الحب المقدس

الحب المقدس

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن حب الله، وحقيقته، ومنزلته، وأسبابه الميسرة لتحصيله، وعلاقته بالنفس المطمئنة ومراتبها، وعلاقته بعد ذلك وقبله بالتزكية والترقية.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن محبة الله أشرف المراتب، وأعلاها، وهي أم لكل المكارم، ومن تحلى بها، تحقق بالسعادة التي لا شقاوة بعدها، وبالفرح الذي لا حزن بعده، وبالرضا الذي لا يكتنفه سخط، وبالأنس الذي لا تعتريه وحشة.

ولهذا وصف الله تعالى بها المؤمنين الصادقين، فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]

فانظر كيف بدأ الله تعالى بالمحبة، ثم عقبها بكل تلك الصفات الطيبة، ليدل على أنها البذرة الطيبة التي أثمرت كل تلك الخلال الزكية.

وهكذا أخبر القرآن الكريم عن شدة حب المؤمنين لله، وهو وصف لم يصفهم به إلا في هذا الموضع، للدلالة على أن شرف المحبة بقدر شدتها، قالت تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) (البقرة: 165)

بل إن الله تعالى أخبر أن الإيمان الحقيقي لا يتحقق إلا للمحبين، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]

ولهذا ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان الحقيقي بالمحبة، فقال لمن سأله عن الإيمان: (أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك ممّا سواهما)([1]

وأكد ذلك في حديث آخر، فقال: (لا يؤمن أحدكم حتّى يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما)([2]

وكل ذلك بسبب الآثار العظيمة التي تحدثها المحبة، فبها يتحول الإيمان ومقتضياته من تكاليف شاقة مملوءة بالحرج، إلى معاني رقيقة سامية ممتلئة بكل أصناف الراحة والسعادة، كما عبر الإمام علي عن ذلك بقوله: (حبّ الله نار لا يمرّ على شي‏ء إلّا احترق، ونور الله لا يطلع على شي‏ء إلّا أضاء، وسماء الله ما ظهر من تحته من شي‏ء إلّا غطّاه، وريح الله ما تهبّ في شي‏ء إلّا حرّكته وماء الله يحيى به كلّ شي‏ء، وأرض الله ينبت منها كلّ شي‏ء، فمن أحبّ الله أعطاه كلّ شي‏ء من الملك والملك)([3])

وقال الإمام الصادق معبرا عن منزلة المحب من الدين، وآثارها على النفس: (حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى الله، والمحبّ أخلص الناس سرّا لله وأصدقهم قولا وأوفاهم عهدا وأزكاهم عملا وأصفاهم ذكرا وأعبدهم نفسا يتباهى به الملائكة عند مناجاته وتفتخر برؤيته، وبه يعمر الله تعالى بلاده وبكرامته يكرم الله عباده، يعطيهم إذا سألوه بحقّه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، فلو علم الخلق ما محلّه عند الله ومنزلته لديه لما تقرّبوا إلى الله إلّا بتراب قدميه) ([4])

وقد اتفق على منزلة المحبة، وآثارها التربوية والروحية الكثيرة كل الحكماء والعقلاء، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (إن المحبة للَّه هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة، من ثمارها، وتابع من توابعها، كالشوق، والأنس، والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة، مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها، كالتوبة، والصبر، والزهد وغيرها) ([5])

وقال آخر: (المحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشقّ الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوّؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تاللّه لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب) ([6])

واتفقوا على أن تلك المشاعر الرقيقة التي يجدها المحبون لله، هي التي تعطي الطعم الحقيقي للدين؛ فالدين الخالي من المحبة مجرد رسوم وطقوس، قد تحرك الجسد، لكنها لا تصل إلى القلب.

وقد عبر بعضهم عن ذلك، فقال: (إنّ من خلق الله تعالى خلقا ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدّنيا)

وقال آخر: (المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة، ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة، وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة)

وقال آخر: (عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه، ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه، وحبه يدهش العقول فكيف وده، ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه)

وقال آخر: (مثقال خردلة من الحبّ أحبّ إلى الله من عبادة سبعين سنة بلا حبّ)

وقال مخاطبا ربه:(إلهي إنّي مقيم بفنائك، مشغول بثنائك صغيرا أخذتني إليك وسربلتني بقربك، وشرّفتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني في الأحوال، وقلبتني في الأعمال سترا وتوبة وزهدا وشوقا ورضا وحبّا فسقيتني من حياضك ونعّمتني في رياضك ملازما لأمرك ومشعوفا بقولك ولما طرّ شاربي ولاح طائلي فكيف أنصرف اليوم عنك كبيرا وقد اعتدت هذا منك صغيرا فلي ما بقيت حولك زمزمة وبالضراعة إليك همهمة، لأنّي احبّك وكلّ حبيب بحبيبه مشعوف، وعن غير حبيبه مصروف)

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المحبة المقدسة المقصودة في هذه النصوص ليس ما يتوهمه الناس من ادعائهم محبة الله، مع الانشغال التام عنه، وعن ذكره وطاعته.. فذلك مجرد دعوى، وليس كل دعوى بصادقة، ولذلك قال بعض الحكماء: (إذا قيل لك أ تحب اللَّه تعالى فاسكت، فإنك إن قلت لا كفرت، وإن قلت نعم فليس وصفك وصف المحبين، فاحذر المقت)

فالمحبة الصادقة لا يمكن ألا تنشئ آثارها في السلوك والمواقف وكل شيء، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

و كلّ يدّعى وصلا بليلى.. وليلى لا تقر لهم بذاك

إذا اشتبكت دموع في عيون.. تبيّن من بكى ممّن تباكى

وقال آخر:

تعصى الإله وأنت تظهر حبه.. هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته.. إن المحب لمن يحب مطيع

ولهذا شرط الله تعالى على المدعين لمحبة الله اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه يستحيل على من يدعي محبة أحد ألا يحب رسوله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]

وقد عبر بعض الحكماء عن ضرورة ذلك، فقال: (اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد، وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس، مهما ادعت محبة اللَّه تعالى، ما لم يمتحنها بالعلامات، ولم يطالبها بالبراهين والأدلة. والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب، واللسان، والجوارح، وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار، ودلالة الثمار على الأشجار) ([7])

ومن تلك الثمار التي تدل على المحبة، والتي تُمتحن بها النفس لتثبت صدق دعواها، [حب لقاء الله]، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، فقيل له: إنا لنكره الموت، فقال: (ليس ذاك؛ ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيءٌ أحب إليه مما أمامه؛ فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه؛ فكره لقاء الله وكره الله لقاءه) ([8])

وقبل ذلك يدل عليه قوله تعالى مخاطبا اليهود: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 94، 95]

ثم بين علة ذلك، فقال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 96]

وهي تدل على أن كراهتهم للموت ناشئة من حرصهم الشديد على الحياة، وليس طلبا للاستزادة من أعمال الخير؛ ذلك أنها لا تدل على كراهية لقاء الله.

ولهذا اعتبرها الحكماء من الأسباب المشروعة لكراهة الموت، ذلك أنه لا يكرهه لذاته، ولكونه محل اللقاء، وإنما (يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء اللَّه، فذلك لا يدل على ضعف الحب، وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره، ويعد له أسبابه، فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل، خفيف الظهر عن العوائق. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلا، وعلامته الدؤوب في العمل، واستغراق الهم في الاستعداد) ([9])

ومن علامات المحبة الصادقة الاجتهاد في الطاعة، وإيثارها على أهواء النفس، (فيلزم مشاق العمل، ويجتنب اتباع الهوى، ويعرض عن دعة الكسل. ولا يزال مواظبا على طاعة اللَّه، ومتقربا إليه بالنوافل، وطالبا عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه) ([10])

كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

و أترك ما أهوى لما قد هويته.. فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي

ومن علامات المحبة الصادقة كثرة ذكر الله تعالى، فـ (لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئا أكثر بالضرورة من ذكره، وذكر ما يتعلقه به، فعلامة حب اللَّه حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه، وحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وحب كل من ينسب إليه؛ فإن من يحب إنسانا يحب كلب محلته، فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتنف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه، وذلك ليس شركة في الحب، فإن من أحب رسول المحبوب لأنه رسوله، وكلامه لأنه كلامه، فلم يجاوز حبه إلى غيره، بل هو دليل على كمال حبه. ومن غلب حب اللَّه على قلبه أحب جميع خلق اللَّه، لأنهم خلقه، فكيف لا يحب القرءان، والرسول، وعباد اللَّه الصالحين) ([11])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن حقيقة المحبة التي سألت عنها، هي نفس تلك المشاعر التي تجدها في نفسك عندما تميل إلى أي شخص أو شيء ميلا شديدا، بحيث لا تريد أن يفارقك، مع شعورك بالراحة التامة عند لقائك به، أو حصولك عليه، وبالشوق الشديد عند غيابه عنك، أو فقدانك له.

فالمحبة واحدة.. والعبرة بالوجهة التي تتوجه إليها.. فبحسب القبلة التي يتوجه لها الحب يكون حاله.. وبحسب لباسه يكون شكله.. فإن توجه إلى قبلة الجمال والخلود والسمو ظفر بسلام الحب ولذته وجميع نشواته.. وإن توجه إلى قبلة الدمامة المصبوبة في قوالب الجمال، والفناء المتستر بأوهام الخلود، والانتكاسة المصورة في صورة الرفعة، ظفر بالحب المملوء بالصراع والذلة والجنون.

ولذلك أجاب الإمام الصادق من سأله عن العشق، فقال: (قلوب خلت عن ذكر الله، فأذاقها الله حب غيره) ([12])

ولذلك؛ فإن الفرق بين الحب المقدس والحب المدنس، ليس في حقيقة الحب، ولكن في القبلة التي يتوجه إليها، والثمار التي يثمرها.

أما قبلة الحب المدنس، فهي تلك الأهواء المزينة له، والتي سرعان ما تتحول إلى عذاب يتعذب به في الدنيا قبل الآخرة، وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (انقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق، فإنه كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما، حتى يرد بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال. بل هذا بعينه هو أحد أنواع، عذاب الميت، فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه، فصار يعشق ماله، وعقاره، وجاهه، وولده، وأقاربه، ومعارفه، ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو، استرجاعه منه فما ذا ترى يكون حاله؟ ليس يعظم شقاؤه، ويشتد عذابه، ويتمنى ويقول ليته لم يكن لي مال قط، ولا جاه قط، فكنت لا أتأذى بفراقه؟ فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعه واحدة.. فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا، فتؤخذ منه الدنيا وتسلّم إلى أعدائه، ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسّره على ما فاته من نعيم الآخرة، والحجاب عن اللّه عز وجل، فإن حب غير اللّه يحجبه عن لقاء اللّه والتنعم به، فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته، وحسرته على ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد، وذل الرد والحجاب عن اللّه تعالى) ([13])

وبخلاف ذلك الحب المقدس، الذي هو حب الله تعالى، وما ينتج عنه من حب للأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم من المؤمنين؛ فإنه حب مبارك، مملوء بالثمار الطيبة، بالإضافة إلى خلوه من كل المنغصات التي تكتنف الحب المدنس.

أما ما سألت عنه من كيفية التحقق بهذا النوع من الحب الشريف؛ فاعلم أن لذلك طريقين:

أولهما، وأشرفهما: المحبة الذاتية، والتي تنطلق من معرفة المحبوب وكماله وجماله وعظمته.. وبقدر تلك المعرفة تكون المحبة.. وهل هناك أعظم أو أكمل أو أجمل من الله تعالى؛ ولذلك فإن الثمرة الضرورية لصدق المعرفة به، هي صدق المحبة له.

وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك:

هب الرسل لم تأت من عنده.. ولا أخبرت عن جمال الحبيب

أليس من الواجب المست.. حق محبته في اللقا والمغيب

فمن لم يكن عقله آمرا.. بذا. ما له في الحجى من نصيب

وإن العقول لتدعو إلى.. محبة فاطرها من قريب

أليست على ذاك مجبولة.. ومفطورة لا بكسب غريب

أليس الجمال حبيب القلوب.. لذات الجمال، وذات القلوب

أليس جميلا يحب الجمال.. تعالى إله الورى عن نسيب

أما بعد ذلك إحسانه.. بداع إليه لقلب المنيب

أليس إذا كملا أوجبا.. كمال المحبة للمستجيب

فمن ذا يشابه أوصافه.. تعالى إله الورى عن ضريب

ومن ذا يكافئ إحسانه.. فيألهه قلب عبد منيب

وهذا دليل على أنه.. إلى كل ذي الخلق أولى حبيب

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بكى شعيب من حب الله عزوجل حتى عمي، فرد الله عز وجل عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى الله إليه: ياشعيب إلى متى يكون هذا؟ أبدا منك؟ إن يكن هذا خوفا من النار فقد آجرتك، وإن يكن شوقا إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أنى مابكيت خوفا من نارك، ولا شوقا إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أوأراك) ([14])

وهو ما عبر عنه بعض الصالحات عندما سئلت عن حقيقة محبتها، فقالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه، ثم أنشدت:

أحبك حبين حب الهوى  وحباً لأنك أهْلٌ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى  فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له  فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي  ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

وأما الطريق الثاني للمحبة؛ فهو علمك بأن جميع مصالحك في الدنيا والآخرة مرتبطة به، فلولاه ما كان لك وجود، ولا كان لك أي شيء.. ومن عرف نفسه وعرف ربه علم (أنه لا وجود له من ذاته، وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله، فهو المخترع الموجد له وهو المبقي له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد)([15])

ثم هو بعد هذا الوجود المستفاد من الله هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، ثم هو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل، فليس في الوجود من يقوم بنفسه إلا الله الذي هو قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به.

فلهذا إذا أحب العاقل ذاته أحب من يقوم بها، فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، فالمحبة ثمرة المعرفة تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوّتها.

ومثال هذا المبتلى بحرّ الشمس، فإنه لما كان يحب الظل، فإنه بالضرورة يحب الأشجار التي بها قوام الظل، (وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإنّ الكل من آثار قدرته، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر) ([16])

ويدل لهذا ما جبلت عليه القلوب من حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، كما قال الشاعر معبرا عن ذلك:

وَقّيَّدْتُ نفسي في ذراك محبةً  ومن وجدَ الإِحسانَ قيداً تقيدا

وقال الآخر:

أحسنْ إلى الناسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهمُ  فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ
من جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطبةً  إليه والمالُ للإنسانِ فتانُ

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى ذلك:(إن استطعت أن لا يكون لفاجر عندك يدا فافعل)([17])

وكان مما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه:(اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي:﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22])([18])

ولذلك؛ فإن الذي يتأمل في النعم التي أغدقت عليه، سيكتشف أنه ليس هناك من نعمة في الوجود إلا والله سببها الأول والمباشر.. فالله هو المحسن الوحيد، وكل من عداه محسن إليه.. وقد قال الله تعالى يذكر ذلك:﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ (النحل:53)

وأخبرنا عن استحالة عدنا لنعمه علينا، فقال:﴿ َآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ (ابراهيم:34)

وهكذا فإن كل إحسان ورد إليك من أي واسطة من الوسائط ليس إلا إحسانه، وفضله، كما أن الملك إذا أمر بعض خدمه بأن يهبك ما تشاء من الأموال والقصور وأنواع المتاع.. لم يكن ذلك النعيم من الخدم، وإنما من الملك.. أما الخادم فليس إلا عبد مأمور.

هذا جوابي على أسئلك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تظفر بهذه المنزلة الرفيعة من منازل النفس المطمئنة؛ فهي وحدها من يزكي نفسك، ويطهرها، ويرفعها إلى أعلى درجات الكمال.. وفوق ذلك كله يحميها من كل تلك المهالك التي يوقع فيها الحب المدنس الممتلئ بالمثالب والعيوب والأمراض.

 ..

..

..


([1]) رواه أحمد ج 4 ص 11.

([2]) رواه النسائي ج 8 ص 94، وأحمد ج 3 ص 172.

([3]) مصباح الشريعة، ص192.

([4]) مصباح الشريعة، ص192.

([5]) إحياء علوم الدين (4/ 294)

([6]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 8)

([7]) إحياء علوم الدين (4/ 329)

([8]) البخاري (ح6142)، ومسلم (2683 و2684)

([9]) إحياء علوم الدين (4/ 331)

([10]) إحياء علوم الدين (4/ 331)

([11]) إحياء علوم الدين (4/ 331)

([12]) أمالي الصدوق: 396.

([13]) إحياء علوم الدين (4/ 501)

([14]) بحار الأنوار (12/ 380)

([15]) الإحياء: 4/301.

([16]) الإحياء: 4/301.

([17]) الفردوس بمأثور الخطاب.

([18]) رواه أبو أحمد العسكري.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *