الحياء والاحتشام

الحياء والاحتشام

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحياء وحقيقته ومنزلته وثماره ودرجاته وعلاقته بالنفس المطمئنة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الحياء من المنازل الضروية للنفس المطمئنة، والتي لن تتحقق بطمأنينتها إلا بعد تحققها به، وبقدر ذلك التحقق يكون سيرها وترقيها في مراتب الكمال التي أتيحت لها.

وسر ذلك يعود إلى أن الحياء ـ كما عرفه الحكماء ـ هو ذلك (التغيّر والانكسار الذي يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به)‏([1])، أو (هو انقباض النّفس من شي‏ء وتركه حذرا عن اللّوم فيه)‏([2])، أو هو (خلق يبعث على ترك القبح ويمنع من التّقصير في حقّ ذي الحقّ)‏([3])، أو (هو ملكة راسخة للنّفس تدفعها إلى إيفاء الحقوق وترك القطيعة والعقوق)‏([4])

وبذلك؛ فإن لتلك الحالة النفسية التي تعتري صاحبها أثرها الكبير في سلوكه، سواء من ناحية ردعه وزجره عن كل ما لا يليق، أو من ناحية دعوته إلى الترقي، والبحث عن الكمال المتاح له.. وهو ما يرفعه كل حين إلى المراتب العالية التي يحرم منها فاقدو الحياء.

ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كون الحياء من علامات الإيمان، وأركانه الضرورية، فقال: (الحياء من الإيمان، والإيمان في‏ الجنّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النّار)([5])

وقال: (الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)([6])

وقال: (الحياء والعيّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النّفاق)([7])

وكل هذه الأحاديث تشير إلى أن الحياء ليس مجرد قيمة أخلاقية، وإنما هو نتيجة ضرورية للمعارف الإيمانية.. فمن تحقق بالإيمان تحقق بالحياء، ضرورة، ومن دون تكلف.

وإن شئت مثالا يقرب لك ذلك، فتصور نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ قد صحبت بعض الناس من دون أن تعرفه، وقمت أمامه ببعض التصرفات المباحة لكن الطبع السليم يأباها، ثم اكتشفت بعد ذلك أن ذلك الذي صحبته من العلماء أو من الصالحين.. فإنك حينها تشعر بالندم لسلوكك ذلك السلوك، بخلاف ما لو كان الشخص عاديا بسيطا.

وسر ذلك يعود إلى أن تعظيمك لذلك العالم والصالح هو الذي جعلك تندم على تلك السلوكات، التي وإن كانت مباحة إلا أنها مخلة بالمروءة، ويأباها الطبع السليم.

ولهذا ورد في الحديث أن رجلا قال: يا رسول الله، أوصني، قال: (أوصيك أن تستحيي من الله عزّ وجلّ كما تستحيي رجلا من صالحي قومك) ([8])

ولهذا، فإن المعرفة بالله، ورقابته الدائمة لخلقه، ومثل ذلك المعرفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين من المؤمنين سواء كانوا من البشر أو من الملائكة، والذين ورد النص على رؤيتهم لأعمال المؤمنين، يجعل من العارف بذلك دائم الحياء، ولهذا دعا الله تعالى إلى استشعار هذه الرؤية والرقابة، فقال: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105]

وهذه الرقاية التي يدفع إليها الحياء، تجعل صاحبها مقبلا على كل خير، مدبرا عن كل شر، ولهذا ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعه فإنّ الحياء من الإيمان)([9])، وفي حديث آخر: (الحياء لا يأتي إلّا بخير)([10])

ولهذا تقترن الجرأة على المعاصي بفقدان الحياء، ذلك أنه الجدار الحامي عنها، فمن كسر الجدار، صار في صحبة الشيطان، وسهل عليه أن يمارس كل المعاصي، ويشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أول ما ينزع الله من العبد الحياء، فيصير ماقتاً ممقّتاً، ثم ينزع منه الأمانة، ثم ينزع منه الرحمة، ثم يخلع دين الإسلام عن عنقه، فيصير شيطاناً لعيناً)([11])

وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (من عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الّذي هو مادّة حياة القلب.. ذلك أنّ الذّنوب تضعف الحياء من العبد، حتّى ربّما انسلخ منه بالكلّيّة حتّى إنّه ربّما لا يتأثّر بعلم النّاس بسوء حاله، ولا باطّلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع.. فإذا رأى إبليس طلعة وجهه حيّاه، وقال: فديت من لا يفلح، ومن لا حياء فيه ميّت في الدّنيا شقيّ في الآخرة، وبين الذّنوب وقلّة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطّرفين، وكلّ منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثا)‏([12])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الحياء مرتبط بكل المنازل والمقامات والمكارم، وهو يعطيها الكثير من الجمال الذي يحفظها، ويزينها، ويترفع بها عن السفاسف التي قد تلحق بها.

ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما كان الفحش في شي‏ء قطّ إلّا شانه، ولا كان الحياء في شي‏ء قطّ إلّا زانه)([13])

ووضح ذلك في حديث آخر، فقال: (إنّ ممّا أدرك النّاس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)([14])، وهو يعني (إذا لم تستح من العيب ولم تخش العار ممّا تفعله فافعل ما تحدّثك به نفسك من أغراضها حسنا كان أو قبيحا، ولفظه أمر، ومعناه توبيخ وتهديد، وفيه إشعار بأنّ الذّي يردع الإنسان عن مواقعة السّوء هو الحياء، فإذا انخلع منه كان كالمأمور بارتكاب كلّ ضلالة، وتعاطي كلّ سيّئة)‏([15])

ولهذا كان من صفات الكمال، التي لا يتحلى بها إلا من كملت نفسه، وتنزهت وتهذبت عن السفاسف، بل إن رسو الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه من صفات الله تعالى، فقال: (إنّ ربّكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه يدعوه أن يردّهما صفرا، ليس فيهما شيء)([16])

وأخبر عن حب الله له، ففي الحديث أنه قال لبعض أصحابه: (إنّ فيك خلّتين يحبّهما الله عزّ وجلّ.. الحلم والحياء)([17])

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو معدن الأدب وإكسيره، وشمس الأخلاق الطيبة ونورها، مشهورا بالحياء، معروفا به عند كل من صحبه ورآه، وقد قال أبو سعيد الخدري يصفه: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه)([18])

وعن أنس قال: (كان رسول الله r قل ما يواجه الرجل بشئ يكرهه، فدخل عليه يوما رجل وعليه أثر صفرة، فلما قام قال لأصحابه: لو غير، أو نزع هذه الصفرة) ([19])

وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بلغه عن رجل شيئا لم يقل له: قلت: كذا وكذا قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)([20])

وعن سهل بن سعد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حييا لا يسأل عن شئ إلا أعطى([21]).

وعن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خافض الطرف، جل نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة([22]).

وعن عائشة قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخطب، فحمد الله تعالى، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشئ أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله تعالى، وأشدهم له خشية)([23])

وكل هذه الأحاديث وغيرها يشهد لها قوله تعالى في وصف حياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن حقيقة الحياء، تجعله مرتبطا بكل الأعمال الظاهرة والباطنة، ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (استحيوا من الله حقّ الحياء)، فقيل له: يا رسول الله إنّا نستحيي والحمد لله، قال: (ليس ذاك، ولكنّ الاستحياء من الله حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء)([24])

ويروى عن الإمام الصادق أنه قال: (الحياء خمسة أنواع: حياء ذنب، وحياء تقصير، وحياء كرامة، وحياء حب، وحياء هيبة، لكل واحد من ذلك أهل ولأهله مرتبة على حدة)([25])

وقسم بعض الحكماء الحياء إلى عشرة أنواع، وهي: (حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استحقار النّفس واستصغارها، وحياء محبّة، وحياء عبوديّة، وحياء شرف وعزّة، وحياء المستحيي من نفسه) ([26])

ثم فسرها، فقال: (أما حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السّلام لمّا فرّ هاربا في الجنّة. قال الله تعالى: (أ فرارا منّي يا آدم؟) قال: لا يا ربّ. بل حياء منك.. وحياء التّقصير: كحياء الملائكة الّذين يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك.. وحياء الإجلال: وهو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربّه يكون حياؤه منه.. وحياء الكرم: كحياء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من القوم الّذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطوّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا.. وحياء الاستحقار، واستصغار النّفس‏ كحياء العبد من ربّه عزّ وجلّ حين يسأله حوائجه، احتقارا لشأن نفسه، واستصغارا لها.. وأمّا حياء المحبّة: فهو حياء المحبّ من محبوبه، حتّى إنّه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحسّ به في وجهه ولا يدري ما سببه.. وأمّا حياء العبوديّة: فهو حياء ممتزج من محبّة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديّته لمعبوده، وأنّ قدره أعلى وأجلّ منها. فعبوديّته له توجب استحياءه منه لا محالة.. وأمّا حياء الشّرف والعزّة: فحياء النّفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان. فإنّه يستحيي مع بذله حياء شرف نفس وعزّة.. وأمّا حياء المرء من نفسه: فهو حياء النّفوس الشّريفة العزيزة الرّفيعة من رضاها لنفسها بالنّقص، وقناعتها بالدّون. فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتّى كأنّ له نفسين، يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء. فإنّ العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر)([27])

وذكر آخر بعض أنواع الحياء، فقال: (الحياء: هو تعظيم الله عز وجل بدوام ذكره، والتزام أمره ونهيه، والإمساك عن الشكوى إلى غيره. فلا يتسخط فيما يضاد الطباع مما تجري به الأحكام، ولا ينبسط في تضييع الحرمات وتبذير الأوقات)([28])

وقال آخر: (الحياء: هو جلباب الجمال يمنع الإنسان من تعدي الحدود التي تعارف على وجودها الناس)([29])

وأما درجات الحياء، فهي ـ مثل سائر المنازل ـ تختلف بحسب المرتبة التي يترقى فيها السالك في عالم المعرفة؛ فكلما كانت معرفته أعظم كان حياؤه أشد، وقد قال بعضهم معبرا عن مجامع تلك الدرجات: (الحياء على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم العبد، بنظر الحق إليه فيجذبه إلى تحمل المجاهدة، ويحمله على استقباح الجناية، ويسكته عن الشكوى.. الدرجة الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب، فيدعوه إلى ركوب المحبة، ويربطه بروح الأنس، ويكره إليه ملابسة الخلق.. لدرجة الثالثة: حياء يتولد من شهود الحضرة، وهي التي تشوبها هيبة، ولا تقاويها تفرقة، ولا يوقف لها غاية)([30])

وقال آخر: (الحياء على ثلاثة أقسام هي: حياء العام: وهو من التقصير.. حياء الخاص: وهو من الإسراف.. وحياء الأخص: وهو من الجلال)([31])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تتحلى بهذا الخلق العظيم، لتنزل منازل المقربين المكرمين؛ فلا ينزل منازلهم إلا من كان حييا مؤدبا مهذبا صاحب خلق رفيع.


([1]) الفتح(1/ 52)

([2]) التعريفات(94)

([3]) رياض الصالحين(272)

([4]) دليل الفالحين(3/ 158)

([5]) الترمذي(2009)، والحاكم (1/ 52)

([6]) الحاكم(1/ 22) والإيمان لابن أبي شيبة(7)

([7]) الترمذي(2027)

([8]) الزهد لأحمد (ص 46)، والشعب للبيهقي (2/ 462)

([9]) البخاري [فتح الباري]، 10(6118)، ومسلم(59)

([10]) البخاري [فتح الباري]، 10(6117) ومسلم(37)

([11]) بحار الأنوار: 68/335، ومعاني الأخبار ص410.

([12]) الداء والدواء(131 ـ 133)

([13]) الترمذي(1974) وابن ماجه(4185)

([14]) البخاري [فتح الباري]، 10(6120)

([15]) النهاية(5/ 471)

([16]) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي في الدعوات، والحاكم.

([17]) رواه أحمد، وابن ماحه.

([18]) رواه البخاري ومسلم.

([19]) رواه أحمد وأبو داود، والبخاري في الأدب.

([20]) رواه أبو داود.

([21]) رواه عبد بن حميد، وأبو الشيخ.

([22]) رواه البيهقي.

([23]) رواه البخاري في الأدب المفرد.

([24]) الترمذي (2458)

([25]) نقلا عن: العالم الفكري للإمام جعفر الصادق، ص 317.

([26]) مدارج السالكين (2/ 251)

([27]) مدارج السالكين(2/ 272) بتصرف.

([28]) ميزاب الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التيجانية، ص 131.

([29]) محمد غازي عرابي، النصوص في مصطلحات التصوف، ص 105.

([30])منازل السائرين، ص 54، 55

([31])جامع الأصول في الأولياء، ج 1 ص 201.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *