التسليم والاستسلام

التسليم والاستسلام

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التسليم والاستسلام الذي وصف الله تعالى به عباده الصالحين، والمعارف المرتبطة به، والرياضات المؤدية إليه.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التسليم والاستسلام لله تعالى من أعلى الدرجات العملية للإيمان، والحقائق المقدسة المرتبطة به.. ذلك أنه يستحيل على من عرف الله وعظمته وعلمه وقدرته ورحمته ولطفه بعباده ألا يسلم له تسليما مطلقا، وفي كل شيء.

ولذلك، لم يجادل إبراهيم عليه السلام ربه عندما أُمر بذبح ابنه، لأنه يعلم أن رحمة الله تعالى تأبى أن تأمر بأمر ليس فيه مصلحة، ولا فيه رحمة ولطف، ولذلك سارع إلى التنفيذ، ومن دون أي تردد، مثلما يسارع أحدنا لاستعمال الحمية أو الدواء الذي يصفه الطبيب الخبير، ولو لم يشرح لنا سره.

وهكذا فعل إسماعيل عليه السلام، فهو ـ لثقته العظمى بالله تعالى، وبنبوة أبيه ـ راح يأمره بأن ينفذ وعد الله تعالى، ومن دون أن يسأل عن سره ولا عن مقصده.

وقد وصف الله تعالى فعلهما بأنه تسليم، فقال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: 103]، ثم بين عاقبة ذلك التسليم، فقال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: 104 – 113]

فالله تعالى في هذه الآيات الكريمة بين أنه لم يكتف بأن يرسل الفداء العظيم لإبراهيم عليه السلام، وإنما أضاف إليه أولئك الأولاد المباركين، الذين جعلهم الله تعالى مكافأة على مسارعته لتنفيذ الأمر الإلهي.

وهكذا كان حاله عندما أرادوا حرقه؛ فقد روي أن جبريل عليه السلام قاله له حينها: هل لك من حاجة ؟.. فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل، فجاءه ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار، فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد.. وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيّرت النار، قال: لا أريد، فقال جبريل عليه السلام: فاسأل الله.. فقال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي)([1])

وقد ورد في الرواية عن الإمام الباقر أنه قال: (مرضت مرضا شديدا فقال لي أبي: ما تشتهي؟ فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا اقترح على الله ربي سوى ما يدبره لي، فقال لي: أحسنت، ضاهيت إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حيث قال له جبرائيل: هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي، بل حسبي الله ونعم الوكيل) ([2])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الطريق الذي يجعلك تسلم لله تعالى تسليما مطلقا هو معرفتك به، ويقينك برحمته ولطفه وكرمه وكل الصفات الدالة على إحسانه، والتي أثبتها الواقع، ودل عليها.

ومن الأمثلة القرآنية على ذلك ما ذكره الله تعالى عن نوح عليه السلام، وكيف أمره الله تعالى ببناء سفينة في البر، وكيف سارع نوح عليه السلام لتنفيذ الأمر الإلهي، وقد كان في ذلك نجاته مع المؤمنين به، على الرغم من سخرية قومه منه، قال تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [هود: 38، 39]

وقد روي عن الإمام الصادق في تفسير قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: 42]: (لم يفزع يوسف عليه السلام في حاله إلى الله فيدعوه؛ فأوحى الله إلى يوسف في ساعته تلك: (يا يوسف.. من أراك الرؤيا التي رأيتها؟).. فقال: (أنت يا ربي).. قال: فمن حببّك إلى أبيك؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فمن وجّه السيارة إليك؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فمن علّمك الدعاء الذي دعوت به حتى جعل لك من الجب فرجاً؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فمن جعل لك من كيد المرأة مخرجاً؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فمن انطق لسان الصبي بعذرك؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فمن صرف كيد امرأة العزيز والنسوة؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فمن ألهمك تأويل الرؤيا؟).. قال: (أنت يا رب).. قال: (فكيف استعنت بغيري ولم تستعن بي؟.. وتسألني أن أخرجك من السجن، واستعنت وأمّلت عبداً من عبادي ليذكر إلى مخلوق من خلقي في قبضتي ولم تفزع إليّ، البثْ في السجن بذنبك بضع سنين بإرسالك عبداً إلى عبد)([3])

وما ذكره الإمام الصادق عن يوسف عليه السلام لا يتنافى مع عصمته، بل يدل على تربية الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام، ليرتقي بهم في المراتب المستحقة لهم، والتي تجعلهم لا يلجؤون إلى الله، ذلك أن ما قام به شيء عادي ومقبول من عوام الناس، لكنه يتنافى مع الكمال المخصص للأنبياء.

ومن الأمثلة المقاربة ذلك ما روي عن الإمام السجاد أنه قال يحدث عن نفسه: (خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: (يا علي بن الحسين.. ما لي أراك كئيبا حزينا؟..أعلى الدنيا؟!..فرزق الله حاضر للبرّ والفاجر)، قلت: (ما على هذا أحزن، وإنه لكما تقول)، قال: (فعلى الآخرة؟!.. فوعدٌ صادق يحكم فيه ملك قاهر)، قلت: (ما على هذا أحزن، وإنه لكما تقول)، فقال: (مما حزنك؟)..قلت: (مما يُتخوف من الفتنة، وما فيه الناس)، فضحك، ثم قال: (يا علي بن الحسين!..هل رأيت أحدا دعا الله فلم يجبه؟).. قلت: (لا)، قال: (فهل رأيت أحدا توكل على الله فلم يكفه؟).. قلت: (لا)، قال: (فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطيه؟).. قلت: (لا)، ثم غاب عني)([4])

ويروي الإمام الصادق عن داود عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه: (ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السماوات والأرض ومن فيهنّ، إلاّ جعلت له المخرج من بينهنّ، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته، إلاّ قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأيّ واد هلك)([5])

ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: (يا بنيّ.. ثق بالله عزّ وجلّ، ثم سل في الناس: هل من أحد وثق بالله فلم ينجه؟.. يا بنيّ..توكل على الله، ثم سل في الناس: من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه؟.. يا بني.. أحسن الظن بالله ثم سل في الناس: من ذا الذي أحسن الظن بالله فلم يكن عند حُسْن ظنّه به)([6])

ومن أحاديث الإمام علي عنه قوله: (كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال له: (يا بنيّ.. ليعتبر من قصُر يقينه، وضَعُفت نيّته في طلب الرزق، أنّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسبٌ ولا حيلة أنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة.. أمّا أوّل ذلك فإنّه كان في رحم أمه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حرّ ولا برد، ثمّ أخرجه من ذلك وأجرى رزقاً من لبن أمّه يكفيه به ويربّيه وينعشه من غير حول به ولا قوة، ثمّ فُطِم من ذلك فأجرى له رزقاً من كسب أبويه برأفة ورحمة له من قلوبهما لا يملكان غير ذلك، حتى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما في أحوال كثيرة، حتى إذا كبر وعقل واكتسب لنفسه ضاق به أمره، وظنّ الظّنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة إقتار رزقه، وسوء يقين بالخَلَف من الله تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بنيّ !.)([7])

ويذكر الإمام الصادق أنه مما أوحى الله تعالى به لبعض أنبيائه: (وعزّتي وجلالي ومجدي.. لأقطعنّ أمل كلّ مؤمّل من الناس أمّل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس، ولأنحيّنّه من قربي، ولأبعّدنّه من وصلي.. أيؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني..فمن ذا الّذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها؟!..ومن ذا الّذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاه منّي؟!.. جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري إلاّ من بعد إذني، فما لي أراه لاهياً عنّي؟!.. أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثمّ انتزعته عنه فلم يسألني ردّه وسأل غيري!.. أفيراني أبدأ بالعطايا قبل المسألة، ثمّ أسأل فلا أجيب سائلي؟!.. أبخيل أنا فيبخّلني عبدي؟!.. أو ليس الجود والكرم ليّ؟!..أو ليس العفو والرحمة بيدي؟!..أوليس أنا محلّ الآمال فمن يقطعها دوني؟!.. أفلا يخشى المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري؟!..فلو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعاً ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، وكيف ينقص مُلْك أنا قيّمه؟!.. فيا بؤساً للقانطين من رحمتي.. ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني!.)([8])

وقال الإمام الباقر: (وقع مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه إلا هذه الآية: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: 53] ﴾)([9])

فتأمل ـ أيها المريد الصادق ـ في هذه الحكايات والروايات، فهي ليست للتسلية، وإنما هي للعبرة، ولتعريفك بالحقائق التي تعينك على التسليم لربك؛ فلا يفوز في الدنيا والآخرة إلا من سلم واستسلم له استسلاما مطلقا.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن لله تعالى في لطفة في تدبير الأمور من العجائب ما لا يمكن لعقلك أن يستوعبه، أو يحيط به.. ولذلك كان تسليمك لله مرتبطا بثقتك فيه.

وقد حكى الله تعالى عن الخضر عليه السلام، وكيف خرق السفينة، وقد كان ذلك في الظاهرة مصيبة لهم، لكنه كان في الحقيقة رحمة عظيمة بهم، كما قال تعالى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]

وهكذا ما حصل ليوسف عليه السلام، فقد كان في ظاهرة مصيبة، لكنه في باطنه كان يختزن رحمات كثيرة، ليس لأبيه فقط، وإنما لخلق كثير، ولهذا قال يوسف عليه السلام مخاطبا أباه بعد تلك الرحلة الطويلة: ﴿يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 100]

وهكذا يمتلئ القرآن الكريم بذكر هذه المعاني المملوءة بالعبر، ومن أهم عبرها الثقة في الله تعالى وتدبيره، كما روي عن الإمام علي قوله: (كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنّ موسى بن عمران عليه السلام خرج يقتبس لأهله ناراً، فكلّمه الله عزّ وجلّ فرجع نبياً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون، فرجعوا مؤمنين)([10])

ولذلك كان الاعتراض على الله تعالى، وطلب اختبارات خاصة منه، دليلا على الجهل البالغ، فالله تعالى أعلم بعباده، ولذلك يختبر كل واحد منهم بما يتناسب معه، قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]

وفي الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ من عبادي المؤمنين لعباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلا بالفاقة والمسكنة، والسقم في أبدانهم، فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسقم، فيصلح لهم عليه أمر دين عبادي.. وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي، فيقوم من رقاده ولذيذ وساده، فيتهجد لي الليالي، فيُتعب نفسه في عبادتي، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظرا مني له وإبقاء عليه، فينام حتى يصبح فيقرأه وهو ماقت لنفسه، زارٍ عليها، ولو أُخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله من ذلك العجب، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله، ورضاه عن نفسه عند حدّ التقصير، فيتباعد مني عند ذلك، وهو يظن أنه يتقرّب إليّ فلايتكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فإنهم لواجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي، والنعيم في جناتي، ولكن برحمتي فليثقوا، ولفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا، فإن رحمتي عند ذلك تداركهم، ومني يبلغهم رضواني، ومغفرتي يلبسهم عفوي، فاني أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسميت)([11])

ولذلك لا تتعجب ـ أيها المريد الصادق ـ إن رأيت تخلف بعض ما تطلبه من الله تعالى؛ فالله تعالى لم يحرمك طلبك إلا لمصلحتك، أو ليعوضك بدل طلبك ما هو خير منه، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق أنه قال: (إن العبد الولي لله يدعو في الأمر ينوبه فيقول الله للملك الموكل بذلك الأمر: (اقض لعبدي حاجته ولاتعجل فاني أشتهي أن أسمع نداءه وصوته)، وإن العبد العدو لله ليدعو الله في الأمر ينوبه فيقال للملك الموكل به: (اقض حاجته وعجلها، فإني أبغض أن أسمع نداءه وصوته)، فيقول الناس: ما أعطي هذا حاجته وحرم هذا، إلا لكرامة هذا على الله وهوان هذا عليه) ([12])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن الله تعالى قد يختبرك ببعض ما لا يرضيك، رحمة بك، فلذلك لا تعترض، ولا تنفر، فهو رحمة من رحمات الله، ولطف من خفي ألطافه ساقه إليك في ثوب ما تكره ليمتحن عبوديتك، ويملأ قلبك بحسن الظن به، كما قال الشاعر:

رب أمر تتقيه      جر أمرا ترتضيه

خفي المحبوب منه    وبدا المكروه فيه

وقد قال الله تعالى:﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216)، وقال: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ (النساء:19)

ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر وكان خير له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)([13])

وهكذا قال العبد الصالح الذي لم تغره مباهج جنة صاحبه، بل قال في ثقة المؤمن:﴿ عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً﴾ (الكهف:40)

وقد قال بعض الصالحين في ذلك: (لا تعترض على الله؛ فإن من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره، فإن العارفين يشهدون المنن في المحن، والعطايا في البلايا)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن من تمام عبوديتك أن تجري عليك مقادير الله بأنواعها، وتهب عليك رياح البلاء لتمتحن عبوديتك)

وقال آخر: (كيف تعترض، وأنت لن ترقى في مقامات العبودية إلا بهذا الذي تعترض عليه؟.. وكيف تعترض، وأنت لن تكون صابرا، ولا متوكلا ولا راضيا ولا متضرعا ولا مفتقرا ولا ذليلا ولا خاضعا إلا باستقبالك لمقادير الله ببصيرة الإيمان؟.. وكيف تعترض، وأنت تعلم أن رضاك عن ربك زرع لرضى ربك عنه، بل رضاك عن ربك علامة على رضا ربك عنك، فلو لم يرض عنك لم ترض عنه)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن جميع ما يحدث في الكون أثر من آثار أسماء الله وصفاته، وفيض من فيوضات مشيئة الله وحكمته، فإن لم ترض بمقادير الله خاصمت أسماء الله وصفاته، وخاصمت الله بمخاصمتها؟)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن حكمه تعالى فيك ماض، وقضاؤه فيك عدل، كما أخبرك الناصح الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ماض في حكمك عدل في قضاؤك)([14]).. وكيف لك أن تعترض، وأنت تعلم أنه لا تبديل لكلماته ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.. وكيف لك أن تعترض، وقد علمت كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره)

وقال آخر: (لا تعترض.. وسلم لربك، فقد فوضت أمرك إليه، ومن ضرورات التفويض الرضى التام باختيارات المفوض.. وكيف لك أن تعترض، وأنت عبد محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل يتلقاها بالرضى به وعنه.. وكيف لك أن تعترض، وأنت تدعي محبته، والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإنك باعتراضك تعبد الله على حرف، فتتلون كما تتلون رياح المقادير، والعبد الكامل ثابت على عبودية سيده، لا تزعزعه الرياح، ولا تجتثه عن غايته الأعاصير؟)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم حصاد نبات الاعتراض، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن اعتراضك عن اختيار الله لك ناشئ من جهلك بالله، وأنه كلما قويت معرفتك صرت كالريشة في مهب الرياح، تقلبها الرياح كما شاءت، فلا تعترض ولا تختار)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن من عرف أن البلايا من مولاه وسيده الذي هو أرحم به من والدته ووالده، كيف يبقى له بالألم إحساس؟ أم كيف لا يتلذذ به كما يتلذذ بالنعمة سائر الناس؟)

وقد أشار الشاعر إلى هذا المعنى، فقال:

وخفف عني ما ألاقي من العنا         بأنك أنت المبتلي والمقدر

وما لامرئ عما قضى الله معدل  وليس له منه الذي يتخير

وقال آخر: (ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأنه سبحانه هو المبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدار، هو الذي عودك حسن الاختيار)

وقال آخر: (لا تعترض.. فإن السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجودٌ وخير، فالحياة تتكامل بالحركة، وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات الأسماء، وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون قلماً متحركاً لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الأجر الأخروي)

هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فتأمل هذه الحكم والدرر التي وردت في النصوص المقدسة، وشرحها لك أئمة الهدى، وورثتهم، فهي وحدها من يملأ قلبك بالاستسلام لربك، والتسليم له في كل الشؤون، وفي جميع المجالات، وهو وحده من يملأ نفسك بالطمأنينة، وقلبك بالرضا، وحياتك بالسعادة؛ فلا يمكن أن تطمئن نفس تعترض على ربها، أو تجادل في تدبيره ومشيئته…

….


([1]) بحار الأنوار: 68/156، وبيان التنزيل.

([2]) دعوات الراوندي 168، والمستدرك 1/ 95.

([3]) تفسير العياشي 2/176.

([4]) الكافي 2/63.

([5])الكافي 2/63.

([6]) بحار الأنوار: 68/156، وكنز الكراجكي.

([7]) الخصال 1/60.

([8]) الكافي 2/66.

([9]) بحار الأنوار: 68/121، والكافي.

([10]) أمالي الصدوق ص107.

([11]) بحار الأنوار: 68/151، والتمحيص.

([12]) بحار الأنوار (71/ 152)

([13]) رواه مسلم.

([14]) رواه أحمد والطبراني والحاكم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *