التوبة النصوح

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التوبة النصوح، وحقيقتها، ومنزلتها، وهل هي خاصة بأصحاب النفوس اللوامة، أم أنها من منازل النفوس المطمئنة.
وذكرت لي في نهاية سؤالك أنك سمعت بعض من يدعي المعرفة يذكر في مجلس من المجالس أن التوبة وأركانها منزلة القاصرين الجاهلين بربهم، وأما العارفون؛ فيرتقون إلى تلك الدرجات التي يتنزهون فيها عن التوبة، ومعانيها..
وأنه ذكر في حديثه اختصار التوبة في الاعتراف بالذنب، وسؤال المغفرة دون عهد أوعزم بعدم العودة إليه، لأن العودة إلى الذنب لا تتفق مع الخلق الجديد، فالإنسان لا يعود إلى الذنب بل يعود إلى مثله..
وذكرت لي أنه لم يكتف بذلك، بل اعتبر التوبة إن لم تكن إشراكاً يثبت فيه العبد فعله بجانب وجود الحق وفعله، فهي على الأقل تقاربه، ولذلك عرف التوبة بأنها: (التبري من الحول والقوة بحول الله وقوته)، وذكر أن (يوم التغابن فيقول فاعل الشر: ياليتني فعلت خيراً، ويقول فاعل الخير: يا ليتني زدت.. أما العارف فلا يقول شيئاً فإنه ما تغير عليه حال كما هو في الدنيا كذلك هو في الآخرة)
ثم ذكرت لي أنه ختم حديثه بأن (التوبة المشروعة: هي التوبة من المخالفات، والتوبة الحقيقية هي التبري من الحول والقوة بحول الله وقوته)([1])
وجوابا على سؤالك الوجيه، والإشكال الذي طرحته، أذكر لك أن المرجع في التعرف على الحقائق والقيم والدرجات المصادر المعصومة، دون غيرها من المصادر المختلطة التي حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دخنها.
وعندما تعود إلى تلك المصادر نجدها تذكر التوبة بأركانها جميعا، وبحقيقتها الشرعية، ولا تعتبر غيرها.. وحتى في المنازل الرفيعة يبقى لها معناها، وإن كان يختلف عمقها ودرجتها.
وذلك مثل الثوب الذي يصاب بأوساخ كثيرة؛ فإنك إن غسلته وطهرته من أكثر أوساخه، يكون قد تطهر بالنسبة لما كان عليه، ولكنه يظل متسخا بالنسبة للثوب الجديد الذي لم يصبه أي دنس..
وبما أن النفس المطمئنة تسير تصاعديا في سلم الكمال؛ فإنها تكتشف كل حين قصورا ونقصا، لأنه لا يسير إلى الكمال إلا من شعر بالنقص والقصور.
ولذلك أخبر الله تعالى عن توبته على أشرف خلقه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسارعته كل حين للتوبة، وذلك لا يعني سوى الترقي في مراتب الكمال، الذي يشعر صاحبه بقصوره في الدرجة التي كان فيها.
وقد قال بعض الحكماء معبرا عن ذلك: (توبة الرسل والأنبياء عليهم السلام ليست من ذنب ولا من نقص، فإنهم الأكملون في أنفسهم، المكملون غيرهم فلهذا نقول: التوبة لا تستلزم الذنب والمخالفة لأمر الله تعالى.. فقد يكونان مما يراه التائب غير لائق بجلال مولاه بحسب مرتبة التائب ومقامه، ومرتبة علمه بجلال إلهه وعظمته، وحقارة العبودة وافتقارها، وإن لم يكن ذلك الأمر ذنباً منهياً عنه، وأكمل الخلق علماً بهذا وقياماً بمقتضاه الأنبياء عليهم السلام، ولهذا ترى الأنبياء عليهم السلام يتوبون ويستغفرون من أشياء هي عند الأولياء من أكبر القربات، فضلاً عن عامة المؤمنين، وانظر إلى ذنوبهم التي يذكرونها عند طلب الخلائق منهم الشفاعة يوم القيامة تعرف هذا. فعلو مقامهم، وكمال علمهم بجلال الله اقتضى لهم ذلك. ولما رأوا ذلك ذنباً وتابوا واستغفروا منه تركهم الحق تعالى على ذلك وقال لهم: غفرت لكم. والمغفرة على ضربين: ضرب هو الستر عن العقوبة، وضرب هو الستر عن الوقوع في الذنب)([2])
ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ أو أولئك الجمع الذي التفوا حول من ذكرت، تركوه وعادوا لأئمة الهدى الذين أمرنا باتباع هديهم، وحماية ديننا من وساوس الشيطان وإلهاماته بهم، لوجدوا عندهم الحقائق التي لم تتدنس، ولم تتبدل، ولم تعرض لها الأهواء.
وقد روي أن بعضهم قال بحضرو الإمام علي: (أستغفر الله)، فقال له الإمام علي: (ثكلتك أمّك، أ تدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين، وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، والثّاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الّذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله) ([3])
هذه هي التوبة الحقيقية الصادقة النصوح، وهذه المعاني هي التي تزكي النفس وتطهرها وترتقي بها.. وليس تلك المعاني التي تملأ النفس بالكسل والدعاوى والعريضة..
وهذه المعاني هي التي أرادها القرآن الكريم عندما وضع الشروط الكثيرة لتحقق التوبة، ونصحها، وصدقها، فقد قال الله تعالى:﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ (آل عمران)
فقد قرن الله تعالى في الآية الكريمة الاستغفار بعدم الإصرار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) ([4])
وذلك لا يعني العصمة من الذنوب، أو عدم العودة إليها؛ فقد يصر الشخص على شيء ويعزم عليه، ولكنه ينكث عزمه.. فالمراد هو أن يعاهد الله أن لا يقع في الذنب بجزم وتأكيد، فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى الاستغفار من جديد..
أما أن يكتفي بالاعتراف دون أن يعاهد الله على عدم العود، أو دون الاجتهاد في ذلك؛ فإنه نوع من السخرية بالتوبة.. وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى تلك التوبة بتوبة المستهزئين، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) ([5])
وعن الإمام الرضا أنه قال: (مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرّك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه) ([6])
وقال: (سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار ولم يترك الشهوات فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) ([7])
وعن الإمام الصادق أنه قال: (رحم الله عبدا لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه، وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، ودليل إلى الهدى، وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التوبة، قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه بالتوبة والإقلاع عمّا حرّم الله، فإنّه يقول: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة) ([8])
وشبه الإمام علي المستغفر بالمستعمل للدواء؛ فإذا كان يستعمله، ويسرف على نفسه بما يسبب له المرض، فإنه لن يشفى أبدا، لأن غرض الاستغفار هو العودة إلى الله، لا مجرد حركة اللسان، فقد روي عنه أنه قال: (الذنوب الداء والدواء الاستغفار، والشفاء أن لا تعود) ([9])
كما أنها تشمل ذلك الشعور الذي يعتري المقربين؛ فيجعلهم يستغفرون الله، ويتوبون إليه، لا لذنب اقترفوه، ولا لغفلة طرأت عليهم.. وإنما لذلك الحياء والهيبة التي تعتريهم في صحبة ربهم؛ فتشعرهم بجلاله وجماله وكماله؛ فلا يملكون معها إلا الانحناء تواضعا له، وشعورا بالتقصير في حقه.
وقد ذكر الإمام الصادق درجات التوبة.. وأنها تشمل جميع النفوس، وفي كل المراحل، فقال: (كل فرقة من العباد لهم توبة.. فتوبة الأنبياء: من اضطراب السر.. وتوبة الأولياء: من تلوين الخطرات.. وتوبة الأصفياء: من التنفيس.. وتوبة الخاص: من الاشتغال بغير الله.. وتوبة العام: من الذنوب، ولكل واحد منهم معرفة وعلم في أصل توبته، ومنتهى أمره)([10])
وهكذا اتفق الحكماء على ذلك، وقد قال بعضهم في ذلك: (التوبة نعمة من الله أنعم بها على هذه الأمة دون غيرها ولها أربع مراتب: فالأولى: مختصة باسم التوبة، وهي أول منـزل من منازل السالكين، وهي للنفس الأمارة، وهذه مرتبة عوام المؤمنين: وهي ترك المنهيات، والقيام بالمأمورات، وقضاء الفوائت، ورد الحقوق، والاستحلال من المظالم، والندم على ما جرى، والعزم على أن لا يعود.. والمرتبة الثانية، الإنابة: وهي للنفس اللوامة، وهذه مرتبة خواص المؤمنين من الأولياء. والإنابة إلى الله: بترك الدنيا، والزهد في ملاذها، وتهذيب الأخلاق، وتطهير النفس بمخالفة هواها، والمداومة على جهادها. فالنفس إذا تحلت بالإنابة دخلت في مقام القلب واتصفت بصفته، لأن الإنابة من صفات القلب، قال تعالى: ﴿وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ﴾.. والمرتبة الثالثة: الأوبة، وهي للنفس الملهمة، وهذه مرتبة خواص الأولياء. والأوبة إلى الله من آثار الشوق إلى لقائه، فالنفس إذا تحلت بالأوبة دخلت في مقام الروح. ومن أمارات الأواب المشتاق: أن يستبدل المخالطة بالعزلة، ومنادمة الأخدان بالخلوة، ويستوحش عن الخلق ويستأنس بالحق، ويجاهد نفسه في الله حق جهاده ساعياً في قطع تعلقها عن الكونين.. والمرتبة الرابعة: وهي للنفس المطمئنة، وهذه مرتبة الأنبياء وأخص الأولياء)([11])
وقال آخر: (التوبة على ثلاثة أقسام: أولها من الخطأ إلى الصواب، وثانيها من الصواب إلى الأصوب، وثالثها من الصواب ذاته إلى الحق.. فالتوبة من الخطأ إلى الصواب: كقوله تعالى: ﴿والَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أوظَلَموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَروا اللَّه فاسْتَغْفَروا لِذُنوبِهِمْ﴾.. والتوبة من الصواب إلى الأصوب: هي ما قاله موسى عليه السلام: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾.. والتوبة من النفس إلى الحق: ما قاله النبي: (وإنه ليغان على قلبي وأني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة)([12]))([13])
وقال آخر: (التوبة على ثلاثة أقسام: توبة بالأقوال، وتوبة بالأفعال، وتوبة بالأحوال.. توبة العوام: من النيات.. وتوبة الخواص: من رؤية الحسنات.. وتوبة خواص الخواص: مما سوى الله.. وفوق ذلك: فناء وبقاء)([14])
ولهذا ذكروا أن للتوبة ارتباط بكل المنازل، ذلك أن كل من ترقى درجة من الدرجات، يكتشف القصور الذي كان في المنازل التي كان فيها، فيبادر إلى إصلاحها، ويستغفر الله من تقصيره فيها، وقد قال بعضهم في ذلك: (كل المقامات تفتقر إلى التوبة: فالتوبة: تفتقر إلى توبة أخرى بعدم نصوحها.. والخوف: يفتقر إليها بحصول الأمان والاغترار.. والرجاء: بحصول القنوط والاياس.. والصبر: بحصول الجزع.. والزهد: بخواطر الرغبة.. والورع: بتتبع الرخص أوخواطر الطمع.. والتوكل: بخواطر التدبير والاختيار والاهتمام بالرزق.. والرضا والتسليم: بالكراهية والتبرم عند نزول الأقدار.. والمراقبة: بسوء الأدب في الظاهر وخواطر السوء في الباطن.. والمحاسبة: بتضييع الأوقات في غير ما يقرب إلى الحق.. والمحبة: بميل القلب إلى غير المحبوب.. والمشاهدة: بالتفات السر إلى غير المشهود، أوباشتغاله بالوقوف مع شيء من الحس وعدم زيادة الترقي في معاريج الأسرار، ولذلك كان يستغفر في المجلس سبعين مرة أو مائة)([15])
وقال آخر: (مقام التوبة: هو من المقامات المستصحبة إلى حين الموت ما دام مخاطباً بالتكليف أعني التوبة المشروعة، وأما توبة المحققين فلا ترتفع دنيا ولا آخرة، فلها البداية ولا نهاية لها)([16])
وقال آخر: (إن درجات القرب إلى الله تعالى لا نهاية لها في الدنيا ولا في الآخرة، والصحيح أنه لا وصول إلى الله تعالى أبداً، وإنما الجميع سائرون إليه من الأزل إلى الأبد. ومقام التوبة: هو الدخول في هذا السير مع هؤلاء السائرين. وما ثم إلا رفع حجاب ومصادفة حجب أخرى خلفها. والتجليات لا نهاية لها، والحجب لا نهاية لها، والكشوفات لا نهاية لها) ([17])
بعد ما عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أوصيك بالعودة كل حين، وفي كل مسألة إلى كلمات ربك، وهدي نبيك، وورثته الذين أوصى بهم.. فالحقائق المعصومة والقيم النبيلة كلها لديهم.. ومن جاءك بشيء غريب فاعرضه عليهم، فإن قبلوه، وإلا فاحذر منه.
ولو أن هؤلاء الذين ذكرت، تأملوا في تلك الأحاديث التي يبثونها، لوجدوا أنهم يهدمون بها الشريعة، وكل مقاماتها الرفيعة.. بل يهدمون معها كل تلك النصوص المقدسة التي تملأ القلوب رغبة في تحصيح العلاقة مع الله تعالى.
وسأذكر لك بعضها، لتتأمل فيه، وتتأدب على يديه، فخير من يزكينا ربنا ونبينا وأئمتنا.
لقد قال الله تعالى يذكر التوبة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (التحريم:8)، فوصف التوبة بالنصح.. أي أنها خالصة لله تعالى مجردة، لا تتعلق بشئ، ولا يتعلق بها شئ، وهو الاستقامة على الطاعة، من غير روغان إلى معصية، كما تروغ الثعالب، وألا يحدث نفسه بذنب متى قدر عليه، وأن يترك الذنب لأجل اللَّه تعالى خالصا لوجهه، كما ارتكبه لأجل هواه مجمعا عليه بقلبه وشهوته، فهذه هى التوبة النصوح، وهذا العبد هو التواب المتطهر الحبيب.
وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31)، أي ارجعوا إلى الله من هوى نفوسكم، ومن وقوفكم مع سهواتكم وحظوظكم، عسى أن تظفروا ببغيتكم فى المعاد، وكى تبقوا ببقاء اللَّه فى نعيم لا زوال له ولا نفاد.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا بيده فذبه عنه)، ثم قال: (لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الجوع والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)([18])
وقال الإمام علي: (العجب ممن يقنط ومعه الممحاة..فقيل له: (وما الممحاة ؟).. قال: (الاستغفار)([19])
وقال: (تعطّروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب)([20])
وقال الإمام الصادق: (مَن أُعطي أربعا لم يُحرم أربعا: (مَن أُعطي الدعاء لم يُحرم الإجابة.. ومَن أُعطي الاستغفار لم يُحرم التوبة.. ومَن أُعطي الشكر لم يُحرم الزيادة.. ومَن أُعطي الصبر لم يُحرم الأجر)([21])
هذا جوابي
على أسئلك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع للتوبة إلى الله، وفي كل نفس من أنفاسك،
حتى تطهر أرض نفسك من كل دنس يحول بينها وبين المراتب الرفيعة التي أتاحها الله
لها.
([1]) الفتوحات المكية، ج4 ص 49.
([2]) عبد القادر الجزائري، المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد، ج 2 ص 778، 779.
([3]) نهج البلاغة حكمة 409 ص 1281
([4]) رواه أحمد.
([5]) رواه ابن أبى الدنيا.
([6]) اصول الكافي ج 2 ص 504.
([7]) كنز الكراجكي ج 1 ص 330
([8]) تفسير العيّاشي ج 1 ص 198
([9]) غرر الحكم ص 79
([10]) مصباح الشريعة، ص97.
([11]) إسماعيل حقي البروسوي، تفسير روح البيان، ج 1 ص 138.
([12]) رواه مسلم ج: 4 ص: 2075.
([13]) د. قاسم غني، تاريخ التصوف في الإسلام، ص 314، 315.
([14]) علي الكيزواني، زاد المساكين إلى منازل السالكين، ص 26.
([15]) أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ص 5، 6.
([16]) ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2 ص 142.
([17]) عبد الغني النابلسي، أسرار الشريعة أوالفتح الرباني والفيض الرحماني، ص 121، 124.
([18]) البخاري (6308) ومسلم (2744)
([19])أمالي الطوسي ص54.
([20])أمالي الطوسي ص237.
([21])الخصال 1/94.