الرأفة والرحمة

الرأفة والرحمة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرحمة وحقيقتها ومجالاتها وعلاماتها، وعلاقتها بالنفس المطمئنة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الرحمة من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة؛ فلا يمكن للنفس الممتلئة بالقسوة والغلظة أن تجد الهدوء أو الطمأنينة أو الاستقرار، وكيف يحصل لها ذلك، وهي مرتع الشيطان، ومستقر كل مثالب الإثم والعدوان.

ولهذا كان أكثر الناس مواجهة للأنبياء والأولياء هم أولئك الطغاة المستكبرين المستبدين الذين خلت قلوبهم من الرحمة؛ كما أخبر الله تعالى عن مثالهم وقدوتهم فرعون الذي ذكر الله تعالى جرائمة الناشئة من قسوته، فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]

ومثلهم أولئك الذين سماهم الله تعالى أصحاب الأخدود، وقال عنهم: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 4 – 8]

ومنهم أولئك الذين لم يرض قسوة قلوبهم كل ما صبوه من ألوان الإهانة والتحقير لنبي الله إبراهيم عليه السلام، وإنما أضافوا إليه رميه في النيران، لتناسبها مع النيران التي تغلي في قلوبهم، قال تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 – 70]

وهكذا كان حال جميع الأنبياء عليهم السلام الذي تفنن قساة القلوب من أقوامهم في مواجهتهم وحربهم، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال عنه ربه: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76]

ثم ذكر أن ذلك سنة الأنبياء والصالحين مع أقوامهم، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 77]

وذكر القرآن الكريم مظاهر القسوة الحسية والمعنوية، والتي كانت تنبع من النفوس الأمارة لقوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: 30 – 32]

ولذلك؛ فإن القسوة لا تنسجم مع المؤمن العادي، وفي أدنى درجات إيمانه، فكيف تنسجم مع تلك النفس الراقية الممتلئة بالفضائل، والتي أنعم الله عليها بالسكينة والطمأنينة نتيجة لذلك.

ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن القلوب القاسية أبعد القلوب عن السعادة والفلاح، فقال: (لا تنزع الرّحمة إلّا من شقيّ)([1])

وأخبر أن الله تعالى يعامل عباده بحسب ما يعامل به بعضهم بعضا، فقال: (لا يرحم الله من لا يرحم النّاس)([2])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قبّل الحسن بن عليّ وعنده الأقرع بن حابس التّميميّ جالسا، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال: (من لا يرحم لا يرحم)([3])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن حقيقة الإيمان لا تتحقق إلا في القلوب الرحيمة اللينة المستعدة لتلقي أنواره، فقال: (لن تؤمنوا حتّى ترحموا)، فقالوا: كلّنا رحيم يا رسول الله، قال: (إنّه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنّها رحمة النّاس، رحمة العامّة)([4])

ونفى التبعية له ولأمته عن القساة، فقال: (ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)([5])

وهذا كله يدل على أن الإيمان الحقيقي بالله وبوسائط هدايته لا يكون إلا في القلوب الرحيمة اللينة، وأما غيرها، فهي وإن ادعت الإيمان، فإنه يظل مجرد دعوى، كما قال تعالى عن الأعراب القساة الذين توهموا أنهم بإقامة بعض الشعائر التعبدية قد صاروا من المؤمنين: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]

ولهذا أخبر الله تعالى عن تلك الرحمة التي أودعها في قلوب أتباع المسيح عليه السلام، ليستحقوا بها جميل اتباعه، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ [الحديد: 27]

وسر ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يعود إلى أن الإيمان بالله ورسله والهداة إليه، ينشر قيمه في نفس المؤمن، فيذعن لها، ويتحول سلوكه إلى نسخة موافقة لإيمانه.

ولذلك يستحيل على من يؤمن برحمة الله، ولطفه بعباده، وحلمه عليهم، وحنانه ومودته.. ثم بعد ذلك يكون قاسيا أو غليظا، ذلك أن من مقتضيات عبوديته للرؤوف الرحيم تحليه بالرأفة والرحمة، كما عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (عبد الرؤوف: هو من جعله الله تعالى مظهراً لرأفته ورحمته، فهو أرأف خلق الله بالناس إلا في الحدود الشرعية؛ لأنه يرى الحد وما أوجبه عليه من الذنب الذي جرى على يده بحكم الله وقضائه رحمة منه عليه، وإن كانت ظاهرة نقمة، وهذا مما لا يعرفه إلا خاصة الخاصة بالذوق؛ فإقامة الحد عليه ظاهراً عين الرأفة به باطناً)([6])

ولهذا يرد في القرآن الكريم كثيرا وصف الله تعالى بالرأفة والرحمة، وفي المجالات المختلفة، لا لتتقرر تلك المعاني باعتبارها أوصافا لله تعالى فقط في نفوس المؤمنين، وإنما لتتحول إلى قيم أخلاقية تضبط سلوكهم.

ومن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 143]، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207]، وقوله: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحج: 65]، وغيرها من الآيات الكريمة، والتي تدل على شمول رحمة الله تعالى ورأفته كل شيء..

ومثل ذلك من يؤمن برحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله تعالى وصفه بقوله: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]

بل وصفه بما هو أعظم من ذلك، مما لا يمكن للخيال تصوره، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]

وأخبر عن بعض مظاهر رأفته ورحمته بأصحابه، فقال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شديد الرحمة حتى بأولئك القساة من المشركين الذين كانوا يحاربونه، حتى عاتبه الله تعالى على ذلك فقال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف:6)، وقال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:3)

ونهاه أن يحزن على إعراضهم، فقال: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:176)، وقال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (لقمان:23)

وغيرها من الآيات الكريمة التي بين حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخلق، خوفا عليهم من المصير الذي ينتظرهم في حال الإعراض عنه، كما عبر عن ذلك بقوله: (مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها)([7])

وشبه حاله وحال قومه، فقال: (إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق)([8])

وروي أنه سئل: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ فقال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت. وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثمّ قال: يا محمّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقلت: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا)([9])

وهكذا روي أنه عندما طلب منه الدعاء على المشركين، قال: (إنّي لم أبعث لعّانا، وإنّما بعثت رحمة)([10])

أما رحمته بالمؤمنين، فلا يمكن تصور مقدارها، ولهذا كان يتوقف عن بعض الأعمال التي يحب أداءها خشية أن يتبعوه فيها، ويشقوا على أنفسهم، ومن ذلك ما روي في الحديث أنه: أعتم‏([11]) النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، حتّى ذهب عامّة اللّيل، وحتّى نام أهل المسجد ثمّ خرج فصلّى، فقال: (إنّه لوقتها لو لا أن أشقّ على أمّتي)([12])

وكان يقول: (لو لا أن أشقّ على أمّتي أو على النّاس ـ ما تخلّفت عن سريّة، ولكن لا أجد حمولة([13]) ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشقّ عليّ أن يتخلّفوا عنّي، ولوددت أنّي قاتلت في سبيل الله فقتلت ثمّ أحييت، ثمّ قتلت ثمّ أحييت)([14])

وكان يقصر صلاة الجماعة رحمة بحاجات المصلين، ويقول: (إنّي لأقوم في الصّلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصّبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه)([15])

وحدث بعض أصحابه عن موقف من مواقف رحمته، فقال: (خرج علينا النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلّى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها)([16])

وهكذا كانت كل تشريعاته التي فوضها الله له، تنطلق من الرحمة والسماحة، ومن ذلك قوله: (لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ صلاة)([17])

وكان يقول: (إذا صلّى أحدكم للنّاس فليخفّف، فإنّ في النّاس الضّعيف والسّقيم وذا الحاجة)([18])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن مجالات الرحمة تتسع لكل شيء، كما عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)([19]).

وحدث ابن مسعود قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حمّرة([20]) معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمّرة فجعلت تفرّش‏([21]) فجاء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها) ورأى قرية نمل قد حرّقناها، فقال: (من حرّق هذه؟). قلنا: نحن، قال: (إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلّا ربّ النّار)([22])

وروي أنه دخل دار الحكم بن أيّوب فرأى غلمانا نصبوا دجاجة يرمونها، فقال أنس: (نهى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن تصبر البهائم‏([23]))([24])

وكان يقول محذرا من القسوة مع الحيوانات: (عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض)([25])

وهكذا فإن الرحمة تشمل كل شيء، ابتداء من العلاقة بالمؤمنين التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى)([26])

وانتهاء بالعلاقة بغيرهم، والتي أمر الله تعالى بأن تمتلئ بالبر والقسط، فقال: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]

وانتهاء بالعلاقة بكل الكون.. حتى تتحقق في المؤمن وراثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كونه رحمة للعالمين، وحتى يتحقق بمقضيات إيمانه بسعة الرحمة الإلهية.

لكن كل هذه المجالات ينبغي أن تكون مصونة بالحدود الشرعية، ذلك أن رحمة الظالم قسوة على المظلوم، ورحمة المستكبر قسوة على المستضعف.. لذلك أمر الله تعالى بالتخلي عن الرحمة عندما تنتهك الحرمات، فقال: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2]

ذلك أن الرحمة بأمثال هؤلاء ستملأ مجتمعات المسلمين بالرذائل والانحرافات، لذلك كان العلاج المتناسب معها هو التشدد والقسوة، التي هي في حقيقتها مظهر من مظاهر الرحمة، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

وقسا ليزدجروا ومن يك راحما   فليقس أحيانا على من يرحم

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تتخلق بهذه الأخلاق الربانية والنبوية، لتنزل نفسك تلك المنازل الرفيعة التي حل فيها الأنبياء والأولياء.. فلا يمكنك أن ترتقي إلى تلك المحال المقدسة، وتجلس في تلك المقاعد الممتلئة بالصدق إلا بعد أن تملأ قلبك بما تمتلئ به قلوب الجالسين عليها.


([1]) الترمذي(1923) وأبو داود(4942)

([2]) البخاري [فتح الباري]، 13(7376)، ومسلم(2319)

([3]) البخاري [فتح الباري]، 10(5997) ومسلم(2318)

([4])كتاب الأدب للبيهقي حديث(167)

([5]) الترمذي(1920)، وأحمد(1/ 257)

([6]) كمال الدين القاشاني، اصطلاحات الصوفية، ص 126.

([7]) صحيح مسلم 4/ 1789 ح (2284)

([8]) صحيح مسلم 4/ 1788 ح (2283)

([9]) البخاري [فتح الباري]، 6(3231) ومسلم(1795)

([10]) مسلم(2599)

([11]) أعتم: أخر العشاء حتى اشتد الظلام.

([12]) البخاري [فتح الباري]، 2(569) ومسلم(638)

([13]) الحمولة: بالفتح ما يحتمل عليه الناس من الدواب.

([14]) البخاري [فتح الباري]، 6(2972)، ومسلم(1876)

([15]) البخاري [فتح الباري]، 2(707)، ومسلم(470)

([16]) البخاري [فتح الباري]، 10(5996)، ومسلم(543)

([17]) البخاري [فتح الباري]، 2(887)، ومسلم(252)

([18]) البخاري [فتح الباري]، 2(702) ومسلم(467)

([19]) مسلم(1955)

([20]) الحمرة: طائر صغير يشبه العصفور.

([21]) تفرش: هو أن تفرش جناحيها وتقرب من الأرض وترفرف.

([22]) سنن أبي داود(5268)

([23]) تصبر البهائم: أي تحبس لترمى حتى تموت.

([24]) البخاري [فتح الباري]، 9(5513)، ومسلم(1959)

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) البخاري [فتح الباري]، 10(6011)، ومسلم(2586)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *