الاصطفاء، وهذا يحصل لأصحاب خوف الإجلال والعظمة، وهم الأنبياء (عليهم السلام).. والدرجة الثالثة: رجاء لقاء الله تعالى، وهذا أيضاً للأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)([29])

هذا جوابي عن أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تنزل هذه المنزلة الرفيعة، فهي دليل معرفتك بربك، فبقدر حسن ظنك به، بقدر محبتك له.. وسترى كيف يكون حسن الظن الصادق دليلا إلى كل هداية وخير.. فمن أحسن ظنه بربه سعى لتهذيب نفسه وإصلاحها حتى يكون لائقا بمن أحسن ظنه به.


([1]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.

([2]) البلد الامين ص 251.

([3]) نهج البلاغة، رقم 158.

([4]) بحار الأنوار: 67/394، وروضة الواعظين.

([5]) بحار الأنوار: 67/399، وعدة الداعي.

([6]) الكافي 8/16.

([7])الكافي 2/67.

([8]) الكافي 2/68.

([9]) الكافي 2/67.

([10])مصباح الشريعة، ص ١٨٠.

([11]) الكافي 2/67.

([12]) الكافي 8/229.

([13]) بحار الأنوار (70/ 352)

([14]) نجم الدين الكبرى، فوائح الجمال وفواتح الجلال، ص 42.

([15]) عبد العزيز الديريني، طهارة القلوب، ص 85.

([16]) السراج الطوسي، اللمع في التصوف، ص 343، 344.

([17]) عبد الحكيم عبد الغني قاسم، المذاهب الصوفية ومدارسها، ص 97.

([18]) ظهير الدين القادري، الفتح المبين فيما يتعلق بترياق المحبين، ص 39.

([19]) محمد بن يحيى التادفي، قلائد الجواهر، ص 73.

([20]) غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 334.

([21]) غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 334.

([22]) أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي، ص 160.

([23]) أحمد الرفاعي، البرهان المؤيد، ص 71.

([24]) الرسالة القشيرية، ص 105.

([25])ابن عباد الرندي، غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 334.

([26]) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 152 0

([27]) تحفة السالكين ودلالة السائرين لمنهج المقربين، ص48.

([28]) منازل السائرين، ص 34، 35..

([29]) حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب (بهامش قوت القلوب ج 2)، ص 202.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *